زاد المسير في علم التفسير

عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)

سورة النّبأ
ويقال لها: سورة عمّ يتساءلون وهي مكيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 40]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4)
ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14)
لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19)
وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24)
إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29)
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34)
لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39)
إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)
قوله تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ أصله «عنْ ما» فأدغمت النون في الميم، وحذفت ألف «ما» كقولهم:
فيم، وبم.
(1510) قال المفسرون: لما بُعِثَ رسول الله صلّى الله عليه وسلم جَعَلَ المشركون يتساءلون بينهم، فيقولون: ما الذي أتى به؟ ويتجادلون، ويختصمون فيما بعث به، فنزلت هذه الآية. واللفظ لفظ استفهام. والمعنى:
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 35997 عن الحسن قوله. وأخرج الطبري عن مجاهد وقتادة وغيرهما غير ذلك، وكل ذلك ضعيف، لا حجة فيه لأنه مجرد اجتهاد منهم.

(4/387)


تفخيم القصة، كما يقولون: أيُّ شيء زيد؟ إذا أردت تعظيم شأنه. ثم بيَّن ما الذي يتساءلون عنه، فقال عزّ وجلّ: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ يعني: عن الخبر العظيم الشأن. وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: القرآن، قاله مجاهد، ومقاتل، والفراء. قال الفراء: فلما أجاب صارت «عم» كأنها في معنى: لأي شيءٍ يتساءلون عن القرآن. والثاني: البعث، قاله قتادة. والثالث: أنه أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم، حكاه الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ من قال: إنه القرآن، فإن المشركين اختلفوا فيه، فقال بعضهم: هو سحر، وقال بعضهم: هو شعر، وقال بعضهم: أساطير الأولين، إلى غير ذلك. وكذلك من قال: هو أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلم. فأما من قال: إنه البعث والقيامة، ففي اختلافهم فيه قولان:
أحدهما: أنهم اختلفوا فيه لما سمعوا به، فمنهم من صدَّق وآمن، ومنهم من كذَّب، وهذا معنى قول قتادة. والثاني: أن المسلمين والمشركين اختلفوا فيه، فصدَّق به المسلمون، وكذَّب به المشركون، قاله يحيى بن سلام.
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا قال بعضهم: هي ردع وزجر. وقال بعضهم: هي نفي لاختلافهم، والمعنى: ليس الأمر على ما قالوا، سَيَعْلَمُونَ عاقبة تكذيبهم حين ينكشف الأمر ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ وعيد على إثر وعيد. وقرأ ابن عامر «ستعلمون» في الحرفين بالتاء. ثم ذكر صنعه ليعرفوا توحيده، فقال عزّ وجلّ: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً أي: فراشاً وبساطاً وَالْجِبالَ أَوْتاداً للأرض لئلا تميد وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً أي: أصنافاً، وأضداداً، ذكوراً، وإناثاً، سوداً وبيضاً، وحمراً وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً قال ابن قتيبة: أي: راحة لأبدانكم. وقد شرحنا هذا في الفرقان «1» وشرحنا هناك قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً.
قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً أي: سبباً لمعاشكم. والمعاش: العيش، كلّ شيء يُعَاشُ به، فهو مَعَاشٌ. والمعنى: جعلنا النهار مطلباً للمعاش. وقال ابن قتيبة: معاشاً، أي: عيشاً، وهو مصدر وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً قال مقاتل: هي السموات، غِلظ كل سماءٍ مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماءين مثل ذلك وهي فوقكم يا بني آدم. فاحذروا أن تعصوا فتخرّ عليكم.
قوله عزّ وجلّ: وَجَعَلْنا سِراجاً يعني: الشمس وَهَّاجاً قال ابن عباس: هو المضيء. وقال اللغويون: الوهَّاج: الوقَّاد. وقيل: الوهّاج يجمع النّور والحرارة.
قوله عزّ وجلّ: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها السموات، قاله أُبَيّ بن كعب، والحسن، وابن جبير. والثاني: أنها الرّياح، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة ومقاتل. قال زيد بن أسلم: هي الجنوب. فعلى هذا القول تكون «من» بمعنى «الباء» ، وتقديره: بالمعصرات. وإنما قيل للرياح: معصرات، لأنها تستدرُّ المطر. والثالث: أنها السحاب، رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال أبو العالية. والضحاك، والربيع، قال الفراء: السحابة المعصر: التي تتحلَّب بالمطر ولما يجتمع، مثل الجارية المعصر، قد كادت تحيض، ولما تحضْ. وكذلك قال ابن قتيبة: شبِّهت السحاب بمعاصير الجواري، والمُعصِرُ: الجارية التي قد دنت من الحيض. وقال
__________
(1) الفرقان: 47.

(4/388)


الزجاج: إنما قيل للسحاب: معصرات، كما قيل: أجزَّ الزرع، فهو مُجِزُّ أي: صار إلى أن يُجَزَّ، فكذلك السحاب إذا صار إلى أن يمطر فقد أعصر.
قوله عزّ وجلّ: ماءً ثَجَّاجاً قال مقاتل: أي: مطراً كثيراً مُنْصبّاً يتبع بعضُه بعضاً. وقال غيره:
يقال: ثجَّ الماء يثج: إذا انصبَّ لِنُخْرِجَ بِهِ أي: بذلك الماء حَبًّا وَنَباتاً وفيه قولان:
أحدهما: أن الحب: ما يأكله الناس، والنبات: ما تنبته الأرض مما يأكل الناس والأنعام، هذا قول الجمهور. قال الزجاج: كُلُّ ما حُصِدَ حَبٌّ، وكُلُّ ما أَكَلَتْهُ الماشية من الكلإ، فهو نبات.
والثاني: أن الحب: اللؤلؤ، والنبات: العشب. قال عكرمة: ما أنزل الله من السماء قطراً، إلا نبت به في البحر لؤلؤاً، وفي الأرض عشباً.
قوله عزّ وجلّ: وَجَنَّاتٍ يعني: بساتين أَلْفافاً قال أبو عبيدة: أي: ملتَفَّة من الشجر ليس بينها خلال، الواحدة: لَفَّاء، وجنّات لُفٌّ، وجمع الجمع: ألْفَافٌ. قال المفسرون: فدلَّ بذكر المخلوقات على البعث. ثم أخبر عن يوم القيامة فقال عز وجل: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ أي: يوم القضاء بين الخلائق كانَ مِيقاتاً لما وعد الله من الثواب والعقاب. يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ من قبوركم أَفْواجاً أي: زُمَراً زُمَراً من كل مكان وَفُتِحَتِ السَّماءُ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر «وفتّحت» بالتشديد. وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي بالتخفيف، وإنما تفتح لنزول الملائكة فَكانَتْ أَبْواباً أي: ذات أبواب وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ عن أماكنها فَكانَتْ سَراباً أي: كالسّراب، لأنها تصير هباء منثورا فيراها الناظر كالسراب بعد شِدَّتها وصلابتها إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً قال المبرد: مرصاداً يرصدون به، أي: هو مُعَدٌّ لهم يَرصُد بها خزنتها الكفارَ. وقال الأزهري: المرصاد: المكان الذي يَرصُد فيه الراصد العدُوَّ. ثم بين لمن هي مرصاد فقال عزّ وجلّ: لِلطَّاغِينَ قال ابن عباس: للمشركين مَآباً أي: مرجعا.
قوله عزّ وجلّ: لابِثِينَ وقرأ حمزة «لَبِثين» والمعنى: فيهما واحد. يقال: هو لابث بالمكان، ولبث. ومثله طَامع، وطَمِع، وفَارِه، وفَرِه. وأما الأحقاب فجمع حقب، وقد ذكرنا الاختلاف فيه في الكهف «1» .
فإن قيل: ما معنى ذكر الأحقاب، وخلودهم في النار لا نفاد له؟ فعنه جوابان:
أحدهما: أن هذا لا يدل على غاية، لأنه كلما مضى حقب تبعه حقب ولو أنه قال: لابِثِينَ فِيها عشرة أحقاب أو خمسة دل على غاية، هذا قول ابن قتيبة، والجمهور. وبيانه أن زمان أهل الجنة والنار يُتَصَوَّرُ دخوله تحت العدد، وإن لم يكن له غاية. كقوله: بكرة وعشيا، مثل هذا أنّ كلمات الله تعالى داخلة تحت العدد وإن لم تكن لها نهاية.
والثاني: أن المعنى: أنهم يلبثون فيها أحقاباً لا يَذُوقُونَ في الأحقاب بَرْداً وَلا شَراباً فأما خلودهم في النار فدائم. هذا قول الزجاج. وبيانه أن الأحقاب حَدٌّ لعذابهم بالحميم والغَسّاق، فإذا انقضت الأحقاب عُذِّبوا بغير ذلك من العذاب.
__________
(1) الكهف: 60.

(4/389)


وفي المراد «بالبرد» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه برد الشراب. روى أبو صالح عن ابن عباس قال: لا يذوقون فيها برد الشراب، ولا الشراب. والثاني: أنه الرَّوْح والراحة، قاله الحسن، وعطاء. والثالث:
أنه النوم، قاله مجاهد، والسدي، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، وأنشدوا:
فَإنْ شئتِ حرَّمتُ النِّساء سِواكُم ... وإِن شئتِ لَمُ أَطْعَمْ نُقَاخَاً وَلاَ بَرْدَاً «1»
قال ابن قتيبة: النقاخ: الماء، والبرد: النوم، سمي بذلك لأنه تبرد فيه حرارة العطش. وقال مقاتل: لا يذوقون فيها برداً ينفعهم من حرها، ولا شراباً ينفعهم من عطش إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر «غَسَاقاً» بالتخفيف. وقرأ حمزة، والكسائي، والمفضل، وحفص عن عاصم بالتشديد وقد تقدّم «2» ذكر الحميم، والغسّاق جَزاءً وِفاقاً قال الفراء: وِفْقاً لأعمالهم وقال غيره: جُوزوا جزاءً وفاقاً لأعمالهم على مقدارها، فلا ذنب أعظم من الشرك، ولا عذاب أعظم من النّار إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً فيه قولان: أحدهما: لا يخافون أن يحاسبوا، لأنهم لا يؤمنون بالبعث، قاله الجمهور. والثاني: لا يرجون ثواب حساب، لأنهم لا يؤمنون بالبعث، قاله الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً أي: بما جاء به الأنبياء قال الفراء: الكِذَّاب بالتشديد لغة يمانية فصيحة يقولون: كذَّبت به كِذَّاباً، وخرَّقت القميص خِرَّاقاً، وكل «فَعَّلْتُ» فمصدره في لغتهم مُشَدَّد. قال لي أعرابي منهم على المروة يستفتيني: الحَلْقُ أحب اليك، أم القِصَّار؟ وأنشدني بعض بني كلاب:
لَقَدْ طَالَ مَا ثَبَّطَتني عن صَحَابَتي ... وَعَنْ حوَجٍ قِضَّاؤها من شِفَائِيَا
وأما أهل نجد، فيقولون: كذَّبت به تكذيباً. وقال أبو عبيدة: الكِّذاب أشد من الكِذَاب، وهما مصدر المكاذبة. قال الأعشى:
فَصَدَقْتُها وكَذَبْتُها ... وَالمَرْءُ يَنْفَعُهُ كذابه
قوله عزّ وجلّ: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ قال الزجاج: «كلَّ» منصوب بفعل مضمر تفسيره:
أحصيناه، والمعنى: وأحصينا كلّ شيء، وكِتاباً توكيد ل «أحصيناه» ، لأن معنى «أحصيناه» و «كتبناه» فيما يحصل ويثبت واحد. فالمعنى: كتبناه كتاباً. قال المفسرون: وكلّ شيء من الأعمال أثبتناه في اللوح المحفوظ فَذُوقُوا أي: فيقال لهم: ذوقوا جزاء فعالكم فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ الذين لم يشركوا مَفازاً وفيه قولان: أحدهما: متنزَّهاً، قاله ابن عباس، والضحاك. والثاني:
فازوا بأن نَجَوْا من النار بالجنة، ومن العذاب بالرحمة، قاله قتادة. قال ابن قتيبة: «مفازا» في موضع «فوز» قوله: حَدائِقَ قال ابن قتيبة: الحدائق: بساتين نخل، واحدها: حديقة.
قوله عزّ وجلّ: وَكَواعِبَ قال ابن عباس: الكواعب: النواهد. قال ابن فارس: يقال: كعبت المرأة كعابة، فهي كاعب: إذا نَتَأَ ثَدْيُها. وقد ذكرنا معنى «الأتراب» في ص «3» .
قوله عزّ وجلّ: وَكَأْساً دِهاقاً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنها الملأى، رواه أبو صالح عن ابن
__________
(1) البيت لعبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان العرجي، وهو في دواوينه 109 و «شواهد الكشاف» 34.
(2) ص: 57.
(3) ص: 52.

(4/390)


عباس، وبه قال الحسن، وقتادة، وابن زيد. والثاني: أنها المتتابعة. رواه مجاهد عن ابن عباس، وبه قال ابن جبير. وعن مجاهد كالقولين. والثالث: أنها الصافية، قاله عكرمة.
قوله عزّ وجلّ: لا يَسْمَعُونَ فِيها أي: في الجنة إذا شربوها لَغْواً وقد ذكرناه في الطور «1» وغيرها، وَلا كِذَّاباً أي: لا يكذِّب بعضهم بعضاً، لأن أهل الدنيا إذا شربوا الخمر تكلَّموا بالباطل وأهل الجنة مُنَزَّهون عن ذلك. قال الفرّاء. وقراءة عليّ رضي الله عنه «كِذَاباً» بالتخفيف، كأنه- والله أعلم- لا يتكاذبون فيها. وكان الكسائيّ يخفّف هذه ويشدّد، «وكذّبوا بآياتنا كذِّاباً» لأن «كذَّبوا» يقيد «الكذاب» بالمصدر، وهذه ليست مقيدة بفعل يصيِّرها مصدراً، وقد ذكرنا عن أبي عبيدة أن الكِذاب بالتشديد والتخفيف مصدر المكاذبة. وقال أبو علي الفارسي: «الكِذَاب» بالتخفيف مصدر «كَذَب» ، مثل «الكِتَاب» مصدر «كتب» .
قوله عزّ وجلّ: جَزاءً قال الزجاج: المعنى: جازاهم بذلك جزاءً، وكذلك «عَطاءً» لأن معنى أعطاهم وجازاهم واحد. وحِساباً معناه: ما يكفيهم، أي: فيه كل ما يشتهون. يقال: أحسبني كذا بمعنى كفاني. رَبِّ السَّماواتِ قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، والمفضل «ربُّ السموات والأرض وما بينهما الرحمنُ» برفع الباء من «رب» والنون من الرحمن على معنى: هو ربُّ السموات. وقرأ عاصم، وابن عامر بخفض الباء والنون على الصفة من «ربِّك» . وقرأ حمزة والكسائي بكسر الباء ورفع النون، واختار هذه القراءة الفراء. ووافقه على هذا جماعة، وعلَّلوا بأن الربَّ قريب من المخفوض، والرحمن بعيد منه.
قوله عزّ وجلّ: لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً فيه قولان: أحدهما: لا يملكون الشفاعة إلا بإذنه قاله ابن السائب. والثاني: لا يقدر الخلق أن يكلِّموا الربَّ إلا بإذنه، قاله مقاتل.
قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ فيه سبعة أقوال «2» :
(1511) أحدها: أنه جند من جند الله تعالى، وليسوا بملائكة، رواه ابن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقال مجاهد: هم خلق على صورة بني آدم يأكلون ويشربون.
والثاني: أنه مَلَك أعظم من السموات والجبال، والملائكة، قاله ابن مسعود، ومقاتل بن سليمان.
وروى عطاء عن ابن عباس قال: الروح: مَلَك ما خلق الله ملكا أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صَفَّاً، وقامت الملائكة كلهم صفاً واحدا، فيكون عظم خلقه مثل صفوفهم.
__________
باطل، أخرجه أبو الشيخ في «العظمة» 412 من حديث ابن عباس، وفي إسناده مجاهيل والمتن منكر، ولو صح لما اختلف المفسرون في معنى الروح في هذه الآية. وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 6233 بتخريجنا.
__________
(1) الطور: 23. [.....]
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» : والصواب من القول أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أن خلقه لا يملكون منه خطابا يوم يقوم الروح، والروح: خلق من خلقه وجائز أن يكون بعض الأشياء التي ذكرت. والله أعلم أي ذلك هو. وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 549: هو جبريل، قاله الشعبي وسعيد بن جبير ويستشهد لهذا القول، بقوله: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ وتوقف ابن جرير فلم يقطع بواحد من هذه الأقوال كلها، والأشبه- والله أعلم- أنهم بنو آدم.

(4/391)


والثالث: أنها أرواح الناس تقوم مع الملائكة فيما بين النفختين قبل أن تُرَدَّ إلى الأجساد، رواه عطية عن ابن عباس. والرابع: أنه جبريل عليه السلام قاله الشعبي، وسعيد بن جبير، والضحاك.
والخامس: أنهم بنو آدم، قاله الحسن، وقتادة. والسادس: أنه القرآن، قاله زيد بن أسلم. والسابع:
أنهم أشرف الملائكة، قاله مقاتل بن حيّان.
قوله عزّ وجلّ: وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا قال الشعبي: هما سماطان، سماط من الروح، وسماط من الملائكة. فعلى هذا يكون المعنى: يوم يقوم الرُّوحُ صفاً، والملائكة صفّا. وقال ابن قتيبة: معنى قوله عزّ وجلّ: صَفًّا صفوفا.
قوله عزّ وجلّ: لا يَتَكَلَّمُونَ يعني: الخلق كلهم إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ في الكلام وَقالَ صَواباً أي: قال في الدنيا صواباً، وهو الشهادة بالتوحيد عند أكثر المفسرين. وقال مجاهد: قال حقاً في الدنيا، وعمل به ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ أي الكائن الواقع بلا شك فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً أي:
مرجعاً إليه بطاعته. ثم خوّف كفّار مكّة، فقال عزّ وجلّ: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
وهو عذاب الآخرة، وكل آت قريب وْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ
أي: يرى عمله مثبَتاً في صحيفته خيراً كان أو شرّا، يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً
قال الحسن: إذا سمع الله الخلائق يوم القيامة وقضى الثّقلين الجنّ والإنس وأروا منازلهم قال لسائر الخلق: كونوا ترابا فحينئذ يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا. وحكى الزّجّاج أنّ معنى: يا ليتني كنت تراباً. يا ليتني لم أُبعث. وحكى الثعلبي عن بعض أشياخه. أنه رأى في بعض التفاسير أن الكافر هاهنا: إبليس، وذلك أنه عاب آدم، لأنه خُلِقَ من التراب فتمنَّى يوم القيامة أنه كان بمكان آدم، فقال: يا ليتني كنت تراباً.

(4/392)


وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)

سورة النّازعات
مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)
فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)
يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
قوله عزّ وجلّ: وَالنَّازِعاتِ فيه سبعة أقوال «1» : أحدها: أنها الملائكة تَنْزِعُ أرْواح الكفَّار، قاله علي، وابن مسعود، وروى عطية عن ابن عباس قال: هي الملائكة تَنْزِع نفوسَ بني آدم، وبه قال مسروق. والثاني: أنه الموت يَنْزِع النفوسَ، قاله مجاهد. والثالث: أنها النفس حين تُنْزَعُ، قاله السدي.
والرابع: أنها النجوم تَنْزِع من أُفُق الى أُفُق تطلع ثم تغيب، قاله الحسن، وقتادة، وأبو عبيدة، والأخفش، وابن كيسان. والخامس: أنها القِسِيّ تَنْزِع بالسَّهم، قاله عطاء وعكرمة. والسادس: أنها الوحوش تنزع وتنفر، حكاه الماوردي. والسابع: أنها الرّماة، حكاه الثّعلبيّ.
وقوله عزّ وجلّ: غَرْقاً اسم أقيم مقام الإغراق. قال ابن قتيبة: والمعنى: والنازعات إغراقاً، كما يغرق النازع في القوس، يعني: أنه يبلغ به غاية المد..
قوله عزّ وجلّ: وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً فيه خمسة أقوال: أحدها: أنها الملائكة. ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أنها حين تنشط أرواح الكفار حتى تخرجها بالكرب والغمّ، قاله عليّ عليه السلام.
قال مقاتل: ينزع ملك الموت روح الكافر، فإذا بلغت ترقوته غرقها في حلقه، فيعذِّبه في حياته، ثم ينشطها من حلقه- أي: يجذبها- كما ينشط السفّود من الصوف المبتل. والثاني: أنها تنشط. أرواح المؤمنين بسرعة كما ينشط العقال من يد البعير إذا حل عنها، قاله ابن عباس. وقال الفراء: الذي سمعته
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 551: قال ابن مسعود: وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً: الملائكة، يعنون حين تنتزع أرواح بنو آدم، فمنهم من تأخذ روحه بعسر فتفرق في نزعها، ومن تأخذ روحه بسهولة وكأنما حلته من نشاط. وهو الصحيح وعليه الأكثرون اه..

(4/393)


من العرب: كأنما أُنْشِط من عِقَال، بألف. تقول: إذا ربطت الحبل في يد البعير: نشطته، فإذا حللته قلت: أنشطته.
والقول الثاني: أنها أنفس المؤمنين تنشط عند الموت للخروج، وهذا مروي عن ابن عباس أيضاً.
وبيانه أن المؤمن يرى منزله من الجنة قبل الموت فتنشط نفسه لذلك. والثالث: أن الناشطات: الموت ينشط نفس الإنسان، قاله مجاهد. والرابع: النجوم تنشط من أفق إلى أفق، أي: تذهب، قاله قتادة، وأبو عبيدة، والأخفش. ويقال لبقر الوحش: نواشط، لأنها تذهب من موضع إلى موضع. قال أبو عبيدة: والهموم تنشط بصاحبها. قال هميان بن قحافة:
أَمْسَتْ همومي تَنْشِط المنَاشِطَا ... الشَّامَ بي طَوْراً وطَوْراً وَاسِطَا
والخامس: أنها النفس حين تنشط بالموت، قاله السّدّيّ.
قوله عزّ وجلّ: وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً فيه ستة أقوال:
أحدها: أنها الملائكة تسبح بأرواح المؤمنين، قاله عليّ عليه السلام. قال ابن السائب: يقبضون أرواح المؤمنين كالذي يسبح في الماء. فأحياناً ينغمس، وأحياناً يرتفع، يسلُّونها سلاً رفيقاً، ثم يَدَعُونها حتى تستريح. والثاني: أنهم الملائكة ينزلون من السماء مسرعين، كما يقال للفرس الجواد: سابح: إذا أسرع في جريه، قاله مجاهد، وأبو صالح، والفراء. والثالث: أنه الموت يسبح في نفوس بني آدم، روي عن مجاهد أيضاً. والرابع: أنها السفن تسبح في الماء، قاله عطاء. والخامس: أنها النجوم، والشمس، والقمر، كل في فلك يسبحون، قاله قتادة، وأبو عبيدة. والسادس: أنها الخيل، حكاه الماوردي.
قوله عزّ وجلّ: فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فيه خمسة أقوال: أحدها: أنها الملائكة. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: أنها تسبق الشياطين بالوحي إلى الأنبياء، قاله عليّ عليه السلام ومسروق. والثاني:
أنها تسبق بأرواح المؤمنين إلى الجنة، قاله مجاهد، وأبو روق. والثالث: سبقت بني آدم الى إلإيمان، قاله الحسن.
والقول الثاني: أنها أنفس المؤمنين تسبق الملائكة شوقاً إلى لقاء الله، فيقبضونها وقد عاينت السرور، قاله ابن مسعود. والثالث: أنه الموت يسبق إلى النفوس، روي عن مجاهد أيضاً. والرابع:
أنها الخيل، قاله عطاء. والخامس: أنها النجوم يسبق بعضه بعضا في السّير، قاله قتادة.
قوله عزّ وجلّ: فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً قال ابن عباس: هي الملائكة. قال عطاء: وُكِّلتْ بأمور عَرَّفهم الله العمل بها. وقال عبد الرحمن بن سابط: يُدَبِّر أمر الدنيا أربعة: جبريل، وهو موكل بالرِّياح والجنود. وميكائيل، وهو موكل بالقطر والنبات. وملك الموت، وهو موكل بقبض الأنفس.
وإسرافيل، وهو يَنزل بالأمر عليهم. وقيل: بل جبريل للوحي، وإسرافيل للصور. وقال ابن قتيبة:
فالمدبِّرات أمراً: تنزل بالحلال والحرام. فإن قيل: أين جواب هذه الأقسام ففيه جوابان: أحدهما: أنّ الجواب قوله عزّ وجلّ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى، قاله مقاتل. والثاني: أن الجواب مضمر، تقديره:
لَتُبْعَثُنَّ، ولتحاسبنّ، ويدلّ على هذا قوله عزّ وجلّ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً قاله الفرّاء.
قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ، وهي النفخة الأولى التي تموت منها جميع الخلائق.

(4/394)


و «الراجفة» صيحة عظيمة فيها تردُّدٌ واضطراب كالرعد إذا تمحض. و «ترجف» بمعنى: تتحرَّك حركة شديدةً تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ وهي: النفخة الثانية ردفت الأولى، أي: جاءت بعدها وكل شيء جاء بعد شيءٍ فهو يردفه قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أي: شديدة الاضطراب لما عاينت من أهوال يوم القيامة أيضا أَبْصارُها خاشِعَةٌ أي: ذليلةٌ لمعاينة النار. قال عطاء: وهذه أبصار من لم يمت على الإسلام. ويدل على هذا أنه ذَكَرَ منكري البعث، فقال عزّ وجلّ: يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ قرأ ابن عامر وأهل الكوفة «أإنا» بهمزتين مخففتين على الاستفهام، وقرأ الباقون بتخفيف الأولى وتليين الثانية، وفصل بينهما بألف وأبو عمرو. فِي الْحافِرَةِ وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: إن الحافرة: الحياة بعد الموت. والمعنى:
أنرجع أحياءً بعد موتنا؟! وهذا قول ابن عباس، وعطية، والسدي. قال الفراء: يعنون: أَنُرَدُّ إلى أمرنا الأول إلى الحياة؟! والعرب تقول: أتيت فلاناً، ثم رجعت على حافرتي، أي: رجعت من حيث جئت.
قال أبو عبيدة: يقال: رجع فلان في حافرته، وعلى حافرته: إذا رجع من حيث جاء، وهذا قول الزجاج. والثاني: أنها الأرض التي تحفر فيها قبورهم، فَسُمِّيت حافرةً، والمعنى: محفورة، كما يقال:
ماءٍ دافِقٍ «1» وعِيشَةٍ راضِيَةٍ «2» وهذا قول مجاهد والخليل. فيكون المعنى: أإنّا لمردودون إلى الأرض خلقاً جديداً؟! قال ابن قتيبة: «في الحافرة» أي: إلى أول أمرنا. ومن فسّرها بالأرض، فإلى هذا يذهب، لأنّا منها بدأنا. قال الشاعر:
أحافرة على صلع وشيب ... معاذ الله من سفه وعار
كأنه قال: أأرجع إلى ما كنت عليه في شبابي من الغزل والصّبا «بعد ما شبت وصلعت» .
والثالث: أنّ الحافرة: النار، قاله ابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «ناخرة» قال الفرّاء: وهما بمعنى واحد في اللغة. مثل طمع، وطامع وحذر، وحاذر. وقال الأخفش: هما لغتان.
وقال الزّجّاج: يقال: نخر العظم ينخر، فهو نخر. مثل عفن الشيء يعفن، فهو عفن. وناخرة على معنى: عظاما فارغة، يجيء فيها من هبوب الرياح كالنّخير. قال المفسّرون: والمراد أنهم أنكروا البعث، وقالوا: نردّ أحياء إذا متنا وبليت عظامنا؟! تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ أي: إن رددنا بعد الموت لنخسرنّ بما يصيبنا ممّا يعدنا به محمّد، فأعلمهم الله بسهولة البعث عليه، فقال عزّ وجلّ: فَإِنَّما هِيَ يعني النّفخة الأخيرة زَجْرَةٌ واحِدَةٌ أي: صيحة في الصّور يسمعونها من إسرافيل وهم في بطون الأرض فيخرجون فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ وفيها أربعة أقوال «3» : أحدها: أنّ السّاهرة: وجه الأرض، قاله ابن عباس:
ومجاهد، وعكرمة والضّحّاك، واللغويون. قال الفرّاء: كأنها سمّيت بهذا الاسم، لأنّ فيها نوم الحيوان وسهرهم. والثاني: أنه جبل عند بيت المقدس، قاله وهب بن منبّه. والثالث: أنها جهنّم، قاله قتادة.
والرابع: أنها أرض الشام، قاله سفيان.
__________
(1) الطارق: 6.
(2) الحاقة: 21.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 552: وهذه الأقوال كلها غريبة، والصحيح أنها الأرض وجهها الأعلى.

(4/395)


هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)

[سورة النازعات (79) : الآيات 15 الى 33]
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)
فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)
فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29)
وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33)
قوله عزّ وجلّ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى أي: قد جاءك. وقد بيَّنَّا هذا في طه «1» وما بعده إلى قوله عزّ وجلّ: طُوىً (16) اذْهَبْ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو عمرو «طُوى اذهب» غير مُجراةٍ. وقرأ الباقون «طوىً» منونة، فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وقرأ ابن كثير، ونافع، «تَزَّكَّى» بتشديد الزاي، أي: تَطَّهَّر من الشرك وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ أي: أدعوك إلى توحيده، وعبادته فَتَخْشى عذابه فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى وفيها قولان: أحدهما: أنها اليد والعصا، قاله جمهور المفسرين. والثاني: أنها اليد قاله الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: فَكَذَّبَ أي بأنها من الله، وَعَصى نبيَّه ثُمَّ أَدْبَرَ أي: أعرض عن الإيمان يَسْعى أي: يعمل بالفساد في الأرض فَحَشَرَ لما اجتمعوا فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى أي: أنا لا ربَّ فوقي. وقيل أراد أن الأصنام أرباب، وأنا ربُّها وربُّكم. وقيل: أراد: أنا ربّ السّادة والقادة.
قوله عزّ وجلّ: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى فيه أربعة أقوال «2» : أحدها: أن الأولى قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي «3» والآخرة قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى قاله ابن عباس، وعكرمة، والشعبي، ومقاتل، والفراء. ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. قال ابن عباس: وكان بينهما أربعون سنة. قال السدي: فبقي بعد الآخرة ثلاثين سنة. قال الفراء: فالمعنى: أخذه الله أخذاً نكالاً للآخرة والأولى.
والثاني: المعنى: جعله الله نكال الدنيا والآخرة، أغرقه في الدنيا، وعذَّبه في الآخرة، قاله الحسن، وقتادة. وقال الربيع بن أنس: عذَّبه الله في أول النهار بالغَرَق، وفي آخره بالنَّار. والثالث: أن الأولى:
تكذيبه وعصيانه. والآخرة قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى قاله أبو رزين. والرابع: أنها أول أعماله وآخرها، رواه منصور عن مجاهد. قال الزجاج: النكال: منصوب، مصدر مؤكد، لأن معنى أخذه الله: نكل الله به نكال الآخرة والأولى: فأغرقه في الدنيا ويعذِّبه في الآخرة.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ فِي ذلِكَ الذي فُعِل بفرعون لَعِبْرَةً أي عظة لِمَنْ يَخْشى الله.
ثم خاطب منكري البعث، فقال عزّ وجلّ: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها قال الزجاج: ذهب بعض النحويين الى أن قوله عزّ وجلّ: بَناها من صفة السماء، فيكون المعنى: أم السماء التي بناها. وقال
__________
(1) طه: 9.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 553: قال تعالى: فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أي انتقم منه انتقاما جعله به عبرة ونكالا لأمثاله من المتمردين في الدنيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ كما قال تعالى:
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ هذا هو الصحيح في معنى الآية أن المراد بقوله:
نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى أي: الدنيا والآخرة. لا شك فيه.
(3) القصص: 38.

(4/396)


فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)

قوم: السماء ليس مما توصل، ولكن المعنى: أأنتم أشد خلقاً أم السماءُ أشد خلقاً. ثم بيّن كيف خلقها، فقال عزّ وجلّ بَناها قال المفسرون: أخَلْقُكم بعدَ الموت أشدُّ عندكم، أم السماءُ في تقديركم؟ وهما في قدرة الله واحد. ومعنى: «بناها» رفعها. وكل شيء ارتفع فوق شيءٍ فهو بناءٌ.
ومعنى رَفَعَ سَمْكَها رفع ارتفاعها وعلوَّها في الهواء فَسَوَّاها بلا شقوق، ولا فُطور، ولا تفاوت، يرتفع فيه بعضها على بعض وَأَغْطَشَ لَيْلَها أي: أظلمه فجعله مظلماً. قال الزجاج: يقال: غطش الليل وأغطش، وغبش وأغبش، وغسق وأغسق، وغشي وأغشى، كلّه بمعنى أظلم.
قوله عزّ وجلّ: وَأَخْرَجَ ضُحاها أي: أبرز نهارها. والمعنى: أظهر نورها بالشمس. وإنما أضاف النور والظلمة إلى السماء لأنهما عنها يصدران وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ أي: بعد خلق السماء دَحاها أي:
بسطها. وبعض من يقول: إن الأرض خلقت قبل السماء يزعم أن «بعد» هاهنا بمعنى «قبل» ، كقوله تعالى: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ «1» وبعضهم يقول: هي بمعنى «مع» ، كقوله عزّ وجلّ:
عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ «2» ، ولا يمتنع أن تكون الأرض خلقت قبل والسماء، ثم دحيت بعد كمال السماء، وهذا مذهب عبد الله بن عمرو بن العاص. وقد أشرنا إلى هذا الخلاف في البقرة «3» . ونصبت الأرض بمضمر تفسيره قوله عزّ وجلّ: دَحاها.
أَخْرَجَ مِنْها ماءَها أي: فجَّر العيون منها وَمَرْعاها وهو ما يأكله الناس والأنعام وَالْجِبالَ أَرْساها قال الزجاج: أي: أثبتها مَتاعاً لَكُمْ أي: للإمتاع، لأن معنى أخرج منها ماءها ومرعاها: أمتع بذلك.
وقال ابن قتيبة: «متاعا لكم» أي: منفعة.

[سورة النازعات (79) : الآيات 34 الى 46]
فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38)
فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43)
إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)
قوله عزّ وجلّ: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى والطامة: الحادثة التي تطمُ على ما سواها، أي: تعلو فوقه، وفي المراد بها هاهنا ثلاثة أقوال: أحدها: النفخة الثانية التي فيها البعث. والثاني: أنها حين يقال لأهل النار: قوموا إلى النار. والثالث: أنها حين يساق أهل الجنة إلى الجنّة، وأهل النار إلى النار.
قوله عزّ وجلّ: يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى أي: ما عمل من خير وشر وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى أي:
لأبصار الناظرين. قال مقاتل: يكشف عنها الغطاء فينظر إليها الخلق. وقرأ أبو مجلز، وابن السميفع «لمن ترى» بالتاء. وقرأ ابن عباس، ومعاذ القارئ «لمن رأى» بهمزة بين الراء والألف.
قوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ طَغى في كفره وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا على الآخرة فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى قال الزجاج: أي هي المأوى له. وهذا جواب فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ فإن الأمر كذلك.
قوله عزّ وجلّ: وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ قد ذكرناه في سورة الرّحمن «4» .
__________
(1) الأنبياء: 105.
(2) القلم: 13.
(3) البقرة: 29.
(4) الرحمن: 46.

(4/397)


قوله عزّ وجلّ: وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى أي: عما تهوى من المحارم. قال مقاتل: هو الرجل يَهُمّ بالمعصية، فيذكر مقامه للحساب، فيتركها.
قوله عزّ وجلّ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قد سبق في الأعراف «1» فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها أي:
لست في شيءٍ من علمها وذِكْرِها. والمعنى: إنك لا تعلمها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أي: منتهى علمها إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها وقرأ أبو جعفر «منذرٌ» بالتنوين. ومعنى الكلام: إنما أنت مُخَوِّفٌ من يخافها.
والمعنى: إنما ينفع إنذارك من يخافها. وهو المؤمن بها. وأما من لا يخافها فكأنه لم يُنْذَر كَأَنَّهُمْ يعني: كفار قريش يَوْمَ يَرَوْنَها أي: يعاينون القيامه لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا. وقيل: في قبورهم إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أي: قَدْر آخر النهار من بعد العصر، أو أوله إلى أن ترتفع الشمس. قال الزجاج: والهاء والألف في «ضحاها» عائد إلى العشية. والمعنى: إلا عشية، أو ضحى العشية. قال الفراء:
فإن قيل: للعشية ضحى، إنما الضحى لصدر النهار؟.
فالجواب: أن هذا ظاهر في كلام العرب أن يقولوا: آتيك العشية، أو غداتَها، أو آتيك الغداةَ أو عَشِيَّتَها، فتكون العشية في معنى «آخر» ، والغداة في معنى «أول» . أنشدني بعض بني عقيل:
نَحْنُ صَبَحْنَا عَامِراً في دَارِها ... عَشِيَّةَ الهِلاَلِ أو سِرارِها
أراد: عشية الهلال، أو عشية سرار العشية، فهذا أشد من قولهم: آتيك الغداة أو عشيّتها.
__________
(1) الأعراف: 187.

(4/398)


عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)

سورة عبس
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 16]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)
أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9)
فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)
قوله تعالى: عَبَسَ وَتَوَلَّى.
(1512) قال المفسرون: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يوماً يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام، وأُمية وأُبَيَّاً ابني خلف، ويَدْعوهم إلى الله تعالى، ويرجو إسلامهم، فجاء ابن أم مكتوم الأعمى، فقال:
علِّمني يا رسول الله مما علَّمك الله، وجعل يناديه، ويكرِّر النداء، ولا يدري أنه مشتغل بكلام غيره حتى ظهرت الكراهية في وجهه صلّى الله عليه وسلم لقطعه كلامه، فأعرض عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأقبل على القوم يكلِّمهم، فنزلت هذه الآيات، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يكرمه بعد ذلك، ويقول: مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي.
__________
أصله محفوظ. أخرجه الطبري 3639 من حديث ابن عباس بنحوه، وإسناده واه عطية العوفي واه، وعنه مجاهيل. وذكره ابن كثير في «تفسيره» 4/ 556 وقال: فيه غرابة ونكارة. لكن أصل الحديث قوي له شواهد.
وله شواهد كثيرة، وأحسن شيء في هذا الباب: ما أخرجه الترمذي 3331 وابن حبان 535 والحاكم 2/ 514 والطبري 36318 والواحدي في «أسباب النزول» 845 من حديث عائشة قالت: «أنزل عَبَسَ وَتَوَلَّى في ابن أم مكتوم الأعمى، أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: يا رسول الله أرشدني، وعند رسول الله صلّى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين فجعل رسول الله يعرض عنه، ويقبل على الآخر ويقول: أترى بما تقول بأسا، فيقال: لا ففي هذا أنزل» . وإسناده صحيح على شرط مسلم، وصححه الحاكم على شرطهما، لكن قال: وأرسله جماعة عن هشام بن عروة عن عروة ليس فيه ذكر عائشة.
قلت: والمرسل، أخرجه مالك 1/ 203، ومراسيل عروة جياد. وله شاهد من مرسل قتادة، أخرجه الطبري 36322. وله شاهد من مرسل الضحاك، أخرجه الطبري 36325. وله شاهد من مرسل عبد الرحمن بن زيد، أخرجه الطبري 36326. وله شاهد من مرسل مجاهد والحسن، أخرجه الطبري 36322.
الخلاصة: رووه بألفاظ متقاربة، والمعنى متحد، وأن الآيات نزلت في شأن ابن أم مكتوم.
فالحديث حسن أو صحيح بمجموع طرقه وشواهده. وانظر «أحكام القرآن» 2263.

(4/399)


(1513) وذهب قوم، منهم مقاتل، إلى أنه إنما جاء ليؤمن، فأعرض عنه النبيّ صلّى الله عليه وسلم اشتغالاً بالرؤساء، فنزلت فيه هذه الآيات.
ومعنى: عَبَسَ قطَب وكَلَح وَتَوَلَّى أعرض بوجهه أَنْ جاءَهُ أي: لأن جاءه. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، والحسن، وأبو المتوكل، وأبو عمران، «آن جاءه» بهمزة واحدة مفتوحة ممدودة. وقرأ ابن مسعود، وابن السميفع «أَأَن» بهمزتين مقصورتين مفتوحتين. والْأَعْمى هو ابن مكتوم، واسمه عمرو بن قيس. وقيل: اسمه عبد الله بن عمرو وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أي: يتطهر من الذنوب بالعمل الصالح، وما يتعلَّمه منك، وقال مقاتل: لعله يؤمن أَوْ يَذَّكَّرُ أي: يتعظ بما يتعلمه من مواعظ القرآن فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى قرأ حفص عن عاصم «فتنفعه» بفتح العين، والباقون بضمّها. قال الزجاج: من نصب، فعلى جواب «لعل» ، ومن رفع، فعلى العطف على «يزَّكَّى» .
قوله عزّ وجلّ: أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى قال ابن عباس: استغنى عن الله وعن الإيمان بماله. قاله مجاهد:
«أما من استغنى» عتبة، وشيبة، فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى. قرأ ابن كثير، ونافع «تصَّدَّى» بتشديد الصاد. وقرأ عاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة، والكسائي، «تَصَدَّى» بفتح التاء، والصاد وتخفيفهما وقرأ أُبيُّ بنُ كعبٍ، وأبو الجوزاء، وأبو عمرو بن دينار: «تَتَصَدَّى» بتاءين مع تخفيف الصاد، قال الزّجّاج:
والأصل: تتصدى، ولكن حذفت التاء الثانية لاجتماع تاءين، ومن قرأ «تَصَدَّى» بإدغام التاء، فالمعنى أيضاً: تتصدى، إلا أن التاء أدغمت في الصاد لقرب مخرج التاء من الصاد. قال ابن عباس: «تَصَدَّى» تقبل عليه بوجهك. وقال ابن قتيبة: تتعرض. وقرأ ابن مسعود وابن السميفع، والجحدري «تُصْدَى» بتاء واحدة مضمومة، وتخفيف الصاد.
قوله عزّ وجلّ: وَما عَلَيْكَ أي: أي شيءٍ عليك في أن لا يُسْلِمَ مَنْ تدعوه إلى الإسلام؟ يعني:
أنه ليس عليه إلّا البلاغ.
قوله وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى فيه قولان: أحدهما: يمشي. والثاني: يعمل في الخير، وهو ابن أم مكتوم وَهُوَ يَخْشى الله فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى وقرأ ابن مسعود، وطلحة بن مصرف، وأبو الجوزاء «تتلهى» بتاءٍ واحدة خفيفة مرفوعة. قال الزجاج: أي: تتشاغل عنه. يقال: لهيت عن الشيء ألهى عنه: إذا تشاغلت عنه.
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا أي: لا تفعل ذلك: إِنَّها في المكني عنها قولان: أحدهما: آيات القرآن، قاله مقاتل. والثاني: هذه السورة، قاله الفراء. «والتذكرة» بمعنى التذكير فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ مفسر في آخر المدثر «1» . ثم أخبر بجلالة القرآن عنده فقال عزّ وجلّ: فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ أي: هو في صحف، أي: في كتب مكرَّمة، وفيها قولان: أحدهما: أنها اللوح المحفوظ، قاله مقاتل. والثاني: كتب الأنبياء، ذكره الثعلبي. فعلى هذا يكون معنى مَرْفُوعَةٍ عالية القدر، وعلى الأول يكون رفعها كونها في السماء.
__________
هذا قول ضعيف ليس بشيء، والصواب ما تقدم. انظر الروايات المتقدمة.
__________
(1) المدثر: 55. [.....]

(4/400)


قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)

وفي معنى مُطَهَّرَةٍ أربعة أقوال: أحدها: مطهرة من أن تنزل على المشركين، قاله الحسن.
والثاني: مطهرة من الشرك والكفر، قاله مقاتل: والثالث: لأنه لا يمسها إلا المطهرون، قاله الفراء.
والرابع: مطهرة من الدنس، قاله يحيى بن سلام.
قوله عزّ وجلّ: بِأَيْدِي سَفَرَةٍ فيهم قولان: أحدهما: أنهم الملائكة، قاله الجمهور. والثاني:
أصحاب محمّد صلّى الله عليه وسلم، قاله وهب بن منبه.
وفي معنى «سفرة» ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنهم الكتَبَة، قاله ابن عباس، ومجاهد، وأبو عبيدة، وابن قتيبة: والزجاج. قال الزجاج: واحدهم: سَافر، وسَفَرَة، مثل كَاتِب وكَتَبَة، وكافِر، وكَفَرة، وإنما قيل للكتاب: سفر، وللكاتب: سافر، لأن معناه أنه يبين الشيء، ويوضحه. يقال: أسفر الصبح:
إذا أضاء. وسفرت المرأة: إذا كشفت النقاب عن وجهها. ومنه: سفرتُ بين القوم، أي: كشفتُ ما في قلب هذا، وقلب هذا، لأُصْلِحَ بينهم. والثاني: أنهم القراء، قاله قتادة. والثالث: أنهم السفراء، وهم المصلحون، قال الفراء: تقول العرب: سفرتُ بين القوم، أي: أصلحتُ بينهم، فجعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله، كالسفير الذي يصلح بين القوم. قال الشاعر:
وَمَا أَدَعُ السِّفَارَةَ بَيْنَ قَوْمي ... وَمَا أَمشي بِغِشٍّ إنْ مَشَيْتُ
قوله عزّ وجلّ: كِرامٍ أي: على ربِّهم بَرَرَةٍ أي: مطيعين. قال الفراء: واحد «البررة» في قياس العربية: بَارٌّ، لأن العرب لا تقول: فَعَلَة ينوون به الجمع إلّا الواحد، ومنه فاعل، مثل كافر، وكفرة، وفاجر، وفجرة.

[سورة عبس (80) : الآيات 17 الى 32]
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)
فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31)
مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32)
قوله عزّ وجلّ: قُتِلَ الْإِنْسانُ أي: لعن، والمراد بالإنسان هاهنا: الكافر.
وفيمن عنى بهذا القول ثلاثة أقوال: أحدها: أنه أشار إلى كل كافر، قاله مجاهد. والثاني: أنه أُمية بن خلف، قاله الضّحّاك. والثالث: عتبة بن لهب، قاله مقاتل.
وفي قوله عزّ وجلّ: ما أَكْفَرَهُ ثلاثة أقوال: أحدها: ما أشد كفره، قاله ابن جريج. والثاني: أي شيء أكفَره؟ قاله السدي. فعلى هذا يكون استفهام توبيخ. والثالث: أنه على جهة التعجُّب. وهذا التعجب يؤمر به الآدميون والمعنى: اعجبوا أنتم من كفره، قاله الزجاج.
قوله عزّ وجلّ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ثم فسّره عزّ وجلّ: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ. وفي معنى «فقدره» ثلاثة أقوال: أحدها: قدّر أعضاء رأسه. وعينيه، ويديه، ورجليه، قاله ابن السائب. والثاني: قدَّره أطواراً:
نطفة، ثم علقة، إلى آخر خلقه، قاله مقاتل.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 556: قال ابن جرير: والصحيح أن السفرة الملائكة، والسفرة يعني بين الله وبين خلقه ومنه يقال: السفير: الذي يسعى بين الناس في الصلح والخير.

(4/401)


والثالث: فقدّره على الاستواء، قاله الزّجّاج.
قوله: ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ فيه قولان «1» : أحدهما: سهَّل له العلم بطريق الحق والباطل، قاله الحسن، ومجاهد. قال الفراء. والمعنى: ثم يسره للسبيل. والثاني: يسر له السبيل في خروجه من بطن أمّه، قاله السّدّيّ، ومقاتل، قوله عزّ وجلّ: فَأَقْبَرَهُ قال الفراء: أي جعله مقبوراً، ولم يجعله ممن يلقى للسباع والطير، فكأنَّ القبر مما أُكْرِم به المسلم. ولم يقل: قبره، لأن القابر هو الدافن بيده.
والمُقْبِرُ الله، لأنه صيَّره مقبوراً. فليس فعله كفعل الآدمي. والعرب تقول: بَتَرْتُ ذَنَبَ البعير، والله أبتره. وَعضَبْتُ قَرْنَ الثور، والله أَعْضَبَه وطردتُ فلاناً عني، والله أطرده، أي: صيَّره طريداً. وقال أبو عبيدة: أقبره: أي أمر أن يقبر، وجعل له قبراً. قالت بنو تميم لعمر بن هبيرة لما قتل صالح بن عبد الرحمن: أقبرنا صالحاً، فقال: دونكموه. والذي يدفن بيده هو القابر. قال الأعشى:
لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِها ... عاش وَلَمْ يُسْلَم إلى قابر «2»
قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أي: بعثه. يقال: أنشر الله الموتى فَنُشِرُوا، ونَشَر الميِّتُ: حَيِيَ هو بنفسه، واحدهم ناشر. قال الأعشى:
حتَّى يقولَ النَّاسُ ممَّا رَأَوْا ... يا عَجَباً للميّت النّاشر
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا قال الحسن: حقاً لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ به ربُّه، ولم يؤدِّ ما فرض عليه. وهل هذا عام أم خاص؟ فيه قولان «3» : أحدهما: أنه عام. قال مجاهد: لا يقضي أحد أبداً كُلَّ ما افترض الله عليه. والثاني: أنه خاص للكافر لم يقض ما أمر به من الإيمان والطاعة، وقاله يحيى بن سلام ولما ذَكَر خَلْق ابن آدم، ذكر رزقه ليقبو ويسد بالنّبات على البعث، فقال عزّ وجلّ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ قال مقاتل: يعني به عتبة بن أبي لهب. ومعنى الكلام: فلينظر الإنسان كيف خلق الله طعامه الذي جعله سببا لحياته؟ ثم بيّن فقال عزّ وجلّ: أَنَّا قرأ ابن كثير، ونافع وأبو عمرو، وابن عامر «إنا» بالكسر.
وقرأ عاصم، وحمزة، والكسائي أَنَّا صَبَبْنَا بفتح الهمزة في الوصل وفي الابتداء، ووافقهم رويس على فتحها في الوصل، فإذا ابتدأ كسر. قال الزجاج: من كسر «إنا» فعلى الابتداء والاستئناف، ومن فتح، فعلى البدل من الطعام، المعنى: فلينظر الإنسان إلى أنا صببنا. قال المفسرون: أراد بصب الماء: المطر
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 557: قال العوفي، عن ابن عباس: ثم يسّر عليه خروجه من بطن أمه، واختاره ابن جرير. وقال مجاهد: هذه كقوله إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً أي وضحناه وبيناه وسهلنا عليه علمه وهذا هو الأرجح.
(2) البيت للأعشى الكبير ميمون بن قيس، ديوانه 139 من قصيدة يهجو بها علقمة بن علاثة ويمدح عامر بن الطفيل.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 557: قال ابن جرير: كلا، ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر، من أنه قد أدى حقّ الله عليه في نفسه وماله، لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ يقول: لم يؤد ما فرض عليه من الفرائض لربه عز وجل، ولم أجد للمتقدمين فيه كلاما سوى هذا. والذي يقع لي في معنى ذلك- والله أعلم- أن المعنى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أي: بعثه كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ: لا يفعله الآن حتى تنقضي المدة، ويفرغ القدر من بني آدم ممن كتب تعالى أن سيوجد منهم ويخرج إلى الدنيا، وقد أمر به تعالى كونا وقدرا، فإذا تناهى لذلك عند الله أنشر الله الخلائق وأعادهم كما بدأهم.

(4/402)


فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)

ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ بالنبات شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا يعني جميع الحبوب التي يُتَغَذَّى بها وَعِنَباً وَقَضْباً قال الفراء: هو الرَّطبة. وأهل مكة يسمون القَتَّ: القضب. قال ابن قتيبة ويقال: إنه سمي بذلك، لأنه يُقْضَبُ مرة بعد مرة، أي: يقطع، وكذلك القَصيل، لأنه يُقْصَلُ، أي: يقطع.
قوله عزّ وجلّ: وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا (29) وَحَدائِقَ غُلْباً قال الفراء: كل بستان عليه حائط، فهو حديقة، وما لم يكن عليه حائط لم يقل: حديقة. والغُلْب: ما غلظ من النخل. قال أبو عبيدة: يقال: شجرة غَلْباء: إذا كانت غليظة. وقال ابن قتيبة: الغُلب: الغِلاظ الأعناق. وقال الزجاج: هي المتكاثفة، العظام.
قوله عزّ وجلّ: وَفاكِهَةً يعني: ألوان الفاكهة وَأَبًّا فيه قولان: أحدهما: أنه ما ترعاه البهائم.
قاله ابن عباس، وعكرمة، واللغويون. قال الزجاج: هو جميع الكلأ التي تعتلفه الماشية. والثاني: أنه الثمار الرطبة، رواه الوالبي عن ابن عباس.
قوله: مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ قد بَيَّنَّاه في السورة التي قبلها «1» .

[سورة عبس (80) : الآيات 33 الى 42]
فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
قوله عزّ وجلّ: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) وهي الصيحة الثانية. قال ابن قتيبة: الصاخة تصِخُّ صَخَّاً أي: تُصِمُّ. يقال: رجل أصخ، وأصلخ: إذا كان لا يسمع. والداهية صاخة أيضاً. وقال الزجاج: هي الصيحة التي تكون عليها القيامة، تصخ الأسماع، أي: تصمها، فلا تسمع إلا ما تدعى به لإحيائها. ثم فسر في أي وقت تجيء فقال عزّ وجلّ: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ قال المفسرون:
والمعنى «2» : لا يلتفت الإنسان إلى أحد من أقاربه، لِعِظَم ما هو فيه. قال الحسن: أول من يَفِرُّ من أخيه هابيل، ومن أُمه وأبيه إبراهيم، ومن صاحبته نوح ولوط، ومن ابنه نوح. وقال قتادة: يفر هابيل من قابيل، والنبيّ صلّى الله عليه وسلم من أُمه، وإبراهيم من أبيه، ولوط من صاحبته، ونوح من ابنه.
قوله عزّ وجلّ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ قال الفراء: أي: يَشْغَلُه عن قرابته. وقال ابن قتيبة: أي: يَصْرِفه ويصدُّه عن قرابته، يقال: اغْنِ عني وجهك، أي: اصرفه، واغْن عني السفيه. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي، والزهري، وأبو العالية، وابن السميفع، وابن محيصن، وابن أبي عبلة «يَعنيه» بفتح الياء، والعين غير معجمة. قال الزجاج: معنى الآية: له شأن لا يقدر مع الاهتمام به على الاهتمام بغيره، وكذلك قراءة من قرأ «يعنيه» بالعين، معناه له شأن لا يهمه معه غيره.
__________
(1) النازعات: 33.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 559: يراهم ويفرّ منهم، ويبتعد عنهم لأن الهول عظيم، والخطب جليل. وفي الحديث الصحيح في أمر الشفاعة: أنه إذا طلب إلى كل من أولي العزم أن يشفع عند الله في الخلائق، يقول: نفسي، نفسي، لا أسأله اليوم إلا نفسي.

(4/403)


(1514) وقد روى أنس بن مالك قال: قالت عائشة للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: أنحشر عراةً؟ قال: نعم. قالت:
واسوءتاه، فأنزل الله عزّ وجلّ: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ.
قوله عزّ وجلّ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ أي: مضيئة قد علمت ما لها من الخير ضاحِكَةٌ لسرورها مُسْتَبْشِرَةٌ أي: فرحة بما نالها من كرامة الله عزّ وجلّ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ أي: غبار. وقال مقاتل:
أي: سواد وكآبة تَرْهَقُها أي: تغشاها قَتَرَةٌ أي: ظُلمة. وقال الزجاج: يعلوها سواد كالدخان. ثم بَيَّن مَنْ أَهْلُ هذه الحال، فقال عزّ وجلّ: أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ وهو جمع كافر وفاجر.
__________
صحيح دون لفظ «وا سوأتاه» فإنه منكر ضعيف. أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 846 من طريق إبراهيم بن هراسة ثنا عائذ بن شريح الكندي، قال: سمعت أنس بن مالك، قال: قالت عائشة. وفيه لفظة منكرة وهي «واسوءتاه» وإسناده ضعيف لضعف عائذ.
وأخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» 4/ 559 والطبري 36392 من طريق الفضل بن موسى، عن عائذ بن شريح، عن أنس قال: سألت عائشة رضي الله عنها: إني ساءلتك عن حديث فتجزني أنت به، ... »
فذكره بنحوه والمتن غريب بهذا اللفظ. وقال أبو حاتم: عائذ بن شريح ضعيف، في حديثه ضعف. وقال ابن طاهر: ليس بشيء. فالإسناد ضعيف، والمتن ضعيف.
وأصل حديث عائشة دون ذكر لفظ «واسوءتاه» أخرجه البخاري 6527 ومسلم 2859. وورد من حديث عائشة- دون ذكر اللفظة. أخرجه النسائي في «التفسير» 668 والحاكم 4/ 564 وإسناده صحيح، وصححه الحاكم على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 425 من طريق بريد بن عبد ربه عن بقية عن الزبيدي عن الزهري عن عروة عن عائشة.
وورد من وجه آخر من حديث سودة: أخرجه الحاكم 2/ 514- 515 والطبراني في «الكبير» 24/ (91) والواحدي في «الوسيط» 4/ 425 من طريق إسماعيل بن أبي أويس ثنا أبي عن محمد بن أبي عياش عن عطاء بن يسار عن سودة زوج النبي صلّى الله عليه وسلم. وفيه محمد بن أبي عياش مجهول، وثّقه ابن حبان وحده. وصححه الحاكم على شرط مسلم! ووافقه الذهبي!؟
وقال الهيثمي في «المجمع» 10/ 333: ورجاله رجال الصحيح غير محمد بن أبي عياش وهو ثقة! كذا قال رحمه الله، والصواب أنه مجهول، وثقه ابن حبان وحده على قاعدته في توثيق المجاهيل، وقد اضطرب، فرواه تارة عن أم سلمة به، أخرجه الطبراني في «الأوسط» 10/ 332/ 18320.

(4/404)