معاني القرآن وإعرابه للزجاج

الم (1)

سورة البقرة
ومن سورة البقرة
بسم اللَّه الرحمن الرحيم

قوله تبارك وتعالى: (الم (1)
زعم أبو عبيدة معمرُ بنُ المثنى أنَّها حُروفُ الهجاءِ افْتتاح كلام.
وكذلك؛ (المر)، و (المص)، وزعم أبو الحسن الأخْفش أنَّها افتتاح كلام
ودليل ذلك أن الكلام الذي ذُكِرَ قَبلَ السورَةِ قَد تَم.
وزعم قطرب أن: (الم) و (المص) و (المر) و (كهيعص) و (ق)،

(1/55)


و (يس) و (نون)، حروف المعجم ذكرت لتدل على أن هذا القرآن مؤلف من هذه الحروف المقطعة التي هي حروف أ. ب. ت. ث.
فجاءَ بعضها مقطًعاً وجاءَ تمامها مُؤَلفاً ليدل القوم الذين نزل عليهم القرآن أنه بحروفهم التي يعقلونها لا ريب فيه.
ويروى عن الشعبي أنه قال: لِلَّهِ في كُل كتابٍ سِر وسره في القرآن
حروف الهجاءِ المذكورة في أوائل السورِ.
ويروى عن ابن عباس ثلاثةُ أوجه في (الم) وما أشبهها، فوجه منها أنه
قال: أقسم اللَّهُ بهذه الحروف أن هذا الكتاب الَّذِي أنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - هو الكتاب الذي عنده، عزَّ وجلَّ لا شك فيه، والقول الثاني عنه أن: (الر)، (وحم)، و (نون)، اسم للرحمن عزَّ وجلَّ - مقطًع في اللفظ موصُول في المعنى.
والثالث عنه أنَّه قال: (الم) معناه أنا اللَّه أعلم، و (الر) معناه أنا الله أرى،

(1/56)


و (المص) معناه أنا الله أعلم وأفصل و (المر) معناه أنا الله أعلم وأرى.
فهذا جميع ما انتهى إِلينا من قول أهل اللغة والنحويين في معنى
(الم) وجميع ما انتهى إلينا من أهل العلم بالتفسير.
ونقول في إعراب (الم) و (الر) و (كهيعص) وما أشبه هذه
الحروف.
هذا باب التهجي.

(1/57)


(هذا باب حروف التهجي)
وهي: الألف والباءُ والتاءُ والثاءُ وسائر ما في القرآن منها.
فإجْماع النحويين أن هذه الحُروف مَبْنِية على الوقف لا تعرب ومعنى
قولنا " مبنية على الوقف " أنك تُقَدرُ أنْ تسكت على كل حرف منها، فالنطق: ألف، لام، ميم، ذلك.
والدليل على أنك تقدر السكت عليها جمعك بين
ساكنين في قولك (لام) وفي قولك (ميم).
والدَّليل على أن حروف الهجاءَ مَبْنيَّة على السكت كما بني العدَدُ على السكْت: أنَك تقول فيها بالوقف مع
الجمع بين ساكنين، كما تقول إذا عددت واحدْ. اثنانْ. ثَلاثَهْ. أربعهْ. . .
ولولا أنك تقدر السكت لقلت: ثلاثةً، بالتاءِ كما تقول: ثلاثاً يا هذَا. فتصير الهاءَ تاءً مع التنوين واتصال الكلام.
وحقها من الإعراب أن تكون سواكن الأواخر، زَعم سيبويه أنك أردْتَ أنَ
المعجمَ حروف يُحْكى بها ما فِي الأسْماءِ المَؤلفَةِ من الحروف فجرى

(1/59)


مجرى ما يحكى به نحو (غاق)، وغاق يا فتى، إنما حكى صوت الغُراب.
والدليل أيْضاً على أنها مَوْقُوفَة قولُ الشاعر:
أقْبَلْتُ من عند زيادكالخَرِف. . . تخطُّ رجْلاي بخَط مخْتَلف
تَكَتبَانِ في الطريق لَامَ ألِفْ
كأنه قال: لامْ ألِفْ، بسكون " لام " ولكنه ألقى حركة همزة " ألف "
على الميم ففتحها.
قال أبو إسحاق: وشرح هذه الحروف وتفسيرها أنها ليست تجري مجرى
الأسماءِ الْمُتمكنَة، والأفعال المضَارِعة التي يجب لها الإعرابُ وإنما هي
تقطيِع الاسم المَؤلف الذي لا يجب الإعراب فيه ألا مع كماله، فقولك
" جَعْفر " لا يجب أن تُعْرَبَ منه الجيمَ ولا الْعَيْنَ ولا الفَاءَ ولا الراءَ، دون
تكميل الاسم، فإنما هي حكايات وُضِعَتْ على هذه الحروف، فإن أجريتها
مَجْرى الأسماءِ وحدثت عنها قلت: هذه كاف حسنة، وهذا كاف حسنٌ.
وكذلك سائر حُرُوف الْمُعجَم، فمنْ قال هذه كاف أنثَ لمعْنى الْكَلِمَةِ، ومن
ذكر فلمعنى الحرف، والإعرابُ وقع فيها لأنك تخرجها من باب الحكاية.
قال الشاعر:
كافاً ومِيمين وسيناً طَاسِماً

(1/60)


وقال أيضاً:
كما بينت كاف تَلُوح ومِيمُها
ذكرَ طَاسِماً لأنه جَعله صفةً للسين، وجعل السين في معنى الحرف وقال
تلوح، فأنث الكاف، ذهبَ بها مذهب الكلمة، قال الشاعر يهجو النحويين، وهو يَزيدُ بن الحكم.
إذا اجتمعوا على ألف وواو. . . وياءٍ لاح بينهمو جدال
فأما إعرابُ (أبِي جَادٍ) و (هَوَزٍ) و (حُطي)، فزعم سيبويه أن هذه
مَعْروفاتُ الاشتقاق في كلام العرب، وهي مَصْروفة، تقول: علمْتُ أبَا جادٍ
وانتفعتُ بأبي جاد، وكذلك (هوز) تقول: نفعني (هوز)، وانْتَفَعْتُ بهوَزٍ.
(وكذلك حُطي)، (وَهُن) مصْروفات منوَّنَات.
فأما (كلمون) و (سَعْفَص) و (قُرَيْشِيَات)، فأعْجَمِيات تقول: هذه كَلَمْونَ - يا هذا - وتعلمت كَلَمُونَ وانتفَعْتُ بكلمون، وكذلك (سعفص).
فَأما قُرَيْشِيَات فاسْم للجَمْع مصروفة بسبب الألف والتاء تقول: هَذه

(1/61)


قرَيْشِيَات - يا هذا وَعَجبْتُ مِنْ قُريْشِيات (يا هذا).
ولقطرب قول آخر في (الم): زعم أنه يجوز: لما لغا القومُ في القرآن
فلم يتفهموه حين قالوا (لاَ تَسْمَعُوا لهذا القرآن والغَوْا فِيه) أنْزِلَ ذكرُ هذه
الحروف، فسكتوا لمَّا سمعوا الحروف - طمعاً في الظفر بمَا يحبون ليفهموا
- بعد الحروف - القرآن وما فيه، فتكون الحجة عليهم أثبت إذا جحدوا بعد تفهم وتعلم.
قال أبو إسحاق: والذي اختاره من هذه الأقوال التي قيلت في قوله
عزَّ وجلَّ: (الم) بعض ما يروى عن ابن عباسٍ رحمة اللَّه عليه.
وهو أن المعنى: (الم) أنا اللَّه أعلم، وأن كل حرف منها له تفسيره.
والدليل على ذلك أن العرب تنطق بالحرف الواحد تدل به على الكلمة التي هو منها.
قال الشاعر:
قلنا لها قفي قَالَتْ قافْ. . . لا تَحْسَبي أنَّا نَسِينَا الإيجَاف
فنطق بقاف فقط، يريد قالت أقف.
وقال الشاعر أيضاً:
نَادَوْهمو أنِ الْجِمُوا ألَاتا. . . قالوا جميعاً كلهم ألَا فَا

(1/62)


تفسيره: نادوهموا أن الجمُوا، ألا تركبون، قالوا جميعاً: ألا فارْكبوا.
فإنما نطق بتاءٍ وفاءٍ كما نطق الأول بقَافِ.
وأنشد بعض أهل اللغَةِ للقيم بن سَعْد بن مالك:
إنْ شئْتَ أشْرَفْناكلانا فدعا. . . اللَّهَ ربا جُهْدَه فاسْمَعَا
بالخير خيرات وإنْ شَرا فآى. . . ولا أريد الشر إلا أن تآءَ
وأنشد النحويون:
بالخير خيرات وإن شرا فا. . . ولا أريد الشر إلا إن تَا
يريدون: إن شَرا فَشَر، ولا أريد الشر إلا أن تَشَاء.
أنشد جميع البصريين ذلك
فهذا الذي أختاره في هذه الحروف واللَّه أعلم بحقيقتها.
فأما (ص) فقرأ الحسن: صادِ والقرآن، فكسر الدال، فقال أهل

(1/63)


اللغة: معناه صاد القرآن بعملك، أي تَعَمَّدْهُ، وسقطت الياءُ للأمر ويجوز أن
تكون كسرت الدال لالتقاءِ السَّاكنين إذَا نَويتَ الوصلَ.
وكذلك قرأ عبد الله بن أبي إِسحاق: " صادِ والقرآن "، وقرأ أيضاً " قافِ والقرآن المجيد).
فالكسرُ فى مذهب بن أبي إسحاق لالتقاءِ السَّاكنين.
وقَرأ عيسى بن عمر: " صادَ والقرآنِ " - بفتح الدّال - وكذلك قرأ
"نونَ والقلم " و " قافَ والقرآنِ " - بالفَتح أيضاً - لالتقاءِ السَّاكنين.
قال سيبويه: إذَا نَاديتَ أسْحار والأسْحَارُّ اسمُ نَبْتٍ - مشدد الراءِ - قلت في ترخيمه: يا أسْحار أقْبل، ففتَحْتَ لالتقاءِ الساكِنين كما اخْتَرتَ الفتحَ في قولك عضَّ يا فتى فاتباع الفتحةِ الفَتْحُةَ كاتباع الألفِ الفَتْحَةَ ويجوز: يا أسحار أقْبِل، فتَكْسِر لالتقاء الساكنَيْن.
وقال أبو الحسن الأخفش: يجوز أن يكون صادَ وقافَ، ونونَ أسماءً
للسور منصوبةً إلا أنها لا تُصْرف كما لا تصرف جملة أسْماءِ المؤَنث.
والقولُ الأول أعني التقاءَ السَّاكنين، والفتحَ والكسر من أجل الْتقائها أقيسُ، لأنه يزعم أنه ينْصب هذه الأشياء كأنه قال: أذكر صادَ).
وكذلك يجيز في (حم)،

(1/64)


و " طس "، النصبَ و " ياسين " أيضاً على أنها أسماءٌ للسور.
ولوكان قرئ بها لكان وجهُه الفتحَ لالتقاءِ السَّاكنين.
فأما (كهيعص) " فلا تُبينُ فيها، النون مع الصاد في القراءَة
وكذلك (حم عسق) لا تبين فيها، النون مع السين.
قال الأخفش وغيره من النحويين: لم تبَين النون لقرب مخرجها من
السين والضادِ.
فأما " نُونْ والقَلم " فالقراءَة فيها تَبْيين النون مع الواو التي في " والقلم ".
وبترك التبيين.
إِنْ شئتَ بينْتَ وإِن شئْتَ لَمْ تُبيِّنْ، فقلت " نُونْ والقَلم "
لأن النون بعدت قليلاً عن الواو.
وأما قوله عزَّ وجلَّ (المَ) اللَّه ففي فتح الميم قولان أحدهُما لِجماعة من
النحويين وهو أن هذه الحروف مبنية على الوقف فيجب بعدها قطع ألف
الوصل فيكون الأصل: أ. ل. م. اللَّهُ لا إِله إِلا هو.
ثمً طرِحتْ فَتْحةُ الهمزَةِ على الميم، وسقطت الهمزة كما تقول: واحدْ إثْنَان، وإن شئت قلت: واحدِ اثْنَان فألقَيْتَ كسرة اثنين على الدال.
وقال قوم من النحويين لا يسوغ في اللفظ أن ينطق بثلاثة أحرف سواكنَ
فلا بد من فتحة الميم في ألم اللَّه لالتقاءِ السَّاكنين (يعني الميم واللام والتي
بعدها).
وهذا القول صحيح لا يمكن في اللفظ غيره.

(1/65)


ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)

فأمَّا من زعم أنه إِنما ألقي حركةَ الهمزة فيجب أن يقرأ (الم اللَّه).
وهذا لا أعلم اجداً قرأ به إلا ما ذُكر عن الرؤَاسي، فائا من رواه عن
عاصم فليس بصحيح الرواية.
وقال بعض النحويين لو كانت محركة للالتقاءِ السَّاكنين لكانث مكسورة.
وهذا غلط لو فعلنا في التقاءِ السَّاكنين إذا كان الأول منهما ياءً لوجب أن
تقول: كيفِ زَيد واين زيد وهذا لا يجوز، وإنما وقع الفتح لثقل الكسرة بعد
الياء). .
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
زعم الأخفش وأبو عبيدة أن معناه هذا الكتاب قال الشاعر.
أقول له والرمح يأطر متنه. . . تامَّلْ خُفَافاً إنني أنا ذَلكا

(1/66)


قال المعنى إنني أنا هذا.
وقال غيرهما من النحويين: إِن معناه القرآن
ذلك الكتاب الذي وعدوا به على لسان موسى وعيسى - صلى الله عليهما وسلم -
ودليل ذلك قوله تعالى: (وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ)
وكذلك قوله: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146).
فالمعنى هذا ذلك الكتاب.
ويجوز أن يكون قوله " (الم ذَلَكَ الْكِتَابُ) فيقال " ذلك " للشيءِ الذي
قد جرى ذكره، فإن شئتَ قلت فيه " هذا "
وإنْ شِئتَ قلت فيه " ذلك "، كقولك
انفقت ثلاثة وثلاثة فذلك ستة وإن شئت قلت هذا ستة.
أو كقوله عزَّ وجلَّ في قصة فرعون: (فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25).
ثم قال بعد ذلك: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26).
وقال في موضع آخر: (وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)
ثم قال: (إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106).
وقال عزَّ وجلَّ (المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ) فقال (ذلك) فجائز - أن المعنى: تلك علامات الكتاب، أي القرآن متكلم به بحروف العرب التي نعقلها على ما وصفنا في شرح حروف الهجاءِ.
وموضع (ذلك) رفع لأنه خبر ابتداءٍ على أقول، من قال هذا القرآن ذلك

(1/67)


الكتاب. والكتاب رفع يسميه النحويون عطف البيان نحو قولك:
هذا الرجل أخوك فالرجل عطف البيان أي يبين من الذي أشرت إليه، والاسم من ذلك " ذا " والكاف زيدت للمخاطبة ولاحظ لها في الإعراب
قال سيبويه: لو كان لها حظ في الإعراب لقلت: " ذاك نفْسِه زيد، وهذا خطأ - لا يجوز إلا (هذاك نَفْسُه زيد).
(ولذلك " ذانك " يشهد أن الكاف لا موضع لها. لو كان لها موضع
لكان جرا بالإِضافة، والنون لا تدخل مع الإضافة).
واللام تزاد مع ذلك للتوكيد، أعني توكيد الاسم لأنها إذا زيدت
أسقطت معها " ها). تقول: ذلك الحق وذاك الحق، وها ذاك الحق.
ويقبح هذلك الحق لأن اللام قد أكدت معنى الإشارة.
وكسرت اللام للالتقاء السَّاكنين، أعني الألف من ذا واللام التي بعدها، وكان ينبغي أن تكون ساكنة ولكنها كسرتَ لما قلناه.
وكذلك يجب أن يكون موضع ذلك رفعاً فيمن جعل ذلك خبراً عن (الم).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لَا رَيْبَ فِيهِ)
معناه لا شك فيه تقول: رابني فلان إذا علمت الريبَة فيه وأرابني إذا
أوهمني الريبة قال الشاعر.

(1/68)


أخوك الذي إنْ ربتَه قال إنما. . . أرَبتُ وإنْ عاتبته لأن َ جانبه
وموضع (لا ريب) نصب، قال سيبويه: " لا " تعملُ فيما بعدها فتنصبه
ونصبها لما بعدها كنصب إن لمَا بعدها إلا أنها تنصبه - بغير تنوين وزعم أنها
مع ماب عدها بمنزلة شيءٍ واحد.
كأنها جواب قول القائل: هل من رجل في الدار، فمن غير منفصلة من
رجل، فإنْ قال قائل فما أنكرت أن يكلون جواب هل رجلَ في الدار؟
قيل: معنى " لا رجل في الدار " عموم النفي، لا يجوز أن يكون في الدار رجل ولا أكثر منه من الرجال إذا قلت: " لا رجل في الدار ".
فكذلك " هل مِنْ رجل في الدار " استفهام عنِ الواحد وأكثر منه، فإذا قلت: (هل رجل في الدار) أو (لا رَجُل في الدار)
جاز أن يكون في الدار رجلان لأنك إنما أخبَرْتَ أنه ليس فيها
واحد فيجوز أن يكون فيها أكثر، فإذا قلت: لا رجُلَ في الدار فهو نفي عام
وكذلك (لَا رَيبَ فِيهِ).
وفي قوله (فيه) أربعةُ أوجه: - القراءَةُ منها على وجه واحد ولا ينبغي أنْ
يُتَجاوَزَ إلى غَيْره وهو (فيهِ هُدى) بكسر الهاءِ
(ويجوز في الكلام وفي القراءة لو كان. قرئ به) (فيهي هدى) بإثبات الواو، و " فيهي هدي). بإثبات الياءِ.
وقد شرحنا هذه الأوجه في إعراب الحمد.

(1/69)


الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)

فأما قِرَاءَةُ (فيهْ هُدى) بإدغام الهاءَ في الهاء فهو ثقيل في اللفظ، وهو
جائز في القياس لأن الحرفين من جنس واحد إلا أنه يثقل في اللفظ لأن
حروف الحلق ليست بأصل في الإدغام والحرفان من كلمتين، وحكى
الأخفش أنها قِراءَة (1).
وموضع (هدَى) نصب، ومعتاه. بيان ونصبه من وجهين أحدُهُما أنْ
يكون مَنْصُوباً على الحال من قولك: القرآن ذلك الكتاب هدى ويجوز أن
يكون انتصب بقولك: (لا ريْبَ فيه) في حال هدايته فيكون حالاً من قولك
لا شك فيه هادياً، ويجوز أن يكون موضعُه رفعاً من جهات:
إحْدَاهَا أن يكون خبراً بعد خبرٍ كأنه قال: هذا ذلك الكتاب هدى، أي قَد جمع أنه الكتاب الذي وُعدوا به وأنه هدًى كما تقول: هذا حُلو حامض، تُرِيدُ أنه قد جَمع الطعْمَين ويجوز أن يكلون رفعه على إضمار هو.
كأنه لما تمَ الكلام فقيل: (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ)
قيل: هو هدى.
ويجوز أن يكون رفعه على قولك: (ذَلِكَ الْكَتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ)
كأنك قلت ذلك الكتابُ حَقُّا، لأن لا شك فيه بمعنى حق ثم قَال: بعد ذلك: (فِيهِ هُدًى لِلْمُتقِينَ).

وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
معناه يصدقون، وكل مْؤمِن بشيءٍ فهو مصدق به فإذا ذكرتَ مؤمناً ولم
تقل هو مؤْمن بكذا وكذا فهو الذي لا يصلح إلا في اللَّه - عزَّ وجلَّ -، وموضع (الذين) جر تبعاً للمتقين ويجوز أن يكون موضعُهُم رفعاً على المدح كأنَّه
__________
(1) هي رواية السوسي عن أبي عمرو البصري، وهي متواترة.

(1/70)


لما قيل هدى للمتقين قيل مَنْ هُم فقيل: (الَّذِينَ يؤمِنُونَ بالْغَيْبِ).
ويجوز أن يكون موضع الذين نصبا على المدح أيضاً كأنه قيل اذكر الذين.
(والذين) لا يظهر فيهم الإعراب، تقول في النصب والرفع والجر:
أتاني الذين في الدار ورأيت الذين في الدار ومررت بالذين في الدار.
وكذلك الذي في الدار، وإنما منع الإعرابَ لأن الإعراب إنما يكونُ في آخر
الأسماءِ، والذي والذين مبهمان لا تتمان إلا بِصِلاتِهِمَا فلذلك مُنِعَتِ
الإعرابَ.
وأصل - الذي لَذٍ على وزن عَم فاعْلَمْ، كذلك قالَ الخليل وسيبويه
والأخفش وجميع من يوثق بعلمه.
فإن قال قائل: (فما بالك تقول: أتاني اللذان في الدار ورأيت اللذين في
الدار فتعرب كل ما لا يعرب في تثنيته نحو هذان وهذين وأنت لا تعرب هذا
ولا هؤُلاءِ؟
فالجواب في ذلك أن جميع ما لا يعرب في الواحد مشبه بالحرف
الذي جاء لمعنى فإذا ثنيته فقد بطل شبه الحرف الذي جاءَ لمعنى لأن حروف
المعاني لا تثنى.
فإِنْ قَال قائِل فَلَمَ منعته الِإعراب في الجمع؟
قلت لأن الجمع الذي ليس على حد التثنية كالواحد، ألا ترى أنك قلت في جميع هذا هؤُلاء يا فتى فجعلته اسماً واحداً للجمع، وكذلك قولك الذين، إِنما هو اسم للجمع كما أن قولك سنين يا فتى اسم للجمع فبنَيتَه كما بنيْت الواحِد.
ومن جمع الذين على حد التثنية قال: جاءَني الذونَ في الدار، ورأيت الذين

(1/71)


في الدار.
وهذا لا ينبغي أنْ يقع لأن الجمع مستغنى فيه عن حد التثنية.
والتثنية ليس لها إلا ضرب واحد.
ومعنى قوله: (بالغَيْب): ما غاب عنهم مما أخبرهم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أمر الغيب والنشور والقيامة وكل ما غاب عنهم مما أنبأهم به فهو غيب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ).
معناه يُتمُّونَ الصلاة كما قال: - (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)
وضمت الياءُ من يُؤمنون، ويقيمون، لأن كل ما كان على أربعة أحرف نحو أكْرَمَ وأحسَنَ وأقام وآمن فمُسْتَقبله: يُكرم، وُيحْسِنَ، ويؤمِنُ ويُقيمُ
(وإنما ضمت أوائل المستقبل ليفرق بيبن ذوات الثلاثة نحو ضرب، وبين ذوات الأربعة نحو دحرج).
فما كان على ثلاثة فهو ضرب يَضرب أو تَضرب أو نَضرب.
ففصل بالضمة بينهما فإن قال قائل: فهلا فصل بالكسرة؟
قيل الكسرة قد تدخل في نحو تعْلم وتبيَضُ ولأن الضمة مع الياءِ مستعملة، والكسرة لا تستعمل مع الياءِ.
فمن قال أنت تعْلم لم يقل هو يِعْلم، فوجب أن يكون
الفرق بينهما بالضمة لا غير.
- والأصل في يُقيم " يؤقْيِمُ " والأصل في يُكرمُ يؤَكرم ولكن الهمزة

(1/72)


وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

حذفت لأن الضم دليل على ذوات الأربعة ولو ثبث لوجب أن تقول إذَا أنْبأت عن نَفْسِك: أنا أؤَقْوم وأنا أؤكرْم، فكانت تجتمع همزتانْ فاستثقلتا، فحذفت الهمزة التي هي فاءُ الفعل، وتِبع سائِرُ الفعل بابَ الهمزة فقلت أنت تُكرم ونحن نُكرم وهي تُكرم، كما أنَّ بابَ يَعِدُ حُذفتْ منه الواو لوقوعها بين ياء وكَسْرة. الأصل فيه " يَوْعِد " ثم حذفت في تَعد ونَعد وأعد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ).
معناه يصدِّقُون - قال عزَّ وجلَّ: (وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ) - إلى قوله - (قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ).
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ)
إن شئت خففت الهمزة في (أُنْزِلَ) - وكذلك في قوله " أُلئِك " وهذه
لغة غير أهل الحجاز، فأما أهل الحجاز فيخففون الهمزة بين الواو والهمزة.
قال سيبويه: (إنما فعل بالهمزة ذلك دون سائر الحروف لأنها بَعدَ مخرجها
ولأنها نبْرة في الصدر. وهي أبعد الحروف مخرجاً، وأمَّا إِليْك وإليْهم.
وعَليْك وعَليْهِمْ، فالأصل في هذا " إلاك "؛ ْ وعَلَاك، وَإِلَاهُمْ وعَلاهم كما
تقول إلى زيد وعلى إخوتك، إلا أن الألف غيرتْ مع المضْمَر فأبْدِلت ياء
ليفصل بين الألف التي في آخر المتمكنه وبين الألف التي في أواخر غير
المتمكنه التي الإضافة لازمة لها، ألا ترى أن إلى وعَلَى ولدى لا تنْفرِد من

(1/73)


أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

الإضافة، ولذلك قالت العرب في كلا في حال النصب والجر: رأيت كليهما، وكليكما، ومررت بكليهما وكليكما - ففصلت بين الِإضافة إلى المظهر
والمضمر لما كان كلا لا ينفرد ولا يكون كلاماً إِلا بالِإضافة.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
موضع (أولئك) رفع بالابتداء، والخبر: (عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ).
إلا أن أُولَئِكَ لا يعرب لأنه اسم للِإشارة، وكسرت الهمزة فيه لالتقاءِ السَّاكنين.
وكذلك قوله (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، إلا أنَّ (هُمْ) دخلت فصلاً، وإن
شئت كانت تكريراً للاسم، كما تقول زيد هو العالمُ، فترفع زيداً بالابتداء.
وترفع (هو ابتداءً ثانياً، وترفع العالم خبراً " لهو "، والعالم خبراً لزيد.
فكذلك قوله أُولَئِكَ هم المفلحون) وإن شئت جعلت (هو) فصلاً وترفع
زيداً والعالم على الابتداءِ وخبره، والفصل هو الذي يسميه الكوفيون عماداً.
و" سيبويه " يقول إن الفصل لا يصلح إلا مع الأفعال التي لا تتم
نحو كان زيد هو العالم، وظنتت زيداً هو العالِمَ".
وقال سيبويه دخل الفصل في قوله عزَّ وجلَّ: (. . تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا) وفي قوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ) - وفي قوله: (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ). وفي قوله: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ).

(1/74)


وما أشبه هذا مما ذكر الله عزَّ وجلَّ.
وكذلك (لك) في الكلام في الابتداء والخبر، وفي قولك كان زيد هو
العالم ذكرُ هو، وأنت، وأنا. ونحن، دخلت إعْلاماً بأن الخبر مضمون وأن
الكلام لمْ يتم، وموضع دخولها إذا كان الخبر معرفة أو ما أشبه المعرفة.
وأن " هو " بمنزلة " ما " اللغْوِ في قوله عزَّ وجلَّ:
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ) فإنما دخول كا مؤَكدة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (المفْلحون).
يقال لكل من أصاب خيراً مفْلح -
وقال عَزَّ وجَل: (قَدْ أفلح المؤمنون) - وقال،: (قدْ أفْلح مَن زكَاها). والفلاح البقاء
قل لبيد بن ربيعة:

(1/75)


إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)

نحُل بلاداً كلها حُل قبْلنا. . . ونرجُو الفلاح بعد عادٍ وتبَّعا
أي نرجو البقاءَ.
وقال عبيد:
أفْلِح بما شئْت فَقَدْ يد. . . ركِ بالضعْف وقد يُخْدع الأريب
أي أصب خيراً بما شئت.
والفَلاح: الأكار، والفِلَاحَة صنَاعَتُه، وإنِما قيل له الفَلاح لأنه يَشُق الأرض ويقالَ فلحت الحديد إذا قطعته.
قال الشاعر:
قد علمت خيلك انِي الصَّحْصَحُ. . . إن الحَدِيد بالحديد يُفْلَح
ويقال للمكاري الفلاح، وإنما قيل له فلاح تشبيهاً بالأكار.
قال الشاعر
لها رطل تكيل الزيت فيه. . . وفَلاح يسُوق لهَا حِمَارا
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)

(1/76)


(إنَّ) تنصب الذين، وهي تنصب الأسماءَ وترفع الأخبار، ومعناها في
الكلام التوكيد، وهي آلة من آلات القسم، وإنَّما نصبت ورفعت لأنها تشبه
بالفعل، وشبهها به أنها لا تَلِي الأفعال ولا تعمَل فيها، وإنما يذكر بعدها
الاسم والخبر كما يذكر بعد الفعل الفاعل والمفعول إِلا أنه قُدم المفَعُولُ به
فيهَا ليفصل بين ما يشبه بالفعل ولفظه لفظُ الفعل وبين ما يُشَبه به وليسَ لفظُه
لفظَ الفعل، وخبرها ههنا جملة الكلام، أعني قوله:
(سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ).
وترفع سواء بالابتداء، وتقوم (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ) مَقَامَْ الخبر كأنه
بمنزلة قولك سواء عليهم الإنذارُ وتركُه.
وسواءُ موضُوع موضعَ مُسْتَو، لأنك لا تقيم المصادر مقام أسماءِ الفاعلين إلا وتأويلها تأويل أسمائهم.
فأما دخول ألف الاستفهام ودخول أم التي للاستفهام والكلام خَبرٌ فإنَّمَا
وقع ذلك لمعنى التسوية والتسوية آلتها ألف الاستفهام وأم تقول: أزيد في
الدار أم عمرو، فإِنما دخلت الألف وأم لأن عِلْمَك قد استوى فيَ زَيد وعَمْرو.
وقد علمت أن أحدهما في الدار لا محالة ولكنك أردت أن تبين لك الذي
علمت ويخلص لك علمه مز، غيره، فَلِهذا تقول: قد علمتُ أزيد في الدار أم عمرو، وإنما تريد أن تُسَوّي عند مغ تخبره العلمَ الذي قد خلص عندك.
وكذلك (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم)، دخلت الألف وأم للتسوية.
فأما (أأنْذرْتهُمْ) فزعم سيبويه أن من العرب من يحقق الهمزة، ولا
يجمع بين الهمزتين وإن كانتا من كلمتين، فأما أهل الحجاز فلا يحققون
واحدة منهما، وأما بعض القراء - ابن أبي إِسحاق وغيره - فيجمعون في القراءَة بينهما، فيقرأون (أأنذرتهم)، وكثير من القراء يخفِّف إِحداهما، وزعم سيبويه أن

(1/77)


الخليل كان يرى تخفيف الثانية فيقول: (أانْذرْتهم) فيجعل الثانية بين
الهمزة والألف، ولا يجعلها ألفاً خالصة، ومن جعلها ألفاً خالصَةً فقد أخْطأ من جهتين: إحداهما أنه جمع بين ساكنين والأخرى إنَّه أبْدَل منْ همزة متحركة
قبْلها حركةُ ألفاً، والحركة الفتح، وإنما حق الهمزة إذا حركت وانفتح ما
قبلها: أن تجْعَل بَيْنَ بَيْنَ، أعني بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركتها.
فتقول في سأل: سال وفي رؤوف: رووف وفي بئس: بيس (بيْنَ بيْنَ) وهذا
في الحكم واحد وإِنما تُحْكِمُه المشافهة.
وكان غير الخليل يجيز في مثل قوله تعالى: (فقد جاءَ أشراطها) تخفيف الأولى.
وزعم سيبويه أن جماعة من العرب يقرأون: فقد جا أشراطها يحققون
الثانية ويخففون الأولى، - وهذا مذهب أبى عمرو بن العلاء وأما الخليل فيقول بتحقيق الأولى فيقول: (فقد جاءَ اشراطها).
قال الخليل: وإِنَّما اخترت تخفيف الثانية لإجماع الناس على بدل الثانية في قولك آدم، وآخر، لأن الأصل في آدم: أادم، وفي آخر أاخر.
وقول الخليل أقيس، وقول أبى عمرو جيد أيضاً.
قال أبو إِسحاق: الهمزة التي للاستفهام ألف مبتدأة: ولا يمكن تخفيف
الهمزة المبتدأة ولكن إن ألْقِي همزَة ألف الاستفهام على سكون الميم من
عليهم فقلت: " عَلَيْهمَ أنْذَرتهم " جاز.
ولكن لم يقرأ به أحد، والهمزتان في

(1/78)


قوله: (فقد جاءَ أشراطها). همزتان في وسط الكلمة ويمكن تخفيف
الأولى.
فأما من خفف الهمزة الأولى قوله: (أأنذرتهم) فإنه طرحها ألبتَّةَ
وألْقَى حركتَها على الميم، ولا أعلم أحداً قرأ بها والواجب على لغة أهل
الحجاز أن يكون " عليهم أنْذَرْتهم " فيفتح الميم، ويجعل الهمزة الثانية بين
بين بين.
وعلى هذا مذهب جميع أهل الحجاز.
ويجوز أن يكون (لا يؤْمنون) خبر إِنَّ، كأنه قيل: " إِنَّ الًذينَ كفروا لا يؤمنون، سواء عليهم أأنذرتهم أمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ).
هؤلاءِ قوم أنبأ اللَّهُ " تبارك وتعالى " النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنهمْ لا يؤْمنون كما قال عزَّ وجلَّ: (ولَا أنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتمْ وَلَا أنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أعْبُدُ).
فأما الهَمزتان إذا كانتا مكسورتين نحو قوله عزَّ وجلَّ:
(عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) وإذا كانتا مضمومتين نحو قوله:
(أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ) فإِن أبا عمرو يخفف الهمزة الأولى فيهما فيقول:
"على البغا إِنْ أردْن" "وأوليا أولئك "
فيجعل الهمزة الأولى من البغاء بين الهمزة والياء، ويكسرها " ويجعل الهمزة
في قولك أولياء أولئك (الأولى) بين الواووالهمزة ويضمها.
وحكى أبو عبيدةَ أن أبا عمرو كان يجعل مكان الهمزة الأولى كسرة في
البغاء إنْ)، وضمة في أولياء أولئك.
أبو عبيدة لا يحكي إلا ما سمع لأنه الثقة المأمون عند العلماء، إِلا إنَّه لا يضبط مثل هذا الموضع لأن الذي قاله محال، لأن الهمزة إذا سقطت وأبدلت منها كسرة وضمة - على ما وصف -

(1/79)


بقيت الحركتان في غير حرف وهذا محال لأن الحركة لا تكون في غير
محرَّك.
قال أبو إسحاق: والذي حكيناه آنفاً رواية سيبويه عن أبي عمرو وهو
اضبط لهذا.
وأما قوله: (السفهاءُ ألا) وقوله: (وإِليه النشُوز أأمنتم من في السماءِ أن) - فإن الهمزتين إذا اختلفتا حكى أبو عبيدة أن أبا عمرو كان يبدل من
الثانية فتحة وهذا خلاف ما حكاه سيبويه. والقول فيه أيضاً محال لأن الفتحة
لا تقوم بذاتها، إِنما تقوم على حرف.
وجملة ما يقول النحويون في المَسْالة الأولى في مثل قوله: (على البغاءِ
إِنْ) أو (أولياءُ أولئك) ثلاثةُ أقوال على لغة غير أهل الحجاز.
فأحد هذه الثلاثة - وهو مذهب سيبويه والخليل - أن يجعل مكان الهمزة الثانية همزة بين بينَ، فإذا كان مضموماً جعل الهمزة بين الواو والهمزة فقال: أولياءُ أولئك) (وإذا كان مكسوراً جعل الهمزة بين الياءِ والهمزة، فقال: على البغاءِين. وأمَّا أبو عَمْرو فَقرأ على ما ذكرناه وأمَّا ابن أبي إسحاق - ومذهَبه مذهب جماعة من القراء - فيجمع بين الهمزتين، فيقرأ أولياءُ أولئِكَ)
و (على البغاءِ إنْ أردن) بتحقيق الهمزتين.
وأمَّا اختلاف الهمزتين نحو السفهاء ألا) فأكثر القراء على مذهب ابن
أبي إسحاق، وأما أبو عمرو فيحقق الهمزة الثانية في رواية سيبويه، ويخفف

(1/80)


الأولى فيجعلها بين الواو والهمزة، فيقول: (السفهاءُ ألا) (بين بين).
ويقول: (من في السماي أنْ " فيحقق الثانية، وأما سيبويه والخليل فيقولان:
(السفهاءُ ولا). فيجعلان الهمزة الثانية واواً خالصة
وفي قوله: (من السماءيَنْ) ياءخالصة مفتوحة.
فهذا جميع ما في هذا الباب.
وقد ذكر أبو عبيدة أن بعضهم روى عن أبي عمرو أنه كان إذا اجتمعت
همزتان طرحت إحداهما، وهذا ليس بثبتٍ لأن القياس لا يوجبه.
وأبو عبيد لم يحقق في روايته، لأنه قال: رواه بعضهم، وباب رواية القراءة عن المقرئ يجب أن يقل الاختلاف فيه.
فإن كان - هذا صحيحاً عنه فهو يُجَوِّزُهُ في نحو
(سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم)، وفي مثل قوله:
(آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ)
فيطرح همزة الاستفهام لأن أم تدل عليها.
قال الشاعر:
لعمرك ما أدري إن كنت دارياً. . . شُعَيْثُ بن سَهْم أم شُعَيْثُ بنُ مِنْقَر

(1/81)


خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)

وقال عُمرُ بنُ أبي رَبِيعَةَ:
لعَمرُك ما أدْري وإنْ كُنْتُ دَارِياً. . . بِسَبْع رَمَيْنَ الجَمْر أم بِثمانٍ
البيت الأول أنشده الخليل وسيبويه، والبيت الثاني صحيح أيضاً.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
معنى ختم في اللغة وطبع (معنى) واحد. وهو التغطية على الشيء.
والاستيثاق - من ألًا يَدْخُله شَيْءٌ
كما قال عزَّ وجلَّ: (أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)
وقال جلّ ذكره (كلا بَلْ رَانَ عَلى قُلوبِهِمْ).
معناه غلب على قلوبهم ما كانوا يكسبون.
وكذلك (طبع عليها بكفرهم)
وهم كانوا يسمعون ويبصرون ويعقلون ولكنهم لم يستعملوا
هذه الحواس استعمالًا يجزي عنهم فصاروا كمن - لا يسمع ولا يبصر.
قال الشاعر:
أصم عما ساءَه سميع
وكذلك قوله جلَّ وعزَّ: وَعَلَى أبْصَارِهِمْ غِشَاوَة).
هي الغطاءُ، فأما قوله: (وعلى سمعهم) وهويريد وعلى أسماعهم ففيه

(1/82)


ثلاثة أوجه: فوجه منها أن السمع في معنى المصدر فَوُحِّدَ، كما تقول:
يعجبني حديثكم ويعجبني ضربُكُمْ - فوحِّد لأنه مَصْدَر.
ويجوز أن يكون لما أضاف السمع إليهم دل على معنى أسماعهم.
قال الشاعر:
بها جِيَف الحَسْرى فأمَّا عِظامُها. . . فَبيضٌ وأَمَّا جِلْدُها فَصَلِيبُ
ْوقال - الشاعرأيضاً: (لا تُنْكِري الْقَتْلَ وَقَدْ سُبينَا. . . في حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وقد شَجينَا
معناه في حلوقكم، وقال:
كأنهُ وجه تركييْن قد غَضبَا. . . مستهدَفٍ لطعان غيرِ تَذييبِ
أما (غشاوة)، فكل ما كان مشتملاً على الشيء فهو في كلام العرب مبني
على "فِعَالة " نحو الغِشاوة، والعِمَامة، والقِلاَدَة والعصَابة، وكذلك أسْمَاء
الصناعات لأن معنى الصناعة الاشتمال على كل ما فيها نحو الخِيَاطة

(1/83)


وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)

والقصَارة، وكذلك على كل من استولى على شيء ما استولى عليه الفِعَالة.
نحو الحِلاَقةِ والإمارَةِ.
والرفع في (غشاوة) هو الباب وعليه مذهب القُرَّاء
والنصب جَائز في النحو على أن المعنى: " وجعل على أبْصَارهم غِشَاوةً ".
كما قال اللَّه عزرجل في موضع آخر: (وختم على سمعه وقلبه وجعل على
بصره غشاوة).
ومثيله من الشعر مما حمل على معناه قوله:
يا ليتَ بعْلَكِ قد غَدا. . . مُتَقَلداً سيفاً ورمحا
معناه متقلداً سيفاً وحاملاً رمحاً.
ويرري غشوة، والوجه ما ذكرناه
وإنما غَشْوة رد إلى الأصل لأن المصادر كلها ترد إلى فَعْلة، والرفع والنصبُ في غَشْوة مثله في غِشَاوة.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)
عنى بذلك المنافقين،. وإِعراب (مِنْ) الوقف إلا أنهَا فُتِحَتْ لالتقاءِ
السَّاكنين سكون النون. من قولك مِنْ وسكون النون الأولى من الناس، وكان الأصل أن يكسر لالتقاءِ السَّاكنين، ولكنها فتحَت لثقل اجتماع كَسْرَتَيْنِ - لو كان (مِنِ النَّاسِ) لثقل ذلك.
فأما عن الناس فلا يجوز فيه إِلا الكسر لأن
أول " عن " مفتوح. و " مِنْ " إِعرابُها الوقف لأنها لا تكون اسماً تاما في

(1/84)


يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)

الخبر إلا بصلة، فلا يكون الِإعراب في بعض - الاسم.
فأما الإدغام في الياءِ في (من يقول) فلا يكون غيره، تقول:
" مَنْ يُقوَّم " فتُدْغِم بغُنَةٍ وبغير غنة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا هُمْ بمُؤْمِنينَ).
دخلت الباءُ مؤَكدة لمعنى النفي، لأنك إِذا قلت: " ما زيد أخوك " فلم
يسمع السامع " ما " ظن أنك موجب فإِذا قلت: " ما زيد بأخيك "
و (ماهم بمُؤمنين) علم السامع أنك تنفي
وكذلك جميع ما في كتاب الله عزَّ وجلَّ.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
يعني به المنافقين أيضاً.
ومعنى (يخادعون): يظهرون غير ما في نفوسهم، والتَقِية تُسَمَّى أيْضاً
خِدَاعاً، فكأنهم لَمَّا أظْهَرُوا الِإسْلامِ وأبْطَنُوا الكُفْر صارت تقيتُهُمْ خِدَاعاً.
وجاءَ بفَاعِلَ لغير اثنين لأن هذا المثال يقع كثيراً في اللغة للواحد نحو عاقبت
اللص، وطارقت النعل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ).
تأويله أن الخداع يرجع عليهم بالعَذاب والعقاب وما يشعرون: أي وما
يعلمون أنه يرجع عليهم بالعذاب يقال ما شعرت به: أي ما علمت به وا لَيْتَ شِعْرِي " ما صَنَعْتَ: معناه ليت علمي.

(1/85)


فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)

وقوله عزَّ وجلَّ: (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
معناه نفاق، وقد يقال السُّقْمُ والمرض في البَدَنِ وفي الدِّين جَميعاً كما
يقال الصحة في البدن والدِّين جميعاً.
فمعنى قوله: (مرض) قال أبو عيدة: معناه شك ونفاق، والمرض في
القلب يصلح لكل ما خرج به الِإنسان عن الصحة في الدين.
ص وقوله: - (فَؤَادَهُم اللَّهُ مَرضاً).
فيه جوابان، قال بعضهم زادهم الله بكفرهم.
كما قال عزَّ وجلَّ: (بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ).
وقال بعض أهل اللغة: فزادهم اللَّه بما أنزل
عليهم من القرآن فشكوا فيه كما شكوا في الذي قبله.
قال: والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ).
إِلى قوله: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ).
وهذا قول بين واضح - واللَّه أعلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
مَعْناه مُوجِع يَصلُ وجعَهُ إِلى قُلُوبهمُ.
وتأويل (أَلِيمٌ) في اللغة مُؤْلم.
قال الشاعر: وهو عَمْرُو بنُ معدِ يكرب الزبيدي.

(1/86)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)

أمِنْ رَيْحَانَة الداعي السميعُ. . . يُؤرقني وأصْحَابي هُجوعُ
معنى السميع المسمع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (بِمَا كَانوا يَكذبُونَ).
ويقرأ (يُكَذِّبونَ). فمن قرأ يَكذبونَ بالتخفيف فَإن، كَذِبَهُم
قولُهم أنهُمْ مُؤْمنون، - قال الله عزَّ وجلَّ: (وَمَا همْ بِمُؤْمِنِينَ)
وأما (يُكَذِّبونَ) بالتثقيل فمعناه بتكذيبهم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
مَعْنَاهُ لَا تَصُدوا عَنْ دين اللَّه، فَيَحْتَمِل (إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ضربين
من الجواب: أحدهما أنهم يظنون أنهم مصلحون.
والثاني أن يريدوا أن هذا الذي يسمونه إفساداً هو عنْدَنَا إِصلاح
فأما إعراب قيل فآخره مبني على الفتح، وكذلك كل فعل ماض
مبني على الفتح، والأصل في (قيل) قُوِلَ ولكن الكسرة نقلت إلى القاف
لأن العين من الفعل في قولك قال نقلت من حركة إِلى سكون، فيجب أن
تلزم هذا السكون في سائر تصرف الفعل.
وبَعْضُهُمْ يَرُومُ الضمًةَ في قِيل، وقد يجوز في غير القرآن:
قد قولَ ذاك " وأفصح اللغات قِيلَ وَغِيضَ ".
(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَقَوْا رَبَّهُمْ).
وإن شئت قلت: قِيل، وغيض، وسُيق تروم في سائر أوائل ما لم
يسم فاعلة الضم في هذا الباب.

(1/87)


وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
ْأصل السفَهِ في اللغة خِفَةُ الحلم، وكذلك يقال ثَوْبٌ سَفِيه إِذا كان رقيقاً
بالِياً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَا إنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ).
معنى (أَلَا) اسْتِفْتَاح وَتَنْبِيهٌ " وقوله: (هُم السفهاءُ) يجوز أن يكون
خبر إنَّ و (هُم) فَصْلٌ، وهو الذي يسميه الكوفيون العماد.
ويجوز أن يكون (هُم) ابتداء، والسفهاءُ خبر الإِبتداء، وهم السفهاءُ خبر إن.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14)
أنْبَأ الله الْمؤمِنِينَ بِمَا يُسِره المنافقونَ مِنَ الكُفْرِ ومعنى شَيَاطِييهمْ في
اللغة: مَرَدَتُهُمْ، وعُتَاتُهُمْ في الكفر، ويقال خلوت إِليه ومعه، ويقال خلوت
به، وهو على ضربين: أحدهما جعلت خَلْوتي معه، كما قال: خَلَوْتُ إِليه
(أي جعلت خلوتي معه)، وكذلك يقال خَلَوْتُ إِليهِ، ويصلح أن يكون
خلوت بِهِ سخرت منه.
ونصب (معكم) كنصب الظروف، تقول: إِنا معكم وإِنا
خَلْفَكم معناه إِنا مستقرون معكم ومستقرون خلفكم.
والقراءَة المجمَعُ عليها فتح العَين وقد يجوز في الاضطرار إسكان العين، ولا يجوز أن يقرأ بها.
ويجوز إِنَّا مَعْكُمْ للشاعر إِذا اضطر قال الشاعر:
قَرِيشي منكمو وهواي مَعْكُمْ. . . وَإِن كانت زِيَارَتُكُمْ لِمَاما

(1/88)


وفي قوله عزَّ وجلَّ: (خَلَوْا إلَى). وجهان إن شئت أسْكَنْتَ الوَاو
وخففت الهمزة وكسرتها فقلت: (خلوْا إلَى) وإن شئت ألقيت الهمزة وكسرت الواو فقلت: " خَلَوِ ليى " وكذلك يقرأ أهل الحجاز وهو جيد بالغ، و (إِنا) الأصل فيه "إننا"، كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (إنَّنِي معَكُما) ولكن النون حذفت لكثرة النونات، والمحذوف النون الثانية من إِن، لأن في " إن " نونين الأولى ساكنة والثانية متحركة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إنما نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ).
نحن مبنية عفى الضم، لأن نحن يدل على الجماعة، وجماعة
المُضْمَرينَ يدل عليهم - إذا ثَنيتَ الواحدَ من لفظه - الميم والواو، نحو
فعلوا، وأنتم، فالواو من جنس الضمة، فلم " يكن بذ من حركة (نَحْنُ)
فحركت بالضم لأن الضم من الواو؛ ألا ترى أن واو - الجماعة إذا حركت
لالتقاء السَّاكنين ضمت، نحو (اشْتَرَوُا الضلاَلَةَ)، وقد حركها بعضهم إلى
الكسر فقال: (اشتروِا الضلالة)، لأن اجتماع السَّاكنين يوجب كسر الأولى إذا كانا من كلمتين، والقراءة المجمع عليها: (اشتروُا الضلالةَ) بالضم، وقد
رُويت: (اشْترَوَا الضلالة)، بالفتح، وهو شاذ جِدًّا.
و (مستهزئون)؛ القراءَة الجَيدَةُ فيه، تحقيق الهمزة فإذا خَففْتَ الهمزةَ
جعلْتَ الهمزةَ بين الواو، والهمزة فقلت "مستهزؤون).
فهذا الاختيار بعد التحقيق.

(1/89)


اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)

ويجوز أنْ تُبْدِلَ من الهمزَةِ ياءً فتقول: " مستهزِيُونَ " فأما " مستَهْزون "
فضعيف لا وجه لَه إلا شاذًّا على لغة،. من أبدل الهمزة ياء فقال في
استهزأت: استهزيت. فيجب على لغة، استهزيت أن يقال، مستهزون.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
فيه أوجه من الجواب: فمعنى استهزاء اللَّه بهم أنْ أظْهرَ لَهُمْ منْ
أحْكامِهِ في الدنْيَا خلافَ مَا لهمْ في الآخرة، كما أظهروا من الِإسلام خلاف ما
أسَرُّوا.
ويجوز أن يكون استهزاؤُه بهم: أخذه إِياهم من حيث لا يعلمون، كما
قال عزَّ وجلَّ: (سَنَسْتَدْرجُهمْ منْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُون).
ويجوز - واللَّه أعلم - وهوَ (الوجه) المختار عند أهل اللغة أن يكون معنى يستهزئُ بهم يُجازيهِمْ على هُزئِهِمْ بالعَذاب، فسمَّى جزاءَ الذَنْب باسْمِه كما قال عزَّ وجلَّ: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) فالثانية ليست سيئة في الحقيقة، ولكنها سميت سيئة لازدواج الكلام.
وكذلك قوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)
فالأول ظلم والثاني ليس بظلم ولكنه جيءَ في اللغة باسم الذنب ليعلم أنَّه عقاب عليه وجزاء به.
فهذه ثلاثة أوجه واللَّه أعلم.
وكذلك يجري هذا المجرى قوله عزَّ وجلَّ: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)

(1/90)


أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)

(وَيَمْكرُونَ وَيَمْكرُ اللَّهُ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ).
معنى (وَيَمُدُّهُمْ) يُمْهِلْهم، وهو يدل على الجواب الأول.
و (في طغيانهم) (معناه) في غُلوِّهِمْ وكفرهم، ومعنى يعمهون في اللغة يتحيرون، يقال رجل عَمِهٌ وعَامِه، أي متحير، قال الراجز:
وَمَهْمَه أطرافه في مَهْمَهِ. . . أعمَى الهُدَى بالجَاهِلِينَ العُمَّهِ
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
أُولَئِكَ موضعُه رفع بالابتداء وخبرُه (الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ)
وقد فسَّرنا " واو " اشتروا وكسرتَها فأمَّا من يبدل من الضمة هَمْزَةً فيقول اشترو الضلالة فغالط لأن الواو المضمومة التي تبدل منها همزة إِنَّمَا يُفْعَل بها ذلك إِذا لزمت صفَتُها نحو قوله عزَّ وجلَّ: (وَإذَا الرُّسُلُ أُقَتَتْ)، إنَّمَا الأصلُ وقَتَتْ وكذلك أَدوَّر، إنما أصْلها أدور.
وضمة الواو في قوله: (اشترُوا الضلالة)

(1/91)


إنما هي لالتقاء السَّاكنين.
ومثله: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ)
لا ينبغي أن تهمزَ الواو فيه.
ومعنى الكلام أن كل من ترك شيئاً وتَمسكَ بغَيْره فالعَرَبُ تقول للذِي
تَمَسكَ به قد اشتراه، وليس ثم شراءٌ ولا بيع، ولكن رغبته فيه بتمسكه به
كرغبة المشتري بماله ما يرغب فيه.
قال الشاعر:
اخدْت بالجمَّة رأساً أَزْعَرا. . . وبالثنَايَا الواضِحات الدَّرْدَرَا
وبالطَويل العمر عمْراً أَقصرا. . . كما اشْتَرى الكافِر إذْ تَنَصَّرَا
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ).
معناه فما ربحوا في تجارتهم، لأن التجارة لا تربح وإنما يربح فيها
ويوضع فيها والعرب تقول قد خسر بيعك وربحت تجارتك، يريدون بذلك
الاختصار وسعة الكلام قال الشاعر:

(1/92)


صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)

وكيف تواصل من أصبحت. . . خلالته كأبي مرحب
يريد كخلالة أبي مرحب، وقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) (والليل والنهار لا يمكران) إنما معناه بل مكرهم في الليل
والنهار.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17)
هذا المثل ضربه اللَّه - جلَّ وعزَّ - للمنافقين في تجملهم بظاهر الِإسلام
وحقنهم دماءَهم بما أظهروا فمثل ما تجملوا به من الِإسلام كمثل النار التي
يستضىء بها المستوقد وقوله (ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ) معناه، واللَّه أعلم إطلاع
اللَّه المؤْمنين على كفرهم، فقد ذهب منهم نور الإِسلام بما أظهر الله عزَّ وجلَّ
من كفرهم، ويجوز أن يكون ذهب الله بنورهم في الأخرة، أي عَذَّبهم فلا
نور لهم لأن اللَّه جلَّ وعزَّ قد جعل للمؤْمنين نوراً في الآخرةِ وسلب
الكافرين ذلك النور، والدليل على ذلك قوله: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا).
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
رفع على خبر الابتداءِ، كأنه قيل: هؤلاءِ الذين قصتهم هذه القصة
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18).

(1/93)


أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)

ويجوز في الكلام صماً بكماً عمياً، على: وتركهم صُمًّا بكماً عُمْياً.
ولكن المصحف لا يخالف بقراءة لا تُرْوى، والرفع أيضاً أقوى في المعنى.
وأجزل في اللفظ.
فمعنى (بُكْمٌ) أنه بمنزلة من وُلدَ أخرس ويقال الأبْكم المسلوبُ الفًؤادِ.
وصُم وبُكم واحدهم أصَم وأبْكَمُ، ويجوز أن يَقع جمع أصم صُمَّان، وكذلك أفعَل كله يجوز فيه فُعْلان نحو أسْود، وسُودَان ومعنى سود وسودان واحد، كذلك صُمٌّ وصُمَّان وعُرفي وعُرجان وبكم وبُكْمَان.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19)
الصيِّب في اللغة المطر وكل نازل من عُلُو إلى أسفل فقد صاب
يصوب، قال الشاعر:
كأنهم صابت عليهم سحابة. . . صواعقها لطيرهن دبيب
وهذا أيضاً مثل يضربه اللَّه عزَّ وجلَّ للمنافقين؛ كان المعنى:
أو كأصحاب صيب. فجعل دين الِإسلام لهم مثلاً فيما ينالهم من
الشدائد والخوف، وجعل ما يستضيئون به من البرق مثلاً لما يَستضيئون به من الإسلام، وما ينالهم من الخوف في البرق بمنزلة ما يخافونه من القتل.
- الدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (يَحْسَبُونَ كُل صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ).

(1/94)


يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)

وقوله عزَّ وجلَّ: (يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
(يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ)
فيه لغتان: يقال خَطِفَ يخطَفُ، وخطَف يخْطِف، واللغة العالية التي
عليها القراءَة " خَطِفَ يخطَفُ "، وهذا الحرف يروى عن العرب والقراء.
وفيه لغات تروى: عن الحسن " يَخَطِّف أبصارهم " بفتح الياءِ والخاءِ وكسر
الطاءِ، " ويروى أيضاً " يخطِّف بكسر الياءِ والخاءِ، والطاءِ، ويروى أيضاً لغة أخرى ليست تسوغ في اللفظ لصعوبتها، وهي إسكان الخاءِ والطاءِ. وقد روى سيبويه مثل هذا.
رده عليه أصحابه وزعموا أنه غير سائغ في اللفظ وأن الشعرَ
لا يجمع في حشوه بين ساكنين، قال:
وَمَسْحِهِ مَرُّ عُقابٍ كاسِرِ
يبدل من الهاءِ حاءً ويدغم الحاءَ الأولى فى الثانية، والسين ساكنة
فيجمع بين ساكنين، فأما بعد يَخْطَف فالجيِّد يَخَطف ويخطف فمن قال
يَخَطَف فالأصل يخْتَطِف فأدغمت التاء - في الطاءِ وألقيت على الحاءِ فتحة
التاءِ، ومن قال " يخِطَف " كسر الخاءَ لسكونها وسكون الطاءِ، وَزَعَمَ بعض
النَحوِيينَ أنَّ الكسْر لالتِقَاءِ الساكِنين ههنا خطأ وأنه يلزم من قال هذا أن يقول

(1/95)


في يَعَضُّ يَعِضُّ، وفي يَمُدُّ يَمِدُّ. وهذا خَلْط غيرُ لازم، لأنه لَوكَسَرَهَا هَهُنَا
لالتَبَسَ ما أصله يفعَل ويفعُل بما أصله يَفْعِل، ويخطف ليس أصله غير
هذا. ولا يكون مرة على يفتَعِل ومرة على يفتَعَلُ. فَكسِرَ لالتقاءِ السَّاكنين
في موضع غير ملبس وامتنع في المُلْبِس من الكسر لالتقاءِ السَّاكنين، وألزم
حركة الحرف الذي أدغمه لتدل الحركة عليه.
ومعنى خطفت الشيء في اللغة واختطفته أخذته بسرعة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ).
يقال ضاءَ الشيءُ يَضوء وأضَاءَ يُضِيءُ، وهذه اللغة الثانية هي
المختارة، ويقال أظْلَمَ وظَلَم، وأظْلَمَ المختارُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ)
وقد فسرنا توحيد السمع، ويقال أذهبته وذهبت به.
ويروى أذْهَبْت به وهو لغة قليلة، فأما ذكر (أوْ) في قوله: (مَثَلَهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي). إِلى (أوْ كصيب) فأو دَخلت ههنا لغير شك، وهذه يسميها الحذاق باللغة " وَاوَ اَلِإباحة "
فتقول جالس القراءَ أوِ الفُقَهَاءَ، أوْ أصْحَابَ الحديث أوْ أصْحَابَ
النحو، فالمعنى أن التمثيل مباح لكم في المنافقين إنْ مثلْتُمُوهم بالذي استوقد
ناراَ فذاك مثلهم وإِن مثلتموهم بأصحاب الصيب فهذا مثلهم، أِو مثلتموهم

(1/96)


يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)

بهما جميعاً فهما مثلاهم - كما أنك إذا قلت جالس الحسن أو ابن سيرين
فكلاهما أهل أن يجالس - إن جالست الحسن فأنت مطيع وإِن جمعتهما فأنت
مطيع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ).
ويروى " أيضاً " حِذَار الموْتِ، والذي عليه قرَّاؤُنَا (حَذَرَ الموت)، وإنما
نصت (حذرالموت) لأنه مفعول له، والمعنى يفعلون ذلك لحذر الموت.
وليس نصبه لسقوط اللام، وإِنما نصبه أنه في تأويل المصدر كأنه قال يحذرون
حذراً لأن جعلهم أصابعهم في آذانهم - من الصواعق يدل على حذرهم
الموت، وفال الشاعر:
وأغفر عوراءَ الكريم ادِّخَارَهُ. . . وأُعْرِض عن شَتْم اللئِيمِ تَكَرما
والمعنى لادخاره - وقوله: وأغفر عوراء الكريم معناه وأدخر الكريم.
* * *

وقوله عزِّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21)
معناه أن الله احْتَجَّ على العرب بأنه خالقهم وخالق مَنْ قَبْلِهُم لأنَّهُمْ
كانوا مُقِرينَ بذلك، والدليل على ذلك قوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ)

(1/97)


قيل لهم إن كنتم مقرين بأنه خالقكم فاعبدوه، ولا تعبدوا الأصنام -
وقوله (لعلكم تَتقُونَ) معناه تتقونَ الحُرُمَاتِ بيْنَكم وتَكُفون عما تأتون مما
حرمَه اللَّه، فأما لعل وففيها قولان ههنا، عن بعض أهل اللغة: أحدهما:
معناها كي تتقوا، والذي يذهب إليه سيبويه في مثل هذا أنه تَرَج لهم كما قال
في قصة فرعون (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى).
كأنه قال اذهبا أنتما على رجائكما وطمَعِكُمَا واللَّه عزَّ وجلَّ من وراءِ ذلك وعالم بما يؤُول إِليه أمرُ فِرعون.
وأما إِعراب (يَا أيُّها) فأي اسمٌ مُبْهَم مبني على الضم لأنه منادى مفرد
والناس صفة لأي لازمة، تقول يا أيها الرجل أقبل، ولا يجوز يَا لرجُل لأن
" يا " تَنْبِيهٌ بمنْزِلة التَّعرِيفِ في الرجل فلا يجمع بين " يَا " وبين الألف واللام
فتصل إلى الألف واللام بأي.
وها لازمه لأي، لِلتَّنْبيه، وهي عوض من الِإضافة في أي لأن أصْل أي
أن تكون مضافة في الاستفهام والخبر، وزعم سيبويه عَن الخليل أن المنادى
المفرد مبني وصفته مرفوعةٌ رفعاً صحيحاً لأن النداءَ يطرد في كل اسم مفرد.
فلما كانت البِنْيَةُ مطردة في المفرد خاصة شبه بالمرفوع فرفعت صفته.
والمازني يجيز في يا أيها الرجل النصب في الرجل، ولم يقل بهذا القول أحد
من البصريين غيره، وهو قياس لأن موضع المفرد المنادى نصب فحملت
صفته على موضعه، وهذا في غير يا أيها الرجل جائز عند جميع النحويين نحو
قولك يا زيدُ الظريفُ والظريفَ، والنحويون لا يقولون إِلا يا أيها الرجل، يا أيها

(1/98)


الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

الناسُ، والعرب لغتها في هذا الرفع ولم يرد عنها غيره، وإنما المنادى في
الحقيقة الرجل، ولكن أيُّ صلة إليه وقال أبو الحسن الأخفش إِن الرجل أنْ
يَكون صلة لأي أقيس، وليس أحد من البصريين يتابعه على هذا القول.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
معناه وِطاءً، لم يجعلها حَزْنةً غليظة لا يمكن الاستقرأر عليها.
وقوله: (والسماءَ بناءً) كل ما علا على الأرض فاسمه بناءٌ،.
ومعناه إنه جعلها سقفاً.
كما قال عزَّ وجلَّ: (وَجَعَلْنا السمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً)، ويجوز في قوله:
(جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ) وجهان: الإدغام والِإظهار، تقول: جعل لكم وجعل
لكم الأرض، فمن أدغم فلاجتماع حرفين من جنس واحد وكثرة الحركات، ومن أظهر - وهو الوجه وعليه أكثر القراءِ - فلأنهما منفصلان من كلمتين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أنْدَاداً وأنْتُم تَعْلمُون).
هذا احتجاج عليهم لِإقرارهم بأنه الله خالقُهم، فقيل لهم لا تجعلوا لله
أمثالاً وأنتم تعلمون أنهم لا يَخْلُقون واللَّه الخالق - وفي اللغة فلان ندُّ فلانٍ:، وندِيدُ فُلَانٍ.
قال جرير:
أتيماً تجعلون إِليَّ نِدًّا. . . وما تيمٌ لِذِي حَسبٍ نَدِيد

(1/99)


فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)

فهذه الآية والتي قبلها احتجاج عليهم في تثبيت توحيد اللَّه عزَّ وجلَّ.
ثم احتج عليهم فيما يلي هذه الآية بتثبيت أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: -

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)
(فِي رَيْبٍ) معناه في شك.
وقوله (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) للعلماءِ فيه قولان
أحدهما: قال بعضهم: (مِنْ مثلهِ): من مثل القرآن - كما قال عزَّ وجلَّ:
(فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) وقال بَعْضهم (من مثله) مِنْ بَشَر مِثْلِه.
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)).
أيْ ادعَوَا من استدعيتم طاعته ورجوتم معونته في الإتيان بسورة من
مثله.
* * *

وقوله: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
قيل لهم هذا بعد أن ثبت عليهم أمر التوحيد وأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فوعدوا بالعذاب إِن لم يؤمنوا بعد ثبوت الحجة عليهم.
وجزم (لَمْ تَفْعَلوا) لأن لمْ أحدثَتْ في الفِعْل المستقبل معنى المضى فجزمتْه، وكل حرف لزم الفعل فأحدث فيه معنى فله فيه من الِإعراب على قسط معناه - فإِن كان ذلك الحرف " أنْ " وأخواتها نحو لَنْ تفعلوا ويريدون " أنْ يطفئوا). فهو نصب لأن أن وما بعده بمنزلة الاسم فقد ضارعت (أنْ الخفيفة) أنَّ المشدَّدة وما بعدها لأنّك إِذا قلت ظننت أنك قائم فمعناه ظننت قيامك، وإِذا قلت أرجو أنْ تَقومَ فمعناه أرجو قيامك، فمعنى " أنْ " وما عملت فيه كمعنى " أنَّ " المشددة وما

(1/100)


وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)

عملت فيه، فلذلك نصبت " أنْ " وجزمت " لَمْ " لأن ما بعدها خرج من تأويل الاسم، وكذلك هي وما بعدها يخرجان من تأويل الاسم:
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (التِي وَقودُها النَّاسُ والحِجَارة).
عرفوا عذاب اللَّه عزَّ وجلَّ بأشد الأشياءِ التي يعرفونها لأنه لا شيء في
الدنيا أبلغ فيما يؤلم من النار، فقيل لهم إن عذاب اللَّه من أشد الأجناس التي
يعرفونها، إلا أنه من هذا الشديد الذي يعرفونه، ويقال إن الحجارة هنا
تفسيرها حجارة الكبريت وقوله (وَقودُها) الوقود هو الحطب، وكل ما أوقد
به فهو وقود، ويقال هذا وقودك، ويقال قد وقدت النار وقُوداً فالمصدر
مضمومٌ ويجوز فيه الفتح.
وقد روي وقدت النار وَقوداً وقبلت الشيء قَبُولًا.
فقد جاءَ في المصدر (فَعُول) والباب الضم.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
ذكر ذلك للمؤمنين، وما أعد لهم جزاءً لتصديقهم، بعد أن ذكر لهم
جزاءَ الكافرين، وموضع (أنَّ) نصب معناه بشرهم بأن لهم جنات).
فلما سقطت الباءُ أفْضَى الفعل إلَى " أن " فَنُصِبَتْ. وقد قال بَعْض
النَحويينَ إنَهُ يَجُوز أنْ يكون موضعُ مثل هذا خفضاً وإن سقطت الباءُ من أن، و (جنات) في موضع نصب بأنَّ، إلا أن التاءَ تاءُ جماعة المؤَنث هي في
الخفض والنصب على صورة واحدة كما أن ياءَ الجَمْع في النصْب والخَفْضِ

(1/101)


على صورة واحدةٍ، تقول رأيت الزيدين ومررت بالزيدين، ورأيت الهنداتِ، ورغبت في الهنْداتِ.
والجنة في لغة العرب البُسْتان، والجنات البساتين "، وهي التي وعد الله
بها المتقين وفيها ما تَشْتَهي الأنْفس وتَلَذ الأعين.
قوله عزَّ وجلَّ: (كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا).
قال أهل اللغة: معنى " مُتَشَابِه " يشبه؛ بعضه بعضاً في الجَوْدَةِ.
والحُسْن، وقال أهل التفسير وبعض أهل اللغة " متشابها " يشبه بعضه بعضا
في الصورة ويختلف في الطعْم، ودَليل المُفَسرين قوله: (هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ) لأن صورتَهُ الصورة الأولى، ولكن اختلافَ الطعوم على اتفاق الصورَةِ
أبلغُ وأعرف عند الخلق، لو رأيت تفاحاً فيه طعم كل الفاكهة لكان غايةً في
العجب والدلالة على الحكمة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ).
أي أنهن لا يحتجن إلى ما يحتاج إليه نساءُ أهل الدنيا من الأكْل
والشرْب ولا يَحِضْنَ، ولا يحتجن إلى ما يُتَطَهرُ مِنه، وهن على هذا طاهرات
طهَارَةَ الأخلاق والعفةِ، فمُطهرة تَجْمَعُ الطهارةَ كلها لأن مُطهًرة أبْلَغ في الكلام من طاهرة، ولأن مطهرة إنما يكون للكثير.
وإعْرَابُ (أَزْوَاجٌ) الرفع بـ (وَلَهُمْ)
وإنْ شئت بالابتداءِ، ويجوز في (أَزْوَاجٌ) أن يكون واحدتُهن زوجاً وزوجةً قال الله تبارك وتعالى (اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)
وقال الشاعر:

(1/102)


إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)

فبكى بناتي شَجْوَهُن وزوْجَتِي. . . والطامِعُونَ إليَّ ثم تَصَدَّعُوا
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26)
إنْ قال قائل: ما معنى ذكر هذا المثل بعقب ما وعد به أهلُ الجَنةِ وما
أعد للكافرين؛ قيل يتصل هذا بقوله: (فَلاَ تَجْعَلوا للَّهِ أندادا) لأن اللَّه
عزَّ وجلَّ قال: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا).
وقال: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا) فقال الكافرون: إن إلَهَ محمدٍ يضْربُ الأمثَالَ بالذُّبَاب، والعَنْكَبُوتِ.
فقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا).
أيْ، لِهَؤلاءِ الأنداد الذين اتخذتُمُوهُمْ مين دُونِ اللَّهِ، لأن هَذَا في
الحقيقة مَثلُ هَؤُلاءِ الأنْدَادِ.
فأما إعراب (بَعُوضةً) فالنصبُ من جِهَتين في قَوْلنَا، وذكر بعض
النحويين جهةً ثالثة، فأما أجْوَدُ هذِه الجِهَاتِ فأنْ تَكونَ ما زائدة مؤَكدة، كأنه قال: إنَّ الله لا يستحيي أن يضرب بَعُوضة مَثلاً، وَمَثلاً بَعوضَةً، وما زائدة مؤَكدة نحو قوله: (فَبِمَا رَحْمَةٍ من اللَّهِ لِنْتَ لَهم) المعنى فَبرحمة من الله

(1/103)


حَقا، فَمَا في التوكيد بمنزلةِ حَق إلا أنه لا إعرابَ لها، والخافض والناصِب
يتخطاهَا إلى مَا بَعْدَهَا، فمعْنَاهَا التوكِيدُ، ومثلُها في التوكيد (لا) في قوله:
(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ) معناه لأنْ يعلمَ أهل الكتاب، ويجوز أنْ يكونَ
" مَا " نكرة فيكون المعنى: " إنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي أنْ يَضْرَب شَيئاً مَثَلاً " وكأن
بعوضة في موضع وصف شيء، كأنه قال: إن اللَّه لا يستحيي أن يضرب مثلًا شيئاً من الأشياءِ، بعوضة فما فوقها.
وقال بَعْضُ النحويينَ: يجوز أن يكون معناه ما بين بعوضة إلى ما فوقها، والقولان الأولان قول النحويين القدماءِ.
والاختيار عند جمع البَصْريينَ أن يكون ما لغوا، والرفع في بعوضة جائز في
الإعراب، ولا أحفظ من قرأ به (ولا أعلم) هَلْ قرأ به أحد أم لا، فالرفْعُ
على إضْمَارِ هُوَ كأنهُ قال مَثلاً (لذي هو بعوضة وهذا عند سيبويه ضعِيف)، وعنه مندوحة، ولكن من قرأ (تَمَاماً عَلَى الذِي أحْسَن) وقد قرئ به - جاز أن يقرأ (مَثَلاً مَا بعوضَة) ولكنهُ في (الذي أحسنُ) أقوى لأن الذي أطول.
وليس للذي مذهب غيرُ الاسْماء.
وقالوا في معنى قوله: (فمَا فَوْقَها)
قالوا في ذلك قولين: قالوا (فمَا فَوْقَها): أكبَرُ مِنْهَا، وقالوا (فمَا فَوْقَها) في الصغرِ.
وبعضُ النحويينَ يختارُون الأول لأن البَعُوضة كأنها نِهَايةُ في الضغرِ فِيمَا
يُضْرَبُ بِه المَثلُ، والقولُ الثاني مختارُ أيضاً، لأن المطلوبَ هنا والغرضَ
الصغرُ وتقليلُ المَثلِ بِالأنَدَادِ.
قوله عزَّ وجلَّ: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) يعني صدقوا (فَيَعْلَمُونَ) أن هذا المثل

(1/104)


الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)

حق، (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) أي ما أراد بالذباب والعنكبوت مثلاً؛ فقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (يُضِل بِهِ كَثِيراً).
أي يَدعو إلى التصْدِيقِ بِه الخَلْق جميعاً فيكذبُ به الكفارُ - فيُضَلون
(وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) يدل على أنهم المُضَلونَ بِه، ويهدى به
كثيراً، يزاد به المؤمنون هدايةً لأن كلما ازْدَادُوا تَصْدِيقاً فقدِ ازْدَادُوا هِدَايةً والفاءُ دخَلَتْ في جواب، أمَّا فِي قوله (فيَعلمون) لأن أما تأتي بمعنى الشرط
والجزاءِ كأنَّه إذا قال (أما زيد فقد آمن وأمَّا عمرو فقد كفر) فالمعنى مهما
يكن من شيءٍ فقد آمن زيد ومهما يكن من شيءٍ فقد كفر عمرو.
وقوله (ماذا) يجوز أن يكون (ما) و (ذا) اسماً واحداً يكون موضعهما
نصباً، المعنى أي شيءٍ أراد اللَّه بهذا مثلاً، ويجوز أن يكون (ذا) مع (ما)
بمنزلة الذي فيكون المعنى ما الذي أراده اللَّه بهذا مثلاً؛ أو أي شيءٍ الذي
أراده اللَّه بهذا مثلاً، ويكون (ما) هنا رفعاً بالابتداء و (ذا) في معنى الذي، وهو خَبَرُ الابتداء وإِعراب (الفاسقين) نصب كأنَّ المعنى وما يَضِل بِه أحَد إلا
الفَاسقين.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
(عهد الله) هنا - واللَّه أعلم - ما أخذ اللَّه على النبيين ومن اتبعهم ألا
يَكْفُروا بأمُرِ النبِي - صلى الله عليه وسلم -، دليل ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا).

(1/105)


كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)

فهذا هو العهد المأخوذ على كل من اتبع الأنبياءَ عليهم السلام " أن
يؤْمنوا بالرسول المصدقِ لِمَا مَعَهُمْ و - " إصْري " - مثْلُ عهدي.
ويجوز أن يكون عهدُ اللَّه الذي أخذَه من بَنِي آدمَ مِنْ ظُهورِهم.
حين قال. . . (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا).
وقال قوم أن عَهدَ الله - عز وجل - الاستدلال على تَوْحيده، وأنَّ كل ذِي تَمييز يعلمُ أن اللَّه خَالق فَعَليْهِ الإيمانُ بِهِ، والقولان الأولان في القرآن ما يصدقُ تَفْسيرَهُمَا.
فأمَّا إعْرابُ (الَّذِينَ) فالنصْب على الصفَةِ للفَاسِقينَ، وموضع قوله:
(أنْ يُوصل) خفض على البدل من الهاء والمعنى ما أمر الله بأنْ يُوصَلِ.
وَمَوْضِعُ (أولَئكَ) رفع بالابْتِدَاءِ و (الخَاسِرُونَ) خبرُ الابتدَاءِ وهم بِمَعْنى
الفصل وهو الذي يسميه الكوفيون العماد، ويجوز أن يكون أُولَئِكَ رفعاً
بالابتداءِ وهم ابتداء ثان، والخاسرون، خبر لِهُمْ و (هُمُ الخاسرون)، خبر عن أولئك.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
فكونهم أمْوَاتاً أوْلاًْ أنَّهمْ كانُوا نُطَفاً ثم جعِلوا حَيواناً ثم أمِيتُوا ثم أحْيُوا
ثم يُرجَعُونَ إلى اللَّه - عزَّ وجلَّ - بعد البعث كما قال (مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ) أي مسرعين.
وقوله، عزَّ وجلَّ (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا).

(1/106)


هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)

والأجداثُ القبورُ. وَتأويلُ كيف أنها، استفهام في معنى
التعجب وهذا الثعجب إنما هو للخلق وللمؤمنين، أي اعجبوا من هؤُلاءِ
كيف يَكفُرون وقد ثبتَتْ حجةُ اللَّهِ عَلَيْهمْ ومعنى (وكنتم) وقد كنتم وهذه
الواو للحال، وإضمار قد جائز إذا كان في الكلام دليل عليه، وكذلك قوله (أو جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ) (وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ).
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
موضع ما مفعول به وتأويله أن جميع ما في الأرض منعَمُ به عليكم
فهو لكم.
وفيه قول آخر أن ذلكم دليل على توحيد اللَّه عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ اسْتَوى إلىَ السَّمَاءِ).
فيه قولان: قال بعضهم: (اسْتَوى إلىَ السَّمَاءِ)، عمد وقصد إلى السماءِ.
كما تقول قد فرغ الأمير من بلد كذا وكذا، ثم استوى إلى بلد كذا، معناه
قصد بالاستواءِ إليه، وقد قيل (أيضاً) استوى أي صعد أمره إلى السماء
وهذا قول ابن عباس، والسماءُ لفظها لفظ الواحد، ومعناها معنى الجمع.
والدليل على ذلك قوله: (فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ).
ويجوز أن يكون السماءُ جمعاً كما أن السَّمَاوَات جمع كأن واحِدَهُ سَمَاة وسماوة وسماء للجميع.
وزعم أبو الحسن الأخفش أن السماءَ جائز أن يكون واحداً يراد به

(1/107)


وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)

الجمع كما تقول "كثر الدِّرْهَمُ والدينار في أيدي الناس ".
والسماءُ في اللغة السقف ويقال لكل ما ارتفع وعلا قد سما يسمو، وكل
سقف، فهو سماء يا فتى، ومن هذا قيل للسحاب لأنها عالية.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
قال أبو عبيدة " إذ " ههنا زائدة، وهذا إقْدَام مِنْ أبي عبيدة لأن القرآن
لا ينبغي أن يتكلم فيه إلا بغاية تجري إلى الحق و (إذ) معناها الوقت، وهي
اسم فكيف يكون لغواً، ومعناها الوقت؛ والحجة في (إذ) أنَّ اللَّه تعالى ذكر
خلق الناس وغيرهم، فكأنَّه قال ابتدأ خلقكم إذ قال ربك للملائكة (إِني
جاعل في الأرض خَليفَةً).
وفي ذكر هذه الآية احتجاج على أهل الكتاب
بتَثْبيتِ نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّ خَبَرَ آدم وما أمره اللَّه به من سجود الملائكة له معلوم عندهم، وليس هذا مِنْ علم العرب الذي كانت تعلمه، ففي إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم -
دليل على تثبيت رسالته إذ آتاهم بما ليس من علم العرب، وإنما هو خبر لا
يعلمه إلا من قرأ الكتاب أو أوحي إليه به.
وتأويل قوله عزَّ وجلَّ: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ):
روي أن خلقا يقال لهم الجان كانوا في الأرض فأفسدوا وسفكوا

(1/108)


الدماء لبعث اللَّه ملائكتَه فأجْلَتْهم من الأرض، وقيل إن هُؤلاء الملائكة
صاروا سكان الأرض بعد الجان، فقالوا يارب (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ).
وتأويل استخبارهم هذا على جِهَةِْ الاسْتِعْلام وجهة الحكمة، لا على
الإنكار، فكأنهم قالوا يا اللَّه: إن كان هذا ظننا فَعَرفنا وجه الحق فيه.
وقال قوم: المعنى فيه غير هذا وهو أن الله عزَّ وجلَّ أعلم الملائكة أنه جاعل في الأرض خليفة، وأن من الخليقة فرقةً تسفك الدماءَ وهي فرقة مِنْ بَنِي آدَم، وأذن اللَّه عزَّ وجلَّ للملائكةِ أنْ يسْألوه عن ذلك وكان إعلامُه إياهم هذا زِيادةً في التثبيت في نفوسهم أنَّه يعلم الغيب، فكأنهم قالوا: أتخلق فيها قوماً
يسفكون الدماءَ ويَعصونَك؛ وإنَّما ينبغي إذا عرفوا أنك خلقتهم أن يسبحوا
بحمدك كما نسبح، ويقدسُوا كما نقدس، ولَمْ يَقُولُوا هَذَا إلا وقد أذن لهم.
ولا يجوز على الملائكة أن تقول شيئاً تتظنى فيه، لأن اللَّه تعالى وصفهم
بأنهم يفعلون ما يؤمرون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَىِ أعْلمُ ما لا تَعْلَمُونَ).
أي أبْتَلِي من تَظُنُون أنَّه يطيع فيهديه الابتلاءُ، فالألف ههنا إِنَّمَا هي
على إِيجاب الجعل في هذا القول، كما قال جرير:

(1/109)


وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)

ألسْتُمْ خَيْرَ مَنْ ركب المطايا. . . وأنْدَى العالَمينَ بطون راحِ
ومعنى (يَسفِكُ) يصُب، يقال سفك الشيءَ إذا صبَّه
ومعنى (نُسَبح بحمدك) نُبَرئُك من السوءِ، وكل مَنْ عمل عَمَلاً قَصدَ به اللَّه فقد سبح، يقال فرغت من تسبيحي أي من صلاتي، وقال سيبويه وغيره من النحويين: إن معنى سُبْحَان الله: براءة اللَّه من السوءِ وتنزيهه من السوءِ، وقال الأعشى:
أقول لما جاءَني فخرُهُ. . . سبحانَ من علقمةَ الفاخر.
المعنى البراءَة مِنْه ومِنْ فخْرِه. .
ومعنى (نُقَدِّسُ لَكَ) أي نطهر أنْفُسَنا لك، وكذلك منْ أطاعك نقدسُه
أي نطهّره، ومن هذا بيت المقدس، أي البيت المُطهرُ أو المكان الذي يتطهر
فيه من الذنوب.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)
قال أهل اللغة علم آدم أسماءَ الأجناس، وعرض أصحاب الأسماءِ من

(1/110)


وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)

الناس وغيرهم على الملائكة، فلذا قال: (ثم عرضهم) لأن فيهم من يعقل.
وكل ما يعقل يقال لجماعتهم (هم). و (هم) يقال للناس ويقال للملائكة؛
ويقال للجن، - ويقال للجان ويقال للشياطين فكل مميز في الإضمار (هم) هذا مذهب أهل اللغة.
وقد قال بعض أهل النظر: إن الفائدة في الِإتيان بالأسماءِ أبلغ منها هي
الفائدة بأسماءِ معاني كل صنف من هذه، لأن الحجة في هذا أن الخيل إذا
عرضت فقيل ما اسم هذه، قيل خيل، فأي اسم وضع على هذه أنبأ عنها.
وإنما الفائدة أن تُنْبِئ باسم كل معنى في كل جنس، فيقال هذه تصلح لكذا.
فهذه الفائدة البينة التي يتفق فيها أن تسمى الدابة والبعير بأي اسم شئتَ.
والمعنى الذي فيها وهو خاصها معنى واحد وإن اختلفت عليه الأسماءُ واللَّه
أعلم.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
قَرأتِ الْقُراءُ (للملائِكةِ اسْجُدُوا) بالكسر وقرأ أبو جعفر المدني
وحده (للملائكةُ اسْجدوا) بالضم.
وأبو جعفر من جِلَّةِ أهل المدينة

(1/111)


وأهلِ الثَّبتِ في القَراءَةِ إلا أنه غلط في هذا الحرف (1) لأن الملائكة في موضع
خفض فلا يجوز أن يرفع المخفوض ولكنه شبَّه تاءَ التأنيث بكسر ألف
الوصل لأنك إذا ابْتدأتَ قلت اسْجُدوا.
وليس ينبغي أن يقرأ القرآن بتوهم غيرِ الصواب.
(وإذ) في موضع نصب عطف على (إذ) التي قبلها والملائكة واحدهم
مَلَك، والأصل فيه مَلأك أنشد سيبويه.
فلست لِأنْسي ولكنِ لِمَلأك. . . تنزَّلَ من جوِّ السَّماءِ يَصُوبُ
ومعناه صاحب رسالة، ويقال مألُكة ومألَكَة ومألُك جمع مألُكة
قال الشاعر:
أبلغ النُعمانُ عني مالكاً. . . أنه قدْ طال حَبْسي وانتظاري
وقوله: (لآدم) آدمُ في موضع جَر إلا أنه لا ينْصرِفُ لأنَّه على وزن
أفعَل: يقول أهل اللغة إن اشتقاقه من أديم الأرض، لأنه خُلقَ مِنْ تُراب.
وكذلك الأدمة إنما هي مشبهة بلون التراب. فإذا قلت مررت بآدم وآدم آخر، فإن النحويين يختلفون في أفعل الذي يسمى به وأصله الصفة، فسيبويه
__________
(1) قراءة أبي جعفر - رحمه الله - متواترة، ومن ثَمَّ فلا وجه للاعتراض عليها. والله أعلم.

(1/112)


والخليل ومن قال بقولهما يقولون إنه يَنْصرف في النكرة لأنك إِذا نكّرته رددته إلى حال قد كان فيها يَنْصَرِف
وقال أبو الحسن الأخفش إذا سَمَّيْتَ به رجلًا
فقد أخرجته من باب الصفة، فيجب إذا نكرته أن تصرفه فتقول: مررت بآدمٍ وآدمٍ آخر.
ومعنى السجود لآدم عبادة الله عزَّ وجلَّ لا عبادةُ آدم، لأن الله
عزَّ وجلَّ: (إنما خلق ما يعقل لعبادته.
فإذا ابتدات قلت: اسْجُدوا فضممت الألفَ، والألفُ لا حظ لها في
الحركة، أعني هذه الهمزة المبتدأ بها. وإنَّما أدخلت - للساكن الذي بعدها.
لأنه لا يبتدأ بساكن، فكان حقها الكسرَ لأن بعدها ساكناً، وتقديرها
السكون، فيجب أن تكسر لالتقاءِ السَّاكنين، ولكنها ضمت لاستثقال الضمة بعد الكسر، وكذلك كل ما كان ثالثُه مَضْمُوماً - في الفعل المستقبل نحو قوله (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ)، ونحو (اقْتُلُوا يُوسُفَ) لأنه
من أنَظَر يَنْظُر وقَتَل يقْتُل، وإنما كرهت الضمة بعد الكسرة - لأنها لا تقع في
كلام العرب - لثقلها - بعدها.
فليس في الكلام مثل فِعُل ولا مثل إفْعُل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَسَجَدُوا إلا إبلِيسَ أبَى):
قال قوم إن إبليس كان من الملائكة فَاسْتُثْنِيَ منهم في السجود وقال قوم
من أهل اللغة: لم يكن إبليس من الملائكة، والدليل على ذلك قوله: (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ)، فقيل لهُؤلاءِ فكيف جاز أنْ يُستَثْنى منهم؛ فقالوا:

(1/113)


وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)

إن الملائكة - وإياه - أمروا بالسجود، قالوا ودليلنا على أنه أُمِرَ معهم قوله: (إِلا إبْلِيسَ أبى)، فلم يأب إلا وهو مأمور.
وهذا القول هو الذي نختاره، لأن إبليس كان من الجن كما قال عزَّ وجلَّ، والقول الآخر غير ممتنع، ويكون (كَانَ مِنَ الْجِنَ) أي كان ضالًا كما أن الجن كانوا ضالين فجعل منهم كما قال في قصته
وكان من الكافرين، فتأويلها أنه عمل عملهم فصار بعضَهم
كما قال عزَّ وجل (المُنَافِقُونَ والمُنَافِقَاتُ بعضُهم مِنْ بَعْضٍ).
وفي هذه الآية من الدلالة على تثبيت الرسالة للنبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الآية التي قبلها، والتي تليها؛ لأنه إخبار بما لَيْس من علم العرب ولا يعلمه إلا أهل الكتاب، أو نبي أوحِيَ إليه
وإبليس لم يُصْرف - لأنه اسم أعجمي
اجتمع فيه العجمة والمعرفة فمنع من الصرفِ.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)
الرغَدُ الكثيرُ الذي لا يُعَنيك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)).
أي إنْ عَمِلْتُمَا بأعمال الظالمين صِرْتُما منهم، ومعنى (لَأتَقْرَبا) ههنا -
لا تأكلا، ودليل ذلك قوله (وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ) أي لا تقرباها في الأكل. (ولاتقربا) جزم بالنفي.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَتَكُونَا ينَ الظالِمِين) نصب، لأن جواب النهي بالفاءِ نصب، ونصبه عند سيبويه - والخليل بإضمار أن، والمعنى لا يكن منكما قرب لهذه الشجرة فَكَوْنٌ مِنَ الظالمين، ويجوز أنْ يكونَ فتكونَا جزم على العطف على قوله وَلاَ تَقْرَبَا فَتَكُونَا.

(1/114)


فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)

وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
معناه أنهما أُزِلَّا بإغْوَاءِ الشيطان إياهُمَا، فصار كأنَّه أزلَّهْمَا، كما تقول
للذي يعمل ما يكون وصلة إلى أن يزلك من حال جميلة إلى غيرها: أنت
أزْلَلْتَنِي عَنْ هذا، أي قبولي منك أزلنِي، فصرت أنتَ المُزيلَ لِي، ومعنى
الشيطان في اللغة الغالي في الكفر المتبعد فيه من الجن والإنس، والشطَنُ في
لغة العرب الخَبْل، والأرض الشطون: البعيدةُ، وإنما الشيطان فَيْعال من هذا، (وقد قرئ: (فَأزَالهُمَ الشيطان) من زُلْتُ وأزَالَنِي غيْري. وأزلهما من زَلَلْتُ
وأزَلني غيري، ولزَللت ههُنا وجهان: يَصْلح أن يكون فأزلهما الشيطان
"أكسبهما الزلة والخَطِيئةَ، ويصلح أن يكون "فأزلهما نحَّاهما"
وكلا القراءَتين صواب حسن).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)
جمع الله للنبي - صلى الله عليه وسلم - قصة هبوطهم، وإنما كان إبليس اهبِطَ أولاً.
والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ (اخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ)
وأهْبط آدمُ - وحواءُ بعد فجمع الخَبرُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهمْ قد اجتمعوا - في الهبوط وإن كانت أوْقَاتُهم متفرقة فيه.
وقوله - (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) إبْليس عدو للمؤْمنين من ولد آدم.
وعداوته لهم كفر، والمؤمنون أعداءُ إبليس، وعداوتهم له إيمان.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) أي مُقَام وثبوت
وقوله (إِلى حِينٍ).

(1/115)


فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)

قال قوم: معنى الحين ههنا إلى يوم القيامة، وقال قوم: إلى فناءِ الآجال
أيْ كلُ مستقر إلى فناءِ أجله، والحين والزمان في اللغة منزلة واحدة، وبعض
الناس يجعل الحين في غير هذا المَوْضِع ستة أشهر دليله قوله: (تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا).
وإنما (كل حين) ههنا جُعِلَ لمدة معلومة والحين يصلح للأوقات كلها
إلا أنه - في الاستعمال - في الكثير منها أكثر، يقال ما رأيتُكَ منذُ حين، تريد منذ حين طويل.
والأصل على ما أخبرنا به.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إنَهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
الكلمات - واللَّه أعلم - اعتراف آدم عليه السلام وحواء بالذنب لأنهما
قالا: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23).
اعترفا بذنبهما وتابا.
وفي هذه الآية موعظة لولدهما، وتعريفهم كيف السبيل إلى التنَصُّلِ من
الذُنُوب، وأنه لا ينفع إِلا الاعترافُ والتوبةُ، لأن ترك الاعتراف بما حرّم اللَّه
- عزَّ وجلَّ - حَرامٌ وكُفْرٌ باللَّه فلا بد من الاعتراف مع التوبة، فينبغي أن يفهم هذا المعنى فإِنه من أعظم ما يحتاج إِليه من الفوائد.
وقرأ ابن كثير: (فتلقى آدمَ من ربِّه كَلمَاتٌ)، والاختيار ما عليه الإجماع (1)
__________
(1) قراءة ابن كثير متواترة، ومن ثَمَّ فلا يجوز المفاضلة والترجيح بين القراءات. والله أعلم.

(1/116)


قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)

وهو في العربية أقوى، لأن آدم تعلم هذه الكلمات فَقِيلَ تَلقَّى هذه الكلماتِ، والعرب تقول تلقيت هذا من فلان، المعنى فَهْمي قَبِلَهُ من لفْظِه.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)
الفائدة في ذكر الآية أنه عزَّ وجلَّ أعلمهم أنه يبتليهم بالطاعة وأنه
يُجَازِيهم بالجَنةِ عَلَيْها وبالنَّارِ على تَرْكِهَا، وأن هَذَا الابتلاءَ وقَع عندَ الهبُوط
على الأرض.
وإعراب (إِمَّا) في هذا الموضع إعراب حروف الشرط والجزاءِ، إلا أن
الجزاءَ إذا جاءَ في الفعل معه النون الثقيلة أو الخفيفة لزمتها ما ومعنى
لزومها إياها معنى التوكيد، وكذلك معنى دخول النون في الشرط التوكيد.
والأبلغ فيما يؤمر العباد به التوكيد عليهم فيه.
وفتح ما قبل النون في قوله: (يَأْتِيَنَّكُمْ) لسكون الياءِ وسكون النون
الأولى، وجواب الشرط في الفاءِ مع الشرط الثاني وجوابه وهو
(فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ)

(1/117)


وجواب (فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ) (قوله) (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
و (هُدَايَ): الأكثر في القراءَة والرواية عن العرب (هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ)
فالياء في (وهُدَايَ) فتحت لأنها أتت بعد ساكن وأصلها الحركة التي هي الفتح
فالأصل أن تقول: هذا غلامِيَ قد جاءَ - بفتح الياءِ - لأنها حرف في موضع
اسم مضمر منع الِإعراب فألزم الحركة كما الزمت " هُوَ " وحذف الحركة
جائز لأن الياء من حروف المد واللين، فلما سكن ما قبلها لم يكن بد من
تحريكها فجعل حظها ما كان لها في الأصل من الحركة وهو الفتح، ومن
العرب من يقولون: " هُدَيً وعَصَى "، فمن قرأ بهذه القراءَة فإنما قلبت
الألف إِلى - الياءِ، للْيَاءِ التي بعدها، إِلا أن شَأنَّ يَاءِ الإضافة أنْ يُكْسر ما قَبْلَها، فجعل بدلَ كَسْرِ ما قَبلها - إِذْ كانت الألف لا يكسر ما قبلها ولا تكسر هي - قَلْبَها ياءً. وطَىءٌ تقول في هُدًى وعَصاً وأفْعًى وما أشبهَ هذا في الوقفِ هُدَيْ وعَصَيْ (وأفعى)، بغير إِضافة.
وأنشد أبو الحسن الأخفش وغيره من النحويين.
تبَشري بالرفْهِ والماءِ الروَى. . . وفرج منك قريب قد أتَىْ
وبعض العرب يجري ما يجريه في الوقف - في الأصل - مجراه في

(1/118)


يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)

الوقف وليس هذا الوجهَ الجيدَ. وزعم سيبويه أن الذين أبدلوا من الألف
الياء، أبدلوها في الوقف ليكون أبين لها.
وحكى أيضاً أن قوماً يقولون في الوقف حُبْلَوْ، وأفْعَوْ.
وإِنما يحكي أهل اللغة والعلم بها كل ما فيها، ليتميز الجيد
المستقيم المطرد من غيره، ويجتنب غير الجَيِّد. فالباب في هذه الأشياء أن
ئنْطق بها في الوصل والوقف بألفٍ، فليس إِليك أن تقلب الشيءَ لِعِلةٍ ثم تنطق
به على أصله والعلة لمْ تزل، فالقراءَة التي ينبغي أن تُلْزم أهي، (هدَايَ فَلَا
خَوْفٌ) إلا أن تثبت برواية صحيحة " هدَيّ " فيقرأ بها. ووجهه من القياس ما وصفنا.
فأمَّا قوله: (هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ).
وقوله: (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) فلا يجوز أن يقرأ هذا صراط علاي، ولا ثمَّ إلاي مرجعكم، لأن الوصل كان في هذا: " إلآي " و " عَلَاي " ولكن الألف أبْدِلَتْ منها مع المضمرات الياءُ، ليفصل بين ما آخره مِما يَجب أن نعْرَبَ ويتَمَكن، ومَا آخره مما لا يجب أن يعرب، فَقلبَتْ هذه الألف ياءً لهذه العلة.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40)
نصب (بني إِسرائيل) لأنه نداء مضاف، وأصل النداءِ النصب لأن
معناه معنى " ناديت " و " دعوت " وإسرائيل في موضع خفض إِلا إنَّه فتح آخره لأنه لا يَنْصَرف، وفيه شيئان يوجبان منعَ الصرف، وهما إنَّه أعجمي وهو معرفة - وإذا كان الاسم كذلك لم يَنْصَرف، إِذا جاوز ثلاثة أحرف عند

(1/119)


النحويين، وفي قوله: (نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) وجْهان، أجودهما فتح
الياءِ لأنَّ الذي بعدها ساكبن وهو لام المعرلْة فإستعمالها كثيرَ في الكلام
فاختير فتح الياءِ معها لالتقاءِ " السَّاكنين، ولأن الياء لو لم يكن بعدها ساكن كانَ فتحها أقوى في اللغة، ويجوز ُأنْ تحذف الياءُ في اللفظ لالتقاءِ السَّاكنين فتقرأ - (نعمتِ التي) أنعمت بحذف الياءِ، والاختيار إثبات الياء وفتحها لأنه أقوى في العربية وأجزل في اللفظ وأتم للثواب، لأن القارئ يجازى على كل ما يقرؤُه من كتاب اللَّه بكل حرف حسنة، فإن إثباته، أوجَهُ في اللغة. فينبغي إثباته لما وصفنا.
فأما قوله عزَّ وجلَّ: (هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31).
فلم يكثر القراءُ فتح هذه الياء، وقال أكثرُهُم بفتحها مع الألف واللام.
ولعَمْري إن اللام المَعْرفَةَ أكثرُ في الاستعمال، ولكني أقول: الاختيار
" أخِيَ اشْدُدْ " بفتح الياءِ لالتقاءِ السَّاكنين، كما فتحوا مع اللام، لأن اجتماع ساكنين مع اللام وغيرها معنى واحد وإن حذفت فالحذف جائز حَسَن إلا أن الأحْسَنَ ما وَصَفْنَا.
وأمَّا معنى الآية في التذكير بالنعمة فإنهم ذُكرُوا بِمَا أنْعِمَ بِه على آبائهم
من قبلهم، وأنعم به عليهم، والدليل على ذلك قوله: (إذْ جَعَلَ فِيكُمْ أنبِيَاءَ
وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً)، فالذين صادفهم النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا أنبياء وإنَّما ذُكِّروا بما أنعم به على آبائهم وعليهم في أنفسهم وفي آبائهم، وهذا المعنى موجود في كلام العرب معلوم عندها.
يفاخر الرجلُ الرجُلَ فيقولُ هَزَمْناكُمْ يَوْمَ " ذي قار "،

(1/120)


ويقول قتلناكم يوم كذا، معناه قَتَل آباؤُنا آباءَكم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأوْفُوا بِعَهْدِي أوفِ بِعَهْدِكُمْ).
معناه - واللَّه أعلم - قوله: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ) فتمام تبيينه أن يخبروا بما فيه من ذكر نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - وقد بيَّنَّا ما يدُل على ذكر العهد قبل هذا وفيه كفاية.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).
نصب بالأمر كأنه في المعنى " أرهبوني " ويكون الثاني تفسير هذا
الفعل المضمر، ولو كان في غير القرآن لجاز: " وَأنَا فَارْهَبُونِ "
ولكن الاختيار في الكلام والقرآن والشعر (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) حذفت الياء وأصله " فارهبونِي " - لأنها فاصلة، ومعنى فاصلة رأس آية ليكون النظم على لفظ مُتَسق، ويسمِّي أهلُ اللغة رؤوس الآي الفواصل، وأواخر الأبيات: القوافي.
ويقال وَفيْت له بالعهد فأنا وافٍ به، وأوفيت له بالعهد فأنا موف به.
والاختيار: - أوفيت، وعليه نزل القرآن كله قال الله عزَّ وجلَّ:

(1/121)


وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)

(وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) وقال: (وأوْفُوا بعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدتُمْ)
وقال: (فَأوْفُوا الْكَيْلَ والمِيزَانَ) وكل ما في القرآن بالألف
وقال الشاعر في " أوْفَيْتُ ":
" ووفيتُ " فجمع بين اللغَتَينِ في بيت واحد:
أما ابنُ عوف فقد أوْفى بذمته. . . كما وَفَى بقلاص النجم حاديها
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
يعني القرآن، ويكون أيضاً، (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ) بِكِتَابِكم وبِالْقُرْآنِ
إن شئت عادت الهاءُ على قوله (لما معكم)، وإنما قيل لهم (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ) لأن الخطاب وقع على حكمائهم فإذا كفروا كفر معهم الأتباع فلذلك قيل لهم: (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ) فإن قال قائل: كيف تكون الهاءُ لكتابهم؛ قيل له

(1/122)


إنههم إذا كتموا ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في كتابهم فقد كفروا به كما إنَّه من كتم آية من القرآن فقد كفر به ومعنى (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) - إذا كان بالقرآن - لا مؤنَةَ فيه.
لأنهم يظهرون أنهم كافرون بالقرآن. . ومعنى (أَوَّلَ كَافِرٍ) أولَ الكافرين،.
قال بعض البصريين في هذا قولين: قال الأخفش معناه أول منْ كفَر به، وقال البصريون أيضاً: معناه ولا تكونوا أول فريقٍ كافر به أي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وكلا القولين صواب حسن.
وقال بعض النحوين إن هذا إنما يجوز في فاعل ومفعول تقول الجيش
منهزم، والجيش مهزوم، ولا يجوز فيما ذكر: الجيش رجل، والجيش فرس، وهذا في فاعل ومفعول أبين، لأنك إذا قلت الجيش منهزم فقد عُلِمَ أنك تريد هذا الجيش فنقطت في لفظه بفاعل لأن المعنى الذي وضع عليه الجيش معنى يدل على جمع، فهو فَعال. ومفعول يدل على ما يدل عليه الجيش، وإذا قلت الجيش رجل فإنما يكره في هذا أن يتوهم أنك تقلله فأمَّا إِذا عرف معناه فهو سائغ: جيد.
تقول: جيشُهُمْ إِنَّما هو فرسٌ ورجُل، أي ليس بكثير، الاتباع فيدل المعنى على أنك تريد الجيش خيل ورجال، وهذا في فاعل ومفعول أبين كما وصفنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ).
اللغة العليا والقُدْمَى الفتح في الكاف وهي لغة أهل الحِجَازِ، والإمالة
في الكاف أيضاً جيّد بالغ في اللغة لأن فاعلا إذا سَلِم من حروف الإطباق

(1/123)


وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)

وحروف المستعلية كانت الإمالة فيه سائغةً إلا في لغة أهل الحجاز، والإمالة لغة بني تميم وغيرهم من العرب، ولسان الناس الذين هم بالعراق جارٍ على لفظ الِإمالة، فالعرب تقول: هذا عابد وهو عابد فيكسرون ما بعدها إلا أن
تدخل حروف الِإطباقِ وهي الطاء والظاء والصاد والضاد، لا يجوز في قولك
فلانٌ ظالم: ظالم ممال، ولا في طالب: طالب ممال، ولا في صابر صابر: ممال، ولا في ضابطٍ: ضابط ممال، وكذلك حروف الاستعلاءِ وهي: الخاءِ والغين، والقاف، لا يجوز في غافل: غافل ممال ولا في خادم: خادم ممال، ولا في قاهر قاهر: ممال. وباب الإمالة يطول شرحه إلا أن هذا في هذا الموضع هو المقصود وقدر الحاجة.
* * *

قوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)
يقال لبَسْت عليهم الأمرَ ألبِسُه، إذا أعَمَّيته عليهم، ولبِسْت الثوبَ
ألبَسُه ومعنى الآية: (لَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ)، والحق ههنا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وما أتى به من كتاب الله عزَّ وجلَّ، وقوله بالباطل، أي بما يحرفون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وأنتم تَعْلمُونَ) أي تأتون لبسكم الحق وكتمانه على علم منكم وبصيرةٍ.
وإعراب (وَلَا تَلبِسُوا) الجزم بالنهي، وكلامة الجزم سقوط النون، أصله
تَلْبِسُون وتَكْتمُونَ، يصلح أن يكون جزماً على معنى ولا تكتموا الحق، ويصلح أن يكون نصباً وعلامة النصب أيضاً سقوط النون، أما إذا نصبت فعلى معنى الجواب بالواو، ومذهب الخليلِ وسيبويه والأخفش وجماعة من البصريين أن

(1/124)


وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)

جميع ما انتصب في هذا الباب فبإضمار أن كأنك قلت لا يكن منكم إلباس الحق وكِتْمَانه، كأنَّه قال وإن تكتموه، ودلَّ تلبسوا على لبس كما تقول: من كذب كانَ شَرًّا، ودل ما في صدر كلامك على الكذب فحذفْتَه.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
فالألف ألف استفهام، ومعناه: التقرير والتوبيخ ههنا، كأنه قيل لهم:
أنتم على هذه الطريقة. ومعنى هذا الكلام - واللَّه أعلم - أنهم كانوا يأمرون أتباعهم بالتمسك بكتابهم ويتركون هم التمسك به، لأن جحْدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - هو تركهم التمسك به - ويجوز واللَّه أعلم - أنهم كانوا يأمرون ببذْل الصدقةِ وكانوا يضنون بها، لأنهمَ وُصِفُوا بأنهم قست قلوبهم. وأكلوا الربَا والسُّحْتَ، وَكانوا
قد نهوا عن الربا. فمنع الصدقة داخل فِي هذا الباب.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45)
إن قال قائل لم قيل لهم: استعينوا بالصبر وما الفائدة فيها فإن هذا
الخطاب أصله خطاب أهل الكتاب، وكانت لهم رئاسة عند أتباعهم فقيل لهم: استعينوا على ما يُذْهِبُ عنكم شهوَة الرياسة بالصلاة لأن الصلاة يتلى فيها ما يُرغب فيما عند اللَّه، ويزهد في جميع أمر الدنيا، ودليل ذلك قوله:
(إِنَّ الصَّلاةَ تنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالمنكَرِ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنهَا لَكَبِيرة إِلا عَلى الْخَاشِعِين).
المعنى: إِن الصلاة التي معها الإِيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم - كبيرة تكبر على الكفار وتعْظُمُ عليهم مع الإيمان بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. والخاشع المتواضع المطيع المجيب لأن

(1/125)


الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)

المتواضع لا يبالي برياسة كانت له مع كفرٍ إِذا انتقل إِلى الِإيمان.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
الظن ههنا في معنى اليقين، والمعنى: الذين يوقنون بذلك ولو كانوا شاكين
كانوا ضُلالاً كافرين، والظن: بمعنى اليقين موجود في اللغة، قال دريد بن
الصمة:
فقُلْت لهم ظُنوا بألْفيْ مُقاتِل. . . سَراتهُمُ في الفارِسيّ المُسَرَّدِ
ومعناه أيقنوا. وقد قال: بعض أهل العلم من المتقدمين:
إِن الظن يقع في معنى العلم الذي لم تشاهده، وإِن كان قام في نفسك
حقيقتُه وهذا مذهب، إِلا أن أهل اللغة لم يذكروا هذا.
قال أبو إِسحاق: وهذا سمعته من إِسماعيل بن إِسحاق القاضي رحمه
اللَّه رواه عن زيد بن أسلم. .

(1/126)


يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)

وقوله (أَنَّهُمْ) ههنا لا يصلح في موضعها إِنهم - بالكسر - لأن الظن
واقع فلا بد مِن أن تكونَ تِليه. أنَّ إلا أن يكون في الخبر لام.
ويصلح في (أَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) الفتح والكسر، إِلا أن الفتح هو الوجه
الذي عليه القراءَة، فإذا قلْت: وإنهُّم إِليه راجعون - في الكلام - حملت
الكلام عَلَى المعنى كأنه " وهم إليه راجعون " ودخلت أنْ مَؤكْدة، ولولا ذلك لما جاز أبطالك الظن مع اللام إذا قلت ظننت إنك لعالم.
ومعنى (مُلَاقُو رَبِّهِمْ) ملاقون ربهمْ لأن اسم الفاعل ههنا نكرة ولكن النون
تحذف استخفافاً، ولا يجوز في القرآن إثباتها لأنه خلاف المصحف، ولا يجوز أن يقع شيء في المصحف مجمع عليه فيخالف، لأن اتباع المصحف أصل تباع السُنة.
* * *

وقوله: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
أذكرهم الله عزَّ وجلَّ نعمته عليهم في أسلافهم، والدليل على ذلك قوله
عزَّ وجلَّ: (وَإذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعوْن) والمخاطبون بالقرآن لم يروا فرعون ولا آله. ولكنه عزَّ وجلَّ ذكَرهم أنه لم يزل منعماً عليهم لأن إنعامه على أسلافهم إِنعام عليهم، والدليل على ذلك: أن العرب وسائر الناس يقولون: أكرمْتُك

(1/127)


وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)

بإكرامي أخاك،. وإنما الأثرة وصلت إلى أخيه، والعربُ خاصة تجعل ما كان
لآبائها فخراً لها، وما كان فيه ذم يعدونه عاراً عليها، وإن كان فيما قَدُم من آبائها وأسلافها.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
يعني به يوم القيامة، وكانت إليهود تزعم أن آباءَها الأنبياء تشفع لها عند
الله فأيئَسُهم اللَّه من ذلك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلا يؤخَذُ منْهَا عَدْلٌ).
العدل ههنا الفِدْية، ومعنى: (لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) أي لا
تجزي فيه، وقيل: لا تجْزِيه، وحَذْفُ (فيه) ههنا سائغ، لأن (في) مع الظرف
محذوفة: تقول أتيتك اليوم، وأتيتك في اليوم، فإذا أضمرت قلت أتيتك فيه، ويجوز أنْ تقول أتيْتُكه، قال الشاعر:
ويوماً شهِدناه سليماً وعامراً. . . قلِيلاً سوى الطَّعنِ النِهال نوافلُه
أراد شهدنا فيه، وقال بعض النحويين: إن المحذوف هنا الهاء لأن
الظروف عنده لا يجوز حذفها - وهذا قول الكسائي والبَصريون وجماعةٌ من
الكوفيين يقولون: إن المحذوف " فيه ".
وفصَّل النحويون في الظروف، وفي الأسماءِ غير الظروف فقالوا: إن
الحذف مع الظروف جائز كما كان في ظاهره، فكذلك الحذف في مضمره، لو

(1/128)


قلت الذي سرت اليوم، تريد الذي سرت فيه جائز، لأنك تقول سرت اليوم وسرت فيه، ولو قلت: الذي تكلمت فيه زيد: لم يجز الذي تكلمت زيد لأنك تقول تكلمت اليوم وتكلمت فيه، ولا يجوز في قولك تَكلمْتُ في زيد تكلمْتُ زيداً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (تُقْبَلُ مِنْهَا شفاعَةٌ).
مرفوع لأنه اسم ما لم يسم فاعله، والاسم إذا لم يُسَم من فعَل به رُفع
لأن الفعل يصير حديثاً عنه كما كصير حديثاً عن الفاعل، وتقول: لا يُقْبَلُ منها شفاعةٌ، ولا تُقْبلُ، لأن معنى تأنيث ما لا يُنْتجُ غيرحقيقة، فلك في لفظه في الفعل التذكير والتأنيث، تقول: قبِل منك الشفاعة، وقدْ قُبلتْ منك الشفاعة، وكذلك (فمن جاءَه موعظةٌ) لأن معنى موعظة ووعظ، وشفاعة وشفع واحد.
فلذلك جاء التذكير والتأنيث على اللفظِ والمعنى وأمَّا ما يعقل ويكون منه
النسل والولادة نحو امراة ورجل،، وناقة وجمل فيَصِح في مؤَنثة لفظ التذكير، ولو قلت قام جارتك ونحر ناقتك كان قبيحاً - وهو جائز على قبحه لأن الناقة والجارة تدلان على معنى التأنيث، فاجتزئَ بلفظهما عن تأنِيثِ الفعل، فأمَّا الأسماء التي تقع للمذكرِين وأصحاب المؤنث فلا بد فيها من عَلمِ التأنيث لأن الكلام للفائدة، والقصد به الإبانة، فلو سُمَّيت أمراة بقاسم لم يجز أن يقال جاءَني قاسم، فلا يعلم أمذكراً عَنَيْت أم مؤَنثاً، وليس إلى حذف هذه التاء - إذا كانت فارقة بين معنيين - سبيل، كما إنَّه إذا جرى ذكر رجلين لم يجز أن تقول: قد قام،

(1/129)


وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)

ولا يجوز إلا أن تقول قاما، فعلامة التأنيث فيما فيه اللبس كعلامة التثنية ههنا.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49)
موضع إذ نصب، كأنه قال: واذكروا إذ نجيناكم مِنْ آل فرعون، وآلُ
فرعَون أتْبَاعُه ومن كان على دينه، وكذلك آلُ الأنبياءِ صلوات اللَّه عليهم من كان على دينهم، وكذلك قولنا: صلى اللَّه على محمد وآله: معنى آله من اتبعه من أهل بيته وغيرهم، ومعنى خِطابِهمْ هَهنَا تذكيرهم بالنعمة عليهم في أسلَافِهِمْ كما وصفنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَسُومُونكُمْ سُوءَ العَذابِ).
معنى (يَسُومُونكُمْ) في اللغة. يولونكم، ومعنى سوءَ العذابِ، شديد العذاب، وإن كان العذاب كله سوءًا، فإنما نُكرَ في هذا الموضع لأنه أبلغ ما يعامل به مَرْعِيٌّ.
فلذلك قيل سوءَ العذاب، أي ما يبلغ في الإساءَة ما لا غاية بعده.
وفسره بقوله: (يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ) والقراءَة المجمع عليها - يُذَبِّحُونَ - بالتشديد - ورواية شاذة يَذْبَحُون أبناءَكم، والقراءَة المجمع عليها أبلغ، لأن (يُذَبِّحُونَ) للتكثير، ويَذْبَحُونَ يصلح أن يكون للقليل وللكثير فمعنى التكثير ههنا أبلغ، و (أبناءَكم) جمع ابن، والأصل كأنه إنما جمع بني وبنو ويقال: ابن بيَّن البنوة، فهي تصلح أن تكون "فعَل" و " فِعْل" كأنه أصله بناية، والذين قالوا بنون كأنَّهم جمعوا "بَنا" وبنون، فأبناءُ جمع " فعَل وَفِعْل ".
و"بِنْتٌ" يدل على أنه يَستقيم أن يكون فِعْلًا، ويجوز أن يكون " فَعَل " نقلت إلى " فِعْل " كما نقلت أخت من فَعَل إلى فُعْل، فأمَّا بنات فهو ليس بجمع بنت على لفظها، إنما ردت إلى أصلها فجمعت بنات على أن الأصل في بنت "فِعْله" كأنَّها مما حذفت لامه،

(1/130)


وَالأخفش: يختار أن يكون المحذوف من ابن الواو قال: لأن أكثر ما تحذف الواو بثقلها. والياءُ تحذف أيضاً للثقل.
قال أبو إِسحاق: والدليل على ذلك أن يداً قد أجمعوا على أن
المحذوف منه الياءُ ولهم دليل قاطع على الإِجماع قال: يديت إِليه يداً، ودم
محذوف منه الياءُ، يقال دم ودميان.
قال الشاعر:
فلو أنَّا على حَجَر ذبِخنا. . . جَرى الدَّميَانِ بالخَبَر اليقينِ
والبنوًة ليست بشاهد قاطع في الواو، لأنهم يقولون الفتوة والفتيان في
التثنية - قال عزَّ وجلَّ: (وَدَخَلَ مَعَهُ السِجْنَ فَتَيانِ).
فابْن يجوز أن يكون المحذوف منه الواو أو الياءُ. وهما عندي متساويان.
وقوله عزَّ وجل: (وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).

(1/131)


وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)

يعني: في النجاة من آل فرعون. والبلاءُ ههنا النعمة، يروي عن
الأحنف أنه قال: البلاءُ ثم الثناءُ، أي الأنعام ثُمَّ الشكرُ.
قال زهير:
جزى اللَّهَ بالِإحْسَان مَا فعَلا بِنَا. . . وأبلاهما خير البلاءِ الذي يبلو
وقال الله عزَّ وجلَّ: (وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا).
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
موضع (إِذْ) نصب كالتي قبلها، ومعنى (فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ): جاءَ تفسيره في
آية أخرى، وهو قوله عزَّ وجلَّ: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63).
أي فانْفرق البحر فصار كالجبال العظام، وصَاروا في قَرَارِه - وكذلك قوله عزَّ وجلَّ: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77).
معناه طريقاً ذا يبس.
وقوله: (وَأغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وأنْتُمْ تَنْظُرُونَ)
فيه قولان (قالوا) وأنتم

(1/132)


وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)

ترونهم يغرقون ويجوز أن يكون: (وأنتم تنظرون) أي وأنتم مشاهدون
تَعلمون ذلك، وإن شغلهم عن أن يروه في ذلك الوقت شاغل يقال مِنْ
ذلك: دُور آل فلان تنظر إلى دور بني فلان، أي هي بإزائها والدُّور يعلم أنها لا تبصر شيئاً.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51)
ويقرأ: (وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى) وكلاهما جائز (حسن) واختار جماعة من
أهل اللغة، وإذ وعدنا بغير ألف:
وقالوا: إنما اخترنا هذا لأن المواعدة إنما تكون لغير الآدميين، فاختاروا
(وعدنا) وقالوا دليلنا قوله عزَّ وجلَّ (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ) وما أشبه
هذا وهذا الذي ذكروه ليس مثل هذا وواعدنا هنا جيد بالغ، لأن الطاعة في
القبول بمنزلة المواعدة، فهو من اللَّه عزَّ وجلَّ وعدٌ ومن موسى قبول واتًبَاعٌ
فجرى مجرى المواعدة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ).
ذكرهم بكفر آبائهم مع هذه الآيات العظام، وأعْلمهم أن كفرهم
بالنبي ي مع وضوح أمره وما وقفوا عليه من خبره في كتبهم ككفر آبائهمْ.
وكان في ذكر هذه الأقاصيص دلالة على تثبيت نُبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن هذه الأقاصيص ليست من علوم العرب، وإنما هى من علوم أهل الكتاب، فأنبأهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بما في كتبهم، وقد علموا أنه منْ العرب الذين لم يقرأوا كتبهم،

(1/133)


وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)

فعلموا إنَّه لمْ يُعَلمْ هذِه الأقاصيص إلا من جهة الوحي، ففي هذه الآيات.
إذكارهُم بالنعمة عليهم في أسلافهم، وتثبيت أمر الرسالة كما وصفنا.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
آتينا بمعنى أعطينا، و (الكتاب) مفعول به، (والفرقان) عطف عليه.
وَيَجُوزُ أن يكون الفرقان الكتاب بعينه إلا إنَّه أعيد ذكره، وعَنى به أنه يفرق بين الحق والباطل.
وقد قال بعض النحويين وهو قطرب: المعنى: وآتينا محمداً الفرقان، ودليله قوله عزَّ وجلَّ (تَبَارَكَ الًذِي نَزَلَ الفُرُقَانَ عَلَى عَبْدِهِ) يعني به القرآن.
والقول الأول هو القول لأن الفرقان قد ذكر لموسى في غير هذا
الموضع - قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ).
" لعل " إنما ذكرت هنا - واللَّه يعلم أيهتدون أم لا يهتدون - على ما يفعل
العباد ويتخاطبون به، أي إن هذا يرجى به الهداية، فخوطبوا على رجائهم.
ومثله قوله: (لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى): إنما المعنى اذهبا على
رجائكما، واللَّه عزَّ وجلَّ عالم بما يكون وهو من ورائه.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إنَهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
والقراءَة (يَا قَوْمِ) بكسر الميم، وهو نداء مضاف، والاختيار فيه حذف
الياءِ، لأن الياء حرف واحد، والنداءُ باب حذف، وهي شي آخر الاسم، كما

(1/134)


أنَّ التنوين في آخره، فحذفت الياءُ، وبقيت الكسرة تدل عليها، ويجوز في
الكلام أربعة أوجه. فأمَّا في القرآن فالكسر وحذف الياءِ لأنه أجوَد الأوْجُهِ.
وهو إجماع القراءِ، فالذي يجوز في الكلام أن تقول " يَا قَوْمِ إنكم "
كما قرئ في القرآن، ويجوز يا قومِي بإثبات الياءِ وسكونها، ويجوز يا قوْمِيَ بتحريك الياءِ، فهذه ثلاثة أوجه في الإضافة، ويجوز ُ يا قومُ بضئم الميم على معنى يا أيها القوم.
ومعنى قوله (ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ).
يقال لكل من فعل فعلاً يعود عليه بمكروه إِنما أسأت إلى نفسك
وظلمت نفسك، وأصل الظلم في اللغة وضع الشيءِ في غير موضعه، والعرب تقول: ومن أشبه أباه فما ظلم، معناه لم يقعْ لَهُ الشبه غيرَ مَوقعهِ، ويقال ظلم الرجل سقاءَه من اللبن إذا شرب " منه " وسقي منه قبل إدراكه، وأرض مظْلُومة إِذا حُفِرَ فيها ولم يكن حفر فيها قبل، أو جاءَ المطر بقربها وتخطاها.
قال النابغة:
إِلاَّ أَوارِيَّ لأَيَاً ما أُبَيِّنُهَا. . . والنُّؤْيُ كالحوضِ بالمظلومةِ الجَلَدِ
؛ ومعنى قوله (باتخاذُكمُ العِجْلَ) أي اتخذتموه إلهاً.
ومعنى قوله (فتُوبوا إِلى بَارِئكُمْ) أي إلى خالقكم، يقال برأ اللَّه الخلق، فالبارئ الخالق، والبريَّة والخلق المخلوقون، إلا أن البريَّة وقعت في أكثر كلامهم غير مهموزة -

(1/135)


وأصلها (أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) وأكثر القراء؛ والكلاَمِ " الْبَرِيَّة " بغير همز.
وقد قرأ قومٌ (البَرِيئَةُ) بالهمز، والاختيار ما عليه الجمهور، وروي عن أبي
عمرو بن العلاءِ أنه قرأ (إلى بارِئْكمَ) بإسكان الهمز، وهذا رواه سيبويه
باختلاس الكسرة، وأحسب أن الرواية الصحيحة ما روى سيبويه فإنه أضبط
لمَا رَوَى عن أبي عمرو، والإعْراب أشبه بالرواية عن أبي عمرو لأن حذف
الكَسرة في مثل هَذا وحذف الضم إنما يأتي باضطرار مِنَ الشعر، أنشد
سيبويه - وزعم إنَّه مما يجُوز في الشعر خاصة.
إذا اعْوجَجْنَ قلت صاحبْ قومِ
بإسكان الباءِ، وأنشد أيضاً:
فاليوم أثمربْ غَيْرَمستحقب. . . إثماً من اللَّه ولا واغل
فالكلام الصحيح ان تقول " يا صاحبُ " أقبل، أو يا صاحب أقبل
ولا وجْهَ للإسكان، وكذلك " فاليوم أشَرب "، يا هذا
وروى غير سيبويه هذه الأبيات على الاستقامة وما ينبغي أن يكون في الكلام والشعر، رووا هذا البيت على ضربين:
رووا. فاليوم فَاشْرَبْ غير مستحقب.

(1/136)


وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)

ورووا أيضاً: فاليوم أُسْقَى غيرَ مسْتَحْقب.
ورووا أيضاً: إذا اعوججن قلت صَاح - قَوَم.
ولم يكن سيبويه ليروي (إن شاءَ اللَّه) إلا ما سمع إلا أن الذي سمعه
هُؤلاء هو الثابت في اللغة، وقد ذكر سيبويه أن القياس غير الذي رَوَى.
ولا ينبغي أن يُقْرَأ إلا (إلى بارئِكُمْ) بالكسر، وكذلك (عند بَارِئِكُمْ).
ومعنى (فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ) امتحنهم اللَّه عزَّ وجلَّ بأن جعل توبتهم أن يقتل
بعضُهم بعضاً، فيقال إنهم صُفًوا صَفَيْنِ يقتل بَعضهم بعضاً، فمن قُتِل كان
شهيداً؛ ومن لم يقتل فتائب مغفور له ما تقدم من ذنبه، ويقال إن السبعين
الذين اختارهم موسى - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا ممن عبد العجل، وإنهم هم الذين كانوا يقتلون، والأول أشبه بالآية لأن قوله عزَّ وجلَّ
(فاقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ) يدل على أنها توبَة عبدة العجل، وإنما امتحنهم الله عزَّ وجلَّ بهذه المحنة العظيمة لكفرهم بعد الدلالات والآيات العظام.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55)
معنى (جهرة) غير مُسْتتِرٍ عَنَّا بشيءٍ، يقال فلان يجاهر بالمعاصي أيْ لا
يسْتتِر من الناس منها بشيءٍ.
وقوله: (فأخذتكم الصاعقة) معنى الصاعقة ما يُصْعقون منه، أيْ يموتون، فأخذتهم الصاعقة فماتوا.
الدليل على أنهم ماتوا قوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56).

(1/137)


وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)

وفي هذه الآية ذكر البعث بعد موت وقع في الدنيا.
مثل قوله تعالى: (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ).
ومثل قوله عزَّ وجلَّ: (فَقَالَ لَهُم اللَّهُ مُوتوا ثم أحْيَأهُمْ)
وذلك احتجاج على مشركي العرب الذين لمْ يكُونوا مُوقنين بالبعث، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالأخبار عمن بعث بعد
الموت في الدنيَا مما توافقه عليه إليهود والنصارى، وأرباب الكتب فاحتج
- صلى الله عليه وسلم - بحجة اللَّه التي يوافقه عليها جميع من خالفه من أهلِ الكتب.
وقوله (لعَلَّكُمْ تشْكُرُون) أي في أن بَعَثَكُم بعد الموت، وأعلمكم أن
قدرته عليكم هذه القدرة، وأن الِإقالة بعد الموت لا شيءَ بَعدها، وهي
كالمُضْطَرةِ إلى عبادة اللَّه.

وقوله: (وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
سخر اللَّه لهم السحاب يظللهم حين خرجوا إلى الأرض المقدسة.
وأنزل عليهم المَنّ والسلوى. وجملة المَن ما يمن اللَّه به مما لا تعب فيه ولا
نَصَبَ وأهل التفسير يقولون إن المنَّ شيء يسقط على الشجر حلو يشرب.
ويقال إنَّه " التَرَنْجِين "،، ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الكمأة من المَنِّ وماؤها شفاء للعين، ومعنى المنّ على ما وَصفنا في اللغة ما يمن اللَّه به من غير تعب ولا نصب، والسلوى طائر كالسمَاني، وذكر إنَّه كان يأتيهم من هذين ما فيه كفايتُهم.

(1/138)


وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)

وقوله: (كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)
قالوا إن معناه من هذه الطيبات، وقالوا أيضاً مما هو حلال لكم.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)
الرغد: الواسع الذي لا يُعَنِّي.
وقوله: (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) أُمِرُوا بأن يدخلوا سَاجِدين.
(وَقُولُوا حِطَّةٌ):، هناه وقولوا مسألتنا حطة، أي حط ذنوبنا عنا، وكذلك
القراءَة، ولو قرئ حطةً كان وجهها في العربية كأنهم قيل لهم، قولوا
احْطُطْ عَنَّا ذنوبنا حطة. فحرَّفوا هذا القول وقالوا لفظة غير هذه اللفظة التي
أُمروا بها، وجملة ما قالوا أنه أمْرٌ عظيم سماهم الله به فاسقين.
وقوله: (نغْفِرْ لَكُمْ) جزم جواب الأمر، المعنى أن تقولوا ما أمرتم به
نغْفرْ لكم خطاياكم، وقرأ بعضهم " نغْفرْ لكم خطِيئَاتِكمْ " والقراءة الأولى أكثر، فمن قال خطيئاتكمْ، فهو جمع خَطِيئة بالألف والتاءِ، نحو سفينة وسفينات، وصحيفة وصحيفات، والقرَاءَة كما وصفنا (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ)، والأصل في خطايا - خطائِئ فتجمع همزتان تقلب الثانية ياء فتصير خطائي، فأعِلِّ - مثل " حظاعي " ثم يجب أن تقلب الياءُ والكسرة إلى الفتحة والألف - فتصير خطاءَاً، مثل حظاعاً، فيجب بأن تبدل الهمزة ياءً، لوقوعها بين ألفين، لأن الهمزة مجانسة للألفات فاجتمعت ثلاثة أحرف من جنس واحد، وهذا الذي ذكرناه مذهب سيبويه ولسيبويه مذهب آخر أصله للخليل، وهو أنه زعم أن

(1/139)


وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)

خطايا أصلها فعائل، فقلبت إلى فعَالى فكان الأصل عنده خطائى مثل
خطائع - فاعلم - ثم قدمت الهمزة فصارت خطائي مثل خطاعي، ثم قلبت
بعد ذلك على المذهب الأول - وهذا المذهب ينقص في الإعلال مرتبه
واحدة، واللفظ يَؤول في اللفظين خطايا.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
العذاب وكذلك الرّجْس - قال الشاعر.
كمْ رامنا من ذي عَديدٍ مُبْزى. . . حتى وقَمْنا كيده بالرجْز
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (بِمَا كَانُوا يَفسُقُون).
أي تبْديلهم ما أمروا به من أن يقولوا حطة. ويُقال فَسَقَ يفْسُق ويفْسِقُ.
ويفسُقُ على اللغتين وعليها القراء، ومعنى الفَسْق الخروج عن القصد
والحق وكل ما خرج عن شيء فاقد فسق إلا أنَّهُ خص من خرج عن أمر اللَّه بأن قيل فاسق، ولم يحتج إلى أن يقال فسق عن كذا، كما أنه يقال لكل من
صَدق بشيء هو مؤمن بكذا ويقال للمصدق بأمر اللَّه مؤمن فيكفي، والعَرب تقول فسَقت الرطبة إذا خرجت عن قشرتها.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
موضع (إذْ) نصْبٌ على ما تقدمه، كأنَّه قيل واذكر إذ استسقى موسى
لقومه إلا أن (إذْ) لايظهر فيها الإعراب. لأنَّها لا تتم إلا بأن توصل، وجَميع ما

(1/140)


لا يتم من هذة المهمة إلا بصلة لا يعرب لأنه بعض اسم ولا يعرب إلا الاسم
التام، ولكن إذْ كُسِرت لالتقاء السَّاكنين، - ومعنى استسقى، استدعى أن يُسْقى قوْمُه، وكذلك استنْصرت استدعيْتُ النصْرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا). .
أكثر القراءَ (اثنتا عشْرَة) بإسكان الشين، ولغة أخرى (اثنتا عَشِرة) عينا -
بكسر الشين - وقد قرأ بعض القراءِ عَشِرَةَ - على هذه اللغة، وكلاهما جيد
بالغ - و (عيناً) - نصب على التمييز، وجمع ما نصب على - التمييز في العدد على معنى دخول التنوين، وإن لم يذكر في عشرة، لأن التنوين حذف هَهنا مع الإعراب ومعنى قول الناس عندي عشرون درهماً معناه عندي عشرون من الدراهم، فحُذف لفظ الجمع - و "مِنْ" هذه التي خَلَصَ بها جِنسٌ من جِنس وعبر الواحد عن معنى الجمع، فهذا جملة ما انتصب من العدد على التمييز.
وفي التفسير أنهم فجَّرَ اللَّه لهم من حَجَرٍ اثنتيْ عَشْرَةَ عيناً لاثْنَي عَشَرَ
فريقاً، لكل فريق عين يشربون منها، تتفجر إذا نزلوا فإذا ارتحلوا غارت العين وحَمَلوا الحجر غير متفجر منه ماءً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ).
كان يتفجر لهم الماءُ من اثْنَيْ عشر موضعاً لا يختلف في كل منزل
فيعلم كل أناس مشربهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تعْثَوْا في الأرض مُفسِدِينَ).

(1/141)


وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)

يقال عثا يَعثا عَثْواً وعُثُوًّا.
والعَثْوُ أشد الفساد.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
(فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ)
يخرج مجزوم وفيه غير قول:
قال بعض النحويين المعنى سَلْه وقل له أخرج لنا يخرج لنا هو
وقال في قوله تعالى: (وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا التي هِيَ أحسَنُ)
قالوا: المعنى قل لهم قولوا التي هي أحسن أن يقولوا.
وقال قوم: معنى (يخرج لنا) معنى الدعاء كأنَّه قال: أخرج لنا.
وكذلك (قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة)
المعنى قل لعبادي أقيموا، ولكنه صار قبله (ادع) و (قل)
فجعل بمنزلة جواب الأمر.
وكلا القولين مذهب، ولكنه على الجواب أجود لأن ما في القرآن من
لفظ الأمر الذي، ليس معه جَازم - مَرفوع
قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - (تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل اللَّه).
ثم جَاءَ بعد تمام الآية (يَغفِرْلكُم)
المعنى آمنوا باللَّه ورسوله وجاهدوا يَغفِرْ لكُم.

(1/142)


وقوله عزَّ وجلَّ: (مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا).
في القِثاء لغتان، يقال القُثاءُ والقِثاءُ (يا هذا) و (قد) قرأ بعضهم
قُثائِها بالضم، والأجود الأكثر وقثائها بالكسر، وفومها: الفوم الحنطة، ويقال الحُبوب وقال بعض النحويين إِنه يجوز عنده الفُومُ ههنا الثوم، وهذا ما لا يعرف أن الفوم الثوم، وههنا ما يقطع هذا. محال أن يطلب القوم طعاماً لا
بُرَّ فيه، والبرُّ أصل الغذاءِ كله، ويقال فوِّمُوا لنا، أي اخْبِزُوا لنا.
ولا خلاف عند أهل اللغة أن الفُوم الحنطة، وسائر الحبوب التي تخبز يلحقها اسم الفوم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ).
يعني أن المنَّ والسلوى أرفع من الذي طلبتم، و (أدنى) القراءَة فيه بغير
الهمز وقد قرأ بعضهم " أدْنأ " بالذي هو خير، وكلاهما له وجه في اللغة إلا
أن ترك الهمزة أولى بالاتباع. أما (أدْنى) غير مهموز، فمعناه الذي هو أقرب

(1/143)


وأقل قيمة، كما تقول، هذا ثوب مقارب، فأما الخَسيس فاللغة فيه أنه
مهموز، يقال: دنُوءَ، دَناءَةً، وهو دَنِيء بالهمزة، ويقال هذا أدْنا منه
بالهمزة
وقوله عزَّ وجلَّ: (اهْبطُوا مِصْرًا) الأكثر في القراءَة إثبات الألف.
وقد فرأ بعضهم " اهبطوا مصرَ فإن لكُمْ " بغير ألف، فمن - قرَأ مصرًا بالألف فله وجهان: جَائِز أنْ يراد بها مصراً من الأمصار لأنهم كانوا في تيه، وجائز أن يكون أراد مصر بعينها، فجعل مصراً اسماً للبلد.
فصرف لأنه مذكر سمي مذكراً وجائز أن يكون مصر بغير ألف على أنه يريد مصرًا كما قال عزَّ وجلََّّ:
(ادخُلوا مِصْرَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِين) وإنما لم يصرف لأنه للمدينة فهو
مذكر سمي به مؤَنث.
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ).
(الذِّلَّةُ): الصغار، (الْمَسْكَنَةُ): الخضوع، واشتقاقه: من السكون.
إِنما يقال مِسْكين للذي أسكنه الفقر، أي قللَ حركته.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ)

(1/144)


إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

يقال بْؤت بكذا وكذا أي احتملته.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (ذلك بأنهُمْ كانُوا يكفُروَن بآيَاتِ اللَّه).
معنى ذلك واللَّهُ أعلم الغضب حل بهم بكفرهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ).
القراءَة المجمع عليها في النبيين والأنبياءِ والبرِئة طرح لهمزة، وجماعة
من أهل المدينة يهمزون جَمِيعَ ما في القرآن من هذا فيقرأون، " النبيئين بغير
حق والأنبياء.).
واشتقاقه من نبَّأ وأنْبَأ أي أخبر.
والأجود ترك الهمْزة، لأن الاستعمال يُوجبُ أن ما كان مهموزاً من فعيل
فجمعه فُعَلاء، مثل ظريف وظرفاء ونبيء ونُبَآءَ. فإذا كان من ذوات الياءِ
فجمعه أفْعلاءِ، نحو غني وأغنياء، ونبي وأنْبياء.
وقدجاءَ أفْعِلاء في الصحيح، وَهُو قليل، قالوا خميس وأخْمِسَاء
وأخمس، ونصِيب وأنْصِبَاءَ، فيجوز أن يكون نبي مِن أنبأتُ مما ترك همزه
لكثرة الاستعمال، ويجوز أن يكون من نبَأ ينْبُوءُ إذا ارْتفع، فيكون فعيلاً من الرفعة.

ْوقوله فيّ وجل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

(1/145)


لا يجوز أن يكون لأحد منهم إيمان إلا مع إيمانه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ودليل ذلك قوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ).
فتأْويله من آمن باللَّه واليوم الآخر وآمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فلهم - أَجرُهم.
وجاز أَن يقال فلهم لأن مَنْ لفْظُها لفظُ الوَاحِدِ وتقع على الواحد
والاثنين والجمْع والتأنيث والتذكير، فيحمل الكلام على لفظها فيُؤخد ويذكر، ويحمَل على معناها فيُثنَّى ويجْمَعُ ويؤنث.
قال الشاعر:
تَعَشَّ فإنْ عاهَدْتني لا تخونُني. . . نكنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يصطحبان
وهادوا أصلِه في اللغة تابوا، وكذلك قوله عزَّ وَجلَّ: (إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ)
أي: تبْنا إِليْك. وواحد النصارى قيل فيه قولان: قالوا يجوز أن يكون واحدُهمْ نصْران (كما ترى) فيكون نصران ونصارى على وزنِ ندْمَان وندامى -
قال الشاعر:

(1/146)


وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)

فَكِلْتاهما خَرَّتْ وأَسْجَدَ رأسُها. . . كما أَسْجَدَتْ نَصْرانَةٌ لم تَحَنَّفِ
فنصرانة تأنيث نصرانٍ، ويجوز أن يكون النصارى وأحدهم نصْرى مثل
بعير مَهْرِي، وإبل مَهارى. ومعنى الصابئين: الخارجين من دِين إلى دين.
يقال صبأ فلان إذا خرج من دينه - يصبأ - يا هذا - ويقال صبأت النجوم إذا ظهرت وصبأ نابه إذا خرج.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).
القراءَة الجيدة الرفع، وكذلك إدْا كررت (لا) في الكلام قلت لا رجلٌ
عندي ولا زيْد، و (لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47).
وإِن قرئ فلا خوفَ عليهم فهو جيد بالغ الجودة وقد قرئ به.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)
المعنى، اذكروا إذ أخذنا ميثاقكم، والطور ههنا الجبل ومعنى أخذنا
ميثاقكم: يجوز أن يكون ما أخذه اللَّه عزَّ وجلَّ - حين أخرج الناس كالذر.
ودليل هذا قوله: (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ)
ثم قال من بعد تمامْ الآية: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) فهذه الآية كالآية التي في البقرة.
وهو أحسن المذاهب فيها، وقد قيل أن أخذ الميثاق هو ما أخذ.
الله من الميثاق على الرسل ومن اتبعهم.
ودليله قوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ)
فالأخذ على النبيين - صلى الله عليهم وسلم - الميثاق يدخل

(1/147)


وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)

وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)
فيه من اتبعهم، (وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) أي جئناكم بآية عظيمة، وهي أن الطور -.
وهو الجبلُ. رُفع فوقَهم حتى أظلهم وظنوا أنه واقع بهم، فأخبر اللَّه بعظم الآية التي أروها بعد أخذ الميثاق.
وأخبر بالشيء الذي لو عذبهم بعده لكان عدلاً في ذلك، ولكنه جعل لهم التوبة بعد ذلك وقال (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ)
ذلك أي من بعد الآيات العظام.
(فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ).
أي لولا أنْ منَّ اللَّه عليكم بالتوبة بعد أن كفرتم مع عظيم هذه الآيات
(لكنتم من الخاسرين).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ).
موضع - ما نصب، و (ما آتيناكم) الكتاب الذي هو التوراة ومعنى خذوه
بقوة، أي خذوه بجد واتركوا الريب والشك لما بأن لكم من عظيم الآيات.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ)
معناه ادْرُسُوا ما فيه وجاز في اللغة أن
تقول خذ وخذا، وأصله أوْخُذْ وكذلك " كل " أصله أوكل، ولكن خُذْ وكُلْ اجتمع فيهما كثرة الاستعمال والتقاء همزتين وضمة، فحذفت فاءُ الفعل وهي الهمزة التي كانت في أخذ وآكل فحذفت لما وصفنا من كثرة الاستعمال واجتماع ما يستقلون.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65)
معنى (علمتم) هناعرفتم، ومثله قوله عز وجل (لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) ومعناه لا تعرفونهم اللَّه يعرفهم.
ومعنى (اعتدوا) ظلموا وجاوزوا ما حُدَّ لهُم، كانوا أمرُوا ألا يصيدوا في السبت "، وكانت الحيتانُ تجْتمع لأمنها في

(1/148)


وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)

السبت، فحبسوها في السبت وأخَذوها في الأحد، فعدوا في السبت لأن
صيدهم منعها من التصرف، فجعل الله جزاءَهم في الدنيا - بعدما أراهم
من الآيات العظام بأن جعلهم قردة خاسئين، معنى خاسئين مُبْعدِين يقال -
خَسَأتُ الكلب أخسؤه خَسْئاً أي بَاعدته وطردْته.

وقوله عزَّ وجلَّ: (فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
(ها) هذه تعود على الأمة التي مسخت ويجوز أن يكون للفَعْلَةِ
ومعنى (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) يحتمل شيئين من التفسير: يحتمل أن يكون (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) لما أسلفت من ذنوبها، ويحتمل أن يكون (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا) للأمم التي تراها (وماخلفها) مَا يكون بعدها، ومعنى قولك نَكَّلْت به، أي جعلت غيره يَنْكُل أن يفْعل مثل فعله، فيناله مثل الذي ناله.
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَوْعِظَةً للمُتقِينَ) أي يتعظ بها أهل التقوى
فيلزمون ما هم عليه.
* * *

وقوله عزَّ وَجَل: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
المعنى واذكروا إِذ قال موسى لقومه، أمروا بذبح بقرة يضرب ببعضها قتيل تشاجروا فِيمَنْ قَتَله، فلم يعلم قاتله، فأمر اللَّه عزَّ وجلَّ بِضَرْب المقتول. بعضو من أعضاءِ البقرة.
وزعموا في التفسير أنهم أمروا أن يضربوه بالفخذ اليمنى، أو الذنب، وأحب
الله تعالَى أن يُرِيَهمْ كيف إحياء الموتى، وفي هذه الآية، احتجاج على
مشركي العرب لأنهم لم يكونوا مؤمنين بالبعث، فأعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا الخبر الذي لا يجوز أن يَعْلمه إلامَنْ قَرأ الكُتُبَ أو أوحى إليه، وقد علم المشركون

(1/149)


قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمِّيّ وأن أهل الكتاب يعلمون - وهم يخالفونه - أن ما أخبر به من هذه الأقاصيص حق.
(قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا)، فانتفى موسى من الهِزؤِ، لأن الهازىء جاهل
لاعب فقال: (أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) فلما وضَح لهم أنه من عند
الله (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ)
وإِنَّما سألوا ما هي لأنهم لا يعلمون أن بقرةً يحيا بضرب بعضها ميت.
(قَالَ إنَهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ).
ارتفع (فَارِضٌ) بإضمار هي ومعنى (لا فَارِضٌ): لا كبيرة، (ولا بكرٌ) لا
صَغِيرة).
أي ليست بكبيرة ولا صغيرة.
(عَوَانٌ) العَوَانُ دون المُسِنَة وفوق الصغيرة.
ويقال من الفارض فرضت تَفْرِض فُروضاً ومن العوان قد عوَّنَتْ
تُعَوِّن، ويقال حرب عوَان، إذا لم تكن أول حرب، وكانت ثانية.
قال زهير:
إذا لَقِحَتْ حربٌ عَوانٌ مُضِرَّةٌ. . . ضَروسٌ تُهِرُّ الناسَ أنيابُها عُصْلُ
ومعنى (بَيْنَ ذَلِكَ) بين البِكْر والفَارِض، وبين الصغيرة والكبيرة وإِنما
جَازَ بين ذلك، و " بين " لا يكون إِلا مع اثنين أو أكثر لأن ذلك ينوب عن
الخمَل، فتقول ظننت زيداً قائماً، فيقول القائل " ظننت ذلك ".

وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إنَهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)

(1/150)


قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إنَهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69)
موضع (ما) رفع بالابتداء، لأن تأويله الِإستفهام كَقَولك: أدع لنا ربك
يبين لنا أيَّ شيَءٍ لونها ومثله (فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا).
ولا يجوز في القراءَة (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا)، على أن يجعل (ما) لغواً ولا يقرأ القرآن إِلا كَمَا قراتِ القُرَّاء المجمَع عَلَيْهِمْ في الأخذ عنهم.
قَالَ إِنه يَقول إِنها: ما بعد القول من باب إن مكسور أبداً، كأنك تذكر
القول في صدر كلامك، وإِنما وقعت قلت في كلام العرب أن يحكى بها ما
كان كلاماً يقوم بنفسه قبل دخولها فيؤَدي مع ذكرها ذلك اللفظ، تقول: قلت زيد منطلق. كأنك قلت: زيد منطلق، وكذلك إن زيداً منطلق، لا اختلاف بين النحوين في ذلك، إِلا أن قوماً من العرب، وهم بَنو سُلَيم يجعلون باب قلت أجمع كباب ظننت، فيقولون: قلت زيداً منطلقاً، فهذه لغة لا يجوز أن يُوجَد شيءٌ مِنْهَا في كتاب الله عزَّ وجلَّ، ولا يجوز قال أنه يقول إِنها، لا يجوز إِلا الكسر.
وأمَّا قوله عزَّ وجلَّ: (صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا)
(فَاقِعٌ) نعت للأصفر الشديد الصفرة، يقال أصفر فاقع وأبيض ناصع وأحمر قانٍ، قال الشاعر: ْ
يَسْقِي بها ذو تومتين كأنما. . . قنأتْ أنامِله من الفرصاد

(1/151)


قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)

أي احمرت حمرة شديدة، ويقال أحمر قاتم وأبيض يقَقٌ، وَلَهِقَ ولهاق.
وأسود حالك؛ وحَلُوك وحلوكي ودَجُوجي، فهذه كلها صفات مبالغة في
الألوان، وقد قالوا إن صَفْراءَ ههنا سوداءَ.
ومعنى (تَسُر الناظِرينَ) أي تعجب الناظرين.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ إنَهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
معناه ليست بذلول ولا مثيرة.
وقوله: (وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ) يقال: سقيته إِذا ناولته فشرب.
وأسقيته جعلت له سقياً، فيَصِح ههنا ولا تُسْقِي بالضَم.
وقوله: (لَا شِيَةَ فِيهَا).
أي ليس فيها لون يفارق لونها، والوَشى في اللغة خلطُ لون بلون
وكذلك في الكلام، يقال وشيْت الثوب أشِيه شِيَة ووَشْياً، كَقَوْلك وَديْت فلاناً أدِيه دِيَةً، ونصب (لَا شِيَةَ) فيه على النَّفْي، ولوْ قرئ لَا شيةٌ فيها لجاز، ولكن القراءَة بالنصب.
وقوله: (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ).
فيه أربعة أوْجهٍ حكى بعضَها الأخفش: فأجودها " قالوا الآن " بإسكان
اللام وحذف الواو مَن اللفظ، وزعم الأخفش أنه يجوز قطع ألف الوصل ههنا فيقول:
قالوا: (ألْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ) وهذه رواية، وليس له وجه في القياس ولا
هي عندي جائز، ولكن فيها وجهان غير هذين الوجهين: وهما جيدان في
العربية، يجوز " قالوا لأن على إلقاءِ الهمزة، وفتح اللام من الآن، وترك

(1/152)


وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)

الواو محذوفة لالتقاءِ الساكنين، ولا يعتد بفتحة اللام.
ويجوز: " قَالوا لان جِيتَ بالحق " ولا أعلم أحداً قرأ بها، فلا يَقْرَأن بحرف لم يقرأ به وإِن كان ثَابِتاً في العربية.
والذين أظهروا الواو أظهروها لحركة اللام لأنهم كانوا حذفوها لسُكونها.
فلما تحركت ردوها.
والأجود في العربية حَذْفُها لأن قرأ (ب تقول " الأحمر "
ويلقون الهمزة فيقولون " لَحْمر " فيفتحون اللام ويقرأون ألف الوصل لأن اللام في نية السكون، وبعضهم يقولُ - " لَحْمَر " ولا يُقِرُّ ألفَ الوصل يريد الأحمر.
فأمَّا نصب (الآن) فهي حركة لالتقاءِ السَّاكنين، ألا ترى أنك تقول:
أنا الأن أكرمك، وفي الآن فعلت كذا وكذا، وإنما كان في الأصل مبنياً
وحرك لالتقاءِ السَّاكنين، وبنى (الآن)، وفيه الألف واللام، لأن الألف واللام دخلتا بعهد غير متقدم.
إِنما تقول الغَلامَ فعل كذا إذا عهدته أنت ومخاطبتك، وهذه الألف واللام تنوبان عن معنى الِإشارة.
المعنى أنت إِلى هذا الوقت تفعل، فلم يعرب الآن كما لا يعرب هذا.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72)
ْ* معناه فَتَدارَأتمْ فيها، أي تدافعتم، أي ألقى بعضكم على بَعْض، -
يقال درأتُ فلاناً إِذا دافعتُه، وداريْتُه إِذا لاينته، ودَرَّيْته إِذا خَتَلته، ولكن التاءَ أدغمت فى الدال لأنها. من مخرج واحد، فَلما أدغمت سكنت فاجتلبت لها ألف الوصل، فتقول: ادارا القومْ أي تَدَافَع القوْم.

(1/153)


وقوله عزَّ وجلَّ: (مُخْرُجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).
الأجود في (مُخْرُجٌ) التنوين لأنه إنما هو لِمَا يستقبل أو للحَال، ويجوز
حذف التنوين استخفافاً فيقرأ، مخرجُ مَا كنتم تكتمون، فإن كان قُرئ به
وإِلا فلا يخالَف القرآن كما شرحنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إن البَقَر تشَابَه عَلَيْنَا)
القراءَة في هذا على أوجه، فأجْودها والأكثر (تَشَابَهَ علينا) على فتح الهاءِ
والتخفيف، ويجوز " تَشَّابَه " علينا، ويَشَّابَه علينا - بالتاء والياءِ.
وقد قرئ " إن البَاقِر يَشَّابَهً عَلينا " والعرب تقول في جمع البقر والجمال. الباقر والجامل، يجعلونه اسماً للجنس، قال طرفة بن العبد:
وجامل خوَّع مِنْ نيْبِه. . .زجرُ المُعَلَّى أصُلا وَالسفيح
ويروي " مِنِي به " وهو أكثر الرواية، وليس بشيء
وقال الشاعر:
ما لي رأيتك بعد عهدك موحشا. . . خَلَقاً كحوض الباقر المتهدم
وما كان مثل بقرة وبقر، ونخلة ونخل، وسحابة وسحاب، فإن العرب

(1/154)


ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

تذكره، وتؤَنثه، فتقول هذا بقر وهذه بقر، وهذا نخل وهذه نخل.
فمن ذكَّر فلأن في لفظ الجمع أن يعبر عن جنسه فيقال: فتقول هذا جَمْع، وفي لفظه أن يعبر عن الفرقة والقطعة، فتقول هذه جماعة وهذه فرقة - قال اللَّه عزَّ وجلَّ:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ) فذكًر، وواحدته سحابة.
وقال: (والنَخْلَ بَاسِقَاتٍ) فجمع على معنى جماعة، ولفظها واحد.
فمن قرأ (إن البقرَ تَشَابه علَيْنَا) فمعناه أن جمَاعةَ البقر تَتَشَابَه عَلَيْنَا.
فأُدْغِمتِ التاءُ في الشين لقرب مخرج التاءِ من الشين، ومن قرأ تَشَّابَهُ علينا، أراد تتشابه فحذف التاءَ الثانية لاجتماع تاءَين كما قرئ (لعلكم تَذَكرون) ومن قرأ (يَشَّابَه علينا) - بالياءِ - أراد جنس البقر أيضاً، والأصل يتَشَابه علينا، فأدغم التاءُ في الشين.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
تأويل (قست) في اللغة غلظت ويبست وصلبت فتأويل القسو في القلب
ذهاب اللين والرحمة والخضوع والخشوع منه.
ومعنى (من بعد ذلك) أي من بعد إِحياءِ الميت لكم بعضوٍ من أعضاءِ البقرة، وهذه آية عظيمة كان يجب على من يشاهدها - فشاهد بمشاهدتها من قدرة عزَّ وجلَّ ما يزيل كل شك - أن يلين قلبه ويخضع، ويحتمل أن يكون
(من بعد ذلك) من بعد إِحياءِ الميت
والآيات التي تقدمت ذلك نحو مسخ القردة والخنازير ونحو رفع الجبل فوقهم، ونحو انْبِجاس الماءَ من حجر يَحْملونه معهم، وإِنما جاز ذلك وهُؤلاءِ

(1/155)


الجماعة مخاطبون، ولم يقل ذلكم - ولو قال ذلكم كان جيداً -
وإنما جاز أن تقول للجماعة بعد ذلك وبعد ذلكم؛ لأن الجماعة تؤَدي عن لفظها: الجميع والفريق، فالخطاب في لفظ واحد، ومعنى جماعة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً).
وقد روي (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ومعنى تشبيه القسوة بالحجارة قد - بيناه، ودخول " أو " ههنا لغير معنى الشك ولكنها (أو) التي تأتي للإباحة تقول: الذين ينبغي أن يؤخذ عنهم العلم الحسن أو ابن سيرين، فلست بشاك، وإِنما
المعنى ههنا: هذان أهل أن يؤخذ عنهما العلم، فإن أخذته عن الحسن فأنت
مصيب، وإن أخذته عن ابن سيرين فأنت مصيب، وإِن أخذته عنهما جميعاً
فأنت مصيب، فالتأويل اعلموا أن قلوب هُؤلاء إِن شبهتم قسوتها بالحجارة
فأنتم مصيبون أو بما هو أشد فأنتم مصيبون ولا يصلح أن تكون (أو) ههنا بمعنى الواو.
وكذلك قوله: (مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً. . . أوكَصَيِّبٍ)، أي إِن
مثلْتَهمْ بالمستوقد فذلك مثلهم، وإِن مثلتهم بالصَيِّبِ فهو لهم مثلٌ وقد
شرحناه في مكانه شرحاً شافياً كافياً إِن شَاءَ اللَّه.
فمن قرأ (أشد قسوة) رفع أشد بإضمار هي كأنَّه قال: أو هي أشد
قسوة، ومن نصب (أوأشد قسوة) فهو على خفض في الأصل بمعنى الكاف.
ولكن أشد أفعل - لا ينصرف لأنه على لفظ الفعل، وهو نعت ففتح وهو في

(1/156)


موضع جر - ويجوز في قوله تعالى (فهي كالحجارة) (فَهْي) كالحجارة -
بإسكان الهاءِ - لأن الفاءَ مع هي قد جَعَلَتْ الكلمة بمنزلة. فخذ، فتحذف
الكسرة استثقالاً، وقد روى بعض النحويين أنه يجوز في " هي " الإِسكان في
الياءِ من (هي) ولا أعلم أحداً قرأ بها، وهي عندي لا يَجوزُ إسكانها ولا
إسكانُ الواو في هو، لا يجوز " هو ربَكُمْ " وقد روى الإِسكان بعضُ النحوِيين وهو رديءٌ لأن كل مضمز فحركته - إذا انفرد - الفتح، نحو أنا رَبكم، فكما لا تسْكن نون أنا لا تسْكن هذه الواو.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ).
بين عزَّ وجلَّ كيف كانت قلوبهم أنها أشد قسوة وأصلب من الحجارة
وأعلم أن الحجارة تتفجر منها الأنهار، ومنها ما يشَّقَّقُ فيخرج منه الماءَ يعني
العيون التي تخرج من الحجارة ولا تكون أنهاراً، ومنها ما يهبط من خشية
الله فقالوا إن الذي يهبط من خشية الله نحو الجبل الذي تجلى اللَّه له
حين كلم موسى عليه السلام، وقال قوم إِنها أثر الصنعة التي تدل على أنَّها
مخلوقة، وهذا خطأ، لأن ليس منها شيء ليس أثر الصنعة بينا في جميعها
وإنما. . الهابط منها مجعول فيه التميز كما قال عزَّ وجلَّ: (لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ).
وكما قال: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ).
ثم قال: (وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ) فأعلم أن ذلك

(1/157)


وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)

تمييز أراد اللَّه منها، ولو كان يراد بذلك الصنعة لم يقل وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب، لأن أثر الصنعة شامل للمؤمن وغيره.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75)
هده الألف ألف استِخبارٍ، وتجري في كثير من المواضع مجرى الإنكار
والنهي إذا لم يكن معها نفي، كأنَّه أيئسهم من الطمع في إِيمان هذه الفرقة من
اليهود، فإذا كان في أول الكلام نفي، فإنكار النفي تثبيت نحو قوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى).
فجواب (أفتطمعون) " لا " كما وصفنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ).
يروي في التفسير أنهم سمعوا كلام اللَّه لموسى عليه لسلام فحرفوه
فقيل في هؤلاءِ الذين شاهدهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنهم كفروا وحرفوا فلهم سابقة في كفرهم.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76)
المعنى أتخبرونهم بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكره موجود في كتابكم وَصِفتهُ.
(لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) أي لتكون لهم الحجة في إيمانهم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - عليكم، إذ كنتم مقَرِّينَ به تخبرون بصحة أمره من كتابكم فهذا بين حجته عليكم عند اللَّه.

(1/158)


وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)

(أفَلَا تَعْقِلُونَ) أي أفلا تعقلون حجة الله عليكم في هذا.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78)
معنى الأمَِّي في اللغة المَنسوب إلى ما عليه جِبِلَّةُ أمَّتِه، أي لا يكتب
فهو في أنه لا يكتب - على ما ولد عليه، وارتفع (أُمِّيُّونَ) بالابتداء
و (مِنهم) الخبر (1)
ومن قول الأخفش يرتفع (أُمِّيُّونَ) بفعلهم، كان المعنى واستقر منهم
(أُمِّيُّونَ).
ومعنى (إِلَّا أَمَانِيَّ) قال الناس في معناه قولين: قالوا معناه لَا يعلمون
الكتاب إلا تلاوة، كما قال عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ)
أي إذَا تلا ألقى الشيطان في تلاوته.
وقد قيل الأماني أكاذيب العرب، تقول أنت إِنما تتمنى هذا القول أي
تَخْتَلِقُه.
ويجوز أن يكون آماني منسوباً إلى - القائل إِذا قال ما لا يعلمه فكأنه إنما يتمناه، وهذا مستعمل في كلام الناس، تقول للذي يقول ما لا حَقِيقةَ لَهُ وهو يُحِبَه: هذا مُنًى، وهذه أمْنِيةٌ.
وفي لفظ أماني وجهان: العرب تقؤل هذه أمَانٍ وأمَانيَّ - يا هَذا - بالتشديد
والتخفيف، فمن قال أمانيَّ بالتشديد فهو مثل أحْدُوثة وأحاديث، وقرقورة
وَقراقير، ومن قال أمان بالتخفيف فهو مما اجتمعت فيه الياءان أكثر لثقل الياءِ.
__________
(1) إعراب غير جيد لأن المعنى حينئذ الأميون منهم وهذا ليس بشيء إنما صحته أن يكون " منهم " هي المبتدأ "أميون " هي الخبر ومن اسم بمعنى بعض والمعنى بعضهم أميون ومثله (ومن الناس من يقول آمنا) (ومنهم الفاسقون).

(1/159)


وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)

والعرب تقول في أثفية أثافيَّ وأثافٍ، والتخفيف اكز لكثرة استعمالهم أثاف.
والأثافي الأحجار التي تجعل تحت القدر.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
الويل في اللغة كلمة يستعملها كل واقع في هلكة - وأصله في العذاب
والهلاك، وارتفع ويل بالابتداءِ وخبره (لِلَّذين) ولو كان في غير القرآن لجاز فويلًا للذين على معنى جعل الله ويلاً للذين، والرفع على معنى ثبوت الويل (لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا).
يقال إِن هذا في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -، كتبوا صفته على غيرما كانت عليه في التوزاة، ويقال في التفسير إنهم كتبوا صفته أنه آدم طويل، وكانت صفته فيها أنه آدم ربعة، فبدَّلَوا فألزمهم الله الويل بما كتبت أيديهم ومن كسبهم على ذلك.
لأنهم أخذوا عليه الأموال وقبلوا الهدايا.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
(تمسنا) نصب بلَنْ، وقد اختلف النحويون في علة النصب بـ لن.
فرُوي عن الخليل قولان أحدهما أنها نصبت كما نصبت " أن " وليس " ما بعدها بصلة لهَا، لأن " لَنْ يَفْعَلَ "، نفي " سيفعل " فقدم ما بعدها عليها، نحو قولك زيداً لن أضرب

(1/160)


كما تقول زيداً لم أضرب، وقد روى سيبويه عن بعض أصحاب الخليل
عن الخليل أنه قال: الأصل في " لن " لا أن ولكن الحذف وقع استخفافاً، وزعم سيبويه أن هذا ليس بجيد، لو كان كذلك لم يجز زيداً لن أضرب، وعلى مذهب سيبويه جميع النحويين وقد حكى هشام عن الكسائي في " لن " مثل هذا القول الشاذ عن الخليل. ولم يأخذ به سيبويه، ولا أصحابه.
ومعنى (أَيَّامًا مَعْدُودَةً) قالوا إِنَّما نعَذَّبُ لأننا عبدنا العجل أياماً قيل في
عددها قولان، قيل سبعة أيام وقيل أربعون يوماً، - وهذه الحكاية عن إليهود، هم الذين قالوا: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا) بقطع الألف هي تقرأ على
ضربين: أتخذتم - بتبيين الذال، واتختُم بَإِدغام الذال في التاءِ، والألف قطع
لأنها ألف استفهام وتقرير. .
وقوله عزَّ وجلَّ: (عِنْد اللَّهِ عَهْداً) المعنى عهد اللَّه إليكم في أنه لا يعذبكم
إِلا هذا المقدار. .
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فلنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ)).
أي إن حَان لكم عهد فلن يخلفه اللَّه، أم تقولون على الله ما لا تعلمون

(1/161)


وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)

ثم قال عزَّ وجلََّّ: (بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81)
رداً لقولهم: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
فألحق في هذه الآية، والإجماع أن هذا لليهود خاصة لأنه عزَّ وجلَّ في
ذكرهم، وقد قيل: (من كسب سيئة)، الشرك باللَّه وأحاطت به خطيئته:
الكبائر، والذي جرى في هذه الأقاصيص إِنما هو إِخبار عن إليهود.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
القراءَة على ضربين، تعبدون ويعبدون بالياءِ والتاءِ وقد روي وجه
ثالث لا يؤخذ به لأنه مخالف للمصحف -
قرأ ابن مسعود: لا تعبدوا.
ورفع (لا تعبدون) بالتاء على ضربين، على أن (يكون (لا) جواب القسم لأن أخذ الميثاق بمنزلة القسم، والدليل على ذلك قوله:
(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ)
فجاءَ جواب القسم باللام فكذلك هو بالنَفْي بلا، ويجوز أن
يكون رفعه على إسقاط " أن " على معنى " ألا تعبدوا " فلما سقطت أن رفعت، وهذا مذهب الأخفش وغيرِه من النحويين، فأما القراءَة بالتاء فعلى معنى الخطاب والحكاية كأنَّه قيل قلنا لهم لا تعبدون إِلا الله.
وأمَّا (لا يعبدون) بالياء
فإِنهم غيَبٌ، وعلامة الغائب الياء.

(1/162)


ومعنى أخذ الميثاق والعهد قد بَيَّنَاهُ قبل هذا الموضع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وبِالْوَالِدِيْنِ إِحْسَاناً).
نصب على معنى وأحسنوا بالوالدين إِحساناً، بدل من اللفظ أحْسِنُوا
و (ذِي القُرْبَى) و (اليَتامَى): جمع على فعالى كما جمع أسير على أُسارى، يقال يَتِم يَيْتمَ يُتْماً ويَتْماً إِذا فقد أباه، هذا للإِنسان فأمَّا غيره فيتمه من قبل أمه.
أخبرني بذلك محمد بن يزيد عن الرياشي عن الأصمعي: إن اليتيم في الناس من قبل الأب وفي غير الناس من قبل الأم، والمساكين مأخوذ من السكون، وأحدهم مسكين كأنَّه قد أسكنه الفقر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) فيها ثلاثة أقوال
(حُسْنًا) بالتنوين وإِسكان السين، وحَسَناً بالتنوين وفتح السين، وروى الأخفش " حُسْنَى " غير منون.
فأما الوجهان الأولان، فقرأهما الناس، وهما جيدان بالغان في اللغة، وأما

(1/163)


وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)

" حُسْنَى " فكان لا ينبغي أن يقرأ به لأنه باب الأفعل والفعلى، نحو الأحسن
والحسنى، والأفضل والفُضلى، لا يستعمل إِلا بالألف واللام، كما قال اللَّه
عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى) وقال: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)
وفي قوله حسناً بالتنوين قولان: المعنى قولوا للناس قولاً ذا حسن)، وزعم الأخفش، إنَّه يجوز أن يكون حُسْناً في معنى حَسَناً، فأمَّا حُسَناً فصفة، المعنى
قولاً حسناً، وتفسير: (قولوا للناس حسناً) مخاطبة لعلماءِ إليهود " قيل لهم اصْدقوا في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ).
اعلموا أنه قد أخذ عليهم الميثاق وعهد عليهم فيه بالصدق في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ).
يعني أوائلهم الذين أخذ عليهم الميثاق، وقوله (وَأنتم مُعْرضون) أي وأنتم
أيضاَ كأوائلكم في الإعراض عَمَّا عهد إِليكم فيه، ونصب (إِلَّا قَلِيلًا) على
الاستثناءِ، والمعنى استثني قليلًا منكم.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84)
يقال سفكت الدم أسْفِكُه سَفْكاً إِذا صببته، ورفع لا تسفكون على

(1/164)


ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)

القسم، وعلى حذف أن كما وصفنا في قوله: (لا تَعْبُدون) ومثل حذف أن قول طرفة:
أَلا أَيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى. . . وأَنْ أشهدَ اللذاتِ هل أَنْتَ مُخْلِدي
وواحد الدماءِ دم - يَا هَذَا - مخفف، وأصله دَمَى في قول أكثر
النحويين، ودليل من قال إِن أصله دمي قول الشاعر:
فَلَوْ أنَّا على حَجَرٍ ذُبِحْنا. . . جَرَى الدَّميَانِ بالخبرِ اليقين
وقال قوم أصله دمي إِلا إنَّه لما حذف ورد إليه ما حذف منه حركت
ْالميم لتدل الحركة على أنه استعمل محذوفاً.
وقوله عزْ وجل: (وَلَا تُخْرِجُونَ أنْفُسكُمْ مِن دِيَارِكُمْ).
عطف على لا تسفكون دماءَكم.
وقوله: (ثم أقررتم)، أي اعترفتم بأن هذا أخذ عليكم في العهد وأخذ على آبائكم، وأنتم أيها الباقون المخاطبون تشهدون أن هذا حق.
* * *

ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85)
(ثُم أنْتُم هَؤُلَاءِ): الخطاب وقع لليهود من بني قريظة وبني النضير.
لأنهم نكثوا، فقتل بعضهم بعضاً، وأخرج بعضهم بعضاً من ديارهم وهذا
نقض عهدهم

(1/165)


وقوله عزَّ وجلَّ: (تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ).
قُرئت بالتخفيف والتشديد، (تَظَاهَرُونَ) و (تَظَّاهَرُونَ) فمن قرأ بالتشديد
فالأصل فيه تتظاهرون فأدغم التاءُ في الظاءِ لقرب - المخرجين، ومن قرأ
بالتخفيف فالأصل فيه أيضاً تتظاهرون فحذفت التاءُ الثانية لاجتماع تاءَين.
وتفسير (تظاهرون) تتعاونون، يقال قد ظاهر فلان فلاناً إذا عاونه منه قوله.
(وكان الكافِرُ على ربه ظهيراً)، أي معيناً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (بالإِثْم والعُدْوَانِ).
العُدْوانُ الِإفراطُ في الظلم؛ ويقَالُ عَدَا فلان في ظلمه عدْواً وعُدُوا
وعُدْواناً، وعداءً - هذا كله معناه المجاوزة في الظلم.
وقوله عزَّ وجلَّ: (ولاَ تَعْدُوا في السَّبْتِ) إِنما هو من هذا، أي لا تظلموا فيه
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ).
القراءَة في هذا على وجوه: أسْرَى تَفْدوهم. وأسْرى تُفَادوهم، وأسَارى
تفادوهم، ويجوز " أسَارى " ولا أعلم أحد قرأ بها، وأصل الجمع فُعالى. أعلَم الله مناقَضتهم في كتابه وأنه قَد حرَّم عليهم قَتْلَهم وإِخْراجهم من ديارهم، وأنهم يفادونَهم إِذا أسروا ويقتلونهم ويخرجونهم من ديارهم، فوبَّخهم فَقال: (فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا).
يعني ما نال بني قريظة وبني النضير، لأن بني النضير أُجْلُوا إِلى الشام

(1/166)


و (بني) قريظة ابيدوا - حكم فيهم بقتل المقاتلة وسبي الذرارى فقال الله
عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا)، ولغيرهم من سائر الكفار الخزيُ في
الدنيا القتل وأخذُ الجزية مع الذلة والصغار.
ثم أعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن ذَلك غيرُ مُكَفر عن ذنوبهم، وأنهم صائرون بعد ذلك إلى عذاب عظيم فقال (ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا) (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
ومعنى (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ).
(هَؤُلَاءِ) في معنى الذين، وتَقْتُلُونَ صلة لهُؤلاء كقولك ثم أنتم الذين
تقتلون أنفسكم، ومثلُه قوله: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وهُوَ مُحَرم عَلَيْكُم إخراجُهُمْ).
(هو) على ضربين: جائز أن يكون إضمار الإخراج الذي تقدم ذكره.
قال: (وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ) وهو محرم عليكم إِخراجهم.
ثم بين لتراخي الكلام أن ذلك الذي - حرم الِإخراج وجائز أن يكون للقصة، والحديث والخبر، كأنه قال: والخبر محرم عليكم إِخراجهم - كما قال
عزَّ وجلَّ: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ).
أي الأمر الذي هو الحق توحيد اللَّه عزَّ وجلَّ

(1/167)


وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)

(خِزْيٌَ) يقَال في الشر والسوءِ خزي الرجل خِزْياً، ويقال في الحياءِ
خزي يخزي خِزَايةً، ومعنى يردون إلى أشد العذاب، وعذاب عظيم، وعذاب أليم أن، العذاب على ضَربين، على " قدر المعاصي.
والدليلُ على ذلك قوله عزّ وجلَّ: فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16).
فهذه النار الموصوفة ههنَا لا يدخُلها إلا الكفارِ.

وقوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
(ولَقَدْ آتَيْنَا موسى الكِتَابَ) يعني التوراة.
وقوله: (وقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بالرُّسُل): أي أرسلنا رسولاً يقْفو رسولاً في
دعائهِ إلى توحيد اللَّه والقيام بشرائع دينه، يقال من ذلك فلان يَقْفوْ فلاناً إذا
أتبعه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ).
معنى (آتينا) أعطينا، ومعنى (الْبَيِّنَاتِ) الآيات التي يعجز عنها المخلقونَ مما
أعطيه عيسَى - صلى الله عليه وسلم - من إحيائه الموتى وإبرائه الأكمهَ والأبرص.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ).
معني أيَّدنا، في اللغة قوينا، وشدَدْنا، قال الشاعر:
من أن تبدَّلْتَ بآد آدا
يريد من أن تبدلت بأيْدٍ آدا، يريد بقوة قوة - الأد والأيْد القوة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (بِرُوحِ الْقُدُسِ): روح القدس جبريل عليه السلام.
والقدس الطهارة وقد بَيَّناه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ)

(1/168)


وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)

نَصْبُ كلما كَنَصْبِ سائر الظروف، ومعنى استكبرتم أنِفْتم وتعظمْتم من
أن تكونوا أتباعاً، لأنهم كانت لَهم رياسة، وكانوا متبوعين فآثروا الدنيَا على
الآخرة.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
تقرأ على وجهين غُلْف وغُلُف، وأجود القراءَتين غلْف بإسكانِ اللام لأن
له شاهدا من القرآن ومعنى غلْفٌ ذَواتُ غُلف، الواحد منها أغْلَف وغُلْف
مثل أحْمَر وحُمْر، فكأنهم قالوا قلوبنا في أوعية، والدليل على ذلك قوله:
(وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ)
ومن قرأ (غُلُف) فهو جمع غِلاف وغُلُف، مِثْل مِثال ومُثُل، وحِمار وحُمُر، فيكون معنى هذا: إن قلوَبنا أوعية لِلعلم، والأول أشبه ويجوز أن تُسَكن غُلُف فَيقال غُلْف كما يقال في جمع مثال مُثْل.
فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن الأمر على خلاف ما قالوا فقال: (بَلْ لعَنَهُمُ اللَّه بِكفرهَم).
معنى لعنهم في اللغة أبْعدهم، فالتأويل - واللَّه أعلم - بل طبع اللَّهُ على
قلوبهم كما قال: (ختم اللَّه على قلوبهم) ثم أخبر عزَّ وجلَّ أن ذلك مجازاةٌ
منه لهم على كفرهم فقال (بل لعنهم اللَّه بكفرهم)، واللعن كما وصفنا الإبعاد.
قال الشَّمَّاخ:
وماءٍ قد وردت لوَصْل أرْوى. . . عليه الطير كالورق اللَّجين

(1/169)


وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)

ذعَرتُ به القطا ونفيْتُ عَنه. . . مقام الذئب كالرجل اللَّعين
* * *

وقوله: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
تقرأ (جاءَهم) بفتح الجيم والتفخيم، وهي لغة أهل الحجاز، وهي اللغة
العليا القُدمى، والإِمالةُ إلى الكسر لغة بني تميم وكثير من العرب، ووجهها
أنها الأصل من ذوات الياءِ فأميلت لتدل عدى ذلك، ومعنى كتابُ اللَّه ههنا
القرآن، واشتقاقه من الكَتْبِ وهي جمع كَتْبة وهي الخرزة وكل ما ضممت
بعضه إلى بعض على جهة التقارب والاجتماع فقد كتبته، والكَتِيبَة الفرقةُ التي تحارب من هذا اشتقاقها لأن بعضَها منضم إلى بعض، وسمى كلام الله
عزَّ وجلَّ الذي أنزل على نبيه كِتَاباً، وقُرآنأ وفُرقاناً فقد فسرنا معنَى كتابٍ.
ومعنى قرآن معنى الجمع، يقال ما قرأت هذه الناقة سَلَّى قط أي لم يَضْطَمَّ
رحمُها على ولد قط - قال الشاعر:
هِجَانِ اللَّون لم تَقْرأ جَنِيناً
قال أكثر النَّاس: لم تَجْتمع جنيناً أي لم تضم رحمها على الجنين.
وقال قُطْرب في قرآن قولين، أحدهما هذا، وهو المعروف الذي عليه أكثر
الناس، والقول الآخر ليس بخارج من الصَّحَّة وهو حسن - قال - لم تقرأ
جنيناً - لم تلقه (مجموعاً).
وقال يجوز أن يكون معنى قرأت لفظت به

(1/170)


مجموعاً. كما أن لفظت من اللفظ، اشتقاقه من لَفَظْتُ كذا وكذا، إذا ألقيته، فكأن قرأت القرآن لفظت به مجموعاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (مصدقٌ لِمَا مَعَهُمْ).
أيْ يصدقُ بالتوراة والإنجيل ويخبرهم بما في كتبهم مما لا يعلم إلا
بوحي أو قراءَة كُتُبٍ، وقد علموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أمياً لا يكتب.
وقوله: (وكَانُوا منْ قَبْلُ يسْتَفْتِحُونَ على الَّذين كَفَرُوا).
ضم (قَبْل) لأنها غاية، كان يدخلها بحق الإعراب الكسرُ والفتحُ، فلما
عدلت عن بابها بنيت على الضم، فبنيت على ما لم يكن يدخلها بحق
الِإعراب، وإنما عدلت عن بابها لأن أصلها الِإضافة فجعلت مفردة تُنْبئُ عن
الِإضافة، المعنى، وكانوا من قبل هذا.
ومعنى: (يَسْتَفْتِحُونَ على الَّذِين كَفَرُوا).
- فيه قولان: قال بعضهم كانوا يخبرون بصحة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل وكانوا يستفتحون على الذين كفروا: يَسْتنْصرون بذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما جاءَهم ما عرفوا:
أي ما كانوا يستنصرون وبصحته يخبرون، كفروا وهم يوقنون أنهم معْتَمِدُون
للشقاق عداوة للَّهِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ).
قد فسرنا اللعنة، وجوابُ (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ) محذوف لأن معناه
معروف دلَّ عليه فلما جاءَهم ما عرفوا كفروا به.

(1/171)


بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)

وقوله عزَّ وجلَّ: (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
بئس إذا وقعت على " ما " جُعِلت معها بمنزلة اسم منكور، وإنما ذلك في
نعم وبئس لأنهما لا يعملان في اسم علم، إنما يعملان في اسم منكور دال على جنس، أو اسم فيه ألف ولام يدل على جنس، وإنما كانتا كذلك لأن نعم مستوفية لجميع المدح، وبئس مُسْتوفية لجميع الذم، فإذا قلت نعم الرجل زيد فقد استحق زيد المدح الذي يكون في سائر جنسه.
قال أبو إسحاق وفي نِعْم الرجلُ زيد أربع لغات نَعِم الرجل زيد، ونعِمَ الرجل زيد، وبعْم الرجل زيد، ونَحْمَ الرجل زيد، وكذلك إذا قلت بئس الرجل، دلَلْتَ على أنه استوفى الذم الذي يكون في سائر جنسه، فلم يجز إذ كان يستوفى مدح الأجناس أن يعمل في غير لفظ جنس، فإذا كان معها اسمُ جنس بغير ألف ولام فهو نصْبٌ أبداً، وإذا كانت فيه الألف واللام فهو رفْع أبداً، وذلك كقولك نِعْم رجُلاً زَيْد، ونعم الرجُل زيد، فلما نصب رجل فعلى التمييز، وفي نعم اسم مضمر على شريطة التفسير، وزيد مبين مَنْ هذا الممدوح، لأنك إذا قلت نعم الرجل لم يعلم من تعني، فقولك زيد تريد به هذا الممدوح هو زيد.
وقال سيبويه والخليل جميعَ ما قلنا في نعم وبئس، وقالا إِنْ شئتَ رفعت
زيداً لأنه ابتداءٌ مَؤخَّر. كأنك قلت حين قلت نعم رجلًا زيد، نعم زيد نعم الرجل، وكذلك كانت " ما " في نعم بغير صلة لأن الصلة توضح وتخصص، والقصد فىِ نعم أن يليها اسم منكورٌ أو جنس، فقوله (بئْسما اشْتَرَوْا به أنفسهم) بئس شيئاً اشتروا به أنفسهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ).
موضعه رفع: المعنى ذلك الشيءُ المذموم أن يكفروا بما أنزل اللَّه.

(1/172)


وقوله عزَّ وجلَّ: (فَنِعِمَّا هيَ)، كأنه قال فنعم شيْئاً هي، وقال قوم إنَّ نعم مع ما بمنزلة حَبَّ مع ذا، تقول حبَّذَا زيد، وحبذا هي ونعِما هي والقول الأول هُو مذهب النحويين وروى جميع النحويين بئسما تزوييج ولا مَهْر والمعنى فيه بئس شيئاً تزويج ولا مهر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ).
معناه أنهم كفروا بغياً وعداوة للنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنهم لمْ يُشكَّوا في نبوته - صلى الله عليه وسلم - وإنما حَسَدوه على ما أعطاه الله من الفضل، المعنى: كفروا بغياً لأنْ نزَّلَ اللَّهُ الفضل
عَلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونصب بغيا أنهم مفعولاً له، كما تقول فعلتُ ذلك حذَرَ السر أي لحذر الشر كأنك قلت حَذَرْت حذَراً، ومثله من الشعر قول الشاعر وهو
حاتم الطائي:
وأعْفرُ عوراءَ الكريم ادِّخَارَه. . . وأعرض عن شتم اللئيم تكرماً
المعنى أغفر عوراءَ الكريم لادّخَارِه، وأعرضُ عنْ شتم اللئيم للتكرم.
وكأنه قال: أذخر الكريم ادخاراً، وأتكرم على الكريم تكرماً، لأن قوله أغفر عوراءَ الكريم معناه أدخر الكريم، وقوله وأعرض عن شتم اللئيم تكرماً معناه أتكرم على اللئيم، وموضع أن الثانية نصب، المعنى أن يكفروا بما أنزل اللَّه

(1/173)


وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)

لأن ينزل اللَّه، أي كفروا لهذه العلَّةِ، فشرحه كهذا الذي شرحناه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ): معنى باءُوا في اللغة
احتملوا، يقال قد بْؤت بهذا الذنْبِ أيَ تحملته - ومعنى بِغَضبٍ على غَضَبٍ - فيه قولان:
قال بعضهم: بغَضبٍ من أجل الكفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - على غَضبٍ على الكفر بعيسى - صلى الله عليه وسلم - يعني بهم إليهود.
وقيل (فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ) أي بإثْم استحقوا به النار على إِثم تَقَدم أي استحقوا به أيضاً النَّارَ.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)
أي بالقرآن الذي أنزل اللَّه على النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا أنؤمن بما أنْزِل علينَا، وقد بين الله أنهم غيرمؤمنين بما أنزل عليهم، وقد بيَّنَّا ذلك فيما مضى.
وقوله تعالى: (وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ).
معناه ويكفرون بما بعده، أي بما بعد الذي أنزل عليهم، (وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ)، فهذا يدل على أنهم قد كفروا بما معهم إذْ كفروا بما يُصَدِّقُ ما
معهم، نصب مصدقاً على الحال، وهذه حال مؤَكدة، زعم سيبويه والخليلُ
وجميع النحوين الموثوقُ بعلمهم أن قولك " هو زيد قائماً " خطأ، لأن قولك هو زيد كناية عن اسم متقدم فليس في الحال فائدة، لأن الحال توجب ههنا إنَّه إذا كان قائماً فهو زيد، فإِذا ترك القيامُ فليس بزيد - وهذا خطأ.
فأما قولك هو زيد معروفاً، وهو الحق مصدقاً، ففي الحال فائدة، كأنك قلت انْتَبِهْ لَهُ معروفاً، وكأنه بمنزلة. قولك هو زيد حقاً، فمعروفاً حال لأنه إِنما يكون زيداً لأنه يعرف بزيد، وكذلك " الحق " القرآن هو الحق إِذ كان مصدقاً لكتب الرسل.

(1/174)


وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)

أكْذَبَهُمُ اللَّهُ فى قولهم: (نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا) فقال
(قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).
أيْ أيُّ كتاب جُوّز فيه قتل نبي، وأي دين وإيمان جُوز فيه ذلك فإِن قال
قائل فَلِمَ قيل لهم فلم تقتلون أنبياءَ الله من قبل، وهؤُلاءِ لَمْ يَقْتُلُوا نبياً قط؟ قيل له قال أهل اللغة في هذا قولين: أحدهما إن الخطاب لمن شُوهِدَ من أهل مكةَ ومنْ غاب خطَابٌ واحد، فإذا قَتَل أسْلافُهم الأنبياءَ وهم مُقِيمُون على ذلك المذهب فقد شَرَكُوهم في قَتْلِهمْ، وقيل أيضاً لِمَ رَضيتمُ بذلك الفعل، وهذا القول الثاني يرجع إلى معنى الأول.
وإنما جاز أنْ يُذكر هنا لفظُ الاستقبال والمعنى
المضي لقوله (من قبل)
ودليل ذلك قوله (قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ) فقوله: (فلم تَقتلون) بمنزلة " فلم قتلتم).
وقيل في قوله: (إِنْ كُنتم مؤمنين) قولان: أحدهما ما كنتم مؤمنين وقيلَ
إِنَّ إِيمانكم ليس بإيمان.
والإيمان ههنا واقع على أصل العقد والدين، فقيل
لهم ليس إيمان إيماناً إذَا كان يَدْعُو إلى قتل الأنبياءِ.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
قد بيَّنَّاه فيما مضى.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ).
معناه سُقُوا حبَّ العجل، فحذف حب وأقيم العجل مقامه.
كما قال الشاعر:
وكيف تواصل من أصبحت. . . خلالته كأبي مرحب

(1/175)


قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)

أي كخلالته ابي مرحب، وكما قال:
وشر المنايا ميّت بينَ أهْله. . . كهلك الفتى قَدْ أسْلَم الحيَّ حاضِرُه
المعنى وشر المنايا منيَّة ميت. . . .
وقوله عزَّ وجلَّ: (بِكُفْرِهمْ) أي فعل الله ذلك بهم مجازاة لهم على الكفر
كما قال: (بلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بكُفْرِهِمْ).
وقوله: (بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) قد فسرناه أي ما
كنتم مؤمنين، فبئس الِإيمان يأمركم بالكفر.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94)
قيل لهم هذا لأنهم قالوا: (لَنْ يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى)
وقالوا: (نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) فقيل لهم إِن كنتم عند أنْفسِكم صادقين
فِيما تدّعون فَتَمنوُا الموْت، فإنَ من كان لا يشك في أنه صائر إِلى الجنة، فالجنة عنده آثرُ من الدنيا، فإن كنتم صادقين فتَمنوُا الأثرة والفضل.
وللنبي - صلى الله عليه وسلم - وللمسلمين في هذه الآية أعظم حجة وأظهرُ آية وأدلة على الِإسلام، وعلى صحة تثبيت رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه قال لهم: تَمنَّوُا الموت.
وأعلمهم أنهم لن يتمنوه أبداً فَلَمْ يتمنَّه منهم واحد لأنهم لو تمنوه لماتُوا من

(1/176)


وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)

ساعتهم، فالدليل على علمهم بأن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - حق أنهم كَفُوا عن التَمني ولم يُقْدِم واحد منهم عليه فيكون إقْدامُه دفعاَ لقوله: (ولَنْ يتَمنَوْه أبداً).
أو يعيش بعد التمني فيكون قد ردَّ ما جاءَ به النبي - صلى الله عليه وسلم - فالحمد للَّهِ الذي أوضَح الحق وبيَّنَه، وقَمع الباطل وأزْهقه.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95)
يعني - ما قدمت من كفرهِمْ بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنِهم كفروا وهم يعلمون أنه حق وأنهم إنْ تَمَنَوْه ماتوا، ودليل ذلك إمْسَاكُهُمْ عَن تَمنَيه
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (واللَّهُ عَلِيمٌ بالظَّالِمِينَ).
اللَّه عزَّ وجلَّ عليم بالظالمين وغير الظالمين، وانًما الفائدة ههُنا إنَّه عليم
بمجازاتهم -، وهذا جرى في كلام الناس المستعمل بينهم إذَا أقبل الرجل على رجل قد أتى إليه منكراً، قال أنا أعرفك، وأنا بصير بك، تأويله أنا أعلم ما أعاملك به وأستعمله معك.
فالمعنى إنه عليم بهم - وبصير بما يعملون، أي يجازيهم عليه بالقتل في الدنيا أو بالذلَّة والمسكنة وأداءِ الجِزية، ونصب (لن) كما تنصب (أن) وقد شرحْنا نصبها فيما مضى وذكرنا ما قاله النحويون فيه.
ونصب (أبداً) لأنه ظرف من الزمان، المعنى: لن يَتَمَنوهُ في طول عُمرهم إِلى
موتهم، وكذلك قولك: لا أكلمك أبداً، المعنى لا أكلمك ما عشت. ومعنى (بما قدمت أيديهم) أي بما تقدمه أيديهم. ويصلح أن يكون بالذي قدمته أيديهم.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
يعني به علماءَ إليهود هؤلاءِ، المعنى أنك تجدهم في حال دعائهمْ إلى تمنى

(1/177)


الموت أحرص الناس على حياة.
ومعنى (لَتَجِدَنَّهُمْ) لَتَعْلَمَنَّهَم.
وَمَعْنى (وَمِنَ الَّذِينَ أشْرَكُوا) أي وَلَتَجِدَنَهُمْ أحْرَصَ من الذين أشركوا، وهذا نهاية في التمثيل.
والذين أشركوا هم المجوس ومن لا يُؤمن بالبعث.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ).
ذكرت الألْفُ لأنها - نهايةُ ما كانت المجوس - تدْعُو به لمُلوكها - كان الملك
يُحَيَّا بأن يقال عش ألفَ نَيْبُروزٍ وَألْفَ مِهْرَجَانٍ.
يقول فهؤُلاءِ الذين يزعمون أن لهم الجنة، وأنَّ نعيم الجنة له الفضل
لاَ يتمنون - الموت وهم أحرص مِمَّن لا يُؤمن بالبعث، وكذلك يجب أن يكون هُؤلاءِ لأنهم كُفَّار بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وهو عِنْدهُم حق، فيعلمون أنهم صائرون إِلى النارِ لا محالة، فهم أحْرصُ لهذه العلة، ولأنهم يعلمون أنهم لو تمنوا الموت لماتوا، لأنهم علموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حق لولا ذلك لما أمسكوا عن التمني، لأن التمني من واحد
منهم كان يثبت قولهم.
وإِنما بالغنا في شرح هذه الآيات لأنها نهاية في الاحتجاج في تثْبِيتِ أمْرِ
النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ).
هذا كناية عن (أحدهم) الذي جرى ذكره، كأنه قال: وما أحدهم
بمزحزحه من العذاب تعميره، ويصلح أن تكون " هو " كناية عما جرى ذكره - من طول العمر، فيكون: وما تعميره بمزحزحه من العذاب، ثم جعل - أن يعمر مبنياً عن " هو " كأنَّه قال: ذلك الذي ليس بمزحزحه
(أن يعمر).

(1/178)


قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)

وقد قال قوم: إن (هو) لِمَجْهول وهذا عند قوم لا يصلح في " ما " إذا
جاءَ في خبرها الباءِ مع الجملة: لا يجيز البصريون: " ما هو قائما زيد.
يريدون ما الأمر قائماً زيد، ولا كان هو قائماً زيد، يريدون ما الأمر قائماً
زيد؛ ولا كان هو قائماً زيد، يريدون كان الأمر قائماً زيد وكذلك لا يجيزون ما هو بقائم زيد يريدون ما الأمْرُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ).
شرحه تقدم في الآية التي قبل هذه
وتقول في يود: وددت الرجل أودة وُدًّا أبيْ وِداداً ومودة " وودادة
وحكى الكسائي ودَدْتُ الرجلَ والذي يعرفه جميع الناس ودِدْتُه، ولم يحك إلا ما سَمِع إِلا أنه سمع ممن لا يجب أن يؤْخذ بلغته، لأن الإجماع على تصحيح
أوَدُّ، وأوَدُّ لَا يكون ماضيه ودَدَتً.
فالإجماع يُبْطِل وَدَدْتُ. أعني الإجماع في قولهم أودُ.
* * *

قوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإنَهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)
جبريل في اسمه لغات قرئ ببعضها ومنها ما لم يُقْرأ به، فأجود
اللغات جَبْرَئِيل - بفتح الجيم، والهمز، لأن الذي يروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في صاحب الصور " جَبْرَئِيل عن يمينه وميكائيل عن يساره، هذا الذي ضبطه أصحاب الحديث، ويقال جَبْرِيل بفتح الجيم وكسرها ويقال أيضاً جبرأَلُّ - بحذف الياءِ وإثبات الهمزة (وتشديد اللام)، ويقال جبرين - بالنون وهذا

(1/179)


مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)

لا يجوز في القرآن - أعني إثبات النون لأنه خلاف المصحف -
قال الشاعر:
شهِدْنَا فما تَلْقى لنا من كتيبةٍ. . . َ الدهرِ إلا جَبْرَئِيلُ أَمامَها
وهذا البيت على لفظ ما في الحديث وما عليه كثير من القراءِ.
وقد جاءَ في الشعر جبريل قال الشاعر:
وجبريلٌ رسولُ الله فينا. . . وروحُ القُدْسِ ليس له كِفَاءُ
و (نما جرى ذكر هذا لأن إليهود قالوا للنبي ي: جبريل عدونا فلو أتاك
ميكائيل، لَقَبِلْنَا منك، فقال اللَّه عزَّ وجلًَّ: (قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإنَهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97).
ونصب (مصدقاً) على الحال.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
ميكائيل فيه لغات، ميكائيل وميكال. وقد قرئ. بهما جميعاً، وميكَال -
بهمزة بغير ياءٍ. وهذه أسماء أعجمية دفعت إلى العرب فلفظت بها بألفاظ
مختلفة - أعني جبريل، وميكائيل. وإسرائيل فيه لغات أيضاً: إسرايِيل
وإسرال، وإسرايل. وإِبراهيم وإبراهَم، وأبرَهْم وإبْرَاهام، والقرآن إنما أتى
بإبراهيم فقط وعليه القراءة.
وأكثر ما أرويه من القراءَة في كتابنا هذا فهو عن أبي عبيد ممَّا رواه

(1/180)


أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)

إسماعيل بن إسحاق عن أبي عبد الرحمن عن أبي عُبَيْد.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99)
يعني الآيات التي جرى ذكرها مما قد بيَّنَّاه، والآية في اللغة العلامة.
وبينات: واضحات، و " قد " إنما تدخل في الكلام لقوم لا يتوقعون
الخبر، واللام في لقد لام قسم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا يَكْفُرُ بِها إلا الفَاسِقُونَ).
يعني الذين قد خرجوا عن القصد، وقد بيَّنَّا أن تول العرب فَسقَت
الرطبة: خرجت عن قشرتها.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100)
معنى نبذه رفضه ورمى به.
قال الشاعر:
نَظَرتَ إلى عُنْوانه فنبذتَه. . . كنبذك نَعْلا أخلقت من نِعالكَا
ونصب أوكلما عاهدوا على الظرف.
وهذه الواو في أوكلما تدخل عليها ألف الاستفهام، لأن الاستفهام مستأنف، والألف أمُّ حروف الاستفهام.
وهذه الواو تدخل على هل فتقول: وهل زيد عاقل لأن معنى ألف الاستفهام

(1/181)


وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)

موجود في هل، فكأن التقدير أو هل إِلا أن ألف الاستفهام وهَلْ لا يجتمعان
لأغناء هل عن الألف.

وقوله عزَّ وجلََّّ: (وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101)
يعني به النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن الذي جاءَ به مصَدّق التوْرَاةَ والِإنجيلَ، و (لَمَّا) يقع بها الشيء لوقوعِ غيره (مُصَدِّقٌ) رفع صفة لرسول، لأنهما نكرتان.
ولو نصب كان جائزاَ، لأن (رَسُولٌ) قد وصف بقوله (مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) فلذلك صار النصب يحسن، وموضع " ما " في " (مِصدّق لما معهم) جَر بلام الإِضافة، و " مَعَ " صلة لها، والناصب لمع الاستقرار.
المعنى لما استقر معهم.
وقوله عزَّ وجلََّّ: (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ).
(الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) يعني به إليهود، والكتاب هنا التوراة و (كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ) فيه قولان: جائز أن يكون القرآن وجائز أن يكون التوراة، لأن الذين كفروا بالنبي قد نبذوا التوراة.
وقوله عزَّ وجلََّّ: (كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ).
أعْلَمَ أنهم علماء بكتابهم، وأنهم رفضوه على علم به، وعداوةً للنبي
صلَّى اللَّه عليه وسلم. وأعْلَمَ أنَّهم نَبذوا كتاب اللَّه.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102)

(1/182)


ما كانت تتلوه، والذي كانت الشياطين تلته في ملك سليمان كتاب من
السحر فَلِبهتِ اليهود وكَذِبِهم ادعَوْا أن هذا السحر أخذوه عن سليمان وأنه اسم الله الأعظم، يتكسَّبُون بذلكَ، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنهم رفضوا كتابه واتبعوا السحر، ومعنى على (ملك سليمان)، على عهد ملك سليمان
(عَلَيْهِم) فبرأ اللَّه - عزَّ وجلَّ - سليمانَ من السحر، وأظهر محمداً - صلى الله عليه وسلم - عَلَى كذبهم
وقال: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ).
لأن اللَّه جعل الإتيان من سليمان بالسحر كفراً فبرَّأهُ منه، وأعلم أن الشياطين كفروا فقال: (وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا)
(يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)
فمن شدد (لَكِنَّ) نصب الشياطين، ومن خفف رفع
فقال: (وَلَكِنِ الشيَاطِينُ كَفَرُوا) وقد قرئ بهما جميعاً.
وقوله عزَّ وجلَّ: (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ).
وقد قريءَ على الملِكَيْنِ، و (المَلَكَيْنِ) أثْبتُ في الرواية والتفسير
جميعاً، المعنى يعلمون الناس السحرَ ويعلمون ما أنزلَ على الملكين فموضع
(ما) نصب، نَسق على السحْر، وجائز أن يكونَ واتبعوا ما تَتْلُو الشياطين واتَبعوا ما أنزل على الملكين، فتكون ما - الثانية عطفاً على الأولى.
وقوله: (وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ).
فيه غير قول: أحدها - وهو أثبتها أن الملكين كانا يعلمان الناس
السحر. وعلمتُ، وأعْلَمْتُ جميعاً في اللغة بمعنى واحد. (كانا يعلمان) نَبأ
السحر ويأمران باجتنابه - وفي ذلك حكمة لأن سائلاً لو سأل: ما الزنا وما

(1/183)


القذف لوجب أن يوقف ويُعَلَّمَ أنه حرام، فكذلك مجاز إعلام الملكين الناس
وأمرهما باجتنابه بعد الإعلام يدل على ما وصفنا، فهذا مستقيم بين، ولا
يكون على هذا التأويل تعلم السحر كفراً، إنما يكون العمل به كفراً، كما أن من عَرَفَ الزنا لم يأثَمْ بأنه عرفه، وإنما يأثم بالعمل به.
وفيه قَوْل آخر، جائز أن يكون اللَّه عزَّ وجلَّ امتحن بالملكين الناس في ذلك الوقت، وجعل المحنة في الكفر والِإيمان أن يقبل القابل تعلم السحر، فيكون بِتَعلُّمِه كافراً، وبتْرَكِ تعَلمه مؤمناً، لأن السحر قد كان كثر وكان في كل أمة، والدليل على ذلك أن فرعون فزع في أمر موسى - صلى الله عليه وسلم - إلى السحر - فقال: (ائتوني بكل ساحر عليم)
وهذا ممكن أن يمْتَحِن اللَّه به كما امتحن بالنهر في قوله
(إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإنَهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ).
وقد قيل إن السحر ما أنزل على الملكين، ولا أمرا به ولا أتى به
سليمانُ عليه السلام. فقال قوم: (وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ)، فيكون " ما " جحْداً، ويكون هاروت وماروت من صفة الشياطين، على تأويل هؤلاء، كان التأويل عندهم على مذهب هؤلاءِ: كان الشياطين هاروت وماروت، ويكون معنى قولهمَا على مذهب هؤلاءِ (إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ) كقول الغاوي والخليع: أنا في ضلال فلا تَرِدْ ما أنا فيه.
فهذه ثلاثة أوجه، والوجهان الأولان أشبه بالتأويل وأشبه بالحق عند كثير
من أهل اللغة، والقول الثالث له وجه، إلا أن الحديث وما جاءَ في قِصَّةِ
الملكين أشبه وأولى أن يؤخذ به

(1/184)


وإنما نذكر مع الإعراب المعنى والتفسير، لأن كتاب اللَّه ينبغي أن يتبين
ألا ترى أن اللَّه يقول (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) (فحُضِضْنَا) على التدبر
والنظر، ولكن لا ينبغي لأحد أن يتكلم إلا على مذهب اللغة، أو ما يوافق نقلة أهل العلم، واللَّه - أعلم بحقيقة تفسير هذه الآية.
فإن النحويين قد ترك كثير منهم الكلام فيها لصعوبتها، وتكلم جماعة منهم وإنما تكلمنا على مذاهبهم.
وقال بعض أهل اللغة: إن الذي أنزل على الملكين كلام ليس بسحر
إلا إنَّه يفرق به بين المرء وزوجه فهو من باب السحر في التحريم وهذا
يحتاج من الشرح إلى مثل ما يحتاج إليه السحر.
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا).
ليس (يَتَعَلَّمُونَ) بجواب لقوله (فلا تكفر) وقد قال أصحاب النحو في هذا
قولين - قال بعضهم: إِن قوله يتعلمون عطف على قوله (يُعلِّمونَ) وهذا
خطأ، لأن قوله منهما دليل ههنا على أن التعلم من الملكين خاصة وقيل -
(فَيَتَعَلَّمُونَ) عطف على ما يوجبه معنى الكلام.
المعنى: إنما نحن فتنة فلا تكفر: فلا تتعلم ولا تعمل بالسحر، فيأبون فيتعلمون، وهذا قول حسن.
والأجود في هذا أن يكون عطفاً على يعلمان فيتعلمون واستغنى عن ذكر
يعلمان بما في الكلام من الدليل عليه.

(1/185)


وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ).
الإذن هنا لا يبهون الأمر من الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ).
ولكن المعنى إِلا بعلم الله.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ).
المعنى إنَّه يضرهم في الآخرة وِإدْ تعجلوا به في الدنيا نفعاً.
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ).
الخلاق النصيب الوافر من الخير، ويعني بذلك الذين يعلمون السحر
لأنهم كانوا من علماءِ إليهود.
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).
فيه قولان: قالوا: (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ): يعني به الذين يُعَلًمُونَ السحْر.
والذين علموا أن العالم به لا خلاق له هم المعلمون. .
قال أبو إسحاق والأجود عندي أن يكون (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) راجعاً إلى
هُؤلاء الذين قد علموا أنه لا خلاق لهم في الآخرة).
أي لمن عُلِّمَ السحرَ ولكن قيل (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) وأي لو كان علمهم ينفعهم لسُمُّوا عالمين، ولَكِنَّ عِلْمَهُم نبذوه وراء ظهورهم، فقيل لهم (لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) أي ليس يوفون العلم حقه، لأنَّ العالِمَ، إِذا ترك العَمَلَ بِعِلْمِه قيل له لست بعالم ودخول اللام في لقد على جهة القسم والتوكيد.
وقال النحويون في (لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ) قولين:
جعل بعضهم " مَنْ " بمعنى

(1/186)


وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)

الشرط، وجعل الجواب (مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ).
وهذا ليس بموضع شرط ولا جزاء، ولكن المعنى: ولقد علموا الذي اشتراه ما له في الآخرة من خلاق: كما تقول: واللَّه لقد علمت للذي جاءَك ما له من عقل.
فأمَّا دخول اللام في الجزاءِ في غير هذا الموضع وفيمن جعل هذا موضع شرط وجزاء مثل قوله: (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)
ونحو (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ)
فاللام الثانية هي لام القسم في الحقيقة، لأنك إنما تحلف على فعلك لا على فعل غيرك في قولك: والله لئن جئتني لأكرمنك، فزعم بعض النحويين أن اللام لما دخلت في أول الكلام أشبهت القسم فأجيبت بجوابه وهذا خطأ، لأن جواب القسم ليس يشبه القسم، ولكن اللام الأولى دخلت إعْلاماً أنَّ الجملة بكمالها معقودة للقسم، لأن الجزاء وإن كان للقسم عليه فقد صار للشرط فيه حظ، فلذلك دخلت اللام.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
مَثُوبة في موضع جواب " لو " لأنها تنْبِئ عن قولك " لأثيبُوا " ومعنى الكلام
أن ثواب اللَّه خير لهم من كَسْبِهم بالكُفْر والسحْرِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لَوْ كَانُوا يَعلَمُونَ).
أي لو كانوا يَعْمَلُونَ بِعِلمِهم، ويعلمون حقيقة ما فيه الفضل.

(1/187)


مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)

وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)
وقرأ الحسن " لا تقولوا راعِناً " بالتنوين، والذي عليه الناس راعنا غير
منون، وقد قيل في (راعنا) بغير تنوين ثَلاثةُ أقوال: قال بعضهم راعنا:
ارعنا سمعك، وقيل كان المسلمون يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - راعنا، وكانت إليهود تَتَسَابُّ بينها بهذه الكلمة، وكانوا يسبون النبي - صلى الله عليه وسلم - في نُفُوسهم، فلما سمعوا
هذه الكلمة اغتنموا أن يظهروا سَبَّه بلفظ يسمع ولا يلحقهم به في ظاهره
شيء، فأظهر اللَّه النبى - صلى الله عليه وسلم - والمسلمين على ذلك ونهى عن هذه الكلمة.
وقال قوم: (لَا تَقُولُوا رَاعِنَا): من المراعاة والمكافأة، فأمروا أن يخاطبوا
النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتقدير والتوقير، فقيل لهم لا تقولوا راعنا، أي كافنا في المقال، كما يقول بعضهم لبعض، -
(وَقُولُوا انْظُرْنَا) أي أمهلنا واسمعوا، كأنه قيل لهم استَمِعُوا.
وقال قوم إِن راعنا كلمة تجري على الهُزُءِ والسخرية، فنهيَ
المسلمون أن يَلْتَفِظُوا بها بحضرة النبي - صلى الله عليه وسلم -
وأما قراءَة الحسن " راعناً " فالمعنى فيه لا تقولوا حُمْقاً، من الرعونة.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
المعنى ولا من المشركين، الذين كفروا من أهل الكتاب: إليهود
والمشركون في هذا الوضع عَبَدةُ الأوثان.
(أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ).
- ويُقْرأ أن يُنْزَل عليكم بالتخفيف والتثقيل جميعاً، ويجوز في العربية أن

(1/188)


مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)

يَنْزِلَ عليكم، ولا ينبغي أن يقرأ بهذا الوجه.
الثالث، إذ كان لم يقرأ به أحد من القراء المشتهرين.
وموضع (مِنْ خَيْرٍ) رفع. المعنى: ما يود الذين كفروا
والمشركون أن ينزل عليكم خير من ربكم، ولو كان هذا في الكلام لجاز ولا
المشركون، ولكن المصحف لا يخالف، والأجود ما ثبت في المصحف
أيضاً، ودخول من ههنا على جهة التوكيد والزيادة كما في " ما جَاءني من
أحد)، وما جاءَنى أحد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)
أي يختص بنُبوته من يشاءُ من أخبر - عزَّ وجلَّ - أنه مختار.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106)
في (نُنْسِهَا) غير وجه قد قرئ
به: أو نُنْسِهَا، وَنَنْسَهَا، وَنَنْسُؤها.
فأما النسخ في اللغة فإبطال شيء وإقامة آخر
مقامه، العرب تقول نسخت الشمسُ الظل، والمعنى أذهبت الظل وحلَّت
محلَّه، وقال أهل اللغة في معنى (أو نُنْسِهَا) قولين قال بعضهم، (أو ننسها)
من النسيان، وقالوا دليلنا على ذلك قوله عزَّ وجلَّ (سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى إلا مَا شَاءَ اللَّهُ) فقد أعلم اللَّه أنه يشاء أن يُنْسى، وهذا القول عندي ليس
بجائز، لأن اللَّه عزَّ وجلَّ: قد أنبأ النبي - صلى الله عليه وسلم -
في قوله (وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ) إنَّه لا يشاء، أن يذهب بالذي أوحَى به إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وفي قوله (فَلَا تَنْسَى إلا مَا شَاءَ اللَّهُ) قولان يُبْطلان هذا القول الذي حكينا عن بعض أهل اللغة: أحدهما (فلا تنسى) أي لست تترك إلا ما شاءَ اللَّه أن
تترك، ويجوز أن يكون إلا ما شاءَ الله مما يلحق بالبشرية، ثم تذكر بعد،

(1/189)


ليس أنه على طريق السلب للنبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً أوتيه من الحكمة وقيل في (أو ننْسِهَا) قول آخر وهو خطأ أيضاً، قالوا أو نَتْرُكُهَا " وهذا يقال فيه نسيت إذا تركت، ولا يقال أنسيت أي تركت، وإنما معنى (أو ننسها) أو نَتركِها أي نأمر بتركها، فإِن قال قائل ما معنى تركها غير النسخ وما الفرق بين الترَك والنسخ؟
فالجواب في ذلك أن النسخ يأتي في الكتاب في نسخ الآية
بآية فتُبطِل الثانيةُ العملَ بالأولى.
ومعنى الترك أن تأتي الآية بضرب من العمل
فيؤمر المسلمون بترك ذَلك بغير آية تَأْتِي ناسخة للتي قبلهَا، نحو
(إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ)
ثم أمر المسلمون بعد ذلك بترك المِحْنَة.
فهذا معنى الترك، ومعنى النسخ قد بيَّنَّاه فهذا هو الحق.
ومن قرأ " أو نَنْسؤُها " أراد نؤَخًرُها. والنَّسْءُ في اللغة التأخير، يقال: نسأ
اللَّه في أجله وأنْسَأ اللَّه أجله أي أخر أجله.
وقوله: (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا).
المعنى بخير منها لكم، (أوْ مِثْلِها) فأما ما يؤتى فيه بخير من المنسوخ
فتمام الصيام الذي نسخ الِإباحة في الِإفطار لمن استطاع الصيام.
ودليل ذلك قوله: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) فهذا هو خير لنا كما قال اللَّه
عزَّ وجلَّ.
وأمَّا قوله (أَوْ مِثْلِهَا) أي نأْتي بآية ثوابها كثواب التي قبلها، والفائدة في

(1/190)


أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)

ذلك أن يكون الناسخ اشهل في المأخذ من المنسوخ، والإيمان به أسوغ.
والناس إليه أسرع.
نحو القِبْلة التي كانت على جهة ثم أمر اللَّه النبي - صلى الله عليه وسلم -
بجعل البيت قبلةَ المسلمين وعدل بها عن القصد لبيت المقدس، فهذا - وإِن
كان السجود إلى سائر النواحي متساوياً في العمل والثواب، فالذي أمر الله به في ذلك الوقت كان الأصلح، والأدعى للعرب وغيرهم إِلى الإِسلام.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
لفظ (أَلَمْ) ههنا لفظ استفهام ومعناه التوقيفُ، وجزم (أَلَمْ) ههنا كجزم
" لم " لأن حرف الاستفهام لا يغير العامل عن عمله، ومعنى الملك في اللغة
تمام القدرة واستحكامها فما كان مما يقال فيه مَلِك سمي المُلْكَ، وما نالته
القدرة مما يقال فيه مَالِك فهو مِلْك، تقول: ملكت الشيء أمْلِكه مِلْكاً.
وكقوله تعالى، (على مُلك سليمان) أي في سلطانه وقُدْرته.
وأَصل هذا من - قولهم ملكتُ العَجين أملُكُه إِذا بالغْتُ في عَجْنِه، ومن هذا قيل في التزويج شهدنا " إِملاكَ " فلان، أي شهدنا عقد أمر نكاحه وتشديده.
ومعنى الآية إِن اللَّه يَمْلك السَّمَاوَات والأرض ومن فيهن فهو أعلم بوجه
الصلاح فيما يتعبدهم به، من ناسخ ومنسوخ ومتروك وغيره.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ).
هذا خطاب للمسلمين يخبرون فيه أن من خالفهم فهو عليهم، وأن اللَّه
جلَّ وعزَّ ناصرهم، والفائدة فيه أنه بنَصْره إياهم يغلبون من سواهم.

(1/191)


أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)

وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
أجود القراءَة بتحقيق الهمزة، ويجوز جعلها بَينَ بينَ، يكون بين
الهمزة والياء فيلفظ بها سُيل.
وهذا إنما تحكمه المشافهة لأن الكتاب فيه
غير فاصل بين المتحقق والمُلَيَّن وما جُعِلَ ياءً خالصة، ويجوز كما سِيلَ موسى
من قبل، من قولك " سِلْت "، أسَال في معنى سئِلت اسْأل وهي لغة للعرب
حجاها جميع النحويين، - ولكن القراءَة على الوجهين اللذين شرحناهما قبل
هذا الوجه من تحقيق الهمزة وتليينها.
ومعنى (أم) ههنا وفِي كل مكان لا تقع فيه عطفاً على ألف
الاستفهام - إِلا أنها لا تكون مبتدأة - أنها تؤذن بمعنى بل ومعنى ألف
الاستفهام، المعنى " بل أتريدون أن تسألوا رسولكم كما سُئِل موسى
من قبل " فمعنى الآية أنهم نًهوا أن يسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لا خير لهم في السؤال عنه وما يُكَفِّرهم، وإِنما خوطبوا بهذا بعد وضوح البراهين لهم وإقامتها على مخالفتهم وقد شرحنا ذلك في قوله
(فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ) وما أشبه ذلك مما تقدم شرحه.
- فأُعْلِم المسلمون أن السؤال بعد قيام البراهين كفر كما قال عزَّ وجلَّ:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ).

(1/192)


وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)

وقوله: (وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ).
أي من يسأل عما لا يعنيه النبى - صلى الله عليه وسلم - بعد وضوح الحق فقد ضل سواءَ السبيل أي قصد السبيل.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109)
يعني به علماءَ إليهود.
وقوله: (حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) موصول بود الذين كفروا، لا بقوله حسداً، لأن حسد الإِنسان لا يكون من عند نفسه، ولكن المعنى مودتهم بكفركم من عند أنفسهم، لا أنهم عندهم الحق الكفر، ولا أن كتابهم أمرهم بما هم عليه من الكفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
الدليل على ذلك قوله: (مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ).
هذا في وقت لم يكن المسلمون أمروا فيه بحرب المشركين، وإِنما
كانوا يدعون بالحجج البينة وغاية الرفق حتى بين الله أنهم إنما يعاندون بعد
وضوح الحق عندهم فأمر المسلمون بعد ذلك بالحرب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ،: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)
أي قدير على أن يدعو إِلى دينه بما أحب مما هو عنده الأحكم
والأبلغ. ويقال: اقدر على الشيءِ - قَدْراً وقَدَراً وقُدْرة، وقُدْرَاناً، ومَقْدِرَة

(1/193)


وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)

ومقدُرة ومقدَرة.
هذه سبعة أوجه مروية كلها، وأضعفها مقدرة - بالكسر -.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)
الِإخبار في هذا عن أهل الكتاب، وعقد النصارى معهم في قوله
وقالوا لأن الفريقين يقرآن التوراة، ويختلفان في تثبيت رسالة موسى وعيسى، فلذلك قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وقالوا: " فأُجْمِلوا).
فالمعنى أن إليهود قالت لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً، والنصارى
قالت لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانياً، وجاز أن يلفظ بلفظ جمع لأن
معنى (من) معنى جماعة. فَحُمِل الخبر على المعنى.
والمعنى إِلا الذين كانوا هودا وكانوا نصارى.
وهو جمع هائد وهود، مثل حائل وحول، وبازل وبزل.
وقد فسَّرْنَا واحد النصارى وجمعه فيما مضى من الكتاب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ).
هذا كما يقال للذي يدعي ما لا يبرهن حقيقته إنما أنت مُتَمَن.
وأمانيهم مشددة، ويجوز في العربية تلك " أمَانِيهِمْ " ولكن القراءَة بالتشديد
لا غير، للإِجماع عليه، ولأنه أجود في العربية.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)).
أي إِن كنتم عند أنفسكم صادقين فَبَينوا ما الذي دلكم على ثبوت
الجنة لكم.

(1/194)


وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)

وقوله عزَّ وجلَّ: (بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)
أي فهذا يدخل الجنة، فإن قال قائل فما برهان من آمن في قولكم، قيل
ما بيناه، من الاحتجاج للنبي - صلى الله عليه وسلم - ومن إظهار البراهين بأنبائهم ما لا يعلم إِلا من كتاب أو وحي، وبما قيل لهم في تمني الموت، وما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - من الآيات الدالة على تثبيت الرسالة، فهذا برهان من اسلم وجهه للَّهِ.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
يعني به أن الفريقين يَتْلُوَان التوراة، وقد وقع يينهم هذا الاختلاف
وكتابهم واحد، فدل بهذا على ضلالتهم، وحذر بهذا وقوع الاختلاف في
القرآن، لأن اختلاف الفريقين أخرجهما إلى الكفر.
فتفهموا هذا المكان فإن فيه حجةً عظيمة وعِظَةً في القرآن.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ).
يعني به الذين ليسوا بأصحاب كتاب، نحو مشركي العرب والمجوس.
المعنى أن هؤلاء أيضاً قالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا.
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ).
المعنى يريهم من يدخل الجنة عِياناً، ويدخل النار عيانا.
وهذا هو حكم الفصل فيما تصير إليه كل فرقة، فأما الحكم بينهم في العقيدة فقد بينه اللَّه عزَّ وجلَّ - فيما أظهر من حجج المسلمين، وفي عجز الخلق عن أن يأتوا بمثل القرآن.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
موضع (مَنْ) رفع ولفظها لفظ استفهام، المعنى: وأي أحد أظلم ممن منع

(1/195)


مساجد اللَّه، و (أَظْلَمُ) رفع بخبر الابتداء، وموضع أن نصب على البدل من
مساجد اللَّه، المعنى: ومن أظلم ممن منع أن يذكر في مساجد اللَّه اسمه.
وقد قيل في شرح هذه الآية غير قول: جاءَ في التفسير أن هذا يعني به
الروم، لأنهم كانوا دخلوا بيت المقدس وخربوه، وقيل يعني به مشركو
مكة لأنهم سعوا في منع المسلمين من ذكر اللَّه في المسجد الحرام.
وقال بعض أهل اللغة غير هذا. زعم أنه يعني به جميع الكفار الذين تظاهروا
على الإسلام، ومنعوا جملة المساجد، لأن من قاتل المسلمين حتى منعهم
الصلاة فقد منع جميع المساجد وكل موضِع مُتَعَبَّدٍ فيه فهو مسجد، ألا
ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً "
فالمعنى على هذا المذهب: ومن أظلم ممن خالف ملة الإسلام.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ).
أعلم اللَّه في هذه الآية أن أمر المسلمين يظهر على جميع من خالفهم
حتى لا يمكن دخول مخالف إِلى مساجدهم إلا خائفاً، وهذا كقوله عزَّ وجلَّ: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ).
قوله: (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ).
يرتفع (خِزْيٌ) من وجهتين: إِحدَاهما الابتداءُ، والأخرى الفعل الذي

(1/196)


وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)

ينوب عنه (لهم). المعنى وجب لهم خزي في الدنيا وفي الآخرة عذاب
عظيم، والخزي الذي لهم في الدنيا، أن يُقْتَلوا إن كانوا حَرْباً، ويُجْزَوا إن
كانوا ذمة، وجعل لهم عظيم العذاب لأنهم أظلم مَن ظلم لقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ).
* * *

وقوله عزْ وجل: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
يرتفعان كما وصفنا من جهتين، ومعنى (للَّهِ) أي هو خالقهما.
وقوله: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ).
(تُوَلُّوا) جزم بـ (أيْنَمَا)، والجوإبُ (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)، وعلامة الجزم في (تُوَلُّوا)
سقوط النون.
و (ثَمَّ) موضع نصب ولكن مبني على الفتح لا يجوز أن تقول ثَمًّا
زيد. وإنما بني على الفتح لالتقاءِ السَّاكنين، وثم في المكان أشارة بمنزلة هنا
زيد؛ فإذا أردت المكان القريب قلت هنا زيد، وإذا أردت المكان المتراخي
عنك قلت (ثَمَّ) زيد، وهناك زيد، فإنما منعت (ثَمَّ) الإعراب لإبهامها.
ولا أعلم أحداً شرح هذا الشرح لأن هذا غير موجود في كتبهم.
ومعنى الآية أنه قيل فيها أنه يعني به البيت الحرام، فقيل أينَما تولوا فثم
وجه الله أي فاقصدوا وجه اللَّه بِتَيَمُّمِكم القبلة، ودليل من قال هذا القول
قوله: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).
فقد قيل: إن قوماً كانوا في سفر فأدركتهم ظلمة ومطر فلم يعرفوا القبلة فقيل: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ).

(1/197)


بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)

وقال بعض أهل اللغة إنما المعنى معنى قوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ)
فالمعنى على قوله هذا: أن اللَّه معكم أينما تولوا - كأنه أينما تولوا
فثم الله (وهو معَكم) وإنَّما حكينا في هذا ما قال الناس: وليس عندنا قطع
في هذا، واللَّه عزَّ وجلَّ أعلم بحقيقته -
ولكن قوله (إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) يدل على تَوْسيعه على الناس
في شيءِ رخص لهم به.
* * *

(وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116)
قالوا) للنصارى ومشركي العرب، لأن النصارى قالت: المسيح ابنُ
اللَّه، وقال مشركو العرب الملائكة بنات اللَّه، فقال اللَّه عزَّ وجلَّ:
(بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ).
القانت في اللغة المُطِيعُ، وقال الفرَّاءُ: (كل له قانتون) هذا خصوص إنما
يعني به أهل الطاعة، والكلام يدل على خلاف ما قال، لأن قوله:
(مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ)
كل إحاطة وإنما تأويله: كل ما خلق اللَّه في
السَّمَاوَات والأرض فيه أثَرُ الصنْعَة فهو قانت للَّهِ والدليل على أنه مخلوق -
والقانت في اللغة القائم أيضاً ألا ترى أن القنوت إِنما يُسَمًى بِه من دَعا قائماً
في الصلاة قانتا، فالمعنى كل له قانت مقر بأنه خالقه، لأن أكثر من يخالف
ليس بدفع أنه مخلوق وما كان غير ذلك فأثر الصنْعَةِ بين فيه، فهو قانت
على العموم، وإِنما القانت الداعي.

وقوله: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)

(1/198)


وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)

يعني، أنشاهما على غير حِذَاءٍ ولا مِثَال، وكل من أنْشَأ ما لَم يُسْبَق إليه
قيل له أبدعت، ولهذا قيل لكل من خالف السُّنَّةَ والإجماعَ مبتدع، لأنه يأتي
في دين الإِسلام بما لم يسبقه إِليه الصحابة والتابعون.
وقوله: عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).
رفع (يكون) من جهتين: إِن شئت على العطف على يقول، وإِن شئت
الاستئناف.
المعنى فهو يكون، ومعنى الآية قد تكلم الناس فيها بغير قول:
قال بعضهم: إِنما يقول له (كُنْ فَيَكُونُ) إِنما يريد، فيحدث
كما قال الشاعر:
امْتَلأ الحوضُ وقال قَطْنِي. . . مهلاً رويداً قد ملأت بطني
والحوض لم يقل.
وقال بعض أهل اللغة - (إِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)
يقول له وإِن لم يكن حاضراً: كن، لأن ما هو معلوم عنده بمنزلة الحاضر.
وقال قائل: (إِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) له معنى من أجلها فكأنه إنما يقول
من أجل إِرادته إِياه (كُنْ) أي أحدُث فيحدث، وقال قوم: هذا يجوز أن تكون لأشياءَ معلومة أحدث فيها أشياءَ فكانت، نحو قوله:
(فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين). واللَّه أعلم.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
(لولا) معنى هلا، المعنى: هلا يكلمنا الله أو تأْتينا آية، فأعلم اللَّه
عزَّ وجلَّ أن كفرهم في التعنُّتِ بطلب الآيات على اقتراحهم كقول الذين من
قبلهم لموسى: (أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً)، وما أشبه هذا، فأعلم الله أن كفرهم متشابه، وأن قلوبهم قد تشابهت في الكفر.

(1/199)


إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)

وقوله عزَّ وجلَّ: (قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ).
المعنى فيه أن من أيقن وطلب الحق فقد آتته الآيات البينات، نحو
المسلمين ومن لم يشاق من علماءِ إليهود، لأنه لما أتاهم - صلى الله عليه وسلم - بالآيات التي يُعْجَزُ عنها من أنبائهم بما لا يُعلم إلا من وحي، ونحو انشقاق القمر وآياته التي لا تحصى عليه السلام، والقرآن الذي قيل لهم فأتوا بسورة من مثله فعجزوا عن ذلك.
ففِي هذا برهان شافٍ.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
نصب (بشيراً ونذيراً) على الحال، ومعنى بشيراً، أي مبشراً المؤمنين
بما لهم من الثواب، وينذر المخالفين بما أعد لهم من العقاب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ).
وتقرأ (ولا تَسْألُ)، ورفع القراءتين جميعاً من جهتين، إحداهما أن
يكون (ولا تسأل) - استئنافاً، كأنَّه قيل ولست تسأل عن أصحاب الجحيم، كما قال عزَّ وجلَّ: (فإِنما عَلَيْكَ البَلَاغُ وعَلَيْنَا الحِسَابُ) ويجوز أن يكون له
الرفع على الحال، فيكون المعنى: أرسلناك غير سائل عن أصحاب الجحيم.
ويجوز أيضاً " ولا تَسْألْ عن أصحاب الجحيم "
وقد قرئ به فيكون جزماً بلا.
وفيه قولان على ما توجبه اللغة: أن يكون أمَرَهُ اللَّهُ بترك المسألة، ويجوز
أن يكون النهي لفظاً، ويكون المعنى على تفخيم ما أعد لهم من العقاب.
كما يقول لك القائل الذي تَعْلَمُ أنت أنه يجب أن يكون من تسأل عنه في حال جميلة أو حال قبيحة، فتقول لا تسأل عن فلان أي قد صار إلى أكثر مما
تريد، ويقال: سالته أسأله مسألة وسؤالاً، والمصادر على فُعَال تقِلُّ في غير

(1/200)


وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)

الأصوات والأدْواءِ فأمَّا في الأصوات فنحو الدعاء والبكاء والصراخ
وأما في الأدواء فنحو: الزكام - والسعال وما أشبه ذلك.
وإِنما جاءَ في السؤال لأن السؤال لا يكون إلا بصوت.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)
قد شرحنا معنى. إليهود والنصارى. و " ترضى " يقال في مصدره
رضي، يرضى، رضاً ومرضاة، ورِضواناً ورُضواناً.
ويروي عن عاصم في كل ما في القرآن من (رضوان) الوجهان جميعاً، فأمَّا ما يرويه عنه أبو عمرو (فَرِضوانٍ) بالكسر، وما يرويه أبو بكر بن عياش: فَرُضْوان، والمصادر تأتي على فِعْلان وفُعْلان، فأمَّا فِعْلان، فقولك عرفته عِرْفاناً، وحسبته حسباناً.
وأما فُعلان كقولك: غُفرانك لا كفْرانك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ).
(تَتَّبِعَ) نصب بحتى، والخليل وسيبويه وجميع من يوثق بعلمه يقولون إن
الناصب للفعل بعد حتى (أن) إلَّا أنها لا تظهر مع حتى، ودليلهم أن حتى غير
ناصبة هو أن حتى بإجماع خافضة.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (سلام هي حتى مَطلَعِ الفجر)
فخفض مطلع بحتى، ولا نعرف في العربية أن ما يعمل في
اسم يعمل في فعل، ولا ما يكون خافضاً لاسم يكون ناصباً لفعل، فقد بانَ أن حتى لا تكون ناصبة، كما أنك إذا قلت: جاءَ زيد ليضربك فالمعنى جاءَ زيد لأن يضربك، لأن اللام خافضة، للاسم، ولا تكون ناصبة - للفعل، وكذلك ما كان زيد ليضربك، اللام خافضة، والناصب ليضربك أن المضمرة.
ولا يجوز إظهارها مع هذه اللام، وإنما لم يجز لأنها جواب لما يكون مع الفعل وهو

(1/201)


حرف واحد يقول القائل: سيضربك، وسوف يضربك، فجعل الجواب في
النفي بحرف واحد كما كان في الإيجاب بشيءٍ واحد.
ونصب ملتهم بتتئع، ومعنى ملتهم في اللغة سنتهم وطريقتهم، ومن هذا
المَلة أي الموضع الذي يختبز فيه، لأنها تؤَثر في مكانها كما يؤَثِّر في الطريق.
وكلام العرب إذا اتفق لفظه فأكثره مشتق بعضه من بعض، وآخذ بعضه برقاب بعض. .
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى).
أي الصراط الذي دعا إليه وهدى إليه هو الطريق أي طريق الحق.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ).
إِنما جمع ولم يقل هواهم، لأن جميع الفرق ممن خالف النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن ليرضيهم منه إلا أتباع هواهم. وجمع هوى على أهواءَ، كما يقال جمل وأجمال، وقتب وأقتاب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ).
الخفض في (نصير) القراءَة المجمع عليها، ولو قرئ ولا نصير بالرفع
كان جائزاً، لأن معنى من ولي مالك من اللَّه ولي ولا نصير.
ومعنى الآية أن الكفار كانوا يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدنة وُيرُونَ إنَّه إِن هادنهم وأمهلهم أسلموا، فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أَنهم لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم، فنهاه اللَّه ووعظه في الركون إِلى شيءٍ مما يدعون إِليه، ثم أعلمه اللَّه عزَّ وجل - وسائِرَ الناس - أن من كان منهم غير متعنت ولا حاسد ولا طالب

(1/202)


يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)

لرياسة تلا التوراة كما أنزلت فذكر فيها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حق فآمن به فقال تعالى:
* * *

(الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
يعني أن الذين تَلُوا التوراة على حقيقتها، أُولَئِكَ يُؤمنون بالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
وفي هذا دليل أن غيرهم جاحد لما يعلم حقيقته، لأن هؤُلاءِ كانوا من علماءِ
اليهود، وكذلك من آمن من علماءِ النصارى ممن تلا كتبهم.
و (الذين) يرفع بالابتداءِ، وخَبَر الابتداءِ (يتلونه)، وإن شئت كان خبر الابتداءِ (يتلونه وأولئك) جميعاً، فيكون للابتداءِ خبران كما تقول هذا حلو حامض).
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122)
(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ) نصب لأنه نداء مضاف، وأصل النداءِ النصب، ألا ترى.
أنك إذا قلت يا بني زيد، فقال لك قائل: ما صنعت؛ قلت ناديتُ بني زيد، فمحال أن تخبره بغير ما صنعت، وقد شرحناه قبل هذا شرحاً أبلغ من هذا، وإسرائيل لا يتصرف، وقد شرحنا شرحه في مكانه وما فيه من اللغات.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ).
موضع (أن) نصب كأنه قال اذكروا أني فضلتكم على العالمين.
والدليل من القرآن على أنهم فُضلَوا قول موسى - صلى الله عليه وسلم - (كما قال الله عزَّ وجلَّ:
(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20).

(1/203)


وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)

وتأويل تفضيلهم في هذه الآية ما أوتوا من الملك وأن فيهم أنبياءَ
وأنهم أُعطوا علم التوراة، وأن أمر عيسى ومحمد - صلى الله عليهما وسلم - لم يكونوا يحتاجون فيه إلى آية غير ما سبق عندهم من العلم به، فذكرهم اللَّه عزَّ وجلَّ ما همْ عارفون، ووعظهم فقال:
* * *

(وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
العدل الفدية، وقيل لهم: (ولا تنفعها شفاعة)، لأنهم كانوا يعتمدون على
أنهم أبناءُ أنبياءِ اللَّه، وأنهم يَشْفَعُون لهم، فأيئسَهم اللَّه عزَّ وجلَّ من ذلك.
وأعلمهم أن من لم يتبع محمداً - صلى الله عليه وسلم - فلَيْسَ يُنْجِيه منْ عذاب اللَّه شيءٌ وهو كافر.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
المعنى اذكروا إِذ اابتلى إبراهيم ربه، ومعنى (فاتمهن) وفَّى بما أمر به
فيهن، وقد اختلفوا في الكلمات: فقال قوم تفسيرها أنه أمره بخمس خلال في الرأس، وخمس خلال في البدَن، فأمَّا اللاتِي في الرأس فالفرْق وقَص
الشَارِبِ والسواكُ، والمضْمضَةُ، والاستنشاق، وأمَّا التي في البدن فالختان
وحلق العانة والاستنجاءُ وتقليم الأظافر ونتف الإبط.
فهذا مذهب قوم وعليه كثير من أهل التفسير.
وقال قوم: أن الذي ابتلاه به " ما أمره به من ذبح ولده.
وما كان من طرحه في النار، وأمر النجوم التى جرى ذكرها في القرآن في قوله عزَّ وجلَّ: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا) وما جرى بعد الكواكب من ذكر القمر والشمس، فهذا مذهب قوم.

(1/204)


وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

وجميع هذه الخلال قد ابتلِيَ بها إبراهيم، وقد وفَّى بما أُمِر به وأتى بما
يأتي به المؤْمن بل البر المصطفى المختار، ومعنى ابتلى اختبر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا).
الأم في اللغة القَصْدُ، تقول: أممْتُ كذا وكذا، إذا قصدته وكذلك
قوله: (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) أي فاقصدوا.
والِإمام الذي يْؤتم به فيفعل أهلُه وأمته كما فعل، أي يقصدون - لمَا يقصد.
(قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
فأَعلم اللَّه إبراهيم أن في ذريته الظالم، وقد قرئت (لا ينال عهدي الظالمُون) والمعنى في الرفع والنصب - واحد، لأن النَّيْلَ مشتمل على العهد.
وعلى الظالمين إلا أنه منفي عنهم، والقراءَة الجيّدة هي على نصب
الظالمين؛. لأن المصحف. هكذا فيه، وتلك القراءَة جيدة (بالغة) إلا أني
لا أقرأ بها، ولا ينبغي أن يُقْرأ بها لأنها خلاف المصحف، ولأن المعنى:
أن إبراهيم عليه السلام كأنَّه قال: واجعل الإمامة تنال ذريتي (واجعل) هذا
العهد ينال ذريتي، قال اللَّه: (لا ينال عهدي الظالمين).
فهو على هذا أقوى أيضاً.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
(مثابة) يثوبون إِليه، والمثاب والمثابة واحد، وكذلك المقام والمقامة.
قال الشاعر:

(1/205)


وإنِّي لَقَوَّامٌ مَقَاوِمَ لم يكن. . . جريرٌ ولا مَوْلَى جريرٍ يقومُها
وواحد المقاوم مقام - وقال زهير:
وفيهم مقامات حسان وجوهها. . . وأنْديَة يَنْتَابُها القولُ والفعلُ
وواحد المقامات مقامة. والأصل في مثابة مَثْوَبَة. ولكن حركة الواو
نقلت إلى التاءِ، وتبعت الواو الحركة فانقلبت ألفاً، وهذا إِعلال إتباع، تبع
مثابة باب " ثاب " وأصل ثاب ثَوَبَ، ولكن الواو قلبت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها لا اختلاف بين النحويين في ذلك.
وهذا الباب فيه صعوبة إلا أن كتابنا هذا يتضمن شرح الِإعراب
والمعاني فلا بد من استقصائها على حسب ما يعلم.
ومعنى قوله: (وَأَمْنًا): (قيل) كان من جنى جناية ثم دخل الحرم لم يقم عليه الحد، ولكن لا يبايع ولا يكلم حتى يضطر إِلى الخروج منه، فيقام عليه الحد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى)).
قرئت " واتخذوا " بالفتح والكسر: وَاتَخَذُوا، واتَّخِذوا روى أن عمر بن
الخطاب قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد وقفا على مقام إبراهيم: أليس هذا مقامَ خليل ربنا؟. " وقال بعضهم مقامَ أبينا "، أفَلا نتخذه مصلى؛ فأنزل الله عزَّ وجلَّ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) فكان الأمر. والقراءَة (واتخذوا)

(1/206)


وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

بالكسر على هذا الخبر أبين. ولكن ليس يمتنع " واتخَذُوا " لأن الناس
اتخذوا هذا، فقال: (وإِذ جعلنا البيت مثابة) (واتخذوا) فعطف بجملة
على جملة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ).
معنى (طَهِّراه امنعاه من تعليق الأصنام عليه، والطائفون هم الذين يطوفون
بالبيت، والعاكفون المقيمون به، ويقال قد عَكَف يعكُف وَيعْكِف على الشيءِ عُكُوفاً أي أقام عليه، ومن هذا قول الناس: فلان معتكف على الحَرام، أي مقيم عليه.
(والرُّكعِ السَجود) سائر من يُصلي فيه من المسلمين.
و (بيْتِيَ): الأجود فيه فتح الياءِ، وإن شئت سكَّنتها، والرُّكًع جمع راكع، مثل غاز وغُزًى، والسجود جمع ساجد، كقولك: ساجد وسجود، وشاهد وشهود.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126)
المعنى واذكروا إِذ قال إبراهيم. وأمنا: ذا أمن.
وقوله عزَّ وجل: (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ. . .)
(مَن) نَصْبٌ بدلٌ من أَهله، المعنى أرزق من آمن من أهله دون غيرهم.
لأن الله تعالى قد أعلمه أن في ذريته غيرَ مؤمن، لقوله: عزَّ وجلّ؛
(لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ).
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ).
أكثر القراءَة على فأمتِّعُه (قليلًا) ثم أضطَره، على الإِخبار، وقد

(1/207)


رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)

قرئَ أيضاً - فَأمْتِعْه، ثم اضْطَرَّه، على الدعاءِ، ولفظ الدعاءِ كلفظ الأمر
مجزوم، إِلا أنه استعظم أن يقال "أمر" فَمسْألتك مَنْ فوقَك نَحْو أعطني، وأغفر لي دعاءُ ومسْألة، ومسألتُك من دُونَك أمْرُ كقولك لغلامك افعل كذا وكذا.
والراءُ مفتوحة في قوله ثم " اضطرَّه " لسكونها وسكون الراءِ التي قبلها الأصل ثم اضطَرِرْه، ويجوز ثم أضطره ولا أعلم أحداً قرأ بها.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127)
القواعد واحدتها قاعدة وهي كالأساس والأس للبنيان، إلا أن كل قاعدة
فهي للتي فوقها، وإِسماعيلُ عطف على إِبراهيم.
وقوله: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا) المعنى يقولان (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا)، ومثله في كتاب اللَّه:
(وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) ومثله: (وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ).
(أي يقولون سلام عليكم).
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
تفسير المسلم في اللغة الذي قد استسلم لأمر اللَّه كله " وخضع له، فالمسلم
المحققُ هو الذي أظهر القبول لأمر اللَّه كله وأضمر مثل ذلك، وكذلك قوله: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا). .
المعنى: قولوا جميعاً خضعنا وأظهرنا الإسلام. وباطنهم غير ظاهِرهم
لأن هُؤلاءِ. منافقون فأظهر اللَّه عزَّ وجلَّ النبي على أسْرارِهم، فالمسلم على
ضَرْبين مظهِرٌ القبولَ ومبطن مثلَ ما يُظْهِر، فهذا يقال له مؤمن، ومسلم إنما
يظهر غير ما يبطن فهذا غير مؤمن، لأن التصديق والِإيمان هو بالإِظهار مع

(1/208)


وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)

القبول، ألا ترى أنهم إنما قيل لهم (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)، أي
أظهرتم الإيمان خشية.
وقوله " عزَّ وجلَّ: (وأرِنَا منَاسِكَنَا).
معناه عَزِفْنَا متعبداتنا، وكل متعبَّد فهو مَنْسَك ومَنْسِكِ، ومن هذا قيل
للعابد ناسك، وقيل للذبيحة المتقرب بها إلى الله تعالى النسيكة، كأنَّ
الأصل في النسك إنما هو من الذبيحة للَّهِ جلَّ وعزَّ.
وتقرأ أيضاً (وأرنا) على ضربين: بكسر الراءِ وبإسكانها والأجود الكسر.
وإنما أسكن أبو عمرو لأنه جعله بمنزلة فَخِذ وعَضُد وهذا ليس بمنزلة فخذ ولا
عضد، لأن الأصل في هذا " أرْئِنَا " فالكسرة إنما هي كسرة همزة ألقيت.
وطُرحت حركتها على الراء فالكسرة دليل الهمزة، فحذفها قبيح، وهو جائز على بعده لأن الكسر والضم إنما يحذف على جهة الاستثقال.
فاللفظ بكسرة الهمزة والكسرة التي في بناءِ الكلمة واللفظ به واحد، ولكن الاختيار ما وصفنا أولاً.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإنَهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
معنى (مَنْ) التقرير والتوبيخ، ولفظها لفظ الاستفهام وموضعها رفع
بالابتداءِ، والمعنى ما يرغب عن ملة إبراهيم إلا مَنْ سَفه نَفْسَه، والملَّةُ قد
بيناها وهي السُّنَّة والمذهب، وقد أكْثَر النحويونَ واختلفوا في تفسير (سفه
نفسه)، وكذلك أهل اللغة، فقال الأخفش: أهل التأويل يزعمون أن المعنى
(سَفَه نفسه)، وقال يونس النحوي: أراها لغة،. وذهب يونس إلى أن فَعِل
للمبالغة، - كما أن فعُل للمبالغة فذهب في هذا مذهب التأْويل، ويجوز على

(1/209)


هذا القول سَفِهْتُ زيداً بمعنى سَفهْتَ زيداً، وقال أبو عبيدة معناه أهلك نفسه، وأوْبَق نفسه، فهذا غير خارج من مذهب أهل التأويل ومذهبِ يونس.
وقال بعض النحويين: إِن نفسه منصوب على التفسير، وقال التفسير في النكرات أكثر نحو طاب زيدٌ بأمره نفسا، وقَر بِه عيْناً وزعم أن هذه المُفَسِّرات المعارف أصل الفعل لها ثم نقل إِلى الفاعل نحو وجِعَ زيدٌ رأسَه، وزعم أن أصل الفعل للرأس وما أشبهه، وأنه لا يجيز تقديم شيءٍ من هذه المنصوبات وجعل (سفه نفسه) من هذا الباب.
قال أبو إسحاق: وعندي أن معنى التمييز لا يحتمل التعريف لأن التمييز
إِنما هو واحد يدل على جنسٍ أو خلة تخلص من خلال فإذا عرفه صار مقصوداً قصده، وهذا لم يقله أحد ممن تقدم من النحويين.
وقال أبو إِسحاق: إِن (سفه نفسه) بمعنى سفُه في نَفْسه إِلا أن " في " حُذِفَتْ، كما حذفت حروف الجر في غير موضع.
قال الله عزَّ وجلَّ: (ولا جناح عليكم أنْ تسترضعوا أولادكم).
والمعنى أن تسترضعوا لأولادكم، فَحُذِفَ حرف الجرّ في غير
ظرف، ومثله قوله عزَّ وجلَّ: (ولا تعزموا عقدة النكاح)
أي على عقدة النكاح
ومثله قول الشاعر:
نُغالي اللحمَ للأضيافِ نَيْئاً. . . ونَرْخُصُهُ إذا نَضِجَ القدورُ
المعنى: نغالي باللحم، ومثله قول العرب: ضرب فلان الظهر والبطن

(1/210)


وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)

والمعنى: على الظهر والبطن. فهذا الذي استعمل من حذف حرف الجر
موجود في كتاب اللَّه، وفي إشعار العرب وألفاظها المنثورة، وهو عندي
مذهب صالح.
والقول الجَيِّد عندي في هذا أن سفه في موضع جهل، فالمعنى:
- واللَّه أعلم - إلا من جهل نفسه، أي لم يفكر فى نفسه.
كقوله عزَّ وجلَّ: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ)، فوضع جهِل.
وعدى كما عدى.
فهذا جميع ما قال الناس في هذا، وما حضرنا من القول فيه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا).
معناه اخترناه ولفظه مشتق من الصفوة.
(وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ).
فَالصالحُ في الآخرة الفائز.
* * *

وقوله: (إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)
معناه اصطفاه إِذ قال له ربه أسلم: أي في
ذلك الوقت (قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ).
* * *

وقوله: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
قوله: (بِهَا) هذه الهاءُ ترجعِ على الملة، لأن إِسلامه هو إِظهار طريقته
وسنته ويدل على قوله: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ) قوله: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ).
وإنما كسرت " إنَّ) لأن معنى وصي وأوصى: قَوْل: المعنى
قال لهم إِن اللَّه اصطفى لكم الدين، ووصى أبلغ من أوصى، لأن أوصى
جائز أن يكون قال لهم مرة واحدة، ووصَّى لا يكون إلا لمرات كثيرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

(1/211)


أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)

إن قال قائل كيف ينهاهم عن الموت، وهم إنما يمَاتُون، فإنما وقع
هذا جملى سعة الكلام، وما تكثر استعماله " العرب " نحو قولهم: " لا أريَنك
ههنا "، فلفظ النهي إِنما هو للمتَكَلِّم، وهو في الحقيقة للمُكَلَّمِ.
المعنى: لا تكونن ههنا فإن من كان ههنا - رأيته - والمعنى في الآية: ألزموا الإسلام، فإذا أدرككم الموتُ صادَفكم مُسْلمين.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
ْالمعنى: بل أكنتم شهداءَ إذ حضر يعقوب الموت، إذْ قَالَ لِبَنِيهِ "
فقولك: (إذ) الثانية، موضعها نصب كموضع الأولى، وهذا بَدَل مؤَكد.
وقوله: (قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ).
القراءَة على الجمع، وقال بعضهم: (وإله أبيك) كأنه كره أن يجعل
العم أباه، وجعل إِبراهيم بدلاً من أبيك مبيناً عنه، وبخفض إسماعيل
وإسحاق، كان المعنى إِلهك وإله أبيك وإله إسماعيل، كما تقول: رأيت غلام
زيد وعمرو أي غلامهما، ومن قال: (وَإِلَهَ آبَائِكَ) فجمع وهو المجتمع عليه، جعل إبراهيم وإسماعيل وإِسحاق بدلًا، وكان موضعهم خفضاً على البدل
المبين عن آبائك.
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلَهًا وَاحِدًا).
منصوب على ضربين: إن شئت على الحال، كأنهم قالوا نعبد: إلهك
في حال وحدانيته، وإِن شئت على البدل.
وتكون الفائدة من هذا البدل ذكر التوحيد، فيكون المعنى نعبد إِلهاً واحداً.

(1/212)


وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)

وقوله عزَّ وجلَّ: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
معنى (خَلَتْ) مضت، كما تقول لثلاث خلون من الشهر أي مضين.
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
المعنى: إنما تسألون عن أعمالكم.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
المعنى: قالت إليهود: كونوا هوداً، وقالت النصارى: كونوا نصارى.
وجزم تهتدوا على الجواب للأمر، وإنما معنى الشرط قائم في الكلمة.
المعنى إن تكونوا على هذه الملة تهتدوا، فجزم تهتدوا على الحقيقة جواب
الجزاءِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (بَلْ مِلةَ إبرَاهِيمَ حَنِيفاً).
تنصب الملة على تقدير بل نتبعُ ملة إِبراهيم ويجوز أن تنصب على
معنى: بل نكون أهل ملة إِبراهيم، وتحذف " الأهل " كما قال الله عزَّ وجلَّ: (واسْألِ الْقَرْيَةَ الًتِي كُنَّا فِيهَا) لأن القرية لا تُسْأل ولا تجيب.
ويجوز الرفع (بل ملةُ إِبراهيم حنيفاً).
والأجود والأكثر: النصب. ومجاز الرفع على معنى: قل ملتُنا ودينُنُا ملة إبراهيم، ونصب (حنيفاً) على الحال.
المعنى: بل نتبع ملة إِبراهيم في حال حنيفَتِه، ومعنى الحنيفة في اللغة الميل.
فالمعنى: أن إبراهيم حنيف إِلى دين اللَّه، دين الِإسلام.
كما قال عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) فلم يبعث نبي إِلا به.
وإن اختلفت شرائعهم، فالعقد توحيد اللَّه عزَّ وجلَّ والإيمان برسله وِإن اختلفت الشرائع،

(1/213)


فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)

إلا أنَّه لا يجوز أن تُتركَ شريعة نبي، أو يعمل بشريعة نبي قبله تخالف شريعة
نبي الأمة التي يكون فيها.
وإِنما أخذ الحنفُ من قولهم: - امراة حَنْفَاءُ ورجل أحْنَف، وهو الذي
تميل قدماه كل واحدة منهما بأصابعها إِلى أختها بأصابعها، قالت أم الأحنف
بن قيس وكانت ترقصه، وخرج سيدَ بَنِي تميم: -
والله لولا حَنَف في رجله. . . ودقة في ساقه من هُزْلِه
ما كان في فِتْيانِكم منْ مِثْله
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
(لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ)
المعنى: لا نكفر ببعض ونؤمن ببعض.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
فإِن قال قائل: فهل للإيمان مِثْلٌ هو غير الِإيمان؟
قيل له: المعنى واضح بين، وتأويله: فإِن أتَوْا بتصديق مثل تصديقكم وإِيمانكم - بالأنبياءِ، ووحَّدوا كتوحيدكم - فقد اهتدوا، أي فقد صاروا مسلمين مثلكم.
(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) أي في مشاقة وعداوة ومن هذا قول
الناس: فلان قد شق عصا المسلمين، إِنما هو قد فارق ما اجتمعوا عليه من
اتباع إِمامهم، وإِنما صار في شق - غير شق المسلمين.
وقوله جمزّ وجلَّ: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ).
هذا ضمان من اللَّه عزَّ وجلَّ في النصر لنبيه - صلى الله عليه وسلم - لأنه إِنما يكفيه إِياهم

(1/214)


صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)

بإظهار ما بعثه به على كل دين سواه - وهذا كقوله: (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) فهذا تأويله - واللَّه أعلم.
وكذا قوله: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي).
فإن قال قائل فإن من المرْسَل مَنْ قُتِل.
فإن تأويل ذلك - والله أعلم - أن اللَّه غالب هو ورسله بالحجة الواضحة، والآية البينة، ويجوز أن تكون غلبةَ الآخرة لأن الأمر هو على ما يستقر عليه في العاقبة.
وقد قيل: إِن الله لم يأمر رسولاً بحرب فاتبع ما أمره الله به في حربه إِلا غَلَب. فعلى هذا التأويل يجوز أن يكون لم يقتل رسول قط محارباً.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
يجوز أن تكون (صبغة) منصوبة على قوله: (بل نتبع ملة إبراهيم) أي
بل نتبع صبغة اللَّه.
ويجوز أن يكون نصبها على، بل نكون أهل صبغة الله.
كما قلنا في ملة إبراهيم، ويجوز أن ترفع الصبغة على إضمار هي، كأنهم
قالوا: هي صبغة اللَّه أي هي ملة إِبراهيم صبغة الله.
وقيل: إِنما ذكرت الصبغة لأنَّ قوماً من النصارى كانوا يصبغون أولادهم في ماءٍ لهم، ويقولون هذا تطهير كَمَا أن الختان تطهير لكم: فقيل لهم -: (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً)، أي التطهير الذي أمر به مبالِغٌ في النظافة.
ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - صبغة الله أي خلقة اللَّه - جلَّ وعزَّ -
الخلق، فيكون " المعنى:. أن اللَّه ابتدأ الخلق - على الِإسلام، ويكون دليل هذا القول قول الله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى).
وجاءَ في الحديث: أنهم

(1/215)


قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)

أخرجهم كالذر، ودليل هذا التأويل أيضاً قوله عزَّ وجلَّ: (فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَ) ويجوز أن يكون منه " الخبر:
" كل مولودٍ يُولَد على الفطرة حتى يكون أبواه
هما اللذان يهودانه أو ينصرانه "
وصبغت الثوب إِنما هو غيرت لونه وخلقته.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
في (أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ) لغات فأجودها: (أتحاجوننا) بنونين وإن شئت
بنون واحدة - " أتُحَاجُونَّا " على إدغام الأولى في الثانية وهذا وجه جيد، ومنهم من إِذا أدغم أشار إِلى الفتح كما قراوا: (مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ) على الإدغام والِإشارة إِلى الضم، وإِن شئت حذفت إِحدى النونين فقلت
(أتحاجونَا) فحذف لاجتماع النونين قال الشاعر:
تراه كالثغام يُعَلُّ مسكا. . . يسوءِ الغانِيات إِذَا فَليني
يريد فَلَيْنَنَي، ورأيت مذهب المازني وغيره ردُّ هذه القراءَةَ، وكذلك
ردُّوا (فبم تبشرونِ) - قال أبو إِسحاق " والأقدام على رد هذه القراءَة غلط
لأن نَافِعاً رحمه الله قرأ بها، وأخبرني إِسماعيل بن إسحاق أنَّ نافعاً رحمه اللَّه

(1/216)


أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)

لم يقرأ بحرف إلا وأقل. ما قرأ به إثنان من قراءِ المدينة، ولَه وجْه في العربية
فلا ينبغي أن يرد، ولكن " الفتح " في قوله (فبم تبشرونَ) أقوى في العربية.
ومعنى قوله: (قلْ أتُحاجُّونَنَا فِي اللَّهِ) أن الله عزَّ وجلَّ أمر المسلمين أن
يقولوا لليهود الذين ظاهروا من لا يوحد اللَّه عزَّ وجلَّ مِن النًصارى وعبدةِ
الأوْثَانِ، فأمر الله أن يحتج عليهم بأنكم تزعمون أنكم موحدون، ونحن نوحّد فلم ظَاهرْتُمْ مِن لا يوحِّدُ الله جلَّ وعزَّّ
(وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ).
ثم أعلموهم أنهم مخلصون، وإخلاصهم إِيمانهم بأن الله عزَّ وجلّ
واحد، وتصديقهم جميع رسله، فاعلموا أنهم مخلصون، دون من خالفهم.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
كَأنَّهُمْ قَالُوا لَهُم: بأيِّ الحُجتَين تَتَعَلَّقُون في أمْرِنَا؟
أبالتوحِيد فنحن موحدون، أم باتباع دين الأنبياءِ فنحن متبعون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ).
تأويله: أن النبى الذي أتانا ب (الآيات) المعجزات وأتاكم بها -
أعلمكم، وأعلمنا أن الإِسلام دين هُؤلاءِ الأنبياءِ.
والأسباط هم " " الذين من ذرية الأنبياءِ، والأسباط اثنا عشر سِبْطاً وهم ولد
يعقوب عليه السلام، ومعنى السبط في اللغة: الجماعة الذين يرجعون إلى
أب واحد، والسبط في اللغة الشجرة، فالسبط، الذين هم من شجرة واحدة.

(1/217)


سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)

وقوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ).
يعني بهم هُؤلاءِ الذين هم علماء إليهود، لأنهم قد علموا أن رسالة
النبي حق، وإِنما كفروا حسداً - كما قال الله عزَّ وجلَّ - وطلبا لدوام رياستهم وكسبهم، لأنهم كانوا - يتكسبون بإِقامتهم على دينهم فقيل
وَمَنْ أظَلَمُ مِمَن كَتَمُ أمرَ النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ولا أحدَ أظْلَم مِنْه وقوله: (وَمَا اللَّه بغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُوْنَ).
يعني: من كتمانكم ماعلمتمه من صحة أمرالنبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *

وقوله: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
المعنى: لها ثواب ما كسبت، ولكم ثواب ما كسبتم.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
فيه قولان، قيل يعني به:
كفار أهل مكة، وقيل يعني به: إليهود والسفهاءَ واحدهم سفيه، - مثل شهيد وشهداءُ، وعليم وعلماءُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا)
معنى؛ (مَا وَلَّاهُمْ): ما عدلهم عنها يعني قبلة بيت المقدس.
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان أُمِرَ بالصلاة إِلى بيت المقدس، لأن مكة وبيت الله الحرام كانت العرب آلِفةً
لِحجّهِ، فأحبَّ اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - أن يمتحن القوم بغير ما ألفوه ليظهر من يتبع
الرسول - صلى الله عليه وسلم - ممن لا يتبعه، كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)
فامتحن الله ببيت المقدس فيما روى لهذه العلة، والله أعلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
معناه حيث أمر الله أن يُصَلَّى وُيتَعَبَّدُ، فهو له، وعالم به، وهو فيه كما

(1/218)


وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)

قال: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
وكما قال: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ).
وكما قال: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)
معناهّ: طريق مستقيم كما يحبُّ الله.
* * *

وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
معنى الأمة: الجماعة أي جماعة كانت إلا أن هذه الجماعة وصفت
بأنها وسط.
وفي (أُمَّةً وَسَطًا) قولان، قال بعضهم وسطا: عدلًا، وقال بعضهم:
أخياراً، واللفظان مختلفان والمعنى واحد، لأن العدل خير والخير عدل.
وقيل في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنه من أوسط قومه جِنْساً، أي من خيارها، والعرب تصف الفَاضِل النسب بأنه: من أوسط قومه، وهذا يعرف حقيقته أهل اللغة لأن العرب تستعمل التمثيل كثيراً "
فتمثل القبيلة بالوادي والقاع وما أشبهه فخير
الوادي وسطه فيقال: هذا من وسط قومه، ومن وسط الوادي، وسَررِ الوادي وسِرَارة الوادي وسر الوادي، ومعناه كله: من خير مكان فيه، فكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -
من خير مكان في نسب العرب
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) أي خياراً
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)
(تَكُونُوا) في موضعْ نصب.
المعنى جعلناكم خياراً لأن شهداءَ، فنصب " تكونوا " " بأن.
و (شهداءَ) نصب خبر تكونوا، إِلا أن (شهداءَ)

(1/219)


لا ينون، لأنه لا يَنصرِف لأن فيه ألفَ التأنيث، وألف التأنيث يبنى معها
الاسم ولم يلحق بعد الفراغ من الاسم فلذَلك لمْ تَنصَرِفْ (شهداءَ).
فإن قال قائل: فلم جعل الجمع بألف التأنيث قيل: كما جعل التأنيث في نحو
قولك جَريب وأجْربة، وغراب وأغربة وضارب وضَرَبَة، وكَاتِب وكَتبَة.
وتأويل (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى الناسِ) فيه قولان: جاءَ في التفسير أن أممَ
الأنبياءِ تكذب في الآخرة إذا سُئِلت عمن أرسل إليها فتجْحَدُ أنبياءَها، هذا
فَيمنَ جحد في الدنيا منهم فتشهد هذه الأمة بصدق الأنبياءِ، وتشهد عليهم
بتكذيبهم، ويشهد النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه الأمة بصدقهم وإنَّما جازت هذه الشهادة، وإن لم يكونوا ليعاينوا تلك الأمم لأخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - فهذا قول.
وقال قوم (لِتَكونُوا شهَداءَ عَلَى النَّاسِ) أي محتجين على سائر من خالفكم، ويكون الرسول محتجاً عليكم ومبيناً لكم.
والقول الأول: أشبه بالتفسير وأشبه بقوله: (وَسَطاً)
لأن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يحتج عَلَى المسلمين وغيرهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ).
يعني قِبْلَة بيتِ المقدِس، أي وإن كان اتباعها لكبيرة.
المعنى إنه كبير على غير المخلصين، فأما من أخلص فليست بكبيرة عليه، كما قال: (إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ) أي فليست بكبيرة عليهم.
وهذه اللام دخلت على " إِنْ " لأن اللام
إِذا لم تدخل مع إِنْ الخفيفة كان الكلام جُحْداً فلولا " اللام " كان المعنى
" ما كانت كبيرة " فإِذا جاءَت إِن واللام فمعناه التوكيد للقصة، واللام تدخل في

(1/220)


قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)

الخبر، ونحن نشرح دخولها على " الخفيفة " في موضعها إن شاءَ اللَّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ).
هذه اللام أهي، التي يُسميها النحويون لام الجحود، وهي تنصب الفعل المستأنف.
وقد أحكمنا شرحها قبل هذا الموضوع.
ومعنى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ): أي من كان صَلَّى إلَى بيْتِ
المقدس قبل أن تُحوّل القبلة إِلى البيت الحرام بمكة فصلاتُه غير ضائعة وثوابه
قائم، وقيل: إِنَّه كان قوم قالوا: فما نَصنع بصَلاتِنَا التي كنا صليناها إلى بيت المقدس، فأنزل اللَّه عزَّ وجلَّ: (ومَا كَانَ اللَّه ليُضِيعَ إيَمَانَكُمْ)
أي تصديقكم بأمر تلك القبلة.
وقيل أيضاً: إِنَّ جماعة. من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - تُوفُّوا وهم يصلون إِلى بيت المقدس قبل نقل القبلة إلى بيت اللَّه الحرام، فسئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن صلاتهم فأنزل الله عزَّ وجلَّ:
(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ)
إِن شئت قلت لرؤوف، وإِن شئت لرووف رحيم.
فهمزت وخففت ومعنى الرأفة كمعنى الرحمة.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
المعنى: في النظر إلى السماءِ، وقيل: تقلب عينك، والمعنى واحد
لأن التقلب إنما كان لأن - النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بترك الصلاة إِلى بيت المقدس فكان ينتظر أن ينزل عليه الوحي إلى أي قبلة يُصَلِّي، وتقلب مَصْدر تَقَلَّبَ تقلُّباً، ويجوز في الكلام تِقْلَاباً، ولا يجوز في القرآن لأنه تغيير للمصْحفَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا):

(1/221)


قد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة حين أمر بأن ينتقل عن الصلاة إِلى بيت المقدس، فأمر بأن يصلي إِلى بيت اللَّه الحرام، وقيل في قوله: (ترضاها) قولان قال قوم معناه تحبها، لا أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يكن راضياً بتلك القبلة، لأن كل ما أمر الله الأنبياءَ " عليهم السلام " به فهي - راضية به - وإِنما أحبها النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنها كانت - فيما يروى - قبلة الأنبياءِ، وقيل لأنها كانت عنده ادعى
لقومه إِلى الِإيمان.
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَولِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ)
أي المسجد الحرام، فأمر أن يستقبل - وهو بالمدينة - مكة، والبيت الحرام، وأمر أن يستقبل البيت حيث كان الناس، ومعنى الشطر: النحو.
وشطر منصوب على الظرف.
قال الشاعر:
إِنّ العَسِيرَ بها داءٌ يخامرها. . . فَشَطْرَها نظر العينين محسور
أي فنحوَها، ولا اختلاف بين أهل اللغة أن الشطر النحو، وقول الناس
فلان شاطر، معناه " قد أخذ في نحو غير الاستواءِ، فلذلك قيل شاطر لعدوله
عن الاستواءِ، يقال قد شطر الرجل يشطُر شِطَارة وشَطَارة، ويقال: هؤلاءِ قوم مشاطرونا أي دورهم تتصل بدورنا -، كما تقوِل هؤلاءِ يناحوننا أي نحن نحوهم، وهم نحونا، فلذلك هم شاطرونا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ)

(1/222)


وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)

إِن قال قائل ما معنى: (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) واللَّه عزَّ وجلَّ - قد علم ما يكون قبل كونه؟
فالجواب في ذلك أن اللَّه يعلم من يتبع الرسول مِمن لا يتبعه من قبل وقوعه وذلك العلم لا تجب به مجازاة في ثواب ولا عقاب ولكن المعنى ليعلم ذلك منهم شهادة فيقع عليهم بذلك العلم اسمُ مطيعين واسمُ عاصين، فيجب ثوابهم على قدر عملهم.
ويكون معلومُ مَا في حال وقوع الفعل منهم علم شهادة - كما قال عزَّ وجلَّ: (عَالمُ الغَيْبِ والشَهَادَةِ) فعلمه به قبل وقوعه علم غيب، وعلمه به في
حال وقوعه شهادة، وكل ما علمه الله شهادة فقد كان معلوماً عنده غيباً، لأنه يعلمه قبل كونه، وهذا يبين كل ما في القرآن مثله نحو قوله تعالى:
(وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31).
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
زعم بعض. النحويين، أن " لَئِنْ " أجِيب بجواب " لوْ " لأن الماضي وَليها
كما وَليَ " لو " فأجيب بجواب " لو " ودخلت كل واحدة منها على أختها
قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51).
فجرت مجرى: " وَلَوْ أرْسَلْنَا رِيحاً " وكذلك قال الأخفش بهذا

(1/223)


القول، قال سيبويه وجميع أصحابه: إن معنى (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ).
ليظَلُّنَّ ومعنى (لَئِنْ) غير معنى " لو " في قول الجماعة، وإِن كان هؤُلاءِ قالوا
إِنَّ الجواب متفِق فإِنهم لا يدْفعون أن معنى (لئن) مايستقبل ومعنى " لو " ماض
وحقيقة معنى " لو " أنها يمتنع بها الشيء لِامتناع غيره، تقول لو أتيْتني
لأكْرمتُك، أي لم تأتني فلمْ أكرمكَ، فإِنما امتنع إكرامي لامتناع إِتيانك.
ومعنى " إِنْ " و (لئِنْ) أنه يقع الشيء فيهما، لوقوع غيره في المستقبل
تقول إِنْ تأتِنِي اكْرِمْكَ، فالإكرام يقع بوقوع الِإتيان فهذه حقيقة معناهما.
فأما التأويل فإنّ أهل الكتاب قد علموا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حق وأن صفته ونبوته في كتابهم، وهم يحققون العلم بذلك فلا تغني الآيات عند من يجد ما يعرف.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ).
لأن أهل الكتاب تظاهروا على النبي - صلى الله عليه وسلم - واليهودُ لا تتبع قبلة النصارى، ولا النَصارى تتبع قبلة إليهود، وهم مع ذلك في التظاهر على النبي متفقون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ)).
أي أنك لمنهم أن اتبعتَ أهواءَهم. وهذا الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولسائر أُمَّتِه، لأن ما خوطب به (مِنْ هذَا الجنس) فقد خوطب به الأمة والدليل على ذلك قوله عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ)
أول الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وليس معه لفظ الأمة، وآخره دليل أن الخطاب عام.

(1/224)


وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)

وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
يعني به علماءُ إليهود. و (الذين) رفع بالابتداءِ، وخبر (الذين) - (يَعْرفونَه)، وفي (يَعْرفونَه) قولان: قال بعضهم: يعرفون أن أمر القبلة وتحول النبي - صلى الله عليه وسلم - من قِبلِ بيتِ المقدس إِلى البيت الحرام حق.
كما يعرفون أبناءَهم.
وقيل معنى (يَعْرفونَه) يعرفون النبي - صلى الله عليه وسلم - وصِحة أمره.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)
أي يعلمون (أنَّهُ الحقُّ)، أي يكتمون صِفَتَهُ، ومن لا يعلم أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - وما جاءَ به
(وهم يعلمون) أنَّهُ الحقُّ.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
أَي من الشاكين والخطاب أيضاً عام أي فلا تكونوا من
الشاكين.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
يقال هذه جِهةٌ ووَجْهةٌ، ووِجْهَةٌ، وكذلك يقال ضَعَة وَوَضْعَةٌ، وَضِعةَ.
وقيل في قوله: (هُوَموليًهَا) قَوْلَان: قال بعض أهل اللغة - وهو أكثر القول - " هو " لِكُل: المعنى هو موليها وجهه، أي وكل أهل وجهة هم الذين ولوا وجوههم إِلى تلك الجهة - وقد قرئ أيضاً - هو مُوَلَّاها. وهو حسن. وقال قوم: أي اللَّه - على ما يزعمون - يولي أهل كل ملة القبلة التي يريد، وكلا القولين جائز، واللَّه أعلم.
وقوله عزَّ وجلَّ: (فاسْتَبِقُوا الخَيراتِ).

(1/225)


وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)

أي فبادروا إلى القبول من - الله عزَّ وجلَّ، ووَلُّوا وجوهكم حيث أمركم أن
تولوا.
وقَوله عزَّ وجلَّ: (أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا).
أي يرجعكم إِليه.
(إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فَتُوفَوْنَ مَا عَمِلتُمْ
وأينما تَجزم ما بعدها. لأنها إِذا وصلت ب " ما " جزمت ما بعدها
وكان الكلام شرطاً.
وكان الجواب جزماً كالشرط.
وإِن كانت استفهاماً نحو أين زيد فإِن أجبته -
أجبت بالجزم، تقول أين بيتك أزُرْك.
المعنى إِنْ أعرف بَيتَك أزرْكَ.
وزعمَ بعض النحويين أن قوله: (هّلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ) جوابه (يَغْفِرْ لَكُمْ)
وهذا خطأٌ لأنه ليست بالدلالة تَجب المغفرة إِنما تجب المغفرة
بقبولهم ما يُؤَدي إِليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ولكن (يغفر لكم ذنوبكم) جواب (تؤمنونَ باللَّه ورسوله وتجاهدون).
فإِنه أَمرٌ في لفظ خبر.
المعنى: آمنوا باللَّه ورسوله وجاهدوا يغْفِرْ لكُمْ.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
(لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ)
أي قد عرفكم اللَّه أمر الاحتجاج في القبلة مما قد بيَّنَّاه لئلا يَكون
للناس على اللَّه حجة في قوله: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا) أي هو موليها
لئلا يكون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلمُوا مِنْهُم فلا تَخْشَوْهُمْ).
قال بعضهم لكن الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم، والقول عندي أن
المعنى في هذا واضح: (المعنى لئلا يكون للناس عليكم حجة، إِلا من ظلم

(1/226)


كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)

باحتجاجه فيما قد وضح له، كما تقول: ما لك على مِنْ حُجة إِلا الظلمَ، أي إلا أن تظلمني، المعنى ما لك عليَّ من حجة ألبتَّة، ولكنك تظلمني، وما لك على حجة إِلا ظلمي. وإِنما سُميّ ظلمة هنا حجة لأن المحتج به سماه
حجة - وحجَّتُه دَاحِضَةٌ عِنْدَ اللَّهْ، -
قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ).
سميت حجة إلا أنها حجة مُبْطلَة.
ْفليست بحجة موجبة حقاً.
وهذا بيانٌ شاف إِن شاءَ اللَّه.
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) أي عرفتكم لئلا يكون عليكم
حجة (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ)، (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).
* * *

وقوله عزَّ ونجل: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
(كَمَا) تصلح أن تكون جواباً لما قبلها، فيكون: (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)
(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ).
والأجود أن تكون (كَمَا) معلقة بقوله عزَّ وجلّ
(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ).
أي فاذكروني بالشكر والإِخلاص كما أرسلنا فيكُمْ.
فإن قال قائل فكيف يكون جواب " (كَمَا أَرْسَلْنَا) (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ)، فالجواب ههنا إنما يصلح أن يكون جوابين لأن قوله، (فَاذْكُرُونِي) أمر، وقوله (أَذْكُرْكُمْ) جزاءُ اذكروني:
والمعنى إن تذكروني أَذْكُرْكُمْ. .

(1/227)