زاد المسير في
علم التفسير لَا أُقْسِمُ بِهَذَا
الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ
وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ
(4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ
يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8)
وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
سورة البلد
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
[سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا
الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)
أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ
أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ
أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً
وَشَفَتَيْنِ (9)
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10)
قوله عزّ وجلّ: لا أُقْسِمُ قال الزجاج: المعنى: أقسم. و «لا»
دخلت توكيدا، كقوله عزّ وجلّ:
لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «1» وقرأ عكرمة، ومجاهد،
وأبو عمران، وأبو العالية: «لأُقْسِمُ» قال الزجاج:
وهذه القراءة بعيدة في العربية، وقد شرحنا هذا في أول القيامة
«2» .
قوله عزّ وجلّ: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ فيه ثلاثة
أقوال: و (البلد) هاهنا: مكة «3» .
أحدها: حل لك ما صنعته في هذا البلد من قتل وغيره، قاله ابن
عباس، ومجاهد. قال الزجاج:
يقال: رجل حِلٌّ، وحَلاَل، ومُحِلٌّ، قال المفسرون: والمعنى:
إن الله تعالى وعد نبيَّه أن يفتح مكة على يديه بأن يُحلَّها
له، فيكون فيها حلّا. والثاني: وأنت مُحِلٌّ بهذا البلد غير
مُحْرم في دخوله، يعني: عام الفتح، حلالا، قاله الحسن، وعطاء.
والثالث: وأنت حلّ عند المشركين بهذا البلد يستحلون إخراجك
وقتلك، ويحرِّمون قتل الصيد، حكاه الثّعلبي.
قوله عزّ وجلّ: وَوالِدٍ وَما وَلَدَ فيه ثلاثة أقوال: أحدها:
أنه آدم. وما ولد، قاله الحسن، ومجاهد، والضحاك، وقتادة
والثاني: إنّ الوالد إبراهيم، وما ولد: ذريته «4» ، قاله أبو
عمران الجونيّ.
__________
(1) الحديد: 29.
(2) القيامة: 1.
(3) قال القرطبي رحمه الله في «تفسيره» 20/ 54: والْبَلَدِ هي
مكة، أجمعوا عليه، أي أقسم بالبلد الحرام الذي أنت فيه لكرامتك
عليّ وحبي لك.
(4) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 587: والصواب من
القول في ذلك، ما قاله الذين قالوا: إن الله أقسم بكل والد
وولده. لأنّ الله عمّ كل والد وما ولد. وغير جائز أن يخصّ ذلك
إلا بحجة يجب التسليم لها من خبر، أو عقل. وقال ابن كثير رحمه
الله في «تفسيره» 4/ 607: وقال مجاهد، وأبو صالح، وقتادة
والضحاك وسفيان الثوري، وسعيد بن جبير، والسدي، والحسن البصري،
وخصيف، وشرحبيل بن سعيد وغيرهم:
يعني بالوالد: آدم، وما ولد: ولده، قال: وهذا الذي ذهب إليه
مجاهد حسن قوي، لأنه تعالى لما أقسم بأم القرى وهي المساكن،
أقسم بعده بالساكن وهو آدم أبو البشر وولده.
(4/446)
والثالث: أنه عامٌّ في كل والدٍ وما ولد،
حكاه الزّجّاج.
قوله عزّ وجلّ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ هذا جواب القسم.
وفيمن عنى بالإنسان خمسة أقوال:
أحدها: أنه اسم جنس، وهو معنى قول ابن عباس. والثاني: أنه أبو
الأشد الجمحي، وقد سبق ذكره، قاله الحسن.
(1534) والثالث: أنه الحارث بن عامر بن نوفل، وذلك أنه أذنب
ذنباً، فأمره النبيّ صلّى الله عليه وسلم بالكفارة، فقال: لقد
ذهب مالي في الكفارات، والنفقات منذ دخلت في دين محمد، قاله
مقاتل.
والرابع: آدم عليه السلام، قاله ابن زيد. والخامس: الوليد بن
المغيرة، حكاه الثعلبي.
قوله عزّ وجلّ: فِي كَبَدٍ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: في نَصَبٍ،
رواه الوالبي عن ابن عباس، وبه قال الحسن، ومجاهد، وسعيد بن
جبير، وأبو عبيدة، وأنهم قالوا: في شدة. قال الحسن: يكابد
الشكر على السّرّاء والصبر على الضّرّاء، ولا يخلو من أحدهما،
ويكابد مصائب الدنيا، وشدائد الآخرة. وقال ابن قتيبة: في شدة
غلبةٍ ومكابدةٍ لأمور الدنيا والآخرة، فعلى هذا يكون من مكابدة
الأمر، وهي معاناته. والثاني: أن المعنى: خلق منتصباً يمشي على
رجلين، وسائر الحيوان غير منتصب، رواه مقسم عن ابن عباس، وبه
قال عكرمة، والضحاك، وعطية، والفراء، فعلى هذا يكون معنى
الكبد: الاستواء والاستقامة. والثالث: في وسط السماء، قال ابن
زيد «1» : (لقد خلقنا الإنسان) يعني: آدم (في كبد) أي: في وسط
السماء.
قوله عزّ وجلّ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ
يعني الله عزّ وجلّ أي: أيحسب أن لن نقدر على بعثه، ومعاقبته؟!
يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالا لُبَداً أي: كثيراً، قال أبو عبيدة:
هو فعل من التلبُّد، وهو المال الكثير بعضه على بعض، قال ابن
قتيبة: وهو المال كأنَّ بعضَه على بعض. قال الزجاج: وهو فعل
للكثرة، كما يقال: رجل حُطَم: إذا كان كثير الحطم. وقرأ أبو
بكر الصديق، وعائشة، وأبو عبد الرحمن، وقتادة، وأبو العالية،
وأبو جعفر «لُبَّدا» بضم اللام، وتشديد الباء مفتوحة. وقرأ عمر
بن الخطّاب، وأبو المتوكّل، وأبو عمران «لبدا» برفع اللام
وتسكين الباء خفيفة. وقرأ عثمان بن عفان، والحسن، ومجاهد
«لُبُداً» برفع اللام والباء وتخفيفهما. وقرأ عليّ بن أبي طالب
وأبو الجوزاء «لِبَدَاً» بكسر اللام، وفتح الباء مخففة. وفيما
قال لأجل ذلك قولان: أحدهما: أنه أراد: أهلكت مالاً كثيرا في
عداوة محمّد صلّى الله عليه وسلم قاله ابن السائب، فكأنه
استطال بما أنفق. والثاني: أنفقت في سبيل الله وفي الكفارات
مالاً كثيراً، قاله مقاتل. فكأنه ندم على ما أنفق.
قوله عزّ وجلّ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ يعني اللهَ
عزّ وجلّ. والمعنى: أيظن أن الله لم ير نفقته، ولم يحصها؟!
وكان قد ادّعى إنفاق ما لم ينفق.
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ساقط، كذبه غير واحد، فهذا خبر لا
شيء.
__________
(1) اسمه عبد الرحمن.
(4/447)
فَلَا اقْتَحَمَ
الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ
رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ
(16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ
أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا
بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ
نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ
عَيْنَيْنِ المعنى: ألم نجعل به ما يدل على أن الله قادر على
بعثه؟! قوله عزّ وجلّ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ فيه ثلاثة
أقوال: أحدها: سبيل الخير والشر، قاله علي، والحسن، والفراء.
وقال ابن قتيبة: يريد طريق الخير والشر. وقال الزّجّاج:
النّجدين: الطريقين الواضحين والنجد: المرتفع من الأرض،
فالمعنى: ألم نُعرِّفه طريق الخير والشر كَتَبَيُّن الطريقين
العاليين. والثاني: سبيل الهدى والضلال، قاله ابن عباس. وقال
مجاهد: هو سبيل الشّقاوة والسّعادة.
والثالث: الثّديين ليتغذى بلبنهما، روي عن ابن عباس أيضاً، وبه
قال ابن المسيّب، والضّحّاك، وقتادة.
[سورة البلد (90) : الآيات 11 الى 20]
فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا
الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي
يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15)
أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ
(17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ
كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19)
عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
قوله عزّ وجلّ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ قال أبو عبيدة:
فلم يقتحم العقبة في الدنيا. وقال ابن قتيبة:
فلا هو اقتحم العقبة. قال الفراء: لم يضم إلى قوله عزّ وجلّ:
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ كلاماً آخر فيه «لا» ، والعرب لا
تكاد تفرد «لا» في كلام حتى يعيدوها عليه في كلام آخر، كقوله
تعالى: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى، وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا
هُمْ يَحْزَنُونَ. ومعنى: «لا» موجود في آخر هذا الكلام،
فاكتفى بواحدة من الأخرى، ألا ترى أنه فسر اقتحام العقبة،
فقال: فَكُّ رَقَبَةٍ. أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي
مَسْغَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا فسّرها بثلاثة
أشياء. فكأنّه قال في أول الكلام: فلا فعل ذا، ولا ذا ولا ذا.
وذهب ابن زيد في آخرين إلى أن المعنى: أفلا اقتحم العقبة؟ على
وجه الاستفهام، والمعنى: فهلاَّ أنفق ماله في فَكِّ الرِّقاب
والإطعام ليجاوز بذلك العقبة؟! فأما: الاقتحام فقد بَيَّناه في
(ص) «1» . وفي العقبة سبعة أقوال: أحدها: أنه جبل في جهنم،
قاله ابن عمر. والثاني: عقبة دون الجسر، قاله الحسن. والثالث:
سبعون دركة في جهنم، قاله كعب.
والرابع: الصراط، قاله مجاهد، والضّحّاك والكلبي. والخامس: نار
دون الجسر، قاله قتادة.
والسادس: طريق النجاة، قاله ابن زيد. والسابع: أن ذكر العقبة
هاهنا مَثَلٌ ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى والشيطان
في أعمال البِرِّ، فجعله كالذي يتكلَّف صعود العقبة. يقول: لم
يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة، والإطعام، ذكره علي بن أحمد
النيسابوري في آخرين.
قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ قال سفيان بن
عيينة: كلُّ ما فيه «وما أدراك» ، فقد أخبره به، وكلُّ ما فيه
«وما يدريك» فإنه لم يخبره به. قال المفسرون: المعنى: وما
أدراك ما اقتحام العقبة؟.
ثم بيَّنه فقال عزّ وجلّ: فَكُّ رَقَبَةٍ قرأ ابن كثير، وأبو
عمرو، إلا عبد الوارث، والكسائي، والداجوني عن ابن ذكوان
«فَكَّ» بفتح الكاف «رَقَبَةَ» بالنصب «أو أطعم» بفتح الهمزة
والميم وسكون الطاء من غير ألف، فعل ماض. وقرأ عاصم، وابن
عامر، وحمزة «فكّ» برفع الكاف «رقبة» بالخفض «أو إطعام» بألف،
ومعنى فك الرقبة: تخليصها من أسر الرق، وكل شيء أطلقته فقد
فكَكْتَه ومن قرأ «فكّ رقبة»
__________
(1) ص: 59.
(4/448)
على الفعل، فهو تفسير اقتحام العقبة
بالفعل، واختاره الفرّاء، لقوله عزّ وجلّ: ثُمَّ كانَ مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا قال ابن قتيبة: والمسغبة: المجاعة. يقال:
سَغِبَ يَسْغَبُ سُغُوباً: إذا جاع يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أي
ذا قرابة «1» أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ أي: ذا فقر كأنه
لَصِق بالتراب. وقال ابن عباس: هو المطروح في التراب لا يقيه
شيء. ثم بين أن هذه القُرَبَ إنما تنفع مع الإيمان بقوله عزّ
وجلّ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا و «ثم» هاهنا بمعنى
الواو، كقوله عزّ وجلّ: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ «2» .
قوله عزّ وجلّ: وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ على فرائض الله وأمره
وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ أي بالتّراحم بينهما.
وقد ذكرنا أصحاب الميمنة والمشأمة في الواقعة «3» قال الفراء:
و «المؤصدة» : المطبقة. قال مقاتل:
يعني أبوابها عليهم مطبقة فلا يفتح لها باب، ولا يخرج منها غم،
ولا يدخل فيها روح آخر الأبد. وقال ابن قتيبة: يقال:
أَوْصَدْتُ الباب وآصدته: إذا أطبقته. وقال الزّجّاج: المعنى:
أنّ العذاب مطبق عليهم.
قرأ ابن كثير، ونافع، وابن عامر، والكسائي وأبو بكر عن عاصم
«موصدة» بغير همزة هاهنا وفي «الهمزة» «4» . وقرأ أبو عمرو،
وحمزة، وحفص عن عاصم بالهمز في الموضعين.
__________
(1) قال ابن العربي في «الأحكام» 4/ 402: قوله تعالى: ذا
مَقْرَبَةٍ يفيد أن الصدقة على القريب أفضل منها على البعيد،
ولذلك بدأ به قبل المسكين، وذلك عند مالك بالنفل. والمتربة:
الفقر البالغ الذي لا يجد صاحبه طعاما إلا التراب، ولا فراشا
سواه. والله أعلم.
(2) يونس: 46.
(3) الواقعة: 7، 8.
(4) الهمزة: 8. [.....]
(4/449)
وَالشَّمْسِ
وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ
إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4)
وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا
(6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا
وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ
خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
سورة الشمس
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
[سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 10]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2)
وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)
وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6)
وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها
(8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9)
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10)
قوله عزّ وجلّ: وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) في المراد «بضحاها»
ثلاثة أقوال:
أحدها: ضوؤها، قاله مجاهد، والزجاج. والضحى: حين يصفو ضَوْءُ
الشمس بعد طلوعها.
والثاني: النهار كلُّه، قاله قتادة، وابن قتيبة. والثالث:
حَرُّها، قاله السّدّيّ، ومقاتل قوله: وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها
فيه قولان:
أحدهما: إذا تَبِعهَا، قاله ابن عباس في آخرين. ثم في وقت
اتّباعه لها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه في أول ليلة من الشهر يرى
القمر إذا سقطت الشمس، قاله قتادة. والثاني: أنه في الخامس عشر
يطلع القمر مع غروب الشمس، حكاه الماوردي. والثالث: أنه في
النّصف الأول من الشهر إذا غربت الشمس تلاها القمر في الإضاءة
وخَلَفها في النور، حكاه علي بن أحمد النيسابوري.
والقول الثاني: إذا ساواها، قاله مجاهد. وقال غيره: إذا
استدار، فتلا الشمس في الضياء والنور، وذلك في الليالي البيض.
قوله عزّ وجلّ: وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها في المكنى عنها
قولان: أحدهما: أنها الشمس، قاله مجاهد، فيكون المعنى:
والنهار، إذا بَيَّن الشمس، لأنها تتبيَّن إذا انبسط النهار.
والثاني: أنها الظّلمة فتكون كناية عن غير مذكور، لأن المعنى
معروف، كما تقول: أصبحت باردة، وهبت شمالاً، وهذا قول الفرّاء،
واللغويين قوله: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أي: يغشى الشمس حين
تغيب فتظلم الآفاق. وَالسَّماءِ وَما بَناها في «ما» قولان:
أحدهما: بمعنى «مَن» تقديره «ومن بناها» ، قاله الحسن، ومجاهد،
وأبو عبيدة. وبعضهم يجعلها بمعنى الذي. والثاني: أنها بمعنى
المصدر، تقديره: وبناها، وهذا مذهب قتادة، والزجاج.
وكذلك القول في «وما طحاها» «وما سَّواها» وقد قرأ أبو عمران
الجوني في آخرين «ومن بناها» ومن طحاها» «ومن سوَّاها» كله
بالنون. قال أبو عبيدة: ومعنى «طحاها» بسطها يميناً وشمالاً،
ومن كلّ
(4/450)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ
بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ
لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ
بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
جانب، قال ابن قتيبة: يقال: خَيْرٌ طَاحٍ،
أي: كثير متّسع.
وفي المراد «بالنّفس» هاهنا قولان: أحدهما: آدم، قاله الحسن.
والثاني: جميع النفوس، قاله عطاء. وقد ذكرنا معنى «سوَّاها» في
قوله عزّ وجلّ: فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ. قوله: فَأَلْهَمَها
فُجُورَها وَتَقْواها الإلهام: إيقاع الشيء في النفس. قال سعيد
بن جبير: ألزمها فجورها وتقواها، وقال ابن زيد: جعل ذلك فيها
بتوفيقه إياها للتقوى، وخذلانه إياها للفجور.
قوله عزّ وجلّ: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها قال الزجاج: هذا
جواب القسم. والمعنى: لقد أفلح، ولكن اللام حذفت لأن الكلام
طال، فصار طوله عوضاً منها. وقال ابن الأنباري: جوابه محذوف.
وفي معنى الكلام قولان: أحدهما: قد أفلحت نفس زكاها الله عزّ
وجلّ، قاله ابن عباس، ومقاتل والفراء، والزجاج. والثاني: قد
أفلح من زكّى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال، قاله قتادة، وابن
قتيبة. ومعنى زَكَّاها: أصلحها وطهّرها من الذنوب. قوله:
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها فيه قولان: كالذي قبله.
فإن قلنا: إن الفعل لله، فمعنى «دساها» : خذلها، وأخملها،
وأخفى محلها بالكفر والمعصية، ولم يشهرها بالطاعة والعمل
الصالح.
وإن قلنا: الفعل للإنسان، فمعنى «دساها» : أخفاها بالفجور. قال
الفراء: ويروى أن «دَسَّاها» دَسَّسَهَا لأن البخيل يخفي منزله
وماله. وقال ابن قتيبة: والمعنى: دسى نفسه، أي: أخفاها بالفجور
والمعصية. والأصل من دَسَّسَتُ، فقلبت السين ياءً، كما قالوا:
قصَّيت أظفاري، أي: قصصتها. فكأن النَّطِفَ بارتكاب الفواحش دس
نفسه، وقمعها، ومُصْطَنِعُ المعروف شهر نفسه ورفعها، وكانت
أجواد العرب تنزل الرُّبا للشهرة. واللئام تنزل الأطراف لتخفي
أماكنها. وقال الزّجّاج: معنى «دسّاها» جعلها قليلة خسيسة.
[سورة الشمس (91) : الآيات 11 الى 15]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها
(12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها
(13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ
رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها
(15)
قوله عزّ وجلّ: كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها أي: كذبت رسولها
بطغيانها. والمعنى: أن الطغيان حملهم على التكذيب. قال الفراء:
أراد بطغواها: طغيانها، وهما مصدران، إلا أنّ الطّغوى أشكل
برءوس الآيات، فاختير لذلك. وقيل: كذبوا العذاب إِذِ انْبَعَثَ
أي: انْتَدَبَ أَشْقاها وهو: عاقر الناقة يعقرها فَقالَ لَهُمْ
رَسُولُ اللَّهِ وهو صالح ناقَةَ اللَّهِ قال الفراء: نصب
الناقة على التحذير، وكلّ تحذير فهو نصب. وقال ابن قتيبة:
احذروا ناقة الله وشربها. وقال الزجاج: المعنى: ذروا «ناقة
الله» وذروا «سقياها» قال المفسرون: سقياها: شربها من الماء.
والمعنى: لا تتعرَّضوا ليوم شربها فَكَذَّبُوهُ في تحذيره
إياهم العذاب بعقرها فَعَقَرُوها وقد بيَّنا معنى «العقر» في
الأعراف «1» فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ قال الزجاج: أي:
أطبق عليهم العذاب. يقال: دمدمت على الشيء: إذا أطبقت فكرَّرت
الإطباق. وقال المؤرّج: الدّمدمة: إهلاك باستئصال.
__________
(1) الأعراف: 77.
(4/451)
وفي قوله عزّ وجلّ: فَسَوَّاها قولان:
أحدهما: سوَّى بينهم في الإهلاك، قاله السدي، ويحيى بن سلام.
وقيل: سوَّى الدمدمة عليهم. والمعنى: أنه أهلك صغيرهم،
وكبيرهم. والثاني:
سوَّى الأرض عليهم. قال مقاتل: سوَّى بيوتهم على قبورهم.
وكانوا قد حفروا قبوراً فاضطجعوا فيها، فلما صِيْحَ بهم فهلكوا
زُلزلت بيوتهم فوقعت على قبورهم.
قوله عزّ وجلّ: وَلا يَخافُ عُقْباها قرأ أبو جعفر، ونافع،
وابن عامر «فلا» بالفاء، وكذلك هو في مصاحف أهل المدينة
والشام. وقرأ الباقون بالواو، وكذلك هي في مصاحف مكة، والكوفة،
والبصرة.
وفي المشار إِليه ثلاثة أقوال «1» : أحدها: أنه الله عزّ وجلّ،
فالمعنى: لا يخاف الله من أحد تَبِعَةً في إهلاكهم، ولا يخشى
عقبى ما صنع، قاله ابن عباس، والحسن. والثاني: أنه الذي عقرها،
فالمعنى: أنه لم يخف عقبَى ما صنع، وهذا مذهب الضحاك والسدي،
وابن السائب. فعلى هذا في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: إذ
انبعث أشقاها وهو لا يخاف عقباها. والثالث: أنه نبي الله صالح
لم يخف عقباها، حكاه الزّجّاج.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 615: قال ابن عباس:
لا يخاف الله من أحد تبعة، وهذا القول أولى لدلالة السياق
عليه، والله أعلم.
(4/452)
وَاللَّيْلِ إِذَا
يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى
(6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ
وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى
(11)
سورة الليل
وهي مكّيّة كلّها بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ
[سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2)
وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ
لَشَتَّى (4)
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ
وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ
إِذا تَرَدَّى (11)
قوله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى قال ابن عباس: يغشى
بظلمته النهار. وقال الزجاج: يغشى الأفق، ويغشى جميع ما بين
السماء والأرض قوله: وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى أي: بان وظهر
من بين الظلمة، وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) في «ما»
قولان. وقد ذكرناهما عند قوله عزّ وجلّ: وَما بَناها «1» . وفي
«الذكر والأنثى» قولان: أحدهما: آدم وحواء، قاله ابن السائب،
ومقاتل. والثاني: أنه عام، ذكره الماوردي. قوله عزّ وجلّ:
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى هذا جواب القسم. قال ابن عباس: إن
أعمالكم لمختلفة، عمل للجنة، وعمل للنار. وقال الزجاج: سعي
المؤمن والكافر مختلف، بينهما بُعْدٌ. وفي سبب نزول هذه السورة
قولان:
(1535) أحدهما: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه اشترى بلالا من
أميّة بن خلف وأبيّ بن خلف بِبُرْدةٍ وعشرة أواق، فأعتقه،
فأنزل الله عزّ وجلّ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى إلى قوله عزّ
وجلّ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى يعني: سعي أبي بكر، وأُميَّة
وأُبَيٍّ، قاله عبد الله بن مسعود.
(1536) والثاني: أن رجلاً كانت له نخلةٌ فرعُها في دار رجلٍ
فقيرٍ ذي عيال، وكان الرجل إذا
__________
أخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 853 عن عبد الله بن مسعود به،
وإسناده ضعيف، فيه انقطاع بين أبي إسحاق السبيعي وابن مسعود.
واه. أخرجه ابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن كثير» عند هذه
الآية والواحدي في «أسباب النزول» 852 وفي «الوسيط» 4/ 502 من
طريق حفص عن عمر عن الحكم بن أبان عن عكرمة عن ابن عباس
مطوّلا. ولم يذكر اسم «أبو الدحداح» . وإسناده واه لأجل حفص بن
عمر بن ميمون، ضعفه الحافظ في «التقريب» وأخرجه ابن-
__________
(1) الشمس: 5.
(4/453)
صَعِدَ النخلة ليأخذ منها الثمر، فربما
سقطت الثمرة، فيأخذها صبيان الفقير، فينزل الرجل من نخلته حتى
يأخذ الثمرة من أيديهم، فإن وجدها في فم أحدهم أدخل أصبعه حتى
يخرجها، فشكا ذلك الرجل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلم، فلقي
النبيّ صلّى الله عليه وسلم صاحب النّخلة، فقال: «تعطيني نخلتك
التي فرعها في دار فلان ولك بها نخلة في الجنة؟» فقال الرجل:
إن لي نخلاً وما فيه نخلة أعجب إليَّ منها، ثم ذهب الرجل، فقال
رجل ممن سمع ذلك الكلام: يا رسول الله أتعطيني نخلة في الجنة
إن أنا أخذتها؟ قال: نعم، فذهب الرجل، فلقي صاحب النخلة،
فساومها منه، فقال له: أَمَا شَعَرْتَ أن محمداً أعطاني بها
نخلة في الجنة؟ فقلتُ:
ما لي نخلة أعجب إليَّ منها، فقال له: أتريد بيعها؟ قال: لا،
إلا أن أُعطى بها ما لا أظنني أعطى، قال: ما مناك؟ قال: أربعون
نخلة، فقال: أنا أعطيك أربعين نخلة، وأشهد له ناساً، ثم ذهب
إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له: إن النخلة قد صارت
في ملكي، وهي لك، فذهب رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى صاحب
الدار، فقال: النخلة لك ولعيالك، فأنزل الله عزّ وجلّ:
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى إلى قوله عزّ وجلّ: إِنَّ سَعْيَكُمْ
لَشَتَّى رواه عكرمة عن ابن عباس. وقال عطاء: الذي اشتراها من
الرجل أبو الدحداح، أخذها بحائط له، فأنزل الله تعالى هذه
الآيات إلى قوله عزّ وجلّ: إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى أبو
الدحداح، وصاحب النخلة.
قوله عزّ وجلّ: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى قال ابن مسعود:
يعني: أبا بكر الصّدّيق وهذا قول الجمهور.
وقال عطاء: هو أبو الدحداح. وفي المراد بهذا العطاء ثلاثة
أقوال: أحدها: أعطى من فضل ماله، قاله ابن عباس. والثاني: أعطى
الله الصّدق من قلبه، قاله الحسن. والثالث: أعطى حق الله عليه،
قاله قتادة.
وفي قوله عزّ وجلّ: وَاتَّقى ثلاثة أقوال: أحدها: اتقى الله،
قاله ابن عباس. والثاني: اتقى البُخْل، قاله مجاهد. والثالث:
اتقى محارم الله التي نهى عنها، قاله قتادة.
وفي «الحسنى» ستة أقوال: أحدها: أنه «لا إِله إِلا الله» ،
رواه عطية عن ابن عباس، وبه قال الضحاك. والثاني: الخَلَف،
رواه عكرمة عن ابن عباس، وبه قال الحسن. والثالث: الجنة، قاله
مجاهد. والرابع: نِعَم الله عليه، قاله عطاء. والخامس: بوعد
الله أن يثيبه، قاله قتادة، ومقاتل.
والسادس: الصلاة، والزكاة، والصوم، قاله زيد بن أسلم.
قوله عزّ وجلّ: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى ضم أبو جعفر سين
«اليسرى» وسين «العسرى» وفيه قولان:
أحدهما: للخير، قاله ابن عباس. والمعنى: نُيَسِّر ذلك عليه.
والثاني: للجنّة، قاله زيد بن أسلم.
قوله وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ قال ابن مسعود: يعني بذلك أُميَّة
وأُبي ابنَيْ خلف. وقال عطاء: هو صاحب النّخلة.
__________
حبان. والجمهور على أنها نزلت في أبي بكر والله أعلم.
ثم إن السورة مكية، وذاك أنصاري؟! وورد بمعناه دون ذكر نزول
الآية من حديث جابر. أخرجه أحمد 3/ 328 وقال الهيثمي في
«المجمع» 3/ 127: رواه أحمد والبزار، وفيه عبد الله بن محمد بن
عقيل، وفيه كلام وقد وثق.
- قلت: ضعفه غير واحد لسوء حفظه، وهو غير حجة. ورواية عطاء:
وفيها اسم الرجل أبو الدحداح، هي من رواية علي بن حجر عن إسحاق
عن أبي نجيح عن عطاء مرسلا، ومعلقا، فهو لا شيء.
(4/454)
إِنَّ عَلَيْنَا
لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13)
فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا
الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ
يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ
تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى
(20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
قال المفسرون: وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ
بالنفقة في الخير والصّدقة. وقال قتادة: بحقّ الله عزّ وجلّ،
قوله:
وَاسْتَغْنى أي عن ثواب الله فلم يرغب فيه وَكَذَّبَ
بِالْحُسْنى وقد سبقت الأقوال فيها.
وفي «العسرى» قولان: أحدهما: النار، قاله ابن مسعود. والثاني:
الشر، قاله ابن عباس.
والمعنى: سنهيؤه للشر فيؤدِّيه إلى الأمر العسير، وهو عذاب
النار.
ثم ذكر أن ما أمسكه من ماله لا ينفعه، فقال عزّ وجلّ: وَما
يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ الذي يبخل به عن الخير إِذا تَرَدَّى
وفيه قولان: أحدهما: إذا تردَّى في جهنم، قاله ابن عباس،
وقتادة. والمعنى: إذا سقط فيها. والثاني: إذا مات فتردَّى في
قبره، قاله مجاهد.
[سورة الليل (92) : الآيات 12 الى 21]
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ
وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا
يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى
(16)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ
يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى
(19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20)
وَلَسَوْفَ يَرْضى (21)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى قال الزجاج: المعنى:
إن علينا أن نبيِّن طريق الهدى من طريق الضّلال. قوله: وَإِنَّ
لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى أي: فليطلبا منا فَأَنْذَرْتُكُمْ
ناراً تَلَظَّى أي: تتوقّد وتتوهَّج لا يَصْلاها إِلَّا
الْأَشْقَى يعني: المشرك الَّذِي كَذَّبَ الرسول وَتَوَلَّى عن
الإيمان. قال أبو عبيدة: والْأَشْقَى بمعنى الشقيّ. والعرب تضع
«أَفْعَلَ» في موضع «فاعل» . قال طرفة:
تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها
بأوحد
قال الزّجّاج: وهذه الآية هي التي من أجلها زعم أهل الإرجاء
أنه لا يدخل النار إلّا كافر، وليس كما ظنوا. هذه نار موصوفة
بعينها، ولأهل النار منازل. فلو كان من لا يشرك لا يعذَّب لم
يكن في قوله عزّ وجلّ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ
«1» فائدة. وكان «ويغفر ما دون ذلك» كلاماً لا معنى له.
قوله عزّ وجلّ: وَسَيُجَنَّبُهَا أي: يُبْعَدُ عنها، فيجعل
منها على جانب الْأَتْقَى يعني: أبا بكر الصديق في قول جميع
المفسرين، الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى أي: يطلب أن يكون
عند الله زاكيا، ولا يطلب الرياء، ولا السمعة وَما لِأَحَدٍ
عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى أي: لم يفعل ذلك مجازاة ليد
أُسْدِيَتْ إليه.
__________
وروى عطاء عن ابن عباس أن أبا بكر لما اشترى بلالاً بعد أن كان
يعذَّب قال المشركون: ما فعل أبو بكر ذلك إلا ليدٍ كانت لبلال
عنده، فأنزل الله تعالى: وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ
تُجْزى (19) إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى أي:
إلا طلباً لثواب ربه. قال الفراء: و «إلا» بمعنى «لكن» ونصب
«ابتغاءَ» على إضمار إنفاقه. فالمعنى: وما ينفق إلا ابتغاء وجه
ربه.
قوله تعالى: وَلَسَوْفَ يَرْضى أي: بما يعطى في الجنّة من
الثّواب.
ذكره الواحدي 857 عن عطاء عن ابن عباس بدون إسناد.
__________
(1) النساء: 48.
(4/455)
سورة الضّحى
وهي مكّيّة بإجماعهم اتّفق المفسّرون: على أنّ هذه السورة نزلت
بعد انقطاع الوحي مدّة. ثم اختلفوا في سبب انقطاعه على ثلاثة
أقوال:
(1538) أحدها: أنّ اليهود سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلم
عن ذي القرنين، وعن أصحاب الكهف، وعن الرّوح، فقال: سأخبركم
غدا، ولم يقل: إن شاء الله، فاحتبس عنه الوحي.
والثاني: لقلّة النّظافة في بعض أصحابه. وقد ذكرنا هذين
القولين في سورة مريم «1» . والثالث:
لأجل جرو كان في بيته، قاله زيد بن أسلم «2» .
وفي مدّة احتباسه عنه أقوال قد ذكرناها في مريم «3» .
(1539) وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث جندب قال:
قالت امرأة من قريش
__________
تقدم في سورة الكهف، وأنكر الحافظ في «الفتح» 8/ 710 كون نزول
الضحى، كان بسبب سؤالهم عن ذي القرنين، وقال ما معناه: الزمن
بين نزول السورة، وسؤالهم إياه غير متحد، ويجوز أن يكون قريبا.
صحيح. أخرجه البخاري 4950 والبغوي في «التفسير» 2349 بترقيمنا
عن أحمد بن يونس به. من حديث جندي. وأخرجه البخاري 1125 و 1124
و 4983 والترمذي 3345 والطبري 37504 وابن حبان 6566 والطبراني
1709 والبيهقي 3/ 14 وفي «الدلائل» 7/ 58 والواحدي في «الوسيط»
4/ 507 وفي «أسباب النزول» 858 من طرق عن سفيان عن الأسود بن
قيس به. وأخرجه البخاري 4951 ومسلم 1797 ح 115-
__________
(1) مريم: 65، وتقدّم الحديث، وهو حديث ضعيف، والصواب ما رواه
الشيخان وهو الآتي من حديث جندب البجلي.
(2) ضعيف جدا، هو مرسل، وله علة ثانية، وهي كونه من رواية ابنه
عبد الرحمن، وهو واه.
وصح هذا السياق، لكن ليس فيه نزول سورة الضحى عقب ذلك. فقد
أخرج مسلم 2105 وأبو داود 4157 والنسائي 7/ 186 وأحمد 6/ 330
وأبو يعلى 7093 و 7112 من طريق الزهري عن ابن السباق عن ابن
عباس عن ميمونة: «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أصبح يوما
واجما فقالت ميمونة: يا رسول الله! لقد استنكرت هيئتك منذ
اليوم. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن جبريل كان
وعدني أن يلقاني الليلة، فلم يلقني. أم والله ما أخلفني» فظل
رسول الله صلّى الله عليه وسلم يومه ذاك على ذلك، ثم وقع في
نفسه جر وكلب تحت فسطاط لنا، فأمر به فأخرج ثم أخذ بيده ماء
فنضح مكانه، فلما أمسى لقيه جبريل فقال له: قد كنت وعدتني أن
تلقاني في البارحة قال: «أجل، ولكنا لا ندخل بيتا فيه كلب، ولا
صورة» . وأخرجه مسلم 2104 وأحمد 6/ 142- 143 وأبو يعلى 4508 من
حديث عائشة بنحوه.
(3) مريم: 66.
(4/456)
وَالضُّحَى (1)
وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا
قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ
يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)
وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا
تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)
وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
للنبيّ صلّى الله عليه وسلم: ما أرى شيطانك
إلّا قد ودعك، فنزلت وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2)
ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى، جندب: هو ابن سفيان، والمرأة:
يقال لها: أمّ جميل امرأة أبي لهب.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ
وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ
يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ
عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9)
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
وفي المراد «بالضحى» أربعة أقوال: أحدها: ضوء النهار، قاله
مجاهد. والثاني: صدر النهار، قاله قتادة. والثالث: أول ساعة من
النهار إذا ترحّلت الشمس، قاله السدي، ومقاتل. والرابع: النهار
كلُّه، قاله الفراء.
وفي معنى «سجى» خمسة أقوال «1» : أحدها: أظلم. والثاني: ذهب،
رويا عن ابن عباس.
والثالث: أقبل، قاله سعيد بن جبير. والرابع: سكن، قاله عطاء،
وعكرمة، وابن زيد. فعلى هذا: في معنى «سكن» قولان: أحدهما:
استقرّ ظلامه، قال الفرّاء: «سجى» يعني أظلم وركد في طوله. كما
يقال: بَحْرٌ سَاجٍ، ولَيْل سَاجٍ: إذا ركد وأظلم. ومعنى: ركد:
سكن. قال أبو عبيدة، يقال: ليلة ساجية، وساكنة، وشاكرة. قال
الحادي:
يَا حَبَّذا القَمْرَاءُ والليلُ الساجْ ... وطُرُقٌ مِثْلُ
مُلاءِ النِّساجْ
قال ابن قتيبة: «سجى» بمعنى سكن، وذلك عند تناهي ظلامه وركوده.
والثاني: سكن الخلق فيه، ذكره الماوردي.
والخامس: امتد ظلامه، قاله ابن الأعرابي.
قوله عزّ وجلّ: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وقرأ عمر بن الخطاب،
وأنس، وعروة، وأبو العالية، وابن يعمر، وابن أبي عبلة، وأبو
حاتم عن يعقوب «مَا وَدَعَكَ» بتخفيف الدال. وهذا جواب القسم.
قال أبو عبيدة: «ما وَدَّعك» من التوديع كما يودع المفارق، و
«مَا وَدَعَكَ» مخففة من ودعه يدعه وَما قَلى أي:
أبغض.
قوله عزّ وجلّ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى قال
عطاء، أي خير لك من الدنيا. وقال غيره:
الذي لك في الآخرة أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا.
قوله عزّ وجلّ: وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ في الآخرة من
الخير فَتَرْضى بما تعطى. قال عليّ
__________
والطبري 37505 والطبراني 1710 و 1711 وأحمد 4/ 312 والبيهقي 3/
14 من طريقين عن الأسود بن قيس به. وفي الباب أحاديث، وهذا
الحديث أصحها إسنادا وأحسنها متنا.
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 622: وأولى الأقوال
بالصواب عندي في ذلك قول من قال معناه:
والليل إذا سكن بأهله، وثبت بظلامه، كما يقال: بحر ساج أي
ساكنا.
(4/457)
والحسن: هو الشفاعة في أمته حتى يرضى.
(1540) قال ابن عباس: عُرِض على رسول الله صلّى الله عليه وسلم
ما يُفْتَح على أُمته من بعده كَفْرَاً كفرا، فسرّ بذلك، فأنزل
الله عزّ وجلّ: وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)
وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى.
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فيه قولان: أحدهما:
جعل لك مأوى إذ ضَمَّك إلى عمك أبي طالب، فكفاك المؤونة، قاله
مقاتل. والثاني: جعل لك مأوى لنفسك أغناك به عن كفالة أبي
طالب، قاله ابن السائب.
قوله تعالى: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى فيه ستة أقوال: أحدها:
ضالاً عن معالم النبوة، وأحكام الشريعة، فهداك إليها، قاله
الجمهور منهم الحسن، والضحاك. والثاني: أنه ضَلَّ وهو صبي صغير
في شعاب مكة، فردَّه الله إلى جده عبد المطلب، رواه أبو الضحى
عن ابن عباس. والثالث: أنه لما خرج مع ميسرة غلام خديجة أخذ
إبليس بزمام ناقته، فعدل به عن الطريق، فجاء جبريل، فنفخ إبليس
نفخة وقع منها إلى الحبشة، ورده إلى القافلة، فمنَّ الله عليه
بذلك قاله سعيد بن المسيب. والرابع: أن المعنى: ووجدك في قوم
ضُلاَّل، فهداك للتوحيد والنبوة، قاله ابن السائب. والخامس:
ووجدك نِسْيَاً، فهداك إلى الذِّكْر. ومثله: أَنْ تَضِلَّ
إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى «1» قاله ثعلب.
والسادس:
ووجدك خاملاً لا تُذْكَر ولا تُعْرَف، فهدى الناس إليك حتى
عرفوك، قاله عبد العزيز بن يحيى، ومحمد بن عليّ التّرمذيّ.
قوله عزّ وجلّ: وَوَجَدَكَ عائِلًا قال أبو عبيدة: أي: ذا فقر.
وأنشد:
وَمَا يَدري الفقيرُ مَتى غِناه ... وما يَدْرِي الغَنِيُّ
مَتى يَعِيلُ «2»
أي: يفتقر. قال ابن قتيبة: العائل: الفقير، كان له عيال، أو لم
يكن يقال: عال الرجل: إذا افتقر. وأعال: إذا كثر عياله.
وفي قوله: فَأَغْنى قولان: أحدهما: أرضاك بما أعطاك من الرزق،
قاله ابن السائب، واختاره الفرّاء فقال: لم يكن غناه عن كثرة
المال، ولكن الله رضَّاه بما آتاه. والثاني: فأغناك بمال خديجة
عن أبي طالب، قاله جماعة من المفسّرين.
قوله عزّ وجلّ: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ فيه قولان:
أحدهما: لا تحقر، قاله مجاهد. والثاني: لا تقهره على ماله،
قاله الزّجّاج.
__________
ضعيف. أخرجه الطبري 37513 من طريق الأوزاعي يحدث عن إسماعيل بن
عبيد الله بن أبي المهاجر، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن
أبيه، وإسناده ضعيف الأوزاعي لم يسمعه من إسماعيل كما يدل على
ذلك عبارة الراوي عنه، وكرره 37514 وفيه رواد بن الجراح ضعيف.
وأخرجه الطبراني في «الأوسط» 576 عن ابن عباس مرفوعا، وإسناده
ضعيف فيه معاوية بن أبي العباس مجهول، والموقوف أصح من
المرفوع، فالخبر لا يصح مرفوعا ولا موقوفا. وانظر «تفسير
الشوكاني» 2746 بتخريجنا.
__________
(1) البقرة: 282.
(2) البيت لأحيحة بن الجلاح الأوسي، وهو في «جمهرة أشعار
العرب» 125 و «اللسان» - عيل-.
(4/458)
قوله: وَأَمَّا السَّائِلَ فيه قولان:
أحدهما: سائل البِر، قاله الجمهور. والمعنى: إذا جاءك السائل،
فإما أن تعطيه، وإِما أن تردَّه ردَّاً ليناً. ومعنى فَلا
تَنْهَرْ لا تنهره، يقال: نهره وانتهره: إذا استقبله بكلام
يزجره. والثاني: أنه طالب العلم، قاله يحيى بن آدم في آخرين.
قوله عزّ وجلّ: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ في
النعمة ثلاثة أقوال: أحدها: النُبُوَّة. والثاني: القرآن، رويا
عن مجاهد. والثالث: أنها عامة في جميع الخيرات، وهذا قول
مقاتل.
(1541) وقد روي عن مجاهد قال: قرأت على ابن عباس. فلما بلغت
«والضحى» قال: كبِّر إذا ختمت كل سورة حتى تختم. وقرأت على
أُبيِّ بن كعب فأمرني بذلك.
(1542) قال علي بن أحمد النيسابوري: ويقال: إن الأصل في ذلك أن
الوحي لما فتر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقال
المشركون: قد هجره شيطانه وَوَدَعَه، اغتمَّ لذلك، فلما نزل
«والضحى» كبَّر عند ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم فرحا
بنزول الوحي، فاتّخذه الناس سنّة.
__________
ضعيف جدا. وله علتان، ابن أبي بزة، وهو أحمد بن محمد بن عبد
الله ضعيف منكر الحديث، وشيخه عكرمة مجهول، لم يرو عنه غيره،
ولم يوثقه أحد، وذكره ابن أبي حاتم في «الجرح والتعديل» 7/ 11
من غير جرح أو تعديل، حتى ابن حبان لم يدخله في الثقات. أخرجه
الحاكم 3/ 305 والواحدي في «الوسيط» 4/ 514 والذهبي في
«الميزان» 1/ 145/ 564 والبغوي في «التفسير» 2362 بترقيمنا.
كلهم من طريق أحمد البزي به. وقال الذهبي في «الميزان» في
البزي: إمام في القراءة ثبت، ثم ذكر له حديثا غير هذا فقال:
قال أبو حاتم: هذا حديث باطل. وقال العقيلي: منكر الحديث، وقال
أبو حاتم ضعيف الحديث، لا أحدث عنه- وقال ابن أبي حاتم: روى
حديثا منكرا. ثم أسند الذهبي هذا الحديث، وقال: هذا حديث غريب،
وهو مما أنكر على البزي، قال أبو حاتم: هذا حديث منكر. وقال
العقيلي في «الضعفاء» 1/ 127: منكر الحديث، يوصل الأحاديث.
قلت: وعكرمة بن سليمان مجهول كما تقدم، لم يوثقه أحمد، ولا روى
عنه سوى البزي، وهو ضعيف، فيزيد هذا من جهالته. وقال الحافظ
ابن كثير رحمه الله 4/ 620: أحمد البزي ضعفه أبو حاتم، لكن ورد
عن الشافعي أنه سمع رجلا يكبر هذا التكبير في الصلاة، فقال:
أحسنت، وأصبت السنة حكاه أبو شامة المقدسي، في «شرح الشاطبية»
، وهذا يقتضي صحة هذا الحديث. كذا قال رحمه الله؟!! ولعل هذا
لا يصح عن الشافعي، فإن خبرا واهيا، لا يصلح للاحتجاج به،
وبخاصة إدخال شيء في الصلاة، ليس منها، والدليل على عدم صحته
عن الشافعي، أنه ليس في مذهب الشافعية تكبير في الصلاة عند
الانتقال من سورة إلى سورة بعد الضحى، والأشبه أن هذه السنة هي
سنة عكرمة بن سليمان ذاك الشيخ المجهول، فحملها عنه البزي، ثم
حملها عنه آخرون. ولو ثبت هذا عند الشافعي لرواه في المسند أو
السنن أو الأم، بل لو صح هذا لرواه الأئمة الستة وغيرهم
لاشتهاره، والصواب أن هذا سنة شيخ مجهول، والله أعلم.
والخلاصة: الإسناد ضعيف، والمتن منكر كما قال أبو حاتم وغيره،
وهذا مما ينبغي أن يشتهر لو صح، فلما لم يرو إلا بهذا الطريق
علم أنه شبه موضوع.
تقدم أن هذا الحديث صحيح دون ذكر التكبير، انظر الحديث رقم
1539 ولا أصل له بهذا اللفظ- قال ابن كثير رحمه الله 4/ 621:
لم يرو ذلك بإسناد وقد مضى في الذي قبله، الكلام على التكبير
مما يغني عن الإعادة هنا.
(4/459)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ
صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي
أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ
مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6)
فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
سورة الشرح
وهي مكّيّة بإجماعهم بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ
(2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ
(4)
فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ
فَارْغَبْ (8)
قوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ الشرح: الفتح
بإذهاب ما يصد عن الإدراك. والله تعالى فتح صدر نبيه للهدى
والمعرفة بإذهاب الشّواغل التي تصدّ «1» عن إدراك الحق. ومعنى
هذا الإستفهام التقريرُ، أي: فعلنا ذلك «2» وَوَضَعْنا عَنْكَ
وِزْرَكَ أي: حَطَطْنَا عنك إِثْمَكَ الذي سَلَفَ في الجاهلية،
قاله ابن عباس، والحسن، وقتادة، والضحاك، والفراء، وابن قتيبة
في آخرين. وقال الزجاج: المعنى:
أنه غفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال ابن قتيبة: وأصل
الوِزْر: ما حمله الإنسان على ظهره، فشبّه بالحمل فجعل مكانه.
وبمعنى أَنْقَضَ ظَهْرَكَ أثقله حتى سمع نقيضه، أي: صوته. وهذا
مَثَلٌ، يعني: أنه لو كان حملاً يحمل لَسُمِع نقيضُ الظهر منه.
وذهب قوم إلى أن المراد بهذا تخفيف أعباء النبوة التي يُثْقِلُ
القيامُ بها الظُّهْرَ، فَسَهَّلَ الله له ذلك حتى تيَسَّر
عليه الأمر. وممن ذهب إلى هذا عبد العزيز بن يحيى.
قوله عزّ وجلّ: وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ فيه خمسة أقوال:
(1543) أحدها: ما روى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صلّى الله
عليه وسلم أنه سأل جبريل عن هذه الآية،
__________
ضعيف. أخرجه أبو يعلى 1380 والواحدي في «الوسيط» 4/ 516 من
طريق ابن لهيعة به. وإسناده واه، فيه-
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 624- 625: يقول
تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، يعني أما شرحنا لك
صدرك؟ أي نورناه وجعلناه فسيحا رحيبا واسعا، كقوله: فَمَنْ
يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ
لِلْإِسْلامِ وكما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحا واسعا
سمحا سهلا لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 633: والصواب من
القول في ذلك عندنا، قول من قال: التين: هو التين الذي يؤكل،
والزيتون: هو الزيتون الذي يعصر منه الزيت، لأن ذلك معروف عند
العرب، إلا أن يقول قائل: أقسم ربنا جل ثناؤه بالتين والزيتون،
والمراد من الكلام: القسم بمنابت التين، ومنابت الزيتون، فيكون
ذلك مذهبا، وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك، دلالة في ظاهر
التنزيل، ولا من قول من لا يجوز خلافه، لأن دمشق هي منابت
التين، وبيت المقدس منابت الزيتون.
ابن لهيعة ضعيف، ودراج عن أبي الهيثم ضعيف أيضا. وأخرجه الطبري
37532 وابن حبان 3382 من طريق عمرو بن الحارث عن دراج به.
وذكره الهيثمي في «المجمع» 8/ 245 وقال: رواه أبو يعلى وإسناده
حسن.
كذا قال؟! مع أن في إسناد أبي يعلى ابن لهيعة، ودراج.
(4/460)
فقال: قال الله عزّ وجلّ: إذا ذُكِرْتُ
ذُكِرْتَ معي. قال قتادة: فليس خطيب، ولا مُتَشَهِّدٌ، ولا
صاحب صلاة إلا يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً
رسول الله، وهذا قول الجمهور.
والثاني: رفعنا لك ذِكْرَك بالنبوة، قاله يحيى بن سلام.
والثالث: رفعنا لك ذكرك في الآخرة كما رفعناه في الدنيا، حكاه
الماوردي. والرابع: رفعنا لك ذكرك عند الملائكة في السماء.
والخامس: بأخذ الميثاق لك على الأنبياء، وإلزامهم الإيمان بك،
والإقرار بفضلك، حكاهما الثّعلبيّ.
قوله عزّ وجلّ: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً ضم سين
«العُسُر» وسين «اليُسُر» أبو جعفر و «العسر» مذكور في الآيتين
بلفظ التعريف. و «اليُسر» مذكور بلفظ التنكير، فدل على أن
العسر واحد، واليسر اثنان. قال ابن مسعود، وابن عباس في هذه
الآية: لن يغلب عُسْر يسرين. قال الفراء: العرب إذا ذَكَرَتْ
نَكِرَةً ثم أعادتها بنكرة صارت اثنتين، كقولك: إذا كسبت
درهماً فأنفق درهماً، فالثاني غير الأول، وإذا أعادتها معرفة،
فهي من قولك: إذا كسبت درهماً فأنفق الدرهم، فالثاني هو الأول.
ونحو هذا قال الزجاج:
ذَكَرَ العُسْر بالألف واللام، ثم ثَنَّى ذِكْرَه، فصار
المعنى: إن مع العسر يسرين. وقال الحسين بن يحيى الجرجاني-
ويقال له: صاحب النظم-: معنى الكلام: لا يحزنك ما يُعَيِّرك به
المشركون من الفقر «فإن مع العسر يسراً» عاجلاً في الدنيا،
فأنجزه بما وعده الله، بما فتح عليه، ثم ابتدأ فصلاً آخر فقال:
«إن مع العسر يسراً» والدليل على ابتدائه تَعرِّيه من الفاء
والواو، وهو وعد لجميع المؤمنين أي أن مع عسر المؤمنين يسراً
في الآخرة، فمعنى قولهم: لن يغلب عسر يسرين: لن يغلب عسر
الدنيا اليسر الذي وعده الله المؤمنين في الدنيا، واليسر الذي
وعدهم في الآخرة، إنما يغلب أحدهما، وهو يسر الدنيا.
فأما يسر الآخرة، فدائم لا ينقطع، كقوله صلّى الله عليه وسلم:
(1544) «شهرا عيد لا ينقصان» ، أي: لا يجتمعان في النقص. وحكي
عن العتبي قال: كنت ذات ليلة في البادية بحالة من الغَمِّ،
فأُلْقِيَ في رَوعي بيت من الشعر، فقلت:
أرى الموت لمن أصبح ... مَغْمُوماً لَهُ أَرُوَحْ
فلما جن الليل سمعت هاتفا يهتف:
ألا يا أيّها المرء الذي ... الهمُّ بِه بَرَّحْ
وَقَدْ أَنْشَدَ بَيْتَاً لَمْ ... يزل في فكره يسبح
إذا اشتَدَّ بك العُسْرُ ... فَفَكِّر في «أَلَمْ نَشْرَحْ»
فَعُسْرٌ بَيْنَ يُسْرَيْنِ ... إِذا أَبْصَرْتَهُ فَافْرَحْ
فحفظت الأبيات وفرّج الله غمّي.
__________
صحيح. أخرجه البخاري 1912 ومسلم 1089 وأبو داود 2323 والترمذي
692 وابن ماجة 1659 وأحمد 5/ 38 و 47 و 48 والطيالسي 863
والطحاوي 2/ 58 وابن حبان 325 والبيهقي 4/ 250 من طرق عن عبد
الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه مرفوعا.
(4/461)
قوله عزّ وجلّ: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ
أي: فادأبْ في العمل، وهو من النَّصْب، والنَّصب: التعبُ،
الدَّؤوب في العمل. وفي معنى الكلام ستة أقوال أحدها: فإذا
فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل، قاله ابن مسعود.
والثاني: فإذا فرغت من الصلاة فانصب في الدعاء، قاله ابن عباس،
والضحاك، ومقاتل. والثالث: فإذا فرغت من جهالة عدوّك فانصب
لعبادة ربّك، قاله الحسن وقتادة.
والرابع: فإذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عمل آخرتك، قاله
مجاهد. والخامس: فإذا فرغت من التشهد فادع لدنياك وآخرتك، قاله
الشّعبيّ والزّهريّ. والسادس: إذا صح بدنك فاجعل صحتك نَصباً
في العبادة، ذكره عليّ بن أبي طلحة.
قوله وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ قال الزجاج: اجعل رغبتك إلى
الله عزّ وجلّ وحده.
(4/462)
|