معاني القرآن
وإعرابه للزجاج قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ
أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا
سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1)
سُورَةُ الجِنِّ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ: (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ
نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا
عَجَبًا (1)
القراءة (أوحِيَ) بإثبات الواو. - قد قرئت: (قُلْ أُحِيَ
إِلَيَّ) - بغير واو.
فمن قال: (أُحِيَ إِلَيَّ) فهو من وحيت إليه، والأكثر
أَوْحَيْت إليه.
والأصل وحِي، ولكن الواو إذا انْضمَّت قد تبدل منها الهمزة
نحو:
(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ)، أصله وقِّتَتْ لأنه مِنَ
الوَقْتِ.
وجاء في التفسير أن هؤلاء النفر الذين من الجن استمعوا إلى
النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي الصبح ببطن نخلة، وهو
قوله: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ
يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا
أَنْصِتُوا)
أي قال بعضهم لبعض أَمْسِكوا عن الكلام واستمعوا.
وقيل إنهم كانوا من جِنَ نَصِيبينْ، وقيل إنهم كانوا مِنَ
اليَمَن، وقيل إنهم كانوا يَهوداً، وَقِيل إنهم كانوا مشركين.
فأمَّا قوله: (أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ)، و
(أَنَّ) مفتوحة لا غير.
* * *
وقوله: (إِنَّا سَمِعْنَا) وقوله: (فَإِنَّ لَهُ)، وقوله:
(فَإِنَّهُ يَسْلُكُ).
فهذه الثلاث مكسورة لا غير.
وقد اختلف القراء فيما في هذه السورة غير هذه الحروف الثلاث
فقال بعضهم: (وَأَنَّهُ، وأَنَّا) فَاما عَاصمٌ فروى عنه
أبوبكر بن عياش مثل قراءة نافع ومن تابعه، وروى حفص بن سليمان
عن الفتح فيما قرأه أبو بكر بالكسر، والذي يَخْتاره
النحوُّيونَ قراءة نافع ومن تابَعَهُ في هذه الآية عندهم ما
كان محمولاً على
(5/233)
وَأَنَّا لَا نَدْرِي
أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ
رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
الوحي فهو (أنَّه) بفتح (أنَّ) وما كان من
قول الجن فهو مكسور معطوف على
قوله: (فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا)، وعلى
هذه القراءة يكون المعنى، وقالوا إنه تعالى جَدُّ رَبِّنَا،
وقالوا إنه كان يقول سفيهنا.
ومن فتح فذكر بعض النحويين ْأنه معطوف على الهاء.
المعنى عِندَه فآمنا به وبأنه تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا
وكذلك ما بعد هذا عنده، وهذا رديء في القياس.
لا يعطف على الهاء المكنية المحفوضة إلا بإظهار الخافض، ولكن
وجهه أن يكون محمولًا على معنى آمناً به، لأن معنى آمنا به
صدقناه وعلمناه، ويكون المعنى: وصدقنا أنه تَعَالَى جَدُّ
رَبِّنَا.
* * *
(وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً
وَلَا وَلَدًا (3)
وتأويل (تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا) تعالى جلال رَبِّنَا وعظمته
عن أن يتخذ صَاحِبَةً أَوْ
وَلَداً (1).
* * *
وقوله تعالى: (وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ
يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)
كان أهل الجاهلية إذا مرتْ جماعة منهم بوادٍ يقولون: نعوذ
بعزيز هذا
الوادي من مردة الجن وَسُفَهَائِهِمْ.
ومعنى (فَزَادُوهُمْ رَهَقًا) فَزادوهم ذِلَّةً وضعفاً.
ويجوز - واللَّه أعلم - أن الإنس الذين كانوا يستعيذون بالجن
زادوا الجن رهقاً، ويجوز أَنْ يكون الجن زادوا الإنس رَهَقاً.
* * *
وقوله: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا
مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا
نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ
الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)
أي كنا نستمع فالآن حين حَاوَلْنَا الاستماع ورمينا بالشُهُبِ،
وهي
الكواكب.
و (رَصَدًا) أي حَفَظَةً تمنع من الاستماع.
وقيل إن الانقضاض الذي رميت به الشياطين حَدَثَ بعد مَبْعَثِ
النبي عليه السلام وهو أَحَدُ آيَاتِه.
* * *
(وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ
أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
المعنى إنا لا ندري بحدوث رجم الكواكب أَلِصَلاَحٍ في ذلك لأهل
الأرض أو غيره.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا}: قرأ الأخَوان وابن
عامر وحفص بفتح «أنَّ» وما عُطِف عليها بالواو في اثنتي عشرة
كلمةً، والباقون بالكسرة. وقرأ ابنُ عامر وأبو بكرٍ «وإنه
لَمَّا قام» بالكسرة، والباقون بالفتح، واتفقوا على الفتحِ في
قوله: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ} وتلخيص هذا: أن «أنَّ»
المشددةَ في هذه السورةِ على ثلاثةِ أقسامٍ: قسمٍ ليس معه واوُ
العطفِ، فهذا لا خلاف بين القُرَّاءِ في فتحِه أو كسرِه. على
حسبِ ما جاءَتْ به التلاوةُ واقْتَضَتْه العربيةُ، كقولِه:
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع} لا خلافَ في فتحِه
لوقوعِه موقعَ المصدرِ وكقوله: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً}
[الجن: 1] لا خلافَ في كسرِه لأنه محكيٌّ بالقول.
القسم الثاني أَن يقترنَ بالواوِ، وهو أربعَ عشرةَ كلمةً،
إحداها: لا خلاف في فتحِها وهي: قولُه تعالى: {وَأَنَّ المساجد
لِلَّهِ} [الجن: 18] وهذا هو القسم الثالث والثانية:
{وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ} [الجن: 19] كَسَرَها ابنُ عامرٍ وأبو
بكر، وفتحها الباقون. والاثنتا عشرةَ الباقيةُ: فَتَحها
الأخوان وابن عامرٍ وحفص، وكسرها الباقون، كما تقدَّم تحريرُ
ذلك كلِّه. والاثنتا عشرةَ هي قولُه: {وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ
رَبِّنَا}، {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ} [الجن: 4] {وَأَنَّا
ظَنَنَّآ} [الجن: 5] {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ} [الجن: 6]
{وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ} [الجن: 7] {وَأَنَّا لَمَسْنَا} [الجن:
8] {وَأَنَّا كُنَّا} [الجن: 9] {وَأَنَّا لاَ ندري} [الجن:
10] {وَأَنَّا مِنَّا الصالحون} [الجن: 11] {وَأَنَّا
ظَنَنَّآ} [الجن: 12] {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا} [الجن: 13]
{وَأَنَّا مِنَّا المسلمون} [الجن: 14]. وإذا عَرَفْتَ
ضَبْطَها من حيث القراءاتُ فالتفِتْ إلى توجيهِ ذلك.
وقد اختلف الناسُ/ في ذلك فقال أبو حاتم في الفتح: «هو معطوفٌ
على مرفوعِ» أُوْحِيَ «فتكونُ كلُّها في موضعِ رفعٍ لِما لم
يُسَمَّ فاعِلُه». وهذا الذي قاله قد رَدَّه الناسُ عليه: مِنْ
حيث إنَّ أَكثرَها لا يَصِحُّ دخولُه تحت معمولِ «أُوْحِي» ألا
ترى أنه لو قيل: أوُحي إليِّ أنَّا لَمَسْنا السماءَ، وأنَّا
كُنَّا، وأنَّا لا نَدْري، وأنَّا منَّا الصالحون، وأنَّا
لمَّا سَمِعْنا، وأنَّا مِنَّا المسلمون لم يَسْتَقِمْ معناه.
وقال مكي: «وعَطْفُ» أنَّ «على {آمَنَّا بِهِ} [الجن: 2]
أتَمُّ في المعنى مِنْ العطفِ على» أنَّه استمعَ «لأنك لو
عَطَفْتَ {وَأَنَّا ظَنَنَّآ} [الجن: 5] {وَأَنَّا لَمَّا
سَمِعْنَا} [الجن: 13] {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس}
[الجن: 6] {وَأَنَّا لَمَسْنَا} [الجن: 8]، وشِبْهَ ذلك على
{أَنَّهُ استمع} [الجن: 1] لم يَجُزْ؛ لأنه ليس مِمَّا
أُوْحِي، إليه، إنما هو أمرٌ أو خبر، وأنه عن أنفسهم، والكسرُ
في هذا أَبْينُ، وعليه جماعة مِنْ القُراءِ.
الثاني: أنَّ الفتحَ في ذلك عَطْفٌ على مَحَلِّ» به «مِنْ»
آمَنَّا به «. قال الزمخشري:» كأنه قال: صَدَّقْناه
وصَدَّقْناه أنه تعالى جَدُّ رَبَّنا، وأنَّه كان يقولُ
سفيهُنا، وكذلك البواقي «، إلاَّ أنَّ مكيَّاً ضَعَّفَ هذا
الوجهَ فقال: والفتحُ في ذلك على الحَمْلِ على معنى» آمَنَّا
به «وفيه بُعْدٌ في المعنى؛ لأنهم لم يُخْبِروا أنهم آمنوا
بأنَّهم لَمَّا سَمِعوا الهدى آمنوا به، ولم يُخْبِروا أنهم
آمنوا أنه كان رجالٌ، إنما حكى اللَّهُ عنهم أنهم قالوا ذلك
مُخْبِرين به عن أنفسِهم لأصحابِهم، فالكسرُ أَوْلى بذلك» وهذا
الذي قاله غيرُ لازمٍ؛ فإنَّ المعنى على ذلك صحيحٌ.
وقد سَبَق الزمخشريَّ إلى هذا التخريجِ الفَرَّاءُ والزجَّاجُ.
إلاَّ أنَّ الفَرَّاء استشعر إشكالاً وانفصل عنه، فإنه قال:
«فُتِحَتْ» أنَّ «لوقوع الإِيمانِ عليها، وأنت تجدُ الإِيمانَ
يَحْسُنُ في بعضِ ما فُتحَ دونَ بعضٍ، فلا يُمْنَعُ من
إمضائِهنَّ على الفتح، فإنه يَحْسُنُ فيه ما يُوْجِبُ فَتْحَ»
أنَّ «نحو: صَدَقْنا وشَهِدْنا، كما قالت العربُ:
4347. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وزَجَّجْنَ الحواجبَ والعُيونا
فنصَبَ» العيونَ «لإِتباعِها الحواجبَ، وهي لا تُزَجَّجُ. إنما
تُكَحَّلُ، فأضمر لها الكُحْلَ» انتهى. فأشار إلى شيءٍ مِمَّا
ذكرَه مكيٌّ وأجاب عنه. وقال الزجَّاج: «لكنَّ وجهَه أَنْ
يكونَ محمولاً على معنى» آمنَّا به «؛ لأنَّ معنى» آمَنَّا به
«صَدَّقْناه وعَلِمْناه، فيكون المعنى: صَدَّقْنا أنه تعالى
جَدُّ ربِّنا».
الثالث: أنه معطوفٌ على الهاء به «به»، أي: آمنَّا به وبأنه
تعالى جَدُّ ربِّنا، وبأنه كان يقولُ، إلى آخره، وهو مذهب
الكوفيين. وهو وإن كان قوياً من حيث المعنى إلاَّ أنَّه ممنوعٌ
مِنْ حيث الصناعةُ، لِما عَرَفْتَ مِنْ أنَّه لا يُعْطَفُ على
الضميرِ المجرورِ إلاَّ بإعادةِ الجارِّ. وقد تقدَّم تحقيقُ
هذَيْن القولَيْن مستوفىً في سورةِ البقرة عند قولِه:
{وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام} [البقرة: 217] على أنَّ
مكِّيَّاً قد قَوَّى هذا لمَدْرَكٍ آخرَ وهو حَسَنٌ جداً، قال
رحمه الله: «وهو يعني العطفَ على الضميرِ المجرورِ دونَ إعادةِ
الجارِّ في» أنَّ «أجوَدُ منه في غيرها، لكثرةِ حَذْفِ حرفِ
الجرِّ مع» أنَّ «.
ووجهُ الكسرِ العطفُ على قوله: {إِنَّا سَمِعْنَا} [الجن: 1]
فيكون الجميعُ معمولاً للقولِ، أي: فقالوا: إنَّا سَمِعْنا،
وقالوا: إنَّه تعالى جَدُّ ربِّنا إلى آخرِه. وقال بعضُهم:
الجملتان مِنْ قولِه تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ} [الجن:
6] {وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ} [الجن: 7] معترضتان بين قولِ
الجنِّ، وهما مِنْ كلامِ الباري تعالى، والظاهرُ أنَّهما مِنْ
كلامِهم، قاله بعضُهم لبعضٍ. ووجهُ الكسرِ والفتحِ في قولِه:
{وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله} [الجن: 19] ما تقدَّم.
ووَجْهُ إجماعِهم على فتح {وَأَنَّ المساجد} [الجن: 18] وجهان،
أحدُهما: أنَّه معطوفٌ على {أَنَّهُ استمع} [الجن: 1] فيكونُ
مُوْحى أيضاً. والثاني: أنه على حَذْفِ حرفِ الجرِّ، وذلك
الحرفُ متعلِّقٌ بفعل النهي، أي: فلا تَدْعوا مع اللَّهِ
أحداً؛ لأنَّ المساجدَ للَّهِ، ذكرهما أبو البقاء.
قال الزمخشري:» أنه استمع «بالفتح؛ لأنَّه فاعلُ» أُوْحي «و
{إِنَّا سَمِعْنَا} [الجن: 1] بالكسرِ؛ لأنَّه مبتدأٌ
مَحْكِيٌّ بعد القولِ، ثم تحملُ عليهما البواقي، فما كان مِنَ
الوحي فُتِحَ، وما كان مِنْ قَوْل الجِنِّ كُسِرَ، وكلُّهُنَّ
مِنْ قولِهم إلاَّ/ الثِّنْتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ وهما:
{وَأَنَّ المساجد} [الجن: 18] {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ
الله} [الجن: 19]. ومَنْ فتح كلَّهن فعَطْفاً على مَحَلِّ
الجارِّ والمجرور في {آمَنَّا بِهِ} [الجن: 2]، أي:
صَدَّقْناه، وصَدَّقْنا أنه «.
وقرأ العامَّةُ: {جَدُّ رَبِّنَا} بالفتح مضافاً ل» رَبِّنا «،
والمرادُ به هنا العظمةُ. وقيل: قُدْرتُه وأمرُه. وقيل:
ذِكْرُه. والجَدُّ أيضاً: الحَظُّ، ومنه قولُه عليه السلام:»
ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ منك الجَدُّ «والجَدُّ أيضاً: أبو
الأبِ، والجِدُّ بالكسرِ ضِدُّ التَّواني في الأمر.
وقرأ عكرمةُ بضمِّ باءِ» رَبُّنا «وتنوينِ» جَدٌّ «على أَنْ
يكون» ربُّنا «بدلاً مِنْ» جَدٌّ «، والجَدُّ: العظيم. كأنه
قيل: وأنَّه تعالى عظيمٌ ربُّنا، فأبدل المعرفة من النكرةِ،
وعنه أيضاً» جَدَّاً «منصوباً منوَّناً،» رَبُّنا «مرفوعٌ.
ووجْهُ ذلك أَنْ ينتصِبَ» جَدَّاً «على التمييز، و» ورَبُّنا
«فاعلٌ ب» تعالى «وهو المنقولُ مِنْ الفاعليةِ، إذ التقديرُ:
تعالى جَدُّ رَبِّنا، ثم صار تعالى ربُّنا جَدَّاً، أي:
عَظَمةً نحو: تَصَبَّبَ زيدٌ عَرَقاً، أي: عَرَقُ زيدٍ. وعنه
أيضاً وعن قتادةَ كذلك، إلاَّ أنَّه بكسرِ الجيم، وفيه وجهان،
أحدُهما: أنَّه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، و» رَبُّنا «فاعلٌ ب»
تعالى «والتقدير: تعالى ربُّنا تعالِياً جدَّاً، أي: حقاً لا
باطلاً. والثاني: أنَّه مصنوبٌ على الحالِ، أي: تعالى ربُّنا
حقيقةً ومتمكِّناً قاله ابنُ عطية.
وقرأ حميد بن قيس» جُدُّ ربِّنا «بضم الجيم مضافاً ل» ربِّنا
«وهو بمعنى العظيم، حكاه سيبويه، وهو في الأصل من إضافةِ
الصفةِ لموصوفِها؛ إذ الأصلُ: ربُّنا العظيمُ نحو:» جَرْدُ
قَطِيفة «الأصل قطيفة جَرْدٌ، وهو مُؤَول عند البَصْريين وقرأ
ابن السَّمَيْفَع» جَدَى رَبِّنا «بألفٍ بعد الدال مضافاً ل»
ربِّنا «. والجَدى والجَدْوى: النَّفْعُ والعَطاء، أي: تعالى
عَطاءُ ربِّنا ونَفْعُه.
والهاءُ في» أنَّه استمعَ «» وأنَّه تعالى «وما بعد ذلك ضميرُ
الأمرِ والشأنِ، وما بعده خبرُ» أنَّ «وقوله {مَا اتخذ
صَاحِبَةً} مستأنَفٌ فيه تقريرٌ لتعالِي جَدِّه.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/234)
وَأَلَّوِ
اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً
غَدَقًا (16)
وقوله: (وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ
وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11)
(قِدَدًا) متفرقون، أي كنا جماعات، متفرقين، مُسْلِمِينَ وغير
مسلمين.
* * *
قوله: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ
فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14)
هذا تفسير قولهم: (كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا)، والقاسطون:
الجائرون.
وقوله (فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا).
يعني قصدوا طريق الحق والرشد، ولا أعلم أَحَدأ قرأ في هذه
السورة
رُشْداً، والرُّشْد والرَّشَدُ يجوز في العربية، إلا أن أواخر
الآي فيما قَبْلَ الرَّشَد
وبَعْدَه على الفتح، مبني على فَعَل، فأواخر الآي أن يكون على
هذا اللفظ
وتَسْتَوي أَحْسَنُ، فإن ثبتت في القراءة بها رواية فالقراءة
بها جائزة.
ولا يجوز أن تقرأ بما يجوز في العربية إلا أن تثبت بذلك رواية
وقراءة عن إمام يقتدى بقراءته، فإن اتباع القراءة السنة، وتتبع
الحروف الشواذ والقراءة بها بدعة.
* * *
قوله: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا
(15)
يقال قسط الرجل إذَا جَارَ، وأَقسط إذَا عَدَل.
* * *
وقوله: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ
لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ)
وهذا تفسيره لو استقاموا على الطريقة التي هي طريق الهدي
لأسْقَيْنَاهُمْ
مَاءً غَدَقًا غَدَقاً.
والغَدَقَ الكثير، ودليل هذا التفسير قوله عزَّ وجلَّ: (وَلَوْ
أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا
عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).
وكقوله: (لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِهِمْ)
وقد قيل إنه يعني به: لو استقاموا على طريقة الكفر.
ودليلٍ هذا التفسير عندهم قوله تعالى:
(5/235)
وَأَنَّهُ لَمَّا
قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ
لِبَدًا (19)
(وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً
وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ
لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا
يَظْهَرُونَ (33).
والذي يختار وهو أكثر التفسير أن يكون يعنى بالطريقة طريق
الهدى.
لأن الطريقة معَرفَة بالألف واللام.
والأوجب أن يكون طريقة الهدى. واللَّه أعلم.
* * *
وقوله: (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ
رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
لنختبرهم بذلك.
وقوله: (وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ
عَذَابًا صَعَدًا).
معناه - واللَّه أعلم - عذاباً شَاقًّا، وقيل صخرة في جهنم -
وهي في اللغة
- واللَّه أعلم - طريقة شَاقَّة مِنَ العذاب.
يقال: قد وقع القوم في صَعودٍ وَهَبُوطٍ، إذا كانوا في غير
استواء وكانوا في طَرِيقة شاقَّة.
ويقرأ (لأسقيناهم ماء غَدِقا)، والغدق المصدر، والغَدِق اسم
الفاعل، تقول: غَدِق يَغْدَقُ غَدَقَا فَهو غَدِق، إذا كَثُر
الندى في المكان أو الماء.
* * *
وقوله: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ
اللَّهِ أَحَدًا (18)
معناه الأمر بتوحيد الله في الصلوات.
وقيل المساجد مواضع السجود من الإنسان، الجبهة والأنف واليدان
والركبتان والرجْلَانِ.
و" أن " ههنا يصلح أن يكون في موضع نصب ويصلح أن يكونَ في
مَوْضِع
جَرٍّ.
والمعنى لأن المساجد لِلَّهِ. فلا تدعوا مع الله أَحَداً، فلما
حذفت اللام صار
الموضع موضع نَصْبٍ.
ويجوز أن يكون جَرًّا وإن لم تظهر اللام، كما تقول العرب:
وَبَلَدٍ ليس به أنيس. تريد رُبَّ بَلَدٍ.
* * *
وقوله: (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ
كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
(5/236)
إِلَّا مَنِ ارْتَضَى
مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ رَصَدًا (27)
ويَقرأ (لُبَداً)، ويجوز (لُبَّداً).
والمعنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صَلَّى الصبْحَ
بذات
نخلة كادت الجن - لما سمعوا القرآن وتعجبوا منه - أن يسقطوا
على النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وقيل كادوا يعني به جميع الملأ التي تظاهرت على النبي - صلى
الله عليه وسلم -
ومعنى (لُبَداً) يركب بعضه بعضا، وكل شيء ألصقته بشيء إلصاقاً
شديداً فقد لبدته ومن هذا اشتقاق هذه اللبود التي تفرش.
فأما من قرأ لَبِدًا فهو جمع لِبْدَة ولبَد.
ومن قرأ لُبَداً نهو جمع لُبْدَة وَلُبَدَة ولِبْدَة فني معنى
واحِدٍ.
ومعنى من قرأ (لُبَّداً) فهو جمع لابد ولُبدٍ، مثل رَاكِع
وَرُكَّعٍ وغازٍ وغُزًّى (1).
* * *
قوله: (قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ
وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22)
أي، مَنْجًى إلا أن اشتقاقه من اللحد، وهو مثل
(لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا)
فالملتحد من جنس المُدَّخَل.
* * *
ونَصَبَ (إِلَّا بَلَاغًا) على البدل من قوله (مُلْتَحَدًا).
المعنى ولن أجد من دونه منجى إلا بلاغاً أي لا ينجيني إلا
أن أبلغ عن الله ما أرسلتُ به.
* * *
وقوله: (قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ
يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25)
أي بُعْدًا، كما قال: [(وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ
مَا تُوعَدُونَ)].
* * *
قوله: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ
أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)
هذه الآية توجب على من ادعى أنَّ النُّجومَ تدلُّه على ما يكون
من حياة وموت وغير ذلك أن قد كفر بما في القرآن.
وكذلك قوله: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ). والاستثناء بقوله:
(إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ
بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27)
معناه أنه لا يظهر على غَيْبه إلا الرسُلَ، لأن الرسُلَ يستدل
على نبوتهم
بالآيات المعجزات، وبأن يخبروا بالغيب فيعلم بذلك أنهم قد
خالفوا غير
الأنبياء.
ثم أعلم عزَّ وجلَّ أنه يحفظ ذلك بأن يَسْلُك (مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا).
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {لِبَداً} قرأ هشام بضمِّ اللامِ، والباقون بكسرِها.
فالأولى. جمعُ لُبْدَة بضمِّ اللامِ نحو: غُرْفة وغُرَف. وقيل:
بل هو اسمٌ مفردٌ صفةٌ من الصفاتِ نحو: «حُطَم»، وعليه قولُه
تعالى: {مَالاً لُّبَداً} [البلد: 6]. وأمَّا الثانيةُ: فجمعُ
«لِبْدَة» بالكسر نحو: قِرْبَة وقِرَب. واللِّبْدَة
واللُّبْدة. الشيءُ المتلبِّدُ أي: المتراكبُ بعضُه على بعضٍ،
ومنه لِبْدَة الأسد كقولِه:
4358. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . له
لِبْدَةٌ أظفارُه لم تُقَلَّم
ومنه «اللِّبْدُ» لتَلَبُّدِ بعضِه فوق بعض، ولُبَدٌ: اسمُ
نَسْرِ لُقمانَ ابنِ عادٍ، عاش مِئَتي سنةٍ حتى قالوا: «طال
الأمَدُ على لُبَدٍ» والمعنى: كادَتِ الجِنُّ يكونون عليه
جماعاتٍ متراكمةً مُزْدَحمِيْن عليه كاللَّبِدِ.
وقرأ الحسنُ والجحدريُّ «لُبُداً» بضمتين، ورواها جماعةٌ عن
أبي عمروٍ، وهي تحتملُ وجهَيْنِ، أحدُهما: أَنْ يكونَ جمعَ
لَبْد نحو: «رُهُن» جمعَ «رَهْن». والثاني: أنَّه جمعُ
«لَبُود» نحو: صَبورُ وصُبُر، وهو بناءُ مبالغةٍ أيضاً. وقرأ
ابن مُحَيْصن بضمةٍ وسكونٍ، فيجوزُ أَنْ تكونَ هذه مخففةً من
القراءةِ التي قبلها، ويجوزُ أن تكونَ وَصْفاً برأسِه. وقرأ
الحسن والجحدريُّ أيضاً «لُبَّداً» بضم اللام وتشديد الباء،
وهو جمعُ «لابِد» كساجِد وسُجَّد، وراكع ورُكَّع. وقرأ أبو
رجاء بكسرِ/ اللامِ وتشديدِ الباءِ وهي غريبةٌ جداً. اهـ
(الدُّرُّ المصُون).
(5/237)
لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ
أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ
وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
إذا نزل الملك بالوحي أرسل اللَّه معه
رصداً يحفظون الملك من أن
يأتي أحد من الجن فيستمع الوحيَ فيخبر به الكهنة فيخبروا به
الناس فيساؤوا
الأنبياء.
فأعلم الله أنه يسلك من بين يدي الملك ومن خلفه رَصَداً.
* * *
(لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ
وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا
(28)
فيجوز أن يكون ليعلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الرسالة
أتته ولم تصل إلى غيرهِ.
ويجوز أَنْ يكونَ - واللَّه أعلم - ليعلم اللَّه أن قد أبلغوا
رسالاته، وما بعده
يدل على هذا وهُوَ قوله: (وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ
وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا).
فهذا المضمر في (وَأَحْصَى) لله عزَّ وجلَّ لا لغيره.
ونصب (عدَداً) على ضربين، على معنى وأحصى كل شيء في حال
العَدَدِ، فلم تخفَ عليه سقوط ورقة ولا حَبَّةٍ في ظلمات الأرض
ولا رطب ولا يابِس، ويجوز أَن يكون (عَدَداً) في موضع المصدَرِ
المحمول على معنى وأحصى، لأن معنى أحصى وَعَدَّ كل شيء
عَدَداً.
(5/238)
أَوْ زِدْ عَلَيْهِ
وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
سُورَةُ المُزَّمِّل
(مَكِّيَّة)
ما خلا آيتين من آخرها مدنية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا
قَلِيلًا (2)
هذا خطاب للنبي عليه السلام، وقيل إنه نزل عليه هذا وعليه
قطيفة.
والْمُزَّمِّلُ أصله المُتَزَمِّل، ولكن التاء تدغم في الزاي
لقربها منها، يقال: تَزَمَّل
فُلان إذا تلفف بثيابه، وكل شيء لافف فَقَدْ زُمِّلَ.
قال امرؤ القيس:
كأَنّ أَبَاناً في أَفَانِينِ وَدْقِهِ. . . كبيرُ أُناسٍ في
بِجَادٍ مُزَمَّلِ
وقيل إنه كان مُتَزَمِّلًا في حال هيئة الصلاة.
* * *
قوله: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ
انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ
الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
فالمعنى - واللَّه أعلم - أن (نصفه) بدل من (الليل) كما تقول:
ضربت زيداً
رَأْسَهُ فإنما ذكرت زيداً لتؤكد الكلام، وهو أوكد من قولك
ضربت رأس زيداً فالمعنى قم نصف الليل إلا قليلاً أو انقص من
النصف أو زد على النصف، وذكَر (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا)
بمعنى إلا قليلاً ولكنه ذُكِرَ مَع الزِيادة، فالمعنى قم نصف
الليل أو انقص من نصف الليل أو زد على نصف.
وهذا - واللَّه أعلم - قبل أن يقع فرض الصلوات الخمس (1).
ومعنى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ}: للناس في هذا كلامٌ كثيرٌ،
واستدلالٌ على جوازِ استثناءِ الأكثرِ والنصفِ، واعتراضاتٌ
وأجوبةٌ عنها. وها أنا أذكرُ ذلك مُحَرِّراً له بعون اللهِ
تعالى.
اعلم أنَّ في هذه الآيةِ ثمانيةَ أوجهٍ أحدُها: أنَّ «نصفَه»
بدلٌ من «الليلَ» بدلُ بعضٍ من كلٍ. و «إلاَّ قليلاً» استثناءٌ
من النصفِ كأنه قيل: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ. والضميرُ في
«مِنْه» و «عليه» عائدٌ على النصفِ.
والمعنى: التخييرُ بين أمرَيْنِ: بينَ أَنْ يقومَ أقلَّ مِنْ
نصفِ الليلِ على البَتِّ، وبين أَنْ يَخْتارَ أحدَ الأمرَيْن،
وهما: النُّقْصانُ من النصفِ والزيادةُ عليه، قاله الزمخشريُّ:
وقد ناقَشَه الشيخ: بأنه يَلْزَمُه تكرارٌ في اللفظِ؛ إذ يَصير
التقديرُ: قُم نِصفَ الليلِ إلاَّ قليلاً مِنْ نِصْفِ الليل،
أو انقُصْ مِنْ نصفِ الليل. قال: «وهذا تركيبٌ يُنَزَّهُ
القرآنُ عنه». قلت: الوجهُ فيه إشكالٌ، لا من هذه الحيثية
فإنَّ الأمرَ فيها سهلٌ، بل لمعنىً آخرَ [سأَذْكرهُ قريباً إنْ
شاء الله].
وقد جعل أبو البقاءِ هذا الوجهَ مرجوحاً فإنه قال: «والثاني هو
بدلٌ مِنْ قليلاً يعني النصف قال:» وهو أَشبهُ بظاهرِ الآية
لأنه قال: «أو انقُصْ منه أو زِدْ عليه»، والهاءُ فيهما
للنِّصْفِ. فلو كان الاستثناءُ من النصف لصار التقديرُ: قُم
نصفَ الليل إلاَّ قليلاً أو انقُصْ منه قليلاً، والقليلُ
المستثنى غيرُ مقدَّر، فالنقصانُ منه لا يُعْقَلُ «. قلت:
الجوابُ عنه: أنَّ بعضَهم قد عَيَّنَ هذا القليلَ: فعن
الكلبيِّ ومقاتلٍ: هو الثلثُ، فلم يكن القليلُ غيرَ مقدَّرٍ.
ثم إنَّ في قولِه تناقضاً لأنه قال:» والقليلُ المستثنى غيرُ
مقدَّرٍ، فالنقصانُ منه [لا يُعْقَل «] فأعاد الضميرَ على
القليل، وفي الأولِ أعادَه على النصفِ.
ولقائلٍ أن يقولَ: قد يَنْقَدحُ هذا الوجهُ بإشكالٍ قويٍّ: وهو
أنَّه يَلْزَمُ منه تكرارُ المعنى الواحدِ: وذلك أنَّ قولَه:»
قُمْ نِصْف الليلِ إلاَّ قليلاً «بمعنى: انقُصْ مِنْ الليل؛
لأنَّ ذلك القليل هو بمعنى النقصانِ، وأنت إذا قلت: قُمْ نصفَ
الليلِ إلاَّ القليلَ مِن النصفِ، وقُمْ نصفَ الليل، أو انقُصْ
من النصفِ، وجدتَهما بمعنىً. وفيه دقةٌ فتأمَّلْه، ولم
يَذْكُرِ الحوفيُّ غيرَ هذا الوجهِ المتقدِّمِ، فقد عَرَفْتَ
ما فيه.
ومِمَّنْ ذَهَبَ إليه أبو إسحاقَ فإنه قال:» نصفَه «بدلٌ من»
الليل «و» إلاَّ قليلاً «استثناءٌ من النصفِ. والضميرُ في» منه
«و» عليه «عائدٌ للنصف. المعنى: قُمْ نصفَ الليل أو انقُصْ من
النصفِ قليلاً إلى الثلثِ، أو زِدْ عليه قليلاً إلى الثلثِ، أو
زِد عليه قليلاً إلى الثلثَيْن، فكأنَّه قال: قُمْ ثلثَيْ
الليلِ أو نصفَه أو ثلثَه».
قلت: والتقديراتُ التي يُبْرزونها ظاهرةٌ حسنةٌ، إلاَّ أنَّ
التركيبَ لا يُساعِدُ عليها، لِما عَرَفْتَ من الإِشكال الذي
ذكَرْتُه لك آنفاً.
الثاني: أَنْ يكونَ «نصفَه» بدلاً مِنْ «قليلاً»، وإليه ذهب
الزمخشريُّ وأبو البقاء وابنُ عطية. قال الزمخشريُّ: «وإنْ
شِئْتَ جَعَلْتَ» نصفَه «بدلاً مِنْ» قليلاً «، وكان تخييراً
بين ثلاثٍ: بين قيامِ النصفِ بتمامِه، وبين قيامِ الناقصِ منه،
وبين قيامِ الزائدِ عليه، وإنما وَصَفَ النصفَ بالقِلَّةِ
بالنسبة إلى الكلِّ». قلت: وهذا هو الذي جعله أبو البقاء
أَشْبَهَ مِنْ جَعْلِه بدلاً من «الليل» كما تقدَّمَ.
إلاَّ أنَّ الشيخ اعترض هذا فقال: «وإذا كان» نصفَه «بدلاً
مِنْ» إلاَّ قليلاً «فالضميرُ في» نصفَه «: إمَّا أَنْ يعودَ
على المبدلِ منه أو على المستثنى منه، وهو» الليلَ «، لا
جائِزٌ أَنْ يعودَ على المبدلِ منه؛ لأنه يَصيرُ استثناءَ
مجهولٍ مِنْ مجهولٍ؛ إذ التقديرُ: إلاَّ قليلاً نصفَ القليل،
وهذا لا يَصِحُّ له معنىً ألبتَّةََ، وإن عاد الضميرُ على
الليل فلا فائدةَ في الاستثناءِ من» الليل «، إذ كان يكونُ
أَخْصَرَ وأوضحَ وأَبْعَدَ عن الإِلباس: قُمِ الليلَ نصفَه.
وقد أَبْطَلْنا قولَ مَنْ قال:» إلاَّ قليلاً «استثناءٌ من
البدلِ، وهو» نصفَه «، وأنَّ التقديرَ: قُم الليلَ نصفَه إلاَّ
قليلاً منه، أي: من النصفِ. وأيضاً: ففي دَعْوى أنَّ» نصفَه
«بدلٌ مِنْ» إلاَّ قليلاً «والضميرُ في» نِصفَه «عائدٌ على»
الليل «، إطلاقُ القليلِ على النصفِ، ويَلْزَمُ أيضاً أَنْ
يصيرَ التقديرُ: إلاَّ نصفَه فلا تَقُمْه/، أو انقُصْ من
النصفِ الذي لا تقومه وهذا معنىً لا يَصِحُّ وليس المرادَ من
الآيةِ قطعاً».
قلت: نقولُ بجواز عَوْدِه على كلٍ منهما، ولا يَلْزَمُ محذورٌ.
أمَّا ما ذكره: مِنْ أنه يكونُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ
فممنوعٌ، بل هو استثناءُ معلومٍ من معلومٍ، لأنَّا قد
بَيَّنَّا أنَّ القليل قَدْرٌ معيَّنٌ وهو الثلثُ، والليل،
فليس بمجهولٍ. وأيضاً فاستثناءُ المُبْهَمِ قد وَرَدَ. قال
تعالى: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء:
66]. وقال تعالى: {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً
مِّنْهُمْ} [البقرة: 249] وكان حقُّه أَنْ يقولَ: لأنه بدلُ
مجهولٍ مِن مجهولٍ. وأمَّا ما ذكره مِنْ أَنَّ أَخْصَرَ منه
وأَوْضَحَ كيتَ وكيت: أمَّا الأخْصَرُ فمُسَلَّمٌ. وأمَّا أنه
مُلْبِس فممنوعٌ، وإنما عَدَلَ عن اللفظِ الذي ذكَرَه لأنه
أَبْلَغ.
وبهذا الوجهِ اسْتَدَلَّ مَنْ قال بجوازِ استثناءِ النصفِ
والأكثرِ. ووجهُ الدلالةِ على الأولِ: أنَّه جَعَلَ «قليلاً»
مستثنى من «الليل»، ثم فَسَّر ذلك القليلَ بالنصفِ فكأنه قيل:
قُمِ الليلَ إلاَّ نصفَه.
ووَجْهُ الدلالةِ على الثاني: أنَّه عَطَفَ «أو زِدْ عليه» على
«انقُصْ منه» فيكونُ قد استثنى الزائدَ على النصفِ؛ لأنَّ
الضميرَ في «مِنْه»، وفي «عليه» عائدٌ على النصفِ. وهو
استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ الكثرة إنما جاءَتْ بالعطفِ، وهو نظيرُ
أَنْ تقول: «له عندي عشرةٌ إلاَّ خمسةً ودرهماً ودرهماً»
فالزيادةُ على النصفِ بطريقِ العطفِ لا بطريقِ أن الاستثناءِ
أخرجَ الأكثرَ بنفسِه.
الثالث: أنَّ «نصفَه» بدلٌ من «الليلَ» أيضاً كما تقدَّم في
الوجه الأولِ، إلاَّ أنَّ الضميرَ في «منه» و «عليه» عائدٌ على
الأقلِّ من النصف. وإليه ذهب الزمخشري فإنه قال: «وإنْ شِئْتَ
قلت: لَمَّا كان معنى {قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ}
إذا أَبْدَلْتَ النصفَ من» الليل «: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ
الليل، رَجَعَ الضميرُ في» منه «و» عليه «إلى الأقلِّ من
النصفِ، فكأنه قيل: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ أو قُمْ أنقصَ
مِنْ ذلك الأقلِّ أو أزيدَ مِنْه قليلاً، فيكون التخييرُ فيما
وراءَ النصفِ بينه وبينَ الثُّلُثِ».
الرابع: أَنْ يكونَ «نصفَه» بدلاً مِنْ «قليلاً» كما تقدَّمَ،
إلاَّ أنَّك تجعلُ القليلَ الثاني رُبْعَ الليلِ. وقد أوضح
الزمخشريُّ هذا أيضاً فقال: «ويجوز إذا أَبْدَلْتَ» نصفَه
«مِنْ» قليلاً «وفَسَّرْتَه به أَنْ تجعلَ» قليلاً «الثاني
بمعنى نصفِ النصفِ، بمعنى الربع، كأنه قيل: أو انقص منه قليلاً
نصفَه، وتجعلَ المزيدَ على هذا القليل أعني الربعَ نصفَ الربع،
كأنه قيل: أو زِدْ عليه قليلاً نصفَه. ويجوزُ أَنْ تجعلَ
الزيادةَ لكونِها مُطْلَقَةً تتمَّةَ الثلثِ فيكون تخييراً بين
النصفِ والثلثِ والرُّبُع» انتهى. وهذه الأوجهُ التي
حَكَيْتُها عن أبي القاسم مِمَّا يَشْهدُ له باتِّساعِ عِلْمِه
في كتاب الله. ولَمَّا اتسَعَتْ عبارتُه على الشيخ قال: «وما
أوسعَ خيالَ هذا الرجلِ!! فإنه يُجَوِّزُ ما يَقْرُبُ وما
يَبْعُدُ». قلت: وما ضَرَّ الشيخَ لو قال: وما أوسعَ عِلْمَ
هذا الرجلِ!!.
الخامس: أَنْ يكونَ «إلاَّ قليلاً» استثناءً مِنْ القيامِ،
فتجعلَ الليلَ اسم جنسٍ ثم قال: «إلاَّ قليلاً» أي: إلاَّ
اللياليَ التي تترُكُ قيامَها عند العُذْرِ البيِّن ونحوِه:
وهذا النَّظر يَحْسُنُ مع القولِ بالنَّدْبِ، قاله ابنُ عطية،
احتمالاً مِنْ عندِه. وفي عبارته: «التي تُخِلُّ بقيامِها»
فأَبْدَلْتُها: «التي تَتْرُكُ قيامَها». وفي الجملة فهذا
خلافُ الظاهرِ، وتأويلٌ بعيدٌ.
السادس: قال الأخفش: «إنَّ الأصل: قُم الليلَ إلاَّ قليلاً أو
نصفَه، قال:» كقولك: أَعْطِه درهماً درهَمْين ثلاثةً «.
أي: أو درهمَيْن أو ثلاثةً «. وهذا ضعيفٌ جداً؛ لأن فيه حَذْفَ
حرفِ العطفِ، وهو ممنوعٌ لم يَرِدْ منه إلاَّ شَيْءٌ شاذٌّ
يمكن تأويلُه كقولِهم:» أكلْتُ لحماً سَمَكاً تَمْراً «. وقول
الآخر:
4364 كيف أَصْبَحْتَ كيف أَمْسَيْتَ مِمَّا. . . يَزْرَعُ
الوُدَّ في فؤادِ الكريم
أي: لحماً وسمكاً وتمراً، وكذا كيف أصبَحْتَ وكيف أمسَيْتَ.
وقد خَرَّجَ الناس هذا على بَدَلِ البَداء.
السابع: قال التبريزيُّ:» الأمرُ بالقيام والتخييرُ في
الزيادةِ والنقصان، وقعَ على الثلثَيْن مِنْ آخرِ الليلِ؛
لأنَّ الثلثَ الأولَ وقتُ العَتَمَةِ، والاستثناءُ واردٌ على
المأمورِ به، فكأنه قال: قُمْ ثُلُثي الليلِ إلاَّ قليلاً، أي:
ما دونَ نصفِه، أو زِدْ عليه، أي: على الثلثَيْنِ، فكان
التخيير في الزيادةِ والنقصانِ واقعاً على الثلثَيْن «وهو
كلامٌ غريبٌ لا يَظْهَرُ من هذا التركيبِ.
الثامن: أنَّ» نصفَه «منصوبٌ على إضمارِ فِعْلٍ/، أي: قُمْ
نصفَه، حكاه مكيٌّ عن غيرِه، فإنَّه قال:» نصفَه بدلٌ من
«الليل» وقيل: انتصبَ على إضمارِ: قُمْ نصفَه «. قلت: وهذا في
التحقيقِ هو وجهُ البدلِ الذي ذكرَه أولاً؛ لأنَّ البدلَ على
نيةِ تَكْرارِ العاملِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/239)
وَاذْكُرِ اسْمَ
رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)
بينْه تبييناً، والتبيين لا يتم بأن يعجل
في القرآن، إنما يتم بأن تبين
جميع الحروف وتوفي حَقَها في الإشباع.
* * *
قوله - عزَّ وجلَّ -: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا
ثَقِيلًا (5)
جاء في التفسير أنه يثقل العمل به، لأن الحلال والحرام
والصلاةَ
والصيَامَ وجميع ما أمر اللَّه به أن يعمل، ونهى عنه، لا يؤديه
أحد إلا بتكلف
ما يثقل عليه.
ويجوز على مذهب أهل اللغة أن يكون معناه أنه قول له وَزْن في
صِحتِه
وبيانه ونفعه، كما تقول: هذا كلام رَصِينٌ، وهذا قول له وَزْن،
إذا كنت
تستجيدُه وتعلم أنه قد وقع موقع الحكمة والبيانِ.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ
وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6)
(وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا)
وتقرأ: (وِطْاءً وَأَقْوَمُ قِيلًا).
(نَاشِئَةَ اللَّيْلِ) ساعات الليل كلها، كلما نَشَأ منه، أي
كل مأ حدث منه
فهو ناشئة، ومعنى هي أَشَدُّ وَطْئًا أي أشد مواطأة لتقلب
السمع.
ومَنْ قَرَأَ (وَطْئًا) - بفتح الواو - فمعناه هي أبلغ في
القيامِ وأبين في القول، ويجوز أن يكون أشد وطأ أغلظ على
الإنسانِ من القيام بالنهار، لأن الليل جُعِلَ لِيُسْكنَ فيه.
وقيل أشد وَطئًا أي أبلغ في الثواب، لأن كل مجتهد فثوابه عَلَى
قَدْرِ اجتهاده.
* * *
قوله: (إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7)
معناه فراغاً طويلاً ومتصرفاً طويلاً.
* * *
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8)
أي إن فاتك شيء من الليل فلك في النهار فراغ.
(5/240)
إِنَّ لَدَيْنَا
أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12)
وقرئت (سَبْخاً) بالخاء معجمة، والقراءة
بالحاء غيرمعجمة، ومعنى
(سبخاً) صحيح في اللغة، يقال للقطعة من القطن سبخة، ويقال سبخت
القطن بمعنى نفشته، ومعنى نَفشتُه وسَعتُه، فالمعنى على ذلك أن
لك في
النهار توسُّعاً طويلا، وَمَعْناه قريب من معنى السبح (1).
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا)
المعنى واذكر اسم ربك بالنهار، ومعنى (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ)
انقَطِعِ إليه في العِبَادَةِ
ومن هذا قيل لمريم عليها السلام البتول لأنها انقطعت إلى اللَه
جل ثناؤه في
العبادة، وكذلك صدقة بتلة منقطعة من مال المصدق وخارجة إلى
سُبُل اللَّه.
والأصل في المصدر في تبتل تَبتَّلْتُ تَبْتِيلًا، وبَتلْتُ
تبتيلًا، فتبتيلاً محمول
على معنى تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا.
* * *
قوله: (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا
هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)
أي اتخذه كفيلاً بما وعدك.
* * *
وقوله: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا
جَمِيلًا (10)
هذا يدل - واللَّه أعلم - قبل أن يؤمر المسلمون بالقتال.
* * *
(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ
وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11)
ومثله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11).
فإن قال قائل ما مجاز ذَرْني؟ واللَّه - عزَّ وجلَّ - يفعل ما
يشاء، لا يحول
بينه وبينٍ إرادته حائل؟
فالجواب في ذلك أن العرب إذا أرادت أن تَأْمُرَ الإنسان بأَن
له همة بأمْرٍ أو بإنْسَانٍ تقول: دعني وزيداً، ليس أنه حال
بينه وبَيْنَ
زَيدٍ أَحَدٌ، ولكن تأويله لا تَهْتَمَّ بزيدٍ فإني أكفيكه.
* * *
وقوله: (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12)
الأنكال واحدها نِكْل.
وجاء في التفسير أنه ههنا قُيُودٌ مِنْ نَارٍ.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {سَبْحَاً}: العامَّةُ على الحاء المهملة وهو مصدرُ
سَبَحَ، وهو استعارةٌ، استعارَ للتصرُّفِ في الحوائجِ
السِّباحةَ في الماءِ، وهي البُعْدُ فيه. وقرأ يحيى بن يعمر
وعكرمة وابنُ أبي عبلة سَبْخاً «بالخاء المعجمةِ. واختلفوا في
تفسيرِها، فقال الزمخشري:» استعارةً مِنْ سَبْخِ الصُّوفِ: وهو
نَفْشُه ونَشْرُ أجزائِه لانتشارِ الهَمِّ وتفرُّقِ القلبِ
بالشواغل. وقيل: التَّسبيخُ: التخفيفُ، حكى الأصمعيُّ: سَبَخَ
الله عَنَك الحُمَّى، أي: خَفَّفَها عنك. قال الشاعر:
4366 فَسَبِّخْ عليكَ الهَمَّ واعلمْ بأنَّه. . . إذا قَدَّرَ
الرحمنُ شيئاً فكائِنُ
أي: خَفِّفَ. ومنه «لا تُسَبِّخي بدُعائِك»، أي: لا تُخَفِّفي.
وقيل: التَّسْبيخ: المَدُّ. يقال: سَبِّخي قُطْنَكِ، أي:
مُدِّيه، والسَّبيخة: قطعة من القطن. والجمعُ سبائخُ. قال
الأخطل يصف صائِداً وكلاباً:
4367 فأَرْسَلوهُنَّ يُذْرِيْنَ الترابَ كما. . . يُذْرِيْ
سبائخَ قُطْنٍ نَدْفُ أوتارِ
وقال أبو الفضل الرازي: «وقرأ ابن يعمرَ وعكرمة» سَبْخاً
«بالخاء معجمةَ وقالا: معناه نَوْماً، أي: يَنامُ بالنهار
ليَسْتعينَ به على قيام الليل. وقد تحتمِلُ هذه القراءةُ غيرَ
هذا المعنى، لكنهما فَسَّراها فلا تَجاوُزَ عنه». قلت: في هذا
نظرٌ؛ لأنهما غايةُ ما في البابِ أنَّهما نقلا هذه القراءةَ،
وظَهَرَ لهما تفسيرُها بما ذكرا، ولا يَلْزَمُ مِنْ ذلك أنَّه
لا يجوزُ غيرُ ما ذَكَرا مِنْ تفسيرِ اللفظة.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/241)
السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ
بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
(وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا
أَلِيمًا (13)
طعامهم الضريع كما قال عزَّ وجلَّ: (لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ
إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6).
وهو الشبْرَقُ، وهو شوك كالعَوْسَج.
* * *
وقوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ
الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14)
(يَوْمَ) منصوب معلق بقوله (إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا
وَجَحِيمًا)، أي ينكل [بالكافرين]
ويُعَذَبهم (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ)، وترجف
تزلزل وتحرك أغلظ حركة.
(وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا).
والكثيب جمعه الكثبان، وهي القِطَع العظام من الرمل.
ومعنى (مَهِيلًا) سَائِلا قد سيلَ، وَأَصْل مَهيل مَهْيُول،
يقال تراب مهيل وتراب مهيول أي مَصْبُوب فسَئل، والأكثر مهيل،
وإنما حذفت الواو لأن الياء تحذف منها الضمة في مَهْيُول فتسكن
هي والواو وتحذف الواو لالتقاء السَّاكنين وقد شرحنا هذا في
مثلَ هذا الموضع أكثر من هذا الشرح، واختصرنا على ما سلف
لاختلاف النحويين فيه، وأنه يطولُ شرحُه في هذا الكتاب.
* * *
وقونه: (فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16)
الوبيل الثقيل الغليظ جدًّا، ومن هذا قيل للمطر الغليظ العظيم
وابل.
* * *
وقوله: (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ
الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)
المعنى فكيف تتقون يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا إن
كفرتم، أي بأي شيء
[تتحصَّنون] من عذاب اللَّه في يومٍ مِنْ هَولِه يشيب فيه
الصَّغَير من غير كِبَر.
وتذهل فيه كل مرضعة عمَّا أَرْضَعَت، وَتَرَى النَّاسَ سَكرَى
وَما همْ بِسَكرَى
ولَكِنَ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ، ثم وصف مِن هَوْل ذلك
اليَوْمِ أن قَالَ:
* * *
(السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
(5/242)
إِنَّ رَبَّكَ
يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ
وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ
وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ
تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ
الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ
يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا
تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ
وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ
خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ
اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
أي السماء تنشق به كما قال: (إِذَا
السَّمَاءُ انْشَقَّتْ).
وقيل في التفسير: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ) أي السماء
مثقلة باللَّهِ عزَّ وجلَّ (1).
* * *
وقوله: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ
ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ
الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا
مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ
مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ
مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا
حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ
تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا
وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ
ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ).
فمن قرأ (نِصْفَهُ) بالنًصْبِ (وَثُلُثَهُ) فهو بيِّنٌ حَسَن.
وهو تفسير مقدار قيامه لأنه لمَّا قال (أدنى من ثلثي الليل)
كان نصفه مبيناً لذلك الأدْنَى، وَمن قرأ و (نِصْفِهُ) و
(ثُلُثِهُ)، فالمعنى وَتَقُوم أدنى من نصفه وَمِنْ ثُلُثِه.
* * *
وقوله: (مُنْفَطِرٌ بِهِ).
ولم يقل منفطرة، ومنفطرة جائز وعليه جاء: (إذَا السَّمَاءُ
انْفَطَرَتْ).
ولا يجوز أن يقرأ في هذا الموضع السماء منفطرة؛ لخلاف المصحف.
والتذكير على ضربين:
أحدهما على معنى السماء معناه السقف، قال اللَّه عزَّ وجلَّ:
(وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا).
والوجه الثاني على قوله: امرأة مرضع، أي عَلَى جِهَةِ
النَسَبِ.
المعنى السماء ذات انفطار، كما تقول امرأة مرضع أَيْ ذات
رَضَاعٍ.
* * *
وقوله: (أُولِي النَّعْمَةِ).
النعمة التنعم، والنِّعْمَةِ اليَدُ الجميلة عِنْدَ الِإنسان
والصنع من اللَّه
تعالى ولو قرئت أولي النِّعْمَةِ لكان وَجْهاً، لأن المنعم
عليهم يكونون مؤمنين
وغير مؤمنين، قال اللَّه جل ثناؤه: (صِرَاطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ).
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ}: صفةٌ أخرى، أي:
مُتَشَقِّقة بسبب هَوْلِه: وإنما لم تُؤَنَّثِ الصفةُ لأحدِ
وجوهٍ منها: تأويلُها بمعنى السَّقْفِ. ومنها: أنها على
النَّسَبِ أي: ذات انفطارٍ نحو: مُرْضِعٍ وحائضٍ. ومنها: أنها
تُذَكَّر وتؤنَّثُ: أنشد الفراء:
4376 ولو رَفَعَ السَّماء إليه قوماً. . . لَحِقْنا بالسَّماءِ
وبالسَّحابِ
ومنها: أنَّها اسمُ جنسٍ يُفْرَّقُ بينه وبين واحدِه بالتاءِ
فيقال: سَماءة وقد تقدَّم أنَّ في اسم/ الجنسِ والتذكيرَ
والتأنيثَ؛ ولهذا قال الفارسي: «هو كقولِه: {جَرَادٌ
مُّنتَشِرٌ} [القمر: 7] {الشجر الأخضر} [يس: 80] و {أَعْجَازُ
نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] يعني فجاء على أحد الجائزَيْن.
والباءُ فيه سببيَّةٌ كما تقدَّم. وجَوَّز الزمخشريُّ أَنْ
تكونَ للاستعانةِ، فإنه قال:» والباءُ في «به» مِثْلُها في
قولِك: «فَطَرْتُ العُوْدَ بالقَدُومِ فانْفَطر به».
قوله: {وَعْدُهُ} يجوزُ أَنْ يكونَ الضميرُ لله تعالى، وإنْ لم
يَجْرِ له ذِكْرٌ للعِلْمِ به، فيكونُ المصدرُ مضافاً لفاعلِه.
ويجوزُ أَنْ يكونَ لليومِ، فيكونَ مضافاً لمفعولِه. والفاعلُ
وهو اللَّهُ تعالى مُقَدَّرٌ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/243)
وقوله - جَل وَعَزَّ -: (وَمَا تُقَدِّمُوا
لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ
خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا).
معناه خيراً لكم من متاع الدنيا.
و (خَيْرًا) منصوب مفعول ثانٍ لـ (تَجِدُوهُ)
ودخلت " هو " فصلاً.
وقد فسرنا ذلك فيما سلف من الكتاب، ولو كان في غير القرآن لجاز
تجدوه هو خير. فكنت ترفع بـ هُوَ، ولكن النصب أجود في العربية.
ولا يجوز في القرآن غيره.
(5/244)
وَلَا تَمْنُنْ
تَسْتَكْثِرُ (6)
سُورَةُ الْمُدَّثِّر
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1)
القراءة بتشديد، والأصلُ المُتَدَثِّر، والعلة فيها كالعلَّةِ
فِي المُتَزمِّل.
وتفسيرها كتفسير المزَمِّل. وقد رويت المُتَدَثر - بالتاء -
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3)
أي صفه بالتعظيم وأنه أكَبرَ، ودخلت الفاء على معنى جواب
الجزاء.
المعنى قم فأنذر أي قم فكبر رَبَّكَ.
(وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)
مثلها، وتأويل (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي لا تكن غادِراً.
يقال للغادر دَنَس الثياب، ويكون (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي
نَفْسَك فطهر.
وقيل (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ) أي ثيابك فقصر لأن تَقْصِيرَ
الثَوبِ أَبعدُ مِنَ النجاسة وأنه إذا انجر على الأرض لم يؤمن
أن يُصِيبَه ما ينجسه.
* * *
(وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5)
(وَالرِّجْزَ)
بكسر الراء، وقرئت بضم الراء، ومعناهما واحد.
وَتَأْوِيلُهما اهجر عبادة الأوثان.
والرجز في اللغة العذاب، قال اللَّه تعالى: (وَلَمَّا وَقَعَ
عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ).
فالتأويل على هذا ما يؤدي إلى عذاب الله فاهجره.
* * *
(وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6)
أي لا تعط شيئاً مقَدِّراً أن تأخذ بدله ما هو أكثر منه،
وتستكثر حال
(5/245)
إِنَّهُ فَكَّرَ
وَقَدَّرَ (18)
مُتَوَقعَة وهذا للنبي - صلى الله عليه
وسلم - خاصة وليس على الإنسان إثم أن يهدي هديَّةً يرجو بها ما
هو أكثر منها، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أدَّبَّه الله
بأشرف الآداب وأجل الأخلاق.
* * *
وقوله: (فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ
يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)
الناقور الصُّورُ، وقيل في التفسير إنه يعني به النفخة الأولى.
و (يَوْمٌ عَسِيرٌ) يرتفع بقوله: (فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ).
المعنى فذلك يَوْمٌ عَسِيرٌ يوم ينفخ في الصور
و" يَوْمَئِذٍ: يجوز أَنْ يكونَ رَفْعاً، ويجوز أن يكون
نَصْباً.
فإذا كان رفعاً فإنما بني على الفتح لإضافته إلى (إذ) لأن (إذ)
غير متمكنة، وإذا كان نصباً فهو على معنى فذلك يوم عَسِيرٌ في
يوم ينفخ في الصور.
* * *
وقوله: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11)
قد فسرنا معنى (ذَرْنِي) في المزمل.
و (وَحِيدًا) مَنْصُوبٌ على الحال، وهو على وجهين:
أحدهما أن يكون وحيداً من صفة اللَّه - عزَّ وجلَّ - المعنى
ذَرْنِي
ومن خلقته وَحْدي لم يشركني في خلقه أحَدٌ، وَيكونُ (وَحِيدًا)
من صفة
المخلوق، ويكون المعنى، ذرني ومن خلقته وحده لا مالَ له ولا
ولَد.
* * *
(وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا
(13)
تقديره مال غير منقطع عنه، وقيل ألف دينار، وبنين شهُوداً، أي
شهودٌ
معه لا يحتاجون إلى أن يتصرفوا ويغيبوا عنه.
وهذا قيل يعنى به الوليد بن المُغِيرَة، كان له بنون عشرة وكان
مُوسِراً
* * *
وقوله: (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17)
أي سأحمله على مَشَقَّةٍ مِنَ العَذَاب.
* * *
قوله: (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ
قَدَّرَ (19)
معنى - (قُتِلَ) ههنا لُعِنَ، ومثله: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ
(10).
(5/246)
عَلَيْهَا تِسْعَةَ
عَشَرَ (30)
وكان الوليد بن المغيرة قال لرؤساء أهل
مكة، قد رأيتم هذا الرجل - يعني
النبي - صلى الله عليه وسلم - وعلمتم ما فشا من أمره، فإن
سألكم الناس عنه ما أنتم قائلون.
قالوا نقول: هو مجنون، قال: إذن يخاطبوه فيعلموا أنه غير
مجنون.
قالوا فنقول: إنه شاعر، قال: هم العرب، يعلمون الشعر
ويعْلَمُونَ أَنَ ما أتى به لَيْسَ بِشِعْرٍ.
قالوا: فنقول إنه كاهن، قال الكهنة لا تقول إنه يكون كذا وكذا
إن
شاء اللَّه وهو يقول إن شاء الله، فقالوا قَدْ صَبَأَ الوليد.
وجاء أبو جَهْل ابن أخيه، فقالوا: إن القوم يقولون إنك قد
صبوت.
وقد عَزَمُوا على أن يجمعوا لك مالًا فيكون عِوَضاً مِما تقدر
أنْ
تَأخُذَ من أصحاب محمد، فقال: واللَّه ما يَشْبَعُونَ، فكيف
أقْدِرُ أن
آخذَ منهم مَالًا وإني لَمِنْ أَيْسَر الناس، ومر به جماعة
فذكروا له ما أتى به
النبي - صلى الله عليه وسلم - ففكر وعَبَس وجهه وَبَسَر، أي
نظر بكراهة شَدِيدَةٍ.
فقال: ما هذا الذي أتى به محمد إلَّا سِحرٌ يأثره عن مسَيْلمة
وعن أهل بابل.
* * *
(إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)
أي ما هذا إلا قول البشر.
* * *
(سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26)
(سَقَر) لا ينصرف لأنها معرفة، وهي مؤنثة، وسَقَر اسم من أسماء
جهنم.
ثم أعلم اللَّه تعالى شأن سقر في العذاب فقال:
* * *
(وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27)
تأويله وما أعلمك أي شيء سقر فقال:
(لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29)
البشر جمع بَشَرةٍ، أي تحرق الجلْدَ حَتَّى يَسْودَّ.
* * *
(عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30) (1)
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}: هذه الجملةُ فيها وجهان
أعني: الحاليةَ والاستئنافَ وفي هذه الكلمةِ قراءاتٌ شاذةٌ،
وتوجيهاتٌ تُشاكِلُها. وقرأ أبو جعفر وطلحةُ «تسعَة عْشَر»
بسكون العين مِنْ «عَشر» تخفيفاً لتوالي خمسِ حركاتٍ مِنْ جنسٍ
واحدٍ/ وهذه كقراءةِ {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} [يوسف: 4]، وقد
تقدَّمَتْ.
وقرأ أنسٌ وابنُ عباس «تسعةُ» بضمِّ التاء، «عَشَرَ» بالفتح،
وهذه حركةُ بناءٍ، ولا يجوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ كونُها إعراباً؛
إذا لو كانَتْ للإِعرابِ لَجُعِلَتْ في الاسمِ الأخيرِ
لِتَنَزُّلِ الكلمتَيْن منزلةَ الكلمةِ الواحدةِ، وإنما عُدِل
إلى الضمة كراهةَ توالي خمسِ حركاتٍ. وعن المهدويِّ. «مَنْ
قرأ» تسعةُ عَشَر «فكأنه من التداخُلِ كأنه أراد العطفَ فتركَ
التركيبَ ورَفَعَ هاءَ التأنيث، ثم راجَعَ البناءَ وأسكنَ»
انتهى. فَجَعَلَ الحركةَ للإِعرابِ. ويعني بقولِه «أسكنَ»، أي:
أسكنَ راءَ «عشر» فإنه هذ القراءة كذلك.
وعن أنس أيضاً «تسعةُ أَعْشُرَ» بضم «تسعةُ» وأَعْشُرَ بهمزةٍ
مفتوحةٍ ثم عينٍ ساكنةٍ ثم شين مضمومة. وفيها وجهان، قال أبو
الفضل: «يجوزُ أَنْ يكونَ جَمعَ العَشَرةَ على أَعْشُر ثم
أجراه مُجْرى تسعة عشر». وقال الزمخشري: «جمع عَشير، مثل يَمين
وأَيْمُن. وعن أنسٍ أيضاً» تسعَةُ وَعْشُرَ «بضم التاءِ وسكونِ
العينِ وضمِّ الشين وواوٍ مفتوحةٍ بدلَ الهمزةِ. وتخريجُها
كتخريجِ ما قبلَها، إلاَّ أنَّه قَلَبَ الهمزةَ واواً مبالغةً
في التخفيفِ، والضمةُ كما تقدَّم للبناءِ لا للإِعرابِ. ونقل
المهدويُّ أنه قُرِىءَ» تسعةُ وَعَشَرْ «قال:» فجاء به على
الأصلِ قبلَ التركِيبِ وعَطَفَ «عشراً على تسعة» وحَذَفَ
التنوينَ لكثرةِ الاستعمالِ، وسَكَّنَ الراءَ مِنْ عشر على
نيةِ الوقفِ.
وقرأ سليمان بن قتة بضمِّ التاءِ، وهمزةٍ مفتوحةٍ، وسكونِ
العين، وضم الشين وجرِّ الراءِ مِنْ أَعْشُرٍ، والضمةُ على هذا
ضمةُ إعرابٍ، لأنه أضاف الاسمَ لِما بعده، فأعربَهما إعرابَ
المتضايفَيْنِ، وهي لغةٌ لبعضِ العربِ يَفُكُّون تركيبَ
الأعدادِ ويُعْرِبُونهما كالمتضايفَيْنِ كقول الراجز:
4393 كُلِّفَ مِنْ عَنائِه وشِقْوَتِهْ. . . بنتَ ثماني
عَشْرَةٍ مِنْ حَجَّتِهْ
قال أبو الفضل: «ويُخْبَرُ على هذه القراةِ وهي قراءةُ مَنْ
قرأ» أَعْشُر «مبنياً أو معرباً من حيث هو جمعٌ أنَّ الملائكةَ
الذين هم على سَقَرَ تسعون مَلَكاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/247)
وَاللَّيْلِ إِذْ
أَدْبَرَ (33)
أي على سقر تِسْعَةَ عَشَرَ مَلَكاً،
وَوَصَفَهُم اللَّه في موضع آخر فقال:
(عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ
مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6).
الذي حكاه البَصْرِيون تسعَةَ عَشر بفتح العين في عَشَر.
وقد قرئت بتسكين العَيْنِ، والقراءة بفتحها، وإنما أسكنها من
أسكنها لكثرة الحركات، وذلك أَنَهمَا اسمَانِ جُعِلاَ اسماً
وَاحِداً، ولذلك بُنِيَا على الفتح، وقرأ بَعْضهم تسعَةُ عَشَر
فأعربت على الأصل، وذلك قليل في النحو، والأجود تِسعةَ عَشَر
على البناء على الفتح، وفيها وجة آخر
" تِسْعَة أعْشرٍ "، وهي شاذَّة، كأنَّها على
جمع فعيل وأَفْغل، مثل يَمِين وأَيْمُن (1).
* * *
وقوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا
مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا
يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ
وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ
مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ
اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ
جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى
لِلْبَشَرِ (31)
(وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا).
أَيْ مِحْنَةً، لأن بعضهم قال بعضنا يكفي هؤلاء.
وقوله: (لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ).
أي يعلمون أن ما أَتى به النبي عليه السلام موَافِقَاً لما في
كتبهم.
(وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا).
لأنهم كلَّمَا صَدقوا بما يَأتي في كتاب اللَّه عزَّ وجلَّ زاد
إيمانهم.
(وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ
وَالْمُؤْمِنُونَ)
أيْ لَا يَشكونَ.
وقوله: (وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ).
جاء في التفسير أن النار في الدنيا تذكر بالنار في الآخرة.
* * *
وقوله: (وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33)
ويقرأ (إِذْ دَبَرَ)، وكلاهما جَيِّدٌ في العربية.
يقال: دبر الليل وَأدْبَرَ، وكذلك قَبَل الليل وَأقْبَلَ.
وقد قرئت أيضاً (إِذَا أَدْبَرَ) (وَالصُّبْحِ إِذَا
أَسْفَرَ).
بإثبات الألف فيهما.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {إِذْ أَدْبَرَ}: قرأ نافعٌ وحمزةُ وحفصٌ «إذ» ظرفاً
لِما مضى مِنْ الزمانِ، «أَدْبَرَ» بزنةِ أَكْرَمَ. والباقون
«إذا» ظرفاً لِما يُسْتقبل، «دَبَرَ» بزنةِ ضَرَبَ، والرسمُ
محتملٌ لكلتَيْهما، فالصورةُ الخطيَّةُ لا تختلفُ. واختار أبو
عبيد قراءةَ «إذا» قال: لأنَّ بعدَه «إذا أَسْفَرَ» قال:
«وكذلك هي في حرفِ عبدِ الله» قلت: يعني أنَّه مكتوبٌ
بألفَيْنِ بعد الذالِ أحدُهما ألفُ «إذا» والأخرى همزةُ
«أَدْبَرَ». واختار ابنُ عباس أيضاً «إذا» ويُحْكى أنَّه
لَمَّا سَمِعَ «أَدْبَرَ» قال: «إنما يُدْبِر ظهرُ البعير».
واختلفوا: هل دَبَر وأَدْبَر، بمعنى أم لا؟ فقيل: هما بمعنىً
واحدٍ/ يقال: دَبَر الليلُ والنهارُ وأَدْبَرَ، وقَبَلَ
وأَقْبل. ومنه قولُهم «أمسٌ الدابرُ» فهذا مِنْ دَبَرَ، وأمسٌ
المُدْبر قال:
4394. . . . . . . . . . .
ذهبوا كأمس الدابِر
وأمَّا أَدْبَرَ الراكبُ وأَقْبل فرباعيٌّ لا غيرُ. هذا قولُ
الفراء والزجاج. وقال يونس: «دَبَرَ انقضى، وأَدْبَرَ تَوَلَّى
ففرَّق بينهما. وقال الزمخشري:» ودَبَرَ بمعنى أَدْبَرَ كقَبَل
بمعنى أَقْبَلَ. قيل: ومنه صاروا كأمسٍ الدابرِ، وقيل: هو من
دَبَرَ الليلُ النهارَ إذا خَلَفَه «.
وقرأ العامَّةُ» أسْفَرَ «بالألف، وعيسى بنُ الفضل وابن
السَّمَيْفَع» سَفَرَ «ثلاثياً». والمعنى: طَرَحَ الظلمةَ عن
وجهِه، على وجهِ الاستعارةِ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/248)
كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ
مُسْتَنْفِرَةٌ (50)
وقوله: (إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)
نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36)
هذه الهاء كناية عَنِ النَّارِ، أَي إنَّها لكبيرة في حَالِ
الِإنذار.
وَنَصْب (نَذِيرًا) على الحال، وذَكَّر (نَذِيرًا) لأنَّ
مَعْنَاهُ معنى العَذَابِ.
ويجوز أن يكون التذكير على قولهم امرأة طاهر وطالق، أي ذات
طلاقٍ وكذلك نذير ذات إنْذَارٍ.
ويجوز أَنْ يَكُونَ (نَذِيرًا) مَنْصُوباً مُعَلَّقا بأولِ
السورَةِ على معنى قم نذيراً
للبشرِ.
* * *
وقوله: (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ
يَتَأَخَّرَ (37)
أي أن يتقدم فيما أمر به أو يتأخر، فقد أنذرتم.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)
إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39)
قيل أصحابُ اليمين الأطْفَالُ لأنهم لا يسألون، تفضل اللَّه
عليهم بأن أعطاهم
الجنَّةَ، وكل نفْس رَهِينة بِعَمَلِهَا إما خَلَّصَهَا وإما
أوبَقَها.
والتخليص مع عملها بتفضل اللَّه.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45)
أي نَتًبعُ الغاوِينَ.
* * *
وقوله: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48)
يعني الكفار وفي هذا دليل أن المؤمنين تنفعهم شفاعة بعضهم
لِبَعْض.
* * *
وقوله: (فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49)
منصوب على الحال.
* * *
(كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50)
وقرئت مُسْتَنْفَرَة.
قال الشاعر:
(5/249)
وَمَا يَذْكُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ
الْمَغْفِرَةِ (56)
أمْسِكْ حِمَارَك إنَّه مُسْتَنْفِرُ. . .
في إثْرِ أَحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لِغُرَّبِ
(1)
* * *
وقوله: (فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51)
القسورةُ الأسَدُ، وقيل أيْضاً القَسورَةُ الرَّمَاة الذين
يَتَصَيدُونَها.
* * *
وقوله: (بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى
صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52)
قيل كانوا يقولون: كان مَن أذنب من بني إسْرَائِيلَ يجد ذنبه
مكتوباً من
غَدٍ عَلَى بَابِه فما بالنا لا نكون كذلك.
وَقَدْ جَاءَ في القرآنِ تفْسِيرُ طَلَبِهِمْ في سورة بني
إسرائيل في قوله:
(وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا
كِتَابًا نَقْرَؤُهُ).
* * *
وقوله: (هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
أَي هو أهل أَنْ يُتقَى عِقَابُه، وأهل أَنْ يُعمل بما يؤدي
إلى مغفرته.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {كَأَنَّهُمْ} هذه الجملةُ يجوزُ أَنْ تكونَ حالاً من
الضمير في الجارِّ، وتكون بدلاً مِنْ «مُعْرِضِيْنَ» قاله أبو
البقاء، يعني أنَّها كالمشتملة عيلها، وأنْ تكونَ حالاً من
الضميرِ في «مُعْرِضِين»، فتكونَ حالاً متداخلةً.
وقرأ العامَّةُ «حُمُرٌ» بضمِّ الميم، والأعمش بإسكانِها. وقرأ
نافعٌ وابنُ عامر بفتح الفاء مِنْ «مُسْتَنْفَرة» على أنه اسمُ
مفعولٍ، أي: نَفَّرها القُنَّاص. والباقون بالكسرِ بمعنى:
نافِرة: يُقال: استنفر ونَفَر بمعنى نحو: عَجِب واستعجب، وسخِر
واسْتَسْخر. قال الشاعر:
4398 أَمْسِكْ حِمارَكَ إنَّه مُسْتَنْفِرُ. . . في إثْرِ
أَحْمِرَةٍ عَمَدْنَ لغُرَّبِ
وقال الزمخشري: «كأنها تطلُبُ النِّفار مِنْ نفوسِها في
جَمْعِها له وحَمْلِها عليه» انتهى. فأبقى السينَ على بابِها
من الطَّلَبِ، وهو معنى حسن.
ورجَّحَ بعضُهم الكسرَ لقولِه «فَرَّتْ» للتناسُبِ. وحكى محمدُ
ابنُ سَلاَّم قال: «سألتُ أبا سَوَّار الغَنَويَّ وكان عربياً
فصيحاً، فقلت: كأنهم/ حُمُرٌ ماذا؟ فقال: مُسْتَنْفَرَة
طَرَدَها قَسْورة. فقلت: إنما هو {فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ}
فقال: أفرَّتْ؟ قلت: نعم. قال:» فمُسْتَنْفِرة إذن «انتهى.
يعني أنها مع قولِه» طَرَدها «تُناسِبُ الفتحَ لأنَّها اسمُ
مفعولٍ فلما أُخْبر بأنَّ التلاوةَ {فَرَّتْ مِن قسْورة}
رَجَعَ إلى الكسرِ للتناسُبِ، إلاَّ أنَ بمثلِ هذه الحكاية لا
تُرَدُّ القراءةُ المتواترةُ.
والقَسْوَرَةُ: قيل: الصائِدُ. وقيل: ظلمةُ الليل. وقيل:
الأسد، ومنه قولُ الشاعر:
4399 مُضَمَّرٌ تَحْذَرُه الأبطالُ. . . كأنه القَسْوَرَةُ
الرِّئْبالُ
أي: الأسد، إلاَّ إنَّ ابن عباس أنكرَه، وقال: لا أعرفُ
القَسْوَرَةَ: الأسدَ في لغة العرب، وإنما القَسْوَرَةُ:
عَصَبُ الرجال، وأنشد:
4400 يا بنتُ، كثوني خَيْرَةً لخَيِّرَهْ. . . أخوالُها
الجِنُّ وأهلُ القَسْوَرَهْ
وقيل: هم الرُّماةُ، وأنشدوا للبيد بن ربيعة:
4401 إذا ما هَتَفْنا هَتْفَةً في نَدِيِّنا. . . أتانا
الرجالُ العانِدون القساوِرُ
والجملةُ مِنْ قولِه» فَرَّتْ «يجوزُ أَنْ تكونَ صفةً ل» حُمُر
«مثلَ» مُسْتَنْفرة «، وأنْ تكونَ حالاً، قاله أبو البقاء.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/250)
|