معاني القرآن وإعرابه للزجاج

أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5)

سُورَةُ الدُّخَان
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

جاء في التفسير: من قرأ سورة الدخان في ليلة الجمعة تصديقاً وإيماناً
غفر اللَّه له.
وقد فسرنا معنى (حم) فيما سَلَفَ.
* * *

وقوله: (وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2)
قَسَمٌ.
* * *

وقوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3)
جاء في التفسير أنها ليلة القدر، قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -:
(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ).
وقال المفسرُون: (فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) هي ليلة القدر.
نزل جملة إلى السماءِ الدنْيَا في ليلة القَدْرِ، ثم نزل عَلَى رَسُول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - شيئاً بعد شيء.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)
يَفْرُق اللَّه عزَّ وجلَّ في ليلة القدر كل أمر فيه حكمة من أرزاقِ العِبادِ
وآجالِهِمْ وجميع أَمْرِهم الذي يكون مُؤَجَّلاً إلى ليلة القدر التي تكون في السنة
المقبلة.
* * *

وقوله - عزَّ وجلَّ -: (أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)
(أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا) (1)، وقوله: (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ).
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {أَمْراً}: فيه اثنا عشر وجهاً، أحدُها: أَنْ ينتصِبَ حالاً مِنْ فاعل «أَنْزَلْناه». الثاني: أنه حالٌ مِنْ مفعولِه أي: أنزلناه آمِرِيْن، أو مَأْموراً به. الثالث: أَنْ يكونَ مفعولاً له، وناصبُه: إمَّا «أَنْزَلْناه» وإمَّا «مُنْذرِين» وإمَّا «يُفْرَقُ». الرابع: أنه مصدرٌ مِنْ معنى يُفْرَق أي: فَرْقاً. الخامس: أنه مصدرٌ ل «أَمَرْنا» محذوفاً. السادس: أَنْ يكونَ «يُفْرَقُ» بمعنى يَأْمُر. والفرقُ بين هذا وما تقدَّم: أنَّك رَدَدْتَ في هذا بالعاملِ إلى المصدرِ وفيما تقدَّم بالعكس. السابع: أنَّه حالٌ مِنْ «كُلُّ». الثامن: أنه حالٌ مِنْ «أَمْرٍ» وجاز ذلك لأنه وُصِفَ. إلاَّ أنَّ فيه شيئين: مجيءَ الحالِ من المضاف إليه في غيرِ المواضع المذكورة. والثاني: أنها مؤكدةٌ. التاسع: أنه مصدرٌ ل «أَنْزَل» أي: إنَّا أَنْزَلْناه إنزالاً، قاله الأخفش. العاشر: أنَّه مصدرٌ، لكن بتأويل العاملِ فيه إلى معناه أي: أَمَرْنا به أَمْراً بسببِ الإِنزال، كما قالوا ذلك في وَجْهي فيها يُفْرَقُ فَرْقاً أو يَنْزِل إنزالاً. الحادي عشر: أنه منصوبٌ على الاختصاص، قاله الزمخشري، ولا يَعْني بذلك الاختصاصَ الاصطلاحيَّ فإنه لا يكون نكرةً. الثاني عشر: أَنْ يكونَ حالاً من الضميرِ في «حكيم». الثالث عشر: أَنْ ينتصِبَ مفعولاً به ب «مُنْذِرين» كقولِه: {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً} [الكهف: 2] ويكونُ المفعولُ الأول محذوفاً أي: مُنْذِرين الناسَ أمراً. والحاصلُ أنَّ انتصابَه يَرْجِعُ إلى أربعة أشياء: المفعولِ به، والمفعولِ له، والمصدريةِ، والحاليةِ، وإنما التكثيرُ بحَسبِ المحالِّ، وقد عَرَفْتَها بما قَدَّمْتُه لك.
وقرأ زيد بن علي «أَمْرٌ» بالرفع. قال الزمخشري: «وهي تُقَوِّي النصبَ على الاختصاصِ».
قوله: «مِنْ عِنْدِنا» يجوز أَنْ يتعلَّق ب «يُفْرَقُ» أي: مِنْ جهتِنا، وهي لابتداءِ الغاية مجازاً. ويجوز أَنْ يكونَ صفةً ل أَمْراً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/423)


يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)

منصوبان - قال الأخفش - على الحال، المعنى إنا أنزلناه آمرين أَمْرِاً
وراحمين رحْمةً.
ويجوز أن يكون منصوباً بِـ (يُفْرَقُ) بمنزلة يفرُقُ فرقاً لأن أمْرَاً
بمعنى فَرْقاً، لأن المعْنَى يؤتمر فيها أمراً.
ويجوز أن يكون (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) مَفْعُولًا له، أي إنا أنزلناه رحمة أي
للرحْمَةِ (1).
* * *

وقوله: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7)
بالخفض والرفع. فالرفعُ عَلَى الصفَةِ، والخفض على قوله: (مِنْ رَبِّكَ
رَبِّ السَّمَاوَاتِ.
ومن رفع فعلى قوله: (إنَّه هو السميع العليم رَبُّ السَّمَاوَاتِ).
وإن شئت على الاستئناف على معنى هو ربُّ السَّمَاوَاتِ.
* * *

وقوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)
ويقرأ (رَبكُمْ وَرَبِّ آبائِكم الأولينَ) - فالخفض على معنى رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ
رَبِّكم وربّ آبائكم الأولين.
* * *

وقوله: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10)
(فارتقب) فانتظر، وفي أكثر التفسير أن الدخان قَدْ مَضى وذلك حين دعا
رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عَلَى مُضَرٍ فقال:
اللهم اشدد وطأتك على مُضَرٍ واجْعَلْها عَلَيْهِم سِنِينَ كسني يُوسُفَ.
أي اجْعَلْهُم سِنُوهم في الجدب كسني يوسف.
والعَرَبُ أيضاً تسمي الجدبِ السَّنَةَ، فيكونُ المْعَنى اجعلها عليهم جَدُوباً. فارتفع القَطْرُ، وأجْدَبَتِ الأرضُ وصار بين السماء والأرض كالدخَانِ.
* * *

وقوله: (يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {رَحْمَةً}: فيها خمسةُ أوجهٍ [أحدها]: المفعولُ له. والعاملُ فيه: إمَّا «أَنْزَلْناه» وإمَّا «أَمْراً» وإمَّا «يُفْرَقُ» وإمَّا «مُنْذِرين». الثاني: مصدرٌ بفعلٍ مقدرٍ أي: رَحِمْنا رَحْمَةً. الثالث: مفعولٌ ب مُرْسِلين. الرابع: حالٌ من ضمير «مُرْسِلين» أي: ذوي رحمة. الخامس: أنها بدلٌ مِنْ «أَمْراً» فيجيءُ فيها ما تقدَّم، وتكثرُ الأوجهُ فيها حينئذٍ.
و «مِنْ رَبِّك» يتعلَّقُ برَحْمة، أو بمحذوفٍ على أنها صفةٌ. وفي «مِنْ ربِّك» التفاتٌ من التكلُّم إلى الغَيْبة، ولو جَرَى على مِنْوالِ ما تقدَّمَ لقال: رحمةً منا. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/424)


وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)

المعنى يقول الناسُ الذين يحل بهم الجَدْبُ: (هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ)
وكذلك قوله (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ).
* * *

وقوله - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)
ويجوز أَنَّكُمْ عَائِدُونَ.
فمن قرأ أَنكُمْ عائدونَ فهو الوجه، والمعنى أنه يعلمهم أنهم لا يتعِظُونَ، وأنهم إذَا زال عنهم المكروه عادوا في طُغْيانِهم.
* * *

وقوله - عزَّ وجلَّ: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
يوم نَبْطِش، وَنَبْطُش إِنَّا مُنْتَقِمُونَ.
هذا مثل عَكَفَ يَعكُف وَيَعْكِفُ، وعَرَشَ يَعْرِشُ ويعْرُشُ وهذا في اللغة
كثير.
وقيل إن البطشة الكبرى يوم بَدْر.
و" يومَ " لا يجوز أن يكون منصُوباً بقوله مُنْتَقِمُونَ، لأن ما بَعْدَ (إنَّا) لا يجوز أن يعمل فيما قبلَها، ولكنه مَنْصُوبُ بقوله: واذكر يوم نبطش البطشة الكبرى.
* * *

وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)
(أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ)
أن أسلموا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ، يعني بني إسرائيل كما قال: (فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ)، أي أطلقهم من عَذَابِكَ.
وجائز أن يكون (عِبَادَ اللَّهِ) مَنصُوباً على النداء، فيكون المعنى أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ ما أمركم اللَّه به يا عباد اللَّه.
* * *

(وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19)
أي بِحِجةٍ وَاضحةٍ بَيِّنَةٍ تَدل على أني نبيٌّ.
* * *

وقوله: (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20)
أي أن تقتلون.

(4/425)


فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29)

وقوله: (وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)
أي إن لم تؤمنوا لي فلا تكونوا عليَّ ولا مَعِي.
* * *

(فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22)
من كسر (إنَّ) فالمعنى قال إن هؤلاء، وَ " إنَّ) بعد القول مكسورة.
ويجوز الفتح على معنى فَدَعَا رَبَّهُ بأَنَّ هَؤُلَاءِ.
* * *

وقوله: (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)
جاء في التفسير " يَبَساً " كما قال: (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا"
وقال أهل اللغة: رَهواً سَاكِناً.
* * *

وقوله: (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26)
جاء في التفسير أن المقام الكريم يعنى به المنابر ههنا، وجاء في
مَقام كريم أي في منازل حسنة.
* * *

قوله: (كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28)
المعنى الأمر كذلكْ.
موضع كذلك رفع على خبر الابتداء المضمَر.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ

(29)
لأنهم ماتوا كفاراً، والمؤمنون إذَا مَاتُوا تبكي عليهم السماء والأرض.
فيبكي على المؤمن من الأرض مُصَلَّاه أي مكان مُصَلاهُ ومن السماء مكان مصعد
عمله ومنزل رزقه.
وجاء في التفسير أن الأرض تبكي على المؤمن أربعين
صَبَاحاً.
* * *
وقوله: (وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ).

(4/426)


إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43)

أي ما كانوا مؤخرين بالعذاب.

(وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32)
أي على عالمي دهرِهم.
* * *

وقوله: (إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35)
هذا قاله الكفار من قريش، معنى (إن هي) ما هي، ومعنى (بِمُنْشَرِينَ)
بمبعوثين، يقال أنشر اللَّه الموتى فَنَشَرُوا هُمْ [إِذا حَيُوا] (1).
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
جاء في التفسير أن تُبَّعاً كان مؤمناً، وأن قومه كانوا كافرين، وجاء أنه
نظر إلى كتاب على قبرين بناحية حمير، على قبر أحدهما: هذا قبر رَضْوَى.
وعلى الآخر هذا قبر حُبى ابْنتي تُبَّع لا يشركان باللَّهِ شيئاً.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39)
يعنى به السَّمَاوَات والأرض أي إلا لإقامة الحق.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)
ويجوز ميقاتهم بنصب التاء، ولا أعلم أنه قرئ بها، فلا تقرأن بها.
فمن قرأ ميقاتهم بالرفع جعل يوم الفصل اسم إنَّ، وجعل ميقاتهم الخبر، ومن
نصب ميقاتهمْ جعله اسم إنَّ ونصب يوم الفصل على الظرف، ويكون المعنى
ميقاتهم في يوم الفصل.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41)
لا يغني ولي عن وَليِّهِ شيئاً، ولا والد عن ولده، ولا مَوْلُودٌ عن وَالِدِه.
* * *

وقوله: (إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44)
__________
(1) زيادة من لسان العرب. 5/ 206).

(4/427)


لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)

يعنى به ههنا أبو جهل بن هشام.
والمهل دُرْدِيُّ الزيت ويقال: المهمل ما كان ذائباً من الفضة والنحاس وما أشبه ذلك (3).
* * *

وقوله: (خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47)
ويقرأ فاعْتُلوه - بضم التاء وكسرها.
المعنى يا أيها الملائكة خذوه فاعتلوه.
والعَتْلُ أن يؤخذَ فيمْضَى به بِعَسْفٍ وَشِدةٍ.
(إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ) إلى وَسَطِ الجَحِيمِ.
* * *

وقوله: (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49)
الناس كلهم على كسر " إِنَّكَ " إلا الكسائي وحده فإنه قرأ: ذق أنَّكَ
أنت، أي لأنَّكَ قُلْتَ إنك أنت العزيز الكريم، وذلك أنه كان يقول: أنا أعز أهل هذا الوادي وَأمْنَعُهمُ فقال الله عزَّ وجلَّ ذق هذا العذابَ إِنَّك أنت القائل: أنا العزيز الكريم.
* * *

وقوله: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51)
أي قد أمنوا فيه الغِيَرَ (1).
* * *

وقوله: (يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53)
قيل الإِسْتَبْرَق: الديباج الصَّفيقُ (2).
والسُنْدُس: الحرير، وإنما قيل له إستبرق
- واللَّه أعلم - لشدة بريقه.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56)
المعنى لا يذوقون فيها الموت ألبتَّة سوى الموتة الأولى التي ذاقوها في
الدنيا، وهما كما قال: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ).
__________
(1) أمنوا فيه الغِيَرَ والحوادث (زاد المسير. 7/ 350)
(2) الغليظ الحسَن
(3) قال السَّمين:
قوله: {كالمهل}: يجوزُ أَنْ يكونَ خبراً ثانياً، وأَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ مضمرٍ أي: هو كالمُهْلِ. ولا يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ «طعام الأثيم». قال أبو البقاء: «لأنَّه لا عاملَ إذ ذاك». وفيه نظرٌ؛ لأنَّه يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً، والعاملُ فيه معنى التشبيه، كقولك: زيدٌ أخوك شجاعاً.
والأَثيم صفةُ مبالَغَةٍ. ويقال: الأَثُوم كالصَّبورِ والشَّكور. والمُهْل: قيل دُرْدِيُّ الزيت. وقيل عَكَر القَطِران. وقيل: ما أُذِيْبَ مِنْ ذَهَبٍ أو فضة. وقيل: ما أُذِيْبَ منهما ومِنْ كُلِّ ما في معناهما من المُنْطبعات كالحديدِ والنحاس والرَّصاص. والمَهْلُ بالفتح: التُّؤَدَةُ والرِّفْقُ. ومنه {فَمَهِّلِ الكافرين} [الطارق: 17]. وقرأ الحسن «كالمَهْل» بفتح الميم فقط، وهي لغةٌ في المُهْلِ بالضم.
قوله: «يَغْلي» قرأ ابن كثير وحفصٌ بالياءِ مِنْ تحتُ. والفاعلُ ضميرٌ يعود على طعام. وجَوَّز أبو البقاء أَنْ يعودَ على الزَّقُّوم. وقيل: يعود على المُهْلِ نفسِه، و «يَغْلي» حالٌ من الضميرِ المستترِ في الجارِّ أي: مُشْبهاً المُهْلَ غالياً. ويجوزُ أَنْ يكونَ حالاً مِنَ المُهْلِ نفسِه. وجَوَّزَ أبو البقاء أَنْ يكونَ خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: هو يَغْلي أي: الزقُّوم أو الطعامُ. والباقون «تَغْلي» بالتاء مِنْ فوقُ، على أنَّ الفاعلَ ضميرُ الشجرةِ، والجملةُ خبرٌ ثانٍ أو حالٌ على رَأْيٍ، أو خبرُ مبتدأ مضمر أي: هي تَغْلي. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/428)


فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

وقوله عزَّ وجلَّ: (فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57)
ويجوز (فَضْلٌ مِنْ رَبِّكَ)، ولا يقرأنَّ بها لخلاف المصحف، والنصْبُ على
معنى قوله (يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ).
وعلى معنى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ)
وذلك بفضل من اللَّه، فالمعنى فعَل الله بهم ذلك فضلاً منه.
وتفضلاً منه.
* * *

وقوله: (فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
معناه فانتظر إنهم منتظرون.

(4/429)


وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)

سُورَةُ الجاثية
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3)
المعنى - واللَّه أعلم إن في خلق السَّمَاوَات والأرض لآياتٍ
ويدل عليه قوله (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ

(4)
يقرأ (آياتٍ) و (آياتٌ) بخفض التاء ورفعها
وهي في موضع نصب على النسَق على قوله: (إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ).
المعنى إن في خَلْقِكم لآيات، ومن قرأ (لَآيَاتٌ) فعلى ضربين:
على الاستئناف على معنى وفي خلقكم آياتٌ.
وعلى موضع أن مع ما عملت فيه.
تقول: إن زيداً قائم وَعَمْراً وعَمْر.
فتعطف بعَمْرٍو على زيد إذا نَصَبْتَ، وإذَا رفعت فعلى موضع إنَّ مع زيدٍ، فإن مَعْنَى إنَّ زَيداً قائم زيد قائم.
* * *

وقوله: (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
(آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)
يقرأ بالرفع وبكسر التاء والتنوين، والموضع موضع نَصْبٍ ويكون قوله:
(وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) عطف على قوله: (وفي خلقكم)، وعلى قوله:

(4/431)


هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)

(إن في السَّمَاوَاتِ والأرضِ)، وإن في (اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) آياتٍ.
وهذا عطف عَلَى عَامِلَيْن
ومثله من الشعر:
أكلَّ امرِىءٍ تَحْسَبين امرَأً. . . ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا
عطف على ما عملت فيه كل، وما عملت فيه أتحسبين.
وقد أباهُ بعض النحويين، وقالوا: لا يجوز إلا الرفع في قوله:
(وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ)
وجعله عطفاً على عامل واحد على معنى واختلاف الليل والنهار وتصريف الرياح آيات، وهذا أيضاً عطف على عاملين لأنه يَرْفَع (آياتً) على العطف على ما قبلها كما خفض (واختلافِ) على العطف على ما قبلها.
ويكون معطوفاً إن شئت على موضع أن وَمَا عَمِلتْ فيه، وإن شئت على قراءة من قرأ: (وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٍ) (1).
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)
و (تؤمنون) جميعاً، والمعنى - واللَّه أعلم - فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ كتاب اللَّهِ
وآياته يؤمنون.
قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ)
فجعل القرآن أحسن الحديث.
* * *
وقوله: (ويل لِكُلِ أَفاكٍ أَثِيم).
(أَفاكٍ) كذاب.
* * *

وقوله: (هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ}: فيه وجهان، أظهرهما: أنه معطوفٌ على «خَلْقِكم» المجرورِ ب «في» والتقديرُ: وفي ما يَبُثُّ. والثاني: أنه معطوفٌ على الضميرِ المخفوضِ بالخَلْق، وذلك على مذهبِ مَنْ يرى العطفَ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ واستقبحه الزمخشريُّ وإنْ أُكِّد نحو: «مررتُ بك أنت وزيدٍ» يُشير بذلك إلى مذهب الجرميِّ فإنَّه يقول: إن أُكِّد جازَ، وإلاَّ فلا، فقولُه مذهبٌ ثالثٌ.
قوله: {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} و {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} قرأ «آياتٍ» بالكسر في الموضعَيْن الأخوَان، والباقون برفعهما. ولا خلافَ في كسرِ الأولى لأنها اسمُ «إنَّ». فأمَّا {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} بالكسر فيجوزُ فيها وجهان، أحدهما: أنها معطوفةٌ على اسم «إنَّ»، والخبرُ قولُه: «وفي خَلْقِكم». كأنه قيل: وإنَّ في خَلْقِكم وما يَبُثُّ مِنْ دابة آياتٍ. والثاني: أَنْ تكونَ كُرِّرَتْ تأكيداً لآيات الأُولى، ويكونُ «في خَلْقكم» معطوفاً على «في السماوات» كُرِّر معه حرفُ الجَرِّ توكيداً. ونظيرُه أَنْ تقولَ: «إنَّ في بيتك زيداً وفي السوق زيداً» فزيداً الثاني تأكيدٌ للأول، كأنك قلت: إنَّ زيداً زيداً في بيتك وفي السوق وليس في هذه عطفٌ على معمولَيْ عاملَيْن ألبتَّةََ.
وقد وَهِم أبو البقاء فجعلها مِنْ ذلك فقال: {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} يُقرأ بكسر التاءِ، وفيه وجهان، أحدهما: أنَّ «إنَّ» مضمرةٌ حُذِفَتْ لدلالة «إنَّ» الأُولى عليها، وليسَتْ «آيات» معطوفةً على «آيات» الأولى لِما فيه من العطفِ على معمولَيْ عامليْن. والثاني: أَنْ تكونَ كُرِّرَتْ للتأكيد لأنها مِنْ لفظ «آيات» الأُوْلى، وإعرابُها كقولِك: «إن بثوبك دماً وبثوبِ زيد دماً» ف «دم» الثاني مكررٌ؛ لأنَّك مُسْتغنٍ عن ذِكْرِه «انتهى.
فقوله:» وليسَتْ معطوفةً على آياتِ الأولى لِما فيه من العطفِ على عامِلَيْن «وَهَمٌ؛ أين معمولُ العاملِ الآخر؟ وكأنه توهَّمَ أنَّ» في «ساقطةٌ مِنْ قولِه:» وفي خَلْقِكم «أو اختلطَتْ عليه {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} بهذه؛ لأنَّ تَيْكَ فيها ما يُوْهِمُ العطفَ على عامِلَيْن وقد ذكره هو أيضاً.
وأمَّا الرفعُ فمِنْ وجهَيْن أيضاً، أحدهما: أَنْ يكونَ» في خَلْقِكم «خبراً مقدَّماً، و» آياتٌ «مبتدأً مؤخراً، وهي جملةٌ معطوفةٌ على جملة مؤكدةٍ. ب» إنَّ «. والثاني: أَنْ تكون معطوفةً على» آيات «الأولى باعتبار المحلِّ عند مَنْ يُجيزُ ذلك، لا سيما عند مَنْ يقولُ: إنه يجوز ذلك بعد الخبرِ بإجماعٍ.
وأمَّا قولُه: {واختلاف الليل والنهار} الآية فقد عَرَفْتَ أنَّ الأخَوَيْن يقرآن» آيات «بالكسرِ، وهي تحتاج إلى إيضاحٍ، فإن الناسَ قد تكلَّموا فيها كلاماً كثيراً، وخرَّجوها على أوجهٍ مختلفةٍ، وبها استدلَّ على جوازِ العطفِ على عاملين.
قلت: والعطفُ على عامِلَيْن لا يختصُّ بقراءةِ الأخوَيْن بل يجوز أَنْ يُسْتَدَلَّ عليه أيضاً بقراءة الباقين، كما ستقف عليه إن شاء الله تعالى. فأما قراءةُ الأخوين ففيها أوجهٌ، أحدُها: أن يكونَ «اختلافِ الليلِ» مجروراً ب «في» مضمرةً، وإنما حُذِفَتْ لتقدُّم ذكرِها مَرَّتَيْنِ، وحرفُ الجرِّ إذا دَلَّ عليه دليلٌ/ جاز حَذْفُه وإبقاءُ عملِه. وأنشَدَ سيبويه:
4023 الآن قَرَّبْتَ تَهْجُونا وتَشْتِمُنا. . . فاذهَبْ فما بك والأيامِ من عَجَبِ
تقديرُه: وبالأيام لتقدُّم الباءِ في «بك» ولا يجوزُ عَطْفُه على الكاف لأنه ليس مِنْ مذهبه - كما عَرَفْتَ - العطفُ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ الجارِّ، فالتقديرُ في هذه الآيةِ: «وفي اختلافِ آيات» ف «آيات» على ما تقدَّم من الوجهين في «آيات» قبلَها: العطفِ أو التأكيدِ. قالوا: ويَدُلُّ على ذلك قراءةُ عبد الله «وفي اختلافِ» تصريحاً ب «في». فهذان وجهان.
الثالث: أَنْ يُعْطَفَ «اختلافِ» على المجرورِ ب «في» وآياتٍ على المنصوبِ ب «إنَّ». وهذا هو العطفُ على عاملَيْنِ، وتحقيقُه على معمولَيْ عاملين: وذلك أنَّك عَطَفْتَ «اختلاف» على خَلْق وهو مجرورٌ ب «في» فهو معمولُ عاملٍ، وعَطَفْتَ «آياتٍ» على اسمِ «إنَّ» وهو معمولُ عاملٍ آخرَ، فقد عَطَفْتَ بحرفٍ واحدٍ وهو الواوُ معمولين وهما «اختلاف» و «آيات» على معمولَيْن قبلَهما وهما: خَلْق وآيات. وبظاهرِها استدلَّ مَنْ جَوَّز ذلك كالأخفشِ. وفي المسألة أربعةُ مذاهب: المَنْعُ مطلقاً، وهو مذهبُ سيبويه وجمهورِ البصريين. قالوا: لأنه يُؤَدِّي إلى إقامة حرفِ العطفِ مقامَ عاملين وهو لا يجوزُ؛ لأنه لو جاز في عامِلَيْن لجازَ في ثلاثةٍ، ولا قائل به، ولأنَّ حرفَ العطفِ ضعيفٌ فلا يَقْوَى أَنْ ينوبَ عن عاملَيْنِ ولأنَّ القائلَ بجوازِ ذلك يَسْتَضْعِفُه، والأحسنُ عنده أن لا يجوزَ، فلا ينبغي أَنْ يُحْمَلَ عليه كتابُ اللَّهِ، ولأنه بمنزلةِ التعديتَيْنِ بمُعَدٍّ واحد، وهو غيرُ جائزٍ.
قال ابن السراج: «العطفُ على عاملَيْن خطأٌ في القياسِ، غيرُ مَسْموع من العرب» ثم حَمَل ما في هذه الآيةِ على التكرارِ للتأكيد. قال الرمَّاني: «هو كقولِك:» إنَّ في الدارِ زيداً والبيتِ زيداً «فهذا جائزٌ بإجماعٍ فتدبَّرْ هذا الوجهَ الذي ذكره ابنُ السراجِ فإنه حسنٌ جداً، لا يجوزُ أَنْ يُحْمَلَ كتابُ اللَّهِ إلاَّ عليه. وقد بَيَّنْتُ القراءةَ بالكسرِ ولا عيبَ فيها في القرآن على وجهٍ، والعطفُ على عاملَيْن عيبٌ عند مَنْ أجازه ومَنْ لم يُجِزْه، فقد تناهى في العيب، فلا يجوزُ حَمْلُ هذه الآيةِ إلاَّ على ما ذكره ابنُ السَّراج دون ما ذهبَ إليه غيرُه».
قلت: وهذا الحَصْرُ منه غيرُ مُسَلَّمٍ فإنَّ في الآيةِ تخريجاتٍ أُخَرَ غيرَ ما ذكره ابن السراج يجوزُ الحَمْلُ عليها. وقال الزجاج: «ومثلُه في الشعر:
4024 أكلَّ امرِئٍ تَحْسَبين امْرَأً. . . ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا
وأنشد الفارسيُّ للفرزدق:
4025 وباشَرَ راعيها الصَّلا بلَبانِه. . . وجَنْبَيْه حَرَّ النارِ ما يتحرَّق
وقول الآخر:
4026 أَوْصَيْتُ مِنْ رُبْدَةَ قَلْباً حُرَّاً. . . بالكلبِ خيراً والحَماةِ شَرا
قلت: أمَّا البيتُ الأولُ فظاهرُه أنه عَطَفَ و» نارٍ «على» امرئ «المخفوض ب» كل «و» ناراً «الثانية على» امرَأ «الثاني. والتقدير: وتحسبين كلَّ نارٍ ناراً، فقد عطف على معمولَيْ عاملَيْن. والبيتُ الثاني عَطَفَ فيه» جَنْبَيْه «على» بلبانه «وعَطَفَ» حَرَّ النارِ «على» الصلا «، والتقدير: وباشر بجَنْبَيْه حرَّ النار، والبيتُ الثالث عَطَفَ فيه» الحَماة «على» الكلب «و» شَرًّا «على» خيراً «، تقديرُه وأَوْصَيْتُ بالحَماة شراً. وسيبويه في جميع ذلك يرى الجرَّ بخافضٍ مقدرٍ لكنه عُورض: بأنَّ إعمال حرفِ الجرِّ مضمراً ضعيفٌ جداً، ألا ترى أنَّه لا يجوزُ» مررتُ زيدٍ «بخفضِ» زيد «إلاَّ في ضرورةٍ كقولِه:
4027 إذا قيلَ أيُّ الناسِ شرُّ قبيلةٍ. . . أشارَتْ كليبٍ بالأكفِّ الأصابعُ
يريد: إلى كليب، وقولِ الآخر:
4028 - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . حتى تَبَذَّخَ فارتقى الأعلامِ
أي إلى الأعلام، فقد فَرَّ مِنْ شيءٍ فوقَع في أضعفَ منه. وأُجيب عن ذلك: بأنه لَمَّا تَقَدَّم ذِكْرُ الحرف في اللفظِ قَوِيَتِ الدلالةُ عليه، فكأنَّه ملفوظٌ به بخلافِ ما أَوْرَدْتموه في المثالِ والشعر.
والمذهب الثاني: التفصيلُ - وهو مذهب الأخفش - وذلك أنَّه يجوز بشرطَيْنِ، أحدُهما: أَنْ يكونَ أحدُ العاملَيْن جارًّا. والثاني: أن يتصلَ المعطوفُ بالعاطفِ أو يُفْصَلَ بلا، مثالُ الأولِ الآيةُ الكريمةُ والأبياتُ التي قَدَّمْتُها. ولذلك استصوب المبردُ استشهادَه بالآيةِ. ومثالُ الفَصْل ب لا قولك:» ما في الدارِ زيدٌ ولا الحجرةِ عمروٌ «، فلو فُقِدَ الشرطانِ نحو: إنَّ/ زيداً شَتَمَ بِشْراً، وواللَّهِ خالداً هنداً، أو فُقِدَ أحدُهما نحو: إنَّ زيداً ضربَ بَكْراً، وخالداً بشراً. فقد نَقَلَ ابنُ مالكٍ الامتناعَ عند الجميعِ. وفيه نظرٌ لِما سَتَعْرِفُه من الخلافِ.
الثالث: أنَّه يجوزُ بشرطِ أَنْ يكونَ أحدُ العامِلَيْنِ جارَّاً، وأَنْ يكونَ متقدماً، نحوَ الآيةِ الكريمةِ، فلو لم يتقدَّمْ نحوَ:» إنَّ زيداً في الدار، وعمراً السوقِ «لم يَجُزْ، وكذا لو لم يكنْ حرفَ جرٍّ كما تقدَّمَ تمثيلُه.
الرابع: الجوازُ، ويُعْزَى للفَرَّاء.
الوجهُ الرابعِ من أوجهِ تخريجِ القراءةِ المذكورة: أَنْ تنتصِبَ» آيات «على الاختصاصِ.
قاله الزمخشريُّ، وسيأتي فيما أَحْكيه عنه.
وأمَّا قراءةُ الرفعِ ففيها أوجهٌ، أحدُها: أَنْ يكونَ الأولُ والثاني ما تقدَّم في {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}. الثالث: أَنْ تكونَ تأكيداً لآيات التي قبلها، كما كانَتْ كذلك في قراءةِ النصبِ. الرابع: أَنْ تكونَ المسألةُ من بابِ العطفِ على عامِلَيْن؛ وذلك أنَّ «اختلافِ» عطفٌ على «خَلْقِكم» وهو معمولٌ ل «في» و «آيات» معطوفةٌ على «آيات» قبلَها، وهي معمولةٌ للابتداءِ فقد عَطَفَ على معمولَيْ عامِلَيْنِ في هذه القراءةِ أيضاً. قال الزمخشري: «قُرِئَ {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} بالرفع والنصبِ على قولِك:» إنَّ زيداً في الدار وعمراً في السوقِ، أو وعمروٌ في السوق «. وأمَّا قولُه: {آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فمن العطفِ على عامِلَيْنِ سواءً نَصَبْتَ أم رَفَعْتَ فالعاملان في النصبِ هما:» إنَّ «، و» في «أُقيمت الواوُ مُقامَهما فعَمِلَتْ الجرَّ في و {واختلاف اليل والنهار} والنصبَ في» آياتٍ «. وإذا رَفَعْتَ فالعاملانِ: الابتداءُ، و» في «عملت الرفع في» آيات «والجرَّ في» اختلاف «». ثم قال في توجيهِ النصبِ: «والثاني أَنْ ينتصِبَ على الاختصاصِ بعد انقضاءِ المجرور».
الوجهُ الخامسُ أَنْ يرتفعَ «آياتٌ» على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هي آياتٌ. وناقَشَه الشيخُ فقال: «ونسبةُ الجرِّ والرفعِ، والجرِّ والنصبِ للواوِ ليس بصحيحٍ؛ لأنَّ الصحيحَ من المذاهبِ أنَّ حرفَ العطفِ لا يعملُ» قلت: وقد ناقشه الشيخُ شهابُ الدين أبو شامةَ أيضاً فقال: «فمنهم مَنْ يقولُ: هو على هذه القراءةِ أيضاً - يعني قراءةَ الرفعِ - عطفٌ على عاملَيْنِ وهما حرفُ» في «، والابتداءُ المقتضي للرفعِ. ومنهم مَنْ لا يُطْلِقُ هذه العبارةَ في هذه القراءةِ؛ لأنَّ الابتداءَ ليس بعاملٍ لفظي».
وقُرئ «واختلافُ» بالرفعِ «آيةٌ» بالرفعِ والتوحيدِ على الابتداء والخبر، وكذلك قُرئ {وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٌ آيةٌ} بالتوحيد. وقرأ زيد بن علي وطلحة وعيسى «وتصريف الريح» كذا قال الشيخ. قلت وقد قرأ بهذه القراءةِ حمزةُ والكسائيُّ أيضاً، وقد تقدَّم ذلك في سورةِ البقرةِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/432)


أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)

(هذا) إشارة إلى القرآن، المعنى هذا القرآن بصائر للناس.
* * *

وقوله (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)
(سَوَاءٌ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ)
ويقرأ (سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ)، وقد قرئت سواءٌ مَحْياهم وَمَماتَهمْ
بنصب الممات.
وحكى بعض النحويين أن ذلك جائز في العربية.
ومعنى (اجْتَرَحُوا) اكتسبوا، ويقال: فلانٌ جَارِحةُ أهله أي كاسبهم، والاختيار عند سيبويه والخليل وجميع البصريين (سَوَاءٌ) برفع سواء.
وعليه - أكثر القراء، ويجيزون النصب، وتقول: ظننت زيداً - سواءٌ أبوه وأمُّه، وسواءً أبوه وأُمُّه.
والرفع أجود، لأن سواء في مذهب المصدر كما تقول: ظننت زيداً ذو استواء أبوه وأُمُّه.
ومن قرأ (سَوَاءً) بالنصب جعله في موضع مستوياً محياهم وَمَمَاتُهُمْ
ومن نصب محياهم ومماتهم، فهو عند قوم من النحويين (سَوَاءً) في محياهم وفي مماتهم، ويذهب به مذهب الأوقات، وهو يجوز على غير ذلك على أن يجعله بدلاً من الهاء والميم، ويكون المعنى أم حسب الذين اجترحوا السيئات أن نجعل محياهم ومماتهم سواءً كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، أي كمحيا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ومَمَاتهم (1).
* * *
وقوله: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ

(23)
وقد رويت آلِهَةً هَوَاهُ، ولها وجه في التفسير وروي أن قريشاً كانت تعبد
العُزى وهي حجر أبيض فإذا رأت حجراً أشد بياضاً منه وأحسن اتخذت ذلك
الأحسن واطَّرَحت الأولَ، فهذا يدل على آلهته، وكذلك أيضاً إلهه.
وقوله (وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ).
أي على ما سبق في علمه قبل أن يخلقه أنه ضال.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {أَمْ حَسِبَ}: «أم» منقطعةٌ، فَتُقَدَّر ب بل والهمزةِ، أو ب بل وحدها، أو بالهمزة وحدَها. وتقدم تحقيق هذا.
قوله: {كالذين آمَنُواْ}: هو المفعولُ الثاني للجَعْل أي: أَنْ نجعلَهم كائنين كالذين آمنوا أي: لا يَحْسَبُوْن ذلك، وقد تَقَدَّمَ في سورة الحج: أنَّ الأخَوَيْن وحفصاً قرؤُوا هنا «سواءً» بالنصب، والباقون بالرفع، ووَعَدْتُ بالكلام عليه هنا، فأقول وبالله التوفيق: أمَّا قراءةُ النصبِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أَنْ تَنْتَصِبَ على الحالِ من الضميرِ المستترِ في الجارِّ والمجرورِ وهما: «كالذين آمنوا»، ويكونُ المفعولُ الثاني للجَعْل «كالذين آمنوا» أي: أحَسِبوا أَنْ نَجْعَلَهم مثلَهم في حالِ استواءِ مَحْياهم ومماتِهم ليس الأمرُ كذلك. الثاني: أَنْ يكونَ «سواءً» هو المفعولَ الثاني للجَعْل، و «كالذين» في محلِّ نصبٍ على الحال أي: لن نجعلَهم حالَ كونِهم مثلَهم سواءً، وليس معناه بذاك. الثالث: أَنْ يكونَ «سواءً» مفعولاً ثانياً ل «حَسِب».
وهذا الوجهُ نحا إليه أبو البقاء، وأظنُّه غَلَطاً لِما سَيَظْهَرُ لك فإنَّه قال: «ويُقْرأ بالنصب. وفيه وجهان، أحدهما: هو حالٌ من الضميرِ في الكافِ أي: نجعلَهم مثلَ المؤمنين في هذه الحالِ. والثاني: أَنْ يكونَ مفعولاً ثانياً ل» حَسِب «والكافُ حالٌ، وقد دَخَلَ استواءُ مَحْياهم وممَاتُهم في الحُسْبان، وعلى هذا الوجهِ مَحْياهم ومماتُهم مرفوعان ب» سَواء «؛ لأنَّه قد قَوِيَ باعتمادِه» انتهى. فقد صَرَّح بأنه مفعولٌ ثانٍ للحُسْبان. وهذا لا يَصِحُّ ألبتَّةََ؛ لأنَّ «حَسِبَ» وأخواتِها إذا وَقَعَ بعدها «أنَّ» المشددةُ أو «أَنْ» المخففةُ أو الناصبةُ سَدَّتْ مَسَدَّ المفعولين، وهنا قد وَقع بعد الحُسْبان «أنْ» الناصبةُ فهي سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولَيْنِ، فَمِنْ أين يكونُ «سواءً» مفعولاً ثانياً ل حَسِب؟
فإنْ قلتَ: هذا الذي قُلْتُه رأيُ الجمهورِ سيبويهِ وغيرِه، وأمَّا غيرُهم كالأخفشِ فيدَّعي أنها تَسُدُّ مَسَدَّ واحدٍ. إذا تقرَّر هذا فقد يجوزُ أنَّ أبا البقاءِ ذَهَبَ هذا المذهبَ، فأعرب «أَنْ نجعلَهم» مفعولاً أولَ و «سواءً» مفعولاً ثانياً. فالجواب: أنَّ الأخفشَ صَرَّحَ بأنَّ المفعولَ الثاني حينئذٍ يكونُ محذوفاً. ولَئِنْ سَلَّمْنا أنَّه لا يُحْذَفُ امتنع مِنْ وجهٍ آخرَ: وهو أنه قد رفع به «محياهُم ومماتُهم» لأنه بمعنى مُسْتَوٍ كما تقدَّم، ولا ضميرَ يَرْجِعُ مِنْ مرفوعِه إلى المفعولِ الأولِ، بل رَفَعَ أجنبياً من المفعولِ الأولِ. وهو نظيرُ: «حَسِبْتُ قيامَك مُسْتوياً ذهابُك وعَدَمُه».
ومَنْ قرأ بالرفع فتحتمل قراءتُه وجهَيْن، أحدهما: أَنْ يكونَ «سواءٌ» خبراً مقدماً. و «مَحْياهم» مبتدأً مؤخراً/ ويكون «سواء» مبتدأً و «مَحْياهم» خبرَه.
كذا أعربوه. وفيه نظرٌ تقدَّم في سورة الحج وهو: أنَّه نكرةٌ لا مُسَوِّغ فيها، وأنه متى اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ جَعَلْتَ النكرةَ خبراً لا مبتدأً. ثم في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّها استئنافية. والثاني: أنها بدلٌ من الكافِ الواقعةِ مفعولاً ثانياً. قال الزمخشري: «لأنَّ الجملةَ تقع مفعولاً ثانياً فكانَتْ في حكمِ المفردِ. ألا تراكَ لو قُلْتَ: أن نجعلَهم سواءٌ مَحْياهم ومماتُهم، كان سديداً، كما تقول: ظننتُ زيداً أبوه منطلقٌ». قال الشيخ: «وهذا - أَعْني إبدالَ الجملة من المفرد - أجازه ابنُ جني وابنُ مالك، ومنعَه ابنُ العِلْجِ»، ثم ذكر عنه كلاماً كثيراً في تقرير ذلك ثم قال: «والذي يَظْهَرُ أنه لا يجوزُ»، يعني ما جَوَّزه الزمخشريُّ قال: «لأنَّها بمعنى التصييرِ ولا يجوزُ:» صَيَّرْتُ زيداً أبوه قائمٌ «لأنَّ التصييرَ انتقالٌ من ذاتٍ إلى ذاتٍ، أو من وصفٍ في الذاتِ إلى وصفٍ فيها. وتلك الجملةُ الواقعةُ بعد مفعولِ» صَيَّرْت «المقدرةُ مفعولاً ثانياً ليس فيها انتقالٌ مما ذكرْنا فلا يجوز». قلت: ولِقائلٍ أَنْ يقولَ: بل فيها انتقالٌ مِنْ وصفٍ في الذاتِ إلى وصفٍ فيها؛ لأنَّ النحاة نَصُّوا على جوازِ وقوع الجملةِ صفةً وحالاً نحو: مررتُ برجلٍ أبوه قائمٌ، وجاء زيدٌ أبوه قائم. فالذي حكموا عليه بالوصفيَّةِ والحاليةِ يجوزُ أَنْ يقعَ في حَيِّز التَّصْيير؛ إذ لا فَرْقَ بين صفةٍ وصفةٍ من هذه الحيثيَّة.
الثالث: أن تكونَ الجملةُ حالاً، التقدير: أم حَسِبَ الكفار أَنْ نُصَيِّرهم مثلَ المؤمنين في حالِ استواءِ محياهم ومماتِهم، ليسوا كذلك بل هم مُفْترقون. وهذا هو الظاهر عند الشيخِ. وعلى الوجهين الأخيرين تكونُ الجملةُ داخلةً في حَيِّز الحُسْبانِ. وإلى ذلك نحا ابن عطية فإنه قال: «يَقْتضي هذا الكلامُ أنَّ لفظَ الآية خبرٌ، ويظهر أنَّ قولَه: {سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} داخلٌ في المَحْسَبَةِ المُنْكَرَةِ السيئةِ، وهذا احتمالٌ حسن والأولُ جيدٌ» انتهى. ولم يبين كيفيةَ دخولِه في الحُسْبانِ، وكيفيَّةُ أحدِ الوجهين الأخيرَيْن: إما البدلِ وإمَّا الحاليةِ كما عَرَفْتَه.
وقرأ الأعمشُ «سواءً» نصباً «مَحْياهم ومَماتَهم» بالنصب أيضاً. فأمَّا «سواءً» فمفعولٌ ثانٍ أو حالٌ كما تقدَّم. وأمَّا نصب «مَحْياهم ومماتَهم» ففيه وجهان، أحدهما: أَنْ يكونا ظَرْفَيْ زمانٍ، وانتصبا على البدلِ مِنْ مفعولِ «نَجْعَلَهم» بدلِ اشتمال، ويكون «سواءً» على هذا هو المفعولَ الثاني. والتقدير: أن نجعلَ محياهم ومماتَهم سواءً. والثاني: أَنْ ينتصِبا على الظرفِ الزمانيِّ. والعاملُ: إمَّا الجَعْلُ أو سواء. والتقدير: أَنْ نجعلَهم في هذَيْن الوقتَيْن سواءً، أو نجعلَهم مُسْتَوِين في هذين الوقتين.
قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه: «ومَنْ قرأ بالنصبِ جَعَلَ» مَحْياهم ومماتَهم «ظَرْفَيْنِ كمَقْدَمِ الحاجِّ وخُفوقِ النجم».
قال الشيخ: «وتمثيلُه بخُفوق النجم ليس بجيدٍ؛ لأنَّ» خُفوقَ «مصدرٌ ليس على مَفْعَل فهو في الحقيقةِ على حَذْفِ مضافٍ أي: وقتَ خُفوقِ بخلاف مَحْيا ومَمات ومَقْدَم فإنها موضوعةٌ على الاشتراك بين ثلاثةِ معانٍ: المصدريةِ والزمانيةِ والمكانيةِ. فإذا اسْتُعْملت مصدراً كان ذلك بطريق الوَضْعِ لا على حَذْفِ مضافٍ كخُفوق؛ فإنه لا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مضافٍ لكونِه موضوعاً للمصدرية». وهذا أمرٌ قريبٌ لأنَّه إنما أراد أنه وَقَع هذا اللفظُ مُراداً به الزمانُ. أمَّا كونُه بطريق الأصالةِ أو الفرعيةِ فلا يَضُرُّ ذلك.
والضميرُ في «مَحْياهم ومماتُهم» يجوزُ أَنْ يعودَ على القَبِيْلَيْنِ بمعنى: أنَّ مَحْيا المؤمنين ومماتَهم سواءٌ عند الله في الكرامةِ، ومَحْيا المجترحين ومماتَهم سواءٌ في الإِهانةِ عنده، فَلَفَّ الكلام اتِّكالاً على ذِهْنِ السَّامع وفهمِه. ويجوزُ أَنْ يعودَ على المُجْترحين فقط. أَخْبَرَ أَنَّ حالَهم في الزمانَيْن سواءٌ.
قال أبو البقاء: «ويُقْرَأُ» مَماتَهم «بالنصب أي: في مَحْياهم ومماتَهم. والعاملُ» نَجْعل «أو سواء. وقيل: هو ظرفٌ». قلت: قوله: «وقيل» هو القولُ الأولُ بعينِه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/433)


وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)

(وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً).
ويقرأ غَشوة بفتح الغيْن بغير ألف، ويقرأ غُشَاوَةَ - بضم الغين والألف (1).
* * *

وقوله: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24)
فإن قال قائل: كيف قالوا نموت ونحيا وهم لا يقرون بالبعث.
فالدليل على أنهم لا يقرون بالبعث قولهم ما هِيَ إلا حياتنا، وفي نموت ونحيا ثلاثة أقوال.
يكون المعنى (نَمُوتُ وَنَحْيَا)، يحيا أولادُنا، فيموت قوم ويحيا قوم.
ويكون معنى (نَمُوتُ وَنَحْيَا) نحيا ونموت، لأن الواو للاجتماع.
وليس فيها دليل على أن أحد الشيئين قبل الآخر.
ويكون (نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) أي ابتداؤنا موات في أصل الخلقة، ثم نحيا ثم يهلكنا الدَّهْرُ.
فَاَعْلَمَ اللَّه - عزَّ وجلَّ - أَنهمْ يَقولُونَ ذلك ضُلَّالًا، شَاكِين فقال:
(وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ).
المعنى ما هم إِلَّا يَظُنُّونَ.
* * *

وقوله - عزَّ وجلَّ -: (مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25)
يجوز في (حُجَّتَهُمْ) الرفْعُ، فمن رفع جعل (حُجَّتُهُمْ) اسم كان
و (أنْ قَالُوا) خبر كان.
ومن نصب (حُجَّتَهُمْ) جعل اسم كان أَنْ مَعَ صِلَتِها.
ويكون المعنى ما كان (حُجَّتَهُمْ) إلَّا مَقَالَتَهم ائتوا بآبائنا.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)
أي كل أحد يُجزى بما تضمنه كتابه، كما قال عزَّ وجلَّ:
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {أَفَرَأَيْتَ}: بمعنى: أَخْبِرْني، وتقدَّم حكمُها مشروحاً. والمفعولُ الأولُ «مَنْ اتَّخذ»، والثاني محذوف، تقديره بعد غشاوة: أيهتدي، ودَلَّ عليه قولُه: «فَمَنْ يهْديه» وإنما قَدَّرْتَه بعد غشاوة لأجلِ صلاتِ الموصولِ.
قوله: «على عِلْمٌ» حالٌ من الجلالةِ أي: كائناً على علمٍ منه فيه أنَّه أهلٌ لذلك. وقيل: حالٌ من المفعول أي: أضلَّه وهو عالِمٌ، وهذا أشنعُ له.
وقرأ الأعرجُ «آلهةً» على الجمع، وعنه كذلك مضافة لضميره: «آلهتَه هواه».
قوله: «غِشاوة» قرأ الأخَوان «غَشْوَة» بفتح الغين وسكونِ الشين. والأعمشُ وابن مصرف كذلك إلاَّ أنَّهما كسرا الغَيْنَ. وباقي السبعة «غِشاوة» بكسر الغين. وابنُ مسعود والأعمشُ أيضاً بفتحها، وهي لغةُ ربيعةَ. والحسن وعكرمة وعبد الله أيضاً بضمِّها، وهي لغةُ عُكْلية. وتقدَّم الكلامُ في ذلك أولَ البقرة، وأنَّه قُرئ هناك بالعين المهملة. والعامَّةُ: «تَذَكَّرون» بالتشديد والجحدريُّ بتخفيفها. والأعمش بتاءَيْن «تَتَذَكَّرون».
قوله: {مِن بَعْدِ الله} أي: مِنْ بعد إضلالِ الله إياه. اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(4/434)


وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)

(وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ).
ْفهذا مثل قوله: (كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا).
رفع (كُلُّ) بالابتداء، والخبر (تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا).
ومَن نصب جعله بدلاً من " كُلَّ " الأول، والمعنى وترى كل أمة تدعى إلى كتابها.
ومعنى (جَاثِيَةً) جالسة على الركب، يقال قد جثا فلان يجثو إذا جلس على ركبته، ومثله جَذا يجذو.
والجُذُؤ أشا استيفازاً من الجثو لأن الجذو أن يجلس صاحبه على أطراف
أصابعه.
* * *

وقوله: (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
الاسْتِنْساخُ لا يكون إلا من أَصْل، وهو أن يستنسخ كتاباً من كتابٍ.
فنستنسخَ ما يكتب الحفظة ويثبت عند اللَّه - عزَّ وجلَّ -.
* * *

وقوله: (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31)
جواب (أَمَّا) محذوف، لأن في الكلام دليلاً عليه، المعنى وأما الذين
كفروا فيقال لهم: أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ، ودلت الفاء في قوله
(أَفَلَمْ) على الفاء المحذوفة فى قولك فيقال لهم.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32)
(وَالسَّاعَةُ)
(وَالسَّاعَةَ)، فمن نصب فَعَطفٌ على الوعد.
المعنى: وإذا قيل إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأنَّ الساعةَ.
ومن رفع فعلى معنى وقيل الساعةُ لا ريب فيها.

(4/435)


وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34)
أي اليوم نترككم في العذاب، كما تركتم الإيمان والعمل ليومكم.
والدليل على ذلك قوله:

(فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35)
لا يردون ولا يلتمس منهم عمل وَلَا طَاعة.
* * *

وقوله: (وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
أي له العظمة في السَّمَاوَات والأرض.
* * *
ْوقوله: (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ).
ويقرأ (مِنَّةً)
(جميعاً) منصوب على الحال، والمعنى كل ذلك منه تفضُّلٌ وإحسان.
و (مِنَّةً) على معنى المفعول له، والمعنى فعل ذلك مِنَّةً، أي مَنَّ مِنَّةً.
لأن تسخيره بمعنى مَنَّ عليكم.

(4/436)