معاني القرآن
وإعرابه للزجاج قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ
الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي
بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)
سُورَةُ الأحقاف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ: (مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى
وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3)
جاء في التفسير: مَا خَلَقْنَاهما إِلَّا للحَقِّ، أي لإقامة
الحق، وتكون على
معنى ما قامت السماوات والأرض إلا بالحق.
وقوله بعقب هذا:
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ).
أي أعرضوا بعد أن قام لهم الدليل بخلق الله السماوات والأرض،
وما
بينهما ثم دعاهم إلى الدليل لهم على بطلان عبادة ما يعبدونَ من
الأوثان
فقال:
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي
مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي
السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ
أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4)
ويقرأ أَرَيْتُمْ بغير ألف.
(مَا تَدْعُونَ مِنْ دونِ اللَّهِ)
ما تدعونه إلهاً من دون اللَّه.
(أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ
فِي السَّمَاوَاتِ).
أي في خلق السَّمَاوَاتِ، أي فلذلك أشركتموهم في عبادة الله
عزَّ وجلَّ.
(4/437)
أَمْ يَقُولُونَ
افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي
مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ
كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ (8)
(ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا).
أي ايتوني بِكتابِ أنزل فيه برهانُ ما تَدَّعُونَ.
(أَوْ أَثَرَةٍ مِنْ عِلْمٍ)
ويقرأ (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ)، وقرئت أو أَثْرةٍ مِنْ
عِلْمٍ - بإسكان الثاء - ومعناها؛ إذا قال: أَثارة على معنى
عَلَامةٍ مِنْ عِلْم، ويجوز أن يكون على معنى بقية من علم،
ويجوز أن يكون على معنى ما يؤثر من العلم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ
اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5)
أي من أضل مِمنْ عَبَدَ غيرَ اللَّه.
وجَمِيعُ مَا خلق اللَّه دليل على وَحْدَانِيَّته فمن أضل ممن
عبد حجراً لا يستجيب لَه.
وقال و (مَنْ) وقال و (وَهُمْ) وهو لغير ما يعْقِل، لأن الذين
عبدوها أجْرَوْهَا مجرى ما يميز فخوطبوا على مُخَاطَبَاتِهِمْ
كما قالوا: (مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى
اللَّهِ زُلْفَى)
ولو كانت " ما " لكان جَيداً كما قال: (لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا
يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ
أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
أي كانت الأصْنامُ كَافِرةً بعبادتهم إياها، تقول ما دعوهم إلى
عبادتنا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ
لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ
فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ
الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
(4/438)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ
شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ
وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ (10)
أي فَلَسْتُمْ تملكون من اللَّه شيئاً، أي
اللَّه أملك بعباده.
(كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)
أي كفَى هو شهيداً.
وَ (بِه) في موضع رفع.
وقوله في هذا الموضع:
(وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)
معناه أنه مَنْ أَتَى من الكبائر العِظَام ما أتيتُمْ به من
الافتراء على اللَّه
جلَّ وعزَّ وَعَلا - ثم تاب فإن الله غفورٌ رَحيمٌ له.
* * *
وقوله: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي
مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا
يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
أي ما كنت أول من أرْسِلَ. قد أرسل قبلي رُسُلٌ كثيرونَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا
بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ)
كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - رأى في منامه أنه
سيصير إلى أَرْض ذَاتِ نَخْل وَشَجرٍ، وقد شكا أصحابه الشدةِ
التي نالتهم فلما أَعْلَمَهُم أنه سيصير إلى أرض ذات نَخْل
وَشَجرٍ، وتأخَّرَ ذَلِكَ استبطأوا ما قال عليه السلام،
فأعلمهم أن الذي يتبِعُهُ ما يُوحَى إليه، إن أمر بِقِتَال أو
انتقال، وكان ذلك الأمْرُ وحياً فَهُو مُتَّبِعُهُ، ورؤيا
الأنبياء عليهم السلام وَحْيٌ (1).
* * *
وقوله: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا
يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)
جاء في التفسير أن عبد اللَّه بن سلام صار إلى النبي - صلى
الله عليه وسلم - قآمن به، وقال له: سَلْ اليهودَ عني فَإنهُمْ
سَيُزَكونَنِي عندك ويخبرونك بمكانِي من العِلْم، فَسَاَلَهُم
النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه من قبْل أن يَعْلَمُوا أَنه
قدْ آمن. فأخبروا عنه بأنه أعلمُهُم بالتوراة وبِمَذْهَبِهِم،
وأنه عالم ابن عالم ابن عَالِم.
قآمن بحضرتِهِم وشهِدَ أن محمداً رسول اللَّه فقالوا بَعْدَ
إيمانه أنتَ شرُّنَا وابن شَرِّنَا.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {بِدْعاً}: فيه وجهان، أحدهما: على حَذْفِ مضافٍ
تقديرُه: ذا بِدْعٍ، قاله أبو البقاء. وهذا على أَنْ يكونَ
البِدْعُ مصدراً. والثاني: أَنَّ البِدْعَ بنفسِه صفةٌ على
فِعْل بمعنى بديع كالخِفِّ والخَفيف. والبِدْعُ والبديعُ: ما
لم يُرَ له مِثْلٌ، وهو من الابتداع وهو الاختراعُ. أنشد قطرب:
4039ب فما أنا بِدْعٌ مِنْ حوادِثَ تَعْتَري. . . رجالاً
عَرَتْ مِنْ بعدِ بُؤْسَى بأَسْعُدِ
وقرأ عكرمة وأبو حيوةَ وابنُ أبي عبلة «بِدَعاً» بفتح الدال
جمع بِدْعة أي: ما كنتَ ذا بِدَع. وجَوَّز الزمخشري أَنْ يكونَ
صفةً على فِعَل ك «دِين قِيَم» و «لحم زِيَم». قال الشيخ: «ولم
يُثْبِتْ سيبويه صفةً على فِعَل إلاَّ قوماً عِدَا، وقد
اسْتُدْرِك عليه» لحم زِيَم «أي: متفرق، وهو صحيحٌ. فأمَّا»
قِيَم «فمقصورٌ مِنْ قيام، ولولا ذلك لصَحَّتْ عينُه كما
صَحَّتْ في حِوَل وعِوَض. وأمَّا قولُ العربِ:» مكان سِوَىً
«و» ماء رِوَىً «ورجل رِضَا وماء صِرَىً فمتأوَّلَةٌ عند
التَّصْريفيِّين» قلت: تأويلُها إمَّا بالمصدريَّة أو القَصْر
كقِيَم في قيام.
وقرأ أبو حيوةَ أيضاً ومجاهد «بِدَع» بفتح الباء وكسر الدال
وهو وصفٌ كحَذِر.
وقوله: «يُفْعَلُ» العامَّةُ على بنائه للمفعول. وابنُ أبي
عبلة وزيد ابن علي مبنياً للفاعلِ أي: الله تعالى. والظاهرُ
أنَّ «ما» في قولِه: {مَا يُفْعَلُ بِي} استفهاميةٌ مرفوعةٌ
بالابتداءِ، وما بعدها الخبرُ، وهي معلِّقَةٌ لأَدْري عن
العملِ، فتكونُ سادَّةً مَسَدَّ مفعولَيْها. وجَوَّزَ الزمخشري
أَنْ تكونَ موصولةً منصوبةً يعني أنها متعديةٌ لواحدٍ أي: لا
أعْرِفُ الذي يفعلُه اللَّهُ تعالى.
قوله: {إِلاَّ مَا يوحى} العامَّةُ على بناء «يُوْحَى»
للمفعول. وقرأ ابن عُمير بكسرِ الحاءِ على البناءِ للفاعلِ،
وهو اللَّهُ تعالى. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/439)
وَمِنْ قَبْلِهِ
كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ
لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى
لِلْمُحْسِنِينَ (12)
قال: ألم يأتكم في التوراة عن موسى عليه
السلام: إذا رأيتم محمداً فأقرئِوه السلام مني وآمنوا به،
وأَقْبَلَ يَقِفُهُمْ من التوراة على أَمْكنةٍ فيها ذكر النبي
- صلى الله عليه وسلم - وصفته، وهم
يستكبرون ويجحَدون ويتعمدون ستر ذلك بِأيْدِيهم.
وجواب: (إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ
فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ) أتؤمِنُونَ.
ثم أعلم أن هؤلاء المعاندين خاصة لَا يؤمِنونَ، فقال: (إِنَّ
اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).
أي قد جعل جزاءَهم على كفرهم بعدما تَبَينَ لهم الهُدَى
مَدَّهم في الضلَالَة.
وَقِيلَ في تفسير قوله: (وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ)
عَلَى مثل شهادَةِ عبْد اللَّه بن سَلَام.
والأجود - واللَّه أعلم - أن يكون (عَلَى مِثْلِه) على مثل
شهادة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ
كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا
بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11)
جاء في التفسير أنه لما أسلمت جُهَينة ومُزَينَةُ وأسلم
وغِفار، قالت بَنو
عَامِرٍ وغطفان وأسد وأشجع: لو كان ما دخل فيه هؤلاء مِنَ
الذِين خَيراً ما
سبقونا إليه، ونحن أعز مِنْهمْ، وَإنما هؤلاء رُعَاةُ
الْبَهْمِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا
وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا
لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12)
(إِمَامًا) منصوب على الحال وقوله: (وَرَحْمَةً) عطف علَيْهِ.
(وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا).
(4/440)
إِنَّ الَّذِينَ
قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ
عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)
المعنى واللَّه أعلم، وهو مصدق لما بين
يَدَيْهِ لساناً عَربيًّا، لما جاء بعد
هذا الموضع.
(قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ
مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي
إِلَى الْحَقِّ).
وحذف (له) ههنا أعني من قوله (وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ) لأن
قبله (وَمِنْ قَبْلِهِ)
كتاب موسى، فالمعنى وهذا كتاب مُصَدِّقٌ له، أي مُصَدِّقٌ
التوْرَاةَ
و (لِسَانًا عَرَبِيًّا) منصوبان على الحال.
المعنى مصدق لما بين يديه عَرَبِيًّا، وذكر (لِسَانًا)
توكيداً.
كما تقول جاءني زيد رجلًا صالحاً، تريد: جاءني زيد صالحاً.
وتذكر رجلًا توكيداً، وفيه وجه آخر، على معنى وهذا كتاب مصدق
لِسَانًا عَرَبِيًّا. المعنى مصدق النبي عليه السلام، فيكون
المعنى مصدق ذا
لسانٍ عربى.
وقوله: (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا)
ويقرأ (لِتُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا).
(وبُشْرَى لِلمُحْسِنينَ)
الأجود أن يكون (بُشْرَى) في موضع رفع، المعنى وهو بشرى
للمحسنين، ويجوز أن يكون بشرى في موضع نصب على معنى لينذر
الذين
ظلموا وُيبشِرَ المحسنين بُشْرَى (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ
ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ
يَحْزَنُونَ (13)
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى}: العامَّةُ على كسر ميم
«مِنْ» حرفَ جرٍّ. وهي مع مجرورِها خبرٌ مقدَّمٌ. والجملةٌ
حاليةٌ أو خبرٌ مستأنفٌ.
وقرأ الكلبيُّ بنصبِ «الكتابَ» تقديرُه: وأَنْزَلَ مِنْ قبلِه
كتابَ موسى. وقُرِئ «ومَنْ» بفتح الميم «كتابَ موسى» بالنصبِ
على أن «مَنْ» موصولةٌ، وهي مفعولٌ أولُ لآتَيْنا مقدَّراً.
وكتابَ موسى مفعولُه الثاني. أي: وآتَيْنا الذي قبلَه كتابَ
موسى.
قوله: «إماماً ورَحْمَةً» حالان مِنْ «كتاب موسى». وقيل:
منصوبان بمقدرٍ أي: أنْزَلْناه إماماً. ولا حاجةَ إليه. وعلى
كَوْنِهما حالَيْن هما منصوبان بما نُصِبَ به «مِنْ قبل» من
الاستقرار.
قوله: «لِساناً» حالٌ مِن الضمير في «مُصَدِّقٌ». ويجوزُ أَنْ
يكونَ حالاً مِنْ «كتاب» والعاملُ التنبيهُ، أو معنى الإِشارةِ
و «عربيَّاً» [صفةٌ] ل «لساناً»، وهو المُسَوِّغُ لوقوع هذا
الجامد حالاً. [وجَوَّز أبو البقاء] أَنْ يكونَ مفعولاً به
ناصبُهُ «مُصَدِّقٌ». وعلى هذا تكون الإِشارةُ إلى غيرِ
القرآنِ؛ لأنَّ المرادَ باللسانِ العربيِّ القرآنُ وهو خلافُ
الظاهر. وقيل: هو على حَذْفِ مضافٍ أي: مُصَدِّقٌ ذا لسانٍ
عربي، وهو النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم. وقيل: هو على
إسقاطِ حرفِ الجرِّ أي: بلسانٍ. وهو ضعيفٌ.
قوله: «ليُنْذِرَ» متعلِّقٌ بمصدِّق. و «بُشْرَى» عطفٌ على
محلِّه. تقديره: للإِنذار وللبشرى، ولمَّا اختلف العلةُ
والمعلولُ وَصَلَ العاملُ إليه باللامِ، [وهذا فيمَنْ قرأ بتاء
الخطابِ. فأمَّا مَنْ قرأ بياءِ الغَيْبة. وقد تقدَّم ذلك في
يس فإنهما مُتَّحدان. وقيل: بُشْرى] عطفٌ على لفظ «لتنذِرَ»
أي: فيكونُ مجروراً فقط. وقيل: هي مرفوعةٌ على خبرِ ابتداءٍ
مضمرٍ. تقديرُه: هي بُشْرَى. وقيل: بل هي عطفٌ على «مُصَدِّقٌ»
وقيل: هي منصوبةٌ بفعل مقدرٍ أي: وبَشِّر بُشْرى. ونقل الشيخُ
وجهَ النصبِ عطفاً على محلِّ «لتنذِرَ» عن الزمخشري وأبي
البقاء. ثم قال: «وهذا لا يَصِحُّ على الصحيح من مذاهبِ
النحويين لأنهم يَشْتَرِطون في الحَمْلِ على المَحَلِّ أَنْ
يكونَ بحقِّ الأصالة، وأَنْ يكونَ للموضعِ مُحْرِزٌ، وهنا
المحلُّ ليسَ بحقِّ الأصالة، إذ الأصلُ في المفعولِ [له]
الجرُّ، والنصبُ ناشِئ عنه، لكن لَمَّا كَثُرَ بالشروط
المذكورةِ وَصَلَ إليه الفعلُ فنصبَه» انتهى.
قوله: «الأصلُ في المفعول له الجرُّ بالحرفِ» ممنوعٌ بدليل
قولِ النَّحْويين: إنَّه يَنْصِبُ بشروطٍ ذكروها. ثم يقولون:
ويجوزُ جرُّه بلامٍ، فقولُهم «ويجوز» ظاهرٌ في أنه فرعٌ لا
أصلٌ.
و «للمُحْسِنين» متعلقٌ ب «بُشْرَى» أو بمحذوفٍ على أنَّه صفةٌ
لها. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/441)
أُولَئِكَ الَّذِينَ
نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ
عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ
الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
معنى (ثم استقاموا) أي أقاموا على توحيد
اللَّه وشريعة نبيه عليه السلام.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ
إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا
وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا
بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ
أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ
عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا
تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ
إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ
(15)
(وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا)
وتُقْرأُ (إِحْسَانًا)، وكلتاهما جيِّدٌ، ونصب (إِحْسَانًا)
على المصدر، لأن معنى
وصيناه بوالديه أمرناه بأن يحسن إليهما (إِحْسَانًا).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا)
وَ (كَرْهاً)، وقد قرئ بهما جميعاً.
المعنى حملته أمه على مشَقَّة ووضعته على مشَقَّة.
وقوله: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا)
وقد قرئت (وفصله ثلاثون شَهراً). ومعنى فِصَاله فطامُه.
وَأَقَل ما يكون الحمل لستة أَشْهُر.
والاختيار (وَفِصَالُهُ)، لأن الذي جاء في الحديث: إلا رِضَاعَ
بعد الفِصَالِ " يعني بعد الفطام.
وقوله: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ
سَنَةً)
جاء في التفسير أن الأشد ثلاث وثلاثون سنة، وقيل الأشد ثَماني
عشرة
سنة، وقيل الأشد بلوغ الحلم، والأكثر أن يكون ثلاثاً وثلاثين،
لأن الوقت
الذي يكمل فيه الإنسانُ في بدنه وقوته واستحكام شبابه أن يبلغ
بضْعاً
وثلاثين سنة، وكذلك في تمييزه.
وقوله: (وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي).
معناه اجعل ذُرِّيَّتِي صالحين (1).
* * *
وقوله: أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا
عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ
الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
(أُولَئِكَ الَّذِينَ يُتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا
عَمِلُوا).
ويجوز (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا
عَمِلُوا).
فالقِرَاءَة (يُتَقَبَّلُ) و (نَتَقَبَّلُ)
وكذلك يُتجاوزُ ونَتجاوزُ، ويَتقبَّلُ جائز، ولَا أعْلَمُ
أحَداً قَرأ بها.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {إِحْسَاناً}: قرأ الكوفيون «إحْساناً» وباقي السبعةِ
«حُسْناً» بضمِّ الحاءِ وسكونِ السينِ، فالقراءةُ الأولى يكون
«إحساناً» فيها منصوباً بفعلٍ مقدَّرٍ أي: وَصَّيْناه أَنْ
يُحْسِنَ إليهما إحساناً. وقيل: بل هو مفعولٌ به على تضمينِ
وصَّيْنا معنى أَلْزَمْنا، فيكونُ مفعولاً ثانياً. وقيل: بل هو
منصوبٌ على المفعولِ به أي: وصَّيناه بهما إحساناً مِنَّا
إليهما. وقيل: هو منصوبٌ على المصدرِ؛ لأنَّ معنى وصَّيْنا:
أَحْسَنَّا فهو مصدرٌ صريحٌ. والمفعولُ الثاني/ هو المجرورُ
بالباء. وقال ابن عطية: «إنها تتعلَّق: إمَّا بوَصَّيْنا،
وإمَّا بإحساناً». ورَدَّ الشيخُ: هذا الثاني بأنَّه مصدرٌ
مؤَوَّلٌ فلا يتقدَّم معمولُه عليه، ولأن «أَحْسَنَ» لا
يتعدَّى بالباء، وإنما يتعدَّى باللامِ. لا تقول: «أحسَنْتُ
بزيدٍ» على معنى وصول الإِحسان إليه. وقد رَدَّ بعضُهم هذا
بقولِه: {وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي} [يوسف: 100]
وقيل: هو بغير هذا المعنى. وقدَّر بعضُهم: ووَصَّيْنا
الإِنسانَ بوالدَيْه ذا إحسانٍ، يعني فيكونُ حالاً. وأمَّا
«حُسْناً» فقيل فيه ما تقدَّم في إحسان.
وقرأ عيسى والسُّلَمي «حَسَناً» بفتحِهما. وقد تقدَّمَ معنى
القراءتَيْنِ في البقرة وفي لقمان.
قوله: «كُرْهاً» قد تَقَدَّم الخلافُ فيه في النساء. وله هما
بمعنىً واحد أم لا؟ وقال أبو حاتم: «الكَرْهُ بالفتح لا
يَحْسُنُ لأنَّه بالفتح الغَصْبُ والغَلَبَةُ». ولا يُلْتَفَتُ
لِما قاله لتواتُرِ هذه القراءةِ. وانتصابُها: إمَّا على
الحالِ من الفاعلِ أي: ذاتَ كُرْه. وإمَّا على النعت لمصدرٍ
مقدرٍ أي: حَمْلاً كُرْهاً.
قوله: «وحَمْلُه» أي: مدةُ حَمْلِه. وقرأ العامَّةُ «فِصالُه»
مصدر فاصَلَ، كأنَّ الأمَّ فاصَلَتْهُ وهو فاصَلَها. والجحدري
والحسن وقتادة «فَصْلُه». قيل: والفَصْلُ والفِصال بمعنىً
كالفَطْمِ والفِطام، والقَطْفِ والقِطاف. ولو نَصَب «ثلاثين»
على الظرفِ الواقعِ موقعَ الخبرِ جاز، وهو الأصلُ. هذا إذا لم
نُقَدِّر مضافاً، فإنْ قَدَّرْنا أي: مدةُ حَمْلِه لم يَجُزْ
ذلك وتعيَّن الرفعُ، لتصادُقِ الخبرِ والمُخْبَرِ عنه.
قوله: {حتى إِذَا بَلَغَ} لا بُدَّ مِنْ جملةٍ محذوفةٍ تكونُ
«حتى» غايةً لها أي: عاش واستمرَّتْ حياتُه حتى إذا.
قوله: «أربعين» أي: تمامَها ف «أربعين» مفعولٌ به.
قوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي} أَصْلَحَ يتعدَّى بنفسِه
لقولِه: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 90] وإنما
تعدَّى ب في لتضمُّنِه معنى الطُفْ بي في ذرِّيَّتي، أو لأنه
جَعَلَ الذرِّيَّة ظرفاً للصَّلاح كقولِه:
4040. . . . . . . . . . . . . . . . .
يَجْرَحُ في عَراقيبها نَصْلي.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/442)
أُولَئِكَ الَّذِينَ
حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا
خَاسِرِينَ (18)
وقوله: (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا
يُوعَدُونَ).
هذا منصوبٌ لأنه مَصْدَرٌ مؤكد لما قبله، لأن قوله: أولئك
الذين نَتَقئلُ
عَنْهُم أحسنَ مَا عَمِلُوا. بمعنى الوعد، لأنه قد وعدهم الله
القَبُولَ.
فوعدُ الصِّدْقِ توكيد لذلك.
* * *
وقوله تعالى: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا
أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ
قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ
الْأَوَّلِينَ (17)
(أُفِّ لَكُمَا)
وقد قرئت (أُفٍّ لَكُمَا) (أُفَّ لَكُمَا) وقد فسرنا ذلك في
سُورَةِ بني
إسرائيل.
وقولهِ: (أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ).
ويقرأ (أَنْ أَخرُجَ) ويجوز أَتَعِدَانِي بالإدْغَام، وإن شئت
أَظْهَرَت النونَيْنِ.
وإنْ شئت أسكنت الياء، وإن شئت فتحتها.
وقد رُوِيَتْ عن بعضهم أَتَعِدانَني - بالفتح. وذلك لحن لا وجه
له، فَلاَ تَقْرَأَنَّ به، لأن فتح نُونِ الاثْنَيْنِ خطأ، وإن
حُكِي ذلكَ في شُذُوذٍ، فلا تحمل القراءة على الشذوذِ (1).
ويروى أن قوله في الآيةِ التي قبل هذه إلى قولك له: (أولئك
الذين نتقبل
عنهم) نزلت في أبي بكر رَحْمَةُ اللَّه عَلَيْه.
فأما قوله: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا).
فقال بعضهم: إنها نزلت في عبد الرحمن قبل إسلامه، وهذا يبطله
قوله (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي
أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ
إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18)
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: «أَتَعِدانِني» العامَّةُ على نونَيْن مكسورتَيْن:
الأولى للرفع والثانية للوقاية، وهشام بالإِدغام، ونافع في
روايةٍ بنونٍ واحدة. وهذه مُشَبَّهةٌ بقوله: {تأمروني
أَعْبُدُ} [الزمر: 64]. وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر وعبد
الوارث عن أبي عمروٍ بفتح النونِ الأولى، كأنَّهم فَرُّوا مِنْ
توالي مِثْلَيْنِ مكسورَيْن بعدهما ياءٌ. وقال أبو البقاء:
«وهي لغةٌ شاذَّةٌ في فتح نون الاثنين» قلت: إنْ عَنَى نونَ
الاثنين في الأسماءِ نحو قولِه:
4041 على أَحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقَلَّتْ. . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فليس هذا منه. وإن عَنَى في الفعلِ فلم يَثْبُتْ ذلك لغةً،
وإنَّما الفتحُ هنا لِما ذكَرْتُ.
قوله: «أَنْ أُخْرَجَ» هو الموعودُ به، فيجوزُ أَنْ تُقَدِّرَ
الباءَ قبل «أَنْ» وأَنْ لا تُقَدِّرَها.
قوله: «وقد خَلَتْ» جملةٌ حاليةٌ. وكذلك {وَهُمَا
يَسْتَغثِيَانِ الله} أي: يَسْألان اللَّهَ. واستغاث يتعدَّى
بنفسِه تارةً وبالباء أخرى، وإن كان ابنُ مالكٍ زعمَ أنَّه
متعدٍّ بنفسِه فقط، وعابَ قولَ النحاةِ «مستغاث به» قلت: لكنه
لم يَرِدْ في القرآن إلاَّ متعدَّياً بنفسِه: {إِذْ
تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9] {فاستغاثه الذي}
[القصص: 15] {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ} [الكهف: 29]
قوله: «وَيْلَكَ» منصوبٌ على المصدرِ بفعلٍ مُلاقٍ له في
المعنى دونَ الاشتقاقِ. ومثله: وَيْحَه ووَيْسَه ووَيْبَه،
وإمَّا على المفعولِ به بتقدير: ألزمَك الله وَيْلَكَ. وعلى
كلا التقديرَيْن الجملةُ معمولةٌ لقولٍ مقدرٍ أي: يقولان
وَيْلَكَ آمِنْ. والقولُ في محلِّ نصب على الحال أي:
يَسْتغيثان اللَّهَ قائلين ذلك.
قوله: {إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} العامةُ على كسرِ «إنَّ» /
استئنافاً أو تعليلاً. وقرأ عمرو بن فائد والأعرج بفتحِها على
أنها معمولةٌ ل آمِنْ على حَذْفِ الباءِ أي: آمِنْ بأنَّ
وَعْدَ اللَّهِ حقٌّ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/443)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ
إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ
النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا
تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ
يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
فأَعلم اللَّه أن هؤلاء قد حقتْ عَلَيْهِم
كلمة العذاب، وإذا أعلم بذلك
فقد أعلم أنهم لا يؤمنون، وعبد الرحمن مؤمن، ومن أفاضل
المُؤْمِنِين.
وسَرَوَاتِهم.
والتفسير الصحيح أنها نزلت في الكافر العاق.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا
وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19)
(وَلِيُوَفِّيَهُمْ)
(وَلِنُوَفِّيَهُمْ) جميعاً، بالنون والياء.
* * *
وقوله: (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ
أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا
وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ
الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ
بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
أكثر القراءة الفتح في النون والتفخيم في النارِ، وأكثر كلام
العرب على
إمالة الألف إلى الكسر، وبها يَقْرأ أبو عَمْرٍو (عَلَى
النَّارِ) يختار الكسر في الرَّاءِ، لأن الراء عندهم حرف
مُكررٌ، فكان كسرته كسرتانِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ)
بغير ألف الاستفهام، ويقرأ (أَأَذْهَبْتُم) - بهمزتين محققتين،
وبهمزتين
الثانية منهما مخففة، وهذه الألف للتوبيخ، التوبيخ إن شئت أثبت
فيه الألف، وإن شئت حذفتها، كما تقول: " يا فلان أحدثت مَا لا
يَحِل لك جَنَيْتَ عَلَى نَفْسِك " إذا وَبَّخْتةُ.
وإن شئت: أأخذت مَا لَا يَحِل لَكَ، أجنيت على نفسك.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ)
معناه الهَوَان.
* * *
وقوله - عز وجل -: (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ
قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ
إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
(الأحقاف) رمال مستطيلة مُرْتفعة كالدَكَّاوات، وكانت هذه
الأحقافُ
منازلَ عَادٍ.
(4/444)
تُدَمِّرُ كُلَّ
شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا
مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
وقوله: (وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا
اللَّهَ)
أي قد أنذروا بالعذاب إنْ عَبَدُوا غير اللَّه فيما تَقَدَّمَ
قَبْلَ إنْذَارِ هُودٍ.
وعلى لسان هود عليه السلام.
(إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا
بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22)
أي لِتَصْرِفنا عنها بالإفْكِ والكَذِب. .
(فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا) أي اثتنا بالعذاب الذي نَعِدُنا،
(إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ)
* * *
(قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا
أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ
(23)
أي هو يعلم متى يأتيكم العَذَابُ
(وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ) إلَيْكُمْ.
ويقرأ بالتخفيف وأُبْلِغُكُمِ.
(وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ)
أي أدُّلُّكُمْ على الرَّشَادِ وأنتم تَصُدُّونَ
وَتَعْبُدونَ آلِهَة لا تَنفع ولا تَضُر.
* * *
وقوله: (فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ
أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ
مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24)
أي فلما رَأَوُا السحاب الذي نشأت منه الريح التي عُذِبُوا
بِهَا قد
عَرَضت في السماء، قالوا الذي وَعَدْتَنا به سحابٌ فيه الغيث
والحياة والمطر.
فقال اللَّه عزَّ وجلَّ: (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ
رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ).
وقرأ بعضهم: " قُل بَلْ هُوَ ما اسْتَعْجَلْتُم ".
وكانت الريح من شدتها ترفع الراعي مَعَ غَنَمِهِ، فأهلك اللَّه
قوم عَادٍ بتلك الريح.
وقوله: (مُمْطِرُنَا) لَفظه لفظ معرفة، وهو صفة للنكرة، المعنى
عَارِضٌ
مُمطِرٌ إيَّانَا، إلا أَن إيَّانَا لا يفصل ههنا.
* * *
وقوله: (فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ
نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
(4/445)
وَإِذْ صَرَفْنَا
إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ
فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ
وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)
في هذا خمسة أوجه:
أجودها في العربية والقراءة، (لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ)
مَسَاكِنُهُمْ)، وتأويله لَا يُرَى شيءٌ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ
لأنَّهُمْ قد أُهْلِكُوا.
ويجوز فأصبحوا لاَ تُرَى إلا مساكِنُهُمْ فيكون المعنى لا
تُرَى أشخاصٌ إلا مَسَاكِنُهُم.
ويقرأ فأصبحوا تَرَى مَسَاكِنَهُمْ، أي لا ترى شيئاً إلا
مساكِنَهُمْ.
وفيها وجهان بحذف الألف، فأصبحوا لا يُرَى إلا مَسْكِنهُمْ،
وَمَسْكَنَهُمْ، ويجوز فأصبحوا لا ترى إلا مَسْكَنَهُمْ.
يقال: سَكَن يَسْكُن مَسْكَناً وَمَسْكِناً (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (كذَلِكَ نَجْزِي القَوْمَ المُجْرِمِينَ)
المعنى مثل ذلك نجزي القوم المجرمين أي بالعَذَابِ.
* * *
وقوله: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ
فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً
فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا
أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ
اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ (26)
(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ)
(إن) ههنا في معنى " ما " و (إن) في النفي مع " ما " التي في
مَعْنى الَّذِي
أحسن في اللفظ مِنْ " مَا "، ألا ترى أنك لو قلت رغبت فيما ما
رَغِبَت فيه
لكان الأحسن أن تقول: قَدْ رَغِبْتَ فيما إن رَغِبْتَ فيه،
تريد في الذي ما رغبت فيه، لاختلاف اللفظين.
* * *
وقوله عزَّ وجل: (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ
وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
أي دعاؤهم آلهتهم هُوَ إفكُهُمْ، ويقرأ (أَفَكَهُمْ) بمعنى
وذلك كذبُهُمْ
وَكُفْرُهُمْ، والأفك والأفَكَ مثل النَجْس والنجَسُ ويقرأ
أَفَكُهُم، أي ذلك جَعَلَهُم ضلالاً كافرين، أي صَرَفَهُمْ عنِ
الحق، ويقرأ آفَكَهُمْ أَيْ جَعَلَهُمْ يأفكونَ، كما تقول: ذلك
أكفرهم وأضلهُمْ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ
الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا
أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ
مُنْذِرِينَ (29)
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ}: قرأ
حمزةُ وعاصم «لا يُرَى» بضمِّ الياءِ مِنْ تحتُ مبنياً
للمفعولِ، «مَسَاكنُهم» بالرفع لقيامِه مقامَ الفاعلِ.
والباقون من السبعةِ بفتح تاءِ الخطاب «مَساكنَهم» بالنصب
مفعولاً به. والجحدريُّ والأعمش وابنُ أبي إسحاقَ والسُّلميُّ
وأبو رجاءٍ بضمِّ التاءِ مِنْ فوقُ مبنياً للمفعول. «مساكنُهم»
بالرفع لقيامِه مقامَ الفاعل، إلاَّ أنَّ هذا عند الجمهور لا
يجوزُ، أعني إذا كان الفاصلُ «إلاَّ» فإنه يمتنع لَحاقُ علامةِ
التأنيثِ في الفعل إلاَّ في ضرورةٍ كقولِه: /
4045. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وما بَقِيَتْ إلاَّ الضلوعُ الجراشِعُ
وقول الآخر:
4046 كأنه جَمَلٌ هَمٌّ وما بَقِيَتْ. . . إلاَّ النَّحِيزةُ
والألواحُ والعَصَبُ
وعيسى الهمداني «لا يُرى» بالياء مِنْ تحتُ مبنياً للمفعول،
«مَسْكَنُهم» بالتوحيد. ونصر بن عاصم بتاء الخطاب «مَسْكَنَهم»
بالتوحيد أيضاً منصوباً، واجتُزِئ بالواحد عن الجمع. اهـ
(الدُّرُّ المصُون).
(4/446)
فَاصْبِرْ كَمَا
صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ
لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ
يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ
يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
أي قال بعضهم لبعض صَهْ، ومعنى صهْ
اسْكُتْ، ويقال إِنهُمْ كانوا تسعة
نَفرٍ أو سبعة نَفَرٍ، وكان فيهم زوبَعَة.
(فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)
أي فلما تلى عليهم القرآن حتى فرَع منه، (وَلَّوْا إِلَى
قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)
ويُقْرَأُ (فَلما قضَاهُ).
* * *
(قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ
مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي
إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30)
أي يُصَدِّق جَمِيعَ الكُتب التي تقدمَتْهُ والأنبياء الذين
أَتَوْا بها.
وفي هذا دليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث إلى الإنس
والجِنِّ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ
بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33)
دخلت الباء في خبر (إنَّ) بدخول (أَوَلَمْ) في أول الكلام، ولو
قلت:
ظنَنْت أن زيداً بقائم لم يجز، وَلَوْ قُلْتَ: ما - ظننتُ أَن
زيداً بقائم جاز بدخول ما، ودخول أن إنما هو توكيد للكلام
فكأنَّه في تقدير أَلَيْسَ اللَّهُ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ
يُحْييَ المَوْتَى فيما ترون وفيما تعلمونه.
وقد قرئت يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُحْييَ المَوْتَى، والأوْلَى هي
القراءة التي عليها
أكثر القراء. وهذه جائزة أيضاً.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ
مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ
نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ
الْفَاسِقُونَ (35)
جاء في التفسير أن أُولي العَزْمِ نوح وإبراهيم ومُوسَى وعيسى
ومحمد.
صَلواتُ الله عليهم أجمعين.
(4/447)
قوله: (لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً
مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ).
الرفع على معنى ذلك بَلَاغٌ.
والنصبُ في العربيًةِ جيدٌ بالغ. إلَا أَنَه يخالف المصحف،
وبَلَاغاً على معنى يبلغون بَلَاغا كما قال: (كِتَابَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ) مَنصُوبٌ عَلَى معنى:
(حُرمَتْ عليكم أُمَّهَاتُكُمْ)، تأويله: كتب اللَّه ذلك
كتاباً. .
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ
الْفَاسِقُونَ).
تأويله أنه لا يهلك مع رحمة اللَّه وتَفَضله إلا القومُ
الفَاسِقُونَ
ولو قرئت " فَهَلْ يَهْلِكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ "
كان وجهاً.
ولا أعلم أحداً قرأ بها.
وما في الرجاء لرحمة اللَّه شيء أقوى من هذه الآية.
وهي قوله: (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ)
(1).
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {فاصبر}: الفاءُ عاطفةٌ هذه الجملةَ على ما تقدَّمَ،
والسببيَّةُ فيها ظاهرةٌ.
قوله: «من الرسُل» يجوزُ أَنْ تكونَ تبعيضيَّةً، وعلى هذا
فالرسلُ أولو عَزْمٍ وغيرُ أُولي عَزْمٍ. ويجوز أَنْ تكونَ
للبيانِ، فكلُّهم على هذا أُوْلو عَزْم.
قوله: «بلاغٌ» العامَّةُ على رَفْعِه. وفيه وجهان، أحدهما:
أنَّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ، فقدَّره بعضُهم: تلك الساعةُ بلاغٌ،
لدلالةِ قولِه: {إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ} وقيل: تقديرُه
هذا أي: القرآن والشرعُ بلاغٌ. والثاني: أنَّه مبتدأٌ، والخبرُ
قولُه: «لهم» الواقعُ بعد قولِه: «ولا تَسْتَعْجِلْ» أي: لهم
بلاغٌ، فيُوْقَفُ على «فلا تَسْتعجل». وهو ضعيفٌ جداً للفصلِ
بالجملةِ التشبيهية، لأنَّ الظاهرَ تَعَلُّقُ «لهم»
بالاستعجال، فهو يُشْبِه التهيئةَ والقطعَ. وقرأ زيد بن علي
والحسن وعيسى «بلاغاً» نصباً على المصدرِ أي: بَلَغَ بلاغاً،
ويؤيِّده قراءةُ أبي مجلز «بَلِّغْ» أمراً. وقرأ أيضاً
«بَلَغَ» فعلاً ماضياً.
ويُؤْخَذُ مِنْ كلامِ مكيّ أنه يجوزُ نصبُه نعتاً ل «ساعةً»
فإنه قال: «ولو قُرِئ» بلاغاً «بالنصبِ على المصدر أو على
النعتِ ل» ساعةً «جاز». قلت: قد قُرِئ به وكأنه لم يَطَّلِعْ
على ذلك.
وقرأ «الحسن» أيضاً «بلاغ» بالجرِّ. وخُرِّجَ على الوصف ل
«نهار» على حَذْفِ مضافٍ أي: مِنْ نَهارٍ ذي بلاغ، أو وُصِف
الزمانُ بالبلاغ مبالغةً.
قوله: «يُهْلَكُ» العامَّةُ على بنائِه للمفعولِ. وابن محيصن
«يَهْلِك» بفتح الياء وكسرِ اللام مبنياً للفاعل. وعنه أيضاً
فتحُ اللامِ وهي لغةٌ. والماضي هلِكَ بالكسر. قال ابن جني:
«كلٌ مرغوبٌ عنها». وزيد بن ثابت بضمِّ الياءِ وكسرِ اللام/
والفاعلُ اللَّهُ تعالى. «القومَ الفاسقين» نصباً على المفعولِ
به. و «نُهْلك» بالنون ونصب «القوم».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(4/448)
ذَلِكَ بِأَنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ
اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
سُورَةُ محمَّد - صلى الله عليه وسلم -
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ
أَعْمَالَهُمْ (1)
قوله عزَّ وجلَّ: (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ).
أحبطها فلا يرون في الآخرة لها جزاء، والمعنى أن حبط ما كان من
صدَقَاتِهِمْ وصلتهم الرحِمَ وأبواب البر بكفرهم، كما قال عزَّ
وجلَّ: (كَذَلِكَ يُرِيهُمُ اللَّهُ أعْمَالَهُم حَسَراتٍ
عَلَيْهِمْ) وقوله (كَسَرَابٍ بِقيعَةٍ)
وهؤلاء هم الذين صدوا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
والدليل على ذلك قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ
الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ
وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2)
أي كفَّر عَنْهُم وما اقترفوه وَهُمْ كافرونَ لمَّا آمنوا
باللَّهِ وبالنبي عليه السلام.
وسائر الأنبياء أجمعين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ).
أي أصْلَحَ امْرَهُمْ وحالهم.
* * *
وقوله: (ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا
الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ
مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ
أَمْثَالَهُمْ (3)
أي الأمر ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل.
وجائز أن يكون ذلك الإضلال لاتباعهم الباطل، وتلك الهداية
والكفارات باتباع المؤمنين الحقَ، ثم قال عزَّ وجلَّ:
(5/5)
فَإِذَا لَقِيتُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا
أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا
بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا
ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ
لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4)
(كذلك يَضْرِبُ اللَّهُ للنَّاسِ
أمْثَالَهُمْ).
أي كذلك يبين الله للناس أمثال حسنات المؤمنين وسيئات الكافرين
أي
كالبيان الذي ذكر، ومعنى قول القائل: ضربت لك مثلًا، أي بينت
لك ضرباً من الأمثال، أي صنفاً منها.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا
الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى
تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ
لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ
وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ
أَعْمَالَهُمْ (4)
معناه فاضربوا الرقاب ضرباً، منصوبٌ على الأمر، وتأويله فإذا
لقيتُم
الذين كفروا فاقتلوهم، ولكن أكثر مواقع القتل ضرب العُنُق،
فأعلمهم اللَّه
- عزَّ وجلَّ - كيف القصد، وكيف قال: (واضْرِبُوا مِنْهُم كُلً
بَنَانٍ)
أي فليس يتوهم بهذا أن الضَّربَ محظور إلَّا على الرقبة فقط.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا
الْوَثَاقَ).
(أَثْخَنْتُمُوهُمْ) أكثرتم فيهم القتل، كما قال: (مَا كَانَ
لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي
الْأَرْضِ)، فالأسر بعد المبالغة في القتل.
ثم قال: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً).
أي بعد أن تَأسِروهُمْ إِما مننتم عليهم مَنَّا، وإِما
أطلقتموهم بفداء.
وقوله: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا).
(حتى) موصولة بالقتل والأسْرِ، المعنى فاقتلوهم وأسِرُوهُمْ
حتى تضع
الحرب أوزارها.
والتفسير حتى يؤمنوا وُيسْلِمُوا، فلا يجب أن تحاربوهم، فما
دام الكفر فالجهاد والحرب قائمة أبداً.
وقوله: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ).
.
(5/6)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا
فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8)
(ذلك) في موضع رفع، المعنى الأمر ذلك،
ويجوز أنْ يكون مَنْصُوباً على
معنى افعلوا ذلك.
(وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ).
أي لو يشاءُ اللَّهُ لَعذَّبَهُمْ وأهلكهم لأنه قادِرٌ عَلَى
ذَلِك.
(وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ).
المعنى ولكن أمركم بالحرب ليبلو بعضكم ببعض، أي ليمَحِّصَ
اللَّه
المؤمنين ويمحق الكافِرينَ.
وقوله: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ
يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ).
ذكر في أول السورة: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ
سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) وأعلم أن الذين قاتلوا
في سبيل الله فلن يضل أعمالهم.
ويقرأ عَلَى أربعة أوْجُهٍ:
قَاتَلُوا في سبيل اللَّه، وقُتِلُوا في سبيل اللَّه، على ما
لم يسمَّ
فاعله، ويُقْرأ قُتِّلُوا بتشديد التاء، ويُقْرأ قَتَلُوا في
سبيل اللَّه، بفتحِ القاف.
* * *
وقوله: (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5)
يُصْلِحُ لَهُمْ أمر معاشهم في الدنيا مع ما يجازيهم به في
الآخرة، كما
قال - عزَّ وجلَّ -: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ
وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ
لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ)
أي لو أنهم قبلوا ما فيها وما في الكتب وعملوا به لأكلوا من
فوقهم ومن تحت أرْجُلِهم، وكما قال:
(اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ
جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)
فوعد الله عزَّ وجلَّ المؤمنين إصلاح شأنهم وبالهم في الدنيا
والآخِرة.
* * *
وقوله: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ
أَعْمَالَهُمْ (8)
(5/7)
وَكَأَيِّنْ مِنْ
قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي
أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)
(الَّذِينَ) في موضع رفع على الابتداء.
ويكون (فَتَعْسًا لَهُمْ) الخبر.
ويجوز أن يكون نصباً على معنى أتعسهم اللَّه.
والتععحم، في اللغة الانْحِطاطُ والعُثور.
* * *
(ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ
أَعْمَالَهُمْ (9)
كرهوا القرآن ونبوة النبي عليه السلام فأحبط اللَّه أعمالهم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ
فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ
أَمْثَالُهَا (10)
المعنى فينظروا كيف كان عاقبة الكافرين الذين من قبلهم.
(دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ)، أي أهلكهم اللَّه.
(وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا) أي أمثال تلك العاقبة، فأهلك
الله عزَّ وجل
بالسَّيف من أهلك ممن صدَّ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
(ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ
الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11)
أي بأن اللَّه ولي الذين آمنوا يتولاَّهم في جميع أمورِهم في
هدايتهم
والنصر على عدوهم.
(وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ).
أي لا وليَّ لهم ينصرهم من اللَّهِ في هِدَايةٍ ولا عُلُوٍّ
على المؤمنين، ثم
أعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - ما أعدَّ للمؤِمنين مع النصر
والتمكين، وما أعدَّ للكافرين مع الخذلان والإِضلال فقال:
(إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا
تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)
ثم بين صفات تلك الجنات وقال:
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا
تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ).
والمثوى المنزل.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ
أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ
أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)
(5/8)
مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ
غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ
طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ
وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ
الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ
فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ
(15)
المعنى وكم من أهل قَرْيةٍ هي أشدُّ قوةً
مِنْ أهْلِ قَرْيتِكَ التي أخرجتك.
أي الذين أخرجوك أهلكناهم بتكذيبهم للرسل فَلَا نَاصِرَ
لَهُمْ.
ثم أعلم فقال:
* * *
(أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ
لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ
(14)
وهذه ألفُ توقِيفٍ وتَقْرِيرٍ، لأن الجواب معلوم، كما أنك إِذا
قلْتَ من
يفعل السيئات يشق، ومن يفعل الحسنات يَسْعَد، ثم قلت: الشقاء
أحب إليك أم السعادَة. فقد علم أن الجواب السعَادَة، فهذا مجرى
ألف التوقيف
والتقرير.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ
الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ
وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ
وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ
مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ
وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ
وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
(مَثَلُ الْجَنَّةِ).
تفسير لقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
الْأَنْهَارُ)، ففسر تلك الأنهار فقال: (مَثَلُ الْجَنَّةِ
الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ) أي مما عرفتموه من الدنيا من
جناتها وأنهارها جنَّةٌ (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ
آسِنٍ).
ويقرأ من ماء غير أسِنٍ، ويجوز في العربية أسْنٍ، يقال أَسَنَ
الماءُ يأسِن
فهو آسِنٌ، ويقال: أسَنَ الماءُ فهو أَسِنٌ إذا تغيرت رائحته،
فأعلم اللَّه
- عزَّ وجلَّ - أن أنهار الجنة لا تَتَغير رائحة مائها،
ولايَأسَن.
(وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ).
أي لا يدخله ما يدخل ألبان الدنيا من التغيرِ.
(وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ).
ليس فيها غَوْلٌ أي لا تُسْكِرُ وَلاَ تفنى.
(وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى).
معناه مصفى لم يخرج من بطون النحل فَيخالطه الشَمْع.
(وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ).
(5/9)
وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
كما قال: (إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ)، وصف تلك الجناتِ فقال: مثل
الجنَّة جنَّة كما وصف.
وقيل إن المعنى صِفَةُ الجنَّةِ، وهو نحَوٌ مِما فَسَّرَنَا.
ثم قال: (وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ).
أي لهم فيها من كل الثمَرات وَلَهُم مَغْفِرةٌ من رَبهمْ،
يَغْفِر ذُنُوبَهُمْ ولا
يجازون بالسيئات، ولا يوَبَّخُونَ في الجنَّةِ، فَيُهكوْنَ
الفوز العظيم والعَطاءَ
الجَزِيلَ.
ثم قال:
(كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا
فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ).
المعنى أفمن كان على بَينَةٍ من رَبِّه وأُعْطَىْ هَذِهِ
الأشْيَاء، كمَن زُيِّنَ له
سوء عمله وهو خَالِدٌ في النَّارِ.
(وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ).
واحد الأمعاء مِعًى، مثل ضِلَع وَأضْلَاع.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ
حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ
طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ
(16)
يعني المنافقين.
(حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا).
كانُوا يَسْمُعونَ خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا
خرجوا سألوا أصحاب رسول الله استهزاء وإعلاماً أنهم لم يلتفتوا
إلى ما قال، فقالوا: مَاذَا قَال آنِفاً، أي ماذا قال الساعة،
ومعنى آنفاً من قولك استأنَفْتُ الشيء إذا ابْتَدَأتُه،
ورَوْضَة أُنُفٌ، إذَا لَمْ تُرْعَ بَعْدُ، أي لها أولٌ
يُرعَىْ، فالمعنى ماذا قال من أول وَقْتٍ يَقْرُب مِنَّا.
وقوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ
وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا
زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17)
الضمير الذي في (زَادَهُمْ) يجوز أن يكون فيه أحدُ ثلاثة
أوْجُهٍ:
فأجْوَدُهَا - واللَّه أعلم - أن يكون فيه ذكر الله، فيكون
المعنى مردُوداً على
(5/10)
فَهَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ
أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ
(18)
قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ
عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16)
وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ
تَقْوَاهُمْ)
ويجوز أن يَكونَ الضَميرُ في (زَادَهم) قول الرسول - صلى الله
عليه وسلم -.
فيكون المعنى وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ ما قال رسول
اللَّه هُدًى.
ويجوز أن يكون زَادَهم إعراضُ المنافقين واستهزاؤهم هُدًى.
قوله: (وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ).
يجوز أن يكون وَألهمهم تقواهم، كما قال عزَّ وجلَّ:
(وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا
وَأَهْلَهَا).
ويجوز أن يكون - واللَّه أعلم - وآتَاهمْ ثَوَابَ تَقْوَاهُمْ.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ
أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا
فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18)
ويقرأ " إِلَّا السَّاعَةَ إِنْ تَأْتِهمْ " بغير ياء، والأولى
أجْوَد لموافقة المصحف.
وموضع " أن " نَصْبٌ البدَلِ مِنَ السَّاعَةِ.
المعنى فهل ينظرون إِلا أن تأتِيَهُمْ السَّاعَة بَغْتةً.
وهذا البدل المشتمل على الأول في المعنى وهو نحو
قوله (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ
لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ)
المعنى لولا أن تطؤوا رِجالاً مؤمِنين ونساءً مؤمِنَاتٍ.
ومعنى (هَلْ يَنْظُرُونَ) هَلْ يَنْتَظِرونَ واحِدٌ.
ومن قرأ: إن تأتهم " (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) فعلى الشرط
والجزاء.
وأشراطها أعلامها.
(فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ).
المعنى فمن أين لهم ذكراهم إذا جاءتهم الساعة، و (ذِكْرَاهُمْ)
في موضع
رفع بقوله (فَأَنَّى).
(5/11)
طَاعَةٌ وَقَوْلٌ
مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ
لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)
وقوله: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ
وَمَثْوَاكُمْ (19)
هذه الفاء جاءت للجزاء، المعنى قد بَيَّنَا مَا يَدل على أنَّ
الله وَاحِدٌ
فأعلم اللَّه أنه لا إِله إلا اللَّه، والنبي عليه السلام قد
علم ذلك ولكنه خطاب
يدخل الناس فيه مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما قال الله
عزَّ وجلَّ: (يَا أيها النبي إذا طلقتم ْالنساء)، والمعنى من
عَلِمَ فليقم على ذلك العلم، كما قال: (اهْدِنَا الصِرَاطَ
المسْتقيم) أي ثبتنا على الهداية.
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ).
أي يعلم متصرفاتكم ويعلم مثواكم، أي يعلم أين مقامكم في الدنيا
والآخرة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا
نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ
وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ
عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20)
كان المؤمنون - رحمهم اللَّه - يأنسون بالوحي ويسْتَوْحِشُونَ
لإِبْطائِه
فلذلك قالوا: (لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ).
(فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا
الْقِتَالُ).
ومعنى (مُحْكَمَةٌ)، غير منسوخة، فإذا ذكر فيها فَرْضُ
القِتَالِ
(رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) يعنى المنافقين.
(يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ
الْمَوْتِ).
لأنهم منافقون يكرهون القتال، لأنهم إذا قعدوا عنه ظَهَرَ
نِفَاقُهُمْ، فَخَافوا
عَلَى أنْفُسِهِم القَتْل.
(فَأَوْلَى لَهُمْ).
(أَوْلَى لَهُمْ) وعيدٌ وتَهَدُدٌ، المعنى وَلِيَهُم المكروهُ
* * *
وقوله: (طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ
فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)
(5/12)
إِنَّ الَّذِينَ
ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ
(25)
قال سيبويه والخليل: المعنى طَاعَةٌ
وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ أمثل، وقيل إنهم كان
قولهم أولًا طاعة وقول معروف.
ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون المعنى فإذا أنزلت سورة ذات
طاعة أي يؤمر فيها بالطاعة، وقول معروف، فيكون المعنى فإذا
أنزلت سورة ذات طاعة وقول معروف.
* * *
(فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ
خَيْرًا لَهُمْ).
المعنى فإذا جَدَّ الامْرُ ولزم فرض القتال، فلو صدقوا اللَّه
فآمنوا بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وعملوا بما نزل عليه وما
أمروا به من فرض القتال لكان خيراً لهم.
المعنى لكان صدقهم اللَّه بإِيمانِهِمْ خيراً لهم.
* * *
وقوله: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا
فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22)
وقرأ نافع " فَهَلْ عَسِيتُمْ " واللغة الجيدة البالغة
عَسَيْتُمْ - بفتح السين ولو
جاز عَسِيتُمْ لجاز أن تقول: عَسِيَ رَبُّكُمْ أنْ
يَرْحَمَكُمْ.
ويقرأ (إِنْ تُوُلِّيتُمْ) و (إِنْ تَوَلَّيْتُمْ) - بضم التاء
وفتحها.
(أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ).
فمن قرأ (تَوَلَّيْتُمْ) - بالفتح - ففيها وجهان:
أحَدَهُمَا أن يكون المعنى لعلكم إن توليتم عما جاءكم به النبي
أنْ تَعُودُوا إلى أمر الجاهلية، فتفسدوا وَيَقْتُلُ بعضكم
بعضاً.
(وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ)، أي تئدوا البنات، أي تدفنوهن
أحياء.
ويجوز أن يكون فلعلكم إن توليتم الأمر أن تفسدوا في الأرض
وتقطعوا
أرحَامَكُمْ، ويَقْتُلُ قُريشٌ بَنِي هاشم، وبَنو هَاشِم
قُريْشاً، وكذلِكَ إن توليتم.
* * *
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ
بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ
لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25)
المعنى رجعوا - بعد سماع الهدى وتَبَيُّنِهِ - إلى الكُفرْ.
وقوله: (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ).
(5/13)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ
اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ
فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)
معنى (سَوَّلَ لَهُمْ) زَيَّنَ لَهُمْ
(وَأمْلَى لهم)، أملى اللَّه لهم كما قال:
(إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا) معناه إنما
نؤخرهم.
وقد قرئت (الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأُمْلِي لَهُمْ) على
الإخبار عَنِ اللَّه عزَّ وجلَّ، المعنى وأنَا أُمْلِي.
وقُرئت (وَأُمْلِيَ لَهُمْ) بفتح الياء على ما لم يسم فاعله
(1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ
كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ
الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26)
المعنى - والله أعلم - الأمر ذلك أي ذلك الِإضلال بقولهم للذين
كرهوا ما نزل اللَّه، وجاء في التفسير أنهم اليهود، قالوا
سنطيعكم في بعض
الأمر، أي سنطيعكم في التظاهر على عداوة النبي - صلى الله عليه
وسلم -
(وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَسْرَارَهُمْ).
و (إِسْرَارَهُمْ) قرئ بهما جميعاً، فمن قرأ (أَسْرَارَهُمْ) -
بالفتح - فهُو جمعُ سِرٍّ
وأسرار، مثل حمل وأحمال، ومن قرأ (إِسْرَارَهُمْ) فهو مصدر
أسْرَرْتً إسرَاراً.
* * *
وقوله: (فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ
يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27)
يفعلون بهم ذلك في نار جهنم - واللَّه أعلم - ويكون المعنى
فكيف
يكون حالهم إذا توفتهم الملائكة وهم يضربون وجوههم وأدبَارَهم.
* * *
قوله: (ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ
وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)
المعنى - واللَّه أعلم - ذلك جزاؤهم بأنهم اتبعوا الشيء الذي
أسخط
اللَّه وكرهوا رضوانه، أي اتبعو مَن خالف النبي - صلى الله
عليه وسلم - ومن خالف الشريعة وكرهوا الِإيمان بالنبي - صلى
الله عليه وسلم - واتباع شريعته.
(فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ).
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {الشيطان سَوَّلَ}: هذه الجملةُ خبرُ {إِنَّ الذين
ارتدوا}. وقد تقدَّم الكلامُ على «سَوَّل» معنًى واشتقاقاً.
وقال الزمخشري هنا: «وقد اشتقَّه من السُّؤْل مَنْ لا عِلْمَ
له بالتصريفِ والاشتقاقِ جميعاً» كأنَّه يُشير إلى ما قاله ابن
بحر: مِنْ أنَّ المعنى: أعطاهم سُؤْلَهم. ووجهُ الغلطِ فيه
أنَّ مادةَ السُّؤْلِ من السؤال بالهمز، ومادةَ هذا بالواوِ
فافترقا، فلو كان على ما قيل لقيل: سَأَّل بتشديد الهمزة لا
بالواو. وفيما قاله الزمخشريُّ نَظَرٌ؛ لأن السؤالَ له مادتان:
سَأَل بالهمز، وسال بالألفِ المنقلبةِ عن واوٍ، وعليه قراءةُ
«سال سايل» وقوله:
4067 سالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ الله فاحِشةً. . . ضَلَّتْ
هُذَيْلٌ بما سالَتْ ولم تُصِبِ
وقد تقدَّم هذا في البقرةِ مُسْتوفى.
قوله: «وأَمْلَى» العامَّةُ على «أَمْلَى» مبنياً للفاعل، وهو
ضمير الشيطان. وقيل: هو للباري تعالَى. قال أبو البقاء: «على
الأول يكونُ معطوفاً على الخبر، وعلى الثاني يكونُ
مُسْتأنفاً». ولا يَلْزَمُ ما قاله بل هو معطوفٌ على الخبر في
كلا التقديرَيْن، أخبر عنهم بهذا وبهذا. وقرأ أبو عمروٍ في
آخرين «أُمْلِيَ» مبنياً للمفعول، والقائمُ مَقامَ الفاعلِ
الجارُّ. وقيل: القائم مَقامَه ضميرُ الشيطان، ذكره أبو
البقاء، ولا معنى لذلك. وقرأ يَعْقُوبُ وسلام ومجاهد/
«وأُمْلِيْ» بضمِ الهمزةِ وكسرِ اللام وسكونِ الياءِ.
فاحتملَتْ وجهَيْن، أحدُهما: أَنْ يكونَ مضارعاً مُسْنداً
لضمير المتكلم أي: وأُمْلِي أنا لهم، وأَنْ يكونَ ماضياً
كقراءة أبي عمروٍ سُكِّنَتْ ياؤه تخفيفاً. وقد مضى منه جملةٌ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/14)
وَلَوْ نَشَاءُ
لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ
وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ
أَعْمَالَكُمْ (30)
أي ما كان من عمل خيرٍ نحو صلة رحم أوْ برٍ
أو صَدَقةٍ، أحبط اللَّه ذلك
بكفرهم بما أتى به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ
لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ
(29)
(الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) المنافقون أي لن يبدي
اللَّه عداوتهم لرسوله
عليه السلام ويظهره على نفاقهم.
* * *
(وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ
بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30)
معنى (لَأَرَيْنَاكَهُمْ) لعَرفْنَاكَهُمْ، تقول: قد أرَيْتَكَ
هَذَا الأمْر أي قد عرفتك
إياه، المعنى لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة وهي
السيمياء.
(فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ).
أي بتلك العلامة.
(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)، أي في فحوى
القَوْلِ.
فدلَّ بهذا والله أعلم - على أن قول القائل وفعله يدُلُّ على
نِيَّته.
وقولُ الناس: قد لَحَنَ فلانٌ، تأويله: قد أَخذ في ناحية عن
الصواب، وَعدَلَ عن الصواب إِليها، وقول الشاعر:
مَنْطِقٌ صائِبٌ وتَلْحَنُ أَحْيا. . . ناً وخَيْرُ الحديثِ ما
كانَ لَحْنا
تأويله: خير الحديث من مِثْل هذه ما كان لا يعرفه كلُّ أحد،
إِنما يُعْرََفُ قولها في أنحاء قولها.
(5/15)
إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا
فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)
وقوله: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى
نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ
أَخْبَارَكُمْ (31)
معنى (لَنَبْلُوَنَّكُمْ) لنختبرنكم بالحرب.
(حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ).
وهو عزَّ وجلَّ قَدْ عَلِمَ قَبْلَ خَلْقِهِم المجاهدين منهم
والصابرين، ولكنه
أراد العلم الذي يقع به الجزاء، لأنه إنما يجازيهم على
أعمالهم.
فتأويله حتى يعلم المجاهدين علم شهادة، وقد علم - عزَّ وجلَّ -
الغيب، ولكن الجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم شهادة.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)
أعلم - عزَّ وجلَّ - أنه لا يغفر لمن مات على الكفر.
* * *
وقوله: (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ
الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ
أَعْمَالَكُمْ (35)
(إِلَى السَّلْمِ)
والسَّلَم، ومعناه الصلْحُ، يقال للصُّلِحَ هو السِّلْمُ،
والسَّلْمُ، والسَّلَمُ.
ومعنى (لَا تَهِنُوا) لا تَضْعُفوا. يقال: وَهَنَ يَهِن، إِذَا
ضَعُفَ، فمنع اللَّه المُسْلِمينَ أن يَدْعوا الكافرين إِلىَ
الصُّلْحِ وأمرَهًمْ بِحَرْبِهِمْ حتى يُسْلِمُوا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ
مَعَكُمْ).
تأويله. أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ فى الحجةِ ومَعَكًمً النبيُ -
صلى الله عليه وسلم - وَمَا أتَى به من الآياتِ التي تدل على
نبُوته، (وَاللَّهُ مَعَكمْ) أي نَاصِرُكُمْ.
وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ).
أي لن ينْقِصكُمْ شيئاً مِن ثَوَابِكًمْ.
* * *
وقوله: (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ
وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا
يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36)
وقد عرفهم أنَّ أجورهم الجنةُ.
وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا
فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37)
(5/16)
هَا أَنْتُمْ
هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ
عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ
وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ
لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
أي إِن يجهدكُمْ بالمسألة (تَبْخَلُوا
وَيُخْرِج أضْغَانَكُمْ).
ونخْرِج أضْغَانُكُمْ، وقد قرئ بهما جميعاً.
* * *
وقوله: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ
ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
جاء في التفسير: إن تَوَلَّى العِبَادُ استَبْدَلَ اللَّه
بِهِمُ المَلَائِكَة.
وجاء أيضاً: إن تَوَلَّى أهل مكَةَ استبدل الله بهم أهل
المدينة.
وجاء أيضاً - يَستَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكمْ مِن أهل فَارِسَ.
فأما ما جاء أنه يستبدل بهم الملائكة، فهو في اللغةِ عَلَى مَا
أَتَوَهَّم فيه بُعْدٌ لأنه لا يقال للملائكة قومٌ، إِنما يقال
قوم لِلآدَمِيينَ.
والمعنى - واللَّه أعلم - وَإِنْ تَتَوَلًوْا يستَبْدِل قَوماً
أطْوَعَ مِنكم، كما قال - عزَّ وجلَّ - (عَسَى رَبُّهُ إِنْ
طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ).
إِلى آخر القصة.
فلم يتولَّ جَميعَ النَّاسِ - واللَّه أعلم.
(5/17)
|