زاد المسير في
علم التفسير وَالتِّينِ
وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ
الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ
تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5)
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ
أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ
بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
سورة التّين
وفيها قولان: أحدهما: أنها مكّيّة، قاله الجمهور، منهم الحسن،
وعطاء. والثاني: أنها مدنيّة، حكاه الماورديّ عن ابن عباس،
وقتادة.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا
الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)
ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ
مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)
قوله عزّ وجلّ: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فيها سبعة أقوال «1»
: أحدها: أنه التين المعروف، والزيتون المعروف، قاله ابن عباس،
والحسن، وعطاء، ومجاهد، وعكرمة، وجابر بن زيد، وإبراهيم. وذكر
بعض المفسرين أنه إنما أقسم بالتين لأنها فاكهة مُخَلَّصة من
شائب التنغيص، وهو يدل على قدرة من هيَّأه على تلك الصفة، وجعل
الواحد منه على مقدار اللقمة، وإنما أقسم بالزيتون لكثرة
الانتفاع به.
والثاني: أن التين: مسجد نوح الذي بنى على الجودي. والزيتون:
بيت المقدس، رواه عطية عن ابن عباس. والثالث: التين: المسجد
الحرام، والزيتون: المسجد الأقصى، قاله الضحاك. والرابع:
التين:
مسجد دمشق، والزيتون: بيت المقدس، قاله كعب، وقتادة، وابن زيد.
والخامس: أنهما جبلان، قاله عكرمة في رواية. وروي عن قتادة
قال: التين: الجبل الذي عليه دمشق، والزيتون: الجبل الذي عليه
بيت المقدس. والسادس: أن التين: مسجد أصحاب الكهف، والزيتون:
مسجد إيلياء، قاله القرظي.
والسابع: أن التين: جبال ما بين حلوان إلى همذان، والزيتون:
جبال الشام، حكاه الفرّاء. فأمّا وَطُورِ سِينِينَ فالطور:
جبل. وفيه قولان «2» : أحدهما: أنه الجبل الذي كلم الله موسى
عليه، قاله كعب الأحبار في الأكثرين. والثاني: أنه جبل بالشام،
قاله قتادة.
فأما سِينِينَ فهو لغة في سيناء. وقد قرأ عليّ بن أبي طالب رضي
الله عنه، وسعد بن أبي وقاص، وأبو العالية، وأبو مجلز «وطور
سَيناء» ممدودة مهموزة، مفتوحة السين. وقرأ ابن مسعود،
__________
(1) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 634: وأولى الأقوال
في ذلك بالصواب قول من قال: طور سينين:
جبل معروف، لأن الطول هو جبل ذو النبات، فإضافته إلى سينين
تعريف له، ولو كان نعتا للطور كما قال من قال: معناه: حسن أو
مبارك لكان الطور منونا، وذلك أن الشيء لا يضاف إلى نعته لغير
علة تدعو إلى ذلك.
(2) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 634: وأولى الأقوال
في ذلك بالصواب قول من قال: طور سينين:
جبل معروف، لأن الطول هو جبل ذو النبات، فإضافته إلى سينين
تعريف له، ولو كان نعتا للطور كما قال من قال: معناه: حسن أو
مبارك لكان الطور منونا، وذلك أن الشيء لا يضاف إلى نعته لغير
علة تدعو إلى ذلك. [.....]
(4/463)
وأبو الدرداء، وأبو حيوة «وطورِ سيناء»
مثلهم إلا أنهم كسروا السين. وقرأ أبو رجاء، والجحدريّ «سينين»
كما في القرآن، لكنهما فتحا السين. وقال ابن الأنباري: «سينين»
هو سيناء.
واختلفوا في معناه فقيل: معناه: الحسن. وقيل: المبارك. وقيل:
إنه اسم للشجر الذي حوله.
وقد شرحنا هذا في سورة المؤمنون «1» قال الزّجّاج: وقد قرئ
هاهنا «وطور سيناء» وهو أشبه لقوله عزّ وجلّ: وَشَجَرَةً
تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ. وقال مقاتل: كل جبل فيه شجر
مثمر فهو سينين، وسيناء بلغة النّبط.
قوله عزّ وجلّ: وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ يعني: مكة يأمن
فيه الخائف في الجاهلية، والإسلام «2» . قال الفراء: ومعنى
«الأمين» الآمن. والعرب تقول للآمن: أمين.
قال الشاعر:
أَلَمْ تَعْلَمي يا أَسْمَ وَيْحَكِ أَنَّني ... حَلَفْتُ
يَمِيناً لا أَخُونُ أَمِينِي
يريد آمني.
قوله عزّ وجلّ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ هذا جواب القسم.
وفي المراد بالإنسان هاهنا خمسة أقوال «3» : أحدها: أنه كَلدَة
بن أسيد، قاله ابن عباس. والثاني: الوليد بن المغيرة، قاله
عطاء. والثالث:
أبو جهل بن هشام. والرابع: عتبة، وشيبة، حكاهما الماوردي.
والخامس: أنه اسم جنس، وهذا مذهب كثير من المفسرين، وهو معنى
قول مقاتل.
قوله عزّ وجلّ: فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ فيه أربعة أقوال «4» :
أحدها: في أعدل خلق. والثاني: منتصب القامة، رويا عن ابن عباس.
والثالث: في أحسن صورة، قاله أبو العالية. والرابع: في شباب
وقوة، قاله عكرمة.
قوله: ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ فيه قولان «5» :
أحدهما: إلى أرذل العُمُر، رواه العوفي عن ابن عباس، وبه قال
عكرمة، وإبراهيم، وقتادة. وقال الضحاك: إلى الهرم بعد الشباب،
والضعف بعد
__________
(1) المؤمنون: 20.
(2) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 628: وقال بعض
الأئمة: هذه محال ثلاثة، بعث الله في كل واحد منها نبيا مرسلا
من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار، فالأولى محلة التين
والزيتون، وهي بيت المقدس التي بعث الله فيها عيسى عليه السلام
والثاني: طور سينين، وهو طور سيناء الذي كلم الله عليه موسى بن
عمران عليه السلام والثالث: مكة: وهو البلد الأمين الذي من
دخله كان آمنا، وهو الذي أرسل فيه محمدا صلّى الله عليه وسلم.
(3) والقول الخامس هو الصواب: أنه اسم جنس ولم يكن المراد منه
إنسان باسمه.
(4) قال الطبري رحمه الله في «تفسيره» 12/ 638: وأولى الأقوال
في ذلك بالصواب أن يقال: إن معنى ذلك. لقد خلقنا الإنسان في
أحسن صورة وأعدلها، لأن قوله: أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ إنما هو نعت
لمحذوف، وهو في تقويم أحسن تقويم، فكأنه قيل: لقد خلقناه في
تقويم أحسن تقويم.
(5) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 628: ثُمَّ
رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ أي: إلى أرذل العمر. روي هذا عن
ابن عباس وعكرمة، واختاره ابن جرير الطبري ولو كان هذا هو
المراد لما حسن استثناء المؤمنين من ذلك، لأن الهرم قد يصيب
بعضهم إنما المراد ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ أي إلى
النار، كقوله وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.
(4/464)
القوََّة. والسافلون: هم الضعفاء،
والزَّمنى، والأطفال، والشيخ الكبير أسفل هؤلاء جميعاً، قال
الفراء:
وإنما قال: «سافلين» على الجمع، لأن الإنسان في معنى جمع.
تقول: هذا أفضل قائم، ولا تقول:
قائمين، لأنك تريد واحداً، فإذا لم ترد واحداً ذكرته بالتوحيد
وبالجمع. والثاني: إلى النار، قاله الحسن، وأبو العالية،
ومجاهد. والمعنى: إنا نفعل هذا بكثير من الناس. تقول العرب:
أنفق فلان ماله على فلان، وإنما أنفق بعضه، ومثله قوله عزّ
وجلّ: الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى «1» لم يُرِدْ كُلَّ
ماله. ثم استثنى من الإنسان فقال عزّ وجلّ: إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا لأن معنى الإنسان الكثير. وللمفسرين في معنى الاستثناء
قولان: أحدهما: إلا الذين آمنوا، فإنهم لا يُرَدُّون إلى
الخَرَف، وأَرْذَل العُمُر وإن عُمِّروا طويلاً، وهذا على
القول الأول. قال ابن عباس: من قرأ القرآن لم يُردّ إِلى أرذل
العمر. وقال إبراهيم النخعي: إذا بلغ المؤمن من الكِبَر ما
يعجز عن العمل كُتِبَ له ما كان يعمل، وهو قوله عزّ وجلّ:
فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ وقال ابن قتيبة: المعنى: إلا
الذين آمنوا في وقت القوَّة والقدرة، فإنهم في حال الكِبَر غير
منقوصين وإن عجزوا عن الطاعات، لأنّ الله عزّ وجلّ يعلم أنه لو
لم يسلبهم القوَّة لم ينقطعوا عن أفعال الخير، فهو يجري لهم
أجر ذلك. والثاني: إلا الذين آمنوا، فإنهم لا يُرَدُّون إلى
النار. وهذا على القول الثاني. وقد شرحنا معنى «الممنون» في
«ن» «2» .
قوله عزّ وجلّ: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ فيه قولان:
أحدهما: فما يكذِّبك أيها الإنسان بعد هذه الحجة «بالدِّين»
أي: ما الذي يجعلك مكذِّباً بالجزاء؟!، وهذا توبيخ للكافر، وهو
معنى قول مقاتل.
وزعم أنها نزلت في عدي بن ربيعة. والثاني: فمن يقدر على تكذيبك
بالثواب والعقاب بعد ما تبين له خلقُنا الإنسان على ما وصفنا،
قاله الفراء. فأما «الدِّين» فهو الجزاء. والمشار إليه بذكره
إلى البعث، كأنه استدلّ بتقلّب الأحوال على البعث.
قوله عزّ وجلّ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ أي:
بأقضى القاضين. قال مقاتل: يحكم بينك وبين مكذِّبيك. وذكر بعض
المفسرين: أن معنى هذه الآية تسليته في تركهم والإعراض عنهم.
ثم نسخ هذا المعنى بآية السيف.
__________
(1) الليل: 18.
(2) ن: 3.
(4/465)
اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ
(2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ
بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ
اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ
الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ
إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12)
أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ
بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ
خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ
الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ
وَاقْتَرِبْ (19)
سورة العلق
وتسمّى: سورة القلم، وسورة اقرأ، وهي مكّيّة بإجماعهم. وهي أول
ما نزل من القرآن. وقيل:
إنما أنزل عليه في أول الوحي خمس آيات منها، ثم نزل باقيها في
أبي جهل.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ
الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ
(3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)
عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5)
قوله تعالى: اقْرَأْ قرأ أبو جعفر بتخفيف الهمزة في الحرفين.
قال أبو عبيدة: المعنى: «اقرأ اسم ربك» والباء زائدة.
وقال المفسرون: المعنى: اذكر اسمه مستفتحا به قراءتك. وإنما
قال عزّ وجلّ: الَّذِي خَلَقَ لأن الكفار كانوا يعلمون أنه
الخالق دون أصنامهم. والإنسان هاهنا: ابن آدم. والعلق: جمع
علقة، وقد بَيَّنَّاها في سورة الحج «1» قال الفراء: لما كان
الإنسان في معنى الجمع جمع العلق مع مشاكلة رؤوس الآيات..
قوله تعالى: اقْرَأْ تكرير للتأكيد. ثم استأنف فقال عزّ وجلّ:
وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ قال الخطّابي:
الأكرم: الذي لا يوازيه كريم، ولا يعادله في الكرم نظير. وقد
يكون الأكرم بمعنى الكريم، كما جاء الأعَزُّ والأطول، بمعنى
العزيز والطويل. وقد سبق تفسير الكريم.
قوله عزّ وجلّ: الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي: علم الإنسان
الكتابة بالقلم عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ من الخط،
والصنائع، وغير ذلك. وقيل: المراد بالإنسان هاهنا: محمّد صلّى
الله عليه وسلم.
[سورة العلق (96) : الآيات 6 الى 19]
كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى
(7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي
يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10)
أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ
بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13)
أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ
يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15)
ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17)
سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ
وَاقْتَرِبْ (19)
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا أي: حقاً. وقال مقاتل: كَلَّا لا يعلم
أن الله علمه. ثم استأنف فقال
__________
(1) مضى في أول سورة الحج.
(4/466)
عزّ وجلّ: إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى
يعني: أبا جهل. وكان إذا أصاب مالاً أَشر وبَطِرَ في ثيابه،
ومراكبه، وطعامه قوله: أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى قال ابن قتيبة:
أي: أن رأى نفسه استغنى. و «الرُّجْعى» المرجع.
قوله عزّ وجلّ: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى معنى: أرأيت: تعجيب
المخاطب، وإنما كررها للتأكيد والتعجيب. والمراد بالناهي
هاهنا: أبو جهل.
(1545) قال أبو هريرة: قال أبو جهل: هل يعفِّر محمَّدٌ وجهه
بين أظهركم؟ قالوا: نعم. قال:
فبالذي يحلف به لئن رأيته يفعل ذلك لأطأنّ على رقبته. فقال له:
ها هو ذاك يصلي. فانطلق لِيَطَأَ على رقبته، فما فجأهم إلا وهو
ينكص على عقبيه، ويتَّقي بيديه، فأتوه، فقالوا: ما لك يا أبا
الحكم؟ فقال:
إن بيني وبينه خندقاً من نار، وهولاً وأَجْنِحَةً. وقال نبي
الله صلّى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده لو دنا مني
لاختطفته الملائكة عضواً عضواً» ، فأنزل الله تعالى:
أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى إلى آخر السورة.
(1546) وقال ابن عباس: كان النبيّ صلّى الله عليه وسلم يصلي،
فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا؟! فانصرف إليه النبيّ صلّى
الله عليه وسلم فَزَبَرَه «1» ، فقال أبو جهل: والله إنك لتعلم
ما بها نادٍ أكثر مني، فأنزل الله تعالى:
فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ قال ابن
عباس: والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله.
قال المفسرون: والمراد بالعبد هاهنا: محمد صلّى الله عليه
وسلم. وقيل: كانت الصلاة صلاة الظّهر.
قوله عزّ وجلّ: أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى يعني
المنهي وهو النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
قوله عزّ وجلّ: أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى يعني:
الناهي، وهو أبو جهل، قال الفراء: والمعنى:
أرأيتَ الذي ينهى عبداً إذا صلى، وهو كاذب مُتَوَلٍّ عن
الذّكر، وأيّ شيء أعجب من هذا؟! وقال ابن الأنباري: تقديره:
أرأيته مصيبا.
قوله عزّ وجلّ: أَلَمْ يَعْلَمْ يعني أبا جهل بِأَنَّ اللَّهَ
يَرى ذلك فيجازيه كَلَّا أي: لا يعلم ذلك لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ
عن تكذيب محمد وشتمه وإيذائه لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ
السفع: الأخذ، والناصية: مقدّم شعر الرأس. قال أبو عبيدة:
يقال: سفعتُ بيده، أي: أخذتُ بها. وقال الزجاج: يقال: سفعتُ
بالشيء: إذا قبضتَ عليه وجذبته جذباً شديداً. والمعنى: لنجرّنّ
ناصيته إلى النّار.
__________
صحيح. أخرجه مسلم 2797 والبغوي في «التفسير» 2372 من طريق عبيد
الله بن معاذ ومحمد بن الأعلى القيسي من حديث أبي هريرة.
وأخرجه النسائي في «الكبرى» 11683 وأحمد 2/ 370 وابن حبان 6571
والبيهقي 2/ 19 وأبو نعيم في «الدلائل» 158 والواحدي في
«الوسيط» 4/ 529 من طرق عن معتمر بن سليمان به. وأخرجه الطبري
37687 من طريق ابن ثور عن أبيه عن نعيم بن أبي هند به.
صحيح. أخرجه البخاري 4958 وعبد الرزاق في «التفسير» 3660
والطبري 37689 من حديث ابن عباس.
__________
(1) فزبره: نهره وأغلظ عليه. قلت: وما زالت هذه الآية التي
نزلت في شأن أبي جهل مستمرة شاملة لكل من يمنع الصلاة بأي شكل
من الأشكال، سواء كانت بالقوة، أو بمجرد تخويف، أو تهديد وسواء
كان في الأماكن العامة أو بالأماكن الخاصة، وسواء كان مباشر،
أو بصورة غير مباشرة، فهؤلاء كلهم آباء جهل وهم أشد الناس
عذابا يوم القيامة إذ لا يعبدون الله، وإذا عبدوا كانوا يراءون
الناس، ومع ذلك يصدون عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون. نسأل
الله السلامة، وحسن الختام.
(4/467)
قوله عزّ وجلّ: ناصِيَةٍ قال أبو عبيدة: هي
بدل، فلذلك جَرَّها. قال الزجاج: والمعنى: بناصية صاحبُها
كاذبٌ خاطئ، كما يقال: نهارُه صائم، وليله قائم، أي: هو صائم
في نهاره، قائم في ليله فَلْيَدْعُ نادِيَهُ أي: أهل ناديه،
وهم أهل مجلسه فليستنصرهم سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ قال عطاء: هم
الملائكة الغِلاظ الشِّداد، وقال مقاتل: هم خَزَنَةُ جهنم.
وقال قتادة: الزَّبانية في كلام العرب: الشُّرَط. قال الفراء:
كان الكسائي يقول: لم أسمع للزَّبانية بواحد، ثم قال بأَخَرة:
واحد الزبانية: زِبْنِيٌّ، فلا أدري أقياساً منه أو سماعاً.
وقال أبو عبيدة: واحد الزبانية: زِبْنِيَة، وهو كل متمرِّد من
إنس، أو جان. يقال:
فلان زِبْنِيَة عِفْرِيَة. قال ابن قتيبة: وهو مَأْخوذٌ من
الزَّبْن، وهو الدَّفْع، كأنهم يدفعون أهل النّار إليها.
وقال ابن دريد: الزَّبْن: الدفع. يقال: ناقة زبون: إذا
زَبَنَتْ حالبها. ودفعته برجلها. وتَزَابَنَ القوم:
تدارؤوا. واشتقاق الزبانية من الزَّبْن. والله أعلم.
قوله عزّ وجلّ: كَلَّا أي: ليس الأمر على ما عليه أبو جهل لا
تُطِعْهُ في ترك الصلاة وَاسْجُدْ أي: صَلِّ لله وَاقْتَرِبْ
إليه بالطاعة، وهذا قول الجمهور أنّ قوله عزّ وجلّ:
وَاقْتَرِبْ خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلم. وقد قيل: إنه
خطاب لأبي جهل: ثم فيه قولان: أحدهما: أن المعنى: اسجد أنت يا
محمد، واقترب أنت يا أبا جهل إلى النَّار، قاله زيد بن أسلم.
والثاني: واقترب يا أبا جهل تَهَدَّدَاً له، رواه أبو سليمان
الدمشقي عن بعض القُدَماء وهذا يشرحه حديث أبي هريرة الذي
قدَّمناه.
(1547) وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
«أقرب ما يكون العبد من ربّه وهو ساجد فأكثروا الدّعاء» .
__________
صحيح. أخرجه مسلم 482 والنسائي 2/ 226 وأحمد 2/ 421 وأبو يعلى
6658 وابن حبان 1928 وأبو عوانة 2/ 180 والبيهقي 2/ 110 من طرق
عن ابن وهب به. من حديث أبي هريرة. وأخرجه أبو داود 875 عن
أحمد بن صالح وأحمد بن عمرو، ومحمد بن سلمة به. وأخرجه البغوي
في «شرح السنة» 659 وفي «التفسير» 2373 من طريق أبي داود
سليمان بن الأشعث به.
(4/468)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ
الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ
(3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ
رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ
الْفَجْرِ (5)
سورة القدر
وفيها قولان: أحدهما: أنها مكّيّة، رواه أبو صالح عن ابن عباس.
والثاني: أنها مدنيّة، قاله الضّحّاك، ومقاتل. قال الماورديّ:
الأول قول الأكثرين. وقال الثّعلبي: الثاني قول الأكثرين.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ
ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ
أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها
بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)
سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
قوله عزّ وجلّ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ يعني: القرآن فِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ وذلك أنه أنزل جملةً في تلك الليلة إلى بيت
العِزَّة، وهو بيت في السماء الدنيا. وقد ذكرنا هذا الحديث في
أول كتابنا. والهاء في «إنا أنزلناه» كناية عن غير مذكور. وقال
الزجاج: قد جرى ذكره في قوله عزّ وجلّ: إِنَّا أَنْزَلْناهُ
فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ.
فأما لَيْلَةُ الْقَدْرِ ففي تسميتها بذلك خمسة أقوال: أحدها:
أن القَدْرَ: العظمةُ، من قولك:
لفلان قَدْر، قاله الزهري. ويشهد له قوله عزّ وجلّ: وَما
قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «1» . والثاني: أنه من الضيق،
أي: هي ليلة تضيق فيها الأرض عن الملائكة الذين ينزلون، قاله
الخليل بن أحمد، ويشهد له قوله: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ
رِزْقُهُ «2» . والثالث: أنّ القدر: الحكم كأن الأشياء يقدّر
فيها، قاله ابن قتيبة.
والرابع: لأن من لم يكن له قَدْر صار بمراعاتها ذَا قَدْر،
قاله أبو بكر الورَّاق. والخامس: لأنه نزل فيها كتاب ذُو قَدر،
وتنزل فيها رحمة ذات قَدْر، وملائكةٌ ذوُو قَدْر، حكاه شيخنا
عليّ بن عبيد الله.
فصل
«3» : اختلف العلماء هل ليلة القدر باقية، أم كانت في زمن
النبيّ صلّى الله عليه وسلم خاصّة؟ والصحيح بقاؤها.
__________
(1) الأنعام: 91، والزمر: 67.
(2) الطلاق: 7.
(3) قال ابن العربي رحمه الله في «تفسيره» 4/ 433، في الصحيح
فيها وترجيح سبل النظر الموصلة إلى الحق منها: أنا نقول: إن
الله تبارك وتعالى قال: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ
شَهْرٍ فأفاد هذا بمطلقه، لو لم يكن كلام سواه، أنها في العام
كله، لقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ
فأنبأنا الله أنه أنزله في ليلة من العام، فقلنا:
من يقم الحول يصب ليلة القدر، ثم نظرنا إلى قوله شَهْرُ
رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ فأفادنا ذلك أن
تلك الليلة هي من شهر رمضان، ثم أخبر في الصحيح أنها في العشر
الأواخر، وتواطأت روايات الصحابة على أنها في العشر الأواخر،
وخبأها عن التعيين ليكون ذلك أبرك على الأمة في القيام في
طلبها شهرا أو أياما، فيحصل مع ليلة القدر ثواب غيرها، فهذه
سبل النظر المجتمعة من القرآن والحديث أجمع- على ما سيأتي-
فتبصروها لمما، واسلكوها أمما إن شاء الله.
(4/469)
وهل هي في جميع السنة، أم في رمضان؟ وفيه
قولان: أحدهما: في رمضان، قاله الجمهور والثاني: في جميع
السنة، قاله ابن مسعود.
واختلف القائلون بأنها في شهر رمضان هل تختص ببعضه دون بعض؟
على قولين: أحدهما: أنها في العشر الأواخر، قاله الجمهور،
وأكثر الأحاديث الصّحاح تدل عليه.
(1548) وقد روى البخاري في أفراده من حديث ابن عباس، عن النبيّ
صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «التمسوها في العشر الأواخر من
رمضان، في تاسعةٍ تبقى، أو سابعة تبقى أو في خامسة تبقى» .
(1549) وفي حديث أبي بَكْرَة قال: ما أنا بملتمسها لشيء سمعته
من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إلاَ في العشر الأواخر،
فإني سمعته يقول: «التمسوها في تسع يبقين، أو سبع يبقين، أو
خمس يبقين، أو ثلاث يبقين، أو آخر ليلة» .
والقول الثاني: أنها في جميع رمضان، قاله الحسن البصري.
واختلف القائلون بأنها في العشر الأواخر هل تختص ليالي الوتر
دون الشفع؟ على قولين:
أحدهما: أنها تختص الأفراد، قاله الجمهور. والأحاديث الصحاح
كلها تدل عليه.
(1550) وقد أخرج البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي سعيد
الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ابتغوها في
العشر الأواخر في الوتر منها» .
والثاني: أنها تكون في الشفع كما تكون في الوتر، قاله الحسن.
وروي عن الحسن ومالك بن أنس قالا: هي ليلة ثماني عشرة.
واختلف القائلون بأنها في الأفراد في أخص الليالي بها على خمسة
أقوال: أحدها: أن الأخص بها ليلة إحدَى وعشرين.
(1551) فروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» من حديث أبي سعيد
الخدري قال: اعتكف
__________
صحيح. أخرجه البخاري 2021 من حديث ابن عباس ولم أره بهذا اللفظ
لا في الموطأ ولا في مسلم.
- وانظر الحديث الآتي عن أبي سعيد الخدري.
صحيح. أخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 535- 536 من طريق عبد الله
بن حامد بهذا الإسناد. وأخرجه الترمذي 794 والحاكم 1/ 438
وأحمد 5/ 36 و 39 و 40 وابن خزيمة 2175 والطيالسي 881 والبيهقي
في «الشعب» 3681 من حديث أبي بكرة، وإسناده صحيح.
صحيح. أخرجه البخاري 2027 وأبو داود 1382 وابن خزيمة 2243 وابن
حبان 3673 والبيهقي 4/ 309 من طرق عن مالك به. من حديث أبي
سعيد. وأخرجه البخاري 2018 من طريق ابن أبي حازم والدراوردي عن
يزيد به. وأخرجه مسلم 1167 ح 215 وابن خزيمة 2171 وابن حبان
3684 والبيهقي 4/ 314- 305 من طريق عمارة بن غزية، عن محمد بن
إبراهيم به. وأخرجه البخاري 2040 وأحمد 3/ 7 و 24 والحميدي 756
من طرق عن أبي سلمة به. وأخرجه البخاري 669 و 813 و 2016 ومسلم
1167 ح 216 وأحمد 3/ 60 و 74 و 94 والطيالسي 3187 وعبد الرزاق
8685 وابن أبي شيبة 3/ 76- 77- وابن حبان 3685 من طرق عن يحيى
بن أبي كثير عن أبي سلمة. وأخرجه مالك 1/ 319 والبغوي في «شرح
السنة» 1819 عن يزيد بن عبد الله به.
هو الحديث المتقدم 1550.
(4/470)
رسول الله صلّى الله عليه وسلم العشر
الأوسط واعتكفنا معه، فلما أصبحنا صبيحة عشرين رجع، ورجعنا
معه، وأُرِيَ ليلةَ القدر، ثم أُنسيها، فقال: «إني رأيتُ ليلة
القدر، ثم أُنسيتها وأُراني أسجد في ماء وطين، فمن اعتكف
فليرجع إلى مُعتَكفه، وهاجت علينا السماء آخر تلك العشية، وكان
سَقْفُ المسجد عريشاً من جريد، فوكف المسجد فو الذي هو أكرمه،
وأنزل عليه الكتاب لَرَأَيْتُه يصلي بنا المغرب ليلة إحدى
وعشرين، وإن جبهته وأرنبة أنفه لفي الماء والطين، وهذا مذهب
الشافعي.
والثاني: أن الأخص بها ليلة ثلاث وعشرين.
(1552) وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال
ليلة ثلاث وعشرين: «اطلبوها الليلة» .
(1553) وروى ابن عمر عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم أنه قال:
«من كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئاً فليقم ليلة ثلاث
وعشرين» .
(1554) وروى مسلم في أفراده من حديث عبد الله بن أُنَيْس، أن
رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال: أريت ليلة القدر، ثم
نسيتها، وأراني صبيحتها أسجد في ماء وطين. قال: فمطرنا ليلة
ثلاث وعشرين، فصلّى بنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأبصرته
وإن أثر الماء والطين على جبهته وأنفه. قال: وكان عبد الله بن
أُنَيْس يقول: ليلة ثلاث وعشرين.
(1555) والثالث: ليلة خمس وعشرين وروى هذا المعنى أبو بكرة عن
النبيّ صلّى الله عليه وسلم.
والرابع: ليلة سبع وعشرين.
(1556) روى مسلم في أفراده من حديث ابن عمر عن رسول الله صلّى
الله عليه وسلم أنه قال: من كان متحرّيا
__________
صحيح. أخرجه ابن ماجة 1656 وأحمد 2/ 251 وابن حبان 2548
والبيهقي 4/ 310 والواحدي في «الوسيط» 4/ 534 من حديث أبي
هريرة، وإسناده على شرط الشيخين.
صحيح. أخرجه البخاري 2015 ومسلم 1165 ح 205 وابن حبان 3675
والبيهقي 4/ 310 و 311 من طرق عن مالك به- وأخرجه مالك 1/ 331
والبغوي في «شرح السنة» 1817 عن نافع به. وأخرجه البخاري 1158
وأحمد 2/ 17 وعبد الرزاق 7688 وابن خزيمة 2182 والبيهقي 4/
310- 311 من طريق عن نافع به. وأخرجه البخاري 6991 ومسلم 1165
ح 207 وأحمد 2/ 37 والدارمي 2/ 28 والبيهقي 4/ 311 من طريق
الزهري عن سالم بن عبد الله عن ابن عمر به. وأخرجه ابن خزيمة
2222 من طريق حنظلة بن أبي سفيان عن سالم بن عبد الله عن ابن
عمر به. وأخرجه مسلم 1165 ح 208 وأحمد 2/ 8 و 36 وعبد الرزاق
7681 من طرق عن الزهري عن سالم عن ابن عمر.
صحيح. أخرجه مسلم 1168 وأبو داود 1379 ومالك 1/ 320 وأحمد 3/
495 وعبد الرزاق في «المصنف» 7689 و 7690 و 7694 وابن نصر في
«قيام رمضان» 40 والطحاوي في «المعاني» 3/ 86- 90 والبيهقي 4/
309 من حديث عبد الله بن أنيس. وأخرجه أبو داود 1380 وابن نصر
في «قيام رمضان» 39 وابن خزيمة 2200 والبيهقي 4/ 309 والبغوي
في «شرح السنة» 1820 وفي «التفسير» 4/ 511 من طريق محمد بن
إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن عبد الله بن أنيس عن أبيه أنه قال
لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: مرني بليلة من هذا الشهر
أنزلها إلى المسجد فأصليها فيه، فقال: «انزل ليلة ثلاث وعشرين
فصلها فيه ... » . ورجاله ثقات، وابن إسحاق صرح بالتحديث.
وانظر «أحكام القرآن» 2342- 2341.
هو الحديث المتقدم برقم 1549.
صحيح. أخرجه مسلم 1165 ح 207 وأحمد 2/ 27 من حديث ابن عمر.
وانظر «فتح الباري» 4/ 264
(4/471)
فليتحرها ليلة سبع وعشرين، يعني: ليلة
القدر، وهذا مذهب عليٍّ وأُبَيِّ بن كعب.
(1557) وكان أُبَيٌّ يحلف لا يستثني أنها ليلة سبع وعشرين، وبه
قال ابن عباس، وعائشة، ومعاوية. واختاره أحمد بن حنبل رضي الله
عنه.
وروى ابن عباس: أنه استدل على ذلك بشيئين: أحدهما: أنه قال: إن
الله تعالى خلق الإنسان على سبعة أصناف، يشير إلى قوله عزّ
وجلّ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ الآيات
«1» . ثم جعل رزقه في سبعة أصناف يشير إلى قوله عزّ وجلّ.
أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا «2» ثم يصلّي الجمعة على رأس
سبعة أيام. وجعل السموات سبعاً، والأرضين سبعاً، والمثاني
سبعاً «3» ، فلا أرى ليلة القدر إلّا ليلة السابعة.
والثاني: أنه قال: قوله عزّ وجلّ: سَلامٌ هي الكلمة السابعة
والعشرون، فدل على أنها كذلك.
واحتج بعضهم فقال: ليلة القدر كُرِّرت في هذه السورة ثلاث
مرات، وهي تسعة أحرف، والتسعة إذا كُرِّرت ثلاثاً فهي سبع
وعشرون، وهذا تنبيه على ذلك.
والقول الخامس: أن الأولى طلبها في أول ليلة من رمضان، قاله
أبو رزين العقيلي.
وروى أيوب عن أبي قُلابة أنه قال: ليلة القدر تنتقل في العشر
الأواخر.
فأما الحكمة في إخفائها فليتحقق اجتهاد العباد في ليالي رمضان
طَمَعاً منهم في إدراكها، كما أخفى ساعة الجمعة، وساعة الليل،
واسمه الأعظم، والصلاة الوسطى، والوليّ في الناس.
قوله عزّ وجلّ: وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ هذا على
سبيل التعظيم والتّشوّق إلى خيرها.
قوله عزّ وجلّ: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ
قال مجاهد: قيامها والعمل فيها خير من قيام ألف شهر وصيامها
ليس فيها ليلة القدر، وهذا قول قتادة، واختيار الفراء، وابن
قتيبة، والزجاج.
(1558) وروى عطاء عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه
وسلم ذُكِرَ له رجل من بني إسرائيل حمل السلاح
__________
وانظر «الجامع لأحكام القرآن» 6421.
صحيح. أخرجه مسلم 2/ 828 ح 220 والحميدي 375 وابن خزيمة 2191
وابن حبان 3689 والبيهقي 4/ 312 من طرق عن سفيان بن عيينة عن
عبدة بن أبي لبابة، وعاصم عن زر بن حبيش به.
وأخرجه مسلم 762 ح 180 والواحدي في «الوسيط» 4/ 535 من طرق
شعبة عن عبدة بن أبي لبابة عن زر به مختصرا. وأخرجه أبو داود
1378 والترمذي 793 وعبد الرزاق 7700 وابن خزيمة 2193 وابن حبان
3691 والواحدي في «الوسيط» 4/ 533. وأخرجه ابن أبي شيبة 3/ 76
من طريق أبي خالد وعامر الشعبي عن زر به.
وأخرجه مسلم 762 ح 179 وابن حبان 3690 من طريق الأوزاعي عن
عبدة عن زر به. وهم جميعا من حديث زر بن حبيش قال: قلت لأبي بن
كعب: يا أبا المنذر أخبرنا عن ليلة القدر، فإن ابن مسعود عبد
الله يقول: من يقم الحول يصبها فقال: رحم الله أبا عبد الرحمن،
أما إنه قد علم أنها في رمضان ولكن كره أن يخبركم فتتكلوا. هي
والذي أنزل القرآن على محمد صلّى الله عليه وسلم ليلة سبع
وعشرين، فقلنا: يا أبا المنذر أنى علمت هذا؟ قال: بالآية التي
أخبرنا النبي صلّى الله عليه وسلم فحفظناها وعددناها هي والله
لا تنس، قال قلنا: وما الآية؟ قال: تطلع الشمس كأنها طاس ليس
لها شعاع.
ضعيف جدا. ذكره المصنف عن عطاء عن ابن عباس ولم أره عنه مسندا.
وأخرجه الواحدي في «أسباب النزول» 864 والبيهقي في «الشعب»
3668 وابن أبي حاتم كما في «تفسير ابن-
__________
(1) المؤمنون: 12.
(2) عبس: 25. [.....]
(3) الفاتحة: وهي سبع آيات.
(4/472)
على عاتقه في سبيل الله ألف شهر، فعجب رسول
الله صلّى الله عليه وسلم لذلك، وتمنَّى أن يكون ذلك في أمته،
فأعطاه الله ليلة القدر، وقال: هي خير من ألف شهر التي حمل
فيها الاسرائيلي السلاح في سبيل الله عزّ وجلّ.
وذكر بعض المفسرين أنه كان الرجل فيما مضى لا يستحق أن يقال
له: عابد حتى يعبد الله ألف شهر كانوا يعبدون فيها.
قوله عزّ وجلّ: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ «1» قال أبو هريرة:
الملائكة ليلة القدر في الأرض أكثر من عدد الحصا.
وفي «الروح» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه جبريل، قاله الأكثرون.
(1559) وفي حديث أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال:
إذا كانت ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة يصلُّون
ويسلِّمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله عزّ وجلّ.
والثاني: أن الروح: طائفة من الملائكة لا تراهم الملائكة إلا
تلك الليلة ينزلون من لدن غروب الشمس إلى طلوع الفجر، قاله
كعب، ومقاتل بن حيان.
والثالث: أنه ملَك عظيم يفي بخلق من الملائكة، قاله الواقدي.
قوله عزّ وجلّ: فِيها أي: في ليلة القدر بِإِذْنِ رَبِّهِمْ
أي: بما أمر به وقضاه مِنْ كُلِّ أَمْرٍ قال ابن قتيبة: أي:
بكل أمر. قال المفسرون: يتنزَّلون بكل أمر قضاه الله في تلك
السنة إلى قابل. وقرأ ابن عمر، وابن عباس وأبو العالية، وأبو
عمرو الجونيّ «من كل امرئ» بكسر الراء وبعدها همزة مكسورة
منوَّنة، وبوصل اللام من غير همز.
ولهذه القراءة وجهان: أحدهما: من كل مَلَك سلام. والثاني: أن
تكون «من» بمعنى «على» تقديره: على كل أمر من المسلمين سلام من
الملائكة، كقوله عزّ وجلّ: وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ
الَّذِينَ كَذَّبُوا والقراءة الموافقة لخط المصحف هي الصواب.
ويكون تمام الكلام عند قوله عزّ وجلّ «من كل أمر» ثم ابتدأ
فقال عزّ وجلّ: سَلامٌ هِيَ أي: ليلة القدر سلام.
وفي معنى السلام قولان: أحدهما: أنه لا يحدث فيها داءٌ ولا
يُرسَل فيها شيطان، قاله مجاهد.
والثاني: أن معنى السلام: الخير والبركة، قاله قتادة. وكان بعض
العلماء يقول: الوقف على «سلام» على معنى تنزَّل الملائكة
بالسلام.
__________
كثير» 4/ 567، وهذا مرسل، فهو واه. وأخرجه الطبري 37713 عن
مجاهد موقوفا عليه، وهو أصح.
الخلاصة: المرفوع واه، والصواب عن أهل التفسير. وانظر «أحكام
القرآن» 2337.
ضعيف جدا. أخرجه البيهقي في «الزهد» 3717 من حديث أنس بأتم
منه، وفيه صرح بن حوشب وهو متروك متهم.
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 634: أي يكثر تنزل
الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها، والملائكة ينزلون مع
تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ويحيطون
بحلق الذكر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيما له.
(4/473)
قوله عزّ وجلّ: حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ
قرأ ابن كثير، ونافع، وعاصم، وأبو عمرو، وابن عامر، وحمزة
«مطلَع» بفتح اللام. وقرأ الكسائي بكسرها. قال الفراء: والفتح
أقوى في قياس العربية، لأن المطلَع بالفتح: الطّلوع، وبالكسر:
الموضع الذي تطلع منها، إلا أن العرب تقول: طلعت الشمس
مطلِعاً، بالكسر، وهم يريدون المصدر، كما تقول: أكرمتك كرامة،
فتجتزئ بالاسم من المصدر. وقد شرحنا هذا المعنى في «الكهف» «1»
عند قوله عزّ وجلّ: مَطْلِعَ الشَّمْسِ. شرحا كافيا، ولله
الحمد.
__________
(1) الكهف: 9.
(4/474)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ
مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ
مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ
قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا
أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا
الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ
الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ
رَبَّهُ (8)
سورة البيّنة
وتسمى سورة لم يكن «1» . وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة،
قاله الجمهور. والثاني: مكّيّة، قاله أبو صالح عن ابن عباس،
واختاره يحيى بن سلام.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ
وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ
الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً
مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ
الْبَيِّنَةُ (4)
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ
وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ
خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ
خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ
عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها
أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ
خَشِيَ رَبَّهُ (8)
قوله عزّ وجلّ: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ يعني اليهود والنصارى وَالْمُشْرِكِينَ أي:
ومن المشركين، وهم عبدة الأوثان مُنْفَكِّينَ أي: منفصلين
وزائلين- يقال: فككت الشيء، فانفك، أي: انفصل- والمعنى: لم
يكونوا زائلين عن كفرهم وشركهم حَتَّى تَأْتِيَهُمُ أي: أتتهم،
فلفظه لفظ المستقبل، ومعناه الماضي. والْبَيِّنَةُ الرّسول،
وهو محمّد صلّى الله عليه وسلم وذلك أنه بَيَّنَ لهم ضلالهم
وجهلهم.
وهذا بيان عن نعمة الله على من آمن من الفريقين إذ أنقذهم.
وذهب بعض المفسرين إلى أن معنى الآية:
لم يختلفوا أن الله يبعث إليهم نبياً حتى بعث فافترقوا. وقال
بعضهم: لم يكونوا ليتركوا منفكين عن حجج الله حتى أُقيمت عليهم
البَيِّنة، والوجه هو الأول. والرسول هاهنا محمّد صلّى الله
عليه وسلم. ومعنى يَتْلُوا صُحُفاً أي: ما تضمنته الصحف من
المكتوب فيها، وهو القرآن. ويدل على ذلك أنه كان يتلو القرآن
عن ظهر قلبه لا من كتاب. ومعنى «مُطَهرة» أي: من الشرك
والباطل. فِيها أي: في الصحف كُتُبٌ قَيِّمَةٌ أي: عادلة
مستقيمة تُبِيِّن الحق من الباطل، وهي الآيات. قال مقاتل:
وإنما قيل لها:
كتب لما جمعت من أمور شتّى.
__________
(1) أخرج البخاري 4959 و 4960 ومسلم 799 والترمذي 3792 وأحمد
3/ 85 وابن سعد 2/ 340 وعبد الرزاق 20411 وأبو يعلى 2995 وابن
حبان 7144 من حديث أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلم قال لأبيّ
بن كعب: «إن الله قد أمرني أن أقرأ عليك لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ
كَفَرُوا، قال: وسماني لك؟ قال نعم، فبكى» .
(4/475)
قوله عزّ وجلّ: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ يعني: من لم يؤمن منهم إِلَّا مِنْ بَعْدِ
ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنه
محمّد صلّى الله عليه وسلم. والمعنى: لم يزالوا مجتمعين على
الإيمان به حتى بُعِث، قاله الأكثرون. والثاني: القرآن، قاله
أبو العالية. والثالث: ما في كتبهم من بيان نُبُوَّتِهِ، ذكره
الماوردي. وقال الزجاج: وما تَفَرَّقوا في كفرهم بالنبيِّ إلا
من بعد أن تَبَيَّنوا أنه الذي وُعِدُوا به في كتبهم.
قوله عزّ وجلّ: وَما أُمِرُوا أي: في كتبهم إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ. أي: إلا أن يعبدوا الله. قال الفراء:
والعرب تجعل اللام في موضع «أن» في الأمر والإرادة كثيرا،
كقوله عزّ وجلّ: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ «1» ،
ويُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ «2» . وقال في الأمر:
وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ «3» .
قوله عزّ وجلّ: مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: موحِّدين لا
يعبدون سواه حُنَفاءَ على دين إبراهيم وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ
المكتوبة في أوقاتها وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ عند وجوبها وَذلِكَ
الذي أُمروا به هو دِينُ الْقَيِّمَةِ قال الزجاج: أي دين
الأمة القيِّمة بالحق. ويكون المعنى: ذلك الدِّينُ دين الملة
المستقيمة «4» .
قوله عزّ وجلّ: أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ قرأ نافع،
وابن ذكوان عن ابن عامر بالهمزة في الكلمتين وقرأ الباقون بغير
همز فيهما. قال ابن قتيبة: البريَّة: الخلق. وأكثر العرب
والقراء على ترك همزها لكثرة ما جرت عليه الألسنة، وهي فعيلة
بمعنى مفعولة. ومن الناس من يزعم أنها مأخوذة من بَرَيْتُ
العود، ومنهم من يزعم أنها من البَرَى وهو التراب أي خلق من
التراب، وقالوا: لذلك لا يهمز، وقال الزّجّاج:
لو كانت من البَرَي وهو التَراب لما قرنت بالهمز، وإنما
اشتقاقها من بَرَأ الله الخلق، وقال الخطابي:
أصل البريَّة الهمز، إلا أنهم اصطلحوا على ترك الهمز فيها. وما
بعده ظاهر إلى قوله عزّ وجلّ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قال
مقاتل: رضي الله عنهم بطاعته وَرَضُوا عَنْهُ بثوابه. وكان بعض
السلف يقول: إذا كنت لا ترضى عن الله، فكيف تسأله الرضى عنك؟!
قوله عزّ وجلّ: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ أي خافه في
الدنيا، وتناهى عن معاصيه «5» .
__________
(1) النساء: 26.
(2) الصف: 8.
(3) الصف: 8.
(4) الأنعام: 71.
(5) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 643: وقد استدل
كثير من الأئمة كالزهري والشافعي بهذه الآية الكريمة على أن
الأعمال داخلة في الإيمان، ولهذا قال: وَما أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ
وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ
الْقَيِّمَةِ. قال ابن العربي رحمه الله في «الإحكام» 4/ 437:
أمر الله عباده بعبادته، وهي أداء الطاعة له بصفة القربة، وذلك
بإخلاص النية بتجريد العمل عن كل شيء إلا لوجهه، وذلك هو
الإخلاص. وإذا ثبت هذا فالنية واجبة في التوحيد، لأنها عبادة،
فدخلت تحت هذا العموم دخول الصلاة، فإن قيل: فلم خرجت عنه
طهارة النجاسة، وذلك يعترض عليكم في الوضوء؟ قلنا: إزالة
النجاسة معقولة المعنى، لأن الغرض منها إزالة العين لكن بمزيل
مخصوص فقد جمعت عقل المعنى وضربا من التعبد، كالعدة جمعت بين
براءة الرحم والتعبد، حتى صارت على الصغيرة واليائسة اللتين
تحقق براءة رحمهما قطعا، وليس في الوضوء غرض ناجز إلا مجرد
التعبد، بدليل أنه لو أكمل الوضوء وأعضاؤه تجري بالماء، وخرج
منه ريح بطل وضوءه.
(4/476)
إِذَا زُلْزِلَتِ
الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ
أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3)
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ
أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا
لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ
ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرًّا يَرَهُ (8)
سورة الزّلزلة
وفيها قولان: أحدهما: أنها مدنيّة، قاله ابن عباس، وقتادة،
ومقاتل، والجمهور. والثاني:
مكّيّة، قاله ابن مسعود، وعطاء وجابر.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ
الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3)
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)
بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ
أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ
ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
قوله عزّ وجلّ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها أي:
حُرِّكت حركةً شديدةً، وذلك عند قيام الساعة.
وقال مقاتل: تتزلزل من شدة صوت إسرافيل حتى يَنْكَسِرَ كلُّ ما
عليها من شدة الزّلزلة ولا تسكن حتى تلقيَ ما على ظهرها من
جبل، أو بناءٍ، أو شجر، ثم تتحرك وتضطرب، فتُخْرِج ما في
جوفها. وفي وقت هذه الزلزلة قولان: أحدهما: أنها تكون في
الدنيا، وهي من أشراط الساعة، قاله الأكثرون.
والثاني: أنها زلزلة يوم القيامة، قاله خارجة بن زيد في آخرين.
قال الفراء: حدثني محمد بن مروان، قال: قلت للكلبي: أرأيت قول
الله عزّ وجلّ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها؟ فقال:
هذه بمنزلة قوله عزّ وجلّ: وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً «1» فأضيف
المصدر إلى صاحبه. وأنت قائل في الكلام: لأُعطيَنَّكَ
عَطِيَّتَكَ، تريد عطية. والزِّلزال بالكسر المصدر، وبالفتح:
الاسم. وقد قرأ أبو العالية، وأبو عمران، وأبو حيوة والجحدريّ
«زلزالها» بفتح الزاي.
قوله عزّ وجلّ: وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها فيه قولان
«2» : أحدهما: ما فيها من الموتى، قاله ابن عباس. والثاني:
كنوزها، قاله عطية. وجمع الفراء بين القولين، فقال: لفظت ما
فيها من ذهب، أو فضّة أو ميت.
قوله عزّ وجلّ: وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها فيه قولان: أحدهما:
أنه اسم جنس يعمّ الكافر والمؤمن،
__________
(1) قال ابن كثير رحمه الله في «تفسيره» 4/ 643: أي هذا الجزاء
حاصل لمن خشي الله واتقاه حقّ تقواه، وعبده كأنه يراه، وعلم
أنه إن لم يره فإنه يراه. وقال ابن جرير رحمه الله في «تفسيره»
12/ 658: يقول: لمن خاف الله في الدنيا في سرّه وعلانيته،
فاتقاه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه.
(2) نوح: 18.
(4/477)
وهذا قول من جعلها من أشراط الساعة، لأنها
حين ابتدأت لم يعلم الكلُّ أنها من أشراط الساعة، فسأل بعضهم
بعضاً حتى أيقنوا. والثاني: أنه الكافر خاصة، وهذا قول من
جعلها زلزلة القيامة، لأن المؤمن عارف بها فلا يسأل عنها،
والكافر جاحد لها لأنه لا يؤمن بالبعث، فلذلك يسأل.
قوله عزّ وجلّ: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها قال الزجاج:
«يومئذ» منصوب بقوله عزّ وجلّ: إِذا زُلْزِلَتِ وَأَخْرَجَتِ
ففي ذلك اليوم تحدِّث بأخبارها، أي: تخبر بما عمل عليها.
(1560) وفي حديث أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم
أنه قال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:
فإنّ أخبارها أن تشهد على كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها تقول:
عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا.
قوله عزّ وجلّ: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها قال الفراء:
تحدِّث أخبارها بوحي الله وإذنه لها. قال ابن عباس: أوحى لها،
أي: أوحى إليها، وأذن لها أن تخبر بما عمل عليها. وقال أبو
عبيدة: «لها» بمعنى «إليها» . قال العجَّاج:
وحى لها القرار فاستقرّت قوله عزّ وجلّ: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ
النَّاسُ أي: يرجعون عن موقف الحساب أَشْتاتاً أي:
فِرَقاً. فأهل الإيمان على حدةٍ وأهل الكفر على حِدة لِيُرَوْا
أَعْمالَهُمْ وقرأ أبو بكر الصديق، وعائشة، والجحدري:
«لِيَروْا» بفتح الياء. قال ابن عباس: أي ليروا جزاء أعمالهم.
فالمعنى: أنهم يرجعون عن الموقف فرقاً لينزلوا منازلهم من
الجنة والنار. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، تقديره: تُحَدِّث
أخبارها بأن ربَّك أوحى لها ليروا أعمالهم يومئذ يصدر الناس
أشتاتاً. فعلى هذا: يرون ما عملوا من خير أو شر في موقف العرض.
__________
يشبه الحسن، أخرجه الترمذي 2429 و 3353 والنسائي في «التفسير»
713 وأحمد 2/ 374 وابن حبان 7360 من طرق عن ابن المبارك عن
يحيى بن أبي سليمان به. إسناده لين، رجاله ثقات سوى يحيى بن
أبي سليمان. قال البخاري: منكر الحديث، وقال أبو حاتم: مضطرب
الحديث ليس بالقوي يكب حدثه، ووثقه ابن حبان والحاكم، وقال ابن
عدي: هو ممن تكتب أحاديثه وإن كان بعضها غير محفوظ. وذكر له
ابن عدي أحاديث فيها غرابة، وليس هذا منها، وقد روى عنه غير
واحد من الثقات كشعبة وابن أبي ذئب وغيرهما، فالرجل غير متفق
على ضعفه كما ترى، - وقال الحافظ في «التقريب» : لين الحديث،
ولحديثه شواهد بمعناه.
قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح. وأخرجه الحاكم 2/ 532:
من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ عن سعيد بن أبي أيوب به.
وأخرجه الواحدي في «الوسيط» 4/ 542 من طريق شعبة عن يحيى به.
وصححه الحاكم، وقال الذهبي: يحيى هذا منكر الحديث قاله
البخاري. قلت: أخذ الذهبي رحمه الله بالأشد، فقد تفرد البخاري
بجرحه، في حين خالفه أبو حاتم فلينه، وابن حبان والحاكم
فوثقاه. وله شاهد من حديث أنس، أخرجه البيهقي في «الشعب» 7296
لكنه من طريق رشدين بن سعد عن يحيى بن أبي سليمان، ورشدين واه،
وهذا من أوهامه كونه عن أنس، والمحفوظ عن سليمان عن سعيد عن
أبي هريرة. فهذا شاهد لا يفرح به. وله شاهد من حديث ربيعة
الجرشي، أخرجه الطبراني 4596، وفيه ابن لهيعة ضعيف، وربيعة
مختلف في صحبته، والجمهور على أن له صحبة. ويشهد لأصل معناه
حديث مسلم 1013 والترمذي 2208 وابن حبان 6697 من حديث أبي
هريرة- وقد ورد في تعليق ابن كثير رحمه الله السابق، عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «تقيء الأرض
... » الحديث.
(4/478)
قوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ
قال المفسرون: من يعمل في الدنيا مثقال ذرة من الخير أو الشر
يره، وقرأ أبان عن عاصم «ير» بضم الياء في الحرفين. وقد
بَيَّنَّا معنى «الذَّرَّة» في سورة النساء وفي معنى هذه
الرؤية قولان: أحدهما: أنه يراه في كتابه. والثاني: يرى جزاءه.
(1561) وذكر مقاتل: أنها نزلت في رجلين كانا بالمدينة، كان
أحدهما يستقلُّ أن يعطيَ السائل الكِسْرة، أو التمرة، وكان
الآخر يتهاون بالذّنب اليسير، فأنزل الله عزّ وجلّ هذا
يُرَغِّبُهم في القليل من الخير، ويُحَذِّرهم اليسير من الشرّ.
__________
عزاه المصنف لمقاتل، وهو ممن يضع الحديث، فخبره هذا لا شيء.
(4/479)
|