زاد المسير في علم التفسير

وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)

سورة البروج
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 22]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)
النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19)
وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
قوله تعالى: وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ قد ذكرنا البروج في الحجر «1» وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ هو يوم القيامة بإجماعهم وفي قوله: وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ فيه أربعة وعشرون قولاً «2» :
(1522) أحدها: أن الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة، رواه أبو هريرة عن
__________
ضعيف، والراجع وقفه، أخرجه الحاكم 2/ 519 والبيهقي 3/ 170 من حديث أبي هريرة، وإسناده ضعيف، لضعف علي بن زيد، وخالفه يونس فرواه موقوفا، وصحح الحاكم الموقوف، ووافقه الذهبي وهو كما قالا.
والموقوف أخرجه الطبري 36838، بإسناد على شرط مسلم من حديث أبي هريرة قال: وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ يوم القيامة. وورد عند الطبري 36850 من طريق ابن حرملة عن سعيد أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن سيد الأيام الجمعة، وهو الشاهد، والمشهود: يوم عرفة» وهذا مرسل، وهو معلول، فقد كرره الطبري 36853 عن سعيد قوله. وأخرجه الطبري 36852 من طريق شريح بن عبيد عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «إن الشاهد ... » فذكره. وفي إسناده محمد بن إسماعيل، وهو واه. وورد موقوفا منجما بألفاظ
__________
(1) الحجر: 16.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 582: قال البغوي: الأكثرون على أن الشاهد يوم الجمعة، والمشهود يوم عرفة اه. وتوقف ابن جرير ولم يرجّح.

(4/423)


رسول الله صلّى الله عليه وسلم وبه قال علي، وابن عباس في رواية، وابن زيد. فعلى هذا سمي يومُ الجمعة شاهداً، لأنه يشهد على كل عامل بما يعمل فيه، وسمي يومُ عرفة مشهوداً، لأن الناس يشهدون فيه موسم الحج، وتشهده الملائكة. والثاني: أن الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم النحر، قاله ابن عمر.
والثالث: أن الشاهد: الله عزّ وجلّ، والمشهود: يوم القيامة، رواه الوالبي عن ابن عباس. والرابع: أن الشاهد: يوم عرفة، والمشهود: يوم القيامة، رواه مجاهد عن ابن عباس. والخامس: أنّ الشّاهد:
محمّد صلّى الله عليه وسلم، والمشهود: يوم القيامة، رواه يوسف بن مهران عن ابن عباس، وبه قال الحسن بن علي.
والسادس: أن الشاهد: يوم القيامة، والمشهود: الناس، قاله جابر بن عبد الله. والسابع: أن الشاهد:
يوم الجمعة، والمشهود: يوم القيامة، قاله الحسن. والثامن: أن الشاهد: يوم التروية، والمشهود: يوم عرفة، قاله سعيد بن المسيب. والتاسع: أن الشاهد: هو الله، والمشهود: بنو آدم، قاله سعيد بن جبير. والعاشر: أن الشاهد: محمد، والمشهود: يوم عرفة، قاله الضحاك. والحادي عشر: أنّ الشاهد آدم، والمشهود: يوم القيامة، رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد. والثاني عشر: أن الشاهد: ابن آدم، والمشهود: يوم القيامة، رواه ليث عن مجاهد، وبه قال عكرمة. والثالث عشر: أنّ الشاهد: آدم، وذريته، والمشهود يوم القيامة، قاله عطاء بن يسار. والرابع عشر: أن الشاهد: الإنسان، والمشهود:
الله عزّ وجلّ، قاله محمد بن كعب. والخامس عشر: أن الشاهد: يوم النحر، والمشهود: يوم عرفة، قاله إبراهيم. والسادس عشر: أنّ الشاهد: عيسى ابن مريم عليه السلام، والمشهود: أمته، قاله أبو مالك. ودليله قوله عزّ وجلّ: وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً «1» . والسابع عشر: أنّ الشاهد: محمّد صلّى الله عليه وسلم، والمشهود: أمته، قاله عبد العزيز بن يحيى، وبيانه: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «2» . والثامن عشر:
أن الشاهد: هذه الأمة، والمشهود: سائر الناس، قاله الحسين بن الفضل، ودليله: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «3» . والتاسع عشر: أن الشاهد: الحفظة، والمشهود: بنو آدم، قاله محمد بن علي الترمذي، وحكي عن عكرمة نحوه. والعشرون: أن الشاهد: الحق، والمشهود: الكون، قاله الجنيد. والحادي والعشرون: أن الشاهد، الحجر الأسود، والمشهود: الحجّاج. والثاني والعشرون: أنّ الشاهد: الأنبياء والمشهود: محمّد صلّى الله عليه وسلم، وبيانه: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ الآية «4» . والثالث والعشرون: أنّ الشاهد:
__________
مختلفة عن جماعة من الصحابة والتابعين، وهذا الاختلاف يدل على الاضطراب الخلاصة: الحديث ضعيف بهذا اللفظ. وقد ورد من حديث أبي هريرة مرفوعا وعجزه وما طلعت الشمس ولا غربت في يوم أفضل منه، فيه ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجاب الله له، لا يستعيذ من شيء إلا أعاذه منه» ، وعجزه هذا محفوظ.
أخرجه الترمذي 3339 والبغوي في «شرح السنة» بإثر 1042 عن عبد بن حميد عن روح بن عبادة وعبيد الله بن موسى به. وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 458 من طريق يحيى بن نصر والطبري 36851 من طريق مهران كلاهما عن موسى بن عبيدة به. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة يضعف في الحديث، ضعفه يحيى بن سعيد وغيره. وانظر «تفسير الشوكاني» 2683.
__________
(1) المائدة: 117.
(2) النساء: 41.
(3) البقرة: 143.
(4) آل عمران: 81.

(4/424)


الله عزّ وجلّ، والملائكة، وأولو العلم، والمشهود: لا إله إلا الله، وبيانه: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ «1» ، حكى هذه الأقوال الثلاثة الثعلبي. والرابع والعشرون: أنّ الشاهد: الأنبياء والمشهود: الأمم، حكاه شيخنا علي بن عبيد الله.
وفي جواب القسم أقوال: أحدها: أنه قوله عزّ وجلّ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ قاله قتادة، والزجاج.
والثاني: أنه قوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ، كما أنّ القسم في قوله عزّ وجلّ: وَالشَّمْسِ وَضُحاها ... قَدْ أَفْلَحَ، حكاه الفراء. والثالث: أنه متروك، وهذا اختيار ابن جرير.
قوله عزّ وجلّ: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ أي: لُعِنُوا. والأخدود: شق يشق في الأرض، والجمع:
أخاديد. وهؤلاء قوم حفروا حفائر في الأرض وأوقدوا فيها النار، وألقَوا فيها من لم يكفر.
واختلف العلماء فيهم على ستة أقوال «2» :
(1523) أحدها: أنه مَلِكٌ كان له ساحر فبعث إليه غلاماً يعلِّمه السّحر، فكان الغلام يمرُّ على راهب، فأعجبه أمره، فتبعه، فعلم به المَلِك، فأمره أن يرجع عن دينه، فقال: لا أفعل، فاجتهد الملك في إهلاكه، فلم يقدر، فقال الغلام: لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به. اجمع الناس في صعيد واحد، واصلبني على جذع، وارمني بسهم من كنانتي، وقل: بسم الله ربِّ الغلام، ففعل، فمات الغلام، فقال الناس: آمنا برب الغلام، فخدَّ الأخاديد، وأضرم فيها النار، وقال: فمن لم يرجع عن دينه فاقحموه فيها، ففعلوا، وهذا مختصر الحديث، وفيه طول، وقد ذكرته في «المغني» و «الحدائق» بطوله من حديث صهيب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم.
(1524) والثاني: أن ملكاً من الملوك سكر، فوقع على أخته، فلما أفاق قال لها: ويحك: كيف المخرج؟ فقالت له: اجمع أهل مملكتك فأخبرهم أنّ الله عزّ وجلّ قد أَحَلَّ نكاح الأخوات، فإذا ذهب هذا في الناس وتناسَوه، خطبتَهم فحرَّمته. ففعل ذلك، فأبوا أن يقبلوا ذلك منه، فبسط فيهم السّوط، ثم
__________
صحيح. أخرجه مسلم 3005 وابن حبان 873 والواحدي في «الوسيط» 4/ 459- 460 من طريق هدبة بن خالد به. من حديث صهيب. وأخرجه الطبري 36874 من طريق حرمي بن عمارة ثنا حماد بن سلمة به.
وأخرجه الترمذي 3340 وعبد الرزاق 9751 والطبراني 7319 من طريق معمر عن ثابت به. وأخرجه النسائي في «الكبرى» 11661 وأحمد 6/ 17 و 18 والطبراني 7320 من طرق عن حماد بن سلمة به.
موقوف. أخرجه الطبري 36868 عن علي موقوفا، وإسناده ضعيف، فيه إرسال بين ابن أبزى وبين علي.
__________
(1) آل عمران: 18. [.....]
(2) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 19/ 256: قال علماؤنا: أعلم الله عز وجل المؤمنين من هذه الأمة في هذه الآية، ما كان يلقاه من وحّد قبلهم من الشدائد، يؤنّسهم بذلك. وذكر لهم النبي صلّى الله عليه وسلم قصة الغلام ليصبروا على ما يلاقون من الأذى والآلام، والمشقات التي كانوا عليها ليتأسوا بمثل هذا الغلام، في صبره وتصلبه في الحقّ وتمسكه به، وبذله نفسه في حقّ إظهار دعوته ودخول الناس في الدين مع صغر سنه وعظم صبره، قال ابن العربي: وهذا منسوخ عندنا. قلت: ليس بمنسوخ عندنا، وأن الصبر على ذلك لمن قويت نفسه وصلب دينه أولى، قال تعالى مخبرا عن لقمان: يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [لقمان: 17] اه.
قلت: ذكر المصنف أقوالا عن الصحابة والتابعين والمفسرين، والحجة في المرفوع الآتي.

(4/425)


جرَّد السيف، فأبَوْا، فخدَّ لهم أخدودا، وأوقد فيه النار، وقذف من أبى قبول ذلك، قاله عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه.
(1525) والثالث: أنهم أناس اقتتل مؤمنوهم وكافروهم، فظهر المؤمنون، ثم تعاهدوا أن لا يَغدِر بعضهم ببعض، فغدر الكفار، فأخذوهم، فقال لهم رجل من المؤمنين: أوقدوا ناراً، واعرضوا عليها، فمن تابعكم على دينكم، فذاك الذي تحبون، ومن لم يتابعكم أُقحم النار فاسترحتم منه. ففعلوا، فجعل المسلمون يقتحمونها، ذكره قتادة.
(1526) والرابع: أن قوماً من المؤمنين اعتزلوا الناس في الفترة، فأرسل إليهم جبَّار من عبدة الأوثان، فعرض عليهم الدخول في دينه فأبوا، فخدّ لهم أخدودا، وألقاهم فيه، قاله الربيع بن أنس.
(1527) والخامس: أن جماعة آمنوا من قوم يوسف بن ذي نواس بعد ما رفع عيسى، فخدّ لهم خدّا، وأوقد فيه النار، فأحرقهم كلهم، فأنزل الله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ وهم: يوسف بن ذي نواس وأصحابه، قاله مقاتل.
والسادس: أنهم قوم كانوا يعبدون صنماً، ومعهم قوم يكتمون إيمانهم، فعلموا بهم، فخدُّوا لهم أُخدوداً، وقذفوهم فيه، حكاه الزجاج.
واختلفوا في الذين أُحرقوا على خمسة أقوال: أحدها: أنهم كانوا من الحبشة، قاله عليّ عليه السلام. والثاني: من بني إسرائيل، قاله ابن عباس. والثالث: من أهل اليمن، قاله الحسن. قال الضحاك: كانوا من نصارى اليمن، وذلك قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلم بأربعين سنة. والرابع: من أهل نجران، قاله مجاهد. والخامس: من النبط، قاله عكرمة.
وفي عددهم ثلاثة أقوال: أحدها: اثنا عشر ألفاً، قاله وهب. والثاني: سبعون ألفاً، قاله ابن السّائب. والثالث: ثمانون رجلا، وتسع نسوة، قاله مقاتل.
قوله عزّ وجلّ: النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ هذا بدل من «الأخدود» كأنه قال: قتل أصحاب النار، و «الوقود» مفسر في البقرة «1» وقرأ أبو رزين العقيلي، وأبو عبد الرحمن السلمي، والحسن، ومجاهد، وأبو العالية، وابن يعمر وابن أبي عبلة «الوُقُود» بضم الواو إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ أي: عند النار. وكان الملك وأصحابه جلوساً على الكراسي عند الأخدود يعرضون المؤمنين على الكفر، فمن أبى ألْقَوْه وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ أي: حضور، فأخبر الله عزّ وجلّ في هذه الآيات بقصة قوم بلغ من إيمانهم ويقينهم أن صبروا على التحريق بالنار، ولم يرجعوا عن دينهم.
قوله عزّ وجلّ: وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ وقرأ ابن أبي عبلة «نقِموا» بكسر القاف. قال الزّجّاج: أي: ما
__________
أخرجه الطبري 36869 عن قتادة قال حدثنا أن عليا رضي الله عنه كان يقول: «هم أناس بمزارع اليمن، اقتتل مؤمنوها وكفارها ... » فذكره. وهذا ضعيف، قتادة عن علي منقطع.
مرسل. أخرجه الطبري 36875 عن الربيع بن أنس به.
عزاه المصنف لمقاتل، وهو متهم، والصحيح في ذلك حديث صهيب، وتقدم برقم 1523.
__________
(1) البقرة: 24.

(4/426)


أنكروا عليهم إيمانهم. وقد شرحنا معنى «نقموا» في المائدة «1» وبراءة «2» وشرحنا معنى الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ في البقرة «3» .
قوله عزّ وجلّ: وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أي: لم يَخْفَ عليه ما صنعوا، فهو شهيد عليهم بما فعلوا.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ أي: أحرقوهم، وعذّبوهم. كقوله عزّ وجلّ:
يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ «4» ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا من شركهم وفعلهم ذلك فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ بكفرهم وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ بما أحرقوا المؤمنين، وكلا العذابَيْن في جهنم عند الأكثرين وقد ذهب الربيع بن أنس في جماعة إلى أن النار ارتفعت إلى الملك وأصحابه فأحرقتهم، فذلك عذاب الحريق في الدنيا. قال الربيع: وقبض الله أرواح المؤمنين قبل أن تمسَّهم النار. وحكى الفراء أن المؤمنين نَجوْا من النار، وأنها ارتفعت فأحرقت الكفرة.
قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ لأنهم فازوا بالجنة. وقال بعض المفسرين: فازوا من عذاب الكفار، وعذاب الآخرة.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ قال ابن عباس: إن أخذه بالعذاب إذا أخذ الظّلمة والجبابرة لشديد.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ فيه قولان: أحدهما: يبدئ الخلق ويعيدهم، قاله الجمهور.
والثاني: يبدئ العذاب في الدنيا على الكفار ثم يعيده عليهم في الآخرة، رواه العوفي عن ابن عباس.
وقد شرحنا في هود «5» معنى «الودود» و «المجيد» .
قوله عزّ وجلّ: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ وقد قرأ حمزة، والكسائي، والمفضل عن عاصم «المجيدِ» بالخفض، وقرأ غيرهم بالرفع، فمن رفع «المجيدُ» جعله من صفات الله عزّ وجلّ، ومن كسر جعله من صفة العرش.
قوله عزّ وجلّ: هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ أي: قد أتاك حديث الْجُنُودِ وهم الذين تجنَّدوا على أولياء الله. ثم بيّن من هم، فقال عزّ وجلّ: فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني مشركي مكّة فِي تَكْذِيبٍ لك وللقرآن، أي: لم يعتبروا بمن كان قبلهم وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ أي لا يخفى عليه شيء من أعمالهم بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ أي: كريم، لأنه كلام الله، وليس كما يقولون: شعر، وكهانة، وسحر. وقرأ أبو العالية، وأبو الجوزاء، وأبو عمران، وابن السّميفع «بل قرآن مجيد» بغير تنوين وبخفض «مجيد» فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ وهو اللوح المحفوظ، منه نسخ القرآن وسائر الكتب، فهو محفوظ عند الله محروس به من الشياطين، ومن الزيادة فيه والنقصان منه. وقرأ نافع «محفوظ» رفعاً على نعت القرآن فالمعنى: إنه محفوظ من التحريف والتّبديل.
__________
(1) المائدة: 59.
(2) التوبة: 74.
(3) البقرة: 129 و 267.
(4) الذاريات: 13.
(5) هود: 90.

(4/427)


وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)

سورة الطّارق
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10)
قوله عزّ وجلّ: وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ قال ابن قتيبة: الطارق: النجم، سمي بذلك، لأنه يطرق، أي:
يطلع ليلاً، وكل من أتاك ليلاً، فقد طرقك، ومنه قول هند ابنة عتبة:
نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق
تريد: إن أبانا نجم في شرفه وعلوّه.
قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ قال المفسّرون: وذلك أن هذا الاسم يقع على كل ما طرق ليلا، فلم يكن النبيّ صلّى الله عليه وسلم يدري ما المراد به حتى تبينه بقوله عزّ من قائل: النَّجْمُ الثَّاقِبُ يعني:
المضيء، كما بيَّنا في الصافات»
وفي المراد بهذا النجم ثلاثة أقوال: أحدها: أنه زحل، قاله عليّ رضي الله عنه. وروى أبو الجوزاء عن ابن عباس قال: هو زحل، ومسكنه في السماء السابعة لا يسكنها غيره من النجوم، فإذا أخذت النجومُ أمكنتَها من السماء، هبط، فكان معها، ثم رجع إلى مكانه من السماء السابعة، فهو طارق حين ينزل، وطارق حين يصعد. والثاني: أنه الثريا، قاله ابن زيد. والثالث:
أنه اسم جنس، ذكره علي بن أحمد النّيسابوريّ.
قوله عزّ وجلّ: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وأبو المتوكل «إنَّ» بالتشديد «كلَّ» بالنصب لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ وقرأ أبو جعفر، وابن عامر، وعاصم وحمزة، وأبو حاتم عن يعقوب «لمَّا» بالتشديد وقرأ الباقون بالتخفيف. قال الزجاج: هذه الآية جواب القسم، ومن خفف فالمعنى: لَعَلَيْها حافظ و «ما» ومن شدد، فالمعنى: إلا، قال: فاستعملت «لما» في موضع «إلا» في موضعين: أحدهما: هذا.
والآخر: في باب القسم. تقول: سألتك لما فعلت، بمعنى: إلا فعلت. قال المفسرون: المعنى: ما
__________
(1) الصافات: 10.

(4/428)


وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)

من نفس إلا عليها حافظ. وفيه قولان: أحدهما: أنهم الحفظة من الملائكة، قاله ابن عباس. قال قتادة: يحفظون على الإنسان عمله من خير أو شر. والثاني: حافظ يحفظ الإنسان حتى حين يسلِّمه إلى المقادير، قاله الفرّاء. ثم نبّه على البعث ب قوله عزّ وجلّ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ أي: من أي شيء خلقه ربّه؟ والمعنى: فلينظر نظر التفكُّر والاستدلال ليعرف أن الذي ابتدأه من نطفة قادرٌ على إعادته.
قوله جلّ جلاله: مِنْ ماءٍ دافِقٍ قال الفراء: معناه: مدفوق، كقول العرب. سرٌّ كاتم، وهمٌ ناصب، وليلٌ نائم، وعيشة راضية. وأهل الحجاز يجعلون المفعول فاعلاً. قال الزجاج: ومذهب سيبويه وأصحابه أن معناه النسب إلى الاندفاق، والمعنى: من ماءٍ ذي اندفاق.
قوله عزّ وجلّ: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وقرأ ابن مسعود، وابن سيرين، وابن السميفع، وابن أبي عبلة «الصلب» بضم الصاد، واللام جميعاً. يعني: يخرج من صلب الرجل وترائب المرأة. قال الفراء:
يريد يخرج من الصلب والترائب. يقال: يخرج من بين هذين الشيئين خير كثير. بمعنى: يخرج منهما.
وفي «الترائب» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه موضع القلادة، قاله ابن عباس. قال الزجاج: قال أهل اللغة أجمعون: التّرائب: موضع القلادة من الصّدر، وأنشدوا لامرئ القيس:
مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ ... تَرائِبُها مَصْقُولَةٌ كالسَّجَنْجَلِ
قرأت على شيخنا أبي منصور اللغوي: السجنجل: المرآة بالرومية. وقيل: هي سبيكة الفضة، وقيل: السجنجل: الزعفران، وقيل: ماء الذهب. ويروى البيت: «بالسجنجل» . والثاني: أن الترائب:
اليدان والرجلان والعينان، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والثالث: أنها أربعة أضلاع من يمنة الصدر، وأربعة أضلاع من يسرة الصدر، حكاه الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُ الهاء كناية عن الله عزّ وجلّ عَلى رَجْعِهِ الرجع: رد الشيء إلى أول حاله.
وفي هذه الهاء قولان: أحدهما: أنها تعود على الإنسان. ثم في المعنى قولان: أحدهما: أنه على إعادة الإنسان حياً بعد موته قادر، قاله الحسن، وقتادة. قال الزّجّاج: ويدل على هذا القول قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ. والثاني: أنه على رجعه من حال الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الصبا، ومن الصبا إلى النطفة قادر، قاله الضّحّاك. والقول الثاني: أنها تعود على الماء. ثم في معنى الكلام ثلاثة أقوال: أحدها: رد الماء في الإحليل، قاله مجاهد. والثاني: على رده في الصلب، قاله عكرمة، والضحاك. والثالث: على حبس الماء فلا يخرج، قاله ابن زيد.
قوله عزّ وجلّ: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ تختبر السرائر التي بين العبد وبين ربه حتى يظهر خيرها من شرها، ومؤدِّيها من مضيِّعها، فإن الإنسان مستور في الدنيا، لا يُدري أصلى، أم لا؟ أتوضأ، أم لا؟ فإذا كان يوم القيامة أبدى الله كل سِرٍّ، فكان زَيْناً في الوجه، أو شَيْناً. وقال ابن قتيبة: تختبر سرائر القلوب.
قوله عزّ وجلّ: فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ أي: فما لهذا الإنسان المنكر للبعث من قوة يمتنع بها من عذاب الله وَلا ناصِرٍ ينصره.

[سورة الطارق (86) : الآيات 11 الى 17]
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15)
وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)

(4/429)


قوله عزّ وجلّ: وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ أي: ذات المطر، وسمي المطر رجعاً لأنه يجيء ويرجع ويتكرَّر وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ أي: ذات الشقّ. وقيل لها هذا، لأنها تتصدَّع وتتشقَّق بالنبات، هذا قول المفسّرين وأهل اللغة في الحرفين.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ يعني به القرآن، وهذا جواب القسم. والفصل: الذي يفصل بين الحق والباطل بالبيان عن كل واحد منهما وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أي: بالَّلعِب. والمعنى: إنه جِدٌّ، ولم ينزل بالَّلعِب. وبعضهم يقول: الهاء في «إنه» كناية عن الوعيد المتقدم ذكره.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُمْ يعني مشركي مكة يَكِيدُونَ كَيْداً أي: يحتالون وهذا الاحتيال في المكر برسول الله صلّى الله عليه وسلم حين اجتمعوا في دار الندوة. وَأَكِيدُ كَيْداً أي: أُجازيهم على كيدهم بأن أستدرجهم من حيث لا يعلمون، فأنتقم منهم في الدنيا بالسيف، وفي الآخرة بالنار. فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ هذا وعيد من الله عزّ وجلّ لهم. ومَهِّل وأَمْهِل لغتان جمعتا هاهنا. ومعنى الآية: مهِّلهم قليلاً حتى أهلكهم، ففعل الله ذلك بِبَدْر، ونسخ الإمهال بآية السيف. قال ابن قتيبة: ومعنى «رويداً» مهلاً، ورويدَك. بمعنى أمهل.
قال الله تعالى: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً أي: قليلاً، فإذا لم يتقدمها «أمهلهم» كانت بمعنى «مهلاً» .
ولا يتكلم بها إلا مصغرة ومأموراً بها، وجاءت في الشعر بغير تصغير في غير معنى الأمر.
قال الشاعر:
كأنها مِثْلُ مَنْ يمشي على رُودِ
أي: على مهل.

(4/430)


سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)

سورة الأعلى
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 13]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)
فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9)
سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13)
وفي معنى سَبِّحِ خمسة أقوال «1» : أحدها: قل: سبحان ربي الأعلى، قاله الجمهور. والثاني:
عَظِّم. والثالث: صَلِّ بأمر ربك، روي القولان عن ابن عباس. والرابع: نَزِّه ربك عن السوء، قاله الزجاج. والخامس: نَزِّه اسم ربك وذكرك إياه أن تذكره وأنت معظم له، خاشع له، ذكره الثّعلبي.
وفي قوله عزّ وجلّ: اسْمَ رَبِّكَ قولان: أحدهما: أن ذكر الاسم صلة، كقول لبَيد بن ربيعة:
إلى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلاَمِ عَليْكُما ... وَمَنْ يَبْكِ حَوْلاً كاملاً فَقَد اعْتَذَرْ
والثاني: أنه أصلي، وقال الفرّاء: قوله: سبّح اسم ربّك وسبّح باسم ربّك، سواء في كلام العرب.
قوله عزّ وجلّ: الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى أي: فعدَّل الخلق. وقد أشرنا إلى هذا المعنى في «الإنفطار» «2» : وَالَّذِي قَدَّرَ وقرأ الكسائي وحده «قَدَر» بالتخفيف فَهَدى فيه سبعة أقوال «3» : أحدها:
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 543: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال: معناه:
نزه اسم ربك أن تدعو به الآلهة والأوثان فكانوا إذا قرءوا ذلك قالوا: سبحان ربي الأعلى، فبين بذلك أن معناه عندهم كان معلوما: عظم اسم ربك، ونزهه.
(2) الانفطار: 7.
(3) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 592: وقوله: وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى قال مجاهد: هدى الإنسان للشقاوة والسعادة، وهدى الأنعام لمراتعها، وهذه الآية كقوله تعالى إخبارا عن موسى أنه قال لفرعون: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى أي: قدّر قدرا، وهدى الخلائق إليه. اه.
وتوقف الطبري فلم يرجح، وقال: الخبر على عمومه حتى يأتي خبر تقوم به حجة.

(4/431)


قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)

قدَّر الشقاوة والسعادة، وهدى للرشد والضلالة، قاله مجاهد. والثاني: جعل لكل دابة ما يصلحها وهداها إليه، قاله عطاء. والثالث: قَدَّر مدة الجنين في الرحم ثم هداه للخروج، قاله السدي. والرابع:
قَدَّرهم ذكوراً وإناثاً، وهدى الذكر لإتيان الأنثى، قاله مقاتل. والخامس: أن المعنى: قدَّر فهدى وأضل، فحذف «وأضل» ، لأن في الكلام دليلا عليه، حكاه الزجاج. والسادس: قَدَّر الأرزاق، وهدى إلى طلبها. والسابع: قَدَّر الذنوب، وهدى إلى التوبة، حكاهما الثّعلبيّ.
قوله عزّ وجلّ: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى أي: أنبت العشب، وما ترعاه البهائم فجعله: بعد الخضرة غُثاءً قال الزجاج، أي: جفَّفه حتى جعله هشيماً جافاً كالغثاء الذي تراه فوق ماء السيل. وقد بيّنّا هذا في سورة المؤمنون «1» . فأمّا قوله عزّ وجلّ: أَحْوى فقال الفراء: الأحوى: الذي قد اسود من القِدَم، والعتق، ويكون أيضاً: أخرج المرعى أحوى: أسود من الخضرة، فجعله غثاءً كما قال عزّ وجلّ: مُدْهامَّتانِ «2» .
قوله عزّ وجلّ: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى قال مقاتل: سنعلِّمك القرآن، ونجمعه في قلبك فلا تنساه أبداً.
قوله عزّ وجلّ: إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: إلا ما شاء الله أن ينسخه فتنساه، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: إلا ما شاء الله أن تنساه ثم تذكره بعد. حكاه الزّجّاج. والثالث: أنه استثناء ألّا يقع، قال الفرّاء: لم يشأ أن ينسى شيئاً، فإنما هو كقوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ «3» ، ولا يشاء.
قوله عزّ وجلّ: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ من القول والفعل وَما يَخْفى منهما وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى أي:
نُسهِّل عليك عمل الخير فَذَكِّرْ أي: عظ أهل مكة إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى وفي «إن» ثلاثة أقوال: أحدها:
أنها الشّرطية، ثم في معنى الكلام قولان: أحدهما: أن قبلت الذّكرى، قاله يحيى بن سلام. والثاني:
إن نفعت وإن لم تنفع، قاله علي بن أحمد النيسابوري. والثاني: أنها بمعنى «قد» ، فتقديره: قد نفعت الذكرى، قاله مقاتل. والثالث: أنها بمعنى «ما» فتقديره: فذكر ما نفعت الذّكرى، حكاه الماورديّ.
قوله عزّ وجلّ: سَيَذَّكَّرُ أي سيتّعظ بالقرآن مَنْ يَخْشى الله يَتَجَنَّبُهَا
ويتجنب الذكرى الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى أي: العظيمة الفظيعة لأنها أشد من نار الدنيا ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح وَلا يَحْيى حياة تنفعه. وقال ابن جرير: تصير نفس أحدهم في حلقه، فلا تخرج فتفارقه فيموت، ولا ترجع إلى موضعها من الجسم فيحيا.

[سورة الأعلى (87) : الآيات 14 الى 19]
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18)
صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19)
قوله عزّ وجلّ: قَدْ أَفْلَحَ قال الزجاج: أي: صادف البقاء الدائم، والفوز مَنْ تَزَكَّى فيه خمسة أقوال: أحدها: من تطهَّر من الشرك بالإيمان، قاله ابن عباس. والثاني: من أعطى صدقة الفطر، قاله أبو سعيد الخدري، وعطاء، وقتادة. والثالث: من كان عمله زاكياً، قاله الحسن، والربيع. والرابع: أنها
__________
(1) المؤمنون: 41.
(2) الرحمن: 64.
(3) هود: 107. [.....]

(4/432)


زكوات الأموال كلّها، قاله أبو الأحوص. والخامس: تكثَّر بتقوى الله. ومعنى الزاكي: النامي الكثير، قاله الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ قد سبق بيانه «1» . وفي قوله عزّ وجلّ: فَصَلَّى ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها الصلوات الخمس، قاله ابن عباس، ومقاتل. والثاني: صلاة العيدين، قاله أبو سعيد الخدري. والثالث: صلاة التطوع، قاله أبو الأحوص. والقول قول ابن عباس في الآيتين، فإن هذه السورة مكية بلا خلاف، ولم يكن بمكة زكاة، ولا عيد.
قوله عزّ وجلّ: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا قرأ أبو عمرو، وابن قتيبة، وزيد عن يعقوب «بل يؤثرون» بالياء، والباقون بالتاء، واختار الفراء والزجاج التاء، لأنها رويت عن أُبَيِّ بن كعب: «بل أنتم تؤثرون» . فإن أريد بذلك الكفار، فالمعنى: أنهم يؤثرون الدنيا على الآخرة، لأنهم لا يؤمنون بها. وإن أريد به المسلمون، فالمعنى: يريدون الاستكثار من الدنيا على الاستكثار من الثواب. قال ابن مسعود:
إن الدنيا عجِّلت لنا، وإن الآخرة نُعِتَتْ لنا، وزويت عنا، فأخذنا بالعاجل وتركنا الآجل.
قوله عزّ وجلّ: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ يعني الجنة أفضل وَأَبْقى أي: أدوم من الدنيا.
إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى في المشار إِليه أربعة أقوال: أحدها: أنه قوله عزّ وجلّ: وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى قاله قتادة. والثاني: هذه السورة، قاله عكرمة، والسدي. والثالث: أنه لم يرد السّورة، ولا ألفاظها بعينها، وإنما أراد أن الفلاح لمن تزكى وذكر اسم ربه فصلى، في الصحف الأولى، كما هو في القرآن، قاله ابن قتيبة. والرابع: أنه من قوله عزّ وجلّ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى إلى قوله: وَأَبْقى قاله ابن جرير.
ثم بين الصحف الأولى ما هي، فقال: صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وقد فسّرناها في النّجم «2» .
__________
(1) الأحزاب: 31.
فائدة: قال ابن العربي رحمه الله في «الأحكام» 4/ 380: الذكر حقيقته إنما هو في القلب، لأنه محمل النسيان الذي هو ضده، والضدان إنما يتضادان في المحل الواجب، فأوجب الله بهذه الآية النية في الصلاة خصوصا، وإن كان قد اقتضاها عموما قوله تعالى: وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 5] وقوله صلّى الله عليه وسلم:
«إنما الأعمال بالنيات» والصلاة أم الأعمال ورأس العبادات، ومحل النية في الصلاة مع تكبيرة الإحرام، فإن الأفضل في كل نية بفعل أن تكون مع الفعل لا قبله، وإنما رخّص في تقديم نية الصوم لأجل تعذر اقتران النية فيه بأول الفعل عند العجز، لوجوده والناس في غفلة، وبقيت سائر العبادات على الأصل.
وتوهم بعض القاصرين عن معرفة الحقّ أن تقديم النية على الصلاة جائز، بناء على ما قال علماؤنا من تجويز تقديم النية على الوضوء في الذي يمشي إلى النهر في الغسل، فإذا نسي واغتسل يجزئه- قال: فكذلك الصلاة. وهذا القائل ممن دخل في قوله تعالى: أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ [الملك: 22] وقد بيناه، وحققنا أن الصلاة أصل متفق عليه في وجوب النية، والوضوء فرع مختلف فيه، فكيف يقاس المتفق عليه على المختلف فيه، ويحمل الأصل على الفرع؟
وإذا قلنا: إنه الذكر باللسان المخبر عن ذكر القلب المعبر عنه بأنه مشروع في الصلاة مفتتح به في أولها باتفاق من الأئمة، لكنهم اختلفوا في تعينه، فمنهم من قال: إنه كل ذكر، منهم أبو حنيفة، وقال أبو يوسف: يجزئه «الله الكبير» والله أكبر، والله الأكبر. وقال الشافعي: يجزئه الله أكبر والله أكبر. وقال مالك: لا يجزئه إلا قوله:
الله أكبر. ونعوّل الآن هنا على أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «صلّوا كما رأيتموني أصلي» وهو إنما كان يكبر ولا يتعرض لكل ذكر، فتعين التكبير بأمره باتباعه في صلاته، فهو المبين لذلك كله.
(2) النجم: 36.

(4/433)


هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)

سورة الغاشية
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 7]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
قوله تعالى: هَلْ أَتاكَ أي: قد أتاك، قال قطرب. وقال الزّجّاج: المعنى: هذا لم يكن من علمك ولا من علم قومك.
وفي «الغاشية» قولان: أحدهما: أنها القيامة تغشى الناس بالأهوال، قاله ابن عباس، والضحاك، وابن قتيبة. والثاني: أنها النار تغشى وجوه الكفار، قاله سعيد بن جبير، والقرظي، ومقاتل.
قوله عزّ وجلّ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ أي: ذليلة وفيها قولان: أحدهما: أنها وجوه اليهود والنصارى، قاله ابن عباس. والثاني: أنه جميع الكفار، قاله يحيى بن سلام.
قوله عزّ وجلّ: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ فيه أربعة أقوال: أحدها: أنهم الذين عملوا ونصبوا في الدنيا على غير دين الإسلام، كعبدة الأوثان، وكفَّار أهل الكتاب، مثل الرهبان وغيرهم، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: أنهم الرهبان، وأصحاب الصوامع، رواه أبو الضحى عن ابن عباس، وبه قال سعيد بن جبير، وزيد بن أسلم. والثالث: عاملة ناصبة في النار بمعالجة السلاسل والأغلال، لأنها لم تعمل لله في الدنيا، فأعملها وأنصبها في النار، وروى هذا المعنى العوفي عن ابن عباس، وبه قال الحسن. وقال قتادة: تكبَّرت في الدنيا عن طاعة الله، فأعملها وأنصبها في النار بالانتقال من عذاب إلى عذاب. قال الضحاك: يُكلِّفون ارتقاء جبل من حديد في النار. وقال ابن السائب: يَخِرُّون على وجوههم. وقال مقاتل: عاملة في النار تأكل من النار، ناصبة للعذاب. والرابع: عاملة في الدنيا بالمعاصي ناصبة في النار يوم القيامة، قاله عكرمة والسدي. والكلام هاهنا على الوجوه، والمراد أصحابها. وقد بينا معنى «النصب» في قوله عزّ وجلّ: لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ «1» .
قوله عزّ وجلّ: تَصْلى ناراً حامِيَةً قرأ أهل البصرة وعاصم إلّا حفصا «تصلى» بضمّ التاء. والباقون
__________
(1) الحجر: 48.

(4/434)


وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)

بفتحها. قال ابن عباس: قد حميت فهي تتلظى على أعداء الله، تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ أي: متناهية في الحرارة. قال الحسن: قد أوقدت عليها جهنم منذ خلقت، فدفعوا إليها وردا عطاشا.
قوله عزّ وجلّ: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ فيه ستة أقوال: أحدها: أنه نبت ذو شوك لاطئ بالأرض، وتسميه قريش «الشِّبْرِق» فإذا هاج سموه: ضريعاً، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وعكرمة، وقتادة. والثاني: أنه شجر من نار، رواه الوالبي عن ابن عباس. والثالث: أنها الحجارة، قاله ابن جبير. والرابع: أنه السَّلَم، قاله أبو الجوزاء. والخامس: أنه في الدنيا: الشوك اليابس الذي ليس له ورق، وهو في الآخرة شوك من نار، قاله ابن زيد. والسادس: أنه طعام يضرعون إلى الله تعالى منه، قاله ابن كيسان.
قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية قال المشركون: إن إبلنا لتسمن على الضريع، فأنزل الله تعالى: لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ وكُذِّبوا، فإن الإبل إنما ترعاه ما دام رطباً، وحينئذ يسمَّى شِبْرِقاً، لا ضريعاً، فإذا يبس وسمّي ضريعاً لم يأكله شيء.
فإن قيل: إنه قد أخبر في هذه الآية: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ وفي مكان آخر وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ «1» فكيف الجمع بينهما؟
فالجواب: أن النار دركات، وعلى قدر الذنوب تقع العقوبات، فمنهم من طَعامُهُ الزَّقُّوم، ومنهم مَنْ طعامه غِسْلين، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم مَنْ شَرَابُهُ الصَّديد. قاله ابن قتيبة.

[سورة الغاشية (88) : الآيات 8 الى 26]
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12)
فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)
وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)
قوله عزّ وجلّ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ أي: في نعمة وكرامة لِسَعْيِها في الدنيا راضِيَةٌ والمعنى: رضيت بثواب عملها فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ قد فسرناه في «الحاقّة» «2» لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، ورويس «لا يُسمع» بياء مضمومة. «لاغيةُ» بالرفع. وقرأ نافع كذلك إلا أنه بتاءٍ مضمومة، والباقون بتاءٍ مفتوحة، ونصب «لاغيةً» لا تسمع فيها كلمة لغو فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ قال ابن عباس: ألواحها من ذهب مكلَّلة بالزبرجد، والدر، والياقوت، مرتفعة ما لم يجيء أهلها، فإذا أراد أن يجلس عليها صاحبها، تواضعت له حتى يجلس عليها، ثم ترتفع إلى موضعها وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ عندهم. وقد ذكرنا «الأكواب» في الزخرف «3» وَنَمارِقُ وهي الوسائد، واحدها: نمرقة بضم النون.
قال الفراء: وسمعت بعض كلب تقول: نِمرِقة، بكسر النون والراء مَصْفُوفَةٌ بعضها إلى جنب بعض، والزرابي: الطنافس التي لها خمل رقيق مَبْثُوثَةٌ كثيرة. وقال ابن قتيبة: مبثوثة كثيرة مفرّقة. قال
__________
(1) الحاقة: 36.
(2) الحاقة: 22.
(3) الزخرف: 71.

(4/435)


المفسّرون: لمّا نعت الله سبحانه وتعالى ما في الجنة، عجب من ذلك أهل الكفر، فذكّرهم صنعه، فقال عزّ وجلّ: أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ.
(1528) وقال قتادة: ذكر الله ارتفاع سُرُرِ الجنة، وفرشها، فقالوا: كيف نصعدها، فنزلت هذه الآية. قال العلماء: وإنما خص الإبل من غيرها لأن العرب لم يَرَوْا بهيمة قَطُّ أعظمَ منها، ولم يشاهدوا الفيل إلا الشاذ منهم، ولأنها كانت أَنْفَسَ أموالهم وأكثرها، لا تفارقهم ولا يفارقونها، فيلاحظون فيها العِبَر الدَّالةَ على قدرة الخالق، من إخراج لبنها من بين فرث ودم وعجيب خَلْقِها، وهي على عِظَمها مُذلَّلة للحمل الثقيل، وتنقاد للصبي الصغير، وليس في ذوات الأربع ما يحمل عليه وقره وهو بارك فيطيق النهوض به سواها. وقرأ ابن عباس، وأبو عمران الجوني، والأصمعي عن أبي عمرو «الإبْل» بإسكان الباء وتخفيف اللام. وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وعائشة، وأبو المتوكل، والجحدري، وابن السميفع، ويونس بن حبيب وهارون كلاهما عن أبي عمرو «الإبِلِّ» بكسر الباء، وتشديد اللام. قال هارون: قال أبو عمرو «الإبِلُّ» بتشديد اللام: السّحاب الذي يحمل الماء.
قوله عزّ وجلّ: كَيْفَ خُلِقَتْ وقرأ علي بن أبي طالب، وابن عباس، وأبو العالية، وأبو عمران، وابن أبي عبلة «خَلَقْتُ» بفتح الخاء، وضم التاء. وكذلك قرءوا: «رفعت» و «نصبت» و «سطحت» .
قوله عزّ وجلّ: وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ من الأرض حتى لا ينالها شيء بغير عَمَدٍ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ على الأرض لا تزول ولا تتغير وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ أي: بُسِطَتْ. والسطح: بسط الشيء، وكل ذلك يدل على خالقه فَذَكِّرْ أي: فعظ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ أي: واعظ، ولم يكن حينئذ أمر بغير التذكير، ويدل عليه قوله عزّ وجلّ: لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ أي: بمسلِّط، فتقتلهم وتكرههم على الإيمان. ثم نسختها آية السيف. وقرأ أبو رزين، وأبو عبد الرحمن، وعكرمة، ومجاهد، وقتادة والحلواني عن ابن عامر «بمسيطر» بالسين. وقد سبق بيان «المسيطر» في قوله عزّ وجلّ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ «1» .
قوله عزّ وجلّ: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى هذا استثناء منقطع معناه: لكن من تولى وَكَفَرَ بعد التذكير.
وقرأ ابن عباس، وعمرو بن العاص، وأنس بن مالك، وأبو مجلز، وقتادة، وسعيد بن جبير «ألا من تولّى» بفتح الهمزة وتخفيف اللام فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ وهو أن يدخله جهنم، وذلك أنهم قد عُذِّبوا في الدنيا بالجوع، والقتل، والأسر، فكان عذاب جهنم هو الأكبر إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ وقرأ أُبَيُّ بن كعب، وعائشة، وعبد الرحمن، وأبو جعفر «إيَّابهم» بتشديد الياء، أي: رجوعهم ومصيرهم بعد الموت ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ قال مقاتل: أي: جزاءهم.
__________
أخرجه الطبري 37043 عن قتادة قوله، فهو ضعيف.
__________
(1) الطور: 37.

(4/436)


وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)

سورة الفجر
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 14]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)
هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9)
وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)
قوله تعالى: وَالْفَجْرِ قال ابن عباس: الفجر: انفجار الظّلمة عن الصّبح، وانفجر الماء: انفتح.
قال شيخنا علي بن عبيد الله: الفجر: ضوء النهار إذا انشق عنه الليل، وهو مأخوذ من الانفجار، يقال:
انفجر النهر ينفجر انفجاراً: إذا انشق فيه موضع لخروج الماء: ومن هذا سمي الفاجر فاجراً، لأنه خرج عن طاعة الله.
وللمفسرين في المراد بهذا الفجر ستة أقوال: أحدها: أنه الفجر المعروف الذي هو بدء النهار، قاله عليّ رضي الله عنه. وروى أبو صالح عن ابن عباس قال: هو انفجار الصبح كل يوم، وبهذا قال عكرمة، وزيد بن أسلم، والقرظي. والثاني: صلاة الفجر، رواه عطية عن ابن عباس. والثالث: النهار كلُّه، فعبَّر عنه بالفجر، لأنه أوله، وروى هذا المعنى أبو نصر عن ابن عباس. والرابع: أنه فجر يوم النحر خاصة قاله مجاهد. والخامس: أنه فجر أول يوم من ذي الحجة، قاله الضحاك. والسادس: أنه أول يوم من المحرم تنفجر منه السنة قاله قتادة.
قوله عزّ وجلّ: وَلَيالٍ عَشْرٍ فيها أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه عشر ذي الحجة، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، والضحاك، والسدي ومقاتل. والثاني: أنها العشر الأواخر من رمضان، رواه أبو ظبيان عن ابن عباس. والثالث: العشر الأول من رمضان، قاله الضحاك. والرابع:
العشر الأول من المحرم، قاله يمان بن رئاب.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 561: والصواب من القول في ذلك عندنا: أنها عشر الأضحى، لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه. ووافقه ابن كثير رحمه الله.

(4/437)


قوله عزّ وجلّ: وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ قرأ حمزة، والكسائي، وخلف «والوِتْر» بكسر الواو، وفتحها الباقون، هما لغتان، قال الفراء الكسر لقريش وتميم وأسد، والفتح لأهل الحجاز. وللمفسرين في «الشفع والوتر» عشرون قولا:
(1529) أحدها: أن الشفع: يوم عرفة ويوم الأضحى، والوتر: ليلة النحر، رواه أبو أيوب الأنصاري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
(1530) والثاني: أنّ الشّفع يوم النحر، والوتر: يوم عرفة. رواه جابر بن عبد الله عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبه قال ابن عباس، عكرمة والضحاك.
(1531) والثالث: أن الشفع والوتر: الصلاة، منها الشفع، ومنها الوتر، رواه عمران بن حصين عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبه قال قتادة.
والرابع: أن الشفع: الخلق كله، والوتر: الله تعالى، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال مجاهد في رواية مسروق، وأبو صالح. والخامس: أن الوتر: آدم شفع بزوجته، رواه مجاهد عن ابن عباس.
والسادس: أن الشفع يومان بعد يوم النحر، وهو النفر الأول، والوتر: اليوم الثالث، وهو النّفر الأخير، قاله عبد الله بن الزّبير، واستدلّ بقوله عزّ وجلّ: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ «1» . والسابع: أن الشفع: صلاة الغداة، والوتر: صلاة المغرب، حكاه عطية. والثامن: أن الشفع: الركعتان من صلاة المغرب، والوتر: الركعة الثالثة، قاله أبو العالية، والربيع بن أنس. والتاسع: أن الشفع والوتر: الخلق كله، منه شفع، ومنه وتر، قاله ابن زيد ومجاهد في رواية. والعاشر: أنه العدد، منه شفع، ومنه وتر، وهذا والذي قبله مرويان عن الحسن. والحادي عشر: أن الشفع: عشر ذي الحجة، والوتر: أيام منى الثلاثة، قاله الضحاك. والثاني عشر: أنّ الشّفع: هو الله، لقوله عزّ وجلّ: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ «2» والوتر: هو الله، لقوله عزّ وجلّ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، قاله سفيان بن عيينة.
__________
ضعيف جدا. أخرجه الطبراني في «الكبير» 4073 من حديث أبي أيوب، وقال في «المجمع» 7/ 137 فيه واصل بن السائب وهو متروك. وانظر «تفسير القرطبي» 6322 بتخريجنا.
أخرجه النسائي في «التفسير» 691 و 692 وأحمد 3/ 327 والطبري 37073 والحاكم 4/ 220 والبزار 2286 «كشف» من حديث جابر، وصححه الحاكم على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وقال الهيثمي في «المجمع» 7/ 137: رجال أحمد والبزار رجال الصحيح غير عياش بن عقبة، وهو ثقة اهـ. قلت: ومداره على أبي الزبير، وهو مدلس، وقد عنعن، فالإسناد ضعيف. وقال الحافظ ابن كثير 4/ 600 رجاله لا بأس بهم، وعندي أن المتن في رفعه نكارة، والله أعلم اه. وهو كما قال: فإن هناك روايات أخرى مرفوعة وموقوفة على خلاف ذلك، فلو صح مرفوعا لما اختلف الصحابة والتابعون في تفسير هذه الآيات، والله أعلم.
ضعيف. أخرجه الترمذي 3342 وأحمد 4/ 437- 438 والطبري 37099 والحاكم 2/ 522 من حديث عمران بن حصين، وإسناده ضعيف فيه راو لم يسم، وضعفه الترمذي بقوله: غريب اه وقد سقط الراوي الذي لم يسم من إسناد الحاكم فجرى على ظاهره، وحكم بصحته! وسكت الذهبي! وهو من صنع أحد الرواة، ورجح ابن كثير رحمه الله 4/ 600 كونه مقوفا، وهو كما قال. والله أعلم.
__________
(1) البقرة: 203.
(2) المجادلة: 7.

(4/438)


والثالث عشر: أن الشفع: هو آدم وحواء. والوتر: الله تعالى، قاله مقاتل بن سليمان. والرابع عشر: أن الشفع: الأيام والليالي، والوتر: اليوم الذي لا ليلة بعده، وهو يوم القيامة، قاله مقاتل بن حيان.
والخامس عشر: الشفع: درجات الجنان، لأنها ثمان، والوتر: دَرَكات النار لأنها سبع، فكأنّ الله تعالى أقسم بالجنة والنار، قاله الحسين بن الفضل. والسادس عشر: الشفع: تضاد أوصاف المخلوقين بين عِزٍ وذُلٍّ، وقدرة وعجز، وقوة وضعف، وعلم وجهل، وموت وحياة. والوتر: انفراد صفات الله عزّ وجلّ، عِزٌّ بلا ذل، وقدرة بلا عجز، وقوة بلا ضعف، وعلم بل جهل، وحياة بلا موت، قاله أبو بكر الورَّاق. والسابع عشر: أن الشفع: الصفا والمروة، والوتر: البيت. والثامن عشر: أن الشفع: مسجد مكة والمدينة، والوتر: بيت المقدس. والتاسع عشر: أنّ الشّفع: القران في الحج والتمتع، والوتر:
الإفراد. والعشرون: الشفع: العبادات المتكررة كالصلاة، والصوم، والزكاة، والوتر: العبادة التي لا تتكرر، كالحجّ، حكى هذه الأقوال الأربعة الثّعلبيّ.
قوله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ قرأ ابن كثير، ويعقوب «يسري» بياءٍ في الوصل والوقف، وافقهما في الوصل نافع وأبو عمرو. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة والكسائي «يسر» بغير ياءٍ في الوصل والوقف. قال الفراء، والزجاج: الاختيار حذفها لمشاكلتها لرؤوس الآيات، ولاتِّباع المصحف. وفي قوله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ قولان: أحدهما: أن الفعل له، فيه قولان: أحدهما: إذا يسري ذاهباً، قاله الجمهور، وهو اختيار الزجاج. والثاني: إذا يسري مقبلا، قاله قتادة.
والقول الثاني: أن الفعل لغيره، والمعنى: إذا يسري فيه، كما يقال: ليل نائم، أي: ينام فيه، قاله الأخفش، وابن قتيبة. وفي المراد بهذا الليل ثلاثة أقوال: أحدها: أنه عام في كل ليلة، وهذا الظاهر.
والثاني: أنه ليلة المزدلفة، وهي ليلة جَمْعٍ: قاله مجاهد وعكرمة. والثالث: ليلة القدر، حكاه الماورديّ.
قوله عزّ وجلّ: هَلْ فِي ذلِكَ أي هل في ذلك المذكور من الأمور التي أقسمنا بها قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ أي: لذي عقل، وسمي العقل حجْراً، لأنه يحجر صاحبه عن القبيح، وسمي عقلا، لأنه يعقل عمّا لا يحسن، وسمي العقل النُّهى، لأنه ينهى عما لا يحل. ومعنى الكلام: أن من كان ذا لبٍّ عَلِم أن ما أقسم الله به من هذه الأشياء، فيه دلائل على توحيد الله وقدرته، فهو حقيق أن يقسم به لدلالته.
وجواب القسم قوله عزّ وجلّ: إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ فاعترض بين القسم، وجوابه قوله: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ فخوَّف أهل مكة بإهلاك من كان أشدَّ منهم. وقرأ ابن مسعود، وابن يعمر «بعادِ إِرمَ» بكسر الدال من غير تنوين على الإضافة. وفي إِرَمَ أربعة أقوال «1» : أحدها: أنه اسم بلدة، قال الفرّاء. ولم
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 567: وأشبه الأقوال فيه بالصواب عندي: أنها اسم قبيلة من عاد، ولذلك جاءت القراءة بترك إضافة عاد إليها، وترك إجرائها. ولو كانت إرم اسم بلدة أو اسم جد لعاد لجاءت القراءة بإضافة عاد إليها، كما يقال: هذا عمرو وزبيد وحاتم طيء، وأعشى همدان، ولكنها اسم قبيلة منها، فيما أرى.
وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 602: ومن زعم أن المراد بقوله إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ مدينة إما دمشق، أو الاسكندرية، أو غيرهما، ففيه نظر، فإنه كيف يلتئم الكلام على هذا أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ إن جعل ذلك بدلا أو عطف بيان، فإنه لا يتسق الكلام حينئذ. ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد، وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يرد، لا أن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم، قال:
وإنما نبهت على ذلك لئلا يغتر بكثير مما ذكره جماعة من المفسرين عن هذه الآية من ذكر مدينة يقال لها: إرم ذات العماد، مبنية بلبن الذهب والفضة وقصورها ودورها وبساتينها، وأن حصباءها لآلئ وجواهر، وترابها بنادق المسك، وأنهارها سارحة، وثمارها ساقطة، ودورها لا أنين بها، وأنها تنقل، فتارة تكون في أرض الشام، وتارة باليمن، وتارة بغير ذلك من البلاد، فإن هذا كله من خرافات الإسرائيليين من وضع بعض زنادقتهم، ليختبروا بذلك عقول الجهلة من الناس أن تصدقهم في جميع ذلك.

(4/439)


يُجْرَ «إرم» لأنها اسم بلدة ثم فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها دمشق، قاله سعيد بن المسيب، وعكرمة، وخالد الرَّبَعِي. والثاني: الإسكندرية، قاله محمد بن كعب. والثالث: أنها مدينة صنعها شداد بن عاد، وهذا قول كعب. وسيأتي ذكره إن شاء الله.
والقول الثاني: أنه اسم أمة من الأمم، ومعناه: القديمة، قاله مجاهد. والثالث: أنه قبيلة من قوم عاد، قاله قتادة ومقاتل. قال الزجاج: وإنما لم تنصرف «إرم» لأنها جعلت اسماً للقبيلة ففتحت، وهي في موضع خفض. والرابع: أنه اسم لجَدِّ عادٍ، لأنه عاد بن عَوْص بن إرم بن سام بن نوح، قاله ابن اسحاق. قال الفراء: فإن كان اسماً لرجل على هذا القول، فإنما ترك إجراؤه، لأنه كالعجميّ، وقال أبو عبيدة: هما عادان، فالأولى: وهي إرم، وهي التي قال الله تعالى: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى «1» وهل قوم هود عاد الأولى، أم لا؟ فيه قولان قد ذكرناهما في النجم «2» .
وفي قوله عزّ وجلّ: إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ أربعة أقوال «3» : أحدها: لأنهم كانوا أهل عمد وخيام يطلبون الكلأ حيث كان، ثم يرجعون إلى منازلهم، فلا يقيمون في موضع، روى هذا المعنى عطاء عن ابن عباس، وبه قال مجاهد، وقتادة، والفراء. والثاني: أن معنى ذات العماد: ذات الطول، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه قال مقاتل، وأبو عبيدة. قال الزجاج: يقال: رجل مُعْمَدٌ: إذا كان طويلاً.
والثالث: ذات القوة والشدة، مأخوذ من قوة الأعمدة، قاله الضحاك. والرابع: ذات البناء المحكم بالعماد، قاله ابن زيد. وقيل: إنما سميت ذات العماد لبناءٍ بناه بعضهم.
قوله عزّ وجلّ: الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ وقرأ أبو المتوكل، وأبو الجوزاء، وأبو عمران: «لم تَخْلُق» بتاءٍ مفتوحة ورفع اللام «مثلَها» بنصب اللام. وقرأ معاذ القارئ، وعمرو بن دينار: «لم نَخْلُق» بنون مفتوحة ورفع اللام «مثلَها» بنصب اللام. وفي المشار إليها قولان: أحدهما: لم يَخْلُق مثل تلك القبيلة في الطول والقوّة، وهذا معنى قول الحسن. والثاني: المدينة لم يخلق مثل مدينتهم ذات العماد، قاله عكرمة.
__________
(1) النجم: 50.
(2) النجم: 50.
(3) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 568: وأشبه الأقوال في ذلك بما دل عليه ظاهر التنزيل، قول من قال: عني بذلك أنهم كانوا أهل عمود سيارة، لأن المعروف من كلام العرب من العماد، ما عمد به الخيام من الخشب، والسواري التي يحمل عليها البناء ولا يعلم بناء كان لهم بالعماد بخبر صحيح. وتأويل القرآن إنما يوجه إلى الأغلب الأشهر من معانيه، وما وجد إلى ذلك سبيل، دون الأنكر، فقد وجه أهل التأويل قوله ذاتِ الْعِمادِ إلى أنه عني به طول أجسامهم. ولا يعلم كثير أحد من أهل التأويل وجهه إليه.
قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 601- 602: وقوله: ذاتِ الْعِمادِ لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد وقال مجاهد: كانوا أهل عمود لا يقيمون، وقال العوفي، عن ابن عباس: إنما قيل لهم ذاتِ الْعِمادِ لطولهم، واختار الأول ابن جرير رحمه الله، ورد الثاني فأصاب. [.....]

(4/440)


وقد جاء في التفسير صفات تلك المدينة. وهذه الإشارة إلى ذلك.
(1532) روى وهب بن منبه عن عبد الله بن قِلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت، فبينما هو في صحارى عدن وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن، وحول الحصن قصور كثيرة. فلما دنا منها ظن أن فيها أحداً يسأله عن إبله، فلم ير خارجاً ولا داخلاً، فنزل عن دابته، وعقلها، وسلَّ سيفه، ودخل من باب الحصن، فلما دخل الحصن إذا هو ببابين عظيمين لم ير أعظم منهما والبابان مُرصَّعان بالياقوت الأبيض والأحمر، فلما رأى ذلك دهش ففتح أحد البابين، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها، وإذا قصور، كلّ قصر منها فيه غرف وفوق الغرف غرف مبنيَّة بالذهب والفضة واللؤلؤ والياقوت.
ومصاريع تلك الغرف مثل مصاريع المدينة، يقابل بعضها بعضاً، مفروشة كلها باللؤلؤ، وبنادق من مسك وزعفران. فلما عاين ذلك، ولم ير أحداً، هَالَه ذلك، ثم نظر إلى الأزقة فإذا هو في كل زقاق منها شجر قد أثمر، وتحت الشجر أنهار مطردة يجري ماؤها من قنوات من فضة. فقال الرجل: إن هذه هي الجنة، فحمل معه من لؤلؤها، ومن بنادق المسك والزعفران ورجع إلى اليمن، فأظهر ما كان معه.
وبلغ الأمر إلى معاوية، فأرسل إليه. فقص عليه ما رأى، فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار، فلما أتاه قال له: يا أبا إسحاق: هل في الدنيا مدينة من ذهب وفضة؟ قال: نعم أخبرك بها وبمن بناها؟ إنما بناها شداد بن عاد، والمدينة: «إرم ذات العماد» ، قال: فحدثني حديثها، فقال: إن عادا المنسوب إليه عاد الأولى، كان له ولدان: شديد، وشداد. فلما مات ملكا بعده، ثم مات شديد وبقي شدّاد، فملك الأرض، ودانت له الملوك، وكان مولعاً بقراءة الكتب، فكان إذا مر بذكر الجنة دعته نفسه إلى بناء مثلها
__________
قال الحافظ في «تخريجه» 4/ 748: أخرجه الثعلبي من طريق عثمان الدارمي عن عبد الله بن أبي صالح عن ابن لهيعة عن خالد بن أبي عمران عن وهب بن منبه عن عبد الله بن قِلابة أنه خرج في طلب إبل له شردت فذكره مطوّلا. قال الحافظ: آثار الوضع لائحة عليه! وقال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 602: وقد ذكر ابن أبي حاتم قصة (إرم ذات العماد) هاهنا مطوّلة جدا، فهذه الحكاية ليس يصح إسنادها، ولو صح إلى ذلك الإعرابي فقد يكون قد اختلق ذلك، أو أنه أصابه نوع من الهوس والخبال، فاعتقد أن ذلك له حقيقة في الخارج، وليس كذلك، وهذا مما يقطع بعدم صحته، وهذا قريب مما يخبر به كثير من الجهلة والطامعين والمتحيلين من وجود مطالب تحت الأرض فيها قناطر الذهب والفضة، لكن عليها موانع تمنع من الوصول إليها والأخذ منها فيحتالون على أموال الأغنياء والضعفة والسفهاء، فيأكلونها بالباطل في صرفها في بخاخير وعقاقير ونحو ذلك من الهذيانات، ويطنزون بهم، والذي نجزم به أن في الأرض دفائن جاهلية وإسلامية، وكنوزا كثيرة، من ظفر بشيء منها أمكنه تحويله، فأما على الصفة التي زعموها، فكذب وافتراء وبهت، ولم يصح في ذلك شيء مما يقولون إلا عن نقلهم أو نقل من أخذ عنهم، والله سبحانه الهادي للصواب.
وقال الشوكاني رحمه الله في «فتح القدير» 4/ 530: وهذا كذب على كذب وافتراء، وقد أصيب الإسلام وأهله بداهية دهياء، وفاقرة عظمى، ورزية كبرى من أمثال هؤلاء الكذابين الدجالين الذين يجترءون على الكذب، تارة على بني إسرائيل، وتارة على الأنبياء وتارة على الصالحين، وتارة على رب العالمين، وتضاعف هذا الشر وزاد كثرة بتصدر جماعة من الذين لا علم لهم بصحيح الرواية من ضعيفها من موضوعها للتصنيف والتفسير للكتاب العزيز، فأدخلوا هذه الخرافات المختلفة والأقاصيص المخولة والأساطير المفتعلة في تفسير كتاب الله سبحانه، فحرفوا وبدلوا وغيروا، وقال: ومن أراد أن يقف على بعض ما ذكرنا فلينظر في كتاب الذي سميته «الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة» . اه. قلت: هو كتاب مطبوع متداول، وعمدة هذا الكتاب «موضوعات ابن الجوزي» و «اللآلئ المصنوعة» للسيوطي.

(4/441)


عُتُوَّاً على الله تعالى فأمر بصنع «إرم ذات العماد» فأمَّر على عملها مائة قهرمان مع كل قهرمان ألف من الأعوان، وكتب إلى ملوك الأرض أن يمدُّوه بما في بلادهم من الجواهر، فخرج القهارمة يسيرون في الأرض ليجدوا ما يوافقه حتى وقعوا على صحراء عظيمة نقية من التلال، وإذا هم بعيون مطّردة فقالوا:
هذه صفة الأرض التي أمر الملك أن يبنى بها، فوضعوا أساسها من الجزع اليماني، وأقاموا في بنائها ثلاثمائة سنة، وكان عمر شداد تسعمائة سنة، فلما أتوه وقد فرغوا منها قال: انطلقوا، واجعلوا عليها حصناً، واجعلوا حول الحصن ألف قصر، عند كل قصر ألف علم يكون في كل قصر من تلك القصور وزير من وزرائي، ففعلوا، فأمر الوزراء- وهم ألف وزير- أن يتهيؤوا للنقلة إلى «إرم ذات العماد» ، وكان الملك وأهله في جهازهم عشر سنين، ثم ساروا إليها، فلما كانوا منها على مسيرة يوم وليلة بعث الله عليه، وعلى من كان معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعاً، ولم يَبْقَ منهم أحد.
وروى الشعبي عن دَغْفَل الشيباني عن علماء حِمْيَر قالوا: لما هلك شدّاد بن عاد ومن معه من الصيحة، ملَكَ بعده ابنه مَرْثَد بن شَدَّاد، وقد كان أبوه خلَّفه بحضرموت على ملكه وسلطانه، فأمر بحمل أبيه من تلك المفازة إلى حضرموت، وأمر بدفنه فحفرت له حفيرة في مغارة، فاستودعه فيها على سرير من ذهب، وألقى عليه سبعين حُلَّةً منسوجة بقضبان الذهب، ووضع عند رأسه لوحاً عظيماً من ذهب وكتب عليه:
اعتبر يا أيّها المغرور ... بالعمرِ المديدِ
أنا شَدَّادُ بنُ عادٍ ... صاحبُ الحصن المشيد
وأخو القوّة والبأساء ... والملك الحشيد
دان أهل الأرض لي ... من خوف وعدي ووعيدي
وملكت الشرق والغرب ... بسلطان شديد
وبفضل الملك والعدّة ... فيه والعديدِ
فأتى هود وكنَّا ... في ضلال قبل هود
فدعانا لو قبلناه ... إلى الأمر الرشيدِ
فعصيناه ونادى ... ما لكم هل من محيد
فأتتنا صيحة تهوي ... من الأفق البعيدِ
فتوافينا كزرعٍ ... وسط بيداء حصيد
قوله عزّ وجلّ: وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ أي قطعوه ونقبوه. قال ابن إسحاق: والوادي: وادي القرى. وقرأ الحسن: «بالوادي» بإثبات الياء في الحالين وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ مفسر في سورة ص «1» الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ يعني: عاداً، وثمود، وفرعون، عملوا بالمعاصي، وتجبَّروا على أنبياء الله فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ القتل والمعاصي فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ قال ابن قتيبة: وإنما قال: سوط عذاب، لأن التعذيب قد يكون بالسوط، وقال الزجاج: أي جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب.
__________
(1) ص: 12.

(4/442)


فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)

إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ أي: يرصد مَنْ كفر به بالعذاب، والمرصد: الطريق، وقد شرحناه في قوله عزّ وجلّ:
كانَتْ مِرْصاداً «1» .

[سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 30]
فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19)
وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24)
فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29)
وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
قوله عزّ وجلّ: فَأَمَّا الْإِنْسانُ فيمن عنى به أربعة أقوال: أحدها: عتبة بن ربيعة، وأبو حذيفة بن المغيرة، رواه عطاء عن ابن عباس. والثاني: أُبَيّ بن خلف، قاله ابن السائب. والثالث: أُمية بن خلف، قاله مقاتل. والرابع: أنه الكافر الذي لا يؤمن بالبعث، قال الزجاج: وابتلاه بمعنى اختبره بالغنى واليسر فَأَكْرَمَهُ بالمال وَنَعَّمَهُ بما وسَّع عليه من الإفضال فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ فتح ياء «ربيَ» «أكرمنيَ» «ربيَ» أهاننيَ» أهل الحجاز، وأبو عمرو، أي: فضلني بما أعطاني، ويظنّ إنما، أعطاه من الدنيا لكرامته عليه وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ بالفقر فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ وقرأ أبو جعفر، وابن عامر «فقدَّر» بتشديد الدال، والمعنى: ضيَّق عليه بأن جعله على مقدار البلغة فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ أي هذا الهوان منه لي حين أذلَّني بالفقر.
واعلم أن من لا يؤمن بالبعث، فالكرامة عنده زيادة الدنيا، والهوان قِلَّتُها.
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا أي: ليس الأمر كما ظنّ. قال مقاتل: ما أعطيت من أغنيت هذا الغنى لكرامته عليَّ، ولا أفقرت مَنْ أفقرت لهوانه عليَّ. وقال الفراء: المعنى: لم يكن ينبغي له أن يكون هكذا، إنما ينبغي أن يحمد الله على الأمرين: الفقر، والغنى. ثم أخبر عن الكفّار فقال عزّ وجلّ: بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ قرأ أهل البصرة «يُكرِمون» و «يَحُضُّون» و «يَأْكُلون» و «يُحِبُّون» بالياء فيهن، والباقون بالتاء. ومعنى الآية: إني أهنت من أهنت من أجل أنه لا يكرم اليتيم. والآية تحتمل معنيين: أحدهما:
أنهم كانوا لا يَبَرُّونه. والثاني: لا يعطونه حَقَّه من الميراثِ، وكذلك كانت عادة الجاهلية لا يورِّثون النساء ولا الصبيان. ويدل على المعنى الأول قوله عزّ وجلّ: وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ وقرأ أبو جعفر، وأهل الكوفة «تحاضون» بألف مع فتح التاء. وروى الشّيزري عن الكسائي كذلك إلا أنه ضم التاء. والمعنى: لا يأمروه بإطعامه لأنهم لا يرجون ثواب الآخرة. ويدل على المعنى قوله عزّ وجلّ:
وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا قال ابن قتيبة: التراث: الميراث، والتاء فيه منقلبة عن واوٍ، كما قالوا:
تُجاه، والأصل: وُجاه، وقالوا: تُخمَة، والأصل: وخمة. ولَمًّا أي: شديداً، وهو من قولك:
لممْتُ بالشيء: إذا جمعتَه، وقال الزجاج: هو ميراث اليتامى.
__________
(1) النبأ: 21.

(4/443)


قوله عزّ وجلّ: وَتُحِبُّونَ الْمالَ أي: تحبون جمعه حُبًّا جَمًّا أي: كثيراً فلا تنفقونه في خير كَلَّا أي: ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر. ثم أخبر عن تلهفهم على ما سلف منهم حين لا ينفعهم، فقال عزّ من قائل: إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا أي: مرَّة بعد مرّة، فتكسّر كلّ شيء عليها. قوله: وَجاءَ رَبُّكَ قد ذكرنا هذا المعنى في قوله عزّ وجلّ: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ «1» .
قوله عزّ وجلّ: وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا أي: تأتي ملائكة كل سماء صفا على حدة، قال الضحاك:
يكونون سبعة صفوف، وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ.
(1533) روى مسلم في أفراده من حديث ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «يؤتى بجهنم يومئذٍ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرَّونها» . قال مقاتل: يجاء بها فتقام عن يسار العرش.
قوله عزّ وجلّ: يَوْمَئِذٍ أي: يوم يجاء بجهنم يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ أي: يتّعظ الكافر ويتوب. وقال مقاتل: هو أمية بن خلف وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى أي: كيف له بالتوبة وهي في القيامة لا تنفع يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ العمل الصالح في الدنيا لِحَياتِي في الآخرة التي لا موت فيها فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ قرأ الكسائي، ويعقوب، والمفضل «لا يعذّب» و «لا يوثق» بفتح الذال والثاء، والباقون بكسرها، فمن فتح، أراد: لا يعذب عذاب الكافر أحد، ومن كسر أراد: لا يعذَّب عذاب الله أحد، أي كعذابه، وهذه القراءة تختص بالدنيا، والأولى تختص بالآخرة.
قوله عزّ وجلّ: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ اختلفوا فيمن نزلت على خمسة أقوال «2» :
أحدها: في حمزة بن عبد المطلب لما استشهد يوم أُحد، قاله أبو هريرة، وبريدة الأسلمي.
والثاني: في عثمان بن عفان حين أوقف بئر رومة، قاله الضحاك. والثالث: في خبيب بن عدي لما صلبه أهل مكة، قاله مقاتل. والرابع: في أبي بكر الصّدّيق رضي الله عنه، حكاه الماوردي. والخامس:
في جميع المؤمنين، قاله عكرمة. وفي معنى الْمُطْمَئِنَّةُ ثلاثة أقوال: أحدها: المؤمنة، قاله ابن عباس. وقال الزجاج: المطمئنة بالإيمان. والثاني: الراضية بقضاء الله، قاله مجاهد. والثالث: الموقنة بما وعد الله، قاله قتادة.
واختلفوا في أي حين يقال لها ذلك على قولين: أحدهما: عند خروجها من الدنيا، قاله الأكثرون. والثاني: عند البعث يقال لها: ارجعي إلى صاحبك، وإلى جسدك، فيأمر الله الأرواح أن تعود إلى الأجساد، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال عطاء، وعكرمة والضّحّاك.
وفي قوله عزّ وجلّ: ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً أربعة أقوال: أحدها: ارجعي إلى صاحبك الذي كنتِ في جسده، وهذا المعنى في رواية العوفي عن ابن عباس، وبه قال عكرمة والضّحّاك. والثاني:
__________
صحيح. أخرجه مسلم 4/ 2184، والترمذي 2573 من حديث ابن مسعود. وانظر «فتح القدير» 2713.
__________
(1) البقرة: 210.
(2) قلت: الصواب أنها عامة كما قال القرطبي وحمزة رضي الله عنه منهم، ثم إن السورة مكية.

(4/444)


ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ بعد الموت في الدنيا، قاله أبو صالح عن ابن عباس. والثالث: ارجعي إلى ثواب ربك، قاله الحسن. والرابع: يا أيتها النفس المطمئنة إلى الدنيا ارجعي إلى الله تعالى بتركها، حكاه الماوردي.
قوله عزّ وجلّ: فَادْخُلِي فِي عِبادِي أي: في جملة عبادي المصطَفَيْن. قال أبو صالح: يقال لها عند الموت: ارجعي إلى ربك، فإذا كان يوم القيامة قيل لها: فَادْخُلِي فِي عِبادِي وقال الفراء: ادخلي مع عبادي. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأُبيّ بن كعب، وابن عباس، ومجاهد، والضحاك، وأبو العالية، وأبو عمران «في عبدي» على التوحيد. قال الزجاج: فعلى هذه القراءة- والله أعلم- يكون المعنى:
ارجعي إلي ربك، أي: إلى صاحبك الذي خرجتِ منه، فادخلي فيه.

(4/445)