زاد المسير في
علم التفسير إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا
الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ
(6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ
سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ
نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا
الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
سورة التّكوير
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
[سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ
(2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ
عُطِّلَتْ (4)
وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ
(6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ
سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ
(11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ
أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)
(1515) روى أبو عبد الله الحاكم في «صحيحه» من حديث عبد الله
بن عمر، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من أحب أن
ينظر إلى يوم القيامة فليقرأ قوله تعالى: إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ.
__________
أخرجه الترمذي 3333 وأحمد 2/ 37 وابن حبان في «المجروحين» 2/
25 من طريق عبد الرزاق.
وأخرجه الحاكم 2/ 515 من طريق هشام بن يوسف الصنعاني وكلا
الطريقين عن عبد الله بن بحير القاضي قال سمعت عبد الرحمن بن
زيد الصنعاني قال سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله صلّى الله
عليه وسلم ... الحديث. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 427 من
طريق علي بن محمد الفقيه عن المؤمل بن حسن ثنا أحمد بن منصور
الرمادي ثنا إبراهيم بن خالد ثنا عبد الله بن بحير به.
وإسناده غير قوي، عبد الله بن بحير مختلف فيه، وثقه ابن معين،
وفرق ابن حبان بين عبد الله بن بحير بن ريسان، وبين أبي وائل
القاص، في حين عدهما ابن حجر والذهبي واحدا، وشيخه وإن روى عنه
غير واحد، فقد وثّقه ابن حبان وحده، وروى حديثين فقط. وصححه
الألباني في «الصحيحة» 1081، وفي ذلك نظر، قال ابن حبان: أبو
وائل القاص، اسمه عبد الله بن بحير الصنعاني، وليس هو ابن بحير
بن ريسان، ذاك ثقة، وهذا يروي عن عروة بن محمد بن عطية، وعبد
الرحمن بن يزيد، العجائب التي كأنها معمولة لا يجوز الاحتجاج
به، ثم أسند هذا الحديث، وحديثا آخر. وكذا فرق بينهما أبو أحمد
الحاكم، فقال في الكنى في فصل من عرف بكنيته، ولا يوقف على
اسمه، قلت: وذكره البخاري في «التاريخ» 8/ 9 في الكنى، فقال:
أبو وائل القاص الصنعاني، سمع عروة بن محمد، روى عنه إبراهيم
بن خالد. ولم يذكر البخاري فيه جرحا أو تعديلا. وذكره الهيثمي
في «المجمع» 7/ 134 أن الترمذي رواه موقوفا، وهذا لم أجده في
المرفوع، ولعل الوقف صواب، فإن في المتن غرابة، لكن لا أجزم
بذلك لأنه إن كان كما قال ابن حبان، فهو خبر واه، وإلا فحسن
غريب، فالله أعلم. فالجزم بصحته من الألباني، من غير بحث
وتمحيص في الإسناد غير جيد، والله أعلم.
(4/405)
وفي قوله عزّ وجلّ: كُوِّرَتْ أربعة أقوال:
أحدها: أظلمت، رواه الوالبي عن ابن عباس، وكذلك قال الفراء:
ذهب ضوؤها، وهذا قول قتادة، ومقاتل. والثاني: ذَهَبَتْ، رواه
عطية عن ابن عباس، وكذلك قال مجاهد: اضمحلَّتْ. والثالث:
غُوِّرَتْ، روي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وابن الأنباري،
وهذا من قول الناس بالفارسيّة: كور بكرد. وقرأت على شيخنا أبي
منصور اللغوي قال:
هو بالفارسيّة كور بور.
والرابع: أنها تكوّر مثل العمامة، فتلفُّ وتمحى، قاله أبو
عبيد. قال الزجاج: ومعنى «كُوِّرت» جمع ضوؤها، ولُفَّتْ كما
تلفّ العمامة. يقال: كَوَّرْتُ العمامة على رأسي أُكوِّرُها:
إذا لَفَفْتَها. قال المفسرون: تُجمع الشمس بعضُها إلى بعض، ثم
تُلَفُّ ويرمى بها في البحر. وقيل: في النار. وقيل:
تعاد إلى ما خلقت منه.
قوله عزّ وجلّ: وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ أي: تناثرت،
وتهافتت. يقال: انكدر الطائر في الهواء: إذا انقضَّ وَإِذَا
الْجِبالُ سُيِّرَتْ عن وجه الأرض، واستوت مع الأرض وَإِذَا
الْعِشارُ عُطِّلَتْ قال المفسرون وأهل اللغة: النوق الحوامل،
وهي التي أتى عليها في الحمل عشرة أشهر فقيل لها: العشار لذلك،
وذلك الوقت أَحْسَنُ زَمَانِ حَمْلِها، وهي تضع إذا وَضَعَتْ
لتمامٍ في سنة، فهي أنفس ما للعرب عندهم، فلا يعطلونها، إلا
لإتيان ما يَشْغَلهم عنها، وإنما خوطبت العرب بأمر العشار، لأن
أكثر عيشهم ومالهم من الإبل، ومعنى «عُطِّلت» سُيِّبَتْ
وأُهْمِلَتْ، لإشتغالهم عنها بأهوال القيامة.
قوله تعالى: وَإِذَا الْوُحُوشُ يعني: دوابَّ البرّ حُشِرَتْ
وفيه قولان: أحدهما: ماتت، قاله ابن عباس. والثاني: جمعت إلى
يوم القيامة، قاله السدي. وقد زدنا هذا شرحاً في الأنعام «1» .
قوله عزّ وجلّ: وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ قرأ ابن كثير،
وأبو عمرو «سجرت» بتخفيف الميم، وقرأ الباقون بتشديدها. وفي
المعنى ثلاثة أقوال: أحدها: أُوقِدَتْ فاشتعلت ناراً، قاله علي
وابن عباس.
والثاني: يبست، قاله الحسن. والثالث: ملئت بأن صارت بحراً
واحداً، وكثر ماؤها، قاله ابن السّائب والفراء، وابن قتيبة.
قوله عزّ وجلّ: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ فيه ثلاثة أقوال
«2» : أحدها: قرنت بأشكالها. قاله عمر رضي الله عنه، الصالح مع
الصالح في الجنة، والفاجر مع الفاجر في النار، وهذا قول الحسن،
وقتادة.
والثاني: رُدَّت الأرواح إلى الأجساد، فَزُوِّجَت بها، قاله
الشعبي. وعن عكرمة كالقولين. والثالث:
زُوِّجت أنفس المؤمنين بالحور العين، وأنفس الكافرين
بالشياطين، قاله عطاء، ومقاتل.
قوله عزّ وجلّ: وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ قال اللغويون:
الموؤودة: البنت تُدْفَن وهي حَيَّةٌ، وكان هذا من فعل
الجاهلية. يقال: وَأَدَ وَلَدَهُ، أي: دفنه حياً. قال الفرزدق:
ومنّا الّذي منع الوائدات ... فأحيا الوئيد فلم يؤاد
يعني: صعصعة بن صوحان، وهو جَدّ الفرزدق. قال الزّجّاج: ومعنى
سؤالها تبكيت قاتلها في
__________
(1) الأنعام: 111.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 563: أي جمع كل شكل
إلى نظيره، كقوله: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا
وَأَزْواجَهُمْ، وعن مجاهد قال: الأمثال من الناس جمع بينهم،
واختاره ابن جرير، وهو الصحيح.
(4/406)
فَلَا أُقْسِمُ
بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ
إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ
لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي
الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا
صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ
الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ
تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27)
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
القيامة، لأنّ جوابها: قتلت بغير ذنب.
وقيل: سئلت: طلبت، كما تقول: سألته حقّي وإنما طلبت لتبكيت
قاتلي. ومثل هذا التبكيت قوله عزّ وجلّ: أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ «1» وقرأ عليّ بن
أبي طالب رضي الله عنه وابن مسعود، وابن عباس، وأبو عبد
الرحمن، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، وهارون عن أبي عمرو
«سَأَلَتْ» بفتح السين، وألف بعدها بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ
بإسكان اللام، وضم التاءَ الأخيرة. وسؤالها هذا أيضاً تبكيت
لقاتليها. قال ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت،
فكان أوان ولادها حفرت حفيرة، فتمخَّضت على رأس الحفيرة، فإن
ولدت جارية رَمَتْ بها في الحفيرة، وإن ولدت غلاماً حبسته.
قوله عزّ وجلّ: وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ قرأ نافع، وعاصم،
وأبو جعفر، وابن عامر، ويعقوب «نُشِرَتْ» بالتخفيف، والباقون
بالتشديد. والمراد بالصحف: صحائف أعمال بني آدم نشرت للحساب
وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ قال الفرّاء: يعني نُزِعَتْ،
فطُوِيَتْ. وفي قراءة عبد الله «قُشِطَتْ» بالقاف، وهكذا تقول
قيس، وتميم، وأسد، بالقاف. وأما قريش، فتقوله بالكاف، والمعنى
واحد. والعرب تقول:
القافور، والكافور، والقسط، والكسط. وإذا تقارب الحرفان في
المخرج تعاقبا في اللّغات، كما يقال:
جدث، وجدف. قال ابن قتيبة: كشطت كم يُكْشَطُ الغِطَاء عن
الشيء، فطُوِيَتْ. وقال الزجاج: قلعت كما يقلع السقف.
وسُعِّرَتْ أُوقدت. وقرأ نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم
«سُعِّرت» مشددة.
قال الزجاج: المعنى واحد. إلا أن معنى المشدد: أُوقدت مرة بعد
مرة. وأُزْلِفَتْ قُرِّبَتْ من المتقين. وجواب هذه الأشياء
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ أي: إذا كانت هذه الأشياء
عَلِمَتْ في ذلك الوقت كلُّ نفس ما أحضرت من عمل، فأثيبتْ على
قدر عملها. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال في قوله عزّ وجلّ:
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ: لهذا جرى الحديث. وقال ابن
عباس: من أول السورة إلى هاهنا اثنتا عشرة خصلة، ستة في
الدنيا، وستة في الآخرة.
[سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 29]
فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16)
وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ
(18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ
أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ
بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ
بِضَنِينٍ (24)
وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ
تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27)
لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ
إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)
قوله عزّ وجلّ: فَلا أُقْسِمُ لا زائدة، والمعنى: أقسم
بِالْخُنَّسِ وفيها خمسة أقوال:
أحدها: أنها خمسة أنجم تَخْنُس بالنهار فلا تُرى، وهي: زُحَل،
وعُطَارد، والمشتري، والمرّيخ.
وبه قال مقاتل، وابن قتيبة. وقيل: اسم المشتري: البرجس. واسم
المريخ: بهرام. والثاني: أنها النجوم، قاله الحسن وقتادة على
الإطلاق، وبه قال أبو عبيدة. والثالث: أنها بقر الوحش، قاله
ابن مسعود. والرابع: الظباء، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال
سعيد بن جبير. والخامس: الملائكة، حكاه الماوردي. والأكثرون
على أنها النجوم. قال ابن قتيبة: وإنما سماها خنّسا، لأنها
تسير في البروج
__________
(1) المائدة: 116.
(4/407)
والمنازل، كسير الشمس والقمر، ثم تَخْنُس،
أي: ترجع، بينا يرى أحدها في آخر البروج كَرَّ راجعاً إلى
أوله، وسماها كُنَّساً، لأنها تكنس، أي: تسير كما تكنس الظباء.
وقال الزّجّاج: تخنس، أي: تغيب، وكذلك تكنس تدخل في كناسها،
أي: تغيب في المواضع التي تغيب فيها. وإذا كان المراد الظّباء
فهي تدخل الكناس، وهو الغصن من أغصان الشجر. ووقف يعقوب على
«الجواري» بالياء.
قوله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ فيه قولان: أحدهما:
ولَّى، قاله ابن عباس، وابن زيد، والفراء. والثاني: أقبل، قاله
ابن جبير، وقتادة. قال الزجاج: يقال: عسعس الليل: إذا أقبل.
وعسعس: إذا أدبر. واستدل من قال: إن المراد: إدباره ب قوله عزّ
وجلّ: وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ وأنشد أبو عبيدة لعلقمة بن
قرط:
حتى إذا الصُّبْحُ لها تَنَفَّسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا
وفي قوله عزّ وجلّ: تَنَفَّسَ قولان: أحدهما: أنه طلوع الفجر،
قاله عليّ رضي الله عنه وقتادة.
والثاني: طلوع الشمس، قاله الضّحّاك. وقال الزجاج: معناه: إذا
امتد حتى يصير نهاراً بَيِّناً. وجواب القسم في قوله: فَلا
أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ وما بعده قولُه: إِنَّهُ لَقَوْلُ
رَسُولٍ كَرِيمٍ يعني: أن القرآن نزل به جبريل. وقد بيَّنَّا
هذا في الحاقة «1» . ثم وصف جبريل ب قوله عزّ وجلّ: ذِي
قُوَّةٍ وهو كقوله عزّ وجلّ:
ذُو مِرَّةٍ وقد شرحناه في النّجم «2» ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي
الْعَرْشِ مَكِينٍ يعني: في المنزلة مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ أي:
في السموات تطيعه الملائكة. فَمِنْ طَاعَةِ الملائكة له: أنه
أَمَرَ خازن الجنة ليلة المعراج حتى فتحها لمحمّد صلّى الله
عليه وسلم فدخلها ورأى ما فيها، وأمر خازن جهنم ففتَح له عنها
حتى نظر إليها. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وابن مسعود، وأبو حيوة
«ثم أمين» بضم الثاء. ومعنى «أَمين» على وحي الله ورسالاته.
وقال أبو صالح: أمين على أن يدخل سبعين سرادقا من نور بغير
إذن.
قوله عزّ وجلّ: وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ يعني محمّدا صلّى
الله عليه وسلم، والخطاب لأهل مكة. قال الزجاج:
وهذا أيضاً من جواب القسم، وذلك أنه أقسم أن القرآن نزل به
جبريل، وأن محمداً ليس بمجنون كما يقول أهل مكة.
قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ قال
المفسرون: رأى محمّد صلّى الله عليه وسلم جبريل على صورته
بالأفق.
وقد ذكرنا هذا في سورة النّجم «3» .
قوله عزّ وجلّ: وَما هُوَ يعني: محمّدا صلّى الله عليه وسلم
عَلَى الْغَيْبِ أي: على خبر السماء الغائب عن أهل الأرض
بِضَنِينٍ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائي، ورويس «بظنين»
بالظاء، وقرأ الباقون بالضاد.
قال ابن قتيبة: من قرأ بالظاء، فالمعنى: ما هو بمُتَّهم على ما
يخبر به عن الله، ومن قرأ بالضاد، فالمعنى: ليس ببخيل عليكم
بعلم ما غابَ عنكم مما ينفعكم. وقال غيره: ما يكتمه كما يكتم
الكاهن ليأخذ الأجر عليه.
قوله عزّ وجلّ: وَما هُوَ يعني: القرآن بِقَوْلِ شَيْطانٍ
رَجِيمٍ قال مقاتل: وذلك أن كفار مكة قالوا: إنما يجيء به
الشيطان، فيلقيه على لسان محمّد.
__________
(1) الحاقة: 40.
(2) النجم: 6.
(3) تقدم في سورة النجم: 7.
(4/408)
قوله عزّ وجلّ: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ قال
الزجاج: معناه: فأيَّ طريق تسلكون أَبْيَنَ من هذه الطريقة
التي قد بيّنت لكم؟ قوله: إِنْ هُوَ أي: ما هو، يعني: القرآن
إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ أي: موعظة للخلق أجمعين لِمَنْ
شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ على الحق والإيمان. والمعنى:
أن القرآن إنما يتعظ به من استقام على الحق. وقد بيَّنَّا سبيل
الإستقامة، فمن شاء أخذ في تلك السبيل. ثم أعلمهم أن المشيئة
في التوفيق إليه بما بعد هذا، وقد بَيَّنَّا هذا في سورة
الإنسان «1» .
(1516) قال أبو هريرة: لما نزلت لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ
يَسْتَقِيمَ قالوا: الأمر إلينا، إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم
نستقم، فنزل قوله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ
اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ وقيل: القائل لذلك أبو جهل. وقرأ
أبو بكر الصّدّيق رضي الله عنه، وأبو المتوكّل، وأبو عمران:
«وما يشاءون» بالياء.
فصل:
وقد زعم بعض ناقلي التفسير أنّ قوله عزّ وجلّ: لِمَنْ شاءَ
مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وقوله عزّ وجلّ في (عبس) «2» :
فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ، وقوله عزّ وجلّ في سورة الإنسان «3» وفي
سورة المزمل «4» :
فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا كله منسوخ بقوله
عزّ وجلّ: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ولا أرى
هذا القول صحيحاً، لأنه لو جاز وقوع مشيئتهم مع عدم مشيئته
توجَّه النسخ. فأما إذ أخبر أن مشيئتهم لا تقع إلا بعد مشيئته،
فليس للنّسخ وجه.
__________
أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه كما في «الدر» 6/ 532 عن أبي
هريرة، ولم أقف على إسناده، وتفردهما به دليل وهنه. وورد عن
سليمان بن موسى قوله، وهو أصح. أخرجه الواحدي في «أسباب
النزول» 847 والطبري 36549 و 36550 عن سليمان بن موسى به.
__________
(1) الإنسان: 30.
(2) عبس: 12. [.....]
(3) الإنسان: 29.
(4) المزمل: 18.
(4/409)
إِذَا السَّمَاءُ
انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا
الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا
الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي
خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا
شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ
(11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ
لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)
يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا
بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17)
ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا
تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ
لِلَّهِ (19)
سورة الانفطار
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
[سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 19]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ
انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا
الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا
الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي
خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ
رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11)
يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي
نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)
يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها
بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ
ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ
نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
قوله عزّ وجلّ: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ انفطارها:
انشقاقها. وانْتَثَرَتْ بمعنى تساقطت.
وفُجِّرَتْ بمعنى فُتح بعضها في بعض فصارت بحراً واحدا. وقال
الحسن: ذهب ماؤها، وبُعْثِرَتْ بمعنى أثيرت. قال ابن قتيبة:
قُلِبَتْ فأُخْرِج ما فيها. يقال: بَعْثَرْتُ المتاع
وبَحْثَرْتُه: إذا جعلت أسفله أعلاه.
قوله عزّ وجلّ: عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ هذا
جواب الكلام. وقد شرحناه في قوله عزّ وجلّ: يُنَبَّؤُا
الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
«1» .
قوله عزّ وجلّ: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ فيه أربعة أقوال:
أحدها: أنه عني به أبو الأشد «2» ، وكان كافراً، قاله ابن
عباس، ومقاتل. وقد ذكرنا اسمه في المدثر «3» . والثاني: أنه
الوليد بن المغيرة، قاله عطاء.
والثالث: أنه أُبيّ بن خلف، قاله عكرمة. والرابع: أنه أشار الى
كل كافر، ذكره الماوردي.
قوله عزّ وجلّ: ما غَرَّكَ قال الزجاج: أي: ما خَدَعك وسوَّلَ
لك حتى أضعتَ ما وجب عليك؟. وقال غيره: المعنى: ما الذي أمَّنك
من عقابه وهو كريم متجاوز إذْ لم يعاقبك عاجلا؟ وقيل
__________
(1) القيامة: 30.
(2) تقدم الكلام عليه في سورة المدثر: 30.
(3) المدثر: 30.
(4/410)
للفضيل بن عياض: لو أقامك الله سبحانه يوم
القيامة، وقال: ما غرَّك بربك الكريم، ماذا كنت تقول؟
قال: أقول: غرني سُتورك المرخاة. وقال يحيى بن معاذ: لو قال
لي: ما غرك بي؟ قلت: بِرُّك سالفاً وآنفا. وقيل: لما ذكر الصفة
التي هي الكرم هاهنا دون سائر صفاته، كان كأنه لقَّن عبده
الجواب، ليقول: غرّني كرم الكريم.
قوله عزّ وجلّ: الَّذِي خَلَقَكَ ولم تك شيئاً فَسَوَّاكَ
إنساناً تسمع وتبصر فَعَدَلَكَ قرأ ابن كثير، ونافع، وأبو
عمرو، وابن عامر «فعدَّلك» بالتشديد. وقرأ عاصم، وحمزة،
والكسائي «فَعَدَلك» بالتخفيف. قال الفراء: من قرأ بالتخفيف.
فوجهه- والله أعلم-: فصوَّرك إلى أيّ صورة ما شاء، إما حَسَن،
وإما قبيح، وإما طويل، وإما قصير. وقيل: في صورة أب، في صورة
عم، في صورة بعض القرابات تشبيها. ومن قرأ بالتشديد، فإنه
أراد- والله أعلم-: جعلك معتدلا، معدّل الخلق. وقال غيره:
عدَّل أعضاءك فلم تفضل يد على يد، ولا رِجل على رجل، وعدل بك
أن يجعلك حيوانا بهيما.
قوله عزّ وجلّ: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ قال
الزجاج: يجوز أن تكون «ما» زائدة. ويجوز أن تكون بمعنى الشرط
والجزاء، فيكون المعنى: في أي صورة ما شاء أن يركِّبك فيها
ركبك. وفي معنى الآية أربعة أقوال: أحدها: في أي صورة من صور
القرابات ركَّبك، وهو معنى قول مجاهد. والثاني:
في أيّ صورة، من حسن، أو قبيح أو طويل، أو قصير، أو ذَكَر، أو
أنثى، وهو معنى قول الفراء.
والثالث: إن شاء أن يركِّبك في غير صورة الإنسان ركبك، قاله
مقاتل. وقال عكرمة: إن شاء في صورة قرد، وإن شاء في صورة
خنزير. والرابع: إن شاء في صورة إنسان بأفعال الخير. وإن شاء
في صورة حمار بالبلادة والبله، وإن شاء في صورة كلب بالبخل، أو
خنزير بالشرّ، ذكره الثّعلبيّ.
قوله عزّ وجلّ: بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ وقرأ أبو جعفر بل
يكذبون «بالياء» أي: بالجزاء والحساب، فيزعمون أنه غير كائن.
ثم أعلمهم أن أعمالهم محفوظة، فقال تعالى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحافِظِينَ أي: من الملائكة يحفظون عليكم أعمالكم كِراماً على
ربِّهم كاتِبِينَ يكتبون أعمالكم يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ
من خير وشر، فيكتبونه عليكم.
قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وذلك في الآخرة
إذا دخلوا الجنة وَإِنَّ الْفُجَّارَ وفيهم قولان:
أحدهما: أنهم المشركون. والثاني: الظَّلَمة. ونقل عن سليمان بن
عبد الملك أنه قال لأبي حازم: يا ليت شعري ما لنا عند الله؟
فقال له: اعرض عملك على كتاب الله، فإنك تعلم ما لك عنده،
فقال:
وأين أجده؟ قال: عند قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي
نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ قال سليمان:
فأين رحمة الله؟ قال: قريب من المحسنين.
قوله عزّ وجلّ: يَصْلَوْنَها يعني: يدخلون الجحيم مقاسين
حرَّها يَوْمَ الدِّينِ أي: يوم الجزاء على الأعمال وَما هُمْ
عَنْها أي: الجحيم بِغائِبِينَ وهذا يدل على تخليد الكفار.
وأجاز بعض العلماء أن تكون «عنها» كناية عن يوم القيامة، فتكون
فائدة الكلام تحقيق البعث. ويشتمل هذا على الأبرار والفجار. ثم
عظَّم ذلك اليوم ب قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ
الدِّينِ ثم كرَّر ذلك تفخيماً لشأنه، وكان ابن السائب يقول:
الخطاب بهذا للإنسان الكافر، لا لرسول الله صلّى الله عليه
وسلم.
(4/411)
قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ
لِنَفْسٍ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو «يوم» بالرفع، والباقون:
بالفتح. قال الزجاج: من رفع «اليوم» ، فعلى أنه صفة لقوله عزّ
وجلّ: يَوْمُ الدِّينِ. ويجوز أن يكون رفعه بإضمار «هو» ،
ونصبه على معنى: هذه الأشياء المذكورة تكون يَوْمَ لا تَمْلِكُ
نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً قال المفسرون: ومعنى الآية أنه لا
يملك الأمرَ أحدٌ إلا الله ولم يملِّك أحداً من الخلق شيئاً
كما ملَّكهم في الدنيا. وكان مقاتل يقول: لا تملك نفس لنفسٍ
كافرةٍ شيئاً من المنفعة. والقول على الإطلاق أصح، لأن مقاتلاً
فيما أحسب خاف نفي شفاعة المؤمنين. والشفاعة إنما تكون عن أمر
الله وتمليكه.
(4/412)
وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى
النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ
وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ
أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ
يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
سورة المطفّفين
وفيها ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنها مكّيّة، قاله ابن مسعود،
والضّحّاك، ويحيى بن سلام.
والثاني: مدنيّة، قاله ابن عباس، والحسن، وعكرمة، وقتادة،
ومقاتل، إلّا أنّ ابن عباس، وقتادة قالا:
فيها ثمان آيات مكيّة، من قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ
أَجْرَمُوا «2» إلى آخرها. وقال مقاتل: فيها آية مكّيّة، وهي
قوله عزّ وجلّ: إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ
الْأَوَّلِينَ «3» . والثالث: أنها نزلت بين مكّة، والمدينة،
قاله جابر بن زيد وابن السّائب، وذكر هبة الله بن سلامة
المفسّر أنها نزلت في الهجرة بين مكّة والمدينة، نصفها يقارب
مكّة، ونصفها يقارب المدينة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 6]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى
النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ
يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ
(4)
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ
الْعالَمِينَ (6)
قوله عزّ وجلّ: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ.
(1517) قال ابن عباس: لما قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم
المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً، فأنزل الله تعالى: وَيْلٌ
لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل بعد ذلك.
وقال السّدّيّ: قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة،
وبها رجل يقال له: أبو جهينة، ومعه صاعان، يكيل بأحدهما،
ويكتال بالآخر، فأنزل الله هذه الآية «4» . وقد شرحنا معنى
«الويل» في البقرة «5» قال ابن قتيبة:
المطفف: الذي لا يوفي الكيل، يقال: إناء طَفَّانُ: إذا لم يكن
مملوءاً. وقال الزّجّاج: إنما قيل: مطفّف،
__________
حسن. أخرجه النسائي في «التفسير» 674 وابن ماجة 2223 والحاكم
2/ 33 والطبري 36577 والواحدي 848 من حديث ابن عباس، وإسناده
حسن. وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وهو حديث حسن صحيح، وقد صححه
السيوطي في «الدر» 6/ 536. وانظر «أحكام القرآن» لابن العربي
2266.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 571: سورة المطففين
مدنية.
(2) المطففين: 29.
(3) المطففين: 13.
(4) ذكره الواحدي في «أسباب النزول» 850 بدون إسناد عن السدي،
فهو لا شيء. وقال الحافظ في «تخريجه» 4/ 718: لم أجده.
(5) البقرة: 79.
(4/413)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ
الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ
(8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ
(10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا
يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا
تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ
(13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا
يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ
لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)
ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)
وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20)
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي
نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ
فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ
رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ
فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ
تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
لأنه لا يكاد يسرق في الميزان والمكيال إلا
الشيء الطفيف، وإنما أخذ من طَفَّ الشيء، وهو جانبه.
قوله عزّ وجلّ: الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ أي:
من الناس. ف «على» بمعنى «من» في قول المفسرين واللغويين. قال
الفراء: «على» ، و «من» يعتقبان في هذا الموضع، لأنك إذا قلت:
اكتلت عليك، فكأنك قلت: أخذت ما عليك كيلا، وإذا قلت: اكتلت
منك كيلا، فهو كقولك: استوفيت منك. قال الزجاج: المعنى: إذا
اكتالوا من الناس استوفوا عليهم الكيل، وكذلك إذا اتَّزنوا،
ولم يَذْكُرْ «إذا اتَّزنوا» ، لأن الكيل والوزن بهما الشراء
والبيع فيما يُكَال ويُوزَن، فأحدهما يدل على الآخر وَإِذا
كالُوهُمْ أي: كالوا لهم أَوْ وَزَنُوهُمْ أي: وزنوا لهم
يُخْسِرُونَ أي: ينقصون في الكيل، والوزن.
فعلى هذا لا يجوز أن يقف على «كالوا» ، ومِنَ الناس من يجعل
«هم» توكيداً لما كالوا، ويجوز أن يقف على «كالوا» والاختيار
الأول. قال الفراء: سمعت أعرابية تقول:
إذا صدر الناس أتينا التاجر، فيكيلنا المدّ والمدّين إلى
الموسم المقبل.
قوله عزّ وجلّ: أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ
مَبْعُوثُونَ؟! قال الزجاج: المعنى: لو ظنوا أنهم يُبْعَثُون
ما نقصوا في الكيل والوزن لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يعني به يوم
القيامة يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ اليوم منصوب بقوله عزّ وجلّ
«مبعوثون» . قال المفسرون: والظن هاهنا بمعنى العلم واليقين.
ومعنى يقوم الناس، أي: من قبورهم لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي:
لأمره، أو لجزائه وحسابه. وقيل يقومون بين يديه لفصل القضاء.
(1518) وفي «الصحيحين» من حديث ابن عمر عن رسول الله صلّى الله
عليه وسلم أنه قال: في هذه الآية: «يقوم أحدهم في رَشَحِهِ إلى
أنصاف أذنيه» . وقال كعب: يقفون ثلاثمائة عام. قال مقاتل: وذلك
إذا أخرجوا من قبورهم.
[سورة المطففين (83) : الآيات 7 الى 28]
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما
أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ
يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ
بِيَوْمِ الدِّينِ (11)
وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا
تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14)
كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ
(15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16)
ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما
أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20)
يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21)
إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ
يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ
النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)
خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ
(26)
وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا
الْمُقَرَّبُونَ (28)
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا ردع وزجر، أي: ليس الأمر على ما هم
عليه، فليرتدعوا. وهاهنا تم الكلام عند كثير من العلماء. وكان
أبو حاتم يقول: «كلا» ابتداء يتصل بما بعده على معنى «حقّا»
__________
صحيح. أخرجه البخاري 4938 والبغوي في «التفسير» من طريق
إبراهيم بن المنذر به. وأخرجه مسلم 2862 من طريق معن به.
وأخرجه الطبراني 30/ 94 من طريق مالك به. وأخرجه البخاري 6531
ومسلم 2862 والترمذي 2422 وابن ماجة 4278، وأحمد 2/ 105 و 125
وابن أبي شيبة 13/ 233 وابن حبان 7331 والطبري 36585 و 36589
والبغوي 4211 والواحدي في «الوسيط» 4/ 442 من طرق عن نافع به.
(4/414)
إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ قال مقاتل: إن
كتاب أعمالهم لَفِي سِجِّينٍ وفيها أربعة أقوال: أحدها: أنها
الأرض السابعة، وهذا قول مجاهد، وقتادة، والضحاك، وابن زيد،
ومقاتل. وروي عن مجاهد قال: «سجين» صخرة تحت الأرض السابعة،
جعل كتاب الفاجر تحتها، وهذه علامة لخسارتهم، ودلالة على خساسة
منزلتهم. والثاني: أن المعنى: إن كتابهم لفي سفال، قاله الحسن.
والثالث: لفي خسار، قاله عكرمة.
والرابع: لفي حبس، فعِّيل من السجن، قاله أبو عبيدة.
قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ هذا تعظيم لأمرها.
وقال الزجاج: أي: ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك.
قوله عزّ وجلّ: كِتابٌ مَرْقُومٌ أي: ذلك الكتاب الذي في سجين
كتاب مرقوم، أي: مكتوب.
قال ابن قتيبة: والرّقم: الكتاب. قال ابن ذؤيب «1» :
عرفت الدّيار كرقم الدّواة ... يَزْبُرُه الكَاتِبُ
الحِمْيَرِيُّ
وأنشده الزجاج: «يَذْبِرها» بالذال المعجمة، وكسر الباء. قال
الأصمعي: يقال: زبر: كتب، وذبر: قرأ. وروى أبو عمرو عن ثعلب،
عن ابن الأعرابي، قال: الصواب: زبرت- بالزاي- كتبت.
وذبرت- بالذال- أتقنت ما حفظت. قال: والبيت يزبرها، بالزاي
والضم. وقال ابن قتيبة: يروى «يزبرُها» و «يذبرُها» وهو مثله،
يقال: زبر الكتاب يزبره، ويذبره. وذَبره يذبرُه، ويذبِره. وقال
قتادة:
رقّم له بشرٍّ، كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه الكافر. وقيل:
المعنى: إنه مثبت لهم كالرقم في الثوب، لا ينسى ولا يمحى حتى
يجازوا به.
قوله عزّ وجلّ: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ هذا منتظم
بقوله عزّ وجلّ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ، وما بينهما كلام
معترض. وما بعده قد سبق بيانه إلى قوله عزّ وجلّ: كَلَّا بَلْ
رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر «بل
ران» بفتح الراء مدغمة، وقرأ أبو بكر عن عاصم «بل ران» مدغمة
بكسر الراء.
وقرأ حفص عن عاصم «بل» بإظهار اللام «ران» بفتح الراء وقرأ
حمزة والكسائيّ بإدغام اللام بكسر الراء، قال اللغويون: أي:
غلب على قلوبهم يقال: الخمر ترين على عقل السكران. قال الزجاج:
قرئت بإدغام اللام في الراء، لقرب ما بين الحرفين، وإظهار
اللام جائز، لأنه من كلمة، والرأس من كلمة أخرى. ويقال: ران
على قلبه الذَّنْب يرين ريناً: إذا غشي على قلبه، ويقال: غان
يغين غينا، والغين كالغيم الرقيق، والرين كالصدأ يغشى على
القلب. وسمعت شيخنا أبا منصور اللغوي يقول:
الغين يقال: بالراء، وبالغين، ففي القرآن كَلَّا بَلْ رانَ.
(1519) وفي الحديث: «إنه ليغان على قلبي» وكذلك الراية تقال
بالراء، وبالغين، والرميصاء تكتب «بالغين» ، وبالراء، لأن
الرمص يكتب بهما. قال المفسرون: لما كثرت معاصيهم وذنوبهم
أحاطت بقلوبهم. قال الحسن: هو الذَّنب على الذَّنب حتى يعمى
القلب.
__________
صحيح. أخرجه مسلم 2702 وأبو داود 1515 وأحمد 4/ 260 والنسائي
في «اليوم والليلة» 442 وابن حبان 931 من حديث الأغرّ المزني
بزيادة «وإني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة» . وانظر «تفسير
القرطبي» 512.
__________
(1) البيت لأبي ذؤيب خويلد بن خالد، جاهلي إسلامي، «ديوان
الهذليين» 1/ 64.
(4/415)
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا أي: لا يصدِّقون. ثم
استأنف إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ
قال ابن عباس: إنهم عن النظر إلى ربهم يومئذ لمحجوبون، والمؤمن
لا يحجب عن رؤيته. وقال مالك بن أنس: لما حجب أعداءه فلم
يَرَوْه تجلَّى لأوليائه حتى رأوه. وقال الشافعي: لما حجب قوما
بالسُّخْطِ دل على أن قوماً يرونه بالرّضى «1» . وقال
الزّجّاج: وهذه الآية دليل على أنّ الله عزّ وجلّ يُرى في
القيامة. ولولا ذلك ما كان في هذه الآية فائدة، ولا خسَّت
منزلة الكفّار بأنهم يحجبون عن ربّهم. ثم بعد حجبهم عن الله
يدخلون النار، فذلك قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا
الْجَحِيمِ.
قوله عزّ وجلّ: ثُمَّ يُقالُ أي: تقول خزنة النار: هذَا العذاب
الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا أي: لا يؤمن
بالعذاب الذي يصلاه. ثم أعلم أين محمل كِتابَ الْأَبْرارِ
لَفِي عِلِّيِّينَ فقال عزّ وجلّ:
لَفِي عِلِّيِّينَ وفيها سبعة أقوال «2» : أحدها: الجنة، رواه
عطاء عن ابن عباس. والثاني: أنه لوح من زبرجدة خضراء معلق تحت
العرش فيه أعمالهم مكتوبة، روي عن ابن عباس أيضاً. والثالث:
أنها السماء السابعة، وفيها أرواح المؤمنين، قاله كعب، وهو
مذهب مجاهد، وابن زيد. والرابع: أنها قائمة العرش اليمنى، وقال
مقاتل: ساق العرش. والخامس: أنه سدرة المنتهى، قاله الضحاك.
والسادس:
أنه في علو وصعود إلى الله عزّ وجلّ قاله الحسن. وقال الفراء:
في ارتفاع بعد ارتفاع. والسابع: أنه أعلى الأمكنة، قاله
الزجاج.
قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ هذا تعظيم
لشأنها.
قوله عزّ وجلّ: كِتابٌ مَرْقُومٌ الكلام فيه كالكلام في الآية
التي قبلها.
قوله عزّ وجلّ: يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ أي: يحضر
المقرَّبون من الملائكة ذلك المكتوب، أو ذلك الكتاب إذا صعد به
إلى عليين. وما بعد هذا قد سبق بيانه «3» إلى قوله عزّ وجلّ
يَنْظُرُونَ ففيه قولان:
أحدهما: إلى ما أعطاهم الله من الكرامة.
والثاني: إلى أعدائهم حين يعذَّبون.
قوله عزّ وجلّ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ
وقرأ أبو جعفر، ويعقوب «تُعرَف» بضم التاء، وفتح الراء «نضرةُ»
بالرفع. قال الفراء: بريق النعيم ونداه. قال المفسرون: إذا
رأيتهم عرفت أنهم من أهل النعيم، لما ترى من الحسن والنور. وفي
«الرحيق» ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الخمر، قاله الجمهور. ثم اختلفوا أي الخمر هي على
أربعة أقوال: أحدها: أجود
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 574: وهذا الذي
قاله الإمام الشافعي رحمه الله في غاية الحسن، وهو استدلال
بمفهوم الآية، كما دلّ عليه منطوق قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وكما دلت على ذلك الأحاديث
الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم عز وجل في الدار
الآخرة رؤية بالأبصار في عرصات القيامة، وفي روضات الجنان
الفاخرة. اه.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 574- 575: أي
مصيرهم إلى عليين، وهو بخلاف سجين، والظاهر أن عليين مأخوذ من
العلو، وكلما علا الشيء وارتفع عظم واتسع، ولهذا قال معظما
أمره ومفخما شأنه وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ ثم قال مؤكدا
لما كتب لهم كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ وهم
الملائكة.
(3) الانفطار: 13. [.....]
(4/416)
إِنَّ الَّذِينَ
أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)
وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا
انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)
وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32)
وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى
الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا
كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
الخمر، قاله الخليل بن أحمد. والثانية:
الخالصة من الغش، قاله الأخفش. والثالث: الخمر البيضاء، قاله
مقاتل. والرابع: الخمر العتيقة، حكاه ابن قتيبة.
والقول الثاني: أنه عين في الجنة مشوبة بالمسك، قاله الحسن.
والثالث: أنه الشراب الذي لا غش فيه، قاله ابن قتيبة،
والزّجّاج.
وفي قوله عزّ وجلّ: مَخْتُومٍ ثلاثة أقوال: أحدها: ممزوج، قاله
ابن مسعود. والثاني: مختوم على إنائه، وإلى نحو هذا ذهب مجاهد.
والثالث: أنه ختام، أي: عاقبة ريح، وتلك العاقبة هي قوله عزّ
وجلّ: خِتامُهُ مِسْكٌ، أي عاقبته. هذا قول أبي عبيدة.
قوله: خِتامُهُ مِسْكٌ قرأ ابن كثير، وعاصم، ونافع، وأبو عمرو،
وابن عامر، وحمزة «ختامه» بكسر الخاء، وبفتح التاء، وبألف
بعدهما، مرفوعه الميم. وقرأ الكسائي «خَاتَمه» بخاء مفتوحة،
بعدها ألف، وبعده تاء مفتوحة. وروى الشّيزري عنه «خَاتِمه» مثل
ذلك، إلا أنه يكسر التاء. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وعروة، وأبو
العالية: «ختمه مسك» بفتح الخاء والتاء وبضمّ الميم من غير
ألف. وللمفسرين في قوله تعالى: خِتامُهُ مِسْكٌ أربعة أقوال:
أحدها: خلطه مسك، قاله ابن مسعود، ومجاهد. والثاني: أن ختمه
الذي يختم به الإناء مسك، قاله ابن عباس. والثالث: أن طعمه
وريحه مسك، قاله علقمة. والرابع: أن آخر طعمه مسك، قاله سعيد
بن جبير، والفراء، وأبو عبيدة، وابن قتيبة، والزّجّاج في
آخرين.
قوله عزّ وجلّ: وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ
أي: فليجدُّوا في طلبه، وليحرصوا عليه بطاعة الله. والتنافس:
كالتشاحّ على الشيء، والتّنازع فيه.
قوله عزّ وجلّ: وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ فيه قولان: أحدهما:
أنه اسم عين في الجنة، قال ابن مسعود: وهي عين في الجنة يشربها
المقربون صرفاً، وتمزج لأصحاب اليمين. والثاني: أن التسنيم
الماء، قاله الضحاك. قال مقاتل: وإنما سمي تسنيماً، لأنه
يتسنّم عليه من جنة عدن، فينصبُّ عليهم انصباباً، فيشربون
الخمر من ذلك الماء. قال ابن قتيبة: يقال: إن التسنيم أرفع
شراب في الجنة.
ويقال: إنه يمتزج بماءٍ ينزل من تسنيم، أي: من علو. وأصل هذا
من سنام البعير، ومن تسنيم القبور.
وهذا أعجب إليَّ، لقول المسيَّب بن عَلَس في وصف امرأة:
كأنّ بريقتها للمزاج ... مِنْ ثَلْجِ تَسْنِيمَ شِيْبَتْ
عُقَاراً
أراد: كأن بريقتها عُقَاراً شِيْبَتْ للمزاج من ثلج تسنيم،
يريد: جبلاً. قال الزجاج: المعنى:
ومزاجه من تسنيم عيناً تأتيهم من تسنيم، أي: من علو يَتَسَنَّم
عليهم من الغرف. ف «عيناً» في هذا القول منصوبة، كما قال عزّ
وجلّ: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً
«1» . ويجوز أن تكون «عيناً» منصوبة بقوله: يُسْقَوْن عيناً،
أي: من عين. وقد بينا معنى «يشرب بها» في «هل أتى» «2» .
[سورة المطففين (83) : الآيات 29 الى 36]
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30)
وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ
(31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32)
وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33)
فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ
(34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ
الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)
__________
(1) البلد: 14- 15.
(2) الدهر: 6.
(4/417)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
أي: أشركوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يعني أصحاب رسول
الله صلّى الله عليه وسلم، مثل عمَّار، وبلال، وخبَّاب وغيرهم
يَضْحَكُونَ على وجه الإستهزاء بهم وَإِذا مَرُّوا
يعني: المؤمنين بِهِمْ
أي: بالكفار يَتَغامَزُونَ
أي: يشيرون بالجفن والحاجب استهزاءً بهم وَإِذَا انْقَلَبُوا
يعني: الكُفار إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ أي:
متعجِّبين بما هم فيه يتفكَّهون بذكرهم. وقرأ أبو جعفر، وحفص
عن عاصم، وعبد الرزاق عن ابن عامر «فكهين» بغير ألف. وقد شرحنا
معنى القراءتين في «يس» «1» قوله: وَإِذا رَأَوْهُمْ أي:
رأَوْا أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم قالُوا إِنَّ
هؤُلاءِ لَضالُّونَ يقول الله تعالى: وَما أُرْسِلُوا يعني
الكفار عَلَيْهِمْ أي: على المؤمنين حافِظِينَ يحفظون أعمالهم
عليهم، أي: لم يُوَكَّلوا بحفظ أعمالهم فَالْيَوْمَ يعني: في
الآخرة الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ إذا
رَأَوْهم يعذَّبون في النار. قال أبو صالح: يقال لأهل النار
وهم فيها: اخرجوا، وتفتح لهم أبوابها، فإذا أقبلوا يريدون
الخروج، غُلِّقت أبوابها دونهم. والمؤمنون عَلَى الْأَرائِكِ
يَنْظُرُونَ إليهم فذلك قوله: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ
إليهم عذاب عدوِّهم. قال مقاتل: لكل رجل من أهل الجنة ثلمة
ينظرون إلى أعداء الله كيف يعذَّبون، فيحمدون الله على ما
أكرمهم به، فهم يكلِّمون أهل النار ويكلمونهم إلى أن تطبق
النار على أهلها، فتسد حينئذ الكوى.
قوله تعالى: هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ وقرأ حمزة، والكسائي،
وهارون عن أبي عمرو «هل ثوب» بإدغام اللام. أي: هل جوزوا
وأُثيبوا على استهزائهم بالمؤمنين في الدنيا؟ وهذا الإستفهام
بمعنى التقرير.
__________
(1) يس: 55.
(4/418)
إِذَا السَّمَاءُ
انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا
الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا
الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا
فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ
(7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ
إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ
كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا
(11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ
مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)
سورة الانشقاق
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها
وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما
فِيها وَتَخَلَّتْ (4)
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ
إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا
مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ
حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً
(9)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ
يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ
فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ
(14)
قوله عزّ وجلّ: إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) قال المفسرون:
انشقاقها من علامات الساعة. وقد ذكر ذلك في مواضع من القرآن.
وَأَذِنَتْ لِرَبِّها أي: استمعت وأطاعت في الانشقاق، من
الأذن، وهو الاستماع للشيء والإصغاء إليه، وأنشدوا:
صُمٌّ إذا سَمِعُوا خيراً ذُكِرْتُ بِهِ ... وإن ذُكِرْتُ
بِسُوءٍ عِنْدَهُم أَذِنُوا «1»
وَحُقَّتْ أي: حقَّ لها أن تُطيع ربَّها الذي خلقها وَإِذَا
الْأَرْضُ مُدَّتْ قال ابن عباس: تُمَدُّ مَدَّ الأديم، ويزاد
في سَعَتها. وقال مقاتل: لا يبقى جبل ولا بناءٌ إلا دخل فيها.
قوله عزّ وجلّ: وَأَلْقَتْ ما فِيها من الموتى والكنوز
وَتَخَلَّتْ أي: خلت من ذلك، فلم يبق في باطنها شيء. واختلفوا
في جواب هذه الأشياء المذكورات على أربعة أقوال: أحدها: أنه
متروك، لأن المعنى معروف قد تردَّد في القرآن. والثاني: أنه يا
أَيُّهَا الْإِنْسانُ، كقول القائل: إذا كان كذا وكذا فيا أيها
الناس تَرَوْن ما عملتم، فيجعل: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ هو
الجواب، وتضمر فيه الفاء، فكأنّ المعنى: ترى الثواب والعقاب
إذا السماء انشقّت، ذكر القولين الفراء. والثالث: أن في الكلام
تقديماً وتأخيراً، تقديره: «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك
كدحاً فملاقيه إذا السماء انشقت» قاله المبرد. والرابع: أن
الجواب مدلول عليه بقوله عزّ وجلّ: «فملاقيه» . فالمعنى: إذا
كان يوم القيامة لقي الإنسان عمله، قاله الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فيه
قولان: أحدهما: إنك عامل لربك عملاً، قاله ابن
__________
(1) البيت لقعنب بن ضمرة بن أم صاحب، كما في «الاقتضاب» 292 و
«اللسان» - أذن-.
(4/419)
بَلَى إِنَّ رَبَّهُ
كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)
وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ
(18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا
يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا
يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22)
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ
بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
عباس. والثاني: ساعٍ إلى ربك سَعْياً، قاله
مقاتل. قال الزجاج: و «الكدح» في اللغة: السّعي، والدّأب في
العمل باب الدنيا والآخرة. قال تميم بن مقبل:
وَمَا الدَّهر إِلاَّ تَارَتانِ فمِنْهما ... أموتُ وأُخرى
أبتغي العيش أكدح
وفي قوله عزّ وجلّ: إِلى رَبِّكَ قولان: أحدهما: عامل لربك.
وقد ذكرناه عن ابن عباس.
والثاني: إلى لقاء ربّك، قاله ابن قتيبة.
وفي قوله عزّ وجلّ: فَمُلاقِيهِ قولان: أحدهما: فملاقٍ
عَمَلَكَ. والثاني: فملاقٍ ربّك، ذكرهما الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً وهو أن
تعرض عليه سيئاته، ثم يغفرها الله له.
(1520) وفي «الصّحيحين» من حديث عائشة رضي الله عنها، قالت:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: من نوقش الحساب هلك، فقلت:
يا رسول الله، فإن الله يقول: «فسوف يحاسب حساباً يسيرا» ؟!
قال:
ذلك العرض» .
قوله عزّ وجلّ: وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ يعني: في الجنة من
الحور العين والآدميات مَسْرُوراً بما أُوتي من الكرامة
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ قال المفسرون:
تُغَلُّ يده اليمنى إلى عنقه، وتجعل يده اليسرى وراء ظهره
فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً قال الزجاج: يقول: يا ويلاه، يا
ثبوراه، وهذا يقوله كلُّ من وقع في هلكة.
قوله عزّ وجلّ: وَيَصْلى سَعِيراً قرأ ابن كثير، ونافع، وابن
عامر، والكسائي «ويُصُلَّى» بضم الياء، وتشديد اللام. وقرأ
عاصم، وأبو عمرو، وحمزة «ويصلى» بفتح الياء خفيفة، إلا أن حمزة
والكسائي يميلانها. وقد شرحناه في سورة النّساء «1» . قوله عزّ
وجلّ: إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ يعني في الدنيا مَسْرُوراً
باتباع هواه، وركوب شهواته إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ
أي: لن يرجع إلى الآخرة، ولن يبعث وهذه صفة الكافر. قال
اللغويون: الحور في اللغة: الرجوع، وأنشدوا للبيد:
وما المرء إِلا كالشهاب وضوئه ... يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
[سورة الانشقاق (84) : الآيات 15 الى 25]
بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ
بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ
إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19)
فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ
الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا
يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23)
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24)
إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ
أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
__________
صحيح. أخرجه البخاري 103 والبغوي في «شرح السنة» 4214 عن سعيد
بن أبي مريم به. عن عائشة.
وأخرجه البخاري 4939 ومسلم 2876 ح 79 والترمذي 3337 وأحمد 6/
47 والطبري 36736 وابن حبان 7369 والقضاعي 338 من طرق عن أيوب
عن ابن أبي مليكة. وأخرجه البخاري 4939 و 6536 والترمذي 2426 و
3337 والطبري 36739 و 36740 من طرق عن ابن أبي مليكة به.
__________
(1) النساء: 11.
(4/420)
قوله عزّ وجلّ: بَلى قال الفراء: المعنى:
بلى ليحورون، ثم استأنف، فقال عزّ وجلّ: إِنَّ رَبَّهُ كانَ
بِهِ بَصِيراً قال المفسرون: بصيرا به على سائر أحواله.
قوله عزّ وجلّ: فَلا أُقْسِمُ قد سبق بيانه.
وأمّا «الشفق» فقال ابن قتيبة: هما شفقان: الأحمر، والأبيض،
فالأحمر: من لدن غروب الشمس إلى وقت صلاة العشاء ثم يغيب،
ويبقى الشفق الأبيض إلى نصف الليل. وللمفسرين في المراد
«بالشّفق» هاهنا ستة أقوال: أحدها: أنه الحمرة التي تبقى في
الأفق بعد غروب الشمس.
(1521) وقد روى ابن عمر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أنه
قال: «الشفق: الحمرة» ، وهذا قول عمر، وابنه، وابن مسعود،
وعبادة، وأبي قتادة، وجابر بن عبد الله، وابن عباس، وأبي
هريرة، وأنس، وابن المسيّب، وابن جبير، وطاوس، ومكحول، ومالك،
والأوزاعي، وأبي يوسف، والشافعي، وأبي عبيد، وأحمد، وإسحاق،
وابن قتيبة، والزجاج. قال الفراء: سمعت بعض العرب يقول وعليه
ثوب مصبوغ كأنه الشفق، وكان أحمر.
والثاني: أنه النهار. والثالث: الشمس، روي القولان عن مجاهد.
والرابع: أنه ما بقي من النهار، قاله عكرمة. والخامس: السواد
الذي يكون بعد ذهاب البياض، قاله أبو جعفر بن محمّد بن علي.
والسادس: أنه البياض، قاله عمر بن عبد العزيز.
قوله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ أي: وما جمع وضم.
وأنشدوا:
إنَّ لنا قَلائصَاً حَقَائِقا ... مُسْتَوْسِقَاتٍ لو يَجِدْنَ
سَائِقَا «1»
قال أبو عبيدة: وَما وَسَقَ ما علا فلم يمنع منه شيء، فإذا جلل
الليل الجبال، والأشجار، والبحار، والأرض، فاجتمعت له، فقد
وسقها. وقال بعضهم: معنى: «ما وسق» : ما جمع مما كان منتشراً
بالنهار في تصرّفه إلى مأواه.
قوله عزّ وجلّ: وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ قال الفرّاء:
اتّساقه: واجتماعه واستواؤه ليلة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، إلى
ستّ عشرة.
قوله عزّ وجلّ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ قرأ ابن
كثير، وحمزة والكسائيّ «لتركبن» بفتح التاء والباء جميعا، وفي
معناه قولان: أحدهما: أنه خطاب لرسول الله صلّى الله عليه
وسلم. ثم في معناه قولان: أحدهما: لتركبنَّ سماءً بعد سماءٍ،
قاله ابن مسعود، والشعبي، ومجاهد. والثاني: لتركبن حالاً بعد
حال، قاله ابن عباس، وقال: هو نبيُّكم.
والقول الثاني: أن الإشارة إلى السماء. والمعنى: أنها تتغير
ضروباً من التغيير، فتارة كالمُهْل، وتارةً كالدِّهان، روي عن
ابن مسعود أيضا.
__________
الصحيح موقوف. أخرجه الدارقطني 1/ 269 من حديث ابن عمر، وفي
إسناده عتيق بن يعقوب، وهو لم يسمع من مالك. وورد من وجه آخر
موقوفا، أخرجه الدارقطني 1/ 269، وهو الراجح، وكذا روي عن
جماعة من الصحابة موقوفا، وهو أصح، والله أعلم.
__________
(1) الرجز في «ملحق ديوان العجاج» 84، وهو في «مجاز القرآن» 2/
291 و «اللسان» وسق.
(4/421)
قرأ عاصم، ونافع، وأبو عمرو، وابن عامر
«لتركبنَّ» بفتح التاء وضم الباء، وهو خطاب لسائر الناس
ومعناه: لتركبنَّ حالاً بعد حال. وقرأ ابن مسعود، وأبو
الجوزاء، وأبو الأشهب «ليركبنّ» بالياء، ونصب اللام. وقرأ أبو
المتوكل، وأبو عمران، وابن يعمر «ليركبنّ» بالياء، ورفع الباء.
و «عن» بمعنى «بعد» . وهذا قول عامّة المفسّرين واللغويين،
وأنشدوا للأقرع بن حابس:
إنّي امْرُؤٌ قد حَلَبْتُ الدَّهْرَ أَشْطَرَهُ ... وَسَاقَنِي
طَبَقٌ منه إلى طَبَقِ
ثم في معنى الكلام خمسة أقوال «1» : أحدها: أنه الشدائد،
والأهوال، ثم الموت، ثم البعث، ثم العرض، قاله ابن عباس.
والثاني: أنه الرخاء بعد الشدة، والشدة بعد الرخاء، والغنى بعد
الفقر، والفقر بعد الغنى، والصحة بعد السقم، والسقم بعد الصحة،
قاله الحسن. والثالث: أنه كون الإنسان رضيعاً ثم فطيماً ثم
غلاما ثم شاباً ثم شيخاً، قاله عكرمة. والرابع: أنه تغير حال
الإنسان في الآخرة بعد الدنيا، فيرتفع من كان وضيعاً، ويتضع من
كان مرتفعاً، وهذا مذهب سعيد بن جبير. والخامس: أنه ركوب سنن
من كان قبلهم من الأولين، قاله أبو عبيدة. وكان بعض الحكماء
يقول: من كان اليوم على حالة، وغداً على حالة أخرى، فليعلم أن
تدبيره إلى سواه.
قوله عزّ وجلّ: فَما لَهُمْ يعني: كفار مكة لا يُؤْمِنُونَ
بمحمّد والقرآن، وهو استفهام إنكار وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ
الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ فيه قولان: أحدهما: لا يصلُّون،
قاله عطاء، وابن السائب.
والثاني: لا يخضعون له، ويستكينون، قاله ابن جرير، واختاره
القاضي أبو يعلى. قال: وقد احتج بها قوم على وجوب سجود
التلاوة، وليس فيها دلالة على ذلك، وإنما المعنى: لا يخشعون،
ألا ترى أنه أضاف السجود إلى جميع القرآن، والسجود يختص بمواضع
منه.
قوله عزّ وجلّ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ بالقرآن،
والبعث، والجزاء وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ في صدورهم
ويضمرون في قلوبهم من التكذيب. قال ابن قتيبة: «يوعون» :
يجمعون في قلوبهم. وقال الزجاج: يقال: أوعيت المتاع في الوعاء،
ووعيت العلم.
قوله عزّ وجلّ: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي: أخبرهم
بذلك. وقال الزجاج: اجعل للكفار بدل البشارة للمؤمنين بالجنة
والرحمة، العذابَ الأليم. و «الممنون» عند أهل اللغة: المقطوع.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 516: والصواب من
التأويل قول من قال: لتركبن أنت يا محمد حالا بعد حال، وأمرا
بعد أمر من الشدائد، والمراد بذلك- وإن كان الخطاب إلى رسول
الله صلّى الله عليه وسلم موجها- جميع الناس، أنهم يلقون من
شدائد يوم القيامة وأهواله أحوالا.
(4/422)
|