معاني القرآن
وإعرابه للزجاج إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ
فَتْحًا مُبِينًا (1)
سُورَةُ الفتح
(مَدنيةٌ) كلها بِإِجْمَاعٍ
بسم اللَّه الرحمن الرَّحيم
قوله - عزَّ وجلََّّ -: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا
مُبِينًا (1)
جاء في التفسير أنه فتحُ الحُديبية، وَكان هذا الفتح عَن غَير
قتالٍ قيل
إنه كان عن تراضٍ بين القوم.
والحُدَيْبيَةُ بئرٌ فسمي المكان باسم البئر.
والفتح إنما هُوَ الطفَرُ بالمكان والمدينةِ والقَرْيَةِ، كان
بحرب أو بغَيْر حُرْبٍ، أو
كان دخول عَنْوَةٍ أو صُلْح، فَهوَ فتحٌ لأن الموضع إِنما يكون
مُنْغَلِقاً فإذا صار
في اليَدِ فَهُوَ فتحُ.
ومعنى (فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) - وَاللَّهُ أعلَمُ -
هو الهداية إلى الِإسْلاَمِ.
وجاء في التفسير: قضينا لكَ قضاء مُبِينًا أي حكمنا لك بإظهار
دين الِإسلام
والنصرة على عدوك.
وأكثَر ما جاء في التفسير أنه فتح الحُدَيْبِيةِ، وكان في فتح
الحديبية آية
عظيمة من آيات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك أنها بئر
فاسْتُقِيَ جميعُ ما فيها من الماء حتى نَزَحَت ولم يبق فيها
ماء، فتمضمض رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ثم مَجَّهُ
فيها فدرت البئر بالماء حتى شَرِبَ جميع من كان مع النبي - صلى
الله عليه وسلم -.
وليس يخرج هذا من معنى فتحنا لك فتحاً مبيناً أنه يُعْنَى به
الهداية إلى الِإسْلاَم، ودليل
(5/19)
وَيُعَذِّبَ
الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ
وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ
عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا
(6)
ذلك قوله (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2)
فالمعنى فتحنا لك فتحاً في الدين لتَهْتَدِيَ بِهِ أنت
والمُسْلِمونَ.
* * *
ومعنى (وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
نَصْراً نَصْراً ذا عِزٍّ لا يقع معه ذُلٌّ.
ثم أعلم عن أسباب فتح الدين على نبيه عليه السلام فقال:
* * *
(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ
الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ
عَلِيمًا حَكِيمًا (4)
أي أسْكَنَ قُلوبَهم التعظيم للهِ ولرسوله، والوقار.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا).
تأويله - واللَّه أعلم - أن جميع ما خلق الله في السَّمَاوَات
والأرض جنود
له، لأن ذلك كله يدل على أنه واحد وأنه لا يَقْدِرُ أحدٌ أنْ
يأتِيَ بمثل شيء
واحد مما خلق اللَّه في السَّمَاوَاتِ والْأَرْضِ.
ومن الدليل أيضاً على أن معنى قوله: (إِنَّا فتحنا لك) أي
إنَّا أرشدناك
إلى الإِسلام وفتحنا لك أمر الدينِ
قوله عزَّ وجلَّ: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ
وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ
الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ
السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ
لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6)
كانوا يظنون أن لن يَعودَ الرسول والمؤمِنونَ إلى أهْليهم
أبداً وَزينَ ذلك
في قلوبِهِمْ، فجعل الله دائرة السَّوْءِ عَليْهم.
ومن قرأ " ظَنَّ السُّوءِ " فهو كما ترى أيْضاً.
قال أبو إسحاق: وَلاَ أعْلَمُ أحداً قَرأ بِهَا، وقد قيل أيضاً
إنه قرِئ بِهِ.
وزعم الخليل وسيبويه أن معنى السوء هِهنا الفساد.
والمعنى: الظانين باللَّهِ ظَنَّ الفَسَادِ، وهو ما ظَنُّوا أن
الرسول عليه السلام ومن معه لا يَرْجِعونَ.
(5/20)
لِتُؤْمِنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ
وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)
قال اللَّه تعالى: (عَلَيْهِمْ دَائِرَة
السَّوْءِ) أي الفساد والهلاك يقع بهم
(وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ
جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا).
* * *
(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ
عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
تفسيره مثل الأول.
(وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) عَالِياً حَكيماً فِيما
دَبَّرَهُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا
وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8)
أي شاهداً على أمتِك يوم القيامة.
وهذه حال مُقَدَّرَة أي مبشَراً بالجنة من عمل خَيْراً
ومنْذِراً مَنْ عَمِل
شرَّا بالنَّارِ.
* * *
(لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ
وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9)
الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - وخطاب للنَاس وَلأمَّتِه.
والمعنى يَدُل على ذلك.
ويجوز (لِيُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ). وقَدْ قرِئ بهمَا
جميعاً.
وجائز أن يكون (لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) خِطَاباً
للمومِنينَ وللنَّبي جَميعاً.
لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد آمن بالله وبآياته
وكتُبه ورسلِه.
وقوله (شاهداً) حال مقدرة، أي يكون يوم القِيَامَةِ، والبشارة
والِإنذار
حال يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - ملابساً لها في الدنيا
لمن شاهده فيها من أمَّتِه، وحال مُقدرة لمن يأتي بعده من
أمَّتِه إلى يوم القيامَةِ مِمنْ لم يشاهده.
يَعْنِي بقوله مُقدَّرة أن الحال عنده في وقت الِإخإر عَلَى
ضَرَبَيْن.
حال ملَابسة يَكونُ المُخْبِر ملَابِساً لها في حين إِخْبارِه.
وَحَالٌ مُقَدَّرَةٌ لأن تلابَسَ فى ثانٍ مِنَ الزَمَانِ.
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ).
معنى (تُعَزِّرُوهُ) تنصروه، يقال: عَزَّرْته أُعَزِّرهُ، أي
نصرته مَرةً بعْدُ مرةٍ.
وجاء في التفسير لتنصروه بالسيْفِ ويجوز وَلِتَعْزروه، يقال:
عَزَرْتُه أعْزرُه عَزْراً، وعَزَّرْته أُعَزِّرهُ عَزْراً
وتعْزِيراً. ونصرة النبي - صلى الله عليه وسلم - هي نُصْرَة
الله عَزَّ وجلَّ.
(وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا).
(5/21)
سَيَقُولُ لَكَ
الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا
وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ
مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ
اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ
بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا
(11)
فهذه الهاءُ تَرْجِع عَلَى اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ.
ومعنى يُسبحون اللَّه، أي يُصلُّون له. والتسبِيح في اللًغَةِ
تعظِيم الله وتنزيهه عن السوءِ.
* * *
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ
اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ
فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا
عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
أي أخذكَ عَلَيْهم البَيْعَةَ عَقْدٌ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ
عَلَيْهم.
ومعنى (يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)
يحتمل ثلاثة أوجُهٍ:
منها وَجْهَانِ جاءا في التفسير، أحدُهما يَدُ اللَّه في
الوَفَاء فَوْقَ أيْدِيهم.
وجاء أيْضاً يد اللَّه في الثواب فوق أيْدِيهم.
والتفسير - واللَّه أعلم - يد الله في المِنَّةِ عَلَيْهِمْ في
الهِدَايَةِ فوق أيْدِيهِمْ في الطاعة.
وقوله: (فَمَنْ نَكَثَ فَإنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ).
والنكث في اللغةِ نقضُ مَا تَعْقِده، وما تُصْلِحه.
وجاء في التفسير: ثلاثة أشياء تَرجِعُ عَلى أهلِهَا.
أحدُهَا النكث. والبغي والمكر.
قال اللَّه - عزَّ وجلَّ - (إِنَّما بَغْيُكُم عَلَى
أنْفُسِكم).
والمكْرُ قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ
السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ)
وقوله: (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ
وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ
أَجْرًا عَظِيمًا).
(فَسَنُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)
ويقرأ (فَسَيُؤتيه أجْراً عظيماً).
ويقرأ عَلَيْهِ اللَّه، وعَلَيهُ اللَّهَ.
وقد فسرنا مثل هذا فيما سلف.
* * *
(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ
شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا
يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ
فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ
بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ
بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11)
(فَاسْتَغْفِرْ لَنَا) بإظهار الراء عند اللَامِ، وقد رُوِيت
عَنْ أبِي عَمْروٍ فاستغفِلَّنَا بالإدغام، وكذلك في قوله
يَغْفِلَّكًمْ.
ولا يُجيزُ سيبويه والخليل إدغام الراء في اللام.
ولا يحكون هذه اللغة عن أحدٍ من العرب -، ويذكرون أن إدغام
الراء
(5/22)
سَيَقُولُ
الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ
لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ
يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا
كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ
تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا
(15)
في اللام غير جائز لأن الراء عندهم حرفٌ
مَكرر، فإذا أدغم في اللام بطل هذا الإشباع الذي فيه.
وأعلم الله عزَّ وجلَّ أن هؤلاء منافقون فقال:
(يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ).
وأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنهم تخلفوا عن الخروج مع النبي -
صلى الله عليه وسلم - بظنِهم ظن السَّوءِ، فأطلع الله نبيه على
ذلك، قال اللَّه عزَّ وجلَّ: (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ
يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ
أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ
السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12)
أي هالكين عند اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - فاسِدين في عِلْمِه.
وقوله عزَّ وجلَّ: (شَغلَتْنَا أمْوَالُنَا).
أي ليس لنا من يَقوم بها.
(وأهْلُونَا).
أي وشغلتنا أهلونا، ليس لنا من يخلفنا فيهم، ويجوز وأهلُنَا،
ولكن
القراءة المشهورة بالواو، فمن قال وَأهلُونا فهو جمع أهل
وأهلون، ومن قال
وأهلنا فهو يتضمَّن الجماعة كُلها.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا
انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا
نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ
قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ
فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا
يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
يعنى بقوله: (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ) -
قوله عزَّ وجلَّ:
(5/23)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ
مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ
شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا
يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا
تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
(16)
(فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا
وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا).
فأرادُوا أن يأتوا بما ينقض هذا. فأعلم الله عزَّ وجلَّ أنهم
لا يعقلون، ولا يقدرون على ذلك فقال: (قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا
كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ).
ولو كان الكلام نهياً لقال: قل لا تَتَبِعُونا.
وقرئت: " يُرِيدُونَ أنْ يُبَدِّلُوا كَلِمَ اللَّهِ).
فالْكَلِمُ جمع كلمة، والكلام في موضع التَّكلِيم.
* * *
وقوله: (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ
إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ
يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا
حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ
يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)
وقد قرئت (أو يُسْلِموا)، فالمعنى تقاتلونَهُمْ حتى يسلموا.
وإِلَّا أن يسلموا.
فإن قال قائِلٌ: قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهم:
(لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ
عَدُوًّا)
فكيف جاز أن يقول: (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ
شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ).
فإنما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك لأن اللَّه أعلمه
أنَّهُمْ منافقون، وأعلمه مع ذلك أنهم لا يُقَاتِلُونَ معَه.
وجاء في التفسير أنه عنِيَ بقوله: (سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ
أُولِي بَأْسٍ) بنو
حنيفة، وأبو بكر رحمه اللَّه، قاتلهم في أيام مسيلمة.
وجاءً أيضاً هوازِن.
والمعنى أن كل من ظَاهِره الِإسلام فعلى أصحاب النبي - صلى
الله عليه وسلم - أن يدعوهم إلى الجهاد.
والصحابة لم يطْلَعُوا في وقت الجهاد على من يُقَاتِل ومن لا
يُقَاتِل.
ولا على من ينافق ومن لا ينافق، لأن الإظهار على ذلك من آيات
الأنبياء
عليهم السلام.
وقد قيل: (إِلَى قَوْمٍ أوليَ بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي، إلى فارس
والروم، وذلك
في أيام أبي بكر وعمَر رحمة اللَّه عليهما وَمَنْ بَعْدَهم.
(5/24)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ
مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ
وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)
(فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ
أَجْرًا حَسَنًا).
أي إن تبْتًم وتَركْتُم النِّفَاقَ وجَاهَدْتم. يُؤْتِكُمُ
اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا.
(وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ
يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).
[وإن تولَّيتم فأقمتم على نفاقكم، وأعرضتم عن الإِيمان والجهاد
كما تولَّيتم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يعذِّبكم
عذاباً أليماً] (1).
ثم أعلم عزَّ وجلَّ بخبر من أخلص نيَّتَهُ فقال:
* * *
(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ
يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي
قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ
فَتْحًا قَرِيبًا (18)
أي علم أنهم مًخْلِصون.
وجاء في التفسير أن الذين بايعوا تحت الشجرة كانوا ألفاً
وأرْبَعَمائة.
وقيل ألفاً وخمسمائة، وقيل ألفاً وثَلاثَمائةٍ وكانوا
بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم - على أن لا يوَلوُّا في
القتال وَلَا يَهْرَبُوا، وسُمِّيَتْ بيْعةَ الرضوانِ لقوله
تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ
يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ)
وكانت الشجرةُ سَمُرَةً.
(فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا
قَرِيبًا).
قيل إنه فتح خَيْبَر.
* * *
(وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ
عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ
كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ
أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ
وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20)
وهذا التكرير تكرير في الوَعْدِ، أي فعجَّلَ هذه يَعْني
خَيْبَر.
(وَكَص ايْدِيَ النَّاسِ عَنْكًمْ وَلتَكًونَ آيةً
للمؤمِنِينَ).
__________
(1) النصُّ مضطرب في الكتاب المطبوع، وتمَّ ضبطه من زاد المسير
فيما حكاه عن الزَّجَّاج. اهـ (زاد المسير. 7/ 432).
(5/25)
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ
أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ
مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ
اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
أي كف أيديَ الناس عَنْكمْ لَمَّا خرجوا
وخلفوا عِيَالَهمْ بالمدينة حَفِظَ اللَّه
عِيَالَهمْ وَبَيْضَتَهمْ، وَقَد همَّت اليَهودُ بِهِمْ
فَمَنَعهَم اللَّه ذَلِكَ.
* * *
(وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ
بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21)
المعنى وعدكم اللَّه مغانم أخرى (قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا)،
قد علمها اللَّه.
وهو مَا يَغْنَم المُسْلِموَن إِلَى أنْ لاَ يُقَاتِلَهمْ
أحدٌ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا
نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ
قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)
المعنى لو قاتلك من لم يقاتلك لَنصِرْتَ عَلَيْهم، لأن سنة
الله النَصْر
لأوليائه وحِزْبه.
(سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ
تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)
و (سُنَّةَ اللَّهِ) منصوبة على المصْدَرِ، لأن قوله
(لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ) مَعناه سنَّ
اللَّهُ خِذْلَانَهُمْ سُنَّةً، وقد مر مثل هذا في قوله:
(كِتَابَ اللَّهِ عَليهمْ).
وفي قوله: (صُنْعَ اللَّهِ)، ولو قرئت " سُنَّةُ اللَّهِ
الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ " لكان
جيِّداً في العربيةِ.
المعنى تلك سنة اللَّه التي قد خَلَتْ مِنْ قَبْلُ، ولكن لا
أعلم
أحداً قرأ بها فلا تقرأنَّ بها.
* * *
(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ
عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ
عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
(مَكَة) لا تَنْصَرِفُ لأنَّها مؤنثَةٌ وهي مَعْرِفَة.
وقوله: (مِنْ بَعْدِ أن أظْفَرَكمْ عَلَيْهِمْ).
جاء في التًفْسِيرِ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أُتِيَ باثنتيْ عشر رَجُلًا أُخِذوا بلا عهد
(5/26)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ
كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ
الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى
رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ
التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ
اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
ولا عقد فخلاهم النبي - صلى الله عليه وسلم
- ومَنَّ عَلَيْهمْ، وكان عاقبة ذلك أن سلِمَ للرجل مَنْ
بَينَهُ وبينه قَرابةٌ وَمَن هُوَ مؤمِن أن يُصَابَ
قال الله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ
وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ
فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ
اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا
لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا
(25)
وموضع " أن " رفع بدل مِنْ (رِجَالٌ)، المعنى لولا أنْ تطأوا
رجالاً مُؤْمِنينَ
ونساءً مؤمِنَاتٍ.
ثم قال: (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا
مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).
أي لو تَميَّزَ الكافِرُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ لأنزلنا
بالكافرين ما يكون عَذَاباً لَهُمْ
فى الدنيَا.
وَمَعْنَى: (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ).
قيل: لولا أن يقتلوا منهم قوماً مؤمنين خطأً فَتَلزَمُكُم
الديَاتُ
والمعنى - واللَّه أعلم - لولا كراهة أنْ يَلحقكُمْ عَنتٌ بأن
قتلتم من هو على دينكم إذ أنتم مختلِطُونَ بهم لعَذَبنا الذين
كفروا مِنهُمْ عذاباً أليماً.
* * *
وقوله: (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ
مَحِلَّهُ).
(الهَدْيَ) مَنْصُوبٌ سبق على الكاف والميم، المعنى وصَدُوا
الهَدْيَ.
و (مَعكوفاً) مَحْبُوساً أنْ يبْلُغَ مَحِلًهُ.
(وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ) كما وَصَفْنَا لنَصَرْنَاكُمُ
عَلَيْهم، ولكن الذي مَنَع عن
ذلك كراهةُ وَطْءِ المؤمنين بالمكرُوه والقَتْلِ.
وموضع (أَنْ يبلُغَ مَحِلَّه) منصوب عَلَى مَعْنى وصدوا
الهَدْيَ محبوساً عن أنْ يبلُغَ مَحِلَّهُ.
* * *
وقوله - عَزَّ وَجَلً - (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى
رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ
التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ
اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
أَنْزَلَ اللَّه عَلَيْهِم الوقار والهيبة.
(وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى).
(5/27)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ
رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ
مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ
وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ
فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ
الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ
الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ
مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
جا في التفسير أن شعارَهم لا إله إِلا
الله، وكلمة التقوَى توْحِيد اللهِ
والإِيمان برسوله عليه السلام.
(وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا).
أي كانوا أحق بها من غيرهم، لأنَّ اللَّهَ - جلَّ وعزَّ -
اختارَ لنبيه - صلى الله عليه وسلم - ولدينه أهلَ الخَيْرِ
ومُسْتَحِقيه، ومن هو أولى بالهِدَايَة مِنْ غيره.
* * *
وقوله: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا
بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا
تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ
ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
رأى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في منامه كأنَّهُ
وأصْحابَهُ - رحمهم اللَّه - يدخلون مكَة محلِّقِين
ومُقَصِّرِين، فَصَدَق اللَّهُ رسوله الرؤيا فدخلوا على ما
رأى.
وكانوا قد استبطأوا الدخُولَ.
ومعنى (إنْ شَاءَ اللَّهُ) يخرج على وَجْهَيْن:
أحدهما إِن أمركم اللهُ به.
ويجوز وهو حسن أن يكون " إن شَاءَ اللَّهُ " - جرى على ما أمر
الله به في
كل ما يُفعَلُ مُتَوَقعاً، فقال: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ
إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ
مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ
تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ
وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ
السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ
فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ
فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ
لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً
وَأَجْرًا عَظِيمًا
(29)
وَصَفَهُم اللَهُ بِأن بعضَهُمْ مَتَحَنِّنٌ على بَعْضِ، وأن
عَليْهمِ السكينةَ
والوقَارَ، وبعضهم يخلص المودةَ لبَعْضٍ، وهم أشِداءُ عَلَى
الكُفَارِ.
أشداء جمع شديدٍ، والأصل أشدِدَاء، نحو نصيب وأنْصِبَاء، ولكن
الدالَيْنِ تَحَركَتَا فأدْغِمتِ الأولى في الثانية، ومثل هذا
قوله: (مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي
اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ).
(5/28)
وقوله: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ
أَثَرِ السُّجُودِ).
أي في وجوههم عَلَامَة السجودِ، وهي علامة الخاشِعين لِلَّهِ
المصَلِّين.
وقيل يبعثون يَوْمَ القِيَامَةِ غرًّا مُحجَّلينَ من أثر
الطُهُورِ، وهذا يجعله اللَّه لَهُمْ يَوْمَ القيامَةِ عَلامَة
وهي السيماء يُبَين بها فَضْلَهمْ عَلَى غَيْرِهِمْ.
وقوله: (ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي
الْإِنْجِيلِ).
أي ذلك صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه في
التَورَاةَ، ثم أعلم أنَّ صفَتَهم في الِإنجيل أيضاً.
(كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ
فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ).
معنى (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) أخرج نباته
(فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ)، أي فَآزَرَ الصغارُ الكبارَ حتى
استوى بعضه مع بعْض
(عَلَى سُوقِهِ) جمع ساقِ.
وقوله: (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ).
(الزُّرَّاعَ) محمد عليه السلام والدُّعاة إلى الِإسْلاَمِ وهم
أصحَابًه.
وقوله: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا).
(مِنْهم) فيه قولان:
أن تكون " مِنهم " ههنا تخليصاً للجنس من غيرِه كما
تقول: أنفقْ نَفَقَتَك منَ الدراهِمِ لَا مِنَ الدنَانِيرِ.
المعنى اجعل نفقتك من هذا الجنس، وكما قال: (فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ)، لا يريد أن بعضها - رجس وبعضها
غير رِجْسٍ.
ولكن المعنى اجتنبوا الرجس الذِي هُوَ الأوثانُ.
(5/29)
فالمعنى وعد اللَّه الذين آمنوا وعملوا
الصالحات من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - المؤمنين
أجراً عظيماً وفَضَّلَهُمْ الله على غيرهم لِسَابِقتِهم
وَعَظَّم أجْرَهُمْ.
والوجه الثاني أن يكون المعنى وعد الله الذين أقاموا منهم على
الإيمَانِ
والعمل الصالح مَغْفِرةً وأجراً عظيماً.
(5/30)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ
النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ
بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ
لَا تَشْعُرُونَ (2)
سُورَةُ الْحُجُرَات
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ
يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ
سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
وقد قرئت (لَا تَقَدَّمُوا) بفتح التاء والدال، والمعنى إذا
أمِرْتم بأمْرٍ فلا
تفعلوه قبلَ الوقتِ الذي أمِرْتم أن تفعلوهُ فِيهِ.
وجاء في التفسير أن رجلاً ذبح يوم الأضْحَى قَبْلَ صَلاةِ
الأضْحَى فتقدم
قبل الوقت فاعلم اللَّهُ أن ذلك غير جائز.
ففي هذا دليل أنَّهُ لَا يَجُوزُ أن يؤدى فَرْضٌ قبل وقْتِهِ
وَلَا تطوعٌ قَبْلَ وَقْتِهِ مِمَّا جَاءَت به السُّنَّةُ، وفي
هذا دليل أن تقديم الزكاةِ قبل وقتها لا ينبغي أن يجوز، فأما
ما يروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استسلَفَ من العباس
شيْئاً من الزكاة، فلا أعلم أن أحداً ممن أجاز تقديم الزكاة
احتج إلا بهذا الحديث، وهذا إن صح فهو على ضربين:
أحدهما أن يكون مخصوصاً
والآخر أن يكونَ الحاجة اشتدت فوقع اضطرار إلى استسلاف الزكاة.
والإجماع أن إعطاءها في وقتها هو الحق، وهو الفَضلُ إنْ شَاء
اللَّه.
ومن قرأ: (لَا تَقَدَّمُوا) فمعناه كمعنى (لَا تُقَدِّمُوا)
(1).
* * *
وقوله عزْ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا
تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ
أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {لاَ تُقَدِّمُواْ}: العامَّةُ على ضمِّ التاءِ وفتح
القافِ وتشديدِ الدالِ مكسورةً، وفيها وجهان، أحدُهما: أنَّه
متعدٍّ، وحُذِفَ مفعولُه: إمَّا اقتصاراً كقولهم: هو يعطي
ويمنع، {وَكُلُواْ واشربوا} [البقرة: 187]، وإمَّا اختصاراً
للدلالةِ عليه أي: لا تُقَدِّموا ما لا يَصْلُحُ. والثاني: أنه
لازمٌ نحو: وَجَّه وتَوَجَّه، ويَعْضُدُه قراءةُ ابنِ عباس
والضَّحَّاك «لا تَقَدَّمُوا» بالفتح في الثلاثة، والأصلُ: لا
تَتَقَدَّمُوْا فحذَف إحدى التاءَيْن. وبعضُ المكِّيين «لا
تَّقَدَّمُوْا» كذلك، / إلاَّ أنَّه بتشديد التاء كتاءات
البزي. والمتوصَّلُ إليه بحرفِ الجرِّ في هاتَيْن القراءتَيْن
أيضاً محذوفٌ أي: لا تَتَقَدَّموا إلى أمرٍ من الأمور. وقُرِىء
«لا تُقْدِموا» بضمِّ التاءِ وكسرِ الدالِ مِنْ أَقْدَمَ أي:
لا تُقْدِموا على شيءٍ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/31)
إِنَّ الَّذِينَ
يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ
الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ
مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
أمرهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - بتبجيل نبيِّه
عليه السلام، وَأنْ يَغُضوا أصْوَاتَهُمْ
وأن يخاطبوه بالسكينة والوقار، وأن يفضلوه في المخاطبة، وذلك
مما كانوا
يفعلونه في تعظيم ساداتهم وكبرائهم.
ومَعنى (كَجَهْرِ بَعْضِكُم لِبَعْضٍ) أي لا تنزلوه منزلةَ
بعضكم من بعض.
فتقولوا: يا محمدِ خاطبوه بالنبوة، والسكينة والإِعظام.
وقوله: (أنْ تَحْبَط أعْمَالُكُمْ).
معناه لا تفعلوا ذلك فتحبط أعمالكم.
والمعنى لئلا تحبط أعمالكم
فالمعنى معنى اللام في أن. وهذه اللام لام الصيرورة وهي كاللام
في قوله:
(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا
وَحَزَنًا) والمعنى فالتقطه آل فرعَوْنَ
ليصير أمرهم إلى ذلك، لَا أنَّهمْ قصدوا أن يصير إلى ذلك.
ولكنه في المقدار
فيما سبق من علم الله أن سبب الصير التقاطهم إياه، وكذلك لا
ترْفَعُوا
أصواتكم فيكون ذلك سبباً لأن تحبط أعمالكم.
(وَأنْتُمْ لَا تَشْعُرونَ).
هذا إعلامٌ أن أمرَ النَبِى - صلى الله عليه وسلم - ينبغي أن
يُجَلَّ وُيعَظَّمَ غايَة الِإجْلَالِ.
وأنه قد يُفعل الشيءُ مما لا يَشْعَرُ به من أمر النبي - صلى
الله عليه وسلم - فيكون ذلك مُهلكاً لِفَاعِلِه أو لِقَائِله.
ولذلك قال بعض الفقهاء: من قال إدْ زِرَّ رسول اللَّه - صلى
الله عليه وسلم - وسخ يريد به - النقصَ منه وجب قتْلُه.
هذا مذهبُ مالِكٍ وأصْحَابه.
* * *
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ
قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ
(3)
(امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ)
أخلَصَ قلُوبَهمْ.
وَ " هُمْ " يخرج على تفسير حقيقة اللغة، والمعنى
__________
(5/32)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ
فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
اختبر اللَّه قُلُوبَهم فَوَجَدَهُمْ
مُخْلِصِين - كما تقول: قد امتحنت هذا الذهب
وهذه الفضة. تأويله قد اختبرْتُهُمَا بأن أذَبْتُهَمَا حتى
خلصت الذهَب والْفضة
فَعَلِمْتُ حَقِيقَةَ كل واحد منهما.
* * *
وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ
الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)
يقرأ بضم الحاء والجيم، والحُجَرَاتَ بِفَتْح الجيم، ويجوز في
اللغة
الحُجْرات. بتسكين الجيم - ولا أعلم أحَداً قَرأ بالتَسْكِينِ
وَقَدْ فَسًرْنَا هذا
الجمع فيما تقدم من الكتاب.
وواحد الحجرات حُجْرَةٌ. ويجوز أن تكون الحُجراتُ جمع حُجَرٍ
وحُجرات، والأجود أن تكون الحُجُرَات جمع حُجرة، وأن الفتح جاز
بدلاً من الصفةِ لثقل الضمَتَيْن.
وهؤلاء قوم جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من بني
تميم فَنَادَوْه من وراء الحجرات.
ولهم في التفسير حديث فيه طول، وجملته أنهم جاءوا يفاخرون
النبي وأنَّهمْ لم يلقَوْه بما يجب له عليه السلام.
* * *
قال: (وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ
لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
أي - من تاب بعد هذا الفِعْل فاللَّه غفور رحيم.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ
جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا
قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ
نَادِمِينَ (6)
ويقرأ فتثَبَّتُوا أَنْ تُصِيبُوا.
(قَوْماً بجَهَالةٍ).
جاء في التفسير أنها نزلت بسبب الوليد بن عقبة.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَهُ ساعِياً يجْبي
صدقات بني المصطلق، وكان بينه وبينهم أحْنَة أي عداوة،
(5/33)
وَاعْلَمُوا أَنَّ
فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ
الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ
الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ
الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ
الرَّاشِدُونَ (7)
فلما اتصَلَ بهم خَبَرُه وقد خرج نحوهم قال
بعضهم لبعْضٍ: قد علمتم ما بيننا
وبين هذا الرجل، فامْنعوه صَدَقَاتِكًمْ، فاتصل به ذلك فرجع
إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره أنهم مَنَعوه الصدقة
وأنهم ارْتدُّوا، وأعَدُّوا السِّلَاحَ للحَرْبِ، فوجه رسول
اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بخالد بن الوليد ومعه جيش،
وتقدم إِليْه أن ينزل بعقوتهم ليلاً، فإن
رأى ما يدل على إقامتهم على الإسلام من الأذان والصلاة
والتَّهجد أمسك عن محاربتهم، وطالبهم بصَدَقَاتِهِمْ فلما صار
خَالِدٌ إليهم ليلاً سَمِعَ النداء
بِالصلَاة، ورآهم يُصَلُّونَ ويتهجَّدونَ، وقالوا له: قد
استبطأنا رسالة رسول
اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في الصدَقَاتِ، وسلموها إليه،
فأنزل اللَّه - عزَّ وجلَّ - (إِنْ جَاءَكًمْ فَاسِق بِنَبَأٍ)
أي بخَبرٍ (فَتَبَينوا أنْ تصِيبًوا قَوْمَاً بِجَهَالَةٍ)
أي كراهة أن تصِيبوا قوماً بِجَهَالَةٍ
وهذا دليل أنه لا يجوز أن يقبل خبر من فاسق [إلا أن] (1)
يتَبَيَّن وأَنَ الثقة يجوز قبول خبرِه.
والثقةً من لم تجرب عليه شهادَةً زورٍ وَلَا يُعْرَف بفِسْقٍ
وَلَا جُلِدَ في حَدٍّ، وهو مع ذلك صحيح التمييز.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ
لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ
وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ
فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ
وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)
أي لو أطاع مثل هذا المخبر الذي أخبره بما لا أصل له لوقعتم في
عَنَتٍ، والعَنَتُ الفساد والهَلاَكُ.
(وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ). .
هذا يعنى به المؤمنون المخلصون.
(وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ).
ويحتمل (فِي قُلُوبِكُمْ) وجهين:
أحدهما أنه دلهم عليه بالحجج القاطعة البينة، والآيات التي أتى
بها النبي - صلى الله عليه وسلم - المعجزةِ.
والثاني أنه زَيَّنَهُ في قلوبهم بتوفيقه إياهم.
__________
(1) زيادة ضرورية.
(5/34)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا
الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ
فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
(وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ
وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ).
وذلك أيضاً تبْيينه ما عليهم في الكفر وتوفيقه إياهم إن
اجْتَنَبوه.
وقوله: (أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ).
أي هؤلاء الذين وفقهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - بتحبيب الِإيمان
إليهم وتكريه
الكفر أولئك هم الراشدون.
* * *
(فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
(8)
منصوب مفعول له - المعنى فعل الله ذلك بكم فضلاً من اللَّه
ونعمةً أي
للفضل والنعْمةِ، ولو كان في غير القرآن لجاز (فَضْلٌ من
اللَّه ونعمةٌ).
المعنى ذلك فضل من الله ونعمة.
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ
بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي
تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ
اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
والباغية التي تعدل عن الحق وما عليه أئمة المسْلِمين
وَجَمَاعَتُهُمْ.
(حَتَى تَفِيءَ إِلى أمْرِ اللَّهِ).
حتى ترجع إلى أمر اللَّه.
(فَإِنْ فَاءَت): فإن رَجَدَتْ.
(فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا).
أي وأعْدِلُوا.
(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)
وهذه - قيل - نزلتْ بسبب جَمْعَيْن من الأنْصَارِ كان بينهم
قِتَال ولم يكن
ذلك بسيوف ولا أسْلحة، جاء في التفسير أنه كان بينهم قِتال
بالأيدي والنَعَال وَتَرَامٍ بِالحِجَارةِ.
(5/35)
يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ
بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ
أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
(10)
ويقرأ بين إخْوَانكم، وبين إخْوَاتِكُمْ وبين إخْوَتكم.
فأعلم اللَّه - عزَ وجل - أن الذينَ يجمعهم وأنهم إِخوَة إذا
كانوا متفقين في دينهم فرجعوا في الاتفاق في الدين إلى أصل
النسَبِ، لأنهم لآدَم وحَواء، ولو اختلفت أدْيَانُهم لافترقوا
في النسَبِ، وإن كان في الأصل أنهم لأب وأم.
ألَا ترى أنه لا يرث الولدُ المؤمن الأب الكافِرَ ولا الحمِيمُ
المؤمِنُ نسيبه الكافِر.
* * *
وقوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ
مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا
نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ
وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا
بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ
وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
عسى أن يكون المسخور منه خيراً من الساخرين، وكذلك عسى أن
يكون النساء المسخور منهن خيراً من النساء الساخرات، فنهى
اللَّه
- عزَّ وجلَّ - أن يسخر المؤمنون من المؤمنين، والمؤمنات من
المؤمنات.
(وَلَا تَلْمِزُوا أنْفُسَكُمْ).
واللمز والهمز العيب والعض من الِإنسان. فأعلمَ اللَّهُ أن عيب
بعضهم
بعضاً لازم لهم، يلزَمُ العائِبَ عيبُ المعيب.
(وَلَا تَنَابَزُوا بِالْألْقَابِ) والنبز واللقب في معنىً
وَاحِدٍ، لا يقول المسلم
لمن كان يَهودياً أو نصرانياً فأسلم لقباً يعيره فيه بأنه كان
نصرانياً أو يهودياً.
(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ)، أي بئس
الاسم أن يقول له: يا
يهودي ويا نصراني وقد آمن، ويحتمل أن يكون في كل لقبٍ يكرهه
الِإنسان، لأنه إنما يجب أن يخاطب المؤمن أخاه بأحب الأسماء
إليه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ
إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا
فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ
رَحِيمٌ (12)
أمر اللَّه عزَّ وجل باجتناب كثير مِنَ الظن، وهو أن تظن بأهل
الخير سوءاً
(5/36)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
إذا كنا نعلم أن الذي ظهر منه خير، فأمَّا
أهل السوء والفسق فلنا أن نظن بهم مِثْلَ الذي ظهر منهم.
وقوله: (ولا يَغْتَبْ بَعْضُكُم بَعْضاً)، والغيبة أن يُذْكَرَ
الإنسان من خلفه
بسوء وإن كان فيه السوء
وأما ذكره بما ليس فيه فذلِكَ البهْتُ والبُهْتَانُ - كذلك
جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ -: (أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ
مَيْتًا).
ويجوز (مَيِّتاً) وتأويله أن ذكرك بِسوءٍ من لم يَحْضر لك
بمنزلة أكل لحمه
وهو مَيِّت لَا يُحِسُّ هُوَ بذلك، وكذلك تقول للمغتاب فلان
يأكل لحوم الناس.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَكَرِهْتُمُوهُ).
ويُقرأ " فَكُرِّهْتُمُوهُ " - فتأويله كما تكرهون أكل لحمه
مَيتاً كذلك تجنبوا
ذكره بالسوء غائباً.
* * *
وقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ
ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
خلقناكم من آدم وحواء، وكلكم بنو أبٍ وَاحِدٍ وَأُمٍّ وَاحِدَة
إِلَيْهما
تَرْجِعُونَ.
(وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا).
والشعب أعظم من القبيلة.
أي لم يجعلكم شعوباً وقبائل لتفاخروا وإنما جعلناكم كذلك
لتتعارَفُوا، ثم أعلمهم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أن أرفعهم
عِنْدَهُ مَنْزِلَةً
أتْقَاهُمْ فقال:
(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ).
ولو قرئتِ " أَنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ "
جاز ذلك على معنى وجَعَلْناكم
(5/37)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ
آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا
وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ
تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ
أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
شعوباً ليعرف بعضكم بعضاً أنَّ أكرمكم عند
اللَّه أتقاكم (1).
* * *
وقوله - عزَّ وجلَّ - (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ
تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ
الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ
وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
وهذا موضع يحتاج الناس إلى تفهمه، وأين ينفصل المؤمن من
المسلم. وأين يستويان.
والِإسلام إظهار الخضوع والقبول لما أتى به النبي - صلى الله
عليه وسلم -، وبذلك يحقن الدَّمُ.
فإن كان مع ذلك الِإظهار اعتقاد وتصديق بالقلب فذلك الِإيمان
الذي مَنْ
هُوَ صفته فهو مؤمن مُسْلِم، وهو المؤمن باللَّه ورسوله غَيْرَ
مرتابٍ ولا شَاكٍّ.
وهو الذي يرى أن أداء الفرائض واجب عليه، وأن الجهاد بنفسه
وماله واجب عليه لا يدخلُه في ذلكَ رَيبٌ، فهو المؤمِنَ وهو
المُسْلِمُ حقاً، كما قال
عز وجلَّ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا
بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ
هُمُ الصَّادِقُونَ (15).
أي إذا قالوا إنا مؤمنون فهم الصادقون، فأما من أظهر قبول
الشريعة
واستسلم لدفع المكروه فهو في الظاهر مسلم، وباطنه غير مُصَدق،
فذلك
الذي يقول أسلمتُ لأن الِإيمانَ لا بد من أن يكون صاحبه
صديقاً، لأنَّ قولك
آمَنْتُ بكذا وكذا معناه صدقت به، فأخرج اللَّه هؤلاء من
الِإيمان فقال: (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي
قُلُوبِكُمْ).
أي لم تصدقوا إنما أسلمتم تعوذاً من القتل، فالمؤمن مُبْطِنٌ
من
التصديق مثل ما يظهر، والمسلم التام الِإسلام وهو مظهر الطاعة
مع ذلك
مؤمن بها، والمسلم الذي أظهر الِإسلام تعوذاً غير مؤَمن في
الحقيقة، إلا أن
حكمه في الظاهر حكم المسلمين.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ}: الشُّعوب: جمع
شَعْب وهو أعلى طبقاتِ الأنسابِ، وذلك أن طبقاتِ النَّسَبِ
التي عليها العربُ ستٌّ: الشَّعْبُ والقبيلة والعِمارة
والبَطْنُ والفَخِذُ والفَصيلةُ، وكلُّ واحدٍ يَدْخُل فيما
قبله، فالفصيلةُ تَدْخُلُ في الفَخِذ، والفَخِذُ في البطن.
وزاد بعضُ الناسِ بعد الفَخِذ العشيرة، فجعلها سبعاً وسُمِّيَ
الشَّعبُ شعباً لتشَعُّبِ القبائلِ منه، والقبائل سُمِّيَتْ
بذلك لتقابُلها، شُبِّهَتْ بقبائلِ الرأسِ وهي قطعٌ متقابلةٌ.
وقيل: الشُّعوب في العجم، والقبائل في العرب، والأسباطُ في بني
إسرائيل. وقيل: الشعبُ النَسبُ الأبعدُ، والقبيلةُ الأقربُ.
وأنشد:
4086 قبائلُ مِنْ شُعوبٍ ليس فيهِمْ. . . كريمٌ قد يُعَدُّ ولا
نَجيبُ
والنسَبُ إلى الشَّعْب «شَعوبيَّة» بفتح الشين، وهم جيلٌ
يَبْغَضون العربَ.
قوله: {لتعارفوا} العامَّةُ على تخفيفِ التاء، والأصلُ:
لتتعارفوا فحذفَ إحدى التاءَيْن. والبزيُّ بتشديدِها. وقد
تقدَّم ذلك في البقرة. واللام متعلقةٌ بجَعَلْناكم. وقرأ
الأعمش بتاءَيْن وهو الأصلُ الذي أدغمه البزيُّ وحَذَفَ منه
الجمهورُ. وابن عباس: «لِتَعْرِفُوا» مضارعَ عَرَفَ.
والعامَّةُ على كسرِ «إنَّ أكْرَمَكم». وابن عباس على فتحها:
فإنْ جَعَلْتَ اللامَ لامَ الأمرِ وفيه بُعْدٌ اتَّضَحَ أَن
يكونَ قولُه: «أنَّ أَكْرَمَكم» بالفتح مفعولَ العِرْفان،
أَمَرَهم أَنْ يَعْرِفوا ذلك، وإنْ جَعَلْتَها للعلة لم يظهرْ
أَنْ يكونَ مفعولاً؛ لأنه لم يَجْعَلْهم شعوباً وقبائلَ
ليعرِفوا ذلك، فينبغي أن يُجْعَلَ المفعولُ محذوفاً واللامُ
للعلة أي: لِتَعْرِفوا الحقَّ؛ لأنَّ أكرمَكم.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/38)
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ
أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ
بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ
إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)
وقوله تعالى: (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ
أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ
اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17)
قيل إن هذه نزلت في المنافقين. فاعلموا أنكم إنْ كنتم صادقين
فإنكم
قد أسلمتم فلله المنُّ عَلَيْكمْ لِإخراجه إياكم من الضلالة
إلى الهدى.
وقد قيل: إنها نزلت في غير المنافقين، في قوم من المسلمين
قالوا آمنا
وهاجرنا وفعلنا وصنعنا فمنوا على رسول الله بذلك.
والأشبه - واللَّه أعلم - أن يكون في قوم من المنافقين.
وقوله - عزَّ وجلَّ - (وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا).
(لَا يَألِتْكُم)
ويُقرأ (لَا يَلْتِكمْ)، فمن قرأ (يَألِتْكُم) فدليله
(وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ)
ومعناه وما نقصناهم، وكذلك (لا يَألِتْكُم) لاينقصكم.
ومن قرأ (لَا يَلِتْكمْ) فهو من لات يليت، يقال: لَاتَه
يَلِيتُهُ. وَألَاتَهُ يُليتُه إذا نقصه أيضاً، والمعنى فيهما
واحد. أعني (يَألِتْكُم) و (يَلِتْكمْ).
والقراءة (لَاَ يَلِتْكمْ) أكثر، والأخرى أعني (يَألِتْكُم)
جيدة بالغة، ودليلها في القرآن على ما وصفنا.
(5/39)
|