معاني القرآن
وإعرابه للزجاج فَأَمَّا ثَمُودُ
فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)
سُورَةُ الحَاقَّة
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله تعالى: (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)
الأوَّلَةُ: مرفوع بالابتداء، و " ما " رفع بالابتداء أَيْضاً.
و (الْحَاقَّةُ) الثانية خبر " ما " والعائد على " ما "
(الْحَاقَّةُ) الثانيةُ.
على تقدير ما هي، والمعنى تفخيم شأنها، واللفظ لفظ استفهام كما
تقول: زيد ما هو، على تأويل التعظيم لشأنه في مَدْح كان أَوْ
ذَمٍّ.
والحاقَةُ: السَّاعَةُ والقِيامة وسميت (الْحَاقَّةُ) لأنها
تحق كل
شيء يعمله إنسان من خير أو شر.
وكذلك (وَمَا أدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ).
معناهُ أَي شيء أعلمك ما الحاقة.
و" ما " موضعها رفع، وأن كان بعد أدراك
لأن ما كان في لفظ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله.
المعنى ما أعلمك أي شيء الحاقةُ.
ثم ذكر اللَّه - عزَّ وجلَّ - من كذبَ بالحاقةِ والساعة وأمر
البعث
والقِيَامَةِ وما نزل بِهِمْ وَعْظاً لأمَّة محمد - صلى الله
عليه وسلم - فقال:
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4)
أي بالقيامة.
* * *
(فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)
ومعنى (بِالطَّاغِيَةِ) عند أهل اللغة بطغيانِهِمْ، وفاعِلَة
قد يأتي يمعنى
المصادِر نحو عافية وعاقبة.
والذي يدل عليه معنى الآية. - واللَّه أعلم - أنهم أهلكوا
بالرجفة الطاغية، كما قال:
(5/213)
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ
وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9)
(وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ
صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6)
يقال للشيء العظيم عاتٍ وعاتية، وكذلك أهلكوا بالطاغية، ودليل
الوصف بالطغيان في الشيء العظيم قوله عزَّ وجلَّ:
(إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي
الْجَارِيَةِ).
فوصف الماء بالطغيان لمجاوزته القَدْرَ في الكَثْرةِ، وكذلك
أهلكوا
بالطاغية، واللَّه أعلم.
وقوله: (بِرِيح صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ)
أي بريح شديدة البرد جدًّا، والصَّرْصَرُ شدة البردِ، وصَرْصَر
متكرر فيها البرد، كما تقول قد قلقلت الشيء، وأقْلَلْتُ الشيء
إذا رَفَعته من مكانه، إلا أن قلقلته رَدَدْتُه أي كررْتُ
رفعه، وأَقْلَلْتُه رفعته. فليس فيه دليل تَكْرِيرٍ، وكذلك
صَرْصَرَ وَصَر وصَلْصَلَ، وَصَل.
إذا سمعت صوت الصرير غير مُكَرر قلت قد صَر وَصَل، فإذا أردت
أن الصوت تكرر قلت: قد صَلْصَلَ، وصَرْصَرَ.
* * *
وقوله تعالى: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ
وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا
صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7)
معنى (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ) أقامها عليهم كما شاء، ومعنى
(حُسُوماً) دَائمَةً.
وقالوا مُتَابِعةً، فأمَّا ما توجبه اللغة فعلى معنى
تَحْسِمُهم حُسُوماً.
أَي تُذْهِبُهُمْ وتُفْنِيهِمْ.
وقوله - عزَّ وجلَّ -: (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ
خَاوِيَةٍ).
(أَعْجَازُ نَخْلٍ) أصول نخل، وقيل خاوية للنخل لأن النخل تذكر
وتُؤنثُ.
يقال: هذا نخل حسن، وهذه نخل حَسَنَة، فخاوية على التأنيث.
وقال في موضع آخر: (أعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ).
* * *
وقوله: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ
وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9)
(5/214)
لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ
تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
وقُرِئَتْ وَمَن قِبَلَهُ فمن قال: ومن
قِبَلَهُ فمعناه وتباعُة، ومن قال ومَنْ قَبْلَه
فالمعنى مَنْ تَقَدَّمَهُ.
(وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ).
(وَالْمُؤْتَفِكَاتُ) الذين ائتفكوا بِذُنُوبِهِمْ، أي أهلكوا
بِذُنُوبِهِمْ الَّتي أعظَمُها
الإفكُ، وهو الكذبُ في أمر الله بأنهم كفروا وكذَبوا بالرسل
فلذلك قيل لهم
مؤتفكون، وكذلك الذين ائتفكت بهم الأرض، أي خسِفَ بِهِمْ إنما
معناه
انقلبت بِهِمْ كما يقلب بهم الكذاب الحق إلى البَاطِلِ
ومعنى (بالخاطئة) بالخطأ العظيم، والدليل على أن من عظيم
آثامهم الكذِبُ قوله:
(فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً
(10)
لإأنهم كذبوا رسُلَهُمْ.
(أَخْذَةً رَابِيَةً): معنى (رَابِيَةً) تَزِيد عَلَى
الأحْدَاثِ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ
حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)
معنى طغى الماء طما وارتفع، ومعنى الجارية، أي سفينة نوحٍ عليه
السلام وَاللَّهُ أعلم.
* * *
وقوله: (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ
وَاعِيَةٌ (12)
معناه لنجعل هذه الفعلة لكم تذكرة، أي إغراق قوم نوح ونجاته
والمؤمنين مَعَهُ.
* * *
وقوله: (وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ).
معناه أُذُنٌ تحفظ ما سَمِعَتْ وَتَعْمَل به، أي ليحفظ السامع
ما سمع
ويعمل به.
تقول لكل شيء حفظته في نفسك: قَدْ وَعَيْته، يقال: قَدْ
وَعَيْتُ
(5/215)
وَالْمَلَكُ عَلَى
أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ
ثَمَانِيَةٌ (17)
العِلم وَوَعَيْتُ قُلْتَ، وتقول لما حفظته
في غير نفسك: أَوْعَيتُه، يقال أوعيت
المتاعَ في الوعاء.
* * *
وقوله: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13)
القراءة بالرفع في (نَفْخَةٌ) على ما لم يسم فاعله.
وذكر الأخفش (نفخةً وَاحِدةً) بالنَصْبِ ولم يذكر قرئ بها أم
لا، وهي في العربية جائزة على أن قولك في الصور يقوم مقام ما
لم يسم فاعله، تقول: في الصور نفخاً، ففي الصور على لفظ الجر،
والمعنى نفخ الصور نفخة واحدةً، وهذا على من نصب نفخة واحدة.
ومن رفع فعلى مَعْنَى نُفِخَ نفخة واحدةٌ فِي الصورِ.
فأما تذكير نفخ فلو كان نفخت في الصور نفخة جاز لأنه تأنيثٌ
ليس بِحقيقيٍّ، فتذكيره جَائِز، لأن النفخة والنفخ بمعنًى
وَاحِدٍ.
ومثله (فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ).
المعنى معنى الوعظ.
وقال في موضع آخر: (قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ
رَبِّكُمْ).
* * *
وقوله: (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ
(16)
يقال لكل ما ضعف جدًّا قد وَهَى فهو واهٍ، ويجوز واهية بإمالة
الألف
والواو لكسر الهاء.
* * *
وقوله: (وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ
رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ
(17)
المعنى الملائكة على جَوَانِبَها، ورَجَا كل شيء نَاحِيَتُه،
مقصور، والتثنيةُ
رَجَوان والجمع أَرْجَاءِ.
* * *
(وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ
ثَمَانِيَةٌ).
يروى ثمانية أملاك أرْجُلُهم في تخوم الأرض السابعة والعَرْشُ
فوق
رُؤوسِهِم وَهُمْ مُطْرِقُونَ يُسَبِّحُونَ.
(5/216)
هَلَكَ عَنِّي
سُلْطَانِيَهْ (29)
(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ
بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)
يروى إذا كان يوم القيامةِ عرض الخلق ثلاث عَرَضاتٍ في الاثنين
منها
الاحتجاج والاعتذار والتوبيخ، وفي الثالثةِ تنثر الكتب فيأخذ
الفائز كتابه بيمينه والهالك كتابه بشماله.
و (هَاؤُمُ) أمر للجماعة بِمَنْزِلَةِ هَاكم، تقول للواحد
هَاءَ يَا رَجل وللاثنين
)، وهَا يا رَجُلَانِ، وللثلاثة هَاؤُمُ يا رجال، وللمَرْأَةِ
هاءِ يا امرأَةُ - بكسر الهمزة - وللاثنين هاؤما وللجَمَاعَةِ
النِسَاءِ هَاؤنَّ.
وفي هذه ثلاث لغَات قد ذكرتها في غير كِتَابِ القرآنِ (1).
* * *
وقوله: (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20)
معناه إني أيقنتْ بأني أحاسب وأبعَث.
فأمَّا " كتابيه " و " حسابيه " فالوجه أن يوقف على هذه
الهَائَاتِ ولا تُوصِلْ.
لأنها أدخلت للوقف، وقد حذفها قوم في الوصل ولا أحب مخالفة
المصحف، ولا أن أقرأ بإثبات الهاء في الوصل.
وهذه رؤوس آياتٍ فالوجه أن يوقف عندها.
وكذلك قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10).
* * *
وقوله: (هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29)
معناه ذهبت عني حجتِيَهْ، والسلْطَان الحُجَّة، وكذلك قيل
للأمراء
سلاطين لأنهم الذينَ تقام بِهِمً الحجة والحُقوق.
* * *
وقوله: (قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)
معناه تدنو من مريدها لا يمْنَعه مِنْ تَناولها بُعْدٌ وَلاَ
شَوْك.
وقوله: (فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ).
ومعناه في الأيام التي مَضَتْ لهم.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {هَآؤُمُ}: أي: خُذُوا. وفيها لغاتٌ، وذلك أنَّها تكونُ
فِعْلاً صريحاً، وتكونُ اسمَ فعلٍ، ومعناها في الحالَيْنِ
خُذْ. فإن كانَتْ اسمَ فعلٍ وهي المذكورةُ في الآيةِ الكريمةِ
ففيها لغتان: المدُّ والقَصْرُ تقول: ها درهماً يا زيدُ، وهاءَ
درهماً. ويكونان كذلك في الأحوالِ كلِّها مِنْ إفرادٍ وتثنيةٍ
وجمعٍ وتذكيرٍ وتأنيثٍ، وتتصلُ بهما كافُ الخطابِ اتصالَها
باسمِ الإِشارةِ، فَتُطابِقُ مخاطبَك بحسب الواقع، مطابَقَتَها
وهي ضميرُهُ، نحو: هاكَ هاءكَ، هاكِ هاءَكِ إلى آخرِه،
وتَخْلُفُ كافَ الخطابِ همزةُ «هاء» مُصَرَّفةً تَصَرُّفَ كافِ
الخطابِ، فتقول: هاءَ يا زيدُ، وهاءِ يا هندُ، هاؤُما، هاؤُم،
هاؤُنَّ، وهي لغةُ القرآن.
وإذا كانت فِعْلاً صريحاً لاتصالِ الضمائر البارزةِ المرفوعةِ
بها كان فيها ثلاثُ لغاتٍ، إحداها: أَنْ تكونَ مثلَ: عاطى
يُعاطي. فيُقال: هاءِ يا زيدُ، هائِي يا هندُ، هائِيا يا
زيدان، أو يا هندان، هاؤُوا يا زيدون، هائِيْنَ يا هنداتُ.
الثانية: أَنْ تكونَ مثلَ «هَبْ» فتقول: هَأْ، هَئِي، هَآ،
هَؤُوا، هَأْنَ. مثلَ: هَبْ، هَبِي، هَبا، هَبُوا، هَبْنَ.
الثالثة: أَنْ يكونَ مثلَ: خَفْ أمراً مِنَ الخوفِ فيقال:
هَأْ، هائي، هاءا، هاؤوا، هَأْنَ، مثلَ: خَفْ، خافِي، خافا،
خافُوا، خَفْنَ.
واختُلِفَ في مَدْلولِها: فالمشهورُ أنَّها بمعنى خُذوا. وقيل:
معناها تعالوا، فيتعدَّى ب «إلى». وقيل: هي كلمةٌ وُضِعَتْ
لإِجابةِ الداعي عند الفرحِ والنشاطِ. وفي الحديث: «أنه ناداه
أعرابيٌّ بصوتٍ عالٍ، فجاوبَه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم:
هاؤُم بصَوْلةِ صَوْتِه» ومِنْ كوْنِها بمعنى «خُذْ» الحديث في
الرِّبا: «إلاَّ هاءَ وهاء» أي: يقول كلُّ واحدٍ من
المتبايعَيْن. خذ. وقيل معناها اقصِدوا. وزعم هؤلاء أنها
مركبةٌ مِنْ ها التنبيه وأمُوا من الأَمِّ، وهو القَصْدُ
فصَيَّره التخفيفُ والاستعمالُ إلى هاؤم. وقيل الميم ضميرُ
جماعةِ الذكورِ. وزَعَم القُتَبيُّ أنَّ الهمزةَ بدلٌ من
الكافِ، فإنْ عَنَى أنَّها تَحُلُّ مَحَلَّها فصحيحٌ. وإنْ
عَنَى البدَل الصناعيَّ فليس بصحيح.
وقوله: {هَآؤُمُ} يطلبُ مفعولاً يتعدَّى إليه بنفسِه، إنْ كان
بمعنى خُذْ أو اقْصِدْ، وب «إلى» إنْ كان بمعنى تعالَوا. و
«اقْرؤُوا» يَطْلُبُه أيضاً فقد تنازَعا في «كتابِيَهْ» وأعملَ
الثاني للحَذْفِ من الأولِ. وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في سورة
الكهفِ وفي غيرِها. والهاءُ في «كتابِيَهْ وحِسابِيَهْ
وسُلْطانِيَهْ ومالِيَهْ» للسَّكْت، وكان حقُّها أَنْ تُحْذَفَ
وَصْلاً، وتَثْبُتَ وَقْفاً، وإنما أُجْرِيَ الوَصْلُ مُجْرَى
الوقفِ، أو وُصِلَ بنيَّة الوقفِ في «كتابِيَهْ وحِسابِيَهْ»
اتفاقاً فأَثْبَتَ الهاء، وكذلك في «مالِيه وسُلْطانِيَهْ»، و
«ما هِيَهْ» في {القارعة} [القارعة: 10] عند القُرَّاءِ كلِّهم
إلاَّ حمزةَ رحمه الله فإنه حَذَفَ الهاءَ مِنْ هذه الكَلِمِ
الثلاثِ وَصْلاً وأَثْبَتَها وقفاً؛ لأنَّها في الوقفِ يُحْتاج
إليها لتحصينِ حركةِ الموقوفِ عليه، وفي الوصلِ يُسْتَغْنَى
عنها.
فإنْ قيل: فلِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذلك في «كِتَابِيَهْ/
وحسابِيَهْ» فالجوابُ: أنه جَمْعٌ بني اللغتين، هذا في
القراءاتِ السبعِ. وقرأ ابنُ محيصن بحَذْفِها في الكَلِم
كلِّها وَصْلاً ووَقْفاً، إلاَّ في «القارعة»، فإنه لم
يَتَحَقَّقْ عنه فيها نَقْلٌ. وقرأ الأعمشُ وابنُ أبي إسحاق
بحَذْفِها فيهنَّ وَصْلاً، وإثباتِها وَقْفاً. وابن محيصن
يُسَكِّنُ الياءَ في الكَلِمِ المذكورةِ وَصْلاً. والحقُّ أنها
قراءةٌ صحيحةٌ أعني ثبوتَ هاءِ السكتِ وَصْلاً، لثبوتِها في
خَطِّ المصحفِ الكريمِ، فلا يُلْتَفَتُ إلى قولِ الزهراوي:
«إنَّ إثباتَها في الوصلِ لَحْنٌ، لا أعلَمُ أحداً يُجيزه».
وقد تقدَّم الكلامُ على هاءِ السكتِ في البقرة. والأنعام
بأشبعَ مِنْ هذا فعليك باعتبارِه.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/217)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
قوله: (ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)
المعنى اجعلوه يصلى النَّارَ.
* * *
قوله (وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36)
معناه من صديد أهل النار، واشتقاقه مما ينغسِلُ مِنْ
أبدَانِهمْ.
* * *
وقوله: (قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41)، و (قَلِيلًا مَا
تَذَكَّرُونَ (42)
" ما " مُؤَكدَة، ْ وهي لَغْوٌ في باب الإعراب، والمعنى
(قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ)
و (قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ).
* * *
وقوله: (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)
رفعه بِـ (هُوَ) مُضْمِرَة يدل عليها قوله: (وَمَا هُوَ
بِقَوْلِ شَاعِرٍ) أي هُوَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ
الْعَالَمِينَ.
* * *
وقوله: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44)
يعني به النبي - صلى الله عليه وسلم -
* * *
(لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)
أي بالقُدْرَةِ والقؤة وقال الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد. . . تلقاها عرابة باليمين
* * *
قوله: (ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)
الوتين نياط القلب.
* * *
(فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47)
(حَاجِزِينَ) من نعت (أَحَدٍ)، وَ (أَحَدٍ) في معنى جميع.
المعنى فما منكم قوم يحجزون عنه.
* * *
وقوله: (وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51)
المعنى أن القُرآن لليقين حق اليقين.
* * *
قوله: (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
التسبيح معناه تَنْزيهُ اللَّهِ مِنَ السوءِ وتنزيهه تعالى.
(5/218)
تَعْرُجُ
الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ
مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
سُورَةُ المعارج
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1)
وقرئ سال بغير همز، يقال:. سالت اسال، وسَلْتُ أَسَالُ،
والرجلان
يتساءلان ويتساوَلان بمعنى واحِد.
والتأويل دَعَا دَاع بعذاب واقع.
وذلك كقولهم: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ
عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ
ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32).
وقيل معنى سأل سائِلٌ بعذاب، أي عن عذاب واقع، فالجواب قوله:
(لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِع).
أي يقع بالكافرين، وقيل إن سال سايل بغير همز، سايل وَادٍ في
جهنم (1).
* * *
وقوله: (مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)
قيل معارج الملائكة،. وقيل ذي الفَوَاصِل.
* * *
وقوله: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي
يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
جاء في التفسير أَنًه يَوْمُ القِيَامَةِ، وجاء أَيضاً أن
مقداره لو تكلفتموه
خمسون ألف سنة، والملائكة تعرج في كل يوم واحِدٍ.
وقرئت: تعرجُ
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {سَأَلَ}: قرأ نافع وابنُ عامر بألفٍ مَحْضَةٍ. والباقون
بهمزةٍ مُحَقَّقةٍ، وهي الأصلُ، وهي اللغةُ الفاشيةُ. ثم لك في
«سأل» وجهان أحدُهما: أنْ يكونَ قد ضُمِّنَ معنى دعا؛ فلذلك
تعدَّى بالباء، كما تقول: دعوت بكذا. والمعنى: دعا داعٍ
بعذابٍ. والثاني: أَنْ يكونَ على أصلِه. والباءُ بمعنى عن،
كقوله:
4326 فإن تَسْألوني بالنساء. . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . .
«فأسْأل بن خبيرا»، وقد تقدَّم تحقيقُه. والأولُ أَوْلَى؛ لأن
التجوُّزَ في الفعل أَوْلَى منه في الحرف لقوتِه.
وأمَّا القراءةُ بالألفِ ففيها ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها
بمعنى قراءةِ الهمزة، وإنما خُفِّفَتْ بقَلْبِها ألفاً، وليس
بقياسِ تخفيفِ مثِلها، بل قياسُ تخفيفِها جَعْلُها بينَ بينَ.
والباءُ على هذا الوجهِ كما في الوجهِ الذي تقدَّم. الثاني:
أنها مِنْ سال يَسال مثلُ خاف يَخاف. وعينُ الكلمةِ واوٌ. قال
الزمخشري: «وهي لغةُ قريش يقولون: سِلْتَ تَسالُ، وهما
يتسايلان». قال الشيخ: «وينبغي أَنْ يُتَثَبَّتَ في قوله:»
إنها لغةُ قريشٍ، لأنَّ ما جاء في القرآنِ من باب السؤالِ هو
مهموزٌ، أو أصلُه الهمزُ، كقراءةِ مَنْ قرأ «وسَلُوا اللهُ
مِنْ فضلِه» [النساء: 32] إذ لا جائزٌ أَنْ يكونَ مِنْ «سال»
التي عينُها واوٌ، إذ كان يكون ذلك «وسَالوا اللهَ» مثلَ
«خافوا»، فيَبْعُدُ أن يجيءَ ذلك كلُّه على لغةِ غيرِ قريشٍ،
وهم الذين نَزَل القرآنُ بلغتِهم إلاَّ يسيراً، فيه لغةُ
غيرِهم. ثم في كلامِ الزمخشريِّ «وهما يتسايَلان» بالياء، وهو
وهمٌ من النسَّاخ، إنما الصوابُ: يتساوَلان بالواو، لأنه
صَرَّحَ أولاً أنه من السُوال يعني بالواو الصريحةِ، وقد حكى
أبو زيدٍ عن العربِ: «هما يتساولان». الثالث: أنَّها مِنْ
السَّيَلان. والمعنى: سالَ وادٍ في جهنم بعذابٍ، فالعينُ ياءٌ،
ويؤيِّدُه قراءةُ ابن عباس «سالَ سَيْلٌ». قال الزمخشريُّ:
«والسَّيْلُ مصدرٌ في معنى السائلِ كالغَوْر بمعنى الغائر.
والمعنى: اندفع عليهم وادي عذابٍ» انتهى. والظاهرُ الوجهُ
الأولُ لثبوتِ ذلك لغةً مشهورةً قال:
4327 سالَتْ هُذَيْلٌ رسولَ اللهِ فاحشةً. . . ضَلَّتْ هُذَيلٌ
بما سالَتْ ولم تُصِبِ
وقرأ أُبَيٌّ وعبد الله «سال سالٌ» مثلَ «مال» وتخريجُها: أنَّ
الأصلَ «سائلٌ» فحُذِفَتْ عينُ الكلمةِ وهي الهمزةُ، واللامُ
محلُّ الإِعرابِ وهذا كما قيل: «هذا شاكٌ» في شائِكِ السِّلاح
وقد تقدَّم الكلامُ على مادةِ السؤالِ في أول البقرة، / فعليك
باعتبارِه.
والباءُ تتعلَّق ب «سال» من السَّيَلان تعلُّقَها ب «سال
الماءُ بزيدٍ». وجَعَلَ بعضُهم الباءَ متعلقةً بمصدرٍ دَلَّ
عليه فِعْلُ السؤال، كأنه قيل: ما سؤالُهم؟ فقيل: سؤالُهم
بعذابٍ، كذا حكاهُ الشيخ عن الإِمام فخر الدين، ولم
يَعْتَرِضْه. وهذا عَجَبٌ؛ فإنَّ قولَه أولاً «إنه متعلِّقٌ
بمصدرٍ دَلَّ عليه فِعْلُ السؤال» يُنافي تقديرَه بقولِه:
«سؤالُهم بعذاب»؛ لأنَّ الباءَ في هذا التركيبِ المقدَّرِ
تتعلَّق بمحذوفٍ لأنها خبرُ المبتدأ، لا بالسؤال.
وقال الزمخشري: «وعن قتادةَ: سأل سائلٌ عن عذابِ الله بمَنْ
يَنْزِلُ وعلى مَنْ يقعُ؟ فَنَزَلَتْ، و» سأَل «على هذا الوجهِ
مُضَمَّنٌ معنى عُنِيَ واهتمَّ».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/219)
وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي
تُؤْوِيهِ (13)
الملائكة، ويعرج الملائكة.
وقيل منذ أول أَيامِ الدنيا إلى انقضائها خمسون ألف سنة.
وجائز أن يكون " فِي يَوْمٍ " من صلة " واقع "، فيكون المعنى
سأل سائل
بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة.
وذلك العذابُ يقع في يوم القيامة.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5)
هذا يدل على أن ذلك قبل أن يؤمر النبي عليه السلام بالقتال.
* * *
قوله: (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا
(7)
يرونه بعيداً عندهم كأنهم يستبعدونه على جهة الِإحالة، كما
تقول
لمنَاظِرِكَ: هذا بعيد لا يكون.
* * *
وقوله: (وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)
أي صحيحاً يقرب فَهْمُ مثله بما دل اللَّه على يوم البعث
بقوله:
(قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ).
وما أشبه هذا من الاحتجاجات في البعث.
* * *
وقوله: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ
الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)
العِهْن الصوف، والمهل دُرْدِيُّ الزَّيت.
* * *
(وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
وقرئت (ولا يُسْأَلُ حَمِيم).
فمن قرأ (وَلَا يَسْأَلُ) فالمعنى أنهم يعرف بعضهم بعضاً، ويدل
عليه قوله: (يُبَصَّرُونَهُمْ).
ومن قرأ (ولا يُسْأَل حَمِيمٌ حَمِيمًا).
فالمعنى لا يُسْأَل قريب عن قرابته، ويَكُونُ
(يُبَصَّرُونَهُمْ) - واللَّه أعلم - للملائكة.
* * *
وقوله: (وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13)
معناه أدنى قبيلته منه.
(5/220)
تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ
وَتَوَلَّى (17)
وقوله: (كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15)
(كَلَّا) ردع وتنبيه، أي لَا يَرجعُ أحدٌ من هؤلَاء فاعتبروا.
* * *
(نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16)
(نَزَّاعَةٌ)
وقُرئت (نَزاعَةً للشوَى).
والقراءة (نَزَّاعَةٌ)، والقراء عليها وهي في النحو أَقْوى
مِنَ النصْبِ.
وذكر أَبو عبَيْدٍ إنها تجوز في العربيَّةِ، وأنه لا يَعْرِفُ
أَحَداً قَرَأَ بها.
وقد رويت عن الحسن، واختلف فيها عن عَاصِمٍ، فَأَما ما رواه
أبو
عمرو عن عاصم فَـ (نَزَّاعَةً) - بالنصب - وروى غيره
(نَزَّاعَةٌ) بالرفع.
فأَما الرفع فَمِنْ ثَلاث جِهَاتٍ:
أحدها أن تكون " لَظًى، و " نَزَّاعة " خبراً عن الهَاءِ
والألِفِ، كما تقول: إنه حُلْوٌ حَامِضٌ، تريد أنه جمع
الطعمين.
فيكون الهاء والألف إضماراً للقصة، وهو الذي يسميه، الكوفيون
المجهول.
المعنى أن القصة والخبر لظى نَزَّاعَة لِلشَّوَى، والشوى
الأطراف، اليدَانِ
والرَجْلَانِ والرأس، والشوى جمع شواه، وهي جلدة الرأس.
قال الشاعر:
قَالَتْ قُتَيْلَةُ مَا لَهُ. . . قَدْ جُلِّلَتْ شَيْباً
شَوَاتُهْ؟
فأمَّا نصب (نَزَّاعَةً) فعلى أنها حال مؤكدة كما قال:
(وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا)
وكما تقول أنا زيدٌ معروفاً، فيكون (نَزَّاعَةً) منصوباً
مُؤَكِداً لأمر النار.
ويجوز أن ينصب على معنى أنها تتلظى (نَزَّاعَةً) كما قال جلَّ
ثناؤه:
(فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14).
والوجه الثالث في الرفع يرفع على الذَّمِّ بإضمار هي على معنى
هي نَزَّاعَةٌ لِلشَّوَى.
ويكون نصبها أيضاً على الذم فيكون نصبها على ثلاثة أوجه.
* * *
وقوله: (تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17)
(5/221)
فَمَنِ ابْتَغَى
وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31)
تدعو الكافر باسمه والمنافق باسمه.
* * *
وقوله: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19)
الهلوع على ما في الآية من التفسير يفزع وَيجْزَعُ مِنَ
الشَّرِّ.
* * *
(إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ
الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)
الإنسان ههنا في معنى الناس، فاستثنى اللَّه - عزَّ وجلَّ -
المؤمنين
المصلين فقال: (إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ
عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23).
يعني به المحافظين على الصلاة المكتوبة.
ويجوز أن يكون الذين لا يُزِيلُونَ وجوههم عن سمت القبلة ولا
يلتفتون، فيكون اشتقاقه من الدائم وهو الساكن، كما جاء النهي
عن البول في الماء الدائم، والمحروم الذي هو محارف قد حرم
المكاسب. وهو لا يَسْألُ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ
(29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)
أي، على هؤلاء.
وقيل إنها في مَعنى " مِنْ " المعنى عند قائل هذا إلا مِنْ
أَزْوَاجِهِم أَو ما
ملكت وقيل إن " على " محمول على المعنى، المعنى فإنَهُم لَا
يلَامُونَ على
أزواجهم، ويدل عليه (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ).
* * *
وقوله: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْعَادُونَ (31)
معناه في العُدْوَانِ.
وهي المبالغة في مخالفة أمر اللَّه ومجاوزة القدر في الظلِم.
وقيل: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْعَادُونَ).
أي من طلب غير الأزواج وَمَا ملكت الأيمان فقد اعتدى.
(5/222)
فَلَا أُقْسِمُ
بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40)
والعَادُونِ جَمْعُ عَادٍ وَعَادُونَ.
* * *
قوله: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ
رَاعُونَ (32)
أي يَرْعَوْنَ العهد والأمانة ويحافظون عليها.
وكل محافظ على شيء فهو مُرَاعٍ له. والإِمام راعٍ لرعيته.
* * *
وقوله: (فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36)
(مُهْطِعِينَ) منصوب على الحال، والمهطع المقبل ببصره على
الشيء لا
يزايله، لأنهم كانوا ينظرون إلى النبي عليه السلام نظر عداوة.
قال اللَّه تعالى: (وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إلَيْكَ وَهُمْ
لَا يُبْصِرُونَ).
معناه غيظاً وحنقاً.
* * *
قوله: (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37)
حلقاً حلقاً وجماعةً جماعة، وعِزِينَ جمع عِزَة، فكانوا عن
يمينه وشِمَالِه
مجتمعين، فقالوا إن كان أصحاب محمد يدخلون الجنة فإنا ندخلها
قبلهم.
وإن أعطوا فيها شيئاً أعطِينا أكثر منه، فقال عزَّ وجلَّ:
* * *
(أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ
نَعِيمٍ (38)
وقرئت (أَنْ يَدْخُلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ). ثم قال:
* * *
(كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
أَي من تراب ومن نطفة، فأي شيء لهم يدخلون به الجنة، وهم لك
على العداوة وعلى البغضاء.
* * *
وقوله: (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ
إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا
مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41)
معناه فأُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ.
و" لا " مؤكدة كما قال:
(5/223)
يَوْمَ يَخْرُجُونَ
مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ
يُوفِضُونَ (43)
(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ).
ومعناه ليعلم أهل الكتاب، ومعنى (بِرَبِّ الْمَشَارِقِ
وَالْمَغَارِبِ)
أي مشارق الشمس ومغاربها، وكذلك القَمَرُ، وهي مشارق الصيف
ومشارق الشتاء وَمَغَارب الصيف، ومغارب الشتاء فتشرق الشمس كل
يوم من مشرق، وتغرب من مغرب، وكذلك القَمَرُ.
* * *
وقوله: (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا
يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42)
(يخوضوا) جواب الأمر مجزوم، وقيل إنه مجزوم وإن كان لفظه بغير
آلةِ
الأمْرِ لأنه وضع موضع الأمر، كأنه قال ليخوضوا وليَلْعَبُوا.
وهذا أَمْر على جهة الوعيد، كما تقول: اصنع ما شئت فإني أعاقبك
عليه.
وقد مر تفسير هذا مستقصًى.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ
سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43)
والأجداث القبور واحدها جَدَث، ويقال أيضاً جَدَفٌ في هذا
المعنى.
وقرئت إلى (نَصْبٍ يوفِضُونَ) وَ (إلى نُصْبٍ) - بضم النون
وسُكونِ الصاد، وقرِئَتْ (إلى نُصُبِ) بضم النون والصاد.
فمن قَرَأَ نصْب، فمعناه كأنَّهم إلى علم مَنْصُوبَِ لهم.
ومن قرأ (إلى نصْبِ) فمعناه إلى أَصْنَام لهم.
كما قال (وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ).
ومعنى (يوفِضُونَ) يُسْرِعُونَ.
قال الشَاعِر:
لأَنْعَتَنْ نَعامةً مِيفاضا. . . خَرْجاءَ تَغْدُو وتطلُبُ
الإِضَاضا
ْالميفاض السريعة، وخرجاء ذات لونين سَوَادٍ وبياضٍ.
ومعنى الأضاض الموضع الذي يُلْجَأ إليه، يقال أضَتني إليك
الحاحة أضَاضاً.
(5/224)
خَاشِعَةً
أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي
كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
قوله: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ
تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا
يُوعَدُونَ (44)
(تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ)
أي تغشاهم ذِلًةٌ.
وقوله: (مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ).
قرئت بالفتح والكسر، فمن قرأ بِكَسْرِ يَوم فَعَلَى أَصْل
الِإضافة لأن الذي
يضاف إليه الأول مجرور بالإضافة.
ومن فتح يوم فلأنه مضاف إلى غير متمكن مضاف إلى " إذْ "، و "
إذْ " مبهمة، ومعناه يوم إذ يكون كذا وكذا، فلما كانت
مبهمة وأضيف إليها، بني المضاف إليها على الفتح.
كذلك أنشدوا قول
الشاعر:
لم يَمْنع الشُّرْبَ منها غَيْرَ أَن نطقت. . . حمامة في
غُصُونٍ ذاتِ أَوْقالِ
فلما أضاف " غير " إلى " أن " بناها على الفتح، وهي في موضع
رفع، والرفْعُ أيضا قَد رُوِيَ، فقالوا " غيرُ " أن نطقت، كما
قرئ الحرف على إعراب الجر، وعلى البناء على الفتح.
(5/225)
أَنِ اعْبُدُوا
اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)
سُورَةُ نُوحٍ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عَر وَجَلً: (إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ
أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ
أَلِيمٌ (1)
" أن " في موضع نصب بـ (أَرْسَلْنَا)، لأنَّ الأصْلَ بأن
أَنْذِرْ قَوْمَكَ، فلما أسقطت الباء أفضى الفِعْلُ إلى " أن "
فنصبها
وقد قال قوم يُرتَضَى عِلْمُهُمْ إن موضع مِثْلِها جَر وإن
سقطت الباء.
لأن " أن " يحسن معها سقوط الباء. ولا تسقط من المصدر
الباء، لأنك لو قلت: إني أرسلتك بالإنْذَارِ والتهدد لم يُجِزْ
أن تقول إني
أَرْسَلْتُك الإنذار والتهدُّدَ، ولو قلت إني أرسلتك بأن
تُنْذِرَ وأن تهدد لجاز وإني أرسَلْتُكَ أن تنذر وأن تهدِّدَ.
وأصل الِإنذار في اللغة الِإعلام بما يخاف منه فيحذر، وأن لا
يتعرض
له ويجوز أن يكون " أَن " تفسير لما أُرْسِلَ بِهِ.
فيكون المعنى: إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَيْ
أَنْذِرْ قَومَكَ.
* * *
(قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ
اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)
أرسل الله نوحاً وجميع الأنبياء بالأمر بعبادته وإيثار تقواه
وطاعة رسله.
* * *
وقوله: (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3)
(يَغْفِرْ) جزم جواب الأمر (أعْبُدُوا اللَّهَ) واتقوه
وأطيعوني يغفر لكم من
(5/227)
ثُمَّ إِنِّي
دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8)
ذنوبكم، والنحويون البصريون كلهم ما خلا
أبا عمرو بن العلاء لا يدغِمُونَ
الراء في اللام، لا يجيزون يَغْفِر لَّكُمْ، وأبو عمرو بن
العلاء يرى الإدغام
جائزاً.
وزعم الخليل وسيبويه أن الراء حرف مكرر متى أدغم في اللام ذهب
التكرير منه، فاختل الحرف، والمسموع من العرب وقرأه القراء
إظهار الراء.
(يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى
أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا
يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
ومعنى (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) ههنا - يغفر لكم ذنوبكم
ودخلت "مِنْ " تختص الذنوب من سائر الأشياء، لم تدخل لتَبْعيض
الذنُوب، ومثله قوله (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الْأَوْثَانِ).
معناه اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان ليس الرجس ههنا
بعض الأوثان.
وقوله: (وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ
اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ).
معناه اتقوا الله وأطيعون يؤخركم عن العذاب، أي يؤخركم فتموتوا
غير
ميتة المُسْتَأْصَلِين بِالعَذَابِ.
ثم قال: (إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ)
معناه إذا جاء الأجل في الموت لا يؤخر بعذاب كان أو باستئصال.
* * *
قوله: (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا
ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7)
قيل إنهم كانوا يسدُّون آذانهم ويغطون وجوههم لئلا يسمعوا
قَوْلَه.
وليبالغوا في الإعراض عنه بتغطية الوجوه.
وقوله: (وَأَصَرُّوا) أقاموا ولم ينووا توبة منه.
(وَاسْتَكْبَرُوا) أخذتهم العزة من اتباع نوح والدليل على ذلك
قوله:
(أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ).
* * *
وقوله: (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8)
أي دعوتهم مظهراً لهم الدعوة.
و" جِهَارًا " منصُوبٌ مصدر موضوع موضع
(5/228)
وَقَدْ خَلَقَكُمْ
أَطْوَارًا (14)
الحال.
المعنى دعوتهم مجاهراً بالدعاء إلى توحيد الله وتقواه.
* * *
(ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ، لَهًمْ
إسْرَاراً).
أي خَلَطْتُ لَهُمْ دُعَاءَهم في العلانيةَ بدعاء السر.
فقلت: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا).
أي استدعوا مَغْفِرَةَ رَبِّكُمْ.
* * *
(يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)
وقيل إِنهم كانوا قد أجدبوا فَاعْلَمَهُم أن إيمانهم باللَّه
يجمع لهم مَعَ
الحظِّ الوافِرِ في الآخرة.
الخِصْب والغِنَى في الدنيا.
و (مِدْرَارًا): كثيرة الدَّر، أي كثيرة المطر.
* * *
(وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ
جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12)
يعطيكم زينة الدنيا وهي المال والبنون.
* * *
(وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ): أَي بساتين.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا
(13)
قيل: مَا لكم لَا تَخَافُونَ للَّهِ عَظَمةً، وقيل لا ترجون
عاقبة، وحقيقته
- واللُّه أعلم - مالكم لا ترجون عاقبة الإيمان فتوحدون الله
وقد جعل لكم في - أنفسكم آية تدل على توحيده من خلقه إياكم،
ومن خلق السَّمَاوَاتِ والأرضِينَ والشمس والقمر فقال:
* * *
(وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14)
أي طوراً بعد طورٍ، نقلكم من حالٍ إلى حال ومن جِهَةٍ من الخلق
إلى
جهة - خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة، ثم جعل
المضغة عظْماً، وكسا العظم لحماً ثُمَّ قَررَهُمْ فقال:
(5/229)
وَقَالُوا لَا
تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا
وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)
(أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ
سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15)
و (طباقاً) مَنْصوبٌ على جهتين:
إحداهما مطَابِقَةً طِباقاً.
والأخرى من نعت (سَبْعَ) أيْ خَلَق سبعاً ذات طباق.
* * *
(وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ
سِرَاجًا (16)
قال أهل العربية: يجوز أن يكون في السماء الدنيا
وقيل (فِيهِنَّ) لأنهن كالشيء الوَاحِد.
وجاء في التفسير أن وجه الشمس يضيء لأهل الأرض من
ظَهْرها وقَفَاهَا ويضيء لأهل السَّمَاوَات وكذلك القمر.
* * *
(وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17)
و (نَبَاتًا) محمول في المصدر على المعنى، لأن معنى " أنبتكم "
جعلكم
تنبتون نباتاً والمصدر على لفظ أنبتكم إنباتاً ونباتاً أبلغ في
المعنى.
* * *
قوله: (لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
أي طرقاً بَيِّنَةً.
* * *
وقوله: (وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ
إِلَّا خَسَارًا (21)
(وَوُلْدُهُ) ويقرأ: (وَوَلَدُهُ).
والوَلَدُ والولد بمعنى واحِدٍ، مثل العَرَب والعُرْب، والعجم
والعُجْم.
* * *
وقوله (وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22)
يقال: مكر كبير وكُبَّار وكِبار في معنى واحد.
* * *
(وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا
وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)
وقُرِئَتْ (وُدًّا) - بضم الواو -.
(وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا)
هذه خمسة أصنام كانَتْ في قَوْمِ نُوح يعبدونها.
ثُمَّ صَارَتْ إلَى العَرَبِ
(5/230)
رَبِّ اغْفِرْ لِي
وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ
الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
فكان وَدّ لكلب، وكان سُواع لِهَمَدَان،
وكان يَغُوث لمذحج، وكان نَسْر لحمَير
وقرئت (يَغُوثاً وَيَعُوقاً).
ويغوث ويعوق لا ينْصَرِفَان لأنَّهُمَا في وزن الفعل وهما
معرفتان.
والقراءة التي عليها القراء والمصحف ترك الصرف.
وليس في يغوث ويعوق ألف في الكتاب، ولذلك لا ينبغي أن يقرأ:
إلا بترك الصرف.
والذين صرفوا جعلوا هذين الاسمين الأغلب عليهما كما الصرف إذ
كان أصل الأسماء عندهم الصرْفَ، أَو جعلوهما نَكِرةً وإن كانا
معرفتين، فكأنهم قالوا: ولا تذرون صنماً من أصنامكم، ولا ينبغي
أن يقرأ بها لمخالفتها المصحف (1).
* * *
قوله ت (مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا
فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)
ويقرأ (مما خطاياهم)، وخطيئة يجمع على خطايا. وخطيئات.
وقَد فسَّرنَا ذلك فيما سلف من الكتاب.
* * *
(وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ
الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26)
(دَيَّارًا) في معنى أحد. يُقَال ما في الدار أحَدٌ وما بها
دَيَّارٌ.
وأصْلهَا دَيْوَار، [فَيْعَال] فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما
في الأخرى.
وإنما دعا عليهم نوح عليه السلام لأنَّ اللَّه جَل - وَعَلَا
أوحى إليه (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ
قَدْ آمَنَ).
* * *
قوله تعالى: (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ
دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
(وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا)
قالوا بيتي مَسْجداً، وإن شئت، أسكنت الياء وإن شئت فتحتها.
* * *
وقوله: (وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا).
معناه إلا تباراً، والتبار الهلاك، وكل شيء أهلك فقد تبر،
ولذلك سُمِّيَ
كلُّ مكَسَّرٍ تبرا.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً}: يجوزُ أَنْ
يكونَ مِنْ عَطْفِ الخاص على العام إنْ قيل: إنَّ هذه الأسماءَ
لأصنامٍ، وأن لا يكونَ إنْ قيل: إنها أسماءُ رجالٍ صالحينَ على
ما ذُكر في التفسير. وقرأ نافع «وُدّاً» بضم الواوِ، والباقون
بفتحها، وأُنْشِدَ بالوَجْهَيْن قولُ الشاعر:
4344 حَيَّاكَ وَدٌّ فإنَّا لا يَحِلُّ لنا. . . لَهْوُ
النساءِ وإنَّ الدين قد عزما
وقول الآخر:
4345 فحيَّاكِ وَدٌّ مِنْ هُداكِ لفِتْيَةٍ. . . وخُوْصٍ بأعلى
ذي فُضالةَ مُنْجِدِ
قوله: {وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ} قرأهما العامَّةُ بغير تنوين.
فإن كانا عربيَّيْن فالمنعُ من الصَرْف للعلميَّةِ والوزن، وإن
كانا أعجميَّيْن فللعلميَّةِ والعُجْمة. وقرأ الأعمش: «ولا
يَغُوْثاً ويَعُوْقاً» مصورفَيْن. قال ابن عطية: «وذلك وهمٌ:
لأنَّ التعريفَ لازمٌ ووزنَ الفعل» انتهى. وليس بوهمٍ
لأمرَيْن، أحدهما: أنه صَرَفَهما للتناسُبِ، إذ قبله اسمان
منصرفان، وبعده اسمٌ منصرفٌ، كما صُرِفَ «سلاسل». والثاني: أنه
جاء على لغةِ مَنْ يَصْرِفُ غيرَ المنصرِف مطلقاً. وهي لغةٌ
حكاها الكسائيُّ.
ونقل أبو الفضل الصَّرْفَ فيهما عن الأشهبِ العُقَيْليِّ ثم
قال: «جَعَلهما فَعُولاً؛ فلذلك صرفهما، فأمَّا في العامَّة
فإنهما صفتان من الغَوْث والعَوْق». قلت: وهذا كلامٌ مُشْكِلٌ.
أمَّا قولُه: «فَعُولاً» فليس بصحيحٍ، إذ مادةُ «يغث» و «يعق»
مفقودةٌ. وأمَّا قولُه: «صفتان من الغَوْث والعَوْق» فليس في
الصفاتِ ولا في الأسماءِ «يَفْعُل» والصحيحُ ما قَدَّمْتُه.
وقال الزمخشري: «وهذه قراءةٌ مُشْكِلة؛ لأنهما إنْ كانا
عربيَّيْنِ أو أعجميَّيْنِ ففيهما مَنْعُ الصَّرْفِ، ولعله
قَصَدَ الازدواجَ فصرَفهما. لمصادفتِه أخواتِهما منصرفاتٍ:
وَدَّاً وسُوعاً ونَسْراً». قال الشيخ: «كأنه لم يَطَّلعْ على
أنَّ صَرْفَ ما لا ينصرفُ لغةٌ».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/231)
|