معاني القرآن
وإعرابه للزجاج يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ
إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
ومعنى الآية أنها خطاب لمشركي العرب،
فخاطبهم اللَّه عزَّ وجلَّ بما
دلهم على إِثبات رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال كما
أرسلنا فيكم محمداً - صلى الله عليه وسلم - وهو رجل
منكم أُمِّي تعلمون أنه لم يتل كتاباً قبل رسالته ولا بعدها
إلا بما أوحي إليه.
وإنكم كنتم أهل جاهلية لا تعلمون الحكمة ولا أخبار الأنبياءِ،
ولا آبائهم
ولا أقاصيصهم. فأرسل إِليكم النبي - صلى الله عليه وسلم -
فأنبأكم بأخبار الأنبياءِ، وبما كان من أخبارهم مع أممهم، لا
يدفع ما أخبر به أهل الكتاب، فكما أنعمت عليكم بإِرساله
فاذكروني - بتوحيدي، وتصديقه - صلى الله عليه وسلم - (واشكروا
لي) أذكركم برحمتي
ومغفرتي والثناءِ عليكم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلا تَكْفُرونِ).
الأكثر الذي أتى به القُرَّاءُ حذف الياءات مع النون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ (153)
(يَا أَيُّهَا) نداء مفرد مبهم و (الذين) في موضع رفع صفة لـ
(أَيُّهَا).
هذا مذهب الخَليل وسيبويه، وأما مذهب الأخفش.
فالذين صلة لأي وموضع الذين رفع بإِضمار الذكر العائد على أي
كأنَّه على
مذهب الأخفش بمنزلة قولك: يا من الذين، أي يا من هم الذين.
و" ها " لازمة لأي عوض عما حذف منها للِإضافة، وزيادة في
التنبيه.
وأي في غير النداءِ لا يكون فيها " هاء " ويحذف معها الذكر
العائد عليها، تقول أضرب أيُّهم أفضل، وأيُّهم هو أفضل - تريد
الذي هو أفضل.
وأجاز
(1/228)
وَلَا تَقُولُوا
لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ
وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
المازني أن تكون صفة أي نصباً.
فأجاز: يا أيها الرجُلَ أقبل، وهذه الِإجازة غير
معروفة في كلام العرب، ولم يجز أحد من النحويين هذا المذهب
قبله، ولا
تابعة عليه أحد بعده - فهذا مطروح مرذول لمخالفته كلام العرب
والقرآن وسائر الأخبار.
ومعنى (استعينوا بالصبر والصلاة) أي بالثبات على ما أنتم عليه.
وإن نالكم فيه مكروه في العاجل، فإِن الله مع الصابرين.
وتأويل إن اللَّه مَعَهُمْ أي يظهر دينه على سائر الأديان.
لأن من كان الله معه فهو الغالب - كما قال عزَّ وجلَّ:
(فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ).
ومعنى استعينوا بالصلاة، أي أنكم إِذا صليتم تلوتم في صلاتكم
ما
تعرفون به فضل ما أنتم عليه فكان ذلك لكم عوناً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا
تَشْعُرُونَ (154)
بإضمار مكنيهمْ، أي لا تقولوا هم أموات، فنهاهم اللَّهْ أن
يُسَمُّوا من قتل في سبيل الله ميْتاً، وأمرهم بأن يسموهم
شُهداءَ - فقال:
(بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)
فأعلمنا أن من قتل في سبيل اللَّه حي.
فإِن قال قائل: فما بالنا نرى جثة غير مُتَصرفة؟
فإِن دليل ذلك مثل ما يراه الإنسان في منامه، وجثته غير متصرفة
على
قدر ما يُرى واللَّه عزَّ وجلَّ قد توفى نفسه في نومه فقال
تعالى:
(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي
لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا).
وينتبه المنتبه من نومه فيدركه الانتباه وهو في بقية من ذلك،
فهذا دليل أن أرواح الشهداءِ جائز أن
(1/229)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ
الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ
الصَّابِرِينَ (155)
تفارق أجسامهم، وهم عند اللَّه أحياءٌ،
فالأمر فيمن قُتِلَ في سبيل الله لا
يجب أن يقال له ميت لكن يقال له شهيد وهو عند الله حى.
وقد قيل فيها قول غير هذا - وهذا القول الذي ذكرته آنفاً هو -
الذي أخْتَاره -.
قالوا معنى الأموات أي لا تقولوا هم أموات في دينهم، بل قولوا
إِنهم أحْياءٌ في دينهم.
وقال أَصحاب هذا القول: دليلنا والله أعلم - قوله: (أَوَمَنْ
كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا
يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ
لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا) فجعل المهتدي حياً وانَّه حين كان
على الضلالة كان ميتاً، والقول الأول أشبه بالدين وألْصقُ
بالتفسير.
قوله عزَّ وجلَّ: (وَلنَبْلُوَنَكُمْ بشَي منَ الخَوفِ
وَالجُوع).
(إختلف النحويون في فتح هذه الواوي) فقال سيبويه: إنها مفتوحة
لالتقاءِ
السَّاكنين، وقالّ غيره من أصحابه أنها مبنيه علي الفتح ص*
وقَدْ قال سييويه في لام
يفعل، لأنها مع ذلك قد تبنى على الفتحة، فالذين قالوا من
أصحابه إِنها مبنية
على الفتح غير خارجين من قول له. وكلا القولين جائز.: +
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ
الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ
وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
ولم يقل بأشياءَ، فإِنما جاءَ على الاختصار، والمعنى يدل على
أنَّه وشيءٍ من
الخوف وشيءٍ من الجوع وشيءٍ من نقص الأموال والأنفس، وإِنما
جعل الله هذا
(1/230)
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ
صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُهْتَدُونَ (157)
الابتلاءَ لأنه أدْعى لمن جاءَ بعد الصحابة
ومن كان في عصر - صلى الله عليه وسلم - إِلى اتباعهم لأنهم
يعلمون أنه لا يصبر على هذه الأشياءِ إِلا من قد وضح له الحق
وبانَ له البرهان، - واللَّه عزَّ وجلَّ - يعطيهم ما ينالهم من
المصائب في العاجل والآجل، وما هو أهم نفعاً - لهم فجمع بهذا
الدلالة على البصيرة وجوز الثواب للصابرين على ذلك الابتلاء
فقال عزَّ وجلَّ:
(وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ): بالصلاة عليهم من رَبِّهم والرحمة
وبأنهم المهتدون -
فقال عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ
قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
أي نحن وأموالنا للَّهِ ونحن عبيده يصنع بنا ما شاءَ، وفي ذلك
صلاح لنا وخيرٌ.
(وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ): أي نحن مصدقون بأنا نُبْعث
ونُعْطي الثًوابَ على
تصديقنا، والصبرَ علَى ما ابتَلَانا به.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ
رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
والصلاة في اللغة على ضرببن: أحدهما الركوع والسجود، والآخر
الرحْمَةُ
والثناءُ والدعاءُ - فصلاةٌ الناس على الميت إِنما معناها
الدعَاءُ والثناء على الله
صلاة، والصلاة من اللَّهْ عزَّ وجلَّ على أنبيائه وعباده
معناها الرحمة - لهم، والثناء عليهم، وصلاتنا الركوع والسجود
كما وصفنا.
والدعاءُ صلاة قال الأعشى:
عليك مثل الذي صليتِ فاغتَمِضِي. . . نَوماً فإِن لجنب المرءِ
مضطجعاً
ويروى مثل الذي صليت، فمن قال عليك مثل الذي صليت، فمعناه
(1/231)
أنه يأمرها بأن تدعو له مثل الذي دعا لها.
أي تعيد الدعاءَ له
ومن روى عليك مثل الذي صليتِ فهو رَد عليها.
كأنه قال عليك مثل دعائك، أن ينالك من
الخير مثلُ الذي أرَدْتِ لِي بهذه ودعوتِ به لي -
وقال الشاعر:
صَلى على يحيى وأشْيَاعِه. . . رَبٌّ كَرِيمٌ وَشَفِيعٌ مُطَاع
المعنى عليه الرحمة من اللَّه والثناءُ الجميل.
وأصل هذا كله عندي من اللزوم يقال صَلِيَ وأصْلَى واصْطَلى،
إذَا لَزِم. ومن هذا ما يُصْلى في النار، أىِ أنه يلزَم.
وقال: أهل اللغة في الصلاة هي من الصَّلْوينِ، وهما مُكتَنفَا
ذَنب الناقة.
وأول موصل الفخذ من الإنسان، وكأنهما في الحقيقة مُكتنف
العُصْعُص.
والأصل عندي القول الأول.
ألا ترى أن الاسم للصيام هو الِإمساك عن الطعام والشراب، وأصل
الصيام الثبوت على الإمساك عن الطعام، وكذلك الصلاة إنما هي
لزوم ما
فرض اللَّه، والصلاة من أعظم الفَرْضِ الذي أمَرَ بلزومه وأما
المصلي الذي يأتي في أثر السابق منَ الخَيْل فهو مسمى من
الصلوين لا محالة، وهما مكتنفا ذنب الفرس، فكأنة يأتي مع ذلك
المكان.
- قال الشاعر في الصيام الذي هو ثبوت على القيام:
خَيْل صيام وخيل غير صائمة. . . تحت العجاج وخيل تعلك اللجما
وقوله تعالى: (وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).
(1/232)
إِنَّ الصَّفَا
وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ
أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ
بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ
عَلِيمٌ (158)
الأكثرون في قوله: (إِنَّا لِلَّهِ) -
تفخيم الألف ولزوم الفتح - وقد قيل وهو
كثير في كلام العرب إِنَّ اللَّه بإِمالة الألف إلى الكسر،
وكان ذلك في هذا
الحرف بكثرة الاستعمال، وزعم بعض النحوين أن النون كسرت، ولم
يفهم ما قاله القوم. إنما الألف ممالة إِلى الكسرة.
وزعم أن هذا مثل قولهم:
" الحمدِ لله "، فهذا صواب أعني قولهم (إِنَّا لِلَّهِ) بالكسر
وقولهم " الحمدِ لله من أعظم الخطأ، فكيف يكون ما هو صواب
بإجماع كالخطأ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ
شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ
تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
الصفا في اللغة الحجارةُ الصلبة الصلدة التي لا تنبت شيئاً،
وهو جمع
واحدته ضفاة وصفا، مثل حصاة وحصى، والمروة والمرو: الحجارة
اللينة.
وهذان الموضعان من شَعَائِر اللَّه، أي من أعلام متعبداته
وواحدةُ الشعائر
شَعِيرة، والشعائر كلى ما كان منَ موقف أو مسْعى وذبحْ.
وإنما قِيلَ شَعَائِرَ لِكُل علَم لما تُعُبد به، لأن قَوْلهمْ
شَعَرْتُ بِهِ: عَلِمْتهُ، فلهذَا سُمِّيَتُ الأعلَام التي
هِيَ متعبّدَات شَعَائِرُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا).
وإنما كان المسلمون اجتنبوا الطواف بينهما لأن الأوثان كانت
قبل
الإسلام منصوبة بينهما، فقيل إنَّ نَصْبَ الأوثان بيتهما قبل
الإسلام لا يوجب
(1/233)
اجتنابهما، لأن البيت الحرام والمشاعر
طُهِّرت بالِإسلام من الأوثان وغيرها.
فأعملَم اللَّهُ عزَّ وجلَّ أن هذين من شعائره وأنه لا جُناح
في الطوافِ بينهما وأن من تطوع بذلك فاللَّهُ شاكر عليم.
والشكر من الله عزَّ وجلَّ المجازاة والثناءُ الجميل، والحج
والعمرة يكونان
فرضاً وتطوعاً - والطواف بالبيت مجْراهُ مجرى الصلاة إِلا أنه
يطوفُ بالبيت الحاجُّ والمعتمر، وغيرُ الحاجِّ والمعتمر، ومعنى
قولهم حَجَحْتُ في اللغة قَصَدْتُ، وكل قاصدٍ شيئاً فقد
حَجَّهُ، وكذلك كل قاصدٍ شيئا فقد اعتَمرهُ، قال الشاعر:
يحجُ مأمومةً في قَعْرِها لَجَفٌ. . . قَاست الطبيب قَذاها
كالمغاريدِ
وقال الشاعر في قوله اعتمر أي قصد:
لقد سما ابن معمر حينَ اعتمرْ. . . مغزىً بعيداً من بعيدٍ
وضَبَر
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ
بِهِمَا).
أي لا إثم عليه، والجُناح - أُخِذَ من جنح إِذَا مال وعدل عن
القصد وأصل
ذلك من جناح الطائر، و (أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا) فيه غير وجه:
يَجوز أن يطَوَّف وأن يُطَوِّف، وأن يطُوف بهما، فمن قرأ أن
يُطَوِّف بهمَا أراد أن يتطوف فأدمِغت التاء في الطاء لقرب
المخرجين، ومن قرأ أن يُطَوِّف بهما فهو من طَوَّف إِذا أكثر
التَّطواف. . .
وفي قوله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا): (وجهان).
إِن شئتَ قلت (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا) على لفظ المضِى
ومعناه الاستقبال لأن
(1/234)
إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ
لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
(161)
الكلام شرط وجزاء فلفظ الماضي فيهءيُؤول
إِلى معنى الاستقبال.
ومن قرأ يَطَّوَّعْ - فالأصل يتطوع فأدغمت التاءُ في الطاءِ.
ولست تدغم حرفاً من حرف إِلا قلبته إلى لفظ المدغم فيه.
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا
أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا
بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ
اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)
هذا إِخبار عن علماءِ إليهود الذين كَتَمُوا ما علِموه من صحة
أمر
النبي - صلى الله عليه وسلم -
قوله: (مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ)
يعني به القرآن.
ومعنى (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).
فيه غيرُ قول، أما ما يُروى عن ابن عباس فقال: (اللَّاعِنُونَ)
كل شيء في
الأرض إِلا الثقلين، ويروى عنْ ابن مسعود أنه قال
(اللَّاعِنُونَ): الاثنان إذا
تلاعنا لحقت اللعنة بمستحقها منهما، فإِن لم يستحقها واحدٌ
منهما رجعت على إليهود، وقيل (اللَّاعِنُونَ) هم المؤمنون، فكل
من آمن باللَّهِ من الإنس والجن والملائكة فهم - اللاعنون
لليهود وجميع الكفرة فهذا ما روي في قوله (اللَّاعِنُونَ)
واللَّه عزَّ وجلَّ أعلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا
وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا
التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
(الذين) في موضع نصب على الاستثناءِ، والمعنى أن من تاب بعد
هذا وتبين
منهم أن ما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم - حق، قبل الله
توبته. فأعلم الله عزَّ وجلَّ: أنه يقبل التوبة ويرحم ويغفر
الذنب الذي لا غاية بعده.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ
كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ
وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)
(1/235)
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ
وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ
كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ
وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)
يعني لم يتوبُوا قبل موتهم من كفرهم.
(أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ)، واللعنة هي إبعاد
اللَّه، وإبعاده عذابه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).
المعنى لعنة الملائكة ولعنة الناس أجمعين.
فإن قال قائل: كيف يلعنه الناس أجمعون، وأهل دينه لا يلعنونه؟
قيل لَهُ إنَّهم يلْعَنُونَه في الآخرة، كما قالَ عزَّ وجلَّ:
(ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ
وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا)
وقرأ الحسن: "أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ
[وَالْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ] أَجْمَعِينَ)
وهو جيد في العربية إلا أني أكرهه لمخالفته - المصحف،
والقراءَة، إنما ينبغي أن يلزم فيها ْالسنة، ولزوم السنة فيها
أيضاً أقوى غند أهل العربية، لأن الإجماع في القراءَة إنما يقع
على الشيء الجَيِّد البالغ ورفع الملائكة في قراءَة الحسن على
تأويل: أُولَئِكَ جزاؤُهم أن لَعنَهُم اللَّهِ والملائكةُ،
فعطف الملائكة على موضع إعراب لله في التأويل.
ويجوز على هذا عجبت من ضرب زيدٍ وعمرو ومن قيامِكَ وأخُوك:
المعنى عجبت من أنْ ضَربَ زيد وعمرو ومن أن قمتَ أنتَ وأخوك.
ومعنى (خالدين فيها) أي في اللعنة.
وخلودهم فيها خلود في العذاب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
أخبَر عزَّ وجلَّ بوحدانيته ثم أخبَرَ بالاحتجاج في الدلالة
على أنه واحد
فقال:
(1/236)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ
كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ
وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ
أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعَذَابِ (165)
(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ
الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا
أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ
دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ
بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
(164)
فهذه الآيات تدل على أنه واحد - عزَّ وجلَّ - فأما الآية في
أمر السماءِ فمن
أعظم الآية لأنهها سقف بغير عمد، والآية في الأرض عظيمة فيما
يُرى من
سهْلِها وجبلِها وبحارها. وما فيها من معادن الذهب والفضة
والرصاص والحديد اللاتي لا يمكن أحد أن ينشئ مثلها، وكذلك في
تصريف الرياح، وتصريفها أنها ِتأتي من كل أفق فتكون شمالًا مرة
وجنوباً مرة ودبُوراً مرة وصبا مرة، وتأتي لواقح للسحاب.
فهذه الأشياءُ وجميع ما بث الله في الأرض دالة على أنه واحد.
كما قال عزَّ وجلَّ: (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) - لا إله
غيره لأنه لا يأتي آت بمثل هذه الآيات (إلا واحداً).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ
وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى
الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ
لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
فأعلم أن بعد هذا البيان والبرهان؛ تُتخذ من دونه الأنداد.
وهي الأمثال، فأبان أن من الناس من يتخذ نِدُّا يعلم أنه لا
ينفع ولا يضر ولا يأتي بشيء مما ذكرنا، وعنَى بهذا مشركي
العرب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ).
أي يُسَوُّون بين هذه الأوثان وبين اللَّه - عزَّ وجلَّ - في
المحبة.
وقال بعض النحويين، يحبونهم كحبكم أنتم للَّهِ - وهذا قول ليس
بشيء - ودليل نقضه قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا
لِلَّهِ)
والمعنى أن المخلصين الذين لا يشركون مع اللَّه غيره
هم المحبُّون حقاً.
(1/237)
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ
ظَلَمُوا) - إذْ يروْنَ العذَاب - (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ
جَمِيعًا).
في هذا غير وجه، يجوز أنَّ القوةَ للَّهِ وأن اللَّه، ويجوز أن
القوةَ للَّهِ وإن
الله، ولو تَرى الذينَ ظلموا وتُفتح أن مع ترى، وتُكسَر، وكل
ذلك قد قُرئ بهِ.
قرأ الحسن (ولَوْ يَرَى الَّذِين ظَلَمُوا إذْ يَرَون العَذاب
إِنَّ القوةَ، وإِنَّ اللَّهَ).
ونحن نفسر ما يجب أن يُجْرَى عليه هذا إن شاءَ اللَّه.
من قرأ أنَّ القوةَ - فموضع أن نصب بقوله - ولو يرى الذين
ظلموا أن
القوة للَّه جميعاً، وكذلك نصب أن الثانية -
والمعنى ولو يرى الذين ظلموا شدَّةَ عذاب اللَّه وقوتَه لعلموا
مضرة
اتخاذهم الأنداد، وقد جرى ذكرُ الأنداد في قوله:
(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ
أَنْدَادًا).
ويجوز أن يكون العامل في أنَّ الجوابَ، على ما جاءَ في
التفسير: يروى في
تفسير هذا أنه لو رأى الذين كانوا يشركون في الدنيا عذاب
الآخرة لعلموا حين يرونه أن القوة للَّهِ جميعاً، ففتح أنَّ
أجود وأكثر في القراءَة، وموضعها نصب في هاتين الجهتين على ما
وصفنا، ويجوز أن تكون " إنَّ " مكسورةً مستأنفة، فيكون جواب
(ولو يرى الذين ظلموا إِذ يرون العذاب) لرأوا أمراً عظيماً لا
تبلغ صفته؛ لأن جواب لو إنما يترك لعظيم الموصوف
نحو قوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ
الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ
الْمَوْتَى)
المعنى لكان هذا القرآن أبلغ من كل ما وصف.
وتكون (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا)، على الاستئناف.
يُخْبِر بقوله: أن القوة للَّهِ جميعاً ويكون الجواب المتروك
غير معلق بإِنَّ.
ومن قرأ (ولو ترى الذين ظلموا) فإِن التاء خطاب للنبي - صلى
الله عليه وسلم - يراد به الناس
(1/238)
إِذْ تَبَرَّأَ
الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا
الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)
كما قال: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ
لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ
دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107).
فهو بمنزلة: ألمْ تَعلموا. وكذلك ولو ترى " الذين ظلموا "
بمنزلة - ولو ترون - وتكون (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ
جَمِيعًا) مستأنفة كما وصفنا.
ويكون الجواب - واللَّه أعلم لرأيتم أمراً عظيماً - كما يقول:
لو رأيت فلاناً والسياط تأخذه، فيُستغنى عن " الجواب لأن
المعنى معلوم.
ويجوز فتح أن مع ترى فيكون لرأيتم أيها المخاطبون أن القوة
للَّهِ جميعاً، أو لرأيتم أن الأنداد لم تنفع، وإنما بلغت
الغاية في الضرر لأن القوة للَّهِ جَميعاً.
و (جميعاً) منصوبة - على الحال: المعنى أن القوة - ثابتةَ
للَّهِ عزَّ وجلَّ في حال
اجتماعها.
* * *
وقوله: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ
اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ
الْأَسْبَابُ (166)
يعني به السادة والأشراف (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) وهم
الأتباع والسفلة.
(وَرَأَوُا الْعَذَابَ) - يُعْنَى به التابِعُونَ والمتبوعون،
(وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ)، أي انقطعَ وصْلُهُم الذى
كان جمعهم.
كما قال: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا
كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ)
فَبَيْنهُمْ وَصْلُهُمْ.
والذي تقطع بينهم في الآخر كان وصل بينهم في الدنيا.
وإِنما ضُمَّت الألف في قوله (اتُّبِعُوا) لضمَّةِ التاءِ،
والتاءُ ضمت علامة ما
لم يُسَمَّ فاعِلُه.
فإن قَال قائل: فما لم يسم فاعله مضموم الأول، والتاءُ
المضمومة في (اتُّبِعُوا) ثالثة، قيل إنما يضم لما لم يُسَم
فاعله الأول من
(1/239)
وَقَالَ الَّذِينَ
اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ
كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ
أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ
مِنَ النَّارِ (167)
متَحركات الفعل، فإذا كان في الأول ساكن
اجتلبت له ألف الوصل، وضم ما كان متحركاً، فكان المتحرك من
اتبعوا التاء الثانية فضمت دليلاً على ترك
الفاعل، وأيضاً فإنَ في (اتُّبِعُوا) ألفَ وصل دخلت من أجل
سكون فاءِ الفعل، لأن مثَاله من الفعل افْتعِلوا، فالأف ألف
وصل ولا يبنى عليه ضَمة الأول
في فِعْل لم يُسَمَّ فاعلُه، والفاءُ ساكنة، والسَّاكنُ لا
يُبْنى عليه فلم يبق إلا
الثالث، وهو التاءُ فضمت عَلَماً للفعل الذي لم يسم فاعله،
فكان الثالث لهذه العلة هو الأول.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ
لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا
مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ
عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
أي عودة إلى الدنيا فنتبرأ منهم، موضع "أن" رفع، المعنى لو وقع
لنا
كرورٌ لتبرأنا منهم، كما تبرأوا منا، " يقال تبرات منهم تبرؤا،
وبرِئت منه
بَرَاءَة وبرِئْت من المرض وبَرَأتُ أيضاً لغتان " أبرأ،
بَرءًا، وبريت القلم وغيره
وأبريه غير مهموز، وبرأ اللَّهُ الخلقَ بَرءًا.
وقوله عزَّ وجلََّّ: (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ
أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ).
أي كـ تَبرِّي بعضهم من بعض يريهم اللَّهُ أعمَالَهُمْ حَسَراب
عليهم لأن ما
عمله الكافر غير نافعه مع كفره، قال الله عزَّ وجلَّ:
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ
أَعْمَالَهُمْ)
وقال: (حَبطَتْ أَعْمَالُهُمْ) ومعنى (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ)
لم يجازهم على ما عَملوا من خير، وهذا كما تقول لمن عَمل عملاً
لم يعد عليه فيه نفع: لقد ضَل سَعْيُكَ.
(1/240)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ
اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا
أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا
يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ
كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ (168)
هذا على ضربين: أحدهما الإباحة لأكل جميع الأشياءِ إلا ما قد
حظر
الله عزَّ وجلَّ من الميتة وما ذَكر معهَا، فيكون (طَيِّبًا)
نعتاً للْحَلَال، ويكون
طيباً نعتاً لما يستطاب، والأجود أن يكون (طَيِّبًا) من حيث
يطيب لكم، أي لا تأكلوا وتنفقوا مما يحرم عليكم كقوله عزَّ
وجلَّ:
(وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ
الشَّيْطَانِ).
أكثر القراءَة خُطُوات بِضَم الخاءِ والطاءِ، وإن شئت أسكنْتَ
الطاءَ.
(خُطوَات) لثقل الضمة، وإن شئت خُطَواتٍ، وهي قراءَة شاذة
ولكنها جائزة في العربية قوية، وأنشد الخَليلُ وسيبويه وجميع
البصريين النحويين:
ولما رَأوْنا بَادياً رُكُبَاتُنَا. . . عَلَى مَوْطِنٍ لا
نَخْلِطُ الجدَّ بالهَزلِ
ومعنى (خطوات الشيطان) طرقه، أي لا تَسْلكوا الطريق الذي
يدعوكم إليه
الشيطان.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا
أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا
عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ
شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
معنى (ألفينا) صَادَفْنا، فعنَّفهم اللَّه وعاب عليهم تقليدهم
آباءَهم.
فقال: (أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا
وَلَا يَهْتَدُونَ).
(1/241)
إِنَّمَا حَرَّمَ
عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا
أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ
وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (173)
المعنى أيتبعون آباءَهمْ وإن كانوا جهالاً،
وهذه الواو مفتوحة لأنها واو
عطف، دخلت عليها ألف التوبيخ، وهي ألف الاستفهام فبقيت الوَاو
مفتوحة على ما يجب لها.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ: (وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ
الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
وضرب اللَّه عزَّ وجلَّ لهم هذا المثل، وشبهَهم بالغنم المنعوق
بها.
بما لا يَسْمَع مُنه إلا الصوتَ، فالمعنى مثلك يا محمد، ومثلهم
كمثل
الناعق والمنعوق به، بما لا يسمع، لأن سمعهم ما كان ينفعهم،
فكانوا في
شركهم وَعَدَمِ قبول ما يسيمعون بمنزلة من لم يسمع، والعرب
تقول لمن
يسمع ولا يعمل بما يسمع: أصم.
قال الشاعر:
أصمُّ عمَّا سَاءَه سمِيعُ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ).
وصفهم بالبَكَم وهو الخَرَس، وبالعَمَى، لأنهم في تركهم ما
يبصرون
من الهداية بمنزلة العُمْي.
وقد شرحنا هذا في أول السورة شرحاً كافياً إِن شاءَ اللَّه. .
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ
وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ
اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا
إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
النَّصبُ في (الميتةَ) وماعطف عليها هو القراءَة، ونصبه لأنه
مفعول
(1/242)
به، دخلت " ما " تمنع إنَّ من العمل،
ويليها الفعل، وقد شرحنا دخول ما
مع إن، ويجوز إِنَما حرم عليكُم الميْتَةُ، والذي أختاره أن
يكون ما تمنع أن من
العمل، ويكون المعنى ما حرم عليكم إِلا الميْتةَ، والدم ولحم
الخنزير، لأن
" إنما " تأتي إِثباتاً لما يذكر بعدها لما سواه.
قال الشاعر:
أنا الزائد الحامي الذمار وإنما. . . يدافع عن أحسابهمْ أنا أو
مثلي
المعنى ما يدافع عن أحسابهم إلا أنا أو مثلي، فالاختيار ما
عليه جماعة
القراءِ لإتباع السنة، وصحته في المعنى. .
ومعنى (مَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ).
أي ما رُفَعَ فيه الصوتُ بتسمية غير الله عليه وهذا موجود في
اللغة.
ومنه الإهلال بالحج إنما هو رفع الصوت بالتلبية.
والميتة أصلها الميِّتَةُ، فحذقت الياءُ الثانية استخفافاً
لثقل الياءين والكسرة والأجود في القراءَة الميْتَةُ
(بالتخفيف).
وكذلك في قوله: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) أصله
أو من كان ميِّتاً
بالتشديدَ، وتفسير الحذف والتخفيف فيه كتفسيره في الميتة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا
عَادٍ).
في تفسيرها ومعناها ثلاثة أوجه: قال بعضهم (فَمَنِ اضْطُرَّ
غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ)، أي فمن اضطر جائعاً غير باغ - غير
آكلها تلذذاً - ولا عاد ولا مُجَاوِزٍ ما
يدفع عن نفسه الجوع، فلا إِثم عليه.
(1/243)
إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ
وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا
يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا
يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
وقالوا: - (غَيْرَ بَاغٍ) غير مجاوز قدر
حاجته وغير مقصِر عما يقيم به
حياته، وقالوا: أيضاً: معنى غيرباغ على إمَام وغيرمتعد على
أمتِه، ومعنى
البغي في اللغة، قصد الفساد، يقال: بَغَى الجَرْحُ يبغي بغياً،
إذا ترامى إلى
فساد، هذا إجماع أهل اللغة، تقول ويقال بغى الرجل حاجته
يَبْغِيهَا بِغَاءً.
والعرب تقول خرج في بِغَاءٍ إبله قال الشاعر: "
لا يمْنعنكَ من بِغاءِ الخير تعقادُ التمائم
إنَّ الأشائم كالأيامن والأيامنُ كالأشائم
ويقال بغت المرأة تبغي بِغَاءً إذا فجرت:
قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى
الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا)
أي على الفجور ويقال: ابتَغَى لفلان أنْ يفعل كذا: أي صلح له
أن يفعل كذا وكأنه قال: طلب فعل كذا فانطلب له، أي طاوعه، ولكن
اجتزئ بقولهم - ابتغى، والبغايا في اللغة شيئان، البغايا
الفواجر، والبغايا الإماء، قال الأعشى:
والبغَايا يركضن أكْسية ألا. . . ضْرِيج والشرعَبيَّ ذَا
الأذيالِ
ونصب (غَيْرَ بَاغٍ) على الحال.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا
أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ
وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا
يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
يعني علماءَ إليهود الذين كتموا أمر النبي - صلى الله عليه
وسلم.
وقوله: (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا) أي كتموه لأنهم
أخذوا على كِتْمَانِه
الرِّشَى.
(1/244)
(أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي
بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ).
المعنى أن الذين يأكلونه يعذبون به، فكأنهم إنما أكلوا النار
وكذلك قوله
عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ
إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ
الْمَسِّ)).
أي يُصَيرُهُمْ أكْلُهُ في الآخرة إلى مثل هذه الحالة.
و (الَّذِينَ) نصب ب (إِنَّ)، وخبر (إِنَّ) جملة الكلام وهي
(أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ)،
و (أُولَئِكَ) رفع بالابتداءِ وخبر (أُولَئِكَ) (مَا
يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلاَ يُكَلمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ
القِيَامَةِ).
فيه غير قول: قال بعضهم معناه يغضب عليهم، كما تقول: فلان لا
يكلم فلاناً، تريد هو غضبان عليه.
وقال بعضهم معنى (لاَ يُكَلمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ)
لا يرسل إليهم الملائكة بالتَحيةِ، وجائز إِن يكون: (لاَ
يُكَلمُهُمْ اللَّهُ) لا يسمعهم الله كلامه، ويكون الأبرار
وأهل المنزلة الذين رضي اللَّه عنهم يسمعون كلامه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يُزَكِّيهِمْ).
أي لا يثنى عليهم، ومن لا يثني اللَّه عليه فهو معذب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
معنى (أَلِيمٌ) مؤلم ومعنى مؤلم مبالِغٌ في الوجع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا
الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا
أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
(فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ)
وفيه غير وجه: قال بعضهم أيُّ شيءٍ أصْبرهُمْ على النار.
وقال بعضهم: فما أصبرهم على عمل يؤدي إِلى النار لأن هؤلاءِ
كانوا علماءَ بأن من عاند النبي - صلى الله عليه وسلم - صار
إلى النار.
كما تقول ما أصبرَ فلاناً على الجنس أي ما أبقاه منه.
(1/245)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى
الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي
الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ
فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ
نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا
فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
المعنى الأمر ذلك، أو ذلك الأمر فذلك مرفوع بالابتداءِ.
أو بخبر الابتداءِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي
الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ)
بتباعد بعضهم في مَشَاقَّةِ بعض، لأن إليهود والنصارى هم
الَّذين اختلفوا في
الكتاب ومشاقتهم بعيدة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ
الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ
وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى
الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي
الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ
وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ
فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ
الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
المعنى ليس البر كله في الصلاة (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ
بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ
وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ). . . إلى آخر
الآية، فقيل إن هذا خصوص في الأنبياءِ وحدهم، لأن هذه الأشياءِ
التي وصفت لا يؤديها بكليتها على حق الواجب إِلا الأنبياءَ
عليهم السلام.
وجائز أن يكون لسائر الناس، لأن الله عزَّ وجلَّ قد أمر الخلق
بجميع ما في هذه الآية.
ولك في البرِّ وجهان: لك أن تَقْرَأ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ
تُوَلُّوا)، و (لَيْسَ الْبِرُّ أَنْ تُوَلُّوا) فمن نصب جعل
أنْ مع صلتها الاسم، فيكون المعنى: ليس توليتُكُم
وجُوهَكُم البرَّ كلَّه، ومن رفع البر فالمعنى: ليس البَّر
كلُه توليتكم، فيكون البر اسم ليس، وتكون (أَنْ تُوَلُّوا)
الخبر.
وقوله عؤّ وجلَّ: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).
إِذا شددتَ (لَكَنَّ) نصبت البر، وإِذا خففت رفعت البر، فقلت
ولكنِ
البِر من آمن باللَّه، وكسرتَ النونَ من التخفيف لالتقاءِ
السَّاكنين، والمعنى:
ولكن ذا البر من آمن باللَّه، ويجوز أن تكون: ولكن البر بَر
مَن آمن باللَّه، كما قال الشاعِر:
(1/246)
وكيف تواصل من أصبحت. . . خلالته كأبي مرحب
المعنى كخلالة أبي مرحب - ومثله (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ
الَّتِي كُنَّا فِيهَا).
المعنى وأسال أهل القرية.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (والمُوفونَ بعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا).
في رفعها قولان: الأجود أن يكون مرفوعاَ على المدح، لأن النعت
إذا
طال وكَثُرَ رُفِعَ بعضُه ونُصِب على المدح.
المعنى " هم الموفون بعهدهم وجائز أن يكون معطوفاً على من.
المعنى ولكن البر، وذو البر المؤمنون والموفون بعهدهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالصَّابِرِينَ).
في نصبها وجهان: أجودهما المدح كما وصفنا في النعت إذا طال.
المعنى أعني الصابرين، قال بعض النحويين، إِنه معطوف على ذوي
القربى.
كأنه قال: وآتي المالَ على حبه ذوي القربى والصابرين وهذا لا
يصلح إلا أن
يكون - والموفون رفع على المدح للمُضْمَرِينَ، لأن ما في الصلة
لا يعطف
عليه بعد المعطوف على الموصول.
ومعنى " وحينَ البَأْسِ " أي شدة الحرب، يقال قد بأس الرجل
يَبْأسُ
(1/247)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي
الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ
وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ
شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ
بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ
فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
بَأساً وبَاساً (وبُؤساً) يا هذا إذا افتقر
وقد بؤس الرجل ببؤس، فهو بَئيس إذا
اشتدت شجاعته.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ
وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ
عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ
وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ
عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
معنى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) فرض عليكم، وقوله (الْحُرُّ
بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى
بِالْأُنْثَى): يقال إنه كان لقوم من العرب طَول على آخرين
فكانوا يتزوجون فيهم بغير مهور، ويطلبون بالدم أكثر من مقداره،
فيقتلون بالعبد من عبيدهم الحر من الذين لهم عليهم طولٌ فأنزل
اللَّه عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ
فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ).
أي من ترك له القتل ورضي منه بالدِّية -
وهو قاتل متعمد للقتل عفى له بأن ترك له دمُه، ورضي منه بالدية
- قال اللَّه عز وجلَّ: (ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ
وَرَحْمَةٌ) وذكر أن من كان قبلنا لم يفرض عليهم إلا النفس -
كما قال عزَّ وجلَّ: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) أي في التوراة - فتفضل اللَّه على هذه
الأمة بالتخفيف والدية إذا
رضي بها وفيُ الدم.
ومعنى (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) على ضربين: جائز أن يكون
فعلَى صاحب الدم اتباع بالمعروف، أي المطالبة بالدية، وعلى
القاتل أداء
بإحسان - وجائز أن يكون الإتباع بالمعروف والأداء بإحسان
جميعاً على
القاتل - واللَّه أعلم.
وقوله غز وجلَّ: (فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ
عَذَابٌ أَلِيمٌ).
أي بعد أخذ الدية، ومعنى اعتدى: ظلم، فوثب فقتل قَاتِلَ
صَاحِبِه بعد أخذ الدية - (فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ) أي موجع.
(1/248)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ
إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا
الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ
حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
ورفع (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) على
معنى فعليه اتباع - ولوكان في غير
القرآن لجاز فاتباعاً بالمعروف وأداءً على معنى فليتبع أتباعاً
ويؤد أداءً.
ولكن الرفع أجود في العربية.
وهو على ما في المصحف وإجماع القراءِ فلا سبيل إلى غيره.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا
أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
(حَيَاةٌ) رفعَ على ضربين: على الابتداءِ، وعلى لكم، كأنَّه
قال وثَبَت لكم
في القصاص حياة يا أولي الألباب أي يا ذوي العقول.
ومعنى الحياة في القصاص أن الرجل - إذا علم أنَّه يُقْتَل إنْ
قتَل -
أمسك عن القتل ففي إمساكه عن القتل حياة الذي همَّ هو بقتله. -
وحياة له؛ لأنه من أجل القصاص أمسك عن القتل فَسَلِم أن يقتل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ
الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ
(180)
المعنى وكتب عليكم: إلا أن الكلام إذا طال استغنى عن العطف
بالواو، وعلم أن معناه معني الواو.
ولأن القصة الأولى قد اسْتَتَمَّت وانْقَضَى معنى الفرض فيها،
فعلم أن المعنى فرض عليكم القصاص وفرض عليكم الوصية.
ومعنى. (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ
إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ
وَالْأَقْرَبِينَ).
هذا الفَرضُ بإجماع نسخته آياتُ المَواريث في سورة النساءِ
وهذا مجمع
(1/249)
عليه، ولكن لا بد من تفسيره ليعلم كيف كان
وجه الحكمة فيه، لأن اللَّه
عزَّ وجلَّ لا يتعبد في وقت من الأوقات إِلا بما فيه الحكمة
البالغة
فمعنى (كُتِبَ عَلَيْكُمْ): فرض عليكم - إن ترك أحدكم مالا -
الوصية (للوالدين والأقربين بالمعروف)، فَرَفَعَ الوصية على
ضربين، أحدهما على ما لم يسم فاعله، كأنه قال كتب عليكم الوصية
للوالدين، أي فرض عليكم، ويجوز أن تكون رفع الوصية على
الابتداءِ، ويجوز أن تكون، للوالدين الخبر، ويكون على مذهب
الحكاية، لأن معنى كتب عليكم قيل لكم: الوصية للوالدين
والأقربين.، وإِنما أُمِرُوا بالوصية في ذلك الوقت لأنهم كانوا
ربما جاوزوا بدفع المال إلى البعَداءِ طلباً للرياءِ والسمعة.
ومعنى (حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) ليس هو إنَّه كتب عليه أن
يوصي إذا حضره
الموت، لأنه إِذا عاين الموت " يكون " في شغل عن الوصية
وغيرها.
ولكن المعنى كتب عليكم أن توصُّوا وأنتم قادرون على الوَصيةِ،
فيقول الرجل إذا حضرني الموت، أي إِذا أنا مِت فلفلان كذا، على
قدر - ما أمِرَ به - والذي أمِرَ به أن يجتهد في العدل في وقت
الإمْهَال، فيوصي بالمعروف - كما قال اللَّه عزَّ وجلَّ -
لوالديه ولأقربيه - ومعنى بالمعروف بالشيءِ الذي يعلم ذو
التمييز أنه لا جَنَفَ فيه ولا جَوْر، وقد قال قوم إِن المنسوخ
من هذا ما نسخته المواريث.
وأمر الوصية في الثلث باق، وهذا القول ليس بشي لأن إجماع
المسلمين أن
ثلث الرجل له إن شاءَ أن يوصي بشي فله، وإن ترك فجائز (فالآية)
في
(1/250)
فَمَنْ خَافَ مِنْ
مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا
إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
قوله: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ). . . الوصية
منسوخة بإجماع.
وكما وصفنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).
نصب على حق ذلك عليكم حقاً، ولوكان في غير القرآن فَرُفعَ كان
جائزاً، على معنى ذلك حق على المتقين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ
فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
يعني فمن بدل أمر الوصية بعد سماعهِ إيَّاها، فإِنما إثْمُه
على مُبَدلِهِ، ليس على الموصى، - إذا احتاط أو اجتهد فيمن
يوصى إليه - إثم، ولا على الموصى له إِثم وإِنما الإثم على
الموصي إن بدل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
أي قد سمع ما قاله الموصي، وعلم ما يفعله الموصَى إِليه، لأنه
عزَّ وجلَّ عالم الغيبِ والشَهَادَة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ
إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
أي مَيْلاً، أو إثماً، أو قَصَداً لِإثم، (فأصلح بينهم) أي عمل
بالإصلاح بين
الموصى لهم فلا إثم عليه، أي لأنه إنما يقصد إلى إصلاح بعد أن
يكون
الموصي قد جعل الوصية بغير المعروف مخالفاً لأمر اللَّه فإِذا
ردها الموصى
إليه إِلى المعروف، فقد ردها إِلى ما أمر اللَّه به.
* * *
(وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
المعنى فرض عليكم الصيام فرضاً كالذي فرض على الذين من قبلكم.
وقيل إنه قد كان فرض على النصارى صوم رمضان فَنَقَلُوه عن
وقته، وزادوا
فيه، ولا أدري كيف وجه هذا الحديث، ولا ثقة ناقليه، ولكن
الجملة أن اللَّه عزّ وجلَّ قد أعلمنا أنه فرض على من كان
قبلنا الصيام، وأنه فرض علينا كما فرضه على الذين من قبلنا.
(1/251)
أَيَّامًا
مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى
سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ
يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ
خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ
إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
وقوله عزَّ وجلَّ: (لَعَلَّكُمْ
تَتَّقُونَ).
المعنى أنَّ الصِّيَام وَصْلَة إلى التقي، لأنه من البر الذي
يكف الِإنسان
عن كثير مما تتطلع إِليه النفس من المعاصي، فلذلك قيل
(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).
و" لعل " ههنا على ترجي العباد، والله عزَّ وجلَّ من وراءِ
العلم أتتقون أم
لا. ولكن المعنى أنه ينبغي لكم بالصوم أن يقوى رجاؤكم في
التقوى.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ
مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ
أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ
مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ
تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
ْنصب (أَيَّامًا) على ضربين، أجْوَدهما أن تكون على الظرف
كأنه، كتب
عليكم الصيام في هذه الأيام - والعامل فيه الصيام كان المعنى
كتب عليكم
أن تصوموا أياماً معدودات.
وقال بعض النحويين، إنه منصوب مفعول مَا لم يسَمَّ فاعله.
نحو أعَطِيَ زيد المال.
وليس هذا بشيءٍ لأن الأيام ههنا معلقة بالصوم.
وزيد والمال مفعولان لأعطى.
فلك أن تقيم أيهما شئت مقام الفاعل.
وليس في هذا إلا نصب الأيام بالصيام.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى
سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).
أي فعليه عدة، أو فالذي ينوب عن صومه في وقت الصوم عدة من أيام
أُخَرَ.
و (أُخَرَ) في موضع جر، إِلا أنها لا تَنْصَرِف فَفتِحَ فيها
المجرور.
ومعنى (وعلى الذين يطيقونه) أي يطيقون الصوم فدية طعام، مسكين،
أي
إن أفطر وترك الصوم كان فدية تركه طعام مسكين.
وقد قرئ " طعام مساكين "
(1/252)
شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ
وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ
عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ
بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ
وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا
هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
فمعنى طعام مساكين فدية أيام يفطر فيها
وهذا بإجماع وبنص القرآن منسوخ.
نَسخَته الآية التي تَلي هذه.
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ).
رفع خير خبر الابتداءِ. المعنى صومكم خير لكم هذا كان خيراً
لهم مع
جواز الفدية، فأما ما بعد النسخ فليس بجائز أن يقال: الصوم خير
- من الفدية والإفطارِ في هذا الوقت، لأنه ما لا يجوز ألبتَّة
فلا يقع تفضيل عليه فيوهم فيه أنه جائز. وقد قيل إِن الصوم
الذي كان فرض في أول الإسلام. صوم ثلاثة أيام في كل شهر ويوم
عاشوراءِ، ولكن شهر رمضان نَسَخَ الفرضَ في ذلك الصوم كله.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى
وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ
وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ
وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ (185)
القراءَة بالرفع ويجوز النصب، وهي قراءَة ليست بالكثيرة ورفعه
على
ثلاثة أضرب: أحدها الاستئناف. المعنى الصيام الذي كتب عليكم أو
الأيام
التي كتبت عليكم شهر رمضان، ويجوز أن يكون رفعه على البدل من
الصيام
فيكون مرفوعاً على ما لم يسم فاعله، المعنى كتب عليكم شهر
رمضان.
ويجوز أن يكون رفعه على الابتداءِ ويكون الخبر (الَّذِي
أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)
والوجهان اللذان شرحناهما - " الذي " ْ فيهما رفعٌ على صفة
الشهر، ويكون الأمر بالفرض فيه (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ
الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)
ومعنى من شهد: من كان شاهداً غير مسافر فليصم، ومن كان مسافراً
أو مريضاً فقد جُعِل له أن
(1/253)
وَإِذَا سَأَلَكَ
عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ
إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي
لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
يصوم عدةَ أيامِ الْمَرض وأيامِ السفرِ من
أيام أخر، ومن نصب شهر رمضان
نصبه على وجهين، أحدهما أن يكون بدلاً من أيام معدودات.
والوجه الثاني على الأمر، كأنه قال عليكم شهر رمضان. على
الِإغْراءِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ).
أيْ أن يُيسِّر عليكم بوضعه عنكم الصوم في السفر والمرض.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلِتُكَمِّلُوا الْعِدَّةَ) (قرئ)
بالتشديد، وَلِتُكْمِلُوا
بالتخفيف.
من كمَّل يكمِّل، وأكمل يُكْمِل.
ومعنى اللام والعطف ههنا معنى لطيفْ هذا الكلام معطوف محمول
على المعنى. (المعنى) فعل اللَّه ذلك ليسهل عليكم ولتكملوا
العدة.
قال الشاعر:
بَادَت وغُيِّر آيهن مع البلي. . . إلاَّ رَواكدَ جَمْرُهُنَّ
هَباءُ
ومشججٌ أما سواءُ قذا له. . . فبدا وغيره سَارَه المَعْزَاءُ
فعطف مشججٌ على معنى بها رواكد ومشجج، لأنه إذْ قال بادت
إلاَّ رَواكدَ علم أن المعنى بَقيَتْ رواكدُ ومشججٌ.
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي
قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدُونَ (186)
المعنى إذا قال قائل: اينَ اللَّهُ. فالله عزَّ وجلَّ قريب لا
يخلو منه مكان -
كما قال: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ
رَابِعُهُمْ)
وكما قال: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ).
(1/254)
أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ
لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ
عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ
وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ
الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ
عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا
تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ
لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي
قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ
فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ
يَرْشُدُونَ (186)
وقوله عزَّ وجلَّ: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ).
إن شئت قلت إذا دعاني بياء وإن شئت بغير ياء إلا أن المصحف
يتبع
فيوقف على الحرف كما هو فيه.
ومعنى الدعاءِ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ على ثلاثة أضرب.
فضرب منها توحيده والثناءُ عليه كقولك يا الله لا إله إلا أنت
وقَولك: رَبَّنَا لَك الحَمْدُ، فقد دعوتَه بقولك ربنا، ثم
أتيت بالثناءِ والتوحيد
ومثله: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ
الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ
جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60).
أي يستكبرون عن توحيدي والثناءِ عليَّ، فهذا ضرب من الدعاءِ.
وضرب ثانٍ هو مَسْألة الله العفوَ والرحمة، وما يقرب منه
كقولك اللهم اغفر لنا.
وضرب ثالث هو مسألته من الدنيا كقولك:
اللهم ارزقني مالًا وولداً وما أشبه ذلك.
وإنما سمي هذا أجمعُ دعاء لأن الِإنسان يصدر في هذه الأشياءِ
بقوله يا اللَّه، ويا رب، ويَا حَي. فكذلك سمي دعاءُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي)
أي فليُجِيبُوني.
قال الشاعر:
وداع دعا يا من يجيب إلى الندا. . . فلم يَسْتَجِبْه عند ذاك
مجيب
أي فلم يجبه أحد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ
الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ
لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ
تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا
عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ
اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا
تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ
اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
ْ (الرفث) كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من المرأة، والمعنى
ههُنا كناية
عن الجماع: أي أحل لكم ليلة الصيام الجماع، لأنه كان في أولَ
فرض
(1/255)
الصيام الجماعُ محرماً في ليلة الصيام،
والأكل والشربُ بعد العِشَاءِ الآخرة
والنوم.
فأحل الله الجماع والأكل والشراب إِلى وقت طلوع الفجر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ
لَهُنَّ).
قد قيل فيه غير قول: قيل المعنى، فَتُعانقوهن وُيعَانِقْنكم،
وقيل كل
فريق منكم يسكن إلى صَاحِبه وُيلابسه -
كما قال عزَّ وجلَّ: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ
إِلَيْهَا).
والعرب تسمى المرأة لباساً وإِزاراً قال الشاعر:
إذا مَا الضجيع ثَنَى عِطفَه. . . تَثَنَّتْ فكانت عليه
لِبَاساً
وقال أيضاً:
ألاَ أبْلغ أبَا حَفْصٍ رَسُولا. . . فِدًى لكَ من أخِي ثِقَةٍ
إِزاري
قال أهل اللغة: فدى لك امرأتي.
قوله عزَّ وجلَّ: (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ).
قالوا معناه الولد. ويجوز أن يكون - وهو الصحيح عندي - واللَّه
أعلم -
وابتغوا ما كتب اللَّه لكم: اتبعوا القرآن فيما أبيح لكم فيه
وأمرتم به فهو
المبتغى.
(1/256)
وَلَا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى
الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ
بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
وقوله عزَّ وجلَّ: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ).
هما فجران: أحدهما يَبْدُو أسودَ معترضاً وهو الخيط الأسود،
والأبيض
يطلع ساطعاً يملأ الأفق، وَحَقِيقَتُه: حَتَّى يتبين لكم الليل
من النهار، وجعل اللَّه عزّ وجلَّ حدود الصيام طلوع الفجر
الواضح، إِلا أن اللَّه عزَّ وجلَّ بين في فرضه ما يستوي في
علمه أكثر الناس.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ
عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ).
معنى الباشرة هنا الجماع. وكان الرجل يخرج من المسجد وهو معتكف
فيجامع ثم يعودُ إِلى المسجد، والاعتكاف أن يحبس الرجل نفسه في
مَسْجِدِ
جَماعةٍ يتعبَّد فيه، فعليه إذا فعل ذلك ألا يُجَامع وألا
يتصرَّفَ إلا فيما لا بد له مِنْهُ من حاجته.
وقوله عزَّ وجلَّ: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا
تَقْرَبُوهَا).
معنى الحدود ما منع الله عزَّ وجلَّ من مخالفتها، - ومعنى
الحدَّادُ في اللغة
الحاجب، وكل من منع شيئاً فهو حدَّاد. وقولهم أحَدَّتَ المرأة
على زوجها معناه قطعتِ الزينَةَ وامتنعت منها، والحديد إِنما
سمي حديداً لأنه يمتنع به من
الأعداءِ. وحَدُّ الدَّار هُوَ مَا يمنع غيرها أن تدخل فيها.
وقوله عزَّ وجلََّّ: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ
لِلنَّاسِ)).
أي مثل البيان الذي ذكر، المعنى ما أمرهم به يبين لهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا
فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ
تَعْلَمُونَ (188)
(تأْكلوا) جزم بلا، لأن " لا " التي ينهي بها تلزم الأفعال دون
الأَسماءِ
(1/257)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ
وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا
وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ
أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
(189)
وتأثيرها فيها بالجزم، لأن الرفع يدخلها،
بوقوعها موضع الأسماءِ والنصب
يدخلها لمضارعة الناصب فيها الناصب للأسماءِ، وليس فيها بعد
هذين
الحيزين إلا الجزم. ومعنى بالباطل أي بالظلم.
(وتُدْلُوا بهَا إلى الحُكَّام): أي تعملون على ما يوجبه ظاهر
الحكم ويتركون ما
قد علمتم أنه الحق، ومعنى تُدْلوا في اللغة إِنَّما أصله من
أدْلَيْتُ الدلو إِذا أرسلتها للمليءِ، ودلوتها إذا أخرجتها،
ومعنى أدلى لي فلان بحجته أرسلها وأتى بها على صحة، فمعنى
(وتُدْلُوا بهَا إلى الحُكَّام) أي تعملون على ما يوجبه
الِإدلاءُ بالحجة، وتخونون في الأمانة.
(لِتَأكُلُوا فَريقاً مِنْ أموَالِ النَّاسِ بِالإثمِ وأنْتُم
تَعْلَمُونَ).
أي وأنتم تعلمون أن الحجة عليكم في الباطن، وإن ظهر، خلافها.
ويجوز أن يكون (موضع) " وتدلوا " جزماً ونصباً - فأما الجزم
فعلى النهي.
معطوف على ولا تأكلوا، ويجوز أن تكون نصباً على ما تنصب الواو،
وهو الذي يسميه بعض النحويين الصرف، ونصبه بإِضمار أن، المعنى
لا تجمعوا بين الأكل بالباطل والِإدلاءِ إِلى الحكام، وقد
شرحنا هذا قبل هذا المكان.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ
مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ
تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ
اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا
اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
كان النّبى - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الهلال في بدئه
دقيقاً وعن عِظَمِهِ بعد، وعن رجوعه دقيقاً كالعرجون القديم،
فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أنه جعل ذلك ليعلم
(1/258)
الناس، أوقاتهم في حَجهِمْ وَعِدَدِ
نِسائِهمْ، وجميع ما يريدون عدمه مشاهرة.
لأن هذا أسهل على الناس من حفظ عدد الأيام، ويستوى فيه الحاسب
وغير
الحاسب.
ومعنى الهلال واشتقاقه: من قولهم اسْتَهَل الصبي إِذا بكى حين
يولد أو
صاح، وكأن قولهم أهَل القوم بالحج والعمرة - أي رفعوا أصواتهم
بالتلبية، وإنما قيل له هلال لأنه حين - يرى يهل الناس بذكره
ويقال اهِلً الهلال واسْتَهَلً، ولا يقال أهَلّ، ويقال
أهلَلْنا. أي رأينا الهلال.
وأهللنا شهر كذا وكذا، إِذا دخلنا فيه.
وأخبرني من أثق به من رواة البصريين والكوفيين - جميعاً بما
أذكره في أسماءِ
الهلال وصفات الليالي التي في كل شهر:
فأول ذلك: إِنما سمي الشهر شهراً لشهرته وبيانه، وسُمِّيَ
هلالا لِمَا وصفنا
من رفع الصوت بالِإخبار عنه، وقد اختلف الناس في تسميته
هلالًا، وكم ليلةً يُسَمَّى ومَتَى يُسَمَّى قمراً، فقال بعضهم
يسمى هلالًا لليلتين من الشهر ثم لا يسمى هلالًا، إِلى أن يعود
في الشهر التالي، وقال بعضهم يسمى هلالًا ثلاث ليال ثم يسمى
قمراً، وقال بعضهم يسمى هلالًا إِلى أن يحجَّر وتحجيره أن
يستدير بخطة دقيقة.
وهو قول الأصمعي. وقال بعضهم يسمى هلالًا إِلى أن
(1/259)
يَبْهَرَ ضوؤة سوادَ الليل، فإذا غلب ضوؤة
سوادَ الليل قيل له قمر، وهذا لا
يكون إِلا في الليلة السابعة، والذي عندي وما عليه الأكثر أنه
يسمى هلالاً
ابنَ ليلتين، فإِنه في الثالثة يَبِين ضوؤه.
واسم القمر الزبرقان، واسم دارته الهالة، واسم ضوئه الفَخْت
وقد قال
بعض أهل اللغة لا أدري الْفَخْت اسم ضوئه أم ظلْمَتِه، واسم
ظلمته على
الحقيقة " (واسم ظله) السَّمَر، ولهذا قيل للمتحدثين ليلا
سمَّار، ويقال ضاءَ
القمر وأضاءَ، ويقال طلع القمر، - ولا يقال أضاءَت القمر أو
ضاءَت.
قال أبو إسحاق وحدثني من أثق به عن الرِّيَاشي عن أبي زيد،
وأخبرني
أيضاً من أثق به عن ابن الأعرابي بما أذكره في هذا الفصل: قال
أبو زيد
الأنصاري، يقال للقمر بنَ ليلةٍ: عَتَمَةَ سُخَيْلة حل أهلها
برمَيْلَةِ، وابنَ ليلتين
حديث أمَتَين كذبٌ ومَيْن ورواه ابن الأعرابي بكذب ومَيْن،
وابن ثلاث
حديث فتيات غير جد مؤتلفات.
وقيل ابن ثلاث قليل اللبَاث، وابن أربع عتمة ربَع لا جائع ولا
مرْضَع، وعن ابن الأعرابي عتمة أم الربع، وابن خمس حديث وأنس،
(1/260)
وقال أبو زيد عشا خَلِفَات قُعْسْ، وابن ست
سِمرْوَبِتْ.
وابن سَبْع دُلْجَة الضبع وابن ثمان قمر أضحيان وابن تسع عن
أبي
زيد: انقطع السشسع، وعن غيره يلتقط فيه الجزع، وابن عشر ثلث
الشهر، وعن أبي زيد وغيره محنق الفجر. -
ولم تقل العرب بعد العشر في صفته ليلة ليلة كما قالت في هده
العشر
ولكنهم جزأوا صفته أجزاء عشرة، فجعلوا لكل ثلاث ليال صفة
فقالوا ثلاث غُرَر، وبعضهم يقول غُز، وثلاث شُهْب، وثلاث بُهْر
وبَهْر، وثلاث عُشْر، وثلاث بيض، وثلاث دُرْع، ودُرُع، ومعنى
الدرَعُ سواد مُقَدَّم
(1/261)
الشاة وبياضُ مؤخرها، وإنما قيل لها دُرْع
ودُرُع لأن القمر يغيب في أولها.
فيكون أول الليل أدرع لأن أوله أسود وما بعده مضي، وثلاث
خُنْس، لأن
القمر يَنْخَنِس فيها أي يَتَأخر، وثلاث دهم، وإنما قيل لها
دهم لأنها تُظْلم حتى تَدْهَامّ، وقال بعضهم ثلاث حَنَادِس،
وثلاث فُحْم لأن القمر يتفحم
فيها، أي يطلع في آخر الليل وثلاث دَادِي، وهي أواخر الشهر
وإنما أخذت من الدأداءِ وهو ضرب من السير تسرع فيه الإبل نقل
أرجلها إلى موضع أيديها.
فالدأدأة آخر نقل القوائم، فكذلك الدأدِيُ في آخر الشهر.
وجمع هلال أهله، لأدنى العدد وأكثرِه، لأن فِعالا يجمع في أقل
العدد على أفعلة مثل مِثَال وأمْثِلَة وحِمَار وأحْمِرَةُ وإذا
جاوز أفعلة جُمِعَ على فُعْل، مثل حُمُر ومُثُل، فكرهوا في
التضعيف فعل نحو هُلُل وخُلُل، فقالوا أهِلة وأخِلة، فاقتصروا
على جمعِ أدنى العدد، كما اِقتصروا في ذوات الواو والياءِ على
ذلك، نحو كِسَاء وأكسية ورِدَاء وأرْدِية.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا
الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى)
قيل إنه كان قوم من قريش وجماعة معهم من العرب إِذا خرج الرجل
منهم في حاجة فلم يقضها ولم تتَيسر له رجع فلم يدخل من باب
بيته سنة، يفعل ذلك تَطيرا - فأعلمهم اللَّه عزَّ وجل أن ذلك
غَيْرُ بِر، أي الإقامة على الوفاءِ - بهذه السَّنة ليس ببر،
وقال الأكثر من أهل التفسير: إنهم الحُمْسُ، وهم قوم من قريش،
وبنُو عامر بن صعصعة وثَقيف وخزاعة، كانوا إِذا أحرموا لا
يأقطُون الأقط، ولا ينْفُونَ الوَبَرَ ولا يسْلون السَّمْنَ،
وإِذا خَرجَ أحدهم من الإحرام
(1/262)
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ
ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ
وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ
عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ
فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ
الْكَافِرِينَ (191)
لم يدخل من باب بيته، وإنما سُمُّوا
الحُمْسَ لأنهم تَحمَّسوا في دينهم أي تشددوا.
وقال أهل اللغة الحماسة الشدة في الغضب والشدة في القتال،
والحماسة على
الحقيقة الشدة في كل شيءٍ.
وقال العجاج:
وكمْ قطَعنا من قِفَافٍ حُمْس
أي شِدَاد - فأعلمهم اللَّه عزَّ وجلَّ أن تشددهم في هذا
الإحرامْ ليس بِبر.
وأعلمهم أن البر التقي فقال: (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ
اتَّقَى).
المعنى ولكن البر برُّ من اتقى مخالفةَ أمر اللَّه عزَّ وجلَّ،
فقال:
(وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا) فأمرهم اللَّه بترك
سنة الجاهلية في هذه
الحماسة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ
يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ
الْمُعْتَدِينَ (190)
قالوا في تفسيره قاتلوا أهلَ مكة، وقال قوم هذا أول فرض الجهاد
ثم
نسخه (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا
يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (ولا تَعْتَدُوا).
أي لا تظلموا، والاعتداء: مجاوزة الحق، وقيل في تفسيره قولان:
قيل لا
تعتدوا: لا تقاتلوا غير من أمرتم بقتاله -، ولا تقتلوا غيرهم،
وقيل لا تعتدوا: أي لا تجاوزوا إِلى قتل النساءِ والأطفال.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ
وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ
أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ
قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ
(191)
أي حيث وجدتموهم، يقال ثَقِفْتهُ أثقفه ثَقْفاً وَثَقَافَة،
ويقال: رجل ثَقِفٌ
لَقِفٌ.
ومعنى الآية: لا تَمْتنِعوا من قتلهم في الحرم وغيره.
(1/263)
الشَّهْرُ الْحَرَامُ
بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ
مِنَ الْقَتْلِ).
أي فكفرهم في هذه الأمكنة أشد من القتل.
وقَوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ
الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ).
كانوا قد نُهوا عن ابتدائهم بقتل أو قتال حتى يبتدي المشركون
بذلك.
وتقرأ: (ولا تَقْتُلوهم عند المسجد الحرام حتى يَقْتُلوكم فيه)
أي لا تبدأوهم بقتل حتى يبدأوكم به، وجائز ولا تقتلوهم وإن وقع
القتل ببعض دون بعض، لأن اللغة يجوز فيها قتَلْتُ القومَ
وإنَّما قُتِلَ بعضُهم إذا كان في الكلام دليل على إرادة
المتكلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ
فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا
عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
هذا أمر من اللَّه عزَّ وجلَّ أن يقاتَل كل كافر لأن المعنى -
ههنا في الفتنة
والكفر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ
الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ
الْمُتَّقِينَ (194)
(الشَّهْرُ) رفع بالابتداءِ وخبره (بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ)،
ومعناه قتال الشهر الحرام.
ويروى أن المشركين سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن
الشهر الحرام هل فيه قتال:. فأنزل الله عز وجلَّ أن القتل فيه
كبير، أي عظيم في الإثم، وإنما سألوا ليَغُرًّوا المسلمين، فإن
علموا أنهم لم يؤمروا بقَتلهم قاتلوهم، فأعلمهم الله عزَّ
وجلَّ أن القتال فيه محرم إلا أن يبتدئ المُشْرِكُونَ
بالقِتَال فيه فيقاتلهم المسلمون:
فالمعنى في قوله: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ) أي قِتَالَ الشهر
الحرام، أي في (الشهر الحرام، بالشهر الحرام).
وأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن هذه الحرمات قصاص، أي لا يجوز
للمسلمين
إلا قصاصاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمن اعْتَدى عَليْكُمْ).
(1/264)
وَأَنْفِقُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ (195)
أي من ظلم فقاتل فقد اعتدى، (فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)، وسُمًيَ الثاني
اعتداءً لأنه مجازاة اعتداء فسُمًيَ بِمِثل اسمه، لأن صورة
الفعلين واحدة. وإن كان أحدهما طاعة والآخر معصية، والعرب
تقُول ظلمني فلان فظلمته أي جازيته بظلمه، وجهل عليَّ فجهلت
عليه أي جازيته
بجهله.
قال الشاعر:
ألا لا يجهلنَّ أحد علينا. . . فنَجهل فوق جهل الجاهلينا
أي فنكافئ على الجهل بأكثر من مقداره.
وقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ)
وقال: (فَيسْخرون منهم سَخر اللَّهُ مِنْهُمْ).
جعل اسم مجازاتهم مكراً كما مكروا، وجعل اسم مجازاتهم على
سخريتهم سُخرياً، فكذلك: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ
فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ).
* * *
ْوقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا
تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
أيْ في الجهاد في سبيل اللَّه، وكل ما أمر اللَّه به من الخير
فهو من سبيل
الله، أي من الطريق إلى اللَّه عزَّ وجلَّ.
لأن السبيل في اللغة الطريق، وإنما استعمل في الجهاد أكثر لأنه
السبيل الذي يقاتل فيه على عقد الدين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (ولا تُلْقُوا بأيدِيكُم إلى التهْلُكَةِ).
أصل بأيديْكُمْ (بأيدِيكم) بكسر الياءِ. ولكن الكسرة لا تثبت
في الياءِ (إذا
كان ما قبلها مكسوراً) لثقل الكسرة في الياءِ.
(1/265)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ
الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ
أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ
أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ
فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ
كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا
تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلَى التَّهْلُكَةِ) معناه إلى الهلاك،
يقال هلك الرجل يهلكُ
هَلاكاً وهُلْكاً وتَهْلُكَةً وتَهُلِكَةً.
وتهْلُكَة اسم. ومعناه إن لم تنفقوا في سبيل الله هَلَكتم، أي
عصيتم الله فهلكتم، وجائز أن يكون هلكتم بتقوية عدوكم
عليكم واللَّه أعلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ).
أي أنفقوا في سبيل الله فمن أنفق في سبيل اللَّه فَمُحْسِن.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ
لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ
وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ
مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى
مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ
نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ
إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ
يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ
إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ
لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ (196)
يجوز في العمرة النصب والرفع: والمعنى في النصْب أتموهما.
والمعنى في الرفع وأتموا الحج، والعمرةُ للهِ، أي هي مما
تَتَقرَّبون به إلى اللَّه " عزَّ وجلَّ وليس بفَرْض.
وقيل أيضاً في قوله عزَّ وجلَّ: (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ). غير قول:
يُروى عن علي وابنِ مسعود - رحمة الله عليهما - أنهما قالا:
إتمامهمَا أن
تحرم من دُويرة أهلك، ويروى عن غيرهما إنَّه قال إِتمامُهما أن
تكون النفقةُ
حلالاً. وينتهي عما نهى الله عنه.
وقال بعضهم إِن الحج والعمرةَ لهما مواقف
ومشاعر، كالطواف والموقِفُ بعرفة وغير ذلك، فإتمامهما تأدية كل
ما فيهما، وهذا بين، ومعنى اعتمر في اللغة قيل فيه قولان.
قال بعضهم اعتمر قصد.
قَال الشاعر:
لَقدْ سما ابن معمر حين اعتمر. . . مغزى بعيداً من بعيد وضَبر
(1/266)
المعنى حين قصد مغزى بعيداً، وقال بعضهم
معنى اعتمر: زار من
الزيارة، ومعنى العُمْرةِ في العَمل الطوافُ بالبَيْتِ والسعيُ
بين الصفا والمروة
فقط، والعمرة للِإنسان في كل السنة، والحج وقته وقت واحد من
السنة، ومعنى اعتَمر عِنْدي في قصد البيت. أنه إِنما خص بهذا -
أعني بذكر اعتمر - لأنه قصد العمل في وضع عامر لهذا قيل معتمر:
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ
مِنَ الْهَدْيِ).
الرواية عند أهل اللغة أنه يقال للرجل الذي يمنعه الخوف أو
المرض من
التصرف قد احصر فهو مُحْصَر - ويقال للرجل الذي حُبِسَ قد
حُصِرَ فهو
مَحْصُور.
وقال الفراءُ: لو قيل للذي حُبِسَ أُحْصِرَ لجاز، كأنه يجعل
حابسه بمنزلة
المرض والخوف الذي، منعه من التصرف، وألحق في هذا ما عليه أهل
اللغة من أنه يقال للذي يمنعه الخوفُ والمرضُ أُحْصِرَ
وللمَحبُوس حُصِر، وإِنما كان ذلك هو الحق لأن الرجل إذا امتنع
من التصرفَ فقد حبس نفسه، فكأن المَرض أحبسه أي جعله يحبس
نفسه، وقوله حصرت فلاناً إنما هو حبسته، لا أنه حبس نفسه، ولا
يجوز فيه أحصر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ).
موضع " مَا " رفْع المعنى فواجب عليه ما اسْتَيسَر من الهَديِ،
وقد قيل في
الهدى: الهَدِي. والهَدِي جمْع هَديًةٍ. وهَدْي، كقولهم في
حَذْية السَرجِ حَذِيَّة
وحَذْيٌ. وقال بعضهم ما استيسر ما تيسر من الإبل والبقر.
وقال بعضهم بعير أو بقرة أو شاة وهذا هو الأجود.
(وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى
يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ).
(1/267)
قالوا في مَحِلهِ من كان حاجا محله يوم
النحر، ولمن كان معتمراً يوم
بدخل مكة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ
أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ).
- أي فعليه فدية، ولو نصب جاز في اللغة على إضمار فليعط فدية
أو
فليأت بفدية، وإِنما عليه الفدية إذا حلق رأسه وحل من إِحرامه
وقوله
(أَوْ نُسُكٍ) أي أو نَسيكة يذبحها، والنسِيكة الذبيحة. .
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ
بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ
الْهَدْيِ).
أي فعليه ما استيسر من الهدي، وموضع (ما) رفع ويجوز أن يكون
نصباً
على إضمار فليهد ما استيسر من الهدي.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ).
معناه فعليه صيام، والنصب، جائز على فليصم هذا الصيام، ولكن
القراءَة لا تجوز بما لم يقرأ به.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)
قيل فيها غير قول: قال بعضهم: (كَامِلَةٌ) أي تكمل الثواب.
وقال بعضهم (كَامِلَةٌ) في البدل من الهدي.
والذي في هذا - واللَّه أعلم - أنه لما قيل (فصيام ثلاثة أيام
في الحج
وسبعة إذا رجعتم)، جاز أن يَتَوهم المتوهمُ أن الفرض ثلاثة
أيام في الحج أو
سبعة في الرجوع - فأَعلم اللَّه عزَّ وجلَّ - أن العشرة مفترضة
كلها، فالمعنى
(1/268)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ
وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا
مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ
الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ
(197)
المفروض عليكم صوم عشرة كاملة على ما ذكر
من تفرقها في الحج والرجوع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ
حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ).
أي هذا الفرض على من لم يكن من أهله بمكة
و (حاضري المسجد الحرام) أصله حاضرين المسجدَ الحرام فسقطت
النون للإضافة وسقطت الياءُ في الوصل لسكونها وسكون اللام في
المسجد، وأما الوقف فتقول فيه متى اضطررت إلى أن تقف (حاضري)
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ
فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا
جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ
اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى
وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
قال أكثر الناس: إن أشهر الحج شوالُ وذُو القَعدة وعشر منْ ذي
الحجًة.
(فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ).
وقال بعضهم: لو كانت الشهور التي هي أشهر الحج شوالاً، وذا
القعدة لما جاز للذي منزله بينه وبين مكة مسافة أكثر من هذه
الأشهر أن يفرض على نفسه الحج.
وهذا حقيقته عندي أنه لا ينبغي للإنسان أن يبتدئ بعمل من أعمال
الحج قبل هذا الوقت نحو الإحرام، لأنه إذا ابتدأ قبل هذا الوقت
أضر بنفسه - فأمر الله عزَّ وجل - أن يكون أقصى الأوقات التي
ينبغي للإنسان ألا يتقدمها في عقد فرض الحج على نفسه شوالًا،
وقال بعض أهل اللغة: معنى الحج إنما هو في السنة في وقت بعينه،
وإنما هو في الأيام التي يأخذ الإنسان فيها في عمل الحج
لأن العمرة له - في طول السنة، فينبغي له في ذلك الوقت ألا
يَرْفُث ولا يفْسُقَ.
وتأويل (فلا رفَثَ ولا فُسْوقَ)، لا جماعَ ولا كلمةً من أسباب
الجماع قال
الراجز:
عن اللَّغَا وَرَفَث التَكَلمِ
(1/269)
والرفث كلمة جامعة لما يريده الرجل من
أهله.
وأمَّا فَلا فُسُوقَ فإذا نُهيَ عن الجِماع كُلَّهِ فالفسوق
داخل فيه - ولكن المعنى - واللَّه أعلم - فلا فسوق أَي لا يخرج
عن شيء من أمر الحج -
وقالوا في قوله (ولا جدالَ في الحج) قولين:
قالوا: (لا جدَالَ في الحَجِّ) - لا شك في الحج، وقالوا لا
ينبغي للرجل أن يجادل أخاه فيخرجه الجدال إِلى ما لا ينبغي
تعظيماً لأمر الحج، وكلٌّ صَوابٌ، ويجوز فلا رفثٌ ولا فسوق ولا
جدالٌ في الحج.
وبعضهم يقرأ - وهو أبو عمرو - (فلا رَفَثٌ ولاَ فُسُوقٌ ولا
جِدَالٌ في الحج). وكلٌّ صَواب.
وقد شرحنا (أن) لا تنصب النكرات بغَير تنوين وبيَّنَّا حقيقةَ
نصبها وزَعم سيبويه والخليلُ أنه يجوز أن تُرفَع النًكرات
بتَنْوينِ
وأن قول العجاج
تالله لولا أن يحشَّن الطُّبَّخُ. . . بَي الجَحيمَ حينَ
لامُسْتَصرخُ
يجب أن يكون رفع مستصرخ بلا، وأن قوله.
مَن صَدَّ عن نِيرانِها. . . فأنا ابن قيس لاَ بَراحُ
(1/270)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا
أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ
الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ
كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
وحقيقة ما ارتفَعَ بعدها عند بعض أصحابه
على الابتداءِ لأنه إذا لم تنصب
فَإنَّما يُجريَ ما بعدها كما يُجرى ما بعد هَل، أي لا تَعْمل
فيه شيئاً، فيجوز أن يكون لا رفث على ما قال سيبويه ويجوز أن
يكون على الابتداءِ كما وصفنا، ويكون في الحج هو خبر لهذه
المرفوعات، ويجوز إِذا نصبت ما قبل المرفوع بغير تنوين وأتيت
بما بعده مرفوعاً أن يكون عطفاً على الموضع، ويجوز أن يكون
رفعه على ما وصفنا، فأما العطف على الموضع إِذا قلت لا رجل
وغلام في الدار فكأنك قلت ما رجل ولا غلام في الدار.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ
التَّقْوَى).
يروى أن قوماً كانوا يخرجون في حجهم يَتَأكَّلونَ الناس،
يخرجون بغير
زاد، فأمروا بأن يتزودوا، وأعلموا مع ذلك أن خير ما تزود به
تقوى اللَّه
عزَّ وجلَّ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ).
(الألباب) واحدها لب، وهي العقول (أُولِي) نصب لأنه نداء مضاف.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا
فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ
وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ
لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
قيل إنهم كانوا يزعمون أنه ليس لِحمَّال ولا أجير ولا تَاجر حج
فأعلمهم
اللَّه عزَّ وجلَّ. أن ذلك مباح، واف لا جناح فيه، أي لا إِثم
فيه، وجناح اسم ليس، والخبر عليكم، وموضع أنْ نصب على تقدير
ليس عليكم جناح في أن تبتغوا فلما أسقطت " في " عمل فيها معنى
جناح.
المعنى لستم تأثمون أن تبتغوا، أي في أن تبتغوا.
(1/271)
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِذَا أَفَضْتُمْ
مِنْ عَرَفَاتٍ).
قد دل بهذا اللفظ أن الوقوف بها واجب لأن الِإفاضة لا تكون إلا
بعد
وقوف، ومعنى (أفضتم)، دَفعتم بكثرة، ويقال أفاض القوم في
الحديث إذا اندفعوا فيه وأكثروا التصرف.
وأفاض الرجل إِناءَه إِذا صبه وأفاضَ البعيرُ بجرته إذا
رمى بها متَفرقَةً كثيرة.
قال الراعي:
وأفضْن بعد كظُومُهن بجرة. . . من ذي الأباطح إذ رعْين حقيلا
وأفاض الرجل بالقداح إذا ضرب بها، لأنها تقع منبعثة متفرقة
قال أبو ذؤلب:
وكأنهنَّ رِبابَة وكأنَّه. . . يَسِر يَفِيض على القِداح ويصدع
وكل ما في اللغة من باب الإفاضة فليس يكون إِلا من تَفْرقةٍ
اوكثرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (مِنْ عَرَفَاتٍ).
القراءَة والوجه الكسر والتَنْوينُ، وعرفات اسم لمكان واحد
ولفظه لفظ
الجمع، والوجه فيه الصرف عند جميع النحوين لأنه بمنزلة الزيدين
يستوي نصبه وجره، وليس بمنزلة هاءِ التأنيث -، وقد يجوز منعه
من الصرف إذا كان اسماً لواحد، إِلا أنه لا يكون إلا مكسوراً
وإن أسقطت التنوين.
قال امرؤ القيس:
(1/272)
فَإِذَا قَضَيْتُمْ
مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ
أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ
(200)
تنورثها من أذرعاتَ وأهلُها. . . بيثرب
أدنى دارها نظر عال
فهذا أكثر الرواية، وقد أنشد بالكسر بغير تنوين، وأما الفتح
فخطأ لأن
نصب الجمع وفتحه كسر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ
الْحَرَامِ).
هو مزدلفة، وهي جمع، يسمى بهما جميعاً المشعر المتعبد
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ).
موضع الكاف نصب، والمعنى واذكروه ذكراً مثل هدايته إياكم أي
يكون
جزاء لهدايته إياكُم، واذكروه بتوحيده، والثناءِ عليه والشكر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ
الضَّالِّينَ).
معنى (من قبله) أي من قبل هدايته، ومعنى كنتم من قبله (لمن
(الضالين) هذا من التوكيد للأمر، كأنه قيل وما كنتم من قبله
إلا ضالين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ
النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ (199)
قيل كانت الحُمْسُ من قريش وغيرها (وقد بيَّنَّا الحمس فيما
تقدم)
لا تفيض مع الناس في عرفة - تتمسك بسنتها في الجاهلية، وتفعل
ذلك افتخاراً على الناس وتعالياً عليهم، فأمرهم الله عزَّ
وجلَّ أن يساووا الناس في الفرض، وأن يقفوا مواقفهم وألا
يفيضوا من حيث أفاضوا.
وقله عزَّ وجلَّ: (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ).
أي سلوه أن يغفرَ لكم من مخالفتكم الناسَ في الِإفاضة والموقف.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ
فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ
ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي
الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)
(1/273)
وَمِنْهُمْ مَنْ
يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي
الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
أي متعبداتكم التي أمرتم بها في الحج.
(فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ).
وكانت العرب إذا قضت مناسكها، وقفت بَيْن المسْجد بمنى وبين
الجبل
فتعدد فضائل آبائها وتذكر محاسنَ أيامها.
فأمرهم اللَّه أن يجعبوا ذلك الذكر له.
وأن يزيدوا على ذلك الذكر فيذكروا اللَّه بتوحيده وتعديد نعمه،
لأنه إِنْ كانت لآبائهم نعم فهي من اللَّه عزَّ وجلَّ، وهو
المشكور عليها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا).
(أَشَدَّ) في موضع خفض ولكنه لا يتصرف لأنه على مثال أفعل، وهو
صفته، وِإن شئت كان نصباً على واذكروه أشد ذكراً.
و (ذِكْرًا) منصوب على التميز.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا).
(آتنا) وقف لأنه دعاء، ومعناه أعطنا في الدنيا، وهُؤلاءِ مشركو
العرب
كانوا يسألون التوسعة عليهم في الدنيا ولا يسألون حظا من
الآخرة لأنهم كانوا غير مؤمنين بالآخرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ).
يعني هُؤلاءِ، والخلاق النصيب الوافر من الخير.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا
فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ (201)
هؤُلاءِ المؤمنون يسْألون الحظ في الدنيا والآخرة.
والأصل في " قنا " اوْ قِينا -
ولكن الواو سقطت كما سقطت من يَقِي، لأن الأصل " يَوْقي "
فسقطت الواو
(1/274)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ
فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ
فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ
لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
لوقوعها بين ياء وكسرة، وسقطت ألف الوصل
للاستغناء عنها لأنها اجتلبت
لسكون الواو، فإذَا أسقطت الواو فلا حاجة بالمتكلم إليها،
وسقطت الياءُ
للوقف - وللجزم في قول الكوفيين - والمعنى أجعلنا مُوقَيْنَ
مِن عذاب النار.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا
وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
أي دعاؤهم مستجاب لأن كسبهم ههنا الذي ذكر هو الدعاءُ
وقد ضمن اللَّه الِإجابة لدعاء من دعاه إِذا كان مؤمناً، لأنه
قد أعلمنا أنه يضل أعمال الكافرين، ويحبطها، ودعاؤُهم من
أعمالهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّهُ سَرِيعُ الحِسَابِ).
المعنى أنه قد علم ما للمحاسَب وما عليه قَبْل توقيفه على
حسابه، فالفائدة
في الحساب علم حقيقته - وقد قيل في بعض التفسير - إِن حساب
العبد أسرع من لمح البصر - واللَّه أعلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ
مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ
عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ
اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ
تُحْشَرُونَ (203)
قالوا: هي أيام التشريق، (معدودات) يستعمل كثيراً في اللغة
للشيءِ
القليل - وكل عدد قل أو كثر فهو معدود، ولكن معدودات أدل على
القلة، لأن كل قليل يجمع بالألف والتاء، نحو دريْهمَات
وجماعات.
وقد يجوز وهو حسن كثير أن تقع الألف والتاء للكثير، وقد ذُكِرَ
أنه عيبَ عَلى القائل:
لنا الجَفَنَاتُ الغر يلمعْن بالضحى. . . وأسيافنا يقطرْنَ من
نجدة دمَا
فقيل له لم قَلَّلْتَ الجَفَنَاتِ ولَمْ تَقُل: الجِفان.
وهذا الخبر - عندي - مَصْنوع لأن الألف والتاء قد تأتي للكثرة
- قال اللَّه
عزَّ وجلَّ:
(1/275)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ
اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ
(204)
(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ
وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ).
وقال: (في جنات)، وقال (في الغرفات آمنون)، فالمسلمون ليسوا في
جنات قليلة، ولكن إذا خص القليل في الجمع بالألف والتاء،
فالألف والتاء أدل عليه، لأنه يلي التثْنِيَةِ، تقول: حمام،
وحمامان وحمامات، فتؤَدى بتاءِ الواحد، فهذا أدل على القليل،
وجائز حسن أن يراد به الكثير، ويدل المعنى المُشَاهَدُ على
الإرَادَة، كما أن قولك جمع يدل على القليل والكثير.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ).
أي من نفر في يومين.
(فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى).
قيل لمن اتقى قتل الصيد، وقالوا: لمن اتقى التفريط في كل حدود
الحج.
فموسع عليه في التعجل في نَفْرِه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ
فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي
قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)
- موضع (مَنْ) رفع على ضربين: على الابتداء، وبالعامل في
(مِنْ) وقد
شرحنا هذا الباب.
ويروى أن رجلًا من ثقيف كان يعجب النبي - صلى الله عليه وسلم -
كلامُه، ويظهر له من الجميل خلاف ما في نفسه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي
قَلْبِهِ).
(1/276)
وَإِذَا تَوَلَّى
سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ
وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
وإِن قلت ويشْهدُ اللَّه على ما في قلبه
فهو جائز إِن كان قد قرئ به
والمعنى فيه أن الله عالم بما يُسِرَّه، فأعلم اللَّه عزَّ
وجلَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حقيقةَ أمر هذا المنافق -
وقال: (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ).
ومعنى خَصم ألدُّ في اللغة - الشديد الخصومة والجَدَلِ،
واشتقاقه من
لُدَيْدَي العُنق، وهما صفحتا العنق، وتأويله، أن خصمه في أي
وجه أخذ - من يمين أو شمال - من أبواب الخصومة غلبه في ذلك.
يقال رجل ألدُّ، وامرأة لَدَّاء
وقوم لُدٌّ - وقد لَدَدْتُ فُلاناً ألَده - إِذا جادلته
فغلبتُه.
وخصام جمع خَصْمٍ، لأن فعلاً يجمع إِذا كان صفة على فِعَالٍ،
نحو صَعْب وصِعَاب، وخَدْل وخِدَال.
وكذلك أن جعلت خصماً صفة، فهو يجمع على أقل العدد، وأكثره على
فَعُول وفِعَالٍ جميعاً، يقال خَصْم وخِصَام وخُصُوم، وإِن كان
اسماً فَفِعَال فيه أكْثر العدَدِ، نحو فَرْخ وأفراخ، لأقل
العدد، وفِراخ وفُروخ لما جاوز العشرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ
لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ
لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
نصب (لِيُفْسِدَ) على إضمار أن، المعنى لأن يفسد فيها، وعطف
ويُهلك
علي وُيفسد، ويجوز أن يكون (يُهْلِكَ الحَرْثَ والنَسْلَ) على
الاستئناف أي وهو يهلكُ الحرثَ والنسل، أي يعتقد ذلك.
وقالوا في (الحرث والنسل): إن الحرث النساء والنسل الأولاد.
وهذا غير منكر
(1/277)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ
رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
لأن المرأة تُسمَّى حرْثاً - قال اللَّه
عزَّ وجلَّ: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ)
وأصل هذا إِنما هو في الزرع، وكل ما حرث. فيشبه ما منه الولد
بذلك. وقالوا في الحرث هو ما تعرفه من الزرع. لأنه إذَا أفسد
في الأرض أبطل - بإفْساده وإِلقائه الفتنة - أمْرَ الزراعة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ
ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ
(207)
قال أهل اللغة - (يَشْرِي نَفْسَهُ) يبيع نفسه، ومعنى بيعه
نفسه بذلها في الجهاد
في سبيل اللَّه.
قال الشاعر في شريت بمعنى بعت:
وَشَرَيْتُ بُرداً ليتني. . . من بعد برد كنت هامه
وقال أهل التفسير هذا رجل كان يقال له صهيب بن سنان. أراده
المشركون مع نفر معه على ترك الِإسلام، وقتلوا بعض النفر الذين
كانوا معه
فقال لهم صهيب أنا شيخ كبير، إن كنت عليكم لم أضُركم " وإِن
كنت معكم لم أنفعكم فخلوني وما أنا عليه، وخذوا ماليَ فقبلوا
منه ماله، وأتى المدينة فلقيه أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه
فقال له: ربح البيع يا صهيب، فرد عليه وأنت فربح بيعك يا أبا
بكر وتلا الآية عليه.
(1/278)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا
تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ
مُبِينٌ (208)
ونصب (ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) على
معنى المفْغول له.
المعنى يشريها لابتغاءِ مرضاة اللَّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا
فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ
الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)
(كافة) بمعنى الجميع الِإحاطة، فيجوز أن يكون معناه ادخلوا
جميعاً، ويجوز
أن يكون معناه: ادخلوا في السلم كله أي في جميع شرائعه، ويقال
السلْم
والسلم - (جميعاً)، ويعني به الِإسلام والصلح، وفيه ثلاث لغات:
يقال:
السِّلْم، والسَّلَمُ، والسَّلْمُ، وقد قرئ به: (وَلَا
تَقُولُوا لِمَنْ ألْقَى إِلَيْكم
السلَامَ).
ومعنى (كافة) في اشتقاق اللغة ما يكف الشيء من آخره، من ذلك
كفُة
القميص، يقال لحاشية القميص كُفة، وكل مستطيل فحرفه كُفَه،
ويقال في كل مستدير كِفَّه، وذلك نحو كِفَّة الميزان، ويقال
إِنَّما سميت كُفَّة الثوب لأنها تمنعه أن ينتشر، وأصل الكَف
المنع، ومن هذا قيل لطرف اليد " كف " لأنها يكف بها عن سائر
البدن، وهي الراحة مع الأصابع، ومن هذَا قيل رجل مكفوف، أي قد
كُف بصره من أن ينظر: فمعنى الآية: ابْلغُوا في الِإسلام إلى
حيث تنتهي شرائعه، فكفوا من أن تعدوا شرائعه.
أو ادْخُلُوا كلكم حتى يكف عن عددٍ وأحدٍ لم يدْخل فيه.
وقيل في معنى الآية أن قوعاً من إليهود أسلموا فأقاموا على
تحريم السبت وتحريم أكل لحوم الِإبل، فأمرهم اللَّه عزَّ وجلَّ
- أن يدخلوا في
جميع شرائع الِإسلام وقال بعض أهل اللغة: جائز أن يكون
أمرَهُمْ - وهم مؤمنون - أن يدخلوا في الِإيمان، أي بأن يقيموا
على الِإيمان ويكونوا فيما
يستقبلون عليه كما قال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ
عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ)،
وكلاَ القولين
(1/279)
هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ
وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ (210)
جائز لأن الله عزَّ وجلَّ، قد أمر
بالِإقامة على الِإسلام فقال: (وَلَا تَمُوتُنَّ إِلا
وَأنْتم مُسْلِمونَ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَتبِعُوا خطواتِ الشيْطَانِ).
أي لا تقتفوا آثاره، لأنَّ تَركَكم شيئاً من شرائع الِإسلام
اتباع الشيطان.
(خُطُواتِ) جمع خطوة، وفيها ثلاث لغات: خُطُوات، وخطَوات،
وخُطْوات، وقد بيَّنَّا العلة في هذا الجمع فيما سلف (من
الكتاب).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ (209)
يقال زل يزِل زَلاً وزلَلاً جميعاً، ومَزلَّة، وزل - في الطين
زليلًا، ومعنى
(زَلَلْتُمْ) تنحيتم عن القصد والشرائع.
(فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
ومعنى (عَزِيزٌ): لا يُعْجِزونه ولا يُعجزه شيء. ومعنى
(حَكِيمٌ)، أي حكيم فيما فطركم عليه، وفيما شرع لكم من دينه.
* * *
ْوقوله عزَّ وجلَّ: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ
يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ
وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ
الْأُمُورُ (210)
قال أهل اللغة معناه يأتيهم اللَّه بما وعدهم من العذاب،
والحساب كما
قال: (فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) أي
آتاهم بخذلانه إياهم.
و (ظُلَلٍ) جمع ظُلَّة. و (الملائكة) تقرأ على وجهين بالضم
والكَسْر فمن قرأ الملائكةُ بالرفع،
(1/280)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
فالمعنى ينظرون إلا أن يأتيهُبم اللَّه
والملائكةُ، والرفع هو الوجه المختار عند أهل اللغة في
القراءَة، ومن قرأ والملائكة، فالمعنى هل ينظرون إلا أن
يأتيهُمُ الله في ظلل مِنَ الغمام وظُلَل منَ الملائكة.
ومعنى (وَقُضِيَ الأمْرُ) أي فرغ لهم ما كانوا يُوعَدُونَ.
ومعنى (وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ)
وتَرجِعُ الأمور - يقرأان جميعاً - تُرَدُّ
فإن قال قائل أليست الأمور - الآن وفي كل وقت - راجعة إِلى
الله عزَّ وجلَّ، فالمعنى في هذا: الإعْلامُ في أمر الحساب
والثواب والعقاب، أي إِليه تصيرون فيعذب من يشاءُ ويرحم من
يشاءُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ
مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ
(211)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - والمعنى له ولسائر
المؤمنين وغيرهم. المعنى أنهم أعْطُوا آياتٍ بينات قد تقدم
ذكرها، وقد علموا صحة أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -
وجحدوا، وهم عالمون بحقيقته.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ).
يعني به في هذا الموضع حُجَجَ اللَّه الدالة على أمر نبيه -
صلى الله عليه وسلم - فإن الله شديد العقاب (أي شَدِيدُ
التعْذِيبِ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ
مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
رُفِعَ على ما لم يسم فاعله، و (زُيِّنَ) جاز فيه لفظ التذكير،
ولو كانت زُيِّنَت
لكان صواباً. وزين صواب حسن، لأن تأنيث الحياة ليس بحقيقي، لأن
معنى
الحياة ومعنى العيش واحد، وقد فُصِلَ أيضاً بين الفعل وبين
الاسم المؤنث.
(1/281)
كَانَ النَّاسُ
أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ
مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ
بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا
فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ
بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ
فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ
مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ
إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
وقيل في قوله (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) قولان:
قال بعضهم زينها لهم إِبْلِيس، لأن اللَّه عزَّ وجلَّ قَد
زَهَّد فيها وأعلم أنها متاع الغرور.
وقال بعضهم: معناه أن اللَّه عزَّ وجلَّ خلق فيها الأشياءَ
المعجبة فنظر إليها الذين كفروا بأكثر من مقدارها، ودليل قول
هُؤلاءِ قوله تعالى:
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ
وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ)
وكلٌّ جائز.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا).
كان قوم من المشركين يسخرون من المسلمين لأن حالهم في ذات اليد
كانت قليلة، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - بأن الذين اتقوا
فوقهم يوم القيامة. لأن المسلمين في عليين والفجَّارَ في
الجحيم، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -
(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا
يَضْحَكُونَ (29.
ومعنى: (واللَّهُ يَرْزقُ مَنْ يَشَاءُ بغَيْر حِسَابٍ).
أي ليس يَرْزُق المؤمنَ على قدر إيمانه ولا يَرزُقُ الكافرَ
على قدر كفره.
فهذا معنى (بغير حساب) - أي ليس يحاسبه بالرزق في الدنيا على
قدر العمل، ولكن الرزق في الآخرة على قدر العمل وما يتفضل
اللَّه به جلَّ وعزَّ.
قوله عزَّ وجلَّ: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ
اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ
مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا
الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ
بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي
مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
أي على دين واحد، والأمة في اللغة أشياءُ، فمنها الأمة الدين،
وهو
هذا، والأمة القَامة يقال فلان حسن الأمَّة، أي حسن القامة.
قال الشاعر:
وأن معاوية الأكرمين حِسَان الوجُوه طوال الأمَمْ
(1/282)
أي طوال القامات، والأمة القرن من الناس،
يقولون قد مضت أمَمٌ أي
قرون، والأمة الرجَل الذي لا نظير له.
ومنه قوله عزَّ وجلَّ - (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً
قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا).
قال أبو عبيدة معنى (كَانَ أُمَّةً) كان إمَاماً، والأمة في
اللغة النَعْمَةُ والخير.
قال عدي بن زيد.
ثم بعد الفلاح والرشد والأمَّةِ وارتْهُمُ هناك القبور.
أي بعد النعمة والخير، وذكر أبو عمرو الشيباني أن العرب تقول
للشيخ
إذا كان باقي القوة فلان بِأمَّةٍ، ومعناه راجع إلى الخير
والنعمة، لأن بقاءَ
قوته من أعظم النعمة، وأصل هذا كله من القصد، يقال أمَمْتُ
الشيءَ إذا
قصدْتُه، فمعنى الأمة في الدين أن مقصدهم مقصد واحد، ومعنى
الأمة في
الرجل المنفرد الذي لا نظير له، أن قصده منفرد من قصد سائر
الناس.
ويروى أن زيد بن عدي بن نفيل يبعث يوم القيامة أمة وحده وإنما
(1/283)
ذلك لأنه أسلم في الجاهلية قبل مبعث النبي
- صلى الله عليه وسلم - فمات موحداً فهذا أمة في وقته
لانفراده، وبيت النابغة:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة. . . وهل يأثمن ذو أمَّةٍ وهو طائع
ويروى ذو أمَةَ، وذو إمة، ويحتمل ضربين من التفسير: ذو أمة: ذو
دين
وذو أمة: ذو نعمة أسْدَيَتْ إليه، ومعنى الأمة القامة: سائر
مقصد الجسد.
فليس يخرج شيء من هذا الباب عن معنى أممت أي قصدت، ويقال
إِمامنا
هذا حَسنُ الأمة أي يقوم بإمامتهِ بنَا في صلاته ويحسن ذلك.
وقالوا في معنى الآية غيرَ قول: قالوا كان الناس فيما بين آدم
ونوح
عليهما السلام - كُفاراً، فبعث الله النبيين يبشرون من أطاع
بالجنة، وينذرون من عصي بالنار، وقال قوم: معنى كان الناس
أمَّة واحدةً، كان كل من بعث إليه الأنبياءِ كفاراً:
(فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)
ونصب (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) على الحال، فالمعنى أن أمم
الأنبياءِ الذين
بعث إليهم الأنبياءَ كانوا كفاراً - كما كانت هذه الأمة قبل
مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ).
أي ليفصل بينهم بالحكمة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ
أُوتُوهُ).
أي ما اختلف في أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا الذين
أعْطُوا علمَ حَقيقتِهِ.
وقوله: (بَغْيًا بَيْنَهُمْ) نصب (بَغْيًا) على معنى مفعول له،
المعنى لم يوقعوا الاختلاف إلا
(1/284)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ
وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ
نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
للبغي، لأنهم عالمون حقيقة أمره في كتبهم.
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ).
أي للحق الذي اختلف فيه أهل الزيغ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (بِإِذْنِهِ) أي بعلمه، أي من الحق الذي
أمَرَ به.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ).
أي إلى طريق الدين الواضح، ومعنى (يَهْدي من يشاءُ): يدله على
طريق
الهدى إذا طلبه غير متعنت ولا باغ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا
الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ
قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ
وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا
مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ
قَرِيبٌ (214)
معناه: بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ
خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ).
معنى (مثل الذين): أي صفة الذين، أي ولما يصبكم مثل الذي أصاب
الذين خلوا من قبلكم، و (خلوا) - مضوا.
(مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ) البأْساءُ والضراءُ:
القتل والفقر.
و (زُلزلوا) معنى (زلزلوا) - خُوِّفُوا وحُركُوا بما يُؤْذي،
وأصل الزلزلة في اللغة من زَلً الشيءَ عن مكانه فإذا قلت زلزلة
فتأويله كررت زلزلته من مكانه، وكل ما فيه ترجع كررت فيه فاءُ
التفعيل، تقول أقل فلان الشيءَ إذا رفعه من مكانه فإِذا كرر
رفعه ورده قيل قلقله، وكذا صل، وصَلْصَل وصَر وصَرْصَرَ، فعلى
هذا قياس هذا الباب.
فالمعنى أنه يكرر عليهم التحريك بالخوف.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (حتى يقولَ الرسُولُ).
(1/285)
قرئت حتى يقولَ الرسولُ - بالنصب - ويقولُ
- بالرفع.
وإِذا نصبت بحتىٍ فقلت سرت حتى أدخلها.
فزعم سيبويه والخليل وجميع أهل النحو الموثوق
بعلمهم أن هذا ينتصب على وجهين.
فأحد الوجهين أن يكون الدخول غاية السير، والسير والدخول قد
نصبا جميعاً، فالمعنى: سرت إِلى دخولها، وقد مضى الدخول، فعلى
هذا نصبت الآية: المعنى وزلزلوا إِلى أن يقول الرسول. وكأنه
حتى قول الرسول. ووجهها الآخر في النصب أعني سرت حتى أدخلها أن
يكون السير قد وقع والدخول لم يقع، ويكون المعنى سرت كي أدخلها
- وليس هذا وَجْه نَصْب الآية.
ورفع ما بعد حتى على وجهين، فأحد الوجهين هو وجه الرفع في
الآية.
والمعنى سرت حتى أدخلها، وقد مضى السير والدخول كأنَّه بمنزلة
قولك
سرت فأدخلها. بمنزلة: (سِرْتً) فدخلتها، وصارت حتى ههنا مما لا
يَعْمَل
في الفعل شيئاً، لأنها تلي الجمل، تقول سرت حتى أني دَاخل -
وقول
الشاعر:
فيا عجبا حتى كليب تَسُبُّنِي. . . كَأنَّ أباها نهشَلٌ أو
مُجَاشِع
فعملها في الجمل في معناها لا في لفظها.
والتأويل سرت حتى دخولها
وعلى هذا وجه الآية. ويجوز أن يكون السير قد مضى والدخول واقع
الآن وقد انقطع السير، تقول سرت حتى أدخلها الأن ما امْنَع
فَهذه جملة باب حتى. .
ومعنى الآية أن الجهد قد بلغ بالأمم التي قبل هذه الأمة حتى
استبطأوا
النصر، فقال الله عزَّ وجلَّ: (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ
قَرِيبٌ).
(1/286)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا
يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ
فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
فأعلم أولياءَه أنَّه ناصرهم لا محالةَ،
وأن ذلك قريب منهم كما قال:
(فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا
أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا
تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
قيل إِنهم كانوا سألوا: عَلى مَنْ ينبغي أن يُفْضِلوا - فأعلم
اللَّه عزَّ وجل
أن أول مَن تُفُضِّلَ عليه الوالدان والأقربون، فقال:
(قُلْ مَا أنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) أي من مال:
(فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى
وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ
خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ).
أي يحصيه، وإِذا أحصاه جازى عليه، كما قال: (فمن يعمل مثقال
ذرة
خيراً يره). أي يرى المجازاة عليه، لأن رؤْية فعله الماضي لا
فائدة فيه.
ولا يرى لأنه قد مضى.
ومعنى " مَاذَا " في اللغة على ضربين، فأحدهما أن يكون " ذا "
في معنى
الذي، ويكون ينفقون من صلته، المعنى يسألونك أي شيءٍ الذي
ينفقون كأنه أي شيء وجه الذي ينفقون، لأنهم يعلمون ما المنفق
ولكنهم أرادوا علم اللَّه وجهه.
ومثل جعلهم " ذَا " في معنى الذي قول الشاعر:
(1/287)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا
شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا
وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ (216)
عَدَسْ ما لعَبَّادٍ عليك إمارَةٌ. . .
أَمِنْتِ وهذا تَحْملين طليقُ
والمعنى والذي تحملينه طليق، فيكون ما رفعاً بالابتداءِ، ويكون
ذا
خبرها.
وجائز أن يكون " مَا " " مع " " ذا " بمنزلة اسم واحد، ويكون
المَوضِع نَصباً
بـ (ينفقون).
المعنى يسألونك أي شيءٍ ينفقون، وهذا إِجماع النحويين، وكذلك
الوجه الأول إِجماعٌ أيضاً، ومثل جعلهم ذا بمنزلة اسم واحد،
قول
الشاعر:
دَعِي ماذا علمت سأتقيه. . . ولكن بالمغيب فنبئيني
كأنه بمنزلة: دعي الذي علمت.
وجزم (وَمَا تَفْعَلوا) بالشرط، واسم الشرط " ما " والجواب
(فَإنَّ اللَّه بِهِ
عَلِيمٌ) وموضع " ما " نصب بقوله (تَفْعَلوا).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ
كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
معنى (كتب عليكم) فرض عليكم، والكره يقال فيه كرِهت الشيءَ
كًرْهاً
وكَرْهاً، وكَرَاهة، وكَرَاهِيَةً، وكل ما في كتاب الله عزَّ
وجلَّ من الكُرْهِ فالفتح جائز فيه، تقول الكُره والكَرْه اِلا
أن هذا الحرف الذي في هذا الآية - ذكر أبو عبيدةَ - أن الناس
مجمعونَ على ضَمهِ، كذلك قراءَة أهل الحجاز وأهل الكوفة جميعاً
(وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ) فضموا هذا الحرف.
(1/288)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ
كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ
وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ
أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ
الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى
يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ
يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ
فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا
خَالِدُونَ (217)
ارتفع (كُرْهٌ) لأنه خبر الابتداءِ -
وتأويله ذو كره - ومعنى كراهتهم القتال
أنهم إِنما كرهوه على جِنْس غِلَظَه عليهم ومشقًتِه، لاَ أن
المؤمنين يكرهون
فرض اللَّه - عزَّ وجلَّ - لأن اللَّه - عزَّ وجلَّ - لا يفعل
إِلا ما فيه الحكمة
والصلاح.
وقوله: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ).
(وهو خير لكم) يعني به ههنا القتال، فمعنى الخير فيه، أن مَنْ
قُتِلَ
فهو شهيد وهذا غاية الخير، وهو إنْ قَتَل مُثاب (أيضاً)
وهادِمٌ أمرَ الْكُفْر.
وهو مع ذلك يغنم، وجائز أن يستدعِيَ دخولَ من يقاتله في
الإسلام، لأن أَمر قتال أهل الإسلام كله كان من الدلالات التي
تثبت أمر النبوة - والإسلَام، لأن الله أخبر أنَّه ينصر دينه،
ثم أبان النصر بأن العدد القليل يغلبُ العددَ الكثيرَ فهذا ما
في القتال من الخير الذي كانوا كرهوه.
ومعنى: (وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ).
أي عسى أن تحبوا القعود عن القتال فتحرموا ما وصص عن الخير
الذي
في القتال.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ
قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ
وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ
يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ
اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ
فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
(قتالٍ) مخْفُوضٌ على البدل من الشهر الحرام.
المعنى يسألونك عن قتال في الشهر الحرام، وقد فسرنا ما في هذه
الآية فيما مضى من الكتاب.
ورفع (قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) (قِتَالٌ) مرتفع
بالابتداءِ، و (كَبِيرٌ) خبره.
(1/289)
إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
ورفع (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
وَكُفْرٌ بِهِ) على الابتداءِ، وخبر هذه الأشياءُ
(أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ)
والمعنى وصد عن سبيل اللَّه، وكفر به، وإخراج أهلَ المسجد
الحرام منه
أكبر عند اللَّه أي أعظم إِثْماً.
(وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ).
أي والكفر أكبر من القتل، المعنى وهذه الأشياءُ كفر، والكفر
أكبر من
القتل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يَرتَدِدْ مِنكُمْ عنْ دِينه فيمُتْ
وهوكَافِرٌ).
يرتدد جزم بالشرط، والتضعيف يظهر مع الجزم، لسكون الحرف الثاني
-
وهو أكثر في اللغة - وقرئَ: (يَا أيَهَا الذين امنوا من
يَرتَدَّ) بالإدغام والفتح
وهي قراءَة الناسِ إِلا أهلَ المدينة فإِن في مصحفهم مَن يرتدد
وكلاهما صواب، والذي في سورة البقرة لا يجوز فيه إلا من
يرتَدِدْ لإطباق أهل الأمصار على
إِظهار التضعيف وكذلك هو في مَصَاحفهم، والقراءَة سنَة لا
تُخَالف، إِذا كان في كل المصحف الحرف على صورة لم تجز
القراءَة بغيره.
ويجوز أن تقولَ من يرتدَّ منكم فتكسر لالتقاءِ السَّاكنين إِلا
أن الفتح أجود
لانفتاحَ التاءِ، وإِطباق القراءِ عليه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ
يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
(الذين) نصب بأنَّ، و (أُولَئِكَ) رفع بالابتداءِ، و (يرجُونَ)
خَبَرُ (أُولَئِكَ)
و (أُولَئِكَ يَرْجُونَ) خبرُ (إِنَّ الذين) - وإِنما قيل في
المؤمنين المجاهدين ههنا أنهم إِنما يرجون
(1/290)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ
نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ
الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ
لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
رحمة اللَّه لأنهم عند أنفسهم غيرُ بالغين
ما يَجب لِلَّهِ عليهم، ولا يعملون ما
يختمون به أمرهم.
وجملة ما أخْبَرَ الله به عن المؤمنين العاملين الصالحاتِ
أنَّهم يجازَوْن بالجنة.
قال الله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)
جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ
وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ
لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا
وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ (219)
(الخمر) المجمع عليه، وقياس كل ما عمل عملها أن يقال له خمر.
وأن يكون في التحريم بمنزلتها.
وتأويل الخمر في اللغة أنه كل ما ستر العقل، يقال
لكل ما ستر الِإنسان مق شجرٍ وغيره خمر، وما ستره من شجر خاصة
ضَرَى، " مقصور "، ويقال دخل فلان في خِمَارٍ أي في الكثير
الذي يستتر فيه وخِمار المرأة قناعها، وإِنما قيل له خِمار
لأنه يغطي، والْخُمرَةُ التي يُسْجَد عليها إنما سميت بذلك
لأنها تستر الوجه عن الأرض، وقيل للعجين قد اختمر لأن فطرته قد
غطاها الخمر أعني الاختمار - يقال قد اختمر العَجينُ
وخَمَرَته، وفَطَرْتُه وأفْطَرتُه.
فهذا كله يدل على أن كل مسكر خمر وكل مسكر مخالط العقل ومغط
عليه، وليس يقول أحد للشارب إِلا مخمور - من كل سكر - وبه
خُمَار، فهذا بَيِّن واضح.
وقد لُبِّس على ابي الأسود الدؤُلي فقيل له: إِن هذا المسكر
الذي سموه
بغير الخمر حلال فظن أن ذلك كما قيل له، ثم قاده طبعه إِلى أن
حكم بأنهُمَا
واحد، فقال:
دع الْخَمْرَ يَشْربْها الغواةُ فإِنَني. . . رأيت أخَاها
مجزياً لمكانها
(1/291)
فإلَاَ يكنها أوتكنه فإنه. . . أخوها
غذَتْه أمها بلبانها
وقال أهل التفسير في قوله عزَّ وجلََّّ: (قُلْ فيهمَا إِثم
كَبِير) وقرئت " كثير " قالَ قوم زَهَّد فيها في هذا الموضع
وبين تحريمها في سورة المائدة في قوله:
(إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ
وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ
فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ
الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ
وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ
عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ
مُنْتَهُونَ (91).
ومعنى (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)
التًحْضِيضُ على الانتهاءِ والتفديد على ترك الانتهاءِ.
وقال قوم: لا بل تحرم بما بين ههنا مما دل عليه الكتاب في موضع
آخر.
لأنه قال: (إِثْمٌ كبير) وقد حرم الله الإثم نصًّا فقال: (قُلْ
إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا
وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ).
وإنما بينا تحريم الخمر وإن كان مجمعاً عليه ليعلم أن نص ذلك
في
الكتاب.
فأما الِإثم الكبير الذي في الخمر فبين، لأنها توقع العداوة
والبغضاءَ
وتحول بَيْنَ المرءِ وعقله الذي يميز به ويعرف ما يجب لخالقه.
والقِمَارُ يورث
العداوة والبغضاء وإن مال الإنسان يصير إلى غيره بغير جزاء
يؤخذ عليه، وأما المنافع للناس فيه فاللذة في الخمر والربْحُ
فِي المُتَجَّرِ فيها، وكذلك المنفَعَةُ في
(1/292)
القمار، يصير الشيءِ إلى الإنسان بغير كد
ولا تعب فأَعلم اللَّه أن الإثم فِيهِما
(إثم) أكبر من نفعهما.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ).
النصنب والرفع في (العفو) جميعاً، مَنْ " جعل (ماذا) اسماً
واحداً رد العفو
عليه ومن جعل " ما " اسماً و " إذا " خبرها وهي في معنى الذي
رد العفو عليه
فرفع، كأنه قال: ما الذي ينفقون؟
فقال: العفو، ويجوز أن ينصب العفو وإن كان ما وحدها اسماً
فتحمل العفو علي ينفقون، كأنه قيل أنفقوا العفو.
ويجوز أيضاً أن ترفع - وإن جعلت (ماذا) بمنزلة شيء واحد على
"قل هًو العفوُ".
والعفوُ في اللغة الفضل والكثرة، يقال عفا القومُ إذا كثروا.
فَأمروا أَن
ينفقوا الفضل إلى أن فرضت الزكاة، فكان أهل المكاسب يأخذ أحدهم
من
كسبه ما يكفيه ويتصدق بباقيه، ويأخذ أهل الذهب والفضة ما
يكفيهم في
عامهم وينفقون باقيه هذا قد روي في التفسير، والذي عليه
الإجماع أن الزكاة في سائر الأشياء قد بينت ما يجب فيها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (كَذَلِكَ يُبين اللَّه لكُمُ الآياتِ).
أي مثل هذا البيان في الخمر والميْسِرْ (يبين الله لكم
الآيات): لأن خطاب
النبي - صلى الله عليه وسلم - مشتمل على خطاب أمته كما قال
عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ)
ومثل هذا في القرآن كثير يحكي مخاطبة الِإجماع بذلك، وذلكم
أكثر في
(1/293)
فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ
لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
اللغة، وقد أتي في القرآن في غير " ذَلِك "
للجماعة - قال اللَّه تعالى:
(يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ
مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ
ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) -
والأصل ذلكن، إلا أن الجماعة في معنى القبيل.
* * *
وقوله عز وجل: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ).
يجوز أن يكون (تتفكرون في الدنيا والآخرة) من صلة تتفكرون
المعنى لعلكم
تتفكرون في أمر الدنيا وأمر الآخرة -، ويجوز أن يكون في الدنيا
والآخرة من صلة كذلك يبين الله لكم الآيات).
أي يبين لكم الآيات في أمر الدنيا وأمر الآخرة
لعلكم تتفكرون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ
إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ
فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ
الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ
اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
هذا مما نحكم تفسيره في سورة النساءِ إنْ شاءَ الله، إلا أن
جملته أنهم
كانوا يظلمون اليتامى، فيتزوجون العشر ويأكلون أموالهم مع
أموالهم، فَشُدِّدَ عليهم في أمر اليتامى تشديداً خافوا معه
التزويج بنساءِ اليتامى ومخالطتهم، فأعلمهم اللَّه أن الإصلاح
لهم هو خير الأشياء، وأن مخالطتهم في التزويج وغيره جائزة مع
تحري الِإصلاح فقال: (وإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ)
أي فهم إخوانكم.
فالرفع على هذا. والنصب جائز " وإِنْ تخالطوهم فإِخوانَكم " أي
فإِخوانَكم
تخالطون، ولا أعلم أحداً قرأ بها، فلا تقرأَنَّ بها إِلا أن
تثبت رواية صحيحة.
وقوله عزَّ وجلَّ: (ولَوْشَاءَ اللَّهُ لأعنَتَكُمْ).
قال أبو عبيدة معناه لأهلككم، وحقيقته ولو شاءَ الله لكلفكم ما
يشتد
(1/294)
وَلَا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ
مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا
الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ
مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى
النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ
بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ
يَتَذَكَّرُونَ (221)
عليكم فتعنتون، وأصل العنتْ في اللغة من
قولهم: عنِتَ البعير يعنت إذا حدث في رجله كسر بعد جبر لا
يمكنه معه تصريفها، ويقال اكمة غَنوتْ إِذا كان لا يمكن أن
يُحازيها إلا بمشقة عنيفة.
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)).
أي يفعل بعزته ما يحب لا يدفغه عنه دافع.
(حَكِيمٌ) أي ذو حكمة فيما أمركم به من أمر اليتامى وغيره.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى
يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ
وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى
يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ
أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ
يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ
وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
(221)
معنى (لَا تَنْكِحُوا) لا تتزوجوا المشركات، ولو قرئت ولا
تُنكِحوا المشركات
كان وجهاً، ولا أعلم أحداً قرأ بها، والمعنى في هذا ولا
تتزوجوا المشركات حتى يؤمن، ومعنى المشركات ههنا لكل من كفر
بالنبي - صلى الله عليه وسلم -
واللغة تطلق على كل كافر إنما يقال له مشرك - وكان التحريم قد
نزل في سائر الكفار في تزويج نسائهم من المسلمين، ثم أحل تزويج
نساءِ أهل الكتاب من بينهم. فقال اللَّه - عزَّ وجلَّ:
(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ).
فإِن قال قائل: من أين يقال لمن كفر بالنبي - صلى الله عليه
وسلم - مشرك وإِن قال إِن اللَّه عزَّ وجل واحد؟
فالجواب في ذلك أنه إذا كفر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فقد
زعم أن ما أتى به من القرآن من عند غير اللَّه - جل ثناؤًه -
والقرآن إِنما هو من عند اللَّه - عزَّ وجلَّ - لأنه يُعجِز
المخلوقين أن يأتوا بمثله - فقد زعم أنه قد أتى غير الله بما
لا يأتي به إِلا اللَّه - عزَّ وجلَّ - فقد أشرك به غيره.
(1/295)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ
الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي
الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا
تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ
الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى
يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ
وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى
يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ
أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ
يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ
وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
(221)
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى
يُؤْمِنُوا)).
أي لا تزوجوهم مُسْلِمَةً.
وقوله: (وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ
أَعْجَبَكُمْ).
معناه وإن اعجبكم، إلا أن " لو " تأتي فْتنوب عن أن في الفعل
الماضي.
ومعنى الكلام أن الكافر شر من المؤمن لكم وإن أعجبكم أي أعجبكم
أمره في باب الدنيا، لان الكافر والكافرة يدعوان إلى النار أي
يعملان بأعمال أهل
النار - فكأن نَسْلَكُمْ يتربى مَعَ مَنْ هذه حاله.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّهُ يَدْعُو إلى الْجَنة
والْمَغْفِرَةِ بِإذْنِه).
أي يدعوكم إلى مخالطة المؤمنين لأن ذلك أوصلُ لكم إلى الجنة
ومعنى (بإِذنه) أي بعلمه الذي أعلم إنَّه وصلة لكم إليها.
(وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ) أي علاماته، يقال آية وآيٌ، وآيات أكثر
وعليها أتى القرآن
الكريم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).
معنى لعل ههنا الترجي لهم أي ليكونوا هم راجين - واللَّه أعلم
أيتذكرون أم لا، ولكنهم خوطبوا على قدر لفظهم واستعمالهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ
أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ
فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ
يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
يقال حاضت المرأة تحيض حَيْضاً ومَحاضاً ومَحِيضاً، وعند
النحويين أن
المصدر في هذا الباب " الْمَفْعِل "، و " المفْعَل " جَيِّدٌ
بَالِغٌ فيه يقال ما في
بُرِّكَ " مَكال " أي كيل ويجوز ما فيه " مَكيل ".
(1/296)
قال الشاعر وهو الراعي:
بُنِيَتْ مَرافِقُهُن فَوْق مَزلَّة. . . لا يستطيع بها
القرادُ مقيلا
أي قيلولة، ومعنى الآية أن العرب كانت تفعل في أمر الحائض ما
كانت
تفعل المجوس، فكانوا يجتنبون تَكْلِيفها عمل أي شيء
وتُجْتَنَبُ في الجماع
وسائر ما تُكَلَّفُه النساء، يريدون أنها نجَس، فأعلم اللَّه
أن الذي ينبغي أن
يجتنب منها بُضْع فقط، وأنها لا تُنَخسُ شيئاً، وأعلم أن
المحيض أذى.
أي مستقذر، ونهى أن تقرب المرأة حتى تتطهر من حيضها - بالماءِ
بعد أن تطهر من الدم أي تنقى منه، فقال: (وَلَا تَقْربُوهُن
حَتى يَطْهُرْنَ) -
المعنى يتطهرن أي يغتسلن بالماءِ، بعد انقطاع الدم -
وَقُرِئَتْ حتى يَطهَّرْنَ " ولكن (فَإِذَا تَطَهَّرْنَ) يدل
على (وَلَا تَقْرَبُوهُن حَتى يَطهرْنَ)
وكلاهما (يَطْهُرْن) ويطهَّرْن -
وقرئ بهما - جيِّدان.
ويقال طهَرَت وَطَهُرَتْ جمميعاً وطَهُرَتْ أكثر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ
اللَّهُ).
أي من الجهات التي يحل فيها أن تُقْرب المرأة، ولا تقربوهن
مِنْ حيث
لا يَجب، أعني ولا تقربوهن صاحباتٍ ولا عشيقاتٍ، وقد قيل في
التفسير:
(مِنْ حَيْثُ أمَرَكُمُ اللَّهُ). في الفروج، ولا يجوز أن
يُقْربن في الدبر، والذي
يروى عن مالك ليس بصحيح لأن إِجماع المسلمين أن الوطءَ، حيث
يُبْتَغَى
(1/297)
وَلَا تَجْعَلُوا
اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا
وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
النًسْلُ، وأن أمر الدُّبُر فاحشة، وقد
جاءَ الحديث أن مَحَاشَّ النساء حرام.
ويكنى به عن الدبر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا
حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ
وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ
وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
زعم أبو عبيدة أنه كناية، والقول عندي فيه أن معناه أن نساءكمْ
حرث
لكم منهن تحرثون الولد واللذة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ)).
أي كيف شئتم، أي ائْتوا موضع حرثكم كيف شئتم، وإنما قيل لهم
كيف شئتم، لأن إليهود كانت تقول: إِذا جامع الرجل المرأة من
خلفٍ خرج الولد أحول، فأَعلم اللَّه أن الجماع إِذا كان في
الفرج حلال على كل جهة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا
اللَّهَ).
أي اتقوا الله فيمَا حَدَّ لكمْ من الجِمَاع وامر الحيْض،
(وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ)
أي قدموا طاعته واتباعَ أمره، فمن اتَبَعَ ما أمر الله به فقد
قَدَّمَ لنفسه خيراً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً
لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا
بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
موضع " أنْ " نصب بمعنى عرضة المعنى لا تعرضوا باليمين
باللَّهِ في أن
تبروا - فلما سقطت " في " أفضى لمعنى الاعتراض، فنصب أن.
وقال غير واحد من النحويين إن موضعها جائز أن يكون خفضاً وإن
سقطت " في " لأن " أن " الحذف فعها مستعمل، تقول جئت لأن تضرب
زيداً، وجئت أن تضرب زيداً، فحذفْتَ اللام مع " أن " ولو قلت
جئت ضربَ زيد
(1/298)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ
اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ
بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
تريد لضرب زيد لم يجز كما جاز مع " أن "
لأن " أن " إذا وصلت - دل ما بعدها على الاستقبال.
والمعنى: كما تقول: جئتك أن ضربت زيداً، وجئتك أن
تضرب زيداً، فلذلك جاز حذف اللام. وإذا قلت: جئتك ضرب زيد لم
يدل الضرب على معنى الاستقبال.
والنصب في " أن " في هذا الموضع هو الاختيار عند جميع
النحويين.
ومعنى الآية أنهم كانوا يعتلون في البر بأنهم حلفوا، فأَعلم
اللَّه أن الإثم
إِنما هو في الإِقامة على ترك البر والتقوى، وإن اليمين إذا
كفرت فالذنب فيها
مغفور، فقال عزَّ وجلَّ: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ
بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا
كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
فقيل في معنى اللغو غير قول، قال بعضهم معناه:
" لا واللَّه " و " بلى واللَّه " وقيل: إِن معنى اللغو الإِثم
-
فالمعنى لا يؤاخذكم اللَّه بالإِثم في الحلف إِذا كَفًرْتُمْ.
وإِنَّمَا قيل له لغو لأن الإثم يسقط فيه إذا وقعت الكفارة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ
قُلُوبُكُمْ).
أي بعَزْمكم على ألا تَبَروا وألا تتقوا، وأن تعتلوا في ذلك
بأنكم قد
حلفتم، ويقال: لغوت ألغو لغْواً، ولغوت ألْغَى لغواً، مثل محوت
أمحو
محواً، وأمْحَى، ويقال لغيت في الكلام ألغَى لَغًى، إِذا
أتيْتَ بلَغْو، وكل ما لا خير فيه مما يؤثَمُ فيه أو يكون غير
محتاج إليه في الكلام فهو لغو وَلَغِى.
قال العجاج:
عَنِ اللَّغا وَرَفَثِ التكلمِ.
وجملة الحلف أنه على أرْبَعَة أوجه، فوجهان منها الفقهاءُ
يجمعون أن
(1/299)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ
مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ
فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
الكفارةَ فيهمَا واجبة، وهو قولك: واللَّه
لا أفعل أو واللَّه لأفْعَلَنَّ، ففي هاتين الكفارة إِذا آثر
أن يُخَالف ما حلف عليه، إذا رأى غيره خيراً منه فهذا فيه
الكفارة لا محالة.
ووجهان أكثر الفقهاءُ لا يرون فيهما الكفارة، وَهُمَا قَولك: "
واللَّه ما
قد فعلت "،. وقد فعل أو " واللَّه لقد فعلت " ولم يفعل.
فهذا هو كذب أكَّدَهُ بيمين، فينبغي أن يستغفر اللَّه منه،
فهذا جملة ما في اليمين.
ويجوز أن يكون موضع " أن " رفعاً، فيكون المعنى: "ولا تجعلوا
الله عرضة
لأيْمَانِكُمْ، أنْ تَبروا وتَتَقُوا وتصلِحُوا أولَى، أي البر
والتقى أولى، ويكون أولى محذوفاً كما جاءَ حذف أشياءَ في
القرآن.
لأن في الكلام دليلاً عليها، يشبه هذا منه: (طاعة وقول معروف)
أي طاعة وقول معروف أمْثَل.
والنصب في ان والجرُ مذهب النحويين ولا أعلم أحداً منهم ذكر
هذا المذهب ونحن نختار ما قالوه لأنه جيد، ولأن الاتباع أحب
وإِن كان غيره جائزاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
معناه في هذا الموضع يسمع أيمانكم ويعلم ما تقصدون بها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ
تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ
غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
معنى (يُؤْلُونَ) يحلفون، ومعناه في هذا الموضع أن الرجل كان
لا يريد
(1/300)
وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا
يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ
إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي
عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ
دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
المرأة فيحلف ألا يقربها أبداً، ولا يُحب
أن يزوجها غيره، فكان يتركها لَا أيماً ولا ذاتَ زوج، كانوا
يفعلون ذلك في الجاهلية والِإسلام، فجعل اللَّه الأجل الذي
يعلم به ما عند الرجل في المرأة آخر مداه نهاية أربعة أشهر،
فإذا تمت أربعة أشهر ثمً لَمْ يَفئ الرجُلُ إلى امْرَأتِهِ، أي
لم يرجع إليها، فإِن امرأته بعد الأربعة - في قول بعضهم - قَد
بَانَتْ مِنْهُ، ذكر الطلاق بلسانه أم لم يذكره.
وقال قوْم يْؤخذ بعد الأربعة بأن يطلق أو يَفِيءَ.
ويقال آليت أولي إِيلَاءً واليةً، والُوَّةَ، وإِلِوَّةً، و
(إِيَلُ).
" والكسر أقل اللغات، ومعنى التربص في اللغة الانتظار.
وقال الذين احتجوا بأنه لا بد أن يذكر الطلاق بقوله عزَّ
وجلَّ:
(وإِنْ عَزَمُوا الطلَاقَ فإِنَ اللَّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
وقالوا (سميع) يدل على أنه استماع الطلاق في هذا الموضع، وهذا
في اللغة غير مُمْتَنِع، وجائز أن يكون إِنما ذكر (سميع) ههنا
من أجل حلفه.
أي اللَّه قد سمع حلفه وعلم ما أراده، وكلا الوجهين في اللغة
محتمل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ
يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ
يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا
وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ
وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
(228)
يقال طَلَقَتِ المرأةُ طَلَاقاً فهي طَالِق، وقد حكوا طَلُقتْ
وقد زَعم قَوم أن
تاءَ التأنيثِ حُذِفَتْ من " طالِقَة " لأنه للمؤنثِ لاحظ
للذكر فيه، وهذا ليس
بشيء، لأن في الكلام شيئاً كثيراً يشترك فيه الْمُذَكَر
والمؤَنثُ لا تثبت فيه الهاء في المؤَنث، نحو تولهم بعير ضامر،
وناقَةٌ ضَامِر، وبعير ساعل وناقة
(1/301)
ساعل، وهذا أكثر من أن يحصى.
وزعم سيبويه وأصحابه أن هذا وقع على لفظ التذكير صفة للمؤَنث
لأن المعنى شيء طالق، وحقيقته عندهم أنه على جهة النسب نحو
قولهم امراة مذكار ورجل مذكار، وامراة مئناث ورجل مئناث،
وإِنما معناه ذات ذكران وذات إِناث، وكذلك مطفل ذات طفل.
وكذلك طالق معناه ذات طلاق.
فإِذا أجريته على الفعل قلت طالقة.
قال الأعشى:
أيَا جارتَا بينِي فإِنكِ طَالِقَةٍ. . . كذاكِ امور النَّاسِ
غادٍ وَطَارقَة
وأما (ثلاثة قروءٍ) فقد اخْتَلَفَ الفقهاءُ وأهل اللغة في
تفسيرها وقد ذكرنا
في هذا الكتاب جملة قول الفقهاء وجملة قول أهل اللغة:
فأما أهل الكوفة فيقولون: الأقْرَاءُ الحَيض، وأما أهل الحجاز
ومالك
فيقولون الأقراء الطهر، وحجة أهل الكوفة في أن الأقراءَ و
(القِراءَ) والقروء
الحيض ما يروى عن أم سلمة إنها استفتت لفاطمة بنت أبي حبيش
وكانت
(1/302)
مستحاضة فقال - صلى الله عليه وسلم - تنتظر
أيام أقرائها وتغتسل فيما سوى ذلك فهذا يعني أنَّها تحبس عن
الصلاة أيام حيضها ثم تغتسل فيما سوى أيام الحيضَ، وفي خبر آخر
أن فاطمة سألته فقال إِذا أتى قرؤُك فلا تصلي، فإِذا مر
فَتَطَهَّرِي.
وصلِّي ما بين القرءِ إلى القرءِ، فهذا مذهب الكوفيين، والذي
يقويه من
مذهب أهل اللغة أن الأصمعي كان يقول: القُرءُ الحيض، ويقال
أقرأتِ المرأة إذا حاضت.
وقال الكسائي والقراء جميعاً أقرأت المرأة إذا حاضت فهِي
مقريءٌ، وقال القراءُ: أقرأت الحاجة إذا تأخرت.
وأنشدوا في القرء الحيض وهو بالوقت أشبه:
لَه قُروءٌ كقرُوُء الحائض
فهذا؛ هو مذهب أهل الكوفة في الأقراء، وما احتج به أهل اللغة
مما
يقوي مذهبهم، وقال الأخفش أيضاً: أقرأت المرأة إِذا حاضت، وما
قرأتْ
حيضة ما ضمَّت رحمَها على حيْضة.
(1/303)
وقال أهل الحجاز: الأقراءُ والقرُوُء واحد،
وأحدهما قَرءٌ، مثل قولك:
فَرْعٌ، وهما الأطهار، واحتجوا في ذلك بما يروى عن عائشة أنها
قالت الأقراءَ الأطهار، وهذا مذهب ابن عمرو ومالك، وفقهاءُ أهل
المدينة، والذَي يقوي مذهب أهل المدينة في أن الأقراءَ
الاطهار.
قول الأعشى:
مُورِّثَةً مالا وفي الأصل رفعة. . . لما ضاع فيها من قُروء
نسائِكا
فالذي ضاع هنا الأطهار لا الحيض.
وفي هذا مذهب آخر، وهو أن القرءَ الطهر، والقرء الحيض.
قال أبو عبيدة: إن القرءَ يصلح للحيض والطهر، قال وأظنهُ من
أقْرأتِ النُجومْ إِذَا غابت، وأخبرني من أثق به يدفعه إلى
يونس أن الِإقراءَ عنده يَصلح للحيض والطهر، وذكر أبو عمرو بن
العلاءِ أن القرءَ - الوقت، وهو يصلح للحيض ويصلح للطهر،
ويقال: " هذا قارئ الرِّياح ": لوقت هبوبها.
وأنشد أهل اللغة:
شَنِئث العُقْر عقر بني شلَيل. . . إِذا هبت لقاريها الرياحُ
(1/304)
أي لوقت هبوبها، وشدة بردها، ويقال " ما
قرأت الناقة سلا قط! أي
لم تضم رحمها على ولد، وقال عمرو بن كلثوم:
نريكَ إذا دخلت على خلاءٍ. . . وقد أمنتْ عيونَ الكاشِحينا
ذراعي عَيْطَلٍ أدماءَ بكر. . . هجينَ اللون لم تقرأ جنينا
وأكثر أهل اللغة يذهب إلى أنها لم تجمع ولداً قط في رحمها وذكر
قطرب هذا القول أيضاً، وزاد في لم تقرأ جنيناً أي لم تلقه
مجموعاً.
فهذا جميع ما قال الفقهاءُ وأهل اللغة في القرءِ.
والذي عندي أن القرءَ في اللغة الجمع، " وأن قولهم قَرَيْتُ
الماءَ في الحوض
من هذا، وإن كان قد ألْزِمَ الماء - فهو جمعته، وقولك قرأت
القرآن أي
لفظت به مجموعاً، والقرد يُقْرئُ، أي يجمع ما يأكل في بيته،
فإِنما القرءُ
اجتماع الدم في البدن، وذلك إنما يكون في الطهر، وقد يكون
اجتماعه في
الرحم، وكلاهما حسن وليس بخارج عن مذاهب الفقهاءِ، بل هو تحقيق
المذهبين، والمقرأة الحوضُ الذي يقرأ فيه الماءُ أي يجمع،
والمَقرَأ الِإناءُ
الذي يقرأ فيه الضيف.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا
خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ).
قيل فيه لا يحل لهن أن يكتمن أمر الولد لأنهن إِن فعلن ذلك
فإنما
يقصدن إِلى إِلزامه غير أبيه.
وقد قال قوم هو الحَيْض. وهو بالولد أشبه لأن ما خلق الله في
أرحامهن
أدل على الولد، لأن اللَّه جلَّ وعزَّ قال: (هُوَ الَّذِي
يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ)
(1/305)
وقال: (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ
عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا
الْمُضْغَةَ عِظَامًا) فوصف خلق الولد.
" ومعْنى: (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ).
تأويله إِن كن يصدقن باللَّه وبما أرهب به وخوف من عذابه لأهل
الكبائر
فلا يكتمن، كما تقول لرجل يظلمُ إِن كنت مؤمناً فلا تظلم، لَا
إنَّه يقول له
هذا مطلِقاً الظلم لغير المؤمن.
ولكن المعنى: إن كنت مؤمناً فينبغي أن يحجزك إِيمانك عن ظلمي.
ْوقوله عزَّ وجلَّ: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ
فِي ذَلِكَ).
بعولة جمع بَعْل، مثل ذكر وذكورة، وعم وعمومة أشبه ببَعْلٍ
وبعولة.
ويقال في جمع ذكر ذِكارة وحجر حِجَارة. وإِنما هذه الهاءُ
زيادة مؤَكدة
معنى تأْنيث الجماعة، ولكنك لا تدخلها إِلا في الأمكنة التي
رواها أهل
اللغة، لا تقول في كعب كعوبة ولا في كلب كِلابة، لأن القياس في
هذه
الأشياءِ معلوم، وقد شرحنا كثيراً مما فيه فيما تقدم من
الكتاب.
ومعنى (فِي ذَلِكَ) أَي في الأجل الذي امِرْنَ أن يتربصن فيه،
فأزواج
قبل انقضاءِ القروءِ الثلاثة أحق بردهن إِن رَدُّوهُنَّ على
جهة الِإصلاح، ألا ترى قوله: (إِنْ أرَادُوا إِصْلاَحاً).
ومعنى قوله عزَّ وجلَّ: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ).
أي للنساءِ مثل الذي عَليهنَّ بما أمر الله به من حق الرجل على
المرأة.
وهو معنى (بِالْمَعْرُوفِ).
(1/306)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ
فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا
يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ
شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ
فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلِلرِّجَالِ
عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ).
معناه زيادة فيما للنساءِ عليهن كما قال تعالى: (الرِّجَالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ
بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ
أَمْوَالِهِمْ).
والمعنى أن المرأة تنال من اللَّذة من الرجل كما ينال الرجل،
وله
الفضل بنفقته وقيامه بما يصلحها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
معناهُ مَلِكٌ يحكم بما أراد، ويمتحن بما أحب، إِلا أن ذلك لا
يَكون إِلا
بحكمة بالغة - فهو عزِيز حكيم فيما شرع لكم من ذلك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ
أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ
يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا
فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا
تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ
هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
(الطلاقُ) رفع بالابتداءِ، و (مرتان) الخبر، والمعنى الطلاق
الذي تمْلك فيه
الرجعة مرتان، يدل عليه (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ) المعنى
فالواجب عليكم إِمساك
بمعروف أو تسريح بإِحسان.
ولو كان في الكلام فإِمساكاً بمعروف كان جائزاً.
على فأمسكوهن إمساكاً بمعروف كما قال عزَّ وجلَّ:
(فأمسكوهن بمعروف أَو سرحوهن بمعروف)، ومعنى (بمعروف) بما يعرف
من إِقامة الحق في إِمساك المرأة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا
مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا).
أي مما أعطيتموهن من مهر وغيره.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا
حُدُودَ اللَّهِ).
قرئت (يَخَافا)، ويُحافَا - بالفتح والضم - قال أبو عبيدة
وغيره: معنى
(1/307)
فَإِنْ طَلَّقَهَا
فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا
غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ
يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
(230)
(إِلَّا أَنْ يَخَافَا) إِلا أن يوقنا،
وحقيقة قوله: (إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ
اللَّهِ) أن يكون الأغْلب عليهما وعندهما أنهما على ما ظهر
منهما من أسباب التباعد
الخوفُ في أن لا يقيما حدود اللَّه - ومعنى (حُدُودَ اللَّهِ)
ما حدَّه الله جلَّ وعزَّ مما لا تجوز مجاوزته إِلى غيره، وأصل
الحدِّ في اللغة المنع، يقال حَدَدْتُ الدار.
وحددت حدود الدار، أي بنيت الأمكنة التي تمنع غيرها أن يدخل
فيها.
وَحَدَدْتُ الرجل أقمت عليه الحد، والحد هو الذي به منع الناس
من أن
يدخلوا فيما يجلب لهم الأذى والعقوبة، ويقال أحدت المرأة على
زوجها
وحدت فهي حَادٌّ وَمُحدٌّ، إِذا امتنعت عن الزينة، وأحددت إليه
النظر إِذا منعت نظري من غيره وصرفته كله إِليه، وأحْدَدْتُ
السكين إِحْدَاداً.
قال الشاعر:
إِن العبادي أحَدَّ فأسَه. . . فعاد حدُّ فأسه برأسه
وَإِنَّمَا قيل للحديد حديد لأنه أمنع ما يمتنع به، والعرب
تقول للحاجب
والبواب وصاحب السجن: الحَدَّاد، وإِنما قيل له حداد لأنه يمنع
من يدخل
ومن يخرج، وقول الأعشى:
فقمنَا ولمَّا يصحْ ديكُنَا. . . إِلى خمرة عند حَدَّادها
أي عند ربها الذي منع منها إِلا بما يريد.
ومعنى: (فلا تَعْتَدُوهَا): أي لَا تُجَاوِزُوهَا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ
بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ
يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ
يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
أي فإِن طلقها الثالثة، لأن الثنتين قد جرى ذكرهما أيْ فلا تحل
له حتى
تتزوج زوجاً غيره، وفعل الله ذلك لعلمه بصعوبة تزوج المرأة على
الرجل،
(1/308)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا
تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ
فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ
هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا
أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ
بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
فحرم عليه التزوج بعذ الثلاث لئلا يعجلوا
بالطلاق، وأن يَتَثَنتُوا.
وقوله عزَّ وجلَّ: (بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) يدل على ما قلناه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا)
أي فإن طلقها الزوج الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن
يتراجعا، وموضع أن نصب، المعنى لا يَأثمان في أن يتراجعا.
فلما سقطت " في " وصل معنى الفعل فنصب - ويجيز الخليل أن يكون
موضع أن خفضا علىْ إِسقاط " في " ومعنى إرادتها في الكلام.
وكذلك قال الكسائي.
والذي قالاه صواب لأن " أن " يقع فيها الحذف، ويكون جعلها
موصولة عوضاً مما حذف، ألا ترى أنك لو قلت لا جناح عليهما
الرجوع لم يصلح. والحذف مع أن سائغ فلهذا أجاز الخليل وغيره أن
يكون موضِع جر على إِرادة في.
ومعنى. (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ).
أي إنْ كان الأغلب عليهما أن يقيما حدود اللَّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا
لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ).
ويُقْرأ "نبينُهَا" بالياءِ والنون جميعاً.
(لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) أي يعلمون أن وعد اللَّه حق وأن ما أتى
به رسوله صدق.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا
تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ
وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
أي وقت انقضاءِ عدتهن.
(فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ
بِمَعْرُوفٍ).
أي اتركوهن حتى ينقضي تمام أجلهن ويكن أملك بأنفسهن.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا).
(1/309)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ
يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى
لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا
تَعْلَمُونَ (232)
أي لا تمسكوهن وأنتم لا حاجة بكم إليهن،
وقيل إنه كان الرجل يطلق
المرأة ويتركها حتى يقرب انقضاءُ أجلها ثم يراجعها إضراراً
بها، فنهاهم الله
عن هذا الإضرار بهن.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ).
أي عَرَّضَها لعذاب اللَّه عزَّ وجلَّ: لأن إتيانَ ما نهى
اللَّه عنه تعرض
لعذابه، وأصل الظلم وضع الشي - في غير موضعه وقد شرحنا ذلك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا)
أي ما قد بينه لكم من
دلالاته، وعلاماته في أمر الطلاق وغيره.
وقيل في هذا قولان: قال بعضهم: كان الرجل يُطَلِّقُ وُيعْتِقُ
ويقول:
كنت لاعباً، فأعلم الله عز وجل أن فرائضه لا لعب فيها، وقال
قوم: معنى (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا)، أي لا
تَتْركُوا العَمل بما حدَّد اللَّه لكم فتكونوا مقصرين لاعبين
كما تقول للرجل الذي لا يقوم بما يكلفه، - ويتَوَانى فيه: إنما
أنت لاعب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ
أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ
ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
(فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ).
هذا مخاطبة للأولياءِ، وفي هذا دليلُ أن أمر الأولياءِ بين.
لأنَّ المطلَّقة التي تراجع إِنما هي مالِكة بُضْعها إلا أن
الولي لا بُد منه، ومعنى
(تَعْضُلوهُنَّ): تمنعوهُنَّ وتحبسوهنَّ، من أن ينْكِحن
أزْواجَهُنَّ.
والأصْل في هذَا فيما رُوي أن معقل بن يسَار طلق أختَه زوجُها،
(1/310)
وَالْوَالِدَاتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ
أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ
نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا
وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ
ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا
وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ
تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا
سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
فَأبى معقل بن يَسار أن يزَؤَجَها إيَّاه،
ومَنَعَها بِحَقّ الولاَية منْ ذلك، فلما نزلت هذه الآية تلاها
عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال معقل: رَغِمَ
أنْفِي لأمْر اللَّه.
وأصل العَضْل من قولهم: عضلت الدجاجة، فهي مُعْضَل، إذا احتبس
بيضها ونَشَبَ فلم يَخْرج، ويقَال عضلت الناقة أيضاً، فهي
معْضَل إِذا احْتَبس ما في بَطْنِهَا. . .
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ
يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).
أي بأمر الله الذي تلا عليكم، (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ
مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ)، أي من صدق
بأمر اللَّه ووعيده والبعث وأطاع اللَّه في هذه الحدود.
وقال (ذلك يوعظ به) وهو يخاطب جميعاً، وقد شرحنا القول فيه
فيما
تقدم.
وقال بعض أهل اللغة: إنه توُهِّمَ أنَّ ذَا مع الْمعَارف كلمة
واحدة.
ولا أدْري - منْ غَير قائل هذا - بهذا التوَهم. الله خاطب
العرب بما يعقلونه
وخاطبهم بأفصح اللغات، وليس في القرآن توهم، تعالى اللَّه - عن
هذا، وإِنما حقيقة ذلك وذلكم مخاطبَة الجميع، فالجميع لفظه لفظ
واحد، فالمعنى ذلكَ أيها القبيل يُوعظ به من كان منكم يؤمن
باللَّه، وقوله عزَّ وجلَّ بعد هذا.
(ذَلُكُمْ أزْكَى لَكمْ وأطْهَرُ).
يَدُل على أنَّ " ذلك " - و " ذلكم " مخاطبة للجماعة.
ومعنى (واللَّهُ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ).
أي الله يعلم ما لكم فيه الصلاح في العاجل والآجل، وأنتم غير
عالمين
إِلا بما أعلمكم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ
حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا
وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ
لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ
أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا
أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا
آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا
أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
(1/311)
اللفظ لفظ الخبر والمعنى الأمر كما تقول:
حسبك درهم فلفظه لفظ
الخبر، ومعناه اكتف بدرهم، وكذلك معنى الآية لترضع الوالدات
يقال
أرضعت المرأة فهي مرضعة، (قولهم) امرأة مرضع بغير هاءٍ، معناه
ذات
إِرضاع، فإذا أردتم اسْمَ الفاعلَ عَلى أرضعَتْ قلتَ مرضعة لا
غير.
ويقال: رُضِعَ المولود يُرْضَع، وَرَضَعَ يرْضَع، والأولى أكثر
وأوضح.
ويقال: الرضَاعَةُ والرضَاعَةُ - بالفتح والكسر - والفتح أكثرُ
الكلام وأصحه، وعليه القراءَة (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضَاعَةَ).
وروى أبو الحسن الأخفش أن بعض بني تميم تقول الرضاعة بكسر
الراءِ، وروى الكسرَ أيضاً غيره، ويقال: الرَّضاع والرضَاعَ
ويقال: ما حمله
على ذلك إِلا اللؤْم والرضَاعَة بالفتح لا غير ههنا.
ويقال: ما حمله عليه إِلا اللؤْم والرضْع مثل. الحلْف
والرضْعُ، يقالان
جميعا.
ومعنى (حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ) أربعة وعشرون شهراً، من يوم
يولد إِلى يوم
يفطم، وإِنما قيل: (كَامِلَيْنِ) لأن القائل يقُول: قد مضى
لذلك عامان وسنتان فيجيز أن السنتين قد مضتا، ويكون أن تبقى
منهما بقية، إِذا كان في الكلام دليل على إِرادة المتكلم فإِذا
قال: (كَامِلَيْنِ) لم يجز أن تنقصا شيئاً، وتقرأ (لمن أراد أن
تَتِمَ الرضاعةُ) و (لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ
الرَّضَاعَةَ)
وهذا هو الحقُّ في الرضاعة إِلا أن يتراضيا - أعني الوالدين -
في الفطام بدون الحولين وُيشَاوَرَا في ذلك.
(1/312)
ومعنى (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ
رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ).
- أي على الزوج رزْق المرأة المطلقة إذا أرضعت الولد وعليه
الْكِسْوة.
ومعنى بالمعروف، أي بما يعرفون أنه العدل على قدر الإمكان.
ومعنى (لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا).
أي لا تكلف إلا قدر إمكانها.
وقوله عزَّ وجلَّ: (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا).
قرئت على ضربين لا تضارُّ والدة برفع الراءِ على معنى: لا تكلف
نفْس، على الخبر الذي فيه معنى الأمر، ومن قرأ: (لَا تُضَارَّ
وَالِدَةٌ) بفتح
الراءِ، فالموضع موضع جزم على النهي.
الأصل: لا تُضَاررْ، فأدغمت الراءُ الأولى في الثانية وفتحت
الثانية لالتقاءِ السَّاكنين، وهذا الاختيار في التضعيف إِذا
كان قبله فتح أو ألف الاختيار عضَّ يا رجل، وضَارَّ زيداً يا
رجل، ويجوز
لَا تُضَار والدة بالكسر، ولا أعلم أحداً قرأ بها، فلا تقرأنَّ
بها، وإِنما جاز
الكسر لالتقاءِ السَّاكنين لأنه الأصل في تحْريك أحد
السَّاكنين.
ومعنى (لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا): لا تترك إِرضاع
ولدها غيظاً على أبيه فَتضرَّ بهِ لأن الوالدة، أشفق على ولدها
من الأجنبية.
(وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ).
أي لا يأخذْه من أمه للإضرار بها فيضُر بولَدِهِ.
(وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) أي عليه ترك الإِضرار.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ
مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ).
أي فِطاماً وتراضياً بذلك بعد أن تشاورا وعلماً أن ذلك غير
مدخل على
الولد ضرراً.
(1/313)
وَالَّذِينَ
يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا
بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا).
أي فلا إثم عليهما في الفصال على ما وصفنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا
أَوْلَادَكُمْ).
معناه تسترضعوا لأولادكم غير الوالدةِ، فلا إثم عليكم.
(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ
بِالْمَعْرُوفِ).
قيل فيه إذا سلمتم الأمر إلى المسترضَعةِ وقيل إذا أسلمتم ما
أعطاه
بعضكم لبعض من التراضي في ذلك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
هذا للمتوفى عنها زوجُهَا، عليها أن تنتظر بعد وفاته إِذا كانت
غير ذاتِ
حمْل أربعةَ أشْهُر وعشْراً لا تتزوج فيهن ولا تستعمل الزينة.
وقال النحويون في خبر (الذين) غير قول:
قال أبو الحسن الأخفش المعني يتربصن بعدهُمْ أو بعد موتهم،
وقال
غَيْرُه من البصريين أزوَاجُهُمْ يتربصن، وحذف أزواجهم لأن في
الكلام دليلاً
عليه، وهذا إطباق البصريين وهو صواب.
وقال الكوفيون: وهذا القول قول الفراءِ وهو مذهبه أنَّ
الأسماءَ إِذا
(1/314)
كانت مضافة إِلى شيءٍ، وكان الاعتماد في
الخبر الثاني، أخبر عن الثاني وتُرِكَ
" الإخبار عن الأول، وأغنى الإِخبارُ عن الثاني عن الإخبار عن
الأول.
قالوا: فالمعنى: وأزواج الذين يتوفون يتربصن.
وأنْشَد الفَراءُ:
لَعَلِّي إِنْ مالَتْ بي الرّيحُ ميْلَةً. . . على ابن أبي
ذَبَّانَ أن يتقدما
المعنى: لعل ابن أبي ذُبَّان أن يتقدم إِليَّ مالت بِي الريح
ميلة عليه.
وهذا القول غير جائز. لا يجوز أن يَبْدَأ اسم ولا يحدَّث عنه
لأن الكلام إِنما
وضع للفائدة، فما لا يفيد فليس بصحيح، وهو أيضاً من قولهم
محال، لأن
الاسم إنما يرفعه اسم إذا ابتدئ مثله أو ذكر عائد عليه، فهذا
على قولهم
باطل، لأنه لم يأت اسم يرفعه ولا ذكر عائد عليه.
والذي هو الحق في هذه المسألة عندي أن ذكر (الذين) قد جرى
ابتداءً
وذكر الأزواج قد جرى متصلاً بصلة الذين، فصار الضمير الذي في
(يَتَرَبَّصْنَ)
يعود عَلَى الأزواجِ مضافاتٍ إِلى الَّذِينَ. .
كأنك قلت: يتربَّصُ أزواجهم، ومثل
(1/315)
هذا من الكلام قولك الذي يموت ويُخلف
ابنَتَينِ ترثان الثلثين، المعنى ترث
ابنتاه الثلثين.
ومعنى قوله عزَّ وجلَّ: (وَعَشْرًا) يدخل فيها الأيام.
زعم سيبويه أنك إِذا قلت " لخمس بَقِينَ " فقد علم المخاطب أن
الأيام
داخلة مع الليالي، وزعم غيره أن لفظ التأنيث مغلَّبٌ في هذا
الباب.
وحكى الفرَّاءُ صُمْنَا عَشْراً من شهر رمضان، فالصوم إنَّما
يكون في
الأيَّامِ ولكن التأنيث مغلَّبٌ في الليالي - لِإجْمَاعِ أهل
اللغة
" سرْنَا خَمْساً بيْنَ يوْمٍ وليلة "
أنشد سيبوبه:
فطافت ثلاثأ بيْنَ يوم وليلة. . . يكون النكير أنْ تَصيح
وتَجْأرَا
قال سيبوبه هذا باب المؤَنث الذي استعمل للتأنيث والتذكير،
والتأنيث
أصله، قال تقول: عندي ثلاث بطات ذكور وثلاث منَ الِإبل ذكور،
قال لأنك تقول: هذه إبل، وكذلك ثلاث من الغنم ذكور.
(قال) فإن قلت عندي ثلاثة ذكورٍ من الِإبل لم يكن إلا
التَّذكير، لأنك إِنما ذكرت ذكوراً ثم جئت تقول من الإبل بعد
أن مضى - الكلام على التذكير، وليس بين النحويين البصريين
والكوفيين خلاف في الذي ذكرنا من باب تأنيث هذه الأشياءِ
فإن قلت عندي خمسة بين رجل وامرأة غلبت التذكير لا غير.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ)
(1/316)
وَلَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ
أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ
سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا
إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا
عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ
فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
أي غَاية هذه الأشهر والعشر.
(فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ
بِالْمَعْرُوفِ).
أي لا جناح عليكم في أن تتركوهن - إذا انقضت هذه المدة - أن
يتزوجن، وأن يتزين زينةً لا ينكر مثلها.
وهذا معنى (بالمعروف).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ َ: (وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ
فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ
وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا
قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ
حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
المعنى أنه لاجناح على الرجل أن يُعَرِّضَ للمرأة التي هي في
عدَّةِ
بالتزويجِ. والتعريض أن يقول إني فيك لراغب.
وإِن قضى الله أمراً كان، وما أشبه هذا من القول.
ولا يجوز أن يقطع أمر التزويج والمرأة لم تخرج من
عدتها، ومعنى خِطْبَة كمعنى خَطْب، أما خطْبة فهو ماله أول
وآخر نحو
الرسالة، وحُكِيَ عن بعض العرب " اللهم ارفع عنا هذه الضُغْطَة
" فالضغْطَة
ضَغْطْ له أول وآخر متصل.
ومعنى: (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ).
يقال في كل شيء تستره أكْننته وكَننَتْه، وأكْننته فيِما
يَسْترهُ أكثر، وما
صُنْتَه تقول فيه كننته فهو مكنون.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49).
أي مَصون، وكل واحدة منْهما قَريبَة من الأخرى.
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا).
قال أبو عبَيدَةَ: السِّر الإفْصَاح بالنكاح وأنشد:
ويحْرم سرُّ جارَتهمْ عليْهمْ. . . ويأْكلُ جَارُهَمْ أنفَ
القصَاع
(1/317)
لَا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ
تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً
وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى
الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ (236)
وقال غيره: كَأن السِّرَ كناية عن الجماع -
كما أن الغائطَ كناية عن
الموضع وهذا القول عندي صحيح.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ).
معناه: لا تَعْزموا على عَقْدِ النكاح، وحذف " عَلَى "
استخفافاً كما تقول:
ضرب زيد الظهر والبطن، معناه على الظهر والبطن، وقال سيبويه:
إِن الحذف في هذه الأشياءِ لا يقاس.
وقوله عزَّ وجلَّ: (حَتَّى يَبْلُغَ الكتابُ أجَلَهُ).
فعناه حتى يبلغ فرض الكتاب أجله، ويجوز أن يكون الكتاب نفسه في
معنى الفرض، فيكون المعنى حتى يبلغ الفرضُ أجلَه -
كما قال: عزَّ وجلَّ: (كُتِبَ عَلَيْكُم الصِّيَامُ) أي فرض
عليكم، وِإنَّمَا جَازَ أن يَقَعَ (كُتِبَ) في معنى فُرِضَ،
لأن ما يكتب يقع في النفوس أنه ثَبَتَ، ومعنَى هذا الفرض الذي
يبلغ أجله أيام عدة المطلقة والمتوفي عنها زوجها.
* * *
ْوقوله عزَّ وجلَّ: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ
فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى
الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ (236)
فقد أعلم الله في هذه الآية أن عقد التزويج بغير مهر جائز،
وأنه لاَ إِثْم
على من طلق من تزوج بها من غير مهر كما أنه لا إِثم على من طلق
من تزوج
بمهر، وأمر بأن تمتع المتزوج بها بغير مهر إذا طلقت ولم يدخل
بها فقال اللَه
عزَّ وجلَّ: (ومَتعُوهُن على المُوسِع قَدَرُه وعلى المُقْتِر
قَدَرُه).
و (قَدرُهُ)، يُقْرآن جميعاً، فقالوا إِن التَمتُّعَ يَكونُ
بأشياءَ بأنْ تَخدَم المرأة
(1/318)
وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ
فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا
أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ
النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا
تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
وبأن تُكْسَى، وبأن تُعْطى ما تُنفِقُه،
أيَّ ذَلكَ فَعَلَ يُمَتعُ، فذلك جائز له على
قدر إمكانه.
وقوله عزَّ وجلَّ: (مَتَاعاً بالْمَعْرُوفِ).
أي بما تعرفون أنه القصد وقدر الإِمكان، ويجوز أن يكون نصب
(متاعاً
بالمعروف)، على قوله: ومتعوهن متاعا، يجوز أن يكون منصوباً على
الخروج من قوله: على الموسع قدره متاعاً أي مُمَتِّعاً متاعاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (حَقاً عَلَى المُحْسِنينَ).
منصوب على حق ذلك عليهم حقاً، كما يقال حققت عليه القضاءَ
وأحققته، أي أوجبته.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ
مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي
بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ
لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ
اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
أي فعليكم نصف ما فرضتم، ويجوز النصب - (فنصف ما فرضتم).
المعنى فَأدُّوا نصفَ ما فرضتم، ولا أعلم أحداً قرأ بها فإِن
لم تثبت بها رواية
فلا تَقْرَأنَّ بها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِلًا أنْ يَعْفُونَ أوْ يَعْفُوَ الذي
بِيَدِهِ عُقْدَة النِّكَاحِ).
المعنى إلا أن يعفوَ النساءُ أو يعفوَ الذي بيده عقدة النكاح،
وهو الزوج
أو الولي إِذَا كان أباً.
ومعنى عَفْو المرأة - أن تعفو عن النصف المواجب لها من
المهر فتتركه للزوج، أو يعفو الزوج عن النصف فيعطيها الكل.
وموضع (أن يعفون) نصب بأن، إِلا أن جماعة المؤَنث في الفعل
المضارع تستوي في الرفع والنصب، والجزم، وقد بيَّنَّا ذلك فيما
سلف من الكتاب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى
وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ).
ظاهر هذا الخطاب للرجال خاصة دون النساءِ، وهو محتمل أن يكون
.
(1/319)
حَافِظُوا عَلَى
الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ
قَانِتِينَ (238)
للفريقين لأن الخطاب إِذا وقع على مذكرين
ومَؤنثين غلب التذكير لأن الأول
أمكن.
والأجود في قوله: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)
الضمُ.
ويجوز ُ وَلاَ تَنْسَوْ الفضل بينكم) - وقد شَرَحْنَا العلة
فيه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ
الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)
قالوا: (الصلاة الوسطى) العصر - وهو أكثر الرواية، وقيل إِنها
الغداة وقيل
إنها الظهر.
واللَّه قَدْ أمر بالمحافظة على جميع الصلَوَاتِ إِلا أن هذه
الواو إذا
جاءَت مخصصَةً فهي دالة على الفضل للذي تُخَصصُه كما قال: عز
وجل:
(مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ
وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) فذكرا مخصوصين
لفضلهما على الملائكة، وقال يونس النحوي في قوله عزَّ وجلَّ:
(فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ) إِنما خص النخل
والرمان وقد ذكرت الفاكهة لفضلها على سائرها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ).
القانِت المُطيع والقَانِت - الذاكر اللَّه، كما قال عزَّ
وجلَّ: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا
وَقَائِمًا) وقيل القانت العابد -
وقالوا في قوله عزَّ وجلَّ: (وكانت من القانتين) أي العابدين.
والمشهور في اللغة والاستعمال أن القنوت: الدعَاءُ في القيام،
وحقيقة
القانت أنه القائم بأمر اللَّه، فالداعي إِذا كان قائماً خص
بأن يقال له قانت،
(1/320)
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ
اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
لأنه ذاكر الله عزَّ وجلَّ وهو قائم على
رجليه. فحقيقة القنوت العبادَة والدعاءُ لله في حال القيام.
ويجوز أن يقع في سائر الطاعة، لأنه إِنْ لم يكن قياماً
بالرجْلين فهو قيام بالشيء بالنية.
* * *
ومعنى: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا
أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ
تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
أي فصلوا ركباناً أو رجالاً، ورجَال جمع راجل ورجال، مثل صاحب
وصِحَاب، أي إن لم يمكنكم أن تقوموا قَانتين أي عابدين
مُوَفِّينَ الصَّلَاةَ حقَهَا
لخوف ينالَكم، فصلوا رجالاً أو ركباناً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ
كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ).
أي فَإِذَا أمِنْتُم فَقُومُوا قانتين مُؤَدِّينَ للفرض.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ
وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا
إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا
جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ
مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
(وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ) و (وصيةٌ لأزواجهم) يقرءَان
جميعاً.
فمن نصب أراد فلْيوصوا وَصِيةً لأزواجهم.
ومن رفع فالمعنى فَعَلَيْهِم وصيةٌ لأزواجهم.
(مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ)
أي مَتَعُوهُنَّ مَتَاعاً إِلى الحَول، ولا تخرجوهن، وهذا
منسوخ بإِجماع.
نسخَهُ ما قبله وقد بَينَاه.
وقيل إِنه نسخته آية المواريث وكلاهما - أعني ما
أمر الله به من تربص أربعة أشهر وعشراً، وما جعل لهن من
المواريث قد
نسخه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ
آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
(1/321)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ
الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ
إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
آياته علاماته ودلالاته على ما فرض عليكم،
أي مثل هذا البيان يبين
لكم ما هو فرض عليكم، وما فرض عليكم.
ومعنى (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) معنى يحتاج إِلى تفسير يبالغ
فيه، لأن أهل
اللغة والتفسير أخبروا في هذا بما هو ظاهر، وحقيقة هذا أن
العاقل ههنا أهو، الذي يعمل بما افْتُرِضَ عليه، لأنه إِن فهم
الفرض ولم يعمل به فهو جاهل
ليس بعاقل، وحقيقة العقل هو استعمال الأشياءِ المستقيمة متى
عُلمَت، ألا
ترى إِلى قوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى
اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ
يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ)، لو كان هُؤلاء جهالاً غيرَ مميزين
ألبَتَّةَ لسقط عنهم
التكليف، لأن الله لا يكلف من لا يميز، ويقال جهال وإِن كانوا
مميزين. لأنهم آثروا هواهم على ما علموا أنه الحق.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ
دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ
اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ
عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ
(243)
معنى (أَلَمْ تَرَ) ألم تعلم، أي ألم ينته علمك إلى خبر
هؤُلاءِ وهذه
الألف ألف التوقيف، و (تَرَ) متروكة الهمزة، وأصله ألم ترءَ
إلى الذين.
والعرب مجمعة على ترك الهمزة في هذا.
ونصب (حَذَرَ الْمَوْتِ) على أنه مفعول له والمعنى خرجوا لحذر
الموت، فلما سقطت اللام نصب على أنه مفعول له وجاز أن يكون
نَصبه على المصدر، لأن خروجهم يدل على حذر الموت حذراً.
وقيل في تفسير الآية: إِنهم كانوا ثمانية ألوف، أمروا في أيام
بني إسرائيل
(1/322)
وَقَاتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(244)
إِسرائيل أن يجاهدوا العَدُوَّ، فاعتلوا
بأن الموضع الذي ندبوا إِليه ذو طاعون.
(فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا).
معناه فاماتهم اللَّه، ويقال إِنهم أمِيتوا ثمانية أيامٍ ثم
أُحْيوا، وفي ذكر
هذه الآية للنبي - صلى الله عليه وسلم - احتجاج على مشركي
العرب وعلى أهل الكتاب من إليهود والنصارى، أنه أنْبَأ أهلَ
الكتاب بما لا يدفعون صِحَتَه، وهو لم يقرأ كتاباً - صلى الله
عليه وسلم -.
فالذين تلا عليهم يعلمون إنَّه لمَ يقرأ كتاباً وأنه أمي، فلا
يَعْلَم هذه
الأقاصيصَ إِلا بوحي، إذْ كانَتْ لَمْ تعْلَم من كتاب فعلم
مشركو العرب أن كل من قرأ الكتب يصدقه - صلى الله عليه وسلم -
في إخباره أنها كانت في كتبهم، ويعلم العرب الذين نشأ معهم مثل
ذلك وأنه ما غاب غيبة يُعَلَّم في مثلها أقاصيصَ الأمم
وأخبارَها على حقيقة وصحة، وفي هذه الآية أيضاً معنى الحث على
الجهاد.
وأن الموت لا يُدْفَعُ بالهَرَب منه.
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى
النَّاسِ).
أي تفضل على هُؤلاءِ بأنْ أحياهم بعدَ مَوْتهم
فأراهم البَصِيرَةَ التي لا غَايةَ بعدها.
وقوله عزَّ وجلَّ: يَعقِب هذه الآية:
(وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
اى لا تهربوا من الموت كما هرب هؤُلاءِ الذين سمعتم خبرهم، فلا
ينفعكم الهرب.
ومعنى قوله عزَّ وجلَّ مع ذكر القتال: (وَاعْلَمُوا أَنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
(1/323)
مَنْ ذَا الَّذِي
يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ
أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ
وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
أي إن قلتم كما قال الذين تقدم ذكرهم بعلة
الهرب من الموت سمع
قولكم وعلم ما تريدون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا
حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ
يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
معنى القرض في اللغة البلاء اسيئ، والبلاء الحَسَن، والعرب
تقول:
لك عندي قرض حسن وقرض سيئ، وأصلهُ مَا يُعْطِيه الرجلُ أو
يَعْملُه ليجازَى عليه، واللَّه عزَّ وجلَّ: لا يَستَقْرض من
عَوَز ولكنه يَبْلو الأخبار، فالقرض كما وصفنا، قال أميةُ بنُ
أبي الصلت:.
لا تَخْلِطَن خَبِيثاتِ بطيبةٍ. . . وأخلعْ ثيابَك منهَا وانجُ
عُريَانَا
كل امرىءِ سوف يُجْزَى قَرضَه حَسناً. . . أو سيئاً أو
مَدِينَا كالذي دانا
وقال الشاعر:
وإذا جُوزِيتَ قرضا فاجزه. . . إِنَما يَجْزِي الفتى ليس الجمل
فمعنى القرض ما ذكرنَاهُ.
قأعلم اللَّه أن ما يعْمل وينفق يرادُ به الجزاءَ فاللَّه
يضاعفه أضعافاً كثيرة.
والقراءَة فيضاعفَه، و (قرأوا): فيضاعفُه، بالنَّصب والرفع فمن
رفع
عطف على يقرض، ومن عطف نصب على جواب الاستفهام وقد بَينا
(1/324)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ
قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا
نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ
دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ
الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
الجَوابَ بالفاء - ولو كان قرضاً ههنا
مصدراً لكان إقراضاً، ولكن قرضاً ههنا اسم لكل ما يلتمس عليه
الجزاء.
فأما قرضته أقرُضه قرضاً: فجاوزته، وأصل القرض في اللغة القطع.
والقِرَاضُ من هذا أخِذ، فإنما أقرضته قطعت له قطعة يجازى
عليها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ).
قيل في هذا غير قول: قال بعضهم: معناهُ يُقَترُ ويوسعُ، وقالَ
بعضهم
يَسْلُب قوماً مَا أنعَمَ علَيهِم ويوسع عَلَى آخَرين (وقيل
معنى - يقبض) أي
يقبض الصدقات ويخلفها، وإخلافها جائز أن يكون ما يعطي من
الثواب في
الآخرة، وجائز أن يكون مع الثواب أن يخلفها في الدنيا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ
لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ
أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا
وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ
تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
بِالظَّالِمِينَ (246)
الملأ أشراف القوم ووجوههمْ، ويروي أن النَبِي - صلى الله عليه
وسلم - سَمِعَ رجلًا من الأنصار وقد رجعوا من بدر يقول: ما
قتلنا إلا عَجَائِزَ ضلْعاً، فقال - صلى الله عليه وسلم -:
أُولَئِكَ المَلَاءُ من قريش، لو حضرتَ فعالهم لاحتَقرْتَ
فِعْلَك، والملأ في اللغة الخلُق، يقال أحْسِنوا مَلأكم، أي
أخْلَاقَكمْ قال الشاعر:
تَنَادَوْا يآل بهثَةَ إذ رأونَا. . . فقلنا أحسِني مَلًأ
جُهَيْنَا
أي خلقاً، ويقال: أحسني ممَالأةً أي معَاونَةً، ويقال رجل
مَلِيء -
مهموز - أي بَين المَلآء يا هذا - وأصِل هذا كله في اللغة من
شيء واحد.
فالمَلأ الرؤساء إِنما سمُّوا بذلك لأنهم ملءٌ بما يحتاج إليه
منهم. والمَلأ الذي
(1/325)
في الخُلُق، إنما هو الخلق المليء بما
يحتاج إليه، والملا: المُتسَعُ من
الأرض غير مهموز، يكتب بالألِف - والياءِ في قول قوم - وأما
البصريون
فيكتبون بالألِف، قال الشاعر في الملا المقْصورِ الذي يدل على
المتسَع من
الأرض:
ألَا غنيانِي وارفعا الصوتَ بالمَلا. . . فإن المَلَا عندي
يزيد المَدَى بُعْدا
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ).
الجَزْمُ في (نُقَاتِلْ في سبيل اللَّه) الوجهُ على الجوابِ
للْمسْألَة الَّتِي في
لَفْظِ الأمْر، أي ابْعَثْ لَنَا - مَلِكاً نُقاتِلْ، أي إنْ
تَبعث لنا مَلِكاً نُقَاتِلْ في سبيل الله، ومن قرأ " مَلِكاً
يُقَاتِلُ " بالياءِ، فهو على صفة المَلِك ولكن نقاتلْ هو
الوجهُ الذي عليه القراء، والرفع فيه بعيد، يجوز على معنى
فَإنا نقاتل في سبيل الله، وكثيرٌ مِن النَّحوِّيينَ، لا
يُجِيزُ الرفْعَ فِي نُقَاتِل. -
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا)
أي لعَلكم أن تَجْبنُبوا عَنِ القتال، وقرأ بعضُهم: هل عَسِيتم
بكسر السين
إن كتب عليكم القتال، وهي قراءَة نافع، وأهل اللغة كلهم يقولون
عَسَيْتُ أن أفْعَلَ ويختارونه، وموضع (ألَّا تُقَاتِلُوا)
نَصْبٌ أعني موضع " أنْ " لأن
(أنَّ) وما عملت فيه كالمصدر، إِذا قلت عسيت أن أفعل ذاك فكأنك
قلت عسيت فعل ذَلِكَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ).
(1/326)
وَقَالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ
مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا
وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً
مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ
وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ
يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
(247)
زعم - أبو الحسن الأخفش أنَ " أنْ " ههنا
زائدة - قال: المعنى وما لنا
لا نقاتل في سبيل اللَّه، وقال غيره، وَمَا لَنَا فِي ألا
نُقاتل في سبيل اللَّه.
وأسقط " في " وقَال بعْضُ النحويين إنما دخلت " أن" لأنَّ " ما
" معناه ما يمنعنا
فلذلك دخلت " أن " لأن الكلام ما لك تفعل كذا وكذا.
والقول الصحيح عندي أنَّ " أن " لا تلغى ههنا، وأن المعنى وأي
شي
لنا في أنْ لا نقاتل في سبيلِ اللَّه، أي أي شيء لنا في ترك
القتال.
(وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)
ومعني (وَأَبْنَائِنَا)، أي سُبِيَتْ ذرارينا.
ولَكِنَّ " في " سقطت مع " أن " لأن الفعلَ مُستَعمل مع أن
دالا على وقت
معلوم، فيجوز مع " أن " يحذف حرف الجر كما تقول: هربت أن أقول
لك
كذا وكذا، تريد هربت أن أقول لك كذا وكذا.
وقوله عزَّ وجلّ؛ (تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ).
(قليلاً) منصموب على الاستثناءِ، فأما - من روى " تَولوْا إِلا
قليلٌ منهم " فلا أعرف هذه القراءَة، ولا لها عندي وجه، لأن
المصحف على النصب والنحو يوجبها، لأن الاستثناء - إِذا كان
أولُ الكلام إِيجاباً - نحو قولك جاءَني القوم إلا زيداً -
فليس في زيد المستثنى إِلا النصب - والمعنى تولوا أسْتَثْنِي
قَليلاً مِنْهم - وإِنما ذكرت هذه لأن بعضهم روى " فشربوا منه
إِلا قليلٌ منهم " وهذا عندي ما لا وجه له.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ
قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ
لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ
وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ
اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ
وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ
وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
(1/327)
أي قد أجابكم إلى ما سألتم. من بعث ملك
يقاتل، وتقاتلون معه
وطالُوت وجالُوت وداوُد. لا تنصرف لأنها أسماء أعجمية، وهي
معارف فاجتمع فيها شيئان - التعريف والعجمة، وأما جاموس فلو
سميت به رجلًا لانصرف، وإن كان عجمياً لأنه قدتمكن في العربية
لأنك تدخل عليه الألف واللام، فتقول الجاموس والراقُودُ.
فعلى هذا (قيَاسُ جميع) الباب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا).
أي من أي جهة يكون ذلك.
(وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) أي لم يؤت ما
تَتَمَلَّكُ به الملوك.
فأعلمهم اللَّه أنه (اصطفاه) ومعناه اختاره، وهو " افتعل " من
الصفوة.
والأصل اصتفاه فالتاءُ إذا وقعت بعد الصاد أبدلت طاء لأن التاء
من مخرج
الطاء، والطاء مطبقة، كما أن الصادَ مطبقة، فأبدلوا الطاء من
التاء، ليسهل النطق بما بعد الصاد، وكذلك افتعل من الضرب:
اضطرب، ومن الظلم اظطلم، ويجوز في اظطلم وجهان آخران، يجوز
اطَّلم بطاء مشددة غير
معجمة واظَّلم بظاء مشددة قال زهير:
هو الجواد الذي يعطيك نائلَهُ. . . عفواً ويُظْلم أحياناً
فيظطلم
و" فيطَّلم " و " فيظَّلِم ".
أعلمهم الله أنه اختاره، وأنه قد زِيدَ في العلم والجسم بسطة،
وأعلمهم
أن العلم أهو، الذي به يجب أن يقع الاختيار ليس أن اللَّه -
جلَّ وعزَّ -:
(1/328)
وَقَالَ لَهُمْ
نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ
التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ
مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ
الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (248)
لا يُمَلكَ إلا ذا مال، وأعلم أن الزيادة
في الجسم مما يهب به العدو، وأعلمهم أنه يؤتِي مُلْكَه من
يشاء، وهو جلَّ وعزَّ لا يشاء إلا ما هو الحكمة والعدل.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
أي يوسع على منِ يشاء ويعلم أين ينبغي أن تكون السعة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ
مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ
هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً
لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
أي علامة تمليك اللَّه إياه (أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ).
وموضع (أنْ) رَفْع المعنى: إن آية ملكه إتيانُ التابوت ائاكم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).
أي فيه ما تسكنون به إذا أتاكم، وقيل في التفسير إن السكينة
لها رأس
كرأس الهِر من زبرجد أو ياقوت، ولها جناحان.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى
وَآلُ هَارُونَ).
قيل في تفسيره: البقيةُ رضاض الألواح وأن التوراة فيه وكتاب
آخر جمع
التوراة وعصا موسى. فهذا ما رُوِيَ مما فيه، والظاهر، أن فيه
(بقية) جائز أن يكون بقية من شيء من علامات الأنبياء، وجائز أن
يكون البقية من العلم، وجائز أن يتضمنها جميعاً.
والفائدة - كانت - في هذا التابوت أن الأنبياءَ - صلوات اللَّه
عليهم -
كانت تستفتح به في الحروب، فكان التابوت يكون بين أيديهم فإِذا
سُمِعَ من
جوفه أنين دف التابوت أي سار والجميع خلفه - واللَّه أعلم
بحقيقة ذلك.
(1/329)
فَلَمَّا فَصَلَ
طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ
بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ
يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً
بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا
جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا
طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ
فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ
وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
وروي في التفسير أنه كان من خشب الشمشار
وكان قد غلب
جالوت وأصحابُه عليه فنزلهم بسببه داء، قيل هو الناسور الذي
يكون في العنب فعلموا أن الآفة بسببه نزلت، فوضعوه على ثورين
فيما يقال، وقيل معنى تحمله الملائكة: إنها كانت تسوق الثورين
وجائز أن يقال في اللغة تحمله الملائكة، وإنما كانت تسوق ما
يحمله، كما تقول حَمَلْتَ متاعي إلى مكة، أي كنت سبباً لحمله
إلى مكة.
ومعنى (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ).
أي في رجوع التابوت إليكم علامة أن الله ملك طالوت عليكم إذ
أنبأكم
في قصته بغيب.
(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم مصدقين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ
قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ
مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ
مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا
مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا
الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ
أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ
غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ
الصَّابِرِينَ (249)
(إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ)
معناه مختبركم وممتحنكم بنهر، وهذا لا يجوز أن يقوله إلا نبي،
لأن اللَّه
عزَّ وجلَّ قال: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى
غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)
ومعنى الاختبار بهذا النهر كان ليعلم طالوت من له نيَّة
القِتَال معه ومن ليسَتْ له نيَّة. فقال: (فمَنْ شَرِبَ منْه
فَلَيْسَ مِني).
أي ليس من أصحابي ولا مِمَن تبعني، ومن لم يطعَمْه.
(وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإنَهُ مِنِّي) أي لم يتطعم به.
(إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ)، غُرفة وغَرفَة قرئ
بهما جميعاً فمن قال غَرفَة
(1/330)
كان معناه غرفة واحدة باليد.
ومن قال غُرفة كان معناه مقدار ملء اليد.
ومعنى (فَشَرِبُوا مِنْهُ إلا قَلِيلاً مِنْهُمْ)
شربوا منه ليرجعوا عن الحرب، لأنه قد أعلمهم ذلك.
وذكر في التفسير أن القليل الذين لم يشربوا كان عدتهم ثلاثمائة
وبضعة
عشر رجلًا كعدد أهل بدر.
وقوله عزَّ وجلّ؛ (فَلَمَّا جَاوَزَهُ).
أي جاوز النهر هُوَ وَالَّذِينَ مَعَهُ.
قيل لما رأوا قلتهم، قال بعضهم لبعض:
(لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ).
أي لا قوةَ، يقال أطقتُ الشيءَ إطاقةً وطَوْقاً، مثل أطعت طاعة
وإطاعَة
وطَوْعاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ
مُلَاقُو اللَّهِ).
قيل فيه قولان: قال بعضهم وهو مذهب أهل اللغة - قال الذين
يوقنُونُ
أنهم مُلاقو اللَّه قالوا ولو كانوا شاكين لكانوا ضُلالاً
كَافِرين وظننت في اللغة
بمعنى أيقنت موجود.
قال الشاعر - وهو دريد:
فقلت لهم ظُنُّوا بألفَيْ مُدَجَّجٍ. . . سَرَاتُهُمُ في
الفارسيِّ المُسَرَّدِ
أي أيقنوا.
وقال أهل التفسير: معنى (يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو
اللَّهِ) أي أنهم كانوا يتوهمون
أنهم في هذه الموقعة يقتلون في سبيل الله لِقِلَّةِ عَدَدِهمْ،
وعظم عددِ عدُوهم.
وهم أصحاب جالوت.
(1/331)
فَهَزَمُوهُمْ
بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ
الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا
دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ
الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ
(251)
وقوله عزَّ وجلَّ: (كَمْ مِنْ فِئَةٍ
قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ).
أي كم من فرقة، وإنما قيل للفرقة فئة - من قولهم فأوت رأسه
بالعصا.
وفأيْتُ إذَا شَقِقْتُه، فالفِئَةُ الفِرقَةُ مِنْ هذَا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ).
(أي أن اللَّه ينْصُر الصَّابِرِينَ)، إذا صبروا على طاعته،
وما يُزْلِفُ
عنده.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ
قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ
أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
(250)
(رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا).
أي أصْبُبْ علينا الصبرَ صبًّا، كما تقول: أفرغتُ الإنَاءَ إذا
صببْتُ ما فيه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ
دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ
وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ
ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
(فَهَزَمُوهُمْ بِإذْنِ اللَّهِ).
معناه كسَروهم وردوهم، وأصل الهزم في اللغة كسر الشيء، وثنى
بعضه
على بعض، يقال سقاء مَهْزوم، إذا كان بعضه قد ثنى على بعض مع
جفاف، وقَصب مُتَهزَِّم، ومهْزُوم، قد كسر وشقق، والعرب تقول
هَزَمتُ على زيدٍ أي عطفتُ عليه.
قال الشاعر:
هِزمت عليك اليوم يا بنْتَ مَالكٍ. . . فجُودِي عليْنا
بالنوالِ وأنْعِمِي
ويقال: سمعت هَزْمةَ الرعْدِ
قال الأصْمَعِي كأنهُ صوت فِيه تشقُق:
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَآتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ وَالحِكْمَةَ).
أي آتى داود - عليه السلامُ - الملك لأنه مَلَكَ بعد قتله
جالوت وأوتي العلم.
ومعنى (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ).
قيل ممَّا علَّمه عمَلُ الدرُوعِ، ومنْطِقُ الطيْر.
(1/332)
تِلْكَ الرُّسُلُ
فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ
اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى
ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ
الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ
بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ
وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ
كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ
اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْلَا دَفْعُ
اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ).
أي لولا ما أمر الله به المسلمين من حرب الكافرين لفسدت الأرض
وقيل
أيضاً: لولا دفع اللَّه الكافرين بالمسلمين لكثر الكُفْر فنزلت
بالناس السخطة
واستؤصِل أهلُ الأرض.
ويجوز (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ)، ولولا دِفاعُ اللَّه.
ونُصِبَ (بَعْضَهُمْ) بدلاً من الناس، المعنى ولولا دفع اللَّه
بعض الناس
ببعض، و (دفعُ) مرفوع بالابْتِدَاءِ، وقد فسرنا هذا فيما مضى.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ
بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
أي هذِه الآياتُ التي أنْبأت بها وَأنْبِئْتَ، آيات الله أي
علاماته التي تدُل
على توْحيدِه، وتَثْبيتِ رسالاتِ أنْبِيَائِه، إِذْ كان يعجز
عن الِإتيان بمثلها
المخلقون.
وقوله عزَّ وجل: (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).
أي وأنت من هؤلاءِ الذين قصصْتُ آياتهم، لأِنَك قدْ اعْطِيتَ
مِنَ
الآياتِ مثل الذي أعْطُوا وزدْتَ على مَا أعْطُوا.
ونحنُ نبين ذلك في الآية التي تليها إِن شاءَ اللَّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ
عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ
بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ
مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا
يُرِيدُ (253)
(الرُّسُلُ) صفة لتلك كقولك أولئِك الرسلُ فضلنا بعضهم على بعض
إلا
أنهُ قيل تِلْك للجماعة، وخبر الابتداءِ (فضلنا بعضهم على
بعض).
ومعنى: (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ): أي من كلَّمَهُ
اللَّهُ.
(1/333)
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ
عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ
بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ
مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ
اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا
يُرِيدُ (253)
والهاء حُذقت منْ الصلة لطول الاسَم، وهو مُوسى - صلى الله
عليه وسلم - أسْمَعَه الله كلامه من غير وحي أتاه به عن اللَّه
مَلَك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ
الْبَيِّنَاتِ).
أي أعطيناه. والبيناتُ الحُجَجُ التي تَدُل على إثبات نُبُوته
- صلى الله عليه وسلم - من إبراء الأكْمه والأبرص وإحياءِ
المَوْتى والإنباءِ بما غاب عنه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَرَفعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ).
جاءَ في التفسير أنه يُعْنَى به محمدٌ - صلى الله عليه وسلم -
أرْسِل إلى الناس كافة، وليس شيء من الآيات التي أعطيها
الأنبياء إلا والذي أُعطى محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - أكثر
مُنْه، لأنه - صلى الله عليه وسلم -
كلمتْه الشجرةُ، وأطْعَمَ " من كفِّ التمر خلقاً كثيراً،
وأمرَّ يدَه على شاة أم معبد فدرت، وحلبت بعد جفاف، ومنها
انشقاق القمر، فإِن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى الآيات
في الأرض ورآها في السماءِ، والذي جاءَ في آيات النبي كثير.
فأما انشقاق القمر وصحته فقد روينا فيه أحاديث:
حدثني إسماعيل بن إسحاق قال: (حدثنا محمد بن المُنْهَال، قال
حدثنا يزيد
ابن زُرَيْع عن سعيد عن قتادة عن أنس قال: سأل أهل مكة النبيَّ
- صلى الله عليه وسلم - آيةً فأراهم انشقاقَ القَمَرِ
فِرْقَتَيْن.
وحدثني مُسدّد يرْفعه إلى أنس أيضاً مثل ذلك.
ونحن نذكر جميع ما روى في هذا الباب في مكانه إِن شاءَ الله،
ولكنا ذكرنا
ههنا جملة من الآيات لنُبين بها فضل النبيِّ - صلى الله عليه
وسلم - فيما أتى به من الآيات.
ومن أعظم الآيات القرآنُ الذي أتى به العرب وهم أعلم قوم
بالكلام.
لهم الأشعار ولهم السجع والخَطَابةُ، وكل ذلك معروف في كلامها،
فقيل لهم
ائتوا بعشْر سُورٍ فعجزوا عَنْ ذلك، وقيل لهم ائتوا بسورِة ولم
يشترط عليهم فيها
(1/334)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ
قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ
وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
أن تكون كالبقرة وآل عمران وإنما قيل لهم
ائتوا بسورة فعجزوا عن ذلك.
فهذا معنى (وَرَفَعَ بَعْضَهُم دَرَجَات).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ
الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ).
يعني من بعد الرسل: (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ
الْبَيِّنَاتُ).
أي من بعد ما وضحت لهم البراهين، فلو شاءَ الله ما أمر بالقتال
بعد
وضوح الحجة، ويجوز أن يكون (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا
اقْتَتَلُوا) أي لو شاءَ اللَّه أن
يضطرهم أن يكونوا مؤمنين غير مختلفين لفعل ذلك كمَاِ قال:
(وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا
مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا
بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ
هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
أي أنفقوا في الجهاد وليُعِنْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً عليه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا
بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ).
يعني يوم القيامة " والخُلَّةُ " الصداقة، ويجوز (لَا بَيْعٌ
فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ)، (لَا بَيْعَ فِيهِ
وَلَا خُلَّةَ وَلَا شَفَاعَةَ)، على الرفع بتنوين والنصب
(بغير تنوين)، ويجوز (لا بيعَ فيه ولا خلة ولا شفاعةَ) بنصب
الأول بغير تنوين
وعطف الثاني على موضع الأول، لأن موضعه نصب، إِلا أن التنوين
حذف لعلة قد ذكرناها، ويكون دخول " لا " مع حروف العطف
مؤَكداً، لأنك إِذا عطفت على موضع ما بعد " لا " عطفته بتنوين.
تقول: لا رجلَ وغلاماً لك.
قال الشاعر:
(1/335)
اللَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا
نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ
ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا
بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ
الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
فلا أبَ وابناً مثل مروان وابنِه. . . إذا
هُو بالمجد ارتدى أو تأَزَّرَا.
ومعنى: (والكَافِرُون هُمُ الظَّالِمُونَ).
أي هم الذين وضعوا الأمر غير موضعه وهذا أصل الظلم في اللغة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ
الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ
عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ
إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ (255)
يروى عن ابن عباس رحمة الله عليه أنَّه قال: أشرف آية في
القرآن آية
الكرسي.
وإعراب (لَا إلهَ إلا هُوَ) النصبُ بغير تنوين في (إِله).
المعنى لا إله لكل مخلوق إلا هُو، وهو محمول على موضع الإبتداء
المعنى ما إلهٌ للخلق إلا هو، وإن قلت في الكلام لا إِله إِلا
الله جاز، أما
القرآن فلا يقرأ فيه إلا بما قد قرأت القراءُ بِه، وثَبَتتْ به
الرواية الصحيحة، ولو قيل في الكلام لا رجلَ عندك إلا زيداً
جاز، ولا إله إلا اللَّهَ جاز ولكن الأجودَ ما في القرآن، وهو
أجودُ أيضاً في الكلام.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ
لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35).
فإذا نصبت بعد إلا فإنما نصبت على الاستثناء.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ)
معنى (الْحَيُّ) الدائم البقاء، ومعنى (الْقَيُّومُ) القائم
بتدبير سائر أمر خلقه.
ويجوز القائم، ومعناهما واحد.
فهو الله عزَّ وجلَّ قائم بتدبير أمر الخلق في إنْشائِهِم
وَرزْقِهمْ وعلمه
(1/336)
بأمكنتهم وهو قوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا مِنْ
دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا
وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا).
ومعنىِ: (لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) أي لا يأخذه نعاس.
(وَلَا نَوْمٌ).
وتأويله أنه لا يغفل عن تدبير أمر الخلق.
ومعنى: (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا
بِإِذْنِهِ).
أي: لا يشفع عنده إلا بِمَا أمر به من دعاء بعض المسلمين لبعْض
ومن
تعظيم المسلمين أمْرَ الأنبياء والدعاء لهم، وما علمنا من
شفاعة النبي - صلى الله عليه وسلم -
وإنما كان المشركون يزعمون أنَّ الأصنام تشفع لهم، والدليل على
ذلك
قولهم: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى
اللَّهِ زُلْفَى) وذلك قولهم:
(وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)،
فَأنْبأ اللَّهُ عزَّ وجلَّ أن الشفاعة ليست إلا ما أعلَم من
شَفاعة بَعْضِ المؤمنين لبعض في الدعاء وشفاعة النبي - صلى
الله عليه وسلم -.
ومعنى: (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ).
أي يعلم الغيب الذي تقدمهم والغيب الذي يأتي من بعدهم.
ومعنى: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا
شَاءَ).
أي لا يعلمون الغيبَ لا مِما تقدمهُمْ ولا مما يكُونُ مِنْ
بَعْدِهِمْ.
ومعنى: (إِلَّا بِمَا شَاءَ): إلا بما أنبأ به ليكون دليلاً
على تثبيت نبوتهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضَ).
قيل فيه غير قول، قال ابن عباس: كرسيُه علمه، ويروى عَنْ عطاء
أنه
(1/337)
لَا إِكْرَاهَ فِي
الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ
يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ
اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا
وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
قال: ما السَّمَاوَات والأرض في الكرسي
إِلا حَلْقَةٌ في فلاة، وهذا القول بين
لأن الذي نعرفه من الكرسي في اللغة الشيءُ الذي يعتمد عليه
ويجلس عليه.
فهذا يدل أن الكرسي عظيم، عليه السَّمَاوَات والأرضُونَ،
والكرسيُّ في اللغة والكراسة إِنما هو الشيءُ الذي ثبت ولزم
بعضه بعضاً، والكرسي ما تَلَبَّد بعضُه على بعض في آذان الغنم
ومعاطن الِإبل.
وقال قوم: (كُرْسِيُّهُ) قدْرتُه التي بها يمسك السَّمَاوَات
والأرض.
قالوا: وهذا قولك اجعل لهذا الحائط كرسياً، أي
اجعل له ما يعْمِدُه وُيمسكه، وهذا قريب من قول ابن عباس رحمه
اللَّه.
لأن علمه الذي وسع السموات والأرض لا يخرج من هذا.
واللَّه أعْلم بحقيقة الكرسي، إِلا أن جملته أنه أمر عظيم من
أمره - جلَّ وعزَّ.
ومعنى: (وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا).
أي لا يُثقله، فجائز أن تكون الهاءُ للَّهِ عزَّ وجلَّ، وجائز
أنْ تكون
للكرسي، وإِذا كانت للكرسي فهو من أمر اللَّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ
الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ
وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ
الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ
(256)
(إِكْرَاهَ) نصب بغيرتنوين، ويجوز الرفع " لَا إكْرَاهٌ " ولا
يُقرا به إِلَا أن تَثْبت
رواية صحيحةٌ وقالوا في (لَا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ثلاثة
أقوال: قال بعضهم إن هذه نسخها أمر الحرب في قوله جلَّ وعزَّ:
(واقْتلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ)
وقيل إِن هذه الآية نزلت بسبب أهل الكتاب في أنَّ لا يكرهوا
بعد أن يؤدوا الجزية، فأما مشركو العرب فلا يقبل منهُم جزية
وليس في أمرهم إِلا القَتْلُ أو الإسلام.
وقيل معنى (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) أي لا تقولوا فيه لمن
دخل بعد حرْبِ أنهُ دخَل
مكرهاً، لأنه إِذا رضي بعد الحرب وصح إِسلامه فليس بمكره.
(1/338)
اللَّهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ
يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
ومعنى: (فَمَنْ يَكْفُرْ بالطَّاغُوتِ).
قيل الطاغوت مَرَدَةَ أهل الكتاب، وقيل إِن الطاغوت الشيطان،
وجملته
أن من يكفر به، وصدق باللَّهِ وما أمر به فقد استمسك بالعروة
الوثقى، أي
فقد عقد لنفسه عقداً وثيقاً لا تحله حجة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لا انْفِصَام لَهَا): لا انقطاع لها.
يقال فصمت الشيءَ أفْصُمُه فصماً أي قطعته.
ومعنى: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).
أي يسمع ما يعقد على نفسه الإنسان من أمر الإِيمان، ويعلم نيته
في
ذلك.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا
يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ
كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ
النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ
هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
يقال قد توليت فلاناً، ووليت فلاناً ولايةً، والوِلَايَةُ
بالكسر اسم لكل ما
يتولى، ومعنى وَلى على ضروب، فاللَّه - ولي المؤمنين في
حِجَاجِهم
وهدايتهم، وإقامةِ البرهان لهم لأنه يزيدهم بإِيمانهم هداية،
كما قال عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ
هُدًى). ووليهم أيضاً في نصرهم وإظهار دينهم
على دين مخالفيهم، ووليهم أيضاً بتولي قولهم ومجازاتهم بحسن
أعمالهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى
النُّورِ).
أي يخرجهم من ظلمات الجهالة إِلى نور الهدى لأن أمر الضلالة
مظلم
غير بين، وأمر الهدى واضح كبيان النور.
وقد قال قوم (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)
يحكم لهم بأنهم
خارجون من الظلمات إلى النُور، وهذا ليس قولَ
أهل التفسير، ولا قول أكثر أهل اللغة.
إِنما قاله الأخفش وحده.
(1/339)
أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ
الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي
وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ
فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ
بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
والدليل على أنه يزيدهم هدى ما ذكرناه من
الآية.
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمُ
إيمَاناً).
ومعنى: (والَّذِينَ كَفَرُوا أوليَاؤُهُم الطاغُوتُ).
أي الذين يتولون أمرهم هم الطاغوت.
وقد فسرنا الطاغوت.
و (الطاغوت) ههنا واحد في معنى جماعة، وهذا جائز في اللغة إذا
كان في الكلام دليل على الجماعة.
قال الشاعر:
بها جِيَف الحَسْرى فأمَّا عِظامُها. . . فَبيضٌ وأَمَّا
جِلْدُها فَصَلِيبُ
جلدها في معنى جلودها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ
إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ
قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ
أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ
يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ
الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
هذه كلمة يوقف بها المخاطب على أمر يعجب منه، ولفظها لفظ
استفهام، تقول في الكلام: ألم تر إلى فلان صنع كذا وصنع كذا.
وهذا مما أعْلِمَه النبي - صلى الله عليه وسلم - حُجةً على أهل
الكتاب ومشركي العرب لأنه نبأ لا يجوز أن يعلمه إلا من وقف
عليه بقراءَة كتاب أو تعليم معلم، أو بوحي من اللَّه عزَّ
وجلَّ.
فقد علمت العرب الذين نشأ بينهم رسول اللَّه - صلى الله عليه
وسلم - أنه أمِّيٌّ، وأنه لمْ يعَلمْ التوراة والإنجيلَ
وأخبارَ من مضى من الأنبياءِ، فَلم يبق وجه تعلم منه هذه
الأحاديث إلا الوحيُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أنْ آتَاهُ اللَّهُ المُلْكَ).
أيْ آتى الكافرَ الملكَ، وهذا هو الذي عليه أهل التفسير وعليه
يصح
(1/340)
المعنى، وقال قوم إن الذي آتاه - الله
الملك إبراهيمَ عليه السلام
وقالوا: اللَّه عزَّ وجلَّ لا يُمَلِكُ الكفَارَ.
وإنما قالوا هذا لذكره عزَّ وجلَّ: (آتاه الملك)
واللَّه قال: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ
الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ
مَنْ تَشَاءُ).
فتأويل إِيتاءِ الله الكافرَ الملكَ ضرب من امتحانه الذي
يَمْتَحنُ
الله به خلقه، وهو أعلم بوجه الحكمة فيه.
والدليل على أن الكافر هو الذي كان مُلِّكَ إنَّه قال: (أَنَا
أُحْيِي وَأُمِيتُ)
وأنه دعا برجلين فقتل أحدهما وأطلق الآخر، فلولا أنه كان ملكاً
وإبراهيمُ عليه السلام غيرَ ملك لم يتهيأ له أن يقتل وإبراهيم
الملك، وهو النبي عليه السلام.
وأمَّا معنى احتجاجه على إبراهيم بأنه يحيى ويميت، وترك
إبراهيم
مناقضته في الإحياءِ والإماتة، فمن أبلغ ما يقطع به الخصوم ترك
الإطالة
والاحتجاج بالحجة المُسْكِتةِ لأن إبراهيم لما قال له:
(فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ
بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ) كان جوابه على حسب ما أجاب في
المسألة الأولى أن يقول: فأنا أفعلُ ذلك فَتَبَيَّن عجزه وكان
في هذا إِسكَات
الكَافِرِ فقال اللَّهُ عزً وجل: (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ)
وتأويله انقطع وسَكتَ متحَيِّراً، يقال: بهِتَ الرجل
يُبْهَتُ بهْتاً إِذا انقطع وتحير، ويقال بهذا المعنى " بَهِتَ
الرجل يَيْهَتُ "، ويقال
بَهَتُ الرجل أبْهَته بهْتاناً إِذا قابلتُه بكذبٍ.
(1/341)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ
عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ
أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ
اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ
قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ
لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ
لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ
آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ
نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ
قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(259)
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ
عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ
أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ
اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ
قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ
لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ
لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ
آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ
نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ
قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(259)
هذا الكلام معطُوف على معنى الكلام الأول، والمعنى - واللَّه
أعلم -
أرأيت كالذي مرَّ على قَريةٍ، والقرية في اللغة سميت قرية
لاجتماع الناس
فيها، يقال قرَيْتُ المَاءَ في الحوضِ إِذَا جمعتُه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَهِيَ خَاوِية عَلَى عُرُوشِهَا).
معنى (خاوية): خالية - و (عروشها) - قال أبو عبيدة: هي
الخِيَام وهي
بيوت الأعراب، وقال غير أبي عبيدة: معنى (وهي خاوية على
عروشها) بَقِيَتْ حيطانُها لا سُقُوف لها.
ويقال خَوتِ الدار والمدينة تخْوي خَواءً - ممدود - إِذا خلت
من أهلها، ويقال فيها: " خَوِيَتْ " والكلام هو الأول - ويقال
للمرأة إِذا
خَلَا جوفُها بعدَ الولادةِ وللرجل إِذا خَلا جوفُه من
الطًعامِ - قدْ خوِيَ ويخْوَى
خَوًى - مقصور - وقد يقال فيه خَوَى يخْوِي - والأولُ فِي
هَذَا أجود.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ
مَوْتِهَا).
معناه منُ أيْنَ يُحيي هَذه اللَّهُ بعْدَ مَوْتِهَا.
وقيل في التفسير إِنه كان مؤمناً وقد قيل إِنه كان كافراً، ولا
ينكر أن
يكون مُؤْمناً أحبَّ أن يزداد بصيرة في إِيمانه فيقول: ليت
شعري كيف تُبْعَثُ
الأموات كما قال إبراهيم عليه السلام: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ
تُحْيِ الْمَوْتَى).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ
بَعَثَهُ).
معناه ثم أحياه لأنه لا يُبْعث ولا يتصرف إِلا وهو حي.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (كَمْ لَبِثْتَ).
(1/342)
ْيقرأ بتبيين الثاءِ، وبإِدغام الثاءِ في
التاءِ، وإِنما أدغمت لقرب
المخرجين.
ومعنى: (قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) أنه كان
أميت في صدر النهار ثم
بعث بعد مائة سنة في آخر النهار، فظنُ أنَّ مقدار لبثه ما بين
أول النهار
وآخره، فأعلمه اللَّه أنه قد لبث مائة عام وأراه علامة ذلك
ببلَى عظام حماره، وأراه طَعَامَه وشَرَابه غير متغير وأراه
كيف ينْشِز العِظَامَ، وكيف تُكْتسَى اللحمَ.
فقال: (فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ
يَتَسَنَّهْ).
يجوز بإِثبات الهاءِ وبإِسقاط الهاءِ في الكلام، ومعناه لم
تغيره
السنون، فمن قال في السنة سانهت فالهاء من أصل الكلمة، ومن قال
في
السَّنَة سَانَيت فالهاء زيدت لبيان الحركة، ووجه القراءَة على
كل حال إثباتُها
والوقوف عليها بغير وصل فمن جَعَلَهُ سانيت ووصلها إِن شاءَ أو
وقفها على
من جعله من سانهت، فأما من قال: إِنه من تغير من أسِنَ الطعام
يأسَنُ فخطأٌ.
وقد قال بعض النحويين إِنه جائز أن يكون من (التغيير) من قولك
من حمإٍ
مسنون وكان الأصل عنده " لم يتسنن " ولكنه أبدل من النون ياءً
كما قال:
تقضي البازي إِذا البازي كَشَرْ.
(1/343)
وَإِذْ قَالَ
إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ
أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي
قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ
ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ
ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
يريد تقضض، وهذا ليس من ذاك لأن " مسنون "
إنما هو مَصْبُوب على
سنة الطريق.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وانْظُرْ إِلى العِظامِ كيْف نُنْشِزُها).
يقرأ (نُنْشِزُها) بالزاي، ونُنْشِرُها، ونَنْشُرُهَا بالراءِ،
فمن قرأ (نُنْشِزُها) كان
معناه نجعلها بعد بِلاها وهجودها ناشزه ينشز بعضها إِلى بعض،
أي يرتفع.
والنَشَزُ في اللغة ما ارتفع عن الأرض، ومن قرأ (نُنْشِرُها)،
و (نَنْشُرُها)، فهُو من أنْشَر اللَّه الموتى ونشرهم - وقد
يقال نَشَرهم اللَّه أي بعثهم، كما قال: (وَإِلَيْهِ
النُّشُورُ).
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ
أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
معناه: فلما تبين له كيف إِحياء الموتى.
قال: (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)،
فإن كان كلما قيل أنه كان مؤمناً، فتأويل ذكره: (أَعْلَمُ
أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ليس لأنه لم يكن
يعلم قبل ما شاهد ولكن تأويله: أني قد علمت ما كنت أعلمه غيباً
- مشاهدة، ومن قرأ (اعْلَمْ أن اللَّه على كل شي قدير) فتأويله
إذا جزم أنه يُقْبل على نفِسه فيقول: " اعْلَمْ أيها الِإنسان
أن اللَّه على كل شيءٍ قدير " -
والرفع على الِإخبار.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي
كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى
وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ
الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ
جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ
سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
(1/344)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي
كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى
وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ
الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ
جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ
سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
موضع " إذ " نصب، المعنى اذكر هذه القصة - وقوله (رَبِّ
أَرِنِي).
أصله أرْإني، ولكن المجمع عليه في كلام العرب والقراءَة طرح
الهمزةِ، ويجوز
(أرْنِي). وقد فسرنا إلْقَاءَ هذه الكسرة فيما سلف من الكتاب.
وموضع (كيف) نصب بقوله: (تُحْيِ الْمَوْتَى) أي بأي حال تُحْيِ
الْمَوْتَى وإبراهيم عليه السلام لم يكن شاكا ولكنه لمْ يكن
شَاهَدَ إِحْياءَ ميّتٍ، ولا يعْلم كيف تجتمع العظام المتفرقةُ
الباليةُ، المستحيلة، من أمكنة متباينة فأحب علم ذلك مشاهدة.
ويروى في التفسير أنه كان مرَّ بجيفَةٍ على شاطئ البحر
والحيتان تخرج
من البحر فتنتف من لحم الجيفة، والطيرُ تَحُط عليها وتَنْسِرُ
منها، ودوابُّ
الأرض تأكلُ منها، ففكر كيف يجتمع ما تفرق من تلك الجيفة فحلَّ
في حيتان
البحر وطير السماءِ ودواب الأرض ثم يعود ذلك حياً، فسأل اللَّه
تبارك وتعالى أن يريه كيف يحي الموتى، وأمره اللَّه أن يأخذ
أربعة من الطير، وهو قوله عز وجل: (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ).
وتقرأ فَصِرْهُنَّ إليك - بالضم والكسر -.
قال أهل اللغة: معنى صُرْهُنَّ أملْهن إليك، وأجمعهن إِليك،
قال ذلك
أكثرُهم، وقال بعضهم: صرهن إليك اقْطَعْهن، فأما نظير صُرهُن
أملهن
وأجمعهن فقول الشاعر:
(1/345)
مَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ
حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ
مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
وجاءَت خِلْعةٌ دهسٌ صفايا. . . يصور
عنوقَها أحْوى زَنيم
المعنى أن هذه الغنم يعطف عنوقها هذا الكبش الأحوى.
ومن قال صرت: قطعت، فالمعنى فخذ أربعة من الطير فصرهن أي
قَطعْهُنَّ، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا.
المعنى اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءًا.
ففعل ذلك إِبراهيم عليه السلام ثم دعاهن فنظر إِلى الريش يسعى
بعضه
إِلى بعض، وكذلك العظام واللحَم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).
(عَزِيزٌ) أي لا يمتنع عليه ما يريد - حكيم فيما يدبر، لا يفعل
إِلا ما فيه
الحكمة.
فشاهد إبراهيم عليه السلام ما كان يعلمه غيباً رأْيَ عيْن،
وعلم كيف
يفعل اللَّه ذلك.
فلما قَصً اللَّه ما فيه البرهانُ والدلالَةُ على أمر
تَوْحيده.
وما آتاه الرسل من البيِّنَات حثَّ على الجهاد، وأعلن أن من
عانده بعد هذه البراهين فقد ركب من الضلال أمراً عظيما وأن من
جاهد مَنْ كَفَر بعدَ هذا البرهَان فله - في جهاده ونفقته فيه
- الثوابُ العظيم، وأن الله عزَّ وجلَّ وعد في الجنَّة عشْرَ
أمْثالِهَا من الجهَاد.
ووعد في الجهاد أنْ يُضاعِفَ الواحد بسبع مائة مرة لما في
إقامة الحق
من التوحيد، وما في الكفر من عظم الفساد فقال:
(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي
كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ
يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
(1/346)
وَمَثَلُ الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ
وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ
أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ
يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
بَصِيرٌ (265)
أي جواد لا ينقصه ما يتفضَّل به من السعة،
عليم حيث يضعه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي
يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ
تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا
يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
فالمن أن تمُنَّ بما أعطيت وتعْتَدَّ به كأنك إنما تقصد به
الاعتداد والأذى أن
تَوبخ المعطي.
فأعلم الله عزَّ وجلَّ أن المن والأذى يبطلان الصدقة كما تبطل
نفقة المنافق
الذي إِنما يعطي وهو لا يُريدُ بذَلك العَطاءِ ما عندَ اللَّه،
إنما يعطي ليُوهِمَ أنه
مؤمن، وقال عزَّ وجلَّ: (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ).
والصفوان الحجر الأملس وكذلك الصفا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌا).
والوابل المطرُ العظيم القطْر - فإذا أصاب هذا المطرُ الحجرَ
الذي عليه
تراب لم يبْق عليه من التراب شيءٌ، وكذلك تبطل نفقة المنافق
ونفقة المنَّان
والمؤذِي.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (واللَّه لاَ يَهْدِي القَوْمَ
الكَافِرِينَ).
أي لا يجعلهم بكفرهم مهتدين، وقيل لا يجعل جزاءَهم على الكفر
أنْ
يهديهم، ثم ضرب الله لمن ينفق يريد ما عند الله ولا يمن
ولايؤذي مثلًا.
فقال:
(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ
مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ
جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا
ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
أي ليطلب مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم، أي ينفقونها مقرين
أنها مما
يثيب اللَّه عليها.
(1/347)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ
أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ
ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ (266)
(كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ) بفتح الراءِ
وبرُبوة. بالضم - وبرِبْوة - بالكسر - وبِرِباوة، وهذا وجه
رابع.
ْوالربوة ما ارتفع من الأرض، والجنة البستان، وكل ما نبت وكثف
وكثر، وستر بعضه بعضاً فهو جنة - والموضع المرتفع إِذا كان له
ما يرويه من الماءِ فهو أكثر ريْعاً من المستفِل، فأعلم اللَّه
عزَّ وجلَّ أن نفقة هُؤلاءِ المؤمنين تزْكو كما يزكو نبْتُ هذه
الجنة التي هي في مكان مرتفع.
(أصَابَها وَابلٌ) وهُو المطرُ العظيمُ القَطْر.
(فَآتَتْ أُكُلَهَ): أي ثمرها، ويقرأ أكْلَهَا والمعنى واحد.
(ضِعْفَينْ): أي مثلين.
ْ (فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ).
و (الطَّلُّ) المطر الدائمُ الصِّغَارِ القَطْرِ الذي لا يكاد
يسيل منه المثاعب.
ومعنى: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
أي عليم، وإِذا علمه جازى عليه والذي ارتفع عليه (فَطَلٌّ)
أنهُ على
معنى فإن لم يصبها وابل فالذي يصيبها طَلٌّ.
* * *
وقوله جل ثَنَاؤُه: (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ
جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ
الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ
فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ
الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
هذا مثل ضَربهُ اللَّه لهم للآخرة وأعْلَمَهُم أن حاجتهم إلَى
الأعمال
الصالحة كحاجة هذا الكبير الذي له ذُرَية ضُعفاءُ، فإِن احترقت
جنته وهو كبير وله ذرية ضعفاءُ انقطع به، وكذلك من لم يكن له
في الآخرة عمل يوصله إلى
(1/348)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ
وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا
الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا
أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
حَمِيدٌ (267)
الجنة فَحسْرتُه في الآخرة - مع عظيم
الحسْرة فيها - كَحَسْرة هذا الكبير المنقَطَعِ به في الدنيا.
ومعنى: (فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ).
الِإعصار الريح التي تهب، من الأرض كالْعَمُود إِلى نَحْو
السماءِ وهي التي
تسميها الناس الزَوْبَعةَ، وهي ريح شديدة، لا يقال إنها إعصار
حَتَى تهبَّ
بِشدةٍ، قال الشاعر:
إنْ كنْتَ ريحاً فقد لاقيتَ إِعْصَارَا
ومعنى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ).
أي: كهذا البيان الذي قد تبين الصَّدَقَة والجهاد وقصة
إِبراهيم - عليه
السلام - والذي مرَّ على قرية، وجميع ما سلَف من الآيات أي
كَمَثل بيان هذه الأقاصيص (يبين اللَّه لكم الآيات)، أي
العَلاَمَات والدّلالات التي تَختَاجُون إِليها في أمْر
توحيده، وإثْبَات رسالات رسله وثوابه وعقابه.
(لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ).
* * *
وقوله تبارك اسمه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا
مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ
مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ
تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا
فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
فالمعنى أنفقوا من جَيِّد ما كسبتموه من تجارة، ومن وَرِقِ
وعين، وكذلك
من جَيِّد الثمار، ومعنى (أنفقوا): تصدقوا وكان قوم أتوا في
الصدقة بردىءِ
الثمار.
ويروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر السعاة إلا
يُخَرصَ الجُعْرَورَ وَمِعَى الفارة
(1/349)
الشَّيْطَانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ
يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ (268)
وذلك أنها من رديءِ النخل، فأمر ألا تخرص
عليهم لئلا يعتلوا به في
الصدقة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ
تُنْفِقُونَ).
أي لا تقصدوا إلى رديءِ المال، والثمار فتتصدقوا به، وأنتم
(تعلمون
أنكم) لا تأخذونه إلا بالِإغماض فيه.
ومعنى: (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ).
يقول: أنتم لا تأخذونه إلا بوَكْس. فكيف تعطونه في الصدقة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ
حَمِيدٌ).
أي لم يأمركم بأن تتصدقوا من عَوَزٍ. ولكنه لاختبَاركم.
فهو حميد على ذلك وعلى جميع نعمه.
يقال قد غَنِيَ زيد يغنى غِنى - مقصور - إِذا استغنى، وقد
وقد غَنِيَ القومُ إِذا نَزَلوا في مكان يقيهم، والمكان الذي
ينزلون فيه مَغْنى، وقد غَنَّى فلان غِنَاء إِذا بالغ في
التطريب في الإنشاد حتى يستغنى الشعر أن يزاد في نغمته، وقد
غنيت المرأة غُنْيَاناً.
قال قيس بن الخطيم:
أجَدَّ بعمرة غُنْيانُها. . . فتهجرَ أم شأننا شأنُها
غُنْيَانها: غِنَاها. والغواني: النساءُ، قيل إنهن سمين غواني
لأنهن غَنِين
بجمالهن. وقيل بأزواجهن.
وقوله جل وعلا: (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ
وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ
مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
(1/350)
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ
مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ
خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ
(269)
يقال الفقْر والفَقَر جميعاً، والمعنى أنه
يحملكم على أن تؤَدوا في الصدقة
رديءِ المال يخوفكم الفقْرَ بإعطاءِ الجَيدِ - ومعنى
(يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ): يعدكم بالفقر ولكن الباءَ حذفت.
وأفْضىَ الفعل فنصب كما قال الشاعر:
أَمَرْتُكَ الخير فافعلْ ما أُمِرْتَ به. . . فقد تَرَكْتُكَ
ذا مال وذا نَشَبِ
ويقال وعدته أعده وَعْداً وعِدة ومَوْعِداً ومَوْعِدَةً
وموْعُوداً وموعودة.
ومعنى: (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ).
أي بأن لا تَتَصَذقُوا فَتَتقاطَعوا.
ومعنى: (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا).
أي يَعِدُكُمْ أن يُجازيكم على صَدقَتكم بالمغْفرةِ، ويَعِدُكم
أن يُخْلِفَ
عَلَيْكُمْ.
ومعنى: (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
(واسع) يعطي من سعة، و (عَليمٌ) يعلَم حيث يضع ذَلك، ويعلم
الغيبَ والشَهادَةِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ
يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا
يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
معنى (يُؤْتِي) يعطي، و (الحكمة) فيها قولان: قال بعضهم هي
النبوة.
وُيرْوَى عن ابن مسعود أن الحكمة هي، القرآنُ، وكفى بالقرآن
حِكْمةً، لأن الأمَّةَ بهِ صارت علماءَ بعد جهل، وهو وصلة إِلى
كل علم يُقَرِّب منَ اللَّهِ
عزَّ وجلَّ: وذَريعة إِلى رحمته؛ لذلك قال الله تعالى: (وَمَنْ
يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا).
(1/351)
وَمَا أَنْفَقْتُمْ
مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ
يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)
أي أعْطِيَ كل الجلم، وما يوصل إلى رحمة
اللَّه، و " يُؤت " جزم بِمَن.
، والجواب (فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)
ومعنى (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ).
أي ما يفكر فكراً يذكر به ما قص من آيات القرآن إلا أولو
الألباب، أي
ذَوُو العُقول.
وواحد الألبَاب لُب، يقال قَد لَبِبْتَ يا رجُل وأنت تَلَب،
لَبَابَة
ولُبًّا، وقرأتُ على مُحمد بن يزيدَ عن يونس: لَبُبْت
لَبَابَةً.
وليس في المضاعف على فَعُلْتُ غيرُ هذا، ولم يروه أحد إلا
يونسَ، وسألت غير البصريين عنه فلم يَعْرفْهُ.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ
نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا
لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)
أي ما تصدقتم به من فرض لأنه في ذكر صدقة الزكاة وهي الفرض
والنذر: التطوع، وكل ما نوى الإنسانُ أن يتطوع به فهو نذر.
(فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ): أى لا يخفى عليه فهو يجازي
عليه، كما قال
جلَّ ثَنَاؤه: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا
يَرَهُ).
يقال نذرْت النذْرَ أنذِرُه وأنْذُرُه، والجميع النُّذُورُ،
وأنْذَرْتُ القَومَ إذَا أعْلَمْتُهُمْ وخَوفْتُهمْ إنْذَاراً
ونَذِيراً ونذراً.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ).
وقال جل ثناؤه: (فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ).
النذُر مثل النُّكُر، والنذِير مثل النكِير.
(1/352)
إِنْ تُبْدُوا
الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا
الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنْ تُبْدُوا
الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا
الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ
سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
معنى (إنْ تُبْدوا): تُظْهِرُوا، يُقَال بَدَا الشيءُ يبدو
إذَا ظَهرَ، وأبدَيتُه أنا
إبْدَاءً، إذَا أظهرته، وبدا لي بُدَا " إذا تَغيَّر رأي عمَّا
كان عليه.
و (تُبْدوا) جُزمَ بـ (إنْ)، وقوله: (فَنِعِمَّا هِيَ) الجواب.
وروى أبو عُبَيْدٍ أنَّ أبَا جَعْفَر وشَيْبَةَ ونافعاً
وعاصماً وأبا عمرو بن العلاءِ قرأوا: (فَنِعِمَّا هِيَ) بكسر
النون
وجزم العين وتشديد الميم، وروى أن يحيى بن وثاب، والأشْمس
وحمزة
(1/353)
والكسائِى قراوا: (فنَعِمَّا هي) - بفتح
النون وكسر العين.
وذكر أبو عُبَيْدٍ أنَّه رُويَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم
- قوله لابن العاص: نعْمَّا بالمال الصَّالح للرجل الصَّالِح.
فذكر أبو عبيدٍ أنه يَخْتَار هَذه القراءَة من أجل هذه
الروَاية.
ولا أحسب أصحابَ الحديث ضَبَطُوا هذَا، ولا هذه القراءَةَ عند
البصريين النحويين جائزة ألبتَّة، لأن فيها الجمعَ بينَ ساكنين
من غير حرف مَا
ولين.
فأما مَا قَرأنَاه من حرف عاصم ورواية أبي عمرو (فنِعِمَّا
هِي)، بكسر النون
والعين، فهذا جَيِّدٌ بَالغ لأن ههنا كسرَ العينِ والنونِ،
وكذلك قراءَة أهلِ
الكوفة (نَعِمَّا هي) جَيدة لأن الأصل في نِعْمَ نَعِمَ
ونعِمَ. ونعْمَ فيها ثلاث
لغاتٍ، ولا يجوز مع إدغام الميم نِعْمَّا هي. و " ما " في
تأويل - الشيءِ زعم
البصريون أن نِعِمَّا هي: نعْمَ الشيءُ هِيَ. وقد فسرنا هذا
فيما مضى.
ومعنى: (وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ
خَيْرٌ).
هذا كان على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فكان
الإخفاء في إِيتاءِ الزكاة أحْسَن، فأمَّا اليومَ فالناس
يُسِيئون الظن، فإظهارُ الزكاة أحسنُ، فأمَّا التطوع فإخفاؤُه
أحسن، لأنه أدل على أنه يريد اللَّهَ به وحده.
يقال أخفَيْتُ الشيءَ إخفاءً إذا سَتَرتُهُ، وخَفِي خَفَاءً
إذا اسْتَتَر، وخفَيْتُه أخْفِيه خَفْياً إِذا أظْهَرْتُه،
وأهل المدينة يسمون النبَّاشَ: المُخْتَفِي.
قال الشاعر في خفيته أظهرته:
(1/354)
لَيْسَ عَلَيْكَ
هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا
تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ
إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ
خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
فإِنْ تَدفِنُوا الداءَ لا نخْفِه. . .وإِن
تَبْعَثُوا الحرْبَ لا نَقْعُدِ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ
اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ
فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ
اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ
وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
معناه إِنما عليك الِإبلاغ كما قال - جلَّ وعزَّ - (وَلَا
تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119).
ومعنى: (وَلَكنَّ اللَّهَ يَهْدي مَنْ يَشَاءُ).
أي يوفق من يشاءُ للهداية، وقال قوم: لَوْ شاءَ الله لهداهم أي
لاضطرهم إِلى أن يهتدوا - كما قال: (إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ
عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ
لَهَا خَاضِعِينَ (4).
وكما قال - عزَّ وجلَّ - (ولَوْ شَاءَ اللَّهُ لجَمَعهُم عَلَى
الهُدى)
وهذا ليس كذلك. هذا فيه: (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ
يَشَاءُ).
فَلاَ مُهتديَ إِلا بتَوفيق الله - كما قال: (وَمَا تَوْفِيقِي
إِلاَّ باللَّه).
ومعنى: (وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ).
هذا خاص لِلْمُؤْمِنِينَ، أعْلمهم أنه قد عَلِم أنهم يريدون
بِنَفقتهم ما عند
اللَّه جلَّ وعزَّ، لأنه إِذا أعلمهم ذلك فقد علموا أنهم
مثابون عليه، كما قال: (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ
إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ
مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ).
الرفع في (يُكَفِّرُ) والجزمْ جائزان، ويقرأ - ونُكفر عنكم -
بالنون والياءِ.
وزعم سيبويه أنه يَخْتَار الرفعَ في وُيكَفَرُ، قال لأن ما بعد
الفاءِ قد صار بمنزلتِه
(1/355)
لِلْفُقَرَاءِ
الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ
ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ
مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ
النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ
اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
في غير الجزاءِ، وأجاز الجزم على موضع فهو
خير لكم لأن المعنى يكن
خيراً لكم، وذكر أن بعضهم قرأ: (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا
هَادِيَ لَهُ ويَذَرْهم) بجزم الراءِ، والاختيار عنده الرفع في
قوله (ويذرهُم) وفي (ونُكَفِّر)
قال: فأمَّا النصب فضعيف جداً، لا يجيزُ (ونُكَفِّرَ عَنْكم)
إلا على جهة الاضطرار، وزعم أنه نحو قول الشاعر:
سَأتركُ مَنزِلي لبَنِي تَمِيم. . . وألحقَ بالحجاز فأستريحَا
إلا أن النصب أقوى قليلاً لأنه إنَّمَا يَجبُ به الشًيءُ
بوجُوبِ غيره فضارع
الاستفهامَ وما أشبَههُ.
هذا قول جميع البصريين وهو بين واضح.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ
يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ
تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ
إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ
عَلِيمٌ (273)
فُقراء: جمع فقير مثل ظريف وظُرَفَاء وقالوا في (أُحْصِرُوا)
قولين: قالوا
أحْصَرهم فرضُ الجهاد فَمَنَعَهُم من التصرفِ.
وقالوا أحصرهم عَدُوهُم لأنه شَغَلَهُمْ بِجِهادِهِ، ومعنى
(أُحْصِرُوا) صاروا إلى أن حصروا أنفسهم للجهاد، كما تقول
رَابَط في سبيل اللَّه.
ومعنى: (لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ).
(1/356)
أي قد ألزموا أنفسهم أمر الجهادِ فمنعهم
ذلك من التصرف وليس لأنهم
لا يقدرون أن يتصرفوا. وهذا كقولك، أمرني المولى أن أقيمَ فما
أقدرُ على أن أبرحَ، فالمعنى أني قد ألزَمْتُ نفسي طاعَتَهُ،
ليْس أنه لا يقدر على الحَرَكةِ
" وهو صحيح سَوِي، ويقال ضربتُ في الأرض ضرباً، وَضَرَبَ
الفَحْلُ الناقَةَ إذا حَمَل عليها ضِراباً، والضرِيبُ الجليد
الذي يسقط على الأرض، يقال ضَرَبَت الأرض وجُلِدت الأرض
وَجَلِدَتْ الأرض.
وروى الكسائي: ضَرِبَتْ الأرضُ وجَلِدتْ.
والأكثر ضَرَبَتْ وجُلِدَات.
ومعنى (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ
التَّعَفُّفِ).
أي يحسبهم الجاهل ويخالهم أغنياء من التعفف عن المسألة وإظهارِ
التجمل.
ومعنى: (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا).
روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال " من سأل وله
أربعون درهماً فقد ألْحَفَ "
ومعنى " ألحَفَ " أي اشتمل بالمسْألَة، وهو مستغن عنها،
واللِّحَافُ من هذا
اشتقاقه لأنه يشْمَل الإنْسَان في التغطية.
والمَعْنَى أنه ليس منهم سؤَال فيكون منهم إلحاف.
كما قال أمرؤ القيس "
على لاحِبٍ لا يُهْتدى بمَنارهِ. . . إذا سافَه العَوْدُ
النباطيُّ جَرْجَرا
المعنى ليس به منار فيهتدى بها، وكذلك ليس من هُؤلاءِ سؤَال
فيقع فيه
إلحاف.
(1/357)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ
الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي
يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ
رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى
اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ (275)
وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ
أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً
فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ
وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
(الذين) رفع بالإبتداء، وجاز أن يكون الخبر ما بعد الفاءِ، ولا
يجوز في
الكلام " زيد فمنطلق " لأن الفاءَ لا معنى لها -، وإنما صلح في
الذين لأنها تأتي بمعنى الشرط والجزاءِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا
يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ
الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ
رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى
اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ
فِيهَا خَالِدُونَ (275)
المعنى الَّذين يأكلونَ الرِّبَا لا يقومون في الآخرة إلا كما
يقومُ المَجْنُون.
مِنْ حَالِ جُنُونه.
زعم أهل التفسير أن ذلك عَلَمٌ لهُمْ في الموقف، يَعْرفُهُمْ
به
أهل المَوْقِف، يُعْلَمُ بِه أنَّهُمْ أكَلَةُ الربا في الدنيا
يقال بِفُلان مَس، وهو ألْمَس
وأوْلَق إذا كان به جنون.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ
فَانْتَهَى).
جاز تذكير (جاءَه)، وقال: تعالى في موضع آخر (قَدْ جَاءَتْكُمْ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) لأن كل تأنيث ليس بحقيقي فتذكيره
جائز ألا ترى أن الوعظ
والموعظة معبران عن معنى واحد.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى
اللَّهِ).
أي قَد صُفِحَ لَه عَمَّا سَلَفَ (وأمْرُهُ إلَى اللَّه) أي
اللَّه وليُّه.
ومعنى: (وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ).
أي من عاد إلى استحلال الربا فهو كافر، لأن من أحلَّ ما حرَّم
اللَّه فهو
(1/358)
وَإِنْ كَانَ ذُو
عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا
خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
كافر، وهؤُلاءِ قالوا: (إِنَّمَا الْبَيْعُ
مِثْلُ الرِّبَا) ومن اعتقد هذا فهوكافر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ (278)
نزلت في قوم من أهل الطائف كانوا صُولحوا على أنْ وُضِعَ
عَنهُمُ ما
كَانَ عَلَيْهِمْ مِنَ الربا، وَجُعلَ لهم أن يأخُذُوا مَا
لَهُمْ مِنَ الربَا وكان لهم على
قوم مِنْ قُريْش مال فطالَبُوهُمْ عندَ المَحْل بالمال والربَا
فقالتْ تلك الفرقة ما
بالنا مِنْ أشقى الناس يؤْخذ منا الربا الذي قد وضع عن سائر
الناس، فأمر الله
عز وجلَّ - بترك هذه البقية، وأعلم أن من كان مؤْمناً قَبلَ عن
اللَّه أمرَه ومن أبى فهو حرْبٌ، أي كافر، فقال:
(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ
لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
وقال بعضهم قآذِنُوا، فمن قال (فَأْذَنُوا): فالمعنى: أيقِنُوا
ومن قال (قآذِنُوا)
كان معناه فأعلِمُوا كل مَنْ لمْ يترُكِ الربَا أنَّه حَرْب.
يقال قد آذنته بكذا وكذا، أوذنُه إيذَاناً إذا أعْلَمْتُه وقد
أذِنَ له يأذنُ إذْناً إذا عَلِمَ بِه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ
إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
أي: وإن وقعَ (ذُوعُسْرَةٍ)، ولو قرئت، وإن كان ذا عُسْرَةٍ
لجاز أي
وإن كان المدين الذي عليه الدَّينُ ذَا عُسْرةٍ، ولكن لا
يُخَالف المصحف
والرفع على أن، (إنْ كان) على معنى إنْ وقع ذو عسرة - ورفع
(فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) على فعلى الَّذِي تعاملونه نظرة
أي تأخير، يقال بعته بيعاً بِنَظرةٍ.
ومن قال فناظرة إلى ميسرة ففاعالة من أسماءِ المَصَادِر نحو
(لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ)
(1/359)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ
مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ
بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا
عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ
شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ
ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ
وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ
تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى
وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا
أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ
ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ
وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً
حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ
جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ
وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا
فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ
اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
ونحو (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا
فَاقِرَةٌ (25).
وإنْ شئْتَ قُلتَ إلى مَيْسُرة
فأما منْ قَرأ (إلى مَيْسُرِهِ) على جهةِ الإضافة إلى الهاءِ
فمخطئ، لأن "ميسُر"
مَفْعُل وليْس في الكلام مفعُل.
وزعم البصريون أنهم لا يعرفونَ مفْعُلاً إنما يَعْرِفُون
مفْعُلَة.
فَأمرهم اللَّه بتأخيرِ رأس المال بعد إسقاط الربا، إذا كان
المُطَالَبُ
مُعْسِراً، وأعلمهم أن الصدقة بِرأس المالِ عَلَيْهِ أفْضَلُ.
فقال: (وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ
تَعْلَمُونَ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ
إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ
وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
هذا يوم القيامة، ويقال إنها آخر آية نزلت من كتاب اللَّه جلَّ
وعزَّ.
كذا جاءَ في التفسير.
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ
وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ
كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ
وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ
رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي
عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا
يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ
بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ
فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ
مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ
إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا
يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ
تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ
أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى
أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً
تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا
تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ
كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ
بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ
بِدَيْنٍ)
يقال دَايَنْتُ الرجلَ إذا عاملته بدين، أخَذْتُ منه وأعطيتُه.
وتَدايَنَّا على
دايَنْتُه، قال الشاعر:
- دايَنْتُ ليْلَى والدُّيُونُ تقضَى. . . فمطلت بعضاً وأدَّت
بعضاً
ويقال دِنْت وأدَّنْتُ أي اقْترضْت، وأدَنْتُ إذا أقْرضْتُ.
قال الشاعر:
أدانَ وأنبِّأه الأولون. . . بأن المُدَان مَلِيء وفيُّ
(1/360)
فالمعنى إذا كان لبَعْضكم على بعْض ديْن
إلى أجل مُسَمَّى فاَكتبوه فأمر
الله - عزَّ وجلَّ - بكَتْب الدين، حِفظاً مِنْه للأمْوال،
وكذلك الإشهاد فيها
وللناسِ من الظلْمِ لأَن صاحب الدَّيْنِ إذا كانت عليه
الشهُودُ والبَينَةُ قَلَّ
تحديثُه نفسَه بالطمَع في إذْهَابِهِا.
فأمر اللَّه - جلَّ وعزَّ - بالإشهاد والكِتَابِ.
قال بعض أهل اللغة هذا أدب من اللَّه عزَّ وجلَّ وليس بأمر
حَتْم كما
قال عزَّ وجلَّ: (وإِذَا حَلَلْتُم فاصْطادوا) - فليس يجب
كُلماِ يحل من
الإحرام أن يصطاد، وكما قال: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ
فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ).
وهذا خلاف ما أمَرَ اللَّه به في كتاب الدين والإشهاد لأن هذين
جميعاًْ
إباحة بعد تحريم - قال الله عزَّ وجلَّ: (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ
صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا) وقال: (لَا تَقْتُلُوا
الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ) ثم أباح لهم - إِذا زال
الإحرام - الصيدَ " وكذلك " قال: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ
مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ
وَذَرُوا الْبَيْعَ)
فَأبَاحَ لَهُمْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الصًلاةِ الابتغاءَ منْ
فضْلِهِ، والانتشارَ في الأرض لما أرادوا من بيع وغَيْره.
وليست آيةُ الدَّيْنِ كذلك، ولكن الذي رخص في ترك الإشهاد في
قول قوم قوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ
الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ).
أيْ يكتَب بالحق، لا يكتب لصاحب الدين فضلًا على الذي عليه
الدين
ولا يُنْقصُه مِنْ حقه - فهذا العدل.
(1/361)
ومعنى: (وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ
يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ).
أي لا يأب أنْ يكتب كما أمره اللَّه به من الحق.
وقيل (كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ)، أي كما فضله
اللَّه بالكتاب فلا يَمْنَعَن المعْرُوفَ بكتَابِهِ.
وأبى يأبَى في اللغة منفرد لَم يَأتِ مِثْلُه إلا قَلَى
يَقْلَى، والذي أتَى أبَى يأبى
لا غير - فَعَل يَفْعَل، وهذا غير معروف إلا أن يكون في موضع
العين من الفعل أو اللام حرف من حروف الحلق، وقد بيَّناها،
ولكن القول فيه أن الألف في أبى أشْبَهَت الهَمْزَة فَجاءَ
يَفْعَل مفْتُوحاً لِهَذِه العِلة، وهذا القول لإسماعيل بن
إسحاق ومثله قلى يلقى.
ومعنى قوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا) أي
لاَيَنْقُصْ مِنْهُ شَيْئاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ
سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ
هُوَ).
السفيه الخفيف العقل، ومن هذا قيل تسفهت الريح الشيء إذا
حركته.
واستخفته، قال الشاعر:
مَشَيْنَ كما اهتزَّتِ رماحٌ تسفَّهَتْ. . . أَعَالِيَها مَرُّ
الرِّياحِ النَّواسِم
(1/362)
فالنساء والصبيان اللاتي لا يميزن تميزاً
صحيحاً سفهاء، والضعيف
في عقله سفيه، والذي لا يقدر - على الإملاء العيي.
وجائز أن يكون الجهول سفيهاً كهؤُلاءِ.
ومعنى: (فليملل وليه بالعدل): أي الذي يقوم بأمره، لأن اللَّه
أمر ألا
نْؤتي السفهاء الأموال. وأمر أن يقام لهم بها فقال:
(وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ).
فوليه الذي يقوم مقامه في ماله لو كان مميزاً.
وقال قوم: ولي الدَّيْنِ. وهذا بعيد: كيف يقبل قول المدعي، وما
حاجتنا إلى الكتاب والإشهاد والقول قوله:
(وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ).
معنى رجالكم من أهل ملتكم.
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ
تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ).
أي فالذي يشهد - إن لم يكن - رجلان - رجل وامراتان ومعنى (ممن
ترضون من الشهداءِ)، أي ممن ترضون مذهبه، ودل بهذا القول أن في
الشهود من ينبغي ألا يرضى.
(أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا
الْأُخْرَى).
مَنْ كسر (أنْ) فالكلامُ علي لَفظ الجَزَاءِ، ومعناه: المعنى
في (إن تضِل)
إن تَنْسَى إحداهما، تذكرْهَا الذاكرةُ فَتَذْكر.
و (فَتُذَكِّرُ) رُفِعَ مع كسر (إنْ)
(1/363)
لا غير - ومن قرأ "أن تَضِلَ قتُذَكرَ "
وهي قراءَة أكْثر الناس، فَزَعمَ بعضً أهل اللغة فيها أن
الجزاء فيها مقدَّم أصله التاخير
وقال: المعنى: استشهدوا امراتين مكان الرجل كي تُذَكرَ الذاكرة
- الناسِيَةَ. إن نَسِيَتْ. فلما تقدم الجزاءُ اتصلَ بأول
الكلام وفُتِحَتْ أنْ وصارَ جوابهُ مردُوداً عليه.
ومثله إني لَيُعْجِبُني أن يسْأل السائلُْ فيعطى، قال -
والمعنى إنما يُعجبُه الإعطاء إن سَأل السائِل وزعم أن هذا قول
بين.
ولست أعرف لِمَ صار الجزَاءُ إدا تقدم - وهو في مكَانه أو في
غير
مكانِه وجب أن يفتح (أن) معه.
وذكر سيبويه والخليل " وجميع النحويين الموثوق بعلمهم أن
المعنى
استَشهدوا امراتين لأن تُذَكرَ إحداهما الأخري، ومِنْ أجْل أنْ
تُذَكرَ إحداهما
الأخرى، قال سيبويه: فإن قال إنْسَانُ فلم جاز (أن تضل) وإنما
أعد هذا
للإذْكار، فالجواب أن الإذكار لما كان سبَبُه الإضْلال جاءت أن
يذكر
(أن تضل) لأنَّ الإضلال هو السبب الذي أوجب الإذكار.
قال ومثله: أعددت هذا الجذع أن يَمِيلَ الحائطُ، فأدعمَهَ،
وإنَّما أعددته للدعم لا لِلْمَيل، ولكنْ الميلَ ذُكرَ لأنه
سَبَبُ الدعم، كلما ذكر الإضْلال لأنه سبب الاذكار - فهذا هو
البيِّن إن شاءَ الله.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا
دُعُوا).
(1/364)
يروى عن الحسن أنه قال (وَلَا يَأْبَ
الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا) لابتداء الشهادة.
أي ولا يأبوا إذا دُعُوا لإقامتها.
وهذا الذي قال الحسن هو الحق - واللَّه أعلم - لأن الشهداء إذا
أبوا -
وكان ذلك لهم - أن يشْهدوا تَوِيتْ حقوقهم وبطلت معاملاتهم
فيما يحتاجون
إلى التوثق فيه.
وقال غير الحسن: (وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا)
- وكانت في أعناقهم
شهادة - أن يقيموها.
فأما إذا لم يكونوا شهداء فهم مخيرون في ابتداء
الشهادة، إن شاءُوا شهدوا وإن شاءُوا أبوا.
ويدل على توكيد أن الشاهد ينبغي له إذا ما دعي ابتداء أن يجيب.
قوله تعالى: (وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ
كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ).
أي لا تملوا أن تكتبوا ما أشْهَدتم عليه، فقد أمِرُوا بهذا،
فهذا يَؤكد أن
أمر الشهادة في الابتداءِ واجب، وأنه لا ينبغي أن يُمَل ويقال
سئمت أسأم
سآمة. سأماً.
قال الراجز:
لما رأيت أنه لا قامة. . .وأننِي سَاق على السآمَة
نزعتُ نزعاً زَعْزَع الدعَامَة
ومعنى: (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً).
أكثر القراءِ على الرفع (تِجَارَةً حَاضِرَةً) على معنى: إلا
أن تقَع تِجارةَ
(1/365)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى
سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ
أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ
أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا
الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ
وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
حاضِرة. ومن نصب تجارة - وهي قراءَة عاصم
فالمعنى إلا أن تَكونَ المُداينة
تجارةً حاضرةً.
والرفع أكثرُ وهي قراءَة الناس.
فرخص اللَّه عزَّ وجلَّ في ترك كتابة ما يديرونه بينهم لكثرة
ما تقع
المعاملة فيه، وأنه أكثر ما تقع المتاجرة بالشيءِ القليل، وإن
وقع فيه الدين.
ووكدَ في الاشهاد في البيع فقال:
(وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ) وقد بيَّنَّا ما الذي رخص
في ترك، الإشهاد.
ومعنى: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ).
قالوا فيه قولين: قال بعضهم: (لَا يُضَارَّ): لا يضارِرْ،
فأدغمت الراءُ
في الراءِ، وفتحت لالتقاءِ الساكنين، ومعنى (لَا يُضَارَّ) لا
يكتب الكاتب إلا
بالحق ولا يَشْهدُ الشاهد إلا بالحق.
وقال قوم: (وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ): لا يُدْعَى
الكاتبُ وهو مشغول لا يمكنه ترك شغله إلا بضرر يدخل عليه،
وكذلك
لا يُدْعى الشاهد ومجيئُه للشهادة يضُرُّ به والأول أبينُ
لقوله: (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ)
فالفاسق أشبه بغير العدل وبمَنْ حرف الكتاب منه بالذي دعا
شاهداً
ليشهد، ودعا كاتباً ليكتب، وهو مشغول فليسَ يسمَّى هذا فاسقاً
ولكن يسمى من كذب في الشهادة ومن حرف الكتاب فاسقاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ
تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ
وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ
وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا
تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
قرأ الناس " فرُهُن مقبوضة " و " فَرِهان مقبُوضَة "
فأمَّا "رُهُنٌ" فهي قراءَة أبي عَمرو، وذكر فيه غير واحد أنها
قرئت: " فَرُهُن " ليُفْصَل بين الرهَانِ في الخَيْل
(1/366)
وبين جَمْع رَهْن في غيرها، ورُهُن ورهان
أكثر في اللغَةِ.
قالَ الفراء " رُهُن " جمعٍ رِهَانٍ، وقال غَيْرُه: رُهُن
وررَهْن " مِثْل سُقُف وسَقْف.
وفَعْل وفُعُل قليل إلا إنَّه صحيح قد جاءَ؛ فأما في الصفة
فكثير، يقال: فرَس وَرْد، وخيل وُرْد.
ورجل ثَط وقَوْم ثُط، والقراءَةُ على " رُهُن " أعجَب إِليَّ
لأنها موافقة
للمصحف، وما وافق المصحف وصح معناه وقرأت به القراء فهو
المُختار.
ورِهَان جَيِّد بَالغ.
يقال: رهنتُ الرهن وأرهَنْتُه، وأرْهَنْتُ أقلهما.
قال الشاعر في أرْهنت:
فَلَمَّا خَشِيتُ أظافِيرهُم. . . نَجَوْتُ وَأرْهَنْتهُمْ
مَالِكاً
وقال في رَهَنْت: أنشده غيرُ واحد:
(1/367)
آمَنَ الرَّسُولُ
بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ
آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا
نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
فَهَلْ من كاهِنٍ أوْ ذِي إله. . . إذا مَا
حان من رَبي قُفول
يُرَاهِنُني فيَرهَنُني بَنِيه. . . وأرْهنه بَنِي بما أقولُ
لَمَا يَدْري الفقيرُ متى غِنَاه. . . ومَا يَدْري الغَنِيُّ
متَى يُعِيلُ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ
يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
معناه هو خالقهما.
(وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ
يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ).
معناه إن تظهروا العمَل به أو تُسِرُّوه يُحاسبكم به اللَّه،
وقد قيل إن هذا
منسوخ، روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال تُجَوِّزَ
لهذه الأمة عن نسيانها وما حدَّثَتْ به أنْفُسَهَا.
ولما ذكر اللَّه - جلَّ وعزَّ - ْ فَرْضَ الصلاة والزكاة
والطلاق والحيض
والإيلاءِ والجهاد وأقاصيص الأنبياءِ والدَّيْن والربا، ختم
السورة بذكر تعظيمه وذكر تصديق نبيه - صلى الله عليه وسلم -
والمؤمنين بجميع ذلك فقال:
(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ
وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ
وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ
رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ
رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
أي صدق الرسول بجميع هذه الأشياء التي جرى ذكرها وكذلك
المؤْمنون.
(كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ) أي صدق بالله وملائكته وكتبه.
- وقرأ ابن عباس - وكِتَابه وقرأتْه جماعة من القراءِ.
فأمَّا كُتُب فجمع كِتاب، مثل: َ مِثَال ومُثُل، وحمَار
وحُمُر.
وقيل لابن عباس في قراءَته " وكتابه " فقال كتاب أكثر من كتب.
ذهب به إلى اسم الجِنْس
(1/368)
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ
نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا
اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ
أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا
تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا
وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا
عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
كما تقول: كثر الدرْهَم في أيدِي الناس.
ومعنى: (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ).
أي لا نفعل كما فعل أهل الكتاب قبلنا. الذين آمنوا ببعض الرسل
وكفروا ببعض، نحو كفْر إليهود بعيسى، وكفْر النصارى بغيره
فأخبر عن
المؤمنين أنهم يقولون (لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ
رُسُلِهِ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا).
أي " سَمعْنَا " سَمْع قابِلينَ. و (أطَعْنَا): قِبِلْنَا ما
سَمِعْنَا، لأن مَن سمع
فلم يعْمل قيل له أصم - كما قال جلَّ وعزَّ:
(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ). ليس لأنهم لَا يسْمعون ولكنهم صاروا -
في ترك القبول بمنزلة من لا يسمع
قال الشاعر:
أصَمُّ عمَّا سَاءَهُ سَمِيع
ومعنى: (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ).
أي أغفر غُفْرانَك، وفُعْلاَن، من أسْمَاءِ الْمَصَادِر نحو
السُّلوان والكُفْران.
ومعنى: (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) أي نحن مقرون بالبعْثِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا
وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ
رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا
رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ
عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا
مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا
وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ (286)
(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا)
أي إلا قدرَ طَاقَتها، لا يكلفها فَرضاً من فُروضهِ من صَوْم
أوصَلاةٍ أو
صَدقَةٍ أو غير ذلك إلا بمقدار طاقتها.
ومعنى: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ).
أي لا يؤَاخذ أحداً - بذنب غيره - كما قال - جلَّ وعزَّ:
(وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).
(1/369)
ومعنى: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ
نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا).
قيل فيه قولان: قال بَعضهم إِنَه على مَا جاءَ عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - "عُفِيَ لِهَذِهِ الأمة عن نِسُيَانِهَا ومَا
حَدَّثتْ بِهِ أنفُسَهَا"
وقيل: (إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) أي إن تَرَكْنَا.
و (أو أخْطَانَا): أيْ كَسَبْنَا خطيئةً واللَّه أعلم.
إلا أن هذا الدعاءَ أخبر اللَّه به عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - والمؤْمنين وجعله في كتابه نيكون دعاءَ مَنْ يأتي بعد
النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة رحمهم اللَّه.
وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن اللَّه - جلَّ وعزَّ
- قال في كل فصل من هذا الدعاء فَعلتُ فعلتُ أي اسْتَجَبْتُ.
فَهوَ منَ الدعاء الذي ينبغي أن يحفظ وأن يدعى به كثيراً.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا
كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا).
كل عقد من قرابة أو عهد فَهُو إصْر، العرب تقول: مَا تأصِرُني
على
فلان آصرة. أي ما تَعطفني عليه قرابة ولا مِنَة قال الحطيئة:
عَطفُوا عليَّ بغير آصرة. . . فقد عَظُمَ الأواصِر
أي عطفوا على بغير عهد قرابة، والْمَأصَرُ من هذا مأخوذ إنما
هو
عقد ليحبس به، ويقال للشيء الذي تعْقَدُ به الأشياء الإصَار.
فالمعنى لَا تَحْمِلْ علينا أمْرا يثقُل كما حمَلتَه على الذين
من قبلنا نحو ما
(1/370)
أمِرَ به بنو إسرائيل من قتل أنفسهم، أي لا
تَمْتَحِنا بما يثقل. (أيضاً) نحو
قوله: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً
لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ
سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ).
والمعنى لا تمتحنا بمحنة تثقل.
ومعنى: (وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ).
أي ما يثقل علينا، فإِن قال قائل - فهل يجوز أن يُحَمِّلَ
اللَّهُ أحداً ما لا
يطيق؟
قيل له: إدْ أردت ما ليس في قدرته ألبتَّة فهذا محال.
وإن أردت ما يثقلُ ويخسف فللَّهِ عزَّ وجلَّ أن يفعل من ذلك ما
أحب.
لأن الذي كلفه بني إسرائيل من قتل أنفسهم (يَثقل)، وهذا كقول
القائل: ما
أطيقُ كلام فلان، فليس المعنى ليس في قُدرتِي أن ُكَلِّمَهُ
ولكنْ معناه في اللغة أنه يثقل عليَّ.
ومعنى: (فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
أي أنْصُرنا عليهم في إقامة الحجة عليهم، وفي غلبنا إِياهم في
حربهم
وسائر أمرهم، حتى تظهر ديننا على الدِّين كلِّه كما وعدتنا.
(1/371)
|