معاني القرآن
وإعرابه للزجاج بَلَى قَادِرِينَ
عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)
سُورَةُ القِيَامَةِ
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1)
وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2)
لا اختلاف بين الناس أن معناه أقسِم بيوم القيامَةِ.
واختلفوا في تفسير " لاَ "، فقال بعضهم " لا " لَغوٌ وإن كانت
في أول السورة، لأن القرآن كله كالسورَةِ الوَاحِدَةِ، لأنه
متَصِلٌ بَعْضه بِبَعْضٍ فجعلت " لا " ههنا بمنزلتها في قوله:
(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ).
وقال بعض النحوبين: " لاَ " رَد لِكَلاَمِهِمْ.
كَأنهم أنكروا البعث فقيل لا ليس الأمر كما ذَكَرْتُمْ أقسم
بيوم القيامة
وقوله: (إنكم مَبْعوثونَ) دَلَّ على الجواب (1).
* * *
قوله: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4)
المعنى: بلى لَنَجْمَعَنكمْ قَادِرِين، المعنى أقسم بيوم
القيامة والنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ لَنَجْمَعنَّها قَادِرِينَ
عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ.
وجاء في التفسير بلى نقدر على أن نجعله كخفِّ البَعِيرِ. والذي
هو
أشكل بجمع العِظَامِ بلى نَجْمَعها قَادِرِين، عَلَى
تَسْوِيَةِ بَنَانِه على ما كانت، وإن قَلَّ عِظَامهَا وَصَغرت
وبلغ مِنها البِلَى.
والنفس اللوامة تفسيرها أن كل نفسٍ تلوم صاحبها في الآخِرَةِ
إن كان
عَمِلَ شرًّا لَامَتْهُ نفسه وأن كان عمل خَيراً لَامَتْهُ على
ترك الاستكثار منه.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {لاَ أُقْسِمُ}: العامَّةُ على «لا» النافيةِ. واختلفوا
حينئذٍ فيها على أوجهٍ، أحدُها: أنها نافيةٌ لكلامٍ متقدِّمٍ،
كأنَّ الكفارَ ذَكروا شيئاً. فقيل لهم: لا، ثم ابتدأ اللَّهُ
تعالى قَسَماً. الثاني: أنها مزيدةٌ. قال الزمخشري: «وقالوا
إنها مزيدةٌ، مِثْلُها في: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب}
[الحديد: 29] وفي قولِه:
4402 في بِئْرِ لاحُورٍ سَرَى وما شَعَرْ. . . واعترضوا عليه:
بأنها إنما تُزاد في وسط الكلام لا في أولِه. وأجابوا: بأنَّ
القرآنَ في حُكْمِ سورةٍ واحدةٍ متصلٍ بعضُه ببعضٍ. والاعتراضُ
صحيحٌ؛ لأنها لم تقَعْ مزيدةً إلاَّ في وسط الكلامِ، لكن
الجوابَ غيرُ سديدٍ. ألا ترى إلى امرىء القيسِ كيف زادَها في
مستهلِّ قصيدتِه؟ قلت: يعني قولَه:
4403 لا وأبيك ابنةَ العامرِيْ. . . يِ. . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . .
كما سيأتي، وهذا الوجهُ والاعتراضُ عليه والجوابُ نقله مكي
وغيرُه. الوجه الثالث: قال الزمخشري:» إدخالُ «» لا «النافيةِ
على فعلِ القسمِ مستفيضٌ في كلامِهم وأشعارِهم. قال امرؤ
القيس:
لا وأبيك ابنةَ العامرِيْ. . . يِ لا يَدَّعِي القومُ أنِّي
أفِرّْ
وقال غُوَيَّةُ بن سُلْميٍّ:
4404 ألا نادَتْ أُمامةُ باحْتمالِ. . . لِتَحْزُنَني فلابِك
ما أُبالي
وفائدتُها توكيدُ القسم» ثم قال بعد أَنْ حكى وجهَ الزيادةِ
والاعتراضَ والجوابَ كما تقدَّمَ «والوَجهُ أَنْ يُقال: هي
للنفي، والمعنى في ذلك: أنه لا يُقْسِمُ بالشيءِ إلاَّ إعظاماً
له يَدُلَّكَ عليه قولُه تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ
النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}
[الواقعة: 75 - 76] فكأنه بإدخالِ حرفِ النفي يقول: إنَّ
إعظامي له بإقسامي به كلا إعظامٍ، يعني أنه يَسْتَأْهِلُ فوق
ذلك. وقيل:» إنَّ «لا» نفيٌ لكلامٍ وَرَدَ قبل ذلك «. انتهى.
فقولُه:» والوجهُ أَنْ يُقال «إلى قولِه:» يعني أنه يستأهِلُ
فوق ذلك «تقريرٌ لقولِه:» إدخالُ «لا» النافيةِ على فعلِ/
القسمِ مستفيضٌ «إلى آخره. وحاصلُ كلامِه يَرْجِعُ إلا أَنَّها
نافيةٌ، وأنَّ النفيَ مُتَسَلِّطٌ على فعل القسمِ بالمعنى الذي
شَرَحَه، وليس فيه مَنْعٌ لفظاً ولا معنىً ثم قال: فإن قلتَ:
قولُه تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65]
والأبياتُ التي أَنْشَدْتُها المُقْسَمُ عليه فيها منفيٌّ،
فهلا زَعَمْتَ أنَّ» لا «التي قبلَ القسمِ زِيْدَتْ موطئةً
للنفيِ بعدَه ومؤكِّدةً له، وقَدَّرْتَ المقسم عليه المحذوفَ
ههنا منفيَّاً، كقولِك: لا أُقْسم بيومِ القيامةِ لا تُتركون
سُدى؟ قلت: لو قَصَروا الأمرَ على النفيِ دونَ الإِثباتِ لكان
لهذا القول مَساغٌ، ولكنه لم يُقْصَرْ. ألا ترى كيف لُقِيَ
{لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} [البلد: 1] بقولِه: {لَقَدْ
خَلَقْنَا الإنسان} وكذلك قولُه: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ
النجوم} [الواقعة: 75] بقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}
وهذا من محاسنِ كلامِه فتأمَّلْه. وقد تقدَّم الكلامُ على هذا
النحوِ في سورة النساءِ، وفي آخر الواقعة، ولكنْ هنا مزيدُ هذه
الفوائدِ.
وقرأ قنبل والبزي بخلافٍ عنه «لأُقْسِمُ بيوم» بلامٍ بعدَها
همزةٌ دونَ ألفٍ. وفيها أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها جوابٌ
لقسمٍ مقدرٍ، تقديرُه: واللَّهِ لأُقْسِمُ، والفعلُ للحالِ؛
فلذلك لم تَأْتِ نونُ التوكيدِ، وهذا مذهبُ الكوفيين. وأمَّا
البصريُّون فلا يُجيزون أَنْ يقعَ فعلُ الحالِ جواباً للقسم،
فإنْ وَرَدَ ما ظاهرُه ذلك جُعل الفعل خبراً لمبتدأ مضمرٍ،
فيعودُ الجوابُ جملةً اسميةً قُدِّرَ أحدُ جزأَيْها، وهذا عند
بعضِهم من ذلك، التقديرُ واللَّهِ لأنا أُقْسِمُ. الثاني: أنه
فعلٌ مستقبلٌ، وإنما لم يُؤْتَ بنونِ التوكيدِ؛ لأنَّ أفعالَ
اللَّهِ حقٌّ وصدقٌ فهي غنية عن التأكيدِ بخلاف أفعالِ غيره.
على أنَّ سيبويهِ حكى حَذْفَ النونِ إلاَّ أنَّه قليلٌ،
والكوفيون يُجيزون ذلك مِنْ غير قلةٍ إذ مِنْ مذهبهم جوازُ
تعاقُبِ اللامِ والنونِ فمِنْ حَذْفِ اللامِ قولُ الشاعر:
4405 وقتيلِ مَرَّةَ أَثْأَرَنَّ فإنَّه. . . فَرْغٌ وإنَّ
أخاكم لم يُثْأَرِ
أي: لأَثْأَرَنَّ. ومِنْ حَذْفِ النونِ وهو نظيرُ الآية قولُه:
4406 لَئِنْ تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكُمْ. . . لَيَعْلَمُ
ربي أنَّ بيتيَ واسعٌ
الثالث: أنها لامُ الابتداءِ، وليسَتْ بلامِ القسمِ. قال أبو
البقاء: «نحو: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ} [النحل: 124]
والمعروفُ أنَّ لامَ الابتداءِ لا تَدْخُل على المضارع إلاَّ
في خبر» إنَّ «نحو: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ} وهذه الآيةُ
نظيرُ الآيةِ التي في يونس [الآية: 16] {وَلاَ أَدْرَاكُمْ
بِهِ} فإنهما قرآها. بقصر الألف، والكلامُ فيها قد تقدَّم. ولم
يُخْتَلَفْ في قولِه:» ولا أُقْسِم «أنه بألفٍ بعد» لا «؛ لأنه
لم يُرْسَمْ إلاَّ كذا، بخلاف الأولِ فإنه رُسِمَ بدون ألفٍ
بعد» لا «، وكذلك في قولِه: {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} لم
يُختلَفْ فيه أنَّه بألفٍ بعد» لا «.
وجوابُ القسمِ محذوفٌ تقديرُه: لتُبْعَثُنَّ، دلَّ عليه
قولُه:» أيحسَبُ الإِنسانُ «. وقيل: الجوابُ أَيَحْسَبُ. وقيل:
هو» بلى قادِرين «ويُرْوَى عن الحسن البصري. وقيل: المعنى على
نَفْيِ القسم، والمعنى: إني لا أُقْسِم على شيء، ولكن أسألُك:
أيحسَبُ الإِنسانُ. وهذه الأقوالُ شاذَّةٌ مُنْكَرةٌ لا
تَصِحُّ عن قائليها لخروجِها عن لسانِ العرب، وإنما ذكرْتُها
للتنبيهِ على ضَعْفها كعادتي.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/251)
بَلِ الْإِنْسَانُ
عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
وقوله: (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ
لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5)
معناه أَنَه يُسوِّفُ بالتوبة، وُيقَدِّم الأعمال السيئَةَ.
ويجوز - واللَّه أعلم - أن يكون معناه ليكفرَ بِمَا
قُدَّامَهُ. ودليل ذلك قوله: (يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ
الْقِيَامَةِ).
فيفجر أمامه على هذا - واللَّه أعلم - يُكَذِّبُ بما قُدَّامَه
مِنَ البَعْثِ.
* * *
وقوله: (فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7)
ويقرأ (بَرَقَ البَصَرُ).
فمن قرأ (بَرِقَ) فمعناه فَزِعَ وَتَحَيَّرَ.
وَمَن قَرأ (بَرَقَ) فهو من بَرَقَ يَبْرُقُ. مِنْ بَرِيق
العَيْنَيْنِ.
* * *
وقوله: (وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8)
أي ذَهَبَ ضَوْءُ القَمَرِ.
* * *
(وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9)
أي جمِعَا فِي ذَهَابِ نُورِهما.
* * *
(يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10)
وَيُقْرَأُ (أَيْنَ الْمَفِرُّ) - بكسر الفاء -
فمن فتح فهو بمعنى أين الفِرَارُ.
ومن كسر فعلى معنى أين مكان الفِرار.
والمَفْعَلُ مِن مِثْل جَلَسْتُ بفتح العَيْنِ، وكذلك المصدر،
تقول: جَلَسْتُ مَجْلَساً - بفتح اللام - بمعنى جُلُوساً.
فإذا قلت جَلَسْتُ مَجْلِساً، فأنت تريد المكان.
ثم أعلم تعالى أنه لَا حِرْزَ لَهُم ولا مَحِيصَ. فقال:
* * *
(كَلَّا لَا وَزَرَ (11)
الوَزَرُ في كلام العَرَبِ الجَبَلُ الَّذِي يُلجأ إليه: هذا
أصله، وَكُل ما
التجأت إليه وَتَخَلَّصْتَ به فَهُوَ وَزَز.
* * *
وقوله: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)
وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
معناه بل الِإنسان تشهد عليه جوارحه، قال اللَّه عزَّ وجلَّ:
(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24).
وقال في موضع آخر
(5/252)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
بَاسِرَةٌ (24)
(حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ
عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا
كَانُوا يَعْمَلُونَ (20).
فأَعلم اللَّه أن هذه الجوارح التي يتصرفون بها شواهد عليهم.
* * *
قوله: (وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
ولو أدلى بكل حُجةٍ عِنْدَهُ.
وجاء في التفسير المعاذير السُتُور، وَاحِدُها مِعذار.
* * *
وقوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16)
كان جبريل عليه السلام إذا نزل بالوحي على النبي - صلى الله
عليه وسلم - تلاه النبي عليه السلام عليه كراهة أَنْ
يَنْفَلِتَ مِنْهُ، فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنه لا ينسيه
إيَّاهُ وَأَنَّه يجمعه في قلبه فقال:
* * *
(إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17)
أَي إِنَّ عَلَيْنَاأن نُقرِئَكَ فَلَا تَنْسَى، وعلينا تلاوته
عليك.
* * *
(فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18)
أي لا تعجل بالتلاوة إلى أن تقرأ عليك مَا يُنْزَلُ فِي
وَقْتِهِ.
* * *
(ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19)
أي علينا أن ننزِّله قرآناً عربياً غير ذي عوج، فيه بيان
للناس.
* * *
قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا
نَاظِرَةٌ (23)
نُضِّرَت بِنَعِيمِ الجَنَّةِ والنَّظَرِ إلى رَبِّهَا.
قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ
نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24).
* * *
(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ
بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
(بَاسِرَةٌ) كريهة مقطبة، قد أيقنت بأن العذاب نازل بها.
ومعنى: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ).
(5/253)
أَوْلَى لَكَ
فَأَوْلَى (34)
توقن أن يفعل بها داهية من العذاب.
* * *
وقوله: (كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26)
(كَلَّا) رَدْعٌ وتنبيه، ومعناه ارْتَدِعُوا عما يؤدي إلى
العذاب.
* * *
وقوله جلَّ وعزَّ: (إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ).
ذكرهم الله بصعوبة أول أيام الآخرة عند بلوغ النَّفْس
التَّرْقوَةِ.
* * *
(وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)
أي من يشفي من هذه الحال، وهذا - واللَّه أعلم - يقوله القائل
عِنْدَ
البأْسِ، أي من يَقْدِرَ أَنْ يَرْقِيَ مِنَ الموْتِ.
وقيل في التفسير: (مَنْ رَاقٍ) مَن يَرْقَى بِروحِه أمَلَائكة
الرحمة أم ملائكة العذاب.
* * *
(وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28)
أَيْ وَأَيْقَنَ الذي تَبلغ روحه إلى تراقيه أنه مفارق للدنيا.
* * *
(وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29)
عند الموت تلتصق السَّاق بالسَّاقِ قيل والتفت آخر شدة الدنيا
بأول شِدَّةِ
الآخرة.
* * *
وقوله: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31)
يعنى به أبو جهل بن هشام.
وجاء في التفسير إنَّ لكل أُمَّةٍ فِرعَوْناً، وإنَّ فِرْعَونَ
هذه الأمَّةِ أَبو جَهْلٍ بن هشام.
* * *
(ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33)
معناه بتبختر، مأخوذ من المَطَا وهو الظهر.
* * *
وقوله: (أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34)
معناه - واللَّه أعلم - وَلِيَكَ المكروه يا أبا جهل، والعرب
تقول أولى
لفلان إذا دعت عليه بالمكروه.
(5/254)
فَجَعَلَ مِنْهُ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)
(أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ
سُدًى (36)
أي أن يترك غير مَأمورٍ وغير مَنْهِيٍّ، ثم دلهم على البعث
بالقدرة على
الابتداء فقال:
* * *
(أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37)
وقرئت (تُمْنَى)
فمن قرأ (تُمْنَى) فللفظ النطفة.
ومَنْ قرأ (يُمْنَى) فللفظ (مَنِيٍّ).
* * *
(ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ
الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39)
ثم قررهم فقال:
* * *
(أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى
(40)
(5/255)
إِنَّا هَدَيْنَاهُ
السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
سُورَةُ الإِنْسَانِ
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ
الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)
المعنى ألم يأت عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ، -
وقد كان شيئاً إلَّا أَنَّهُ كَانَ
تُرَاباً وَطِيناً إلى أن نفخ فيه الروح فلم يكن قبل نفخ الروح
فيه شيئاً مَذْكُوراً، ويجوز أن يكون يعنى به جميع الناس،
ويكون المعنى أنهم كانوا نُطَفاً ثم عَلَقاً
ثم مُضَغاً إلى أن صاروا شيئاً مَذْكُوراً.
ومعنى (هَلْ أتى) قد أتى على الإنسان، أي ألم يأت على
الِإنْسَانِ حين
من الدهر (1).
* * *
وقوله: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ
أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)
(أَمْشَاجٍ) أخلاط مَنَيٍّ ودم، ثم ينقل مِنْ حَالٍ إلى حَالٍ.
وَوَاحِدُ الأمشاج [مَشِيجٌ]، ومعنى نبتليه نختبره يدل عليه:
(فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً).
أي جعلناه كذلك لنختبره.
* * *
قوله: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا
وَإِمَّا كَفُورًا (3)
معناه هديناه الطريق إما لِشَقوةٍ وإما لِسَعَادَةٍ.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {هَلْ أتى}: في «هل» هذه وجهان، أحدُهما: أنَّها على
بابِها من الاستفهامِ المَحْضِ، أي: هو مِمَّنْ يُسْأَلُ عنه
لغرابتِه: أأتى عليه حينٌ من الدهرِ لَم يكنْ كذا، فإنه يكونُ
الجوابُ: أتى عليه ذلك، وهو بالحالِ المذكورةِ، كذا قاله
الشيخ، وهو مدخولٌ كما ستعرِفُه قريباً. وقال مكي في تقرير
كونها على بابِها من الاستفهام. «والأحسنُ أَنْ تكونَ على
بابِها للاستفهام الذي معناه التقريرُ، وإنما هو تقرير لمَنْ
أنكر البعثَ، فلا بُدَّ أَنْ يقولَ: نعم قد مضى دهر طويل لا
إنسانَ فيه. فيقال له: مَنْ أَحْدَثَه بعد أن لم يكُنْ
وكَوَّنه بعد عَدَمِه كيف يمتنع عليه بَعْثُه وإحياؤه بعد
مَوْتِه؟ وهو معنى قولِه: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى
فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 62]، أي: فهلاَّ تَذَكَّرون
فتعلَمون أنَّ مَنْ أَنْشأ شيئاً بعد أن لم يكُنْ قادرٌ على
إعادتِه بعد مَوْتِه وعَدَمِه» انتهى. فقد جَعَلها لاستفهامِ
التقريرِ لا للاستفهامِ المَحْضِ، وهذا هو الذي يجبُ أَنْ
يكونَ؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يَرِدُ مِنَ الباري تعالى لاَّ على
هذا النحوِ وما أشبهه. والثاني: أنها بمعنى «قد» قال الزمخشري:
«هل بمعنى» قد «في الاستفهام خاصة. والأصل: أهل بدليلِ قولِه:
4430 سائِلْ فوارسَ يَرْبوعٍ بشَدَّتِنا. . . أهَلْ رَأَوْنا
بوادي القُفِّ ذي الأَكَمِ
فالمعنى: أقد أتى، على التقريرِ والتقريبِ جميعاً، أي: أتى على
الإِنسان قبلَ زمانٍ قريبٍ حينٌ من الدهرِ لم يكنْ فيه شيئاً
مذكوراً، أي: كان شيئاً مَنْسِيَّاً غير مذكور» انتهى. فقولُه:
«على التقريرِ» يعني المفهومَ من الاستفهامِ، وهو الذي فهم
مكيٌّ مِنْ نفسِ «هل». وقوله: «والتقريب» يعني المفهومَ مِنْ
«قد» التي وقع مَوْقِعَها «هل». ومعنى قولِه «في الاستفهام
خاصةً» أنَّ «هل» لا تكونُ بمعنى «قد» إلاَّ ومعها استفهامٌ/
لفظاً كالبيتِ المتقدِّم، أو تقديراً كالآية الكريمةِ. فلو
قلتَ: «هل جاء زيدٌ» تعني: قد جاء، من غيرِ استفهامٍ لم
يَجُزْ، وغيرُه جَعَلَها بمعنى «قد» من غيرِ هذا القيدِ.
وبعضُهم لا يُجيزه ألبتَّةََ، ويَتَأّوَّل البيتَ: على أنَّ
مِمَّا جُمِعَ فيه بين حرفَيْ معنىً للتأكيدِ، وحَسَّن ذلك
اختلافُ لفظِهما كقولِ الشاعِرِ:
4331 فأَصْبَحْنَ لا يَسْأَلنْنَي عَنْ بِما به. . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
فالباءُ بمعنى «عن»، وهي مؤكِّدةٌ لها، وإذا كانوا قد أَكَّدوا
مع اتفاقِ اللفظِ كقولِه:
4432 فَلا واللَّهِ لا يُلْفَى لِما بي. . . ولا لِلِما بهمْ
أبداً دَواءُ
فَلأَنْ يُؤَكِّدوا مع اختلافهِ أَحْرى. ولم يَذْكُرِ
الزمخشريُّ غيرَ كونِها بمعنى «قد»، وبقي على الزمخشريِّ قيدٌ
آخر: وهو أَنْ يقولَ: في الجملِ الفعليةِ؛ لأنَّه متى دخلَتْ
«هل» على جملةٍ اسميةٍ استحالَ كونُها بمعنى «قد» لأنَّ «قد»
مختصَّةٌ بالأفعالِ. وعندي أنَّ هذا لا يَرِدُ؛ لأنَّه تقرَّر
أنَّ «قد» لا تباشِرُ الأسماءَ.
قوله: {لَمْ يَكُن} في هذه الجملة وجهان، أحدُهما: أنَّها في
موضعِ نصبٍ على الحالِ من «الإِنسان»، أي: هل أتى عليه حينٌ في
هذه الحالةِ. والثاني: أنها في موضعِ رفع نعتاً ل «حينٌ» بعد
نعتٍ. وعلى هذا فالعائدُ تقديرُه: حينٌ لم يكُنْ فيه شيئا
مذكوراً، والأول أظهرُ لفظاً ومعنىً.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/257)
وَيُطْعِمُونَ
الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا
(8)
وقوله: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ
سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)
الأجود في العربية ألا يُصْرَف سَلَاسِلَ، ولكن لما جُعِلَتْ
رَأْسَ آيَةٍ
صرفت ليكون آخر الآي على لفظٍ وَاحدٍ (1).
* * *
قوله: (إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ
مِزَاجُهَا كَافُورًا (5)
الأبرار واحدهم بَرٌّ.
(يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا).
يجوز " في اللغة أن يكونَ طَعْمُ الطيب فيها والكَافورِ، وجائز
أن يمزج
بالكافور فلا يكون في ذلك ضرر لأن أهل الجنة لا يمسهم فيما
يأكلون
ويشربون ضَررٌ ولا نَصَبٌ.
والكأس في اللغة الِإناء إذا كان فيه الشرَابُ.
فإذا لم يكن فيه الشراب لم يسم كأساً.
قال الشاعر:
صَبَنْتِ الكأْسَ عَنَّا أُمَّ عمروٍ وكانَ الكأْسُ مَجْراها
اليَمِينا
* * *
وقوله: (عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ
يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)
(عيناً) جائز أن يكون من صفة الكأس.
والأجود أن يكون المعنى من عَيْنٍ.
قوله: (يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا).
معناه تجري لهم تلك العين كما يحِبُّون.
* * *
قوله: (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ
شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7)
معناه يبلغ أقصى المبالغ فيه.
* * *
قوله: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا
وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {سَلاَسِلَ}: قرأ نافعٌ والكسائيُّ وهشام وأبو بكر
بالتنوين، والباقون بغيرِ تنوينٍ، ووقَفَ هؤلاءِ وحمزةُ وقنبلٌ
عليه بالألفِ بلا خلافٍ. وابنُ ذكوانَ والبزيُّ وحفصٌ بالألفِ
وبدونِها، فعَنْ ثلاثتِهم الخلافُ، والباقون وقَفوا بدون ألفٍ
بلا خلافٍ. فقد تَحَصَّل لك من هذا أن القُرَّاءَ على [أربع]
مراتبَ: منهم مَنْ يُنَوِّنُ وصْلاً، ويقفُ بالألفِ وَقْفاً
بلا خلافٍ وهم نافعٌ والكسائيُّ وهشامٌ وأبو بكر، ومنهم مِنْ
لا يُنَوِّنُ ولا يأتي بالألفِ وقفاً بلا خلافٍ، وهما حمزةُ
وقنبلٌ، ومنهم مَنْ لم يُنَوِّنْ، ويقف بالألفِ بلا خلافٍ، وهو
أبو عمروٍ وحدَه، ومنهم مَنْ لم يُنَوِّنْ، ويقفُ بالألف تارةٍ
وبدونِها أخرى، وهم ابنُ ذكوانَ وحفصٌ والبزيُّ، فهذا نهايةُ
الضبطِ في ذلك.
فأمَّا التنوينُ في «سلاسل» فذكَرُوا له أوجهاً منها: أنه
قَصَد بذلك التناسُبَ؛ لأنَّ ما قبلَه وما بعده منونٌ منصوبٌ.
ومنها: أن الكسائيَّ وغيرَه مِنْ أهلِ الكوفةِ حَكَوا عن بعض
العربِ أنهم يَصْرِفُون جميعَ ما لا ينصَرِفُ، إلاَّ أفعلَ
منك. قال الأخفش: «سَمِعْنا من العربِ مَنْ يَصْرِفُ كلَّ ما
لا يَنْصَرِف؛ لأنَّ الأصل في الأسماء الصرفُ، وتُرِك الصرفُ
لعارضٍ فيها، وأنَّ الجمعَ قد جُمِع وإنْ كان قليلاً. قالوا:
صواحِب وصواحبات. وفي الحديث:» إنكن لصَواحِبات يوسف «وقال
الشعر:
4439 قد جَرَتِ الطيرُ أيامِنينا. . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . .
فجمع» أيامِن «جَمْعَ تصحيحِ المذكر. وأنشدوا:
4440 وإذا الرجالُ رأوا يزيدَ رأيتَهمْ. . . خُضُعَ الرِّقابِ
نواكِسي الأبصارِ
بكسرِ السينِ مِنْ نواكِس، وبعدَها ياءٌ تَظهرُ خطاً لا لفظاً
لذهابِها لالتقاءِ الساكنين، والأصلُ:» نواكِسِين «فحُذِفَتِ
النونُ للإِضافةِ، والياءُ لالتقاءِ الساكَنيْن. وهذا على
رواية كسرِ السينِ، والأشهرُ فيها نصبُ السينِ فلمَّا جُمِع
شابَهَ المفرداتِ فانصَرَفَ. ومنها أنه مرسومٌ في إمامِ
الحجازِ والكوفةِ بالألفِ، رواه أبو عبيدٍ، ورواه قالون عن
نافعٍ. وروى بعضُهم ذلك عن مصاحفِ البصرةِ أيضاً.
وقال الزمخِشريُّ:» وفيه وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ هذه
النونُ بدلاً من حرفِ الإِطلاقِ ويَجْري الوصل مَجْرى الوقفِ.
والثاني: أَنْ يكونَ صاحبُ هذه القراءةِ مِمَّنْ ضَرِيَ
بروايةِ الشِّعْر، ومَرَنَ لسانُه على صَرْفِ ما لا ينصرف «.
قلت: وفي هذه العبارةِ فَظاظةٌ وغِلْظة، لا سيما على
مَشْيَخَةِ الإِسلام وأئمةِ العلماءِ الأعلامِ.
ووَقَفَ هؤلاء بالألفِ ظاهراً. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْه/
فظاهرٌ؛ لأنَّه على صيغةِ منتهى الجموع. وقولهم: قد جُمِع،
نحو: صَواحبات وأيامِنين لا يَقْدَحُ؛ لأنَّ المَحْذورَ جمعُ
التكسيرِ، وهذا جمعُ تصحيحٍ، وعَدَمُ وقوفِهم بالألفِ واضحٌ
أيضاً. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْ ووقفَ بالألفِ فإتْباعاً
للرَّسمِ الكريمِ كما تقدَّمَ، وأيضاً فإنَّ الرَّوْمَ في
المفتوحِ لا يُجَوِّزُه القُرَّاءُ، والقارىءُ قد يُبَيِّنُ
الحركةَ في وَقْفِه فأَتَوْا بالألفِ لَتَتَبيَّنَ بها
الفتحةُ. ورُوِيَ عن بعضٍ أنه يقول:» رَأَيْتُ عُمَرا «بالألف
يعني عُمَرَ بن الخطاب. والسَّلاسِلُ: جمع سِلْسلة، وقد تقدَّم
الكلامُ فيها. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/258)
وَدَانِيَةً
عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)
هذه الهاء تعود على الطعام، المعنى يطعمون
الطعام أشد ما تكون
حاجتهم إليه للمسكين، وَوَصَفُهُم الله بالأثرة عَلَى
أنْفُسِهِم.
(وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا).
الأسير قيل كان في ذلك الوقت من الكُفَّار، وقَدْ مُدِحَ من
يطعم الأسير
وهو كافرٌ، فكيف بأسَارَى المسلمين.
وهذا يدل عَلَى أَنَ في إطعام أهل الحبوس ثواباً جزيلا، وأَهْل
الحبوس أُسَرَاء.
* * *
وقوله: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ
مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9)
المعنى يقولون إنما نطعمكم لوجه اللَّه، أي لطلب ثواب اللَّه -
عزَّ وجلَّ -
وجائر أن يكونوا يطعمون ولا ينطقونَ هذا القول ولكن معناهم في
أطعَامِهمِ
هذا، فَتُرْجِمَ مَا في قُلُوبِهِم، وكذلك:
* * *
(إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا
(10)
العبوس الذي يُعَبِّسُ الوُجُوهَ، وهذا مثل قوله: (وَوُجُوهٌ
يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ).
وقَمْطَرِيراً، يقال يوم قمطرير ويؤْم قُماطر إذا كان شَديداً
غليظاً، وجاء في
التفسير أن قمطريرا معناه تَعْبسُ فَيجمعُ مَا بينَ العينين
وهذا سائغ في اللغة.
يقال اقمَطَرتْ النَّاقَةُ إذا رفعت ذنبها وجمعت قطريها
وَرمَتْ بأنفها.
* * *
وقوله (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ
فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13)
واحدتها أريكة، وجاء في التفسير أَنَهَا من الحِجَالُ فيها
الفرش وفيها
الأسِرَّةُ.
وفي اللغة أن كل متكأ عليه فَهُوَ أريكَة.
ونصب (مُتَّكِئِينَ) على الحال
المعنى وجزاهم جنَّة في حَالِ اتكائهم فيها.
وكذلك: (وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ
قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)
وجائز أن يكون دانية نعتاً للجنة.
المعنى وجزاهم جنة دانية عَليْهِمْ ظِلَالُهَا (1)
* * *
(وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا).
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {وَدَانِيَةً}: العامة على نصبِها وفيها أوجهٌ، أحدُها:
أنها عطفُ على محلِّ «لا يَرَوْن». الثاني: أنها معطوفة على
«مُتَّكئين»، فيكونُ فيها ما فيها. قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ:
ودانيةً عليهم ظلالُها علامَ عُطِف؟ قلت: على الجملةِ التي
قبلها، لأنَّها في موضع الحال من المَجْزِيِّيْنَ، وهذه حالٌ
مثلُها عنهم، لرجوعِ الضميرِ منها إليهم في» عليهم «إلاَّ
أنَّها اسمٌ مفردٌ، وتلك جماعةٌ في حكمِ مفردٍ، تقديره: غيرَ
رائين فيها شَمْساً ولا زَمْهريراً ودانية. ودخلت الواوُ
للدَّلالة على أن الأمرَيْن مجتمعان لهم. كأنَّه قيل: وجَزاهم/
جنةً جامِعِيْنَ فيها: بين البُعْدِ عن الحَرِّ والقُرِّ
ودُنُوِّ الظِّلالِ عليهم. الثالث: أنها صفةٌ لمحذوفٍ أي:
وجنةً دانِيَةً، قاله أبو البقاء. الرابع: أنها صفةٌ ل» جنةٌ
«الملفوظِ بها، قاله الزجَّاج.
وقرأ أبو حيوةَ» ودانِيَةٌ «بالرفع. وفيها وجهان، أظهرهما:
أَنْ يكونَ» ظلالُها «مبتدأ و» دانيةٌ «خبرٌ مقدمٌ. والجملةُ
في موضعِ الحال. قال الزمخشري:» والمعنى: لا يَرَوْنَ فيها
شَمْساً ولا زَمْهريراً، والحالُ أنَّ ظلالَها دانِيَةٌ عليهم
«. والثاني: أَنْ ترتفعَ» دانيةٌ «بالابتداء، و» ظلالُها
«فاعلٌ به، وبها استدلَّ الأخفشُ على جوازِ إعمالِ اسمِ
الفاعلِ، وإنْ لم يَعْتَمِدْ نحو:» قائمٌ الزيدون «، فإنَّ»
دانية «لم يعتمِدْ على شيءٍ مِمَّا ذكره النَّحْويُّون، ومع
ذلك فقد رُفِعَتْ» ظلالُها «وهذا لا حُجَّة له فيه؛ لجوازِ
أَنْ يكونَ مبتدأً وخبراً مقدَّماً كما تقدَّم.
وقال أبو البقاء:» وحُكِيَ بالجَرِّ أي: في جنَّةٍ دانية. وهو
ضعيفٌ؛ لأنه عُطِفَ على الضميرِ المجرورِ من غيرِ إعادةِ
الجارِّ «. قلت: يعني أنَّه قُرِىء شاذاً» ودانِيَةٍ «بالجَرِّ
على أنها صفةٌ لمحذوفٍ، ويكونُ حينئذٍ نَسَقاً على الضميرِ
المجرورِ بالجَرِّ مِنْ قولِه:» لا يَرَوْنَ فيها «أي: ولا في
جنةٍ دانيةٍ. وهو رَأْيُ الكوفيين: حيث يُجَوِّزون العطفَ على
الضميرِ المجرورِ مِنْ غيرِ إعادةِ الجارِّ؛ ولذلك ضَعَّفَه،
وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك مُشْبعاً في البقرة.
وأمَّا رَفْعُ» ظلالُها «فيجوزُ أَنْ يكونَ مبتدأً و» عليهم
«خبرٌ مقدمٌ، ولا يرتفع ب» دانية «؛ لأنَّ» دنا «يتعدَّى ب»
إلى «لا ب» على «. والثاني: أنها مرفوعةٌ ب» دانية «على أَنْ
تُضَمَّن معنى» مُشْرِفَة «لأنَّ» دنا «و» أَشْرَفَ «يتقاربان،
قال معناه أبو البقاء، وهذان الوجهان جاريان في قراءةِ مَنْ
نصبَ» دانيةً «أيضاً.
وقرأ الأعمش» ودانِياً «بالتذكير للفَصْلِ بين الوَصْفِ وبين
مرفوعِه ب» عليهم «، أو لأنَّ الجمعَ مذكرٌ.
وقرأ أُبَيٌّ «ودانٍ عليهم» بالتذكير مرفوعاً، وهي شاهدةٌ
لمذهبِ الأخفشِ، حيث يرفع باسمِ الفاعلِ. وإنْ لم يَعْتَمِد.
ولا جائزٌ أَنْ يُعْرَبا مبتدأً وخبراً مقدَّماً لعدمِ
المطابقةِ. وقال مكي: «وقُرِىء» دانِياً «ثم قال:» ويجوزُ
«ودانيةٌ» بالرفعِ، ويجوزُ «دانٍ» بالرفعِ والتذكيرِ «ولم
يُصَرِّح بأنهما قُرِئا، وقد تقدَّم أنهما مقروءٌ بهما فكأنَّه
لم يَطَّلِعْ على ذلك.
قوله: {وَذُلِّلَتْ} يجوزُ أَنْ يكونَ في موضع نصبٍ على الحال
عطفاً على» دانِيَةً «فيمَنْ نَصَبَها أي: ومُذَلَّلةً. ويجوزُ
أَنْ تكونَ حالاً من الضميرِ في» عليهم «سواءً نَصَبْتَ»
دانِيَةً «أو رَفَعْتَها، أم جَرَرْتَها. ويجوزُ أَنْ تكونَ
مستأنفةً. وأمَّا على قراءةِ رفعِ» ودانيةٌ «فتكونُ جملةً
فعليةً عُطِفَتْ على اسميَّةٍ. ويجوز أَنْ تكونَ حالاً كما
تقدَّمَ. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/259)
وَيُسْقَوْنَ فِيهَا
كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17)
هذا كقوله تعالى: (قطوفها دانية).
وقيل كلما أرادوا أنْ يَقْطَعُوا شيئاً منها ذُلِّلَ لَهُمْ،
ودنا منهم قُعُوداً كانوا أَوْ مُضْطَجِعينَ أَوْ قِيَاماً.
* * *
(وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ
كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ)
قرئت غير مصروفة، وهذا الاختيار عند النحويين البصريين لأنَّ
كل
جمع يأتي بعد ألفه حرفان لا ينصرف.
وقد فسرنا ذلك فيما سلف من الكتاب.
ومَن قرأ (قواريراً) فصرف الأول فلأنَّهُ رأسُ آية، وترك صرف
الثاني لأنه
ليس بآخر آية، ومن صرف الثاني أتبْعَ اللَّفْظَ اللفظ، لأن
العرب رُبَّما قَلَبَتْ إعراب الشيء ليتبع اللفظ اللفظ،
فيقولون: هذا حُجْر ضَبِّ خَرِبٍ، وإنما الخرب من نعت
الحُجْرِ، فكيف بما يترك صرفه، وجميع ماَ يترك صرفه يجوز صرفه
في الشِعْرِ.
* * *
ومعنى (قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)
أصل القوارير التي في الدنيا من الرمل، فأعلم اللَّهُ أن فضل
تلك القوارير أن أَصْلَها مِنْ فِضةٍ يرى من خارجها مَا فِي
دَاخِلها
ومعنى: (قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا).
أَي جُعِلَت بكون الِإناء عَلى قَدْرِ ما يحتاجون إليه
وُيرِيدُونَهُ.
وَقُرِئَتْ (قُدِّرُوها تَقْدِيراً). أي جعلت لهم على قدر
إرادتهم (1).
* * *
(وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا
(17)
أي يجمع طعم الزنجبيل، والعرب تصف الزنجبيل، وهو مستطاب
عندها جدًّا
قال الشاعر:
كأَنَّ القَرنْفُلَ والزَّنْجَبِيلَ. . . باتا بِفيها وأَرْياً
مَشُورا
فجائز أن يكون طعم الزنجبيل فيها، وجائز أن يكون مزاجها وَلَا
غائِلَةَ لَهُ
كما قلنا في الكافور.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {قَوَارِيرَاْ قَوَارِيرَاْ}: اختلف القُراء في هذَين
الحرفَيْن بالنسبة إلى التنوين وعَدَمِهِ، وفي الوقوفِ بالألفِ
وعَدَمِها كما تقدَّم خلافُهم في {سَلاَسِلَ}. واعلَمْ أنَّ
القُرَّاء فيهما على خمسِ مراتبَ، إحداها: تنوينُهما معاً،
والوقفُ عليهما: بالألفِ، لنافعٍ والكسائيِّ وأبي بكر.
الثانيةُ: مقابِلَةُ هذه، وهي عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ
عليهما بالألفِ، لحمزةَ وحدَه. الثالثة: عَدَمُ تنوينِهما،
والوقفُ عليهما بالألف، لهشامٍ وحدَه. الرابعة: تنوينُ الأولِ
دونَ الثاني، والوقفُ على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني
بدونِها، لابنِ كثيرٍ وحدَه. الخامسةُ: عَدَم تنوينِهما معاً،
والوقفُ على الأولِ بالألفِ، وعلى الثاني بدونِها: لأبي عمروٍ
وابن ذكوانَ وحفصٍ.
فأمَّا مَنْ نَوَّنَهما فلِما مَرَّ في تنوينِ سلاسل؛ لأنَّهما
صيغَةُ منتهى الجمع، ذاك على مَفاعلِ، وذا على مَفاعيل.
والوقفُ بالألفِ التي هي بدلٌ من التنوين، وفيه موافقةُ
المصاحفِ المذكورةِ فإنَّهما مَرْسومان فيها بالألفِ على ما
نَقَلَ أبو عبيد. وأمَّا عَدَمُ تنوينِهما وعَدَمُ الوقفِ
بالألف فظاهرٌ جداً. وأمَّا مَنْ نَوَّنَ الأولَ دونَ الثاني،
فإنَّه/ ناسَبَ بين الأولِ وبين رؤوسِ الآيِ. ولم يناسِبْ بينَ
الثاني وبين الأولِ. والوجهُ في وَقْفِه على الأولِ بالألفِ
وعلى الثاني بغيرِ ألفٍ ظاهرٌ. وقد رَوَى أبو عُبيد أنه كذلك
في مصاحِف أهلِ البصرة.
وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما، ووقف على الأولِ بالألفِ، وعلى
الثاني بدونِها؛ فلأنَّ الأولَ رأسُ آيةٍ فناسَبَ بينه وبين
رؤوس الآيِ في الوقفِ بالألفِ. وفَرَّق بينه وبين الثاني؛ لأنه
ليسَ برأس آيةٍ. وأمَّا مَنْ لم يُنَوِّنْهما ووقف عليهما
بالألفِ فلأنَّه ناسَبَ بين الأول وبين رؤوس الآيِ وناسَبَ بين
الثاني وبين الأولِ. وحَصَل مِمَّا تقدَّم في «سلاسل» وفي
هذَيْن الحرفَيْنِ أنَّ القُرَّاءَ منهم مَنْ وافَقَ مصحَفَه،
ومنهم مَنْ خالفَه لاتِّباع الأثَرِ. وتقدَّم الكلامُ على
«قوارير» في سورةِ النمل ولله الحمدُ.
وقال الزمخشري: «وهذا التنوين بدلٌ مِنْ حرفِ الإِطلاقِ لأنَّه
فاصلةٌ، وفي الثاني لإِتباعِه الأولَ» يعني أنَّهم يَأْتُون
بالتنوينِ بدلاً مِنْ حرفِ الإِطلاق الذي للترنم، كقولِه:
4448 يا صاحِ ما هاجَ الدُّموعَ الذُّرَّفَنْ. . . وفي انتصابِ
«قوارير» وجهان، أحدُهما وهو الظاهرُ أنَّه خبرُ كان. والثاني:
أنها حالٌ، و «كان» تامةٌ أي: كُوِّنَتْ فكانَتْ. قال أبو
البقاء: «وحَسُن التكريرُ لِما اتَّصل به مِنْ بيانِ أصلِها،
ولولا التكريرُ لم يَحْسُنْ أَنْ يكونَ الأولُ رأسَ آيةٍ
لشدَّةِ اتصالِ الصفةِ بالموصوفِ. وقرأ الأعمش» قواريرُ
«بالرفع على إضمارِ مبتدأ أي: هي قوارير. و» مِنْ فضة «صفةٌ ل»
قوارير «.
قوله: {قَدَّرُوهَا} صفةٌ ل» قواريرَ «. والواو في» قَدَّروها
«فيه وجهان، أحدهما: أنَّه للمُطافِ عليهم. ومعنى تقديرهم
إياها: أنهم قَدَّروها في أنفسِهم أَنْ تكونَ على مقاديرَ
وأشكالٍ على حَسَبِ شَهَواتِهم، فجاءَتْ كما قَدَّروا.
والثاني: أنَّ الواو للطائفين للدلالةِ عليهم، مِنْ قولِه
تعالى: «ويُطافُ» والمعنى: أنهم قَدَّروا شرابَها على قَدْر
رِيِّ الشَّارِب، وهو ألذُّ الشرابِ لكونِه على مِقْدارِ
حاجتِه لا يَفْضُل عنها ولا يَعْجِزُ، قاله الزمخشري. وجَوَّزَ
أبو البقاء أَنْ تكونَ الجملةُ مستأنفةً.
وقرأ عليٌّ وابنُ عباس والسُّلميُّ والشعبيُّ وزيدُ بن علي
وأبو عمروٍ في روايةِ الأصمعيِّ «قُدِّرُوْها» مبنياً للمفعول.
وجَعَله الفارسِيُّ مِنْ بابِ المَقْلوبِ قال: «كأنَّ اللفظ:
قُدِّروا عليها. وفي المعنى قَلْبٌ؛ لأنَّ حقيقةَ المعنى أن
يقال: قُدِّرَتْ عليهم، فهي مثلُ قولِه: {لَتَنُوءُ بالعصبة
أُوْلِي القوة} [القصص: 76] ومثلُ قولِ العرب:» إذا طَلَعَتِ
الجَوْزاءُ أُلْقِيَ العُوْدُ على الحِرْباء «. وقال
الزمخشري:» ووجهُه أَنْ يكونَ مِنْ قُدِّر منقولاً مِنْ
قَدَرَ. تقول: قَدَرْتُ [الشيءَ] وقَدَرَنيه فلان، إذا جعلك
قادراً له ومعناه: جُعلوا قادرين لها كما شاؤوا، وأُطْلِق لهم
أَنْ يُقَدِّروا على حَسَبِ ما اشْتَهَوْا «. وقال أبو حاتم:»
قُدِّرَتْ الأواني على قَدْرِ رِيِّهم «ففَسَّر بعضُهم قولَ
أبي حاتمٍ هذا قال:» فيه حَذْفٌ على حَذْفٍ: وهو أنه كان:
«قُدِّرَ على قَدْرِ ريِّهم إياها» ثم حُذِفَ «على» فصار:
«قَدْرُ رِيِّهم» على ما لم يُسَمَّ فاعِلُه، ثم حُذِف
«قَدْرُ» فصار «رِيُّهم» ما لم يُسَمَّ فاعلُه، فحُذِفَ
الرِّيُّ فصارَتِ الواوُ مكانَ الهاءِ والميمِ، لَمَّا حُذِفَ
المضافُ مِمَّا قبلَها، وصارَتِ الواوُ مفعولَ ما لم يُسَمَّ
فاعلُه، واتصلَ ضميرُ المفعولِ الثاني في تقديرِ النصبِ
بالفعلِ بعدَ الواوِ التي تَحَوَّلَتْ من الهاءِ والميم، حتى
أُقيمَتْ مُقامَ الفاعل «. قلت: وفي هذا التخريجِ من التكلُّف
ما لا يَخْفَى مع عَجْرَفَةِ ألفاظِه.
وقال الشيخ:» والأقربُ في تخريج هذه القراءةِ الشاذَّة:
«قُدِّرَ رِيُّهم منها تقديراً» فحُذِف المضافُ وهو الرِّيُّ،
وأُقيم الضميرُ مُقامَه، فصار التقديرُ: قُدِّروا مِنْها، ثم
اتُّسِع في الفعل فحُذِفَتْ «مِنْ» ووصَلَ الفعلُ إلى الضميرِ
بنفسِه فصار: «قُدِّرُوْها» فلم يكن فيه إلاَّ حَذْفُ مضافٍ
واتِّساعٌ في الفعل «. قلت: وهذا مُنْتَزَعٌ من تفسيرِ كلامِ
أبي حاتم. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/260)
عَالِيَهُمْ ثِيَابُ
سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ
فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)
وقوله: (عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى
سَلْسَبِيلًا (18)
المعنى يسقون عيناً، وسَلْسَبِيل اسم العَيْن إلا أنه صرف لأنه
رأس آية.
وسَلْسَبيل في اللغَةِ صفَة لما كان في غاية السلاسة، فكأنَّ
العيق - واللَّه أعلم - سميت بصفتها (1).
* * *
(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا
رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)
أي يخدمهم وصفاء مُخَلَّدُونَ، وتأويل (مُخَلَّدُونَ) أي لا
يجوز واحد منهم
حَدَّ الوَصَافة أَبداً هو وصيف، والعرب تقول للرجل الذي لا
يشيب: هو
مُخَلَّدٌ. ويقال مُخَلَّدُونَ محلَّون عليهم الحلَى، ويقال
لجماعة الحلى الخَلَدَة.
* * *
وقوله: (حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا).
أي هم في حسن ألوأنهم وصفائها كاللؤلؤ المنثور.
* * *
قوله: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا
كَبِيرًا (20)
جاء في التفسير أنه " ملكا كبيراً " أنهم تسلم عليهم الملائكة.
وجَاء أَيضاً تستأذن عليهم الملائكة، وَ (ثَمَّ) يعنَى به
الجنة، والعامل في (ثَمَّ) مَعْنَى رَأيْتَ.
المعنى وَإذَا رأيت ببصرك (ثَمَّ).
وقيل المعنى وإذا رأيت مَا (ثَمَّ) رَأَيتَ نَعِيماً
وهذا غَلَطٌ لأن ما موصولة بقوله (ثَمَّ) على هذا التفسير -
ولا يجوز إسقاط الموصول وترك الصلة، ولكن " رأيت " يتعدى في
المعنَى إلى (ثَمَّ).
* * *
وقوله: (عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ
وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ
شَرَابًا طَهُورًا (21)
(عَالِيْهُمْ)
بإسكان الياء، وَقرِئَتَ (عَالِيَهُمْ) - بفتح الياء - وقرئت
عَلَيْهم - بغير ألف (ثِيَابُ سُنْدُسٍ).
وهذه الثلاثة توافق المصحف وكلها حسن في العربية، وقرئ على
وجهين
غير هذه الثلاثة.
قرئت (عَالِيَتُهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ) - بالرفع والتأنيث -
وَ (عَالِيَتَهُمْ) بالنَّصْبِ - وهذا الوجهان جَيِّدان في
العربية إلا أَنَهمَا يخالفان
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {سَلْسَبِيلاً}: السَّلْسَبيل: ما سَهُل انحدارُه في
الحَلْف. قال الزجاج: «هو في اللغة صفةٌ لِما كان في غايةِ
السَّلاسَة». وقال الزمخشري: «يقال: شَرابٌ سَلْسَلٌ وسَلْسالٌ
وسَلْسبيل، وقد زِيْدت الباءُ في التركيبِ حتى صارَتِ الكلمةُ
خماسيَّةً، ودَلَّتْ على غايةِ السَّلاسَةِ». قال الشيخ: «فإنْ
كان عَنى أنَّه زِيْدت حقيقةً فليس بجيدٍ؛ لأنَّ الباءَ ليسَتْ
من حروف الزيادةِ المعهودةِ في علمِ النحوِ، وإنْ عَنَى أنها
حرفٌ جاء في سِنْخِ الكلمةِ، وليس في سَلْسَل ولا سَلْسال
فَيَصِحُّ، ويكون مما اتَّفَقَ معناه، وكان مختلفاً في
المادة». وقال ابن الأعرابي: «لم أسمَعْ السَّلْسبيلَ إلاَّ في
القرآنِ». وقال مكي: «هو اسمٌ أعجميُّ نكرةٌ، فلذلك صُرِفَ».
ووزن سَلْسَبيل: فَعْلَلِيْل مثلَ «دَرْدَبيس». وقيل:
فَعْفَليل؛ لأنَّ الفاءَ مكررةٌ. وقرأ طلحةُ «سَلْسَبيلَ» دونَ
تنوينٍ ومُنِعَتْ من الصرف للعلميَّةِ والتأنيث؛ لأنها اسمٌ
لعَيْنٍ بعينها، وعلى هذا فكيف صُرِفَتْ في قراءةِ العامَّةِ؟
فيُجاب: بأنُّه سُمِّيَتْ بذلك لا على جهة العَلَمِيَّة بل على
جهة الإطلاقِ المجرَّدِ، أو يكونُ مِنْ بابِ تنوين {سَلاَسِلَ}
[الإِنسان: 4] {قَوَارِيرَاْ} [الإِنسان: 15] وقد تقدَّمَ.
وأغربُ ما قيل في هذا الحرف أنه مركبٌ من كلمَتَيْن: مِنْ فعلِ
أمرٍ وفاعلٍ مستترٍ ومفعولٍ. والتقدير: سَلْ أنت سَبيلا إليها.
قال الزمخشري: «وقد عَزَوْا إلى عليٍّ رضي الله عنه أنَّ
معناه: سَلْ سبيلاً إليها». قال: «وهذا غيرُ مستقيمٍ على
ظاهِره، إلاَّ أنْ يُرادَ أنَّ جملةَ قولِ القائلِ» سَلْ
سبيلاً «جَعِلَتْ عَلَماً للعين، كما قيل: تأبَّط شَرَّاً
وذَرَّى حبَّا. وسُمِّيت بذلك لأنه لا يَشْرَبُ منها إلاَّ
مَنْ سأل سبيلاً إليها بالعمل الصالِح، وهو مع استقامتِه في
العربية تكلُّفٌ وابتداعٌ وعَزْوُه إلى مثلِ عليّ عليه السلام
أَبْدَعُ. وفي شعرِ بعضِ المُحْدَثين:
4451 سَلْ سبيلاً فيها إلى راحةِ النَّفْ. . . سِ براحٍ
كأنَّها سَلْسَبيلُ
قال الشيخ بعد تعجُّبِه مِنْ هذا القول:» وأَعْجَبُ مِنْ ذلك
توجيهُ الزمخشريِّ له واشتغالُه بحكايتِه «. قلت: ولو تأمَّل
ما قاله الزمخشريُّ لم يَلُمْه، ولم يتعجَّبْ منه؛ لأنَّ
الزمخشري هو الذي شَنَّعَ على هذا القولِ غاية التشنيع. وقال
أبو البقاء:» والسلسبيلُ كلمةٌ واحدةٌ «. وفي قوله:» كلمة
واحدة «تلويحٌ وإيماءٌ إلى هذا الوجهِ المذكور.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/261)
المصحف، ولا أرى القراءة بهما، وقرَّاء
الأمصار ليس يَقْرَأُونَ بِهِمَا (1).
فأما تفسير إسكان (عَالِيهِمْ) بإسكان الياء، فيكون رفعه
بالابتداء، ويكون خبره (ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ).
ومن نَصَبَ فقال: (عَالِيَهُمْ) بفتح الياء، فقال بعض النحويين
إنه
ينصبه على الظرْفِ، كما تقول فوقَهُم ثياب، وهذا لا نعرفه في
الظروف، ولو كان ظرفاً لم يَجُزْ إسكان الياء.
ولكن نصبه على الحال من شيئين:
أحدهما من الهاء والميم، المعنى يطوف على الأبرار وِلْدَانٌ
مُخَلَّدُونَ عَالِياً الأبْرَارَ ثيابُ سندسٍ لأنه وقدْ وصف
أحوالهم في الجنَّةِ، فيكون المعنى يطوف عليهم في هذه الحال
هؤلاء.
ويجوز أن يكون حالا من الولدان.
المعنى إذا رَأَيْتَهُمْ حسبتهم لُؤلُؤاً منثوراً في حال علو
الثياب إياهم.
فالنصب على هذا بين.
فأما " عَلَيْهم ثيابُ سُنْدُسٍ " فرفع كقولك عليك مَالٌ
فترفعُهُ بالابتداء، ويكون المعنى وثياب سندس عليهم.
وتفسير نصب عاليتهم ورفعها كتفسير عاليهم.
والسندس الحرير. وقد قرئت خُضرٌ وخُضْرٍ.
فمن قرأ (خضرٌ) فهو أحسن لأنه يكون نعتاً للثياب، فلفظ الثياب
لفظ الجميع، وخُضْرٌ لفظها لفظ الجمع.
ومن قرأ خُضْرٍ فهو من نعت السندس، والسُّندُسُ في المعنى راجع
إلى
الثياب.
وقرئت (وَإِسْتَبْرَقٌ) وهو الدِّيبَاج الصَّفِيق الغليظ
الخشن.
وقرئت بالرفع والجر.
فمن رفع فهو عطف على ثياب
المعنى عليهم إستبرق.
ومن جر عطف على السندس.
ويكون المعنى: عليهم ثياب من هذين النوعين ثياب سندس وإستبرق.
وقرئت (وَإِسْتَبْرَقَ) على وجهين غير هذين الوجهين، كلاهما
ضَعِيف
في العربية جدًّا، قرئت (وَإِسْتَبْرَقَ) وَحُلُّوا - بنصب
(إِسْتَبْرَقَ) - وهو في موضع الجر ولم يصرف، قرأها ابن
مُحْيصِن، وزعموا أنه لم يصرفه لأن (وَإِسْتَبْرَق) اسم أعجمى،
وأصله بالفارسية استبره، فلما حول إلى العربية لم يصرف وهذا
غلط لأنه نكرة ألا ترى أن الألف واللام يدخلانه، تقول: السندس
والإستبرق.
والوجه الثاني، واستبرَق وَحُلُّوا - بطرح الألف - جعل الألف
ألف
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {عَالِيَهُمْ}: قرأ نافعٌ وحمزةٌ بسكونِ الياءِ وكسرِ
الهاء، والباقون بفتح الياءِ وضَمِّ الهاء. لَمَّا سَكَنَتِ
الياءُ كُسِرَتْ الهاءُ، ولَمَّا تَحَرَّكَتْ ضُمَّت على ما
تَقَرَّرَ في هاءِ الكنايةِ أولَ هذا الموضوعِ. فإمَّا قراءةُ
نافعٍ وحمزةَ ففيها أوجهٌ، أظهرُها: أَنْ تكونَ خبراً
مقدَّماً. و «ثيابُ» مبتدأٌ مؤخرٌ، والثاني: أنَّ «عالِيْهم»
مبتدأ و «ثيابُ» مرفوعٌ على جهةِ الفاعلية، وإنْ لم يعتمد
الوصفُ، وهذا قولُ الأخفشِ.
والثالث: أنَّ «عالِيْهم» منصوبٌ، وإنما سُكِّن تخفيفاً، قاله
أبو البقاء. وإذا كان منصوباً فسيأتي فيه أوجهٌ، وهي وارِدَة
هنا؛ إلاَّ أنَّ تقديرَ الفتحةِ من المنقوصِ لا يجوزُ إلاَّ في
ضرورةٍ أو شذوذٍ، وهذه القراءةُ متواترةٌ فلا ينبغي أَنْ
يُقالَ به فيها.
وأمَّا قراءةُ مَنْ نَصَبَ ففيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه ظرفٌ
خبراً مقدماً، و «ثيابُ» مبتدأٌ مؤخرٌ كأنه قيل: فوقَهم ثيابُ.
قال أبو البقاء: «لأنَّ عالِيَهم بمعنى فَوْقَهم. وقال ابن
عطية:» ويجوز في النصبِ أَنْ تكونَ على الظرف لأنَّه بمعنى
فوقهم «. قال الشيخ:» وعالٍ وعالية اسمُ فاعلٍ، فيحتاج في
[إثبات] كونِهما ظرفَيْن إلى أَنْ يكونَ منقولاً مِنْ كلامِ
العرب: عالِيَك أو عاليتُك ثوبُ «. قلت: قد وَرَدَتْ ألفاظٌ
مِنْ صيغةِ أسماءِ الفاعِلِيْن ظروفاً نحو: خارجَ الدار
وداخلَها وباطنَها وظاهرَها. تقول: جلَسْتُ خارج الدارِ، وكذلك
البواقي فكذلك هذا.
الثاني: أنَّه حالٌ من الضمير في {عَلَيْهِمْ} [الإِنسان: 19].
الثالث: أنه حالٌ مِنْ مفعولِ {حَسِبْتَهُمْ} [الإِنسان: 19].
الرابع: أنه حالٌ مِنْ مضافٍ مقدرٍ، أي: رَأَيْتَ أهلَ نعيم
ومُلكٍ كبير عالَيهم. ف» عاليَهم «حالٌ مِنْ» أهل «المقدرِ.
ذكرَ هذه الأجهَ الثلاثةَ الزمخشريُّ فإنه قال:» وعاليَهم
بالنصبِ على أنَّه حالٌ من الضميرِ في «يَطوف عليهم» أو في
«حَسِبْتَهم»، أي: يطوفُ عليهم وِلْدانٌ عالياً للمَطوفِ عليهم
ثيابٌ، أو حَسِبْتَهم لؤلؤاً عاليَهم ثيابٌ. ويجوزُ أَنْ يراد:
[رأيت] أهلَ نعيم «. قال الشيخ:» أمَّأ أَنْ يكونَ حالاً من
الضمير في «حَسِبْتَهم» فإنه لا يعني إلاَّ ضمير المفعول، وهو
لا يعودُ إلاَّ على «وِلدانٌ» ولذلك قدَّر «عاليَهم» بقوله:
«عالياً لهم»، أي: للوِلْدان. وهذا لا يَصْلُحُ؛ لأنَّ الضمائر
الآتية بعد ذلك تَدُلُّ على أنها للمَطوفِ عليهم مِنْ قوله:
«وحُلُّوا» و «سَقاهم» و {إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً}
وفَكُّ الضمائر وَجَعْلُ هذا لذا، وهذا لذا، مع عدمِ الاحتياجِ
والاضطرارِ إلى ذلك، لا يجوزُ. وأمَّا جَعْلُه حالاً مِنْ
محذوفٍ وتقديرُه: أهلَ نعيم فلا حاجةَ إلى ادِّعاء الحَذْفِ مع
صحةِ الكلامِ وبراعتِه دونَ تقديرِ ذلك المحذوفِ «.
قلت: جَعْلُ أحَدِ الضمائر لشيءٍ والآخرِ لشيءٍ آخرَ لا يمنعُ
صحةَ ذلك مع ما يميِّزُ عَوْدَ كلِّ واحدٍ إلى ما يليقُ به،
وكذلك تقديرُ المحذوفِ غيرُ ممنوعٍ أيضاً، وإنْ كان الأحسنُ
أَنْ تتفقَ الضمائرُ، وأن لا يُقَدَّرَ محذوفٌ، والزمخشريُّ
إنما ذَكَرَ ذلك على سبيل التجويزِ، لا على أنَّه أَوْلى أو
مساوٍ، فَيُرَدُّ عليه بما ذكره.
الخامس: أنه حالٌ مِنْ مفعول «لَقَّاهم». السادس: أنه حال مِنْ
مفعول «جَزاهُمْ» ذكرهما مكي. وعلى هذه الأوجهِ التي انتصبَ
فيها على الحالِ يرتفعُ به «ثيابُ» على الفاعلية، ولا تَضُرُّ
إضافتُه إلى معرفةٍ في وقوعِه حالاً؛ لأنَّ الإِضافةَ لفظيةٌ،
كقولِه تعالى: {عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] [وقولِه:]
4452 يا رُبَّ غابِطِنا. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . .
ولم يؤنَّثْ «عالياً» لأنَّ مرفوعَه غير حقيقيِّ التأنيثِ.
السابع: أَنْ ينتصِبَ «عاليَهم» على الظرفيةِ، ويرتفع «ثيابُ»
به على جهة الفاعلية. وهذا ماشٍ على قولِ الأخفش والكوفيين حيث
يُعملون الظرفَ وعديلَه وإنْ لم يَعْتمد، كما تقدَّم ذلك في
الوصفِ. وإذا رُفعَ «عاليَهم» بالابتداء و «ثيابُ» على أنه
فاعلٌ به كان مفرداً على بابِه لوقوعِه موقعَ الفعلِ، وإذا
جُعل خبراً مقدَّماً كان مفرداً مُراداً به الجمعُ، فيكونُ
كقولِه تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ القوم} [الأنعام: 45]، أي:
أدبار، قاله مكي.
وقرأ ابن مسعود وزيد بن علي «عاليتُهم» مؤنثاً بالتاء مرفوعاً.
والأعمش وأبان عن عاصم كذلك، إلاَّ أنه منصوبٌ، وقد عَرَفْتَ
الرفعَ والنصبَ ممَّا تقدَّم، فلا حاجةَ لإِعادتهما. وقرأَتْ
عائشة رضي الله عنها «عَلِيَتْهم» فعلاً ماضياً متصلاً بتاء
التأنيث الساكنة، و «ثيابُ» فاعلٌ به، وهي مقوِّيَةٌ للأوجه
المذكورة في رفع «ثياب» بالصفةِ في قراءة الباقين كما تقدَّم
تفصيلُه.
وقرأ ابنُ سيرين ومجاهد وأبو حيوة وابن أبي عبلة وخلائق
«عليهم»، جارَّاً ومجروراً، وإعرابُه كإعرابِ «عاليَهم» ظرفاً
في جوازِ كونِه خبراً مقدَّماً، أو حالاً ممَّا تقدَّم،
وارتفاعُ «ثيابُ» به على التفصيلِ المذكورِ آنفاً.
وقرأ العامَّةُ/ «ثيابُ سُنْدُسٍ» بإضافةِ الثيابِ لِما بعدها.
وأبو حيوةَ وابنُ أبي عبلةَ «ثيابٌ» منونةً «سُندُسٌ خُضْرٌ
وَإِسْتَبْرَقٌ» برفعِ الجميعِ، ف «سندسٌ» نعتٌ ل «ثيابٌ»
لأنَّ السُّنْدسَ نوعٌ، و «خُضْرٌ» نعتٌ ل «سندس»؛ إذ السندسُ
يكونُ أخضرَ وغيرَ أخضرَ، كما أنَّ الثيابَ يكونُ سُنْدُساً
وغيرَه. و «إستبرقٌ» نَسَقٌ على ما قبلَه، أي: وثياب استبرق.
واعلَمْ أنَّ القرَّاءَ السبعةَ في «خُضْر وإستبرق» على أربع
مراتبَ، الأولى: رَفْعُهما، لنافعٍ وحفصٍ فقط. الثانية:
خَفْضُهما، للأخوَيْن فقط.
الثالثة: رَفْعُ الأولِ وخفضُ الثاني لأبي عمروٍ وابنِ عامرٍ
فقط. الرابعةُ عكسُ الثالثةِ، لابنِ كثيرٍ وأبي بكرٍ فقط.
فأمَّا القراءةُ الأولى: فإنَّ رَفْعَ «خُضْرٌ» على النعتِ ل
ثياب، ورَفْعَ «إستبرقٌ» نَسَقاً على الثياب، ولكن على حَذْفِ
مضافٍ، أي: وثيابُ إستبرقٍ. ومثلُه: «على زيدٍ ثوبُ خَزٍّ
وكتَّانٌ» أي: وثوبُ كُتَّانٍ. وأمَّا القراءةُ الثانية فيكونُ
جَرُّ «خُضْرٍ» على النعتِ لسُنْدسٍ. ثم اسْتُشْكِل على هذا
وَصْفُ المفردِ بالجمعِ فقال مكي: «هو اسمٌ للجمع. وقيل: هو
جمعُ سُنْدُسَة» كتَمْر وتَمْرة، واسمُ الجنسِ وَصْفُه بالجمع
سائغٌ فصيحٌ. قال تعالى: {وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال} [الرعد:
12]. وإذا كانوا قد وَصَفوا المفردَ المُحَلَّى لكونِه مُراداً
به الجنسُ بالجمعِ في قولِهم: «أَهْلَكَ الناسَ الدِّينارُ
الحُمْرُ والدِّرْهَمُ البيضُ»، وفي التنزيل: {أَوِ الطفل
الذين} [النور: 31] فَلأَنْ يُوْجَدَ ذلك في أسماءِ الجموعِ أو
أسماءِ الأجناسِ الفارقِ بينها وبين واحدِها تاءُ التأنيثِ
بطريقِ الأَوْلى. وجَرُّ «إستبرق» نَسَقاً على «سندسٍ» لأنَّ
المعنى: ثيابٌ مِنْ سُندسٍ وثيابٌ مِنْ إستبرق.
وأمَّا القراءةُ الثالثةُ فرَفْعُ «خُضْرٌ» نعتاً ل «ثيابٌ»
وجَرُّ «إستبرقٍ» نَسَقاً على «سُنْدُسٍ»، أي: ثيابٌ خضرٌ مِنْ
سُندسٍ ومِنْ إستبرقٍ، فعلى هذا يكون الإِستبرقُ أيضاً أخضرَ.
وأمَّا القراءةُ الرابعة فجَرُّ «خُضْرٍ» على أنه نعتٌ
لسُنْدس، ورَفْعُ «إستبرقٌ» على النَّسَقِ على «ثياب» بحَذْفِ
مضافٍ، أي: وثيابُ إستبرق. وتقدَّم الكلامُ على مادةِ
السُّنْدُس والإِستبرق وما قيل فيهما في سورة الكهف.
وقرأ ابنُ مُحيصنٍ «وإستبرقَ» بفتحِ القافِ. ثم اضطرب
النَّقْلُ عنه في الهمزة: فبعضُهم يَنْقُل عنه أنه قَطَعها،
وبعضهم ينقُلُ عنه أنه وَصَلَها.
فقال الزمخشري: «وقُرِىءَ» وإسْتبرقَ «نصباً في موضعِ الجرِّ
على مَنْعِ الصرفِ؛ لأنَّه أعجميٌّ وهو غَلَطٌ؛ لأنَّه نكرةٌ
يَدْخُلُهُ حرفُ التعريف. تقول:» الإِستبرق «إلاَّ أَنْ
يَزْعُمَ ابن مُحيصن أنه يُجْعَلُ عَلَماً لهذا الضَّرْبِ من
الثيابِ. وقُرِىءَ» واستبرقَ «بوصْل الهمزةِ والفتح، على أنَّه
مُسَمَّى باسْتَفْعل من البَريق، ليس بصحيحٍ أيضاً؛ لأنَّه
مُعَرَّب مشهورٌ تعريبُه، وأنَّ أصلَه اسْتَبْرَه. وقال
الشيخ:» ودلَّ قولُه «إلاَّ أَنْ يزعمَ ابنُ محيصن» وقولُه
بعدُ: «وقُرىء» واسْتبرق «بوَصْلِ الألفِ والفتح أنَّ قراءةَ
ابنِ محيصن هي بقَطْعِ الهمزةِ مع فتحِ القافِ. والمنقولُ عنه
في كتبِ القراءاتِ أنَّه قرأ بوَصْل الألفِ وفتح القافِ». قلت:
قد سَبَقَ الزمخشريُّ إلى هذا مكيٌّ فقال: «وقد قرأ ابنُ محيصن
بغيرِ صَرْفٍ، وهو وهمٌ إنْ جعلَه اسماً لأنه نكرةٌ منصرفةٌ.
وقيل: بل جَعَله فعلاً ماضياً مِنْ بَرِقَ فهو جائزٌ في
اللفظِ، بعيدٌ في المعنى.
وقيل: إنَّه في الأصلِ فعلٌ ماضٍ على اسْتَفْعل مِنْ بَرِقَ،
فهو عربيٌّ من البريق، لمَّا سُمِّي به قُطِعَتْ ألفُه؛ لأنه
ليس مِنْ أصلِ الأسماءِ أَنْ يدخلَها ألفُ الوصلِ، وإنما
دَخَلَتْ في أسماءٍ معتلةٍ مُغَيَّرَةٍ عن أصلِها معدودةٍ لا
يُقاسُ عليها «انتهى. فدلَّ قولُه:» قُطِعَتْ ألفُه «/ إلى
آخرِه أنه قرأ بقطعِ الهمزةِ وفتحِ القافِ. ودلَّ قولُه
أولاً:» وقيل: بل جعله فعلاً ماضياً مِنْ بَرِقَ «أنه قرأ
بوَصْلِ الألفِ؛ لأنَّه لا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُحْكَمَ عليه
بالفعليةِ غيرَ منقولٍ إلى الأسماءِ، وبتَرْكِ ألفِه ألفَ قطع
ألبتَّةََ، فهذا جَهْلٌ باللغةِ، فيكونُ قد رُوِي عنه قراءتان:
قَطْعُ الألفِ ووَصْلُها. فظهر أنَّ الزمخشريَّ لم ينفَرِدْ
بالنقل عن ابنِ محصين بقَطْع الهمزة.
وقال أبو حاتم في قراءة ابن محيصن:» لا يجوز. والصوابُ أنه
اسمُ جنسٍ لا ينبغي أَنْ يَحْمِلَ ضميراً، ويؤيِّد ذلك دخولُ
المعرفةِ عليه. والثوابُ قَطْعُ الألفِ وإجراؤُه على قراءةِ
الجماعةِ «. قال الشيخ:» ونقولُ: إنَّ ابن محيصن قارىءٌ جليلٌ
مشهورٌ بمعرفةِ العربيةِ، وقد أَخَذَ عن أكابرِ العلماءِ
فيُتَطَلَّبُ لقراءته وَجْهٌ، وذلك أنه يَجْعَلُ استفعل من
البريق تقول: بَرِقَ واسْتَبْرَق كعَجِبَ واستعجب، ولمَّا كان
قولُه: «خُضْر» يدل على الخُضْرة، وهي لَوْنُ ذلك السُّنْدُسِ،
وكانت الخُضْرَةُ مِمَّا يكونُ فيها لشدتها دُهْمة وغَبَش
أخبرَ أنَّ في ذلك بَريقاً وحُسْناً يُزيل غُبْشَتَه فاستبرق
فعلٌ ماضٍ، والضميرُ فيه عائدٌ على السندسِ، أو على الأخضرِ
الدالِّ عليه «خُضْر». وهذا التخريجُ أَوْلَى مِنْ تَلْحين
مَنْ يعرِفُ العربية وتوهيمِ ضابطٍ ثقةٍ «. قلت: هذا هو الذي
ذكره مكيٌّ كما حَكَيْتُه عنه، وهذه القراءةُ قد تقدَّمَتْ في
سورة الكهف، وإنما أَعَدْتُ ذلك لزيادةِ هذه الفائدةِ.
قوله: {وحلوا} عطفٌ على» ويَطوف «، عَطَفَ ماضياً لفظاً،
مستقبلاً معنىً، وأَبْرَزه بلفظِ الماضي لتحقُّقه. وقال
الزمخشري بعد سؤالٍ وجوابٍ مِنْ حيث المعنى:» وما أحسنَ
بالمِعْصَمِ أَنْ يكونَ فيه سِواران: سِوارٌ مِنْ ذهبٍ وسِوارٌ
مِنْ فضةٍ «، فناقَشَه الشيخ في قولِه» بالمِعْصم «فقال:»
قولُه بالمِعْصم: إمَّا أَنْ يكونَ مفعولَ «أَحْسن»، و «أَنْ
يكونَ» بدلاً منه، وأمَّا «أنْ يكونَ» مفعولَ أَحْسن وقد
فُصِلَ بينهما بالجارِّ والمجرور: فإنْ كان الأولَ فلا يجوزُ؛
لأنَّه لم تُعْهَدْ زيادةُ الباءِ في مفعولِ أَفْعَلِ التعجبِ.
لا تقول: ما أحسنَ بزيدٍ تريدُ: «ما أحسن زيداً». وإن كان
الثاني ففي مثلِ هذا الفصل خلافٌ، والمنقولُ عن بعضهِم لا
يجوزُ، والمُوَلَّدُ مِنَّا ينبغي إذا تكلَّم أن يَتَحَرَّزَ
في كلامِه ممَّا فيه خلافٌ «. قلت: وأيُّ غَرَضٍ له في تتبُّعٍ
كلامِ هذا الرجل، حتى في هذا الشيءِ اليسيرِ؟ على أنَّ الصحيحَ
جوازُه، وهو المسموعُ من العربِ نثراً. قال عمروُ ابن
معديكرب:» للَّهِ دَرُّ بني فلانٍ ما أشَدَّ في الهيجاءِ
لقاءَها، وأَثْبَتَ في المَكْرُمات بقاءَها، وأحسنَ في
اللَّزَبات عطاءَها «والتشاغلُ بغير هذا أَوْلى.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/262)
نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ
وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا
أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)
وصل، وجعله مُسمًّى بالفعل من البريق، وهذا
خطأ لأن الإستبرق معروف
معلوم أنه اسم نُقِل من العجمية إلى العربية كما سمي الديباج
وهو منقول من
الفارسية.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ: (وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا)
جاء في التفسير أنهم إذا شربوه ضمِرَت بُطُونُهم وَرَشَحَتْ
جُلُودَهم عرقاً
كرائحة المسك، وقيل إنه طهور ليس برجس كخمر الدنيا.
* * *
قوله: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24)
أو ههنا أوكد من الواو، لأن الواو إذَا قُلتَ: لا تطع زيداً
وعَمراً فأطاع
أحدهما كان غير عاص، لأنه أمره ألا يطيع الاثنين.
فإذا قالَ (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا)
" أو " قد دلت على أنَّ كل واحد منهما أهل لأن يعصى، وكما أنك
إذا
قلت: لا تخالف الحسن أو ابن سيرين، أو: اتبع الحسن أو ابن
سيرين، فقد
قلت: هذان أهل أن يُتبَعَا، وكل واحد منهما أهل وقد فسرنا مثل
هذا التفسير في غَيْرِ هذا الحرف في أول سورة البقرةِ في قوله
تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) إلى
آخر الآية -
وَبَعْدَ ذلك (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) وتأويله
مِثْلُهُم لأنك إنْ جَعَلْتَ مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً، أو
مَثلَّتَهُم بالصَّيِّبٍ أوْ بِهِمَا جميعاً فأنت مُصِيبٌ.
* * *
ْوقوله عزَّ وجلَّ: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً
وَأَصِيلًا (25)
الأصيلُ العَشِى، يقال: قَدْ أَصَلْنَا إذا دخلوا في الأصيل،
وهو العشِي.
* * *
قوله: (نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا
شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)
(أَسْرَهُمْ) خلقهم جاء في التفسير أيضاً مَفَاصِلُهُمْ. -
(5/263)
يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ
فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا
أَلِيمًا (31)
وقوله (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ
يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)
أي لستم تشاءون إلا بمشيئة اللَّه.
* * *
(وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
نصب (الظالمين) لأن قبله مَنْصُوباً.
المعنى يدخل من يشاء في رحمته ويعذبُ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ
لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا، ويكون (أَعَدَّ لَهُمْ) تفسيراً
لهذَا المضمر.
وقرئت (والظالمون) ولا أرى القراءة بها، من وجهين:
أحدهما خلاف المصحف.
والآخر إن كانت تجوز في العربية على أن يرفع الظالمين
بالابتداء.
والذي بعد الظالمين خبر الابتداء، فإن الاختيار عند النحويين
البصريين النصب، يقول النحْوِيُونَ أعطيت زيداً وعَمْراً
أَعَدَدْتُ له بُرا.
فيختارون النصب على معنى وَبَرَرْتُ عَمراً وَأَبر عَمراً
أعددت له بُرا، فلا
يختارون للقرآن إلا أَجْوَد الوجوه، وهذا مع موافقة المصحف.
(5/264)
فَالْمُلْقِيَاتِ
ذِكْرًا (5)
سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قال أبو إسحاق: قوله عزَّ وَجلَّ: (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا
(1)
جاء في التفسير أنها الريَاح أرسلت كعرف الفرس، وكذلك:
(فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3).
الرياح تأتي بالمطر كما قال عزَّ وجلَّ: (وَهُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) (1).
* * *
وقوله: (فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4)
يعنى به الملائكة جاءت بما يفرق بين الحق والبَاطلِ، وكذلك
* * *
(فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5)
يعنى الملائكة.
وقيل في تفسير (والمرسلات) أنها الملائكة أرسلت بالمعروف.
وقيل إنها لعرف الفرس.
وقيل - (فالعَاصِفَاتِ عَصْفاً) الملائكة تعصف بروح الكافِر؛
والباقي إلى آخر الآيات يعنى به الملائكة أيضاً.
وفيه وجه ثالث، (وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا) يعني به الرسل.
(فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا) الرياح، (فالناشرات نشراً) الرياح.
(فالفارقات فرقاً) على هذا - التفسير الرسل أيضاً.
وكذلك (فالملقيات ذِكراً).
وهذه كلها مجرورة على جهة القسم، وجواب القسم (إِنَّمَا
تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7)
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {عُرْفاً}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنَّه مفعولٌ مِنْ
أجلِه، أي: لأجلِ العُرْفِ وهو ضِدُّ النُّكْرِ. والمرادُ
بالمُرْسَلاتِ: إمَّا الملائكةُ، وإمَّا الأنبياءُ، وإمَّا
الرِّياحُ أي: والملائكةُ المُرْسَلاتُ، أو والأنبياء
المُرْسَلات، أو والرياحُ المُرْسَلات. والعُرْفُ: المعروفُ
والإِحسانُ. قال الشاعر:
4454 مَنْ يَفْعَلِ الخيرَ لا يَعْدَمْ جَوازِيَهُ. . . لا
يَذْهَبُ العُرْفُ بينَ اللَّهِ والناسِ
وقد يُقال: كيف جَمَعَ صفةَ المذكرِ العاقلِ بالألفِ والتاءِ،
وحقُّه أَنْ يُجْمَعَ بالواوِ والنونِ؟ تقول: الأنبياءُ
المُرْسَلونَ، ولا تقولُ: المُرْسَلات. والجوابُ: أنَّ
المُرْسَلات جَمْعُ مُرْسَلة، ومُرْسَلة صفةٌ لجماعةٍ من
الأنبياء، فالمُرْسَلات جمعُ «مُرْسَلة» الواقعةِ صفةً لجماعة،
لا جمعُ «مُرْسَل» المفردِ. الثاني: أَنْ ينتصِبَ على الحالِ
بمعنى: متتابعة، مِنْ قولِهم: جاؤوا كعُرْفِ الفَرَس، وهم على
فلانٍ كعُرْف الضَّبُع، إذا تألَّبوا عليه. الثالث: أَنْ
ينتصِبَ على إسقاطِ الخافضِ أي: المُرْسَلاتِ بالعُرْفِ. وفيه
ضَعْفٌ، وقد تقدَّمَ الكلامُ على العُرْف في الأعراف.
والعامَّةُ على تسكينِ رائِه، وعيسى بضمِّها، وهو على تثقيلِ
المخففِ نحو: «بَكُر» في بَكْر. ويُحتمل أَنْ يكونَ هو الأصلَ،
والمشهورةُ مخففةٌ منه، ويُحْتَمَلُ أَنْ يكونا وزنَيْنِ
مستقلَّيْن.
قوله: {عَصْفاً}: مصدرٌ مؤكِّدٌ لاسمِ الفاعلِ، والمرادُ
بالعاصفات: الرياحُ أو الملائكةُ، شُبِّهَتْ بسُرْعة جَرْيِها
في أمرِ الله تعالى بالرياحِ، وكذلك «نَشْراً» و «فَرْقاً»
انتصبا على المصدرِ أيضاً. اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/265)
لِأَيِّ يَوْمٍ
أُجِّلَتْ (12)
وقال بعض أهل اللغة: المعنى وربِّ
المرسلات، وهذه الأشياء كما
قال: (فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ).
وقرئت عَرْفاً وَعُرفاً والمعنى واحد في العرف والعرف.
* * *
وقوله: (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6)
وقرئت عُذُراً أَو نُذُراً. فمعناهما المصدَرُ، والعذْرُ
والعُذارُ بمعنى وَاحِدٍ.
ونصب (عُذْرًا أَوْ نُذْرًا) على ضربين:
أحدهما مفعول على البدل من قوله ذِكراً.
المعنى فالملقيات عذراً أو نُذْراً، ويكون نصباً بِذِكراً،
فالمعنى فالملقيات أن
ذكرت عذراً ونذراً.
ويجوز أن يكون نصب عُذْراً أَو نُذْراً على المفعول له، فيكون
المعنى
فالملقيات ذكراً للإعذار والإنذار.
* * *
وقوله: (فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8)
معناه أُذْهِبَتْ وغُطيَتْ.
* * *
(وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9)
معناه شقَّت كما قال عزَّ وجلَّ: (إِذَا السَّمَاءُ
انْشَقَّتْ).
* * *
(وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10)
ذهب بها كلها بسرعة، يقال انتسفت الشيء إذَا أَخذته كله بسرعة.
* * *
(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11)
وقرئت (وُقِّتَتْ) بالواو، والمعنى واحد، فمن قرأ (أُقِّتَتْ)
بالهمز فإنه أبدل
الهمزة من الواو لانضمام الواو، فكل واو انضمت وكانت ضمتها
لازمةً جاز أن تبدل منها همزة، ومعنى (وُقِّتَتْ) جعل لها وقت
وأجل.
* * *
قوله: (لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12)
(5/266)
انْطَلِقُوا إِلَى
ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30)
ثم بَينَ فقال: (لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13)
أي أجلت القضاء فيما بينها وبين الأمم
ليوم الفصل.
* * *
قوله: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
(ويلٌ) مرفوع بالابتداء. و (لِلْمُكَذِّبِينَ) الخبر، ويجوز في
العربية
(وَيْلاً يَوْمَئِذٍ) ولا يجيزه القراء لمخالفة المصحف
* * *
قوله عزَّ وجلَّ: (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ
نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17)
على الاستئناف، ويقرأ ثم نتبعْهم - بالجزم عطف على نهلك، ويكون
المعنى أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ أي أَولًا وَآخِراً.
ومن رفع فعلى معنى ثم نُتبع الأول الآخر من كل مجرم.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ: (كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18)
موضع الكاف نصب، المعنى مثل ذلك نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ
* * *
قوله: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً
وَأَمْوَاتًا (26)
(كفاتاً) ذات جمع، المعنى تضمهم أَحْيَاءً على ظُهُورِها،
وأمواتاً في
بطنها، و (أحياء) منصوب بقوله (كِفَاتَاً)، يقال كفت الشيء
أكفته إذا جمعته
وضممته.
(وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ
مَاءً فُرَاتًا (27)
أي جبالاً ثوابت، يقال رسا الشيء يَرْسُو إذا ثبت
(شَامِخَاتٍ) مرتفعات.
(وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا)
أَي عَذْبأ.
* * *
قوله: (انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29)
يعنى النار لأنهم كذَبوا بالبعث والنشور والنار
(انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30)
(5/267)
كُلُوا وَاشْرَبُوا
هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
يعنى بالظل ههنا دُخَانُ جَهَنَّمَ، ثم
أعلم عزَّ وجلَّ أنه ليس بظليل ولا
يدفع من لهب النار شيئاً فقال:
(لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا
تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32)
جاء في التفسير أنه القصرُ مِنْ هذِه القُصُورِ، وقيل القصر
جمع قَصَرة.
وهو الغليظ من الشجر، وقرئت كالقَصَرِ - بفتح الصاد - جمع
قَصَرَةُ أي كأنَّها أعناق الإبِلَ.
* * *
وقوله: (كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33)
يقرأ (جِمَالاتٌ) وجُمَالاتٌ، - بضم الجيم وكسرها - يُعْنَى أن
الشرر
كالجمال السُّودِ، يقال للإبل التي هي سود تضرب إلى
الصُّفْرَةِ: إبل صُفْر.
فمن قرأ (جِمَالاتٌ) بالكسر فهو جمع جِمَال، كما تقول بُيُوت
وبيوتات وهو جمع الجمع، ومن قرأ (جُمَالاتٌ) بالضم فهو جمع
جمالة.
وهو القَلْسُ من قلوس سفن البحر، ويقال كالقَلْسِ من قلوس
الجسر.
ويجوز أن يكون جمع جَمَل وجمالٍ وجمالات، كما قيل رجال جمع
رجل، وقرئت (جِمَالَة صُفْر) على جمع جمل وجمالة كما قيل حجر
وحجارة، وَذَكَر وذِكارة، وقُرئت (جُمالة صُفْر) على ما
فسَّرنا في جُمَالَات (1).
* * *
وقوله: (هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ
لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36)
يوم القيامة له مواطن ومواقيتُ، فهذا من المواقيت التي لا
يتكلمون
فيها.
* * *
وقوله: (هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ
(38)
أي هذا يوم يفصل فيه بين أهل الجنة والنار وأهل الحق
والبَاطِلِ.
* * *
وقوله: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ (43)
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {إِنَّهَا}: أي: إنَّ جهنَّم؛ لأنَّ السياقَ كلَّه
لأجلها. وقرأ العامَّةُ: «بَشرَرٍ» بفتح الشينِ وعَدَمِ الألفِ
بين الراءَيْن. وورش يُرَقِّقُ الراءَ الأولى لكسرِ التي
بعدها. وقرأ ابن عباس وابن مقسم بكسرِ الشين وألفٍ بين
الراءَيْنِ. وعيسى كذلك، إلاَّ أنَّه فتح الشين. فقراءةُ ابنِ
عباس يجوزُ أَنْ تكونَ جمعاً لشَرَرَة، وفَعَلة تُجْمَعُ على
فِعال نحو: رَقَبة ورِقاب ورَحَبة ورِحاب، وأَنْ تكونَ جمعاً
لشَرِّ، لا يُراد به أَفْعَلُ التفضيلِ. يقال: رجلٌ شَرٌّ
ورجالٌ شِرارٌ، ورجلٌ خيرٌ ورجالٌ خِيار، ويؤنثان فيقال: امرأة
شَرَّةٌ، وامرأةٌ خَيْرةٌ. فإن أُريد بهما التفضيلُ امتنعَ ذلك
فيهما، واختصَّا بأحكامٍ مذكورةٍ في كتبِ النحْويين أي: تَرمي
بشِرارٍ من العذابِ أو بشِرار من الخَلْق.
وأمَّا قراءةُ عيسى/ فهي جمعُ شَرارَةٍ بالألفِ وهي لغةُ
تميمٍ. والشَّرَرَةُ والشَّرارَة: ما تطايَرَ من النارِ
متفرِّقاً.
قوله: {كالقصر} العامَّةُ على فتح القافِ وسكونِ الصادِ، وهو
القَصْرُ المعروف، شُبِّهَتْ به في كِبَرِه وعِظَمِه. وابن
عباس وتلميذاه ابن جُبَيْر وابنُ جَبْر، والحسن، بفتحِ القافِ
والصادِ، وهي جمعُ قَصَرة بالفتح والقَصَرَةُ: أَعْناقُ
الإِبلِ والنخلِ، وأصولُ الشجرِ. وقرأ ابن جبير والحسن أيضاً
بكسرِ القافِ وفتحِ الصاد جمع «قَصَرة» يعني بفتح القافِ. قال
الزمخشريُّ: «كحاجةٍ وحِوَج» وقال الشيخ: «كحَلَقة من الحديدِ
وحِلَق». وقُرىء «كالقَصِرِ» بفتح القاف وكسرِ الصادِ، ولم
أَرَ لها توجيهاً. ويظهرُ أنَّ ذلك مِنْ بابِ الإِتباعِ،
والأصلُ: كالقَصْرِ بسكونِ الصادِ، ثم أتبعَ الصادَ حركةَ
الراءِ فكسَرها، وإذا كانوا قد فَعَلُوا ذلك في المشغولِ بحركة
نحو: كَتِف وكَبِد، فلأَنْ يَفْعلوه في الخالي منها أَوْلَى.
ويجوزُ أَنْ يكون ذلك للنقل بمعنى: أنه وَقَفَ على الكلمةِ
فَنَقَل كسرةَ الراءِ إلى الساكنِ قبلَها. ثم أَجْرَى الوَصْلَ
مُجْرَى الوقفِ، وهو بابٌ شائِعٌ عند القُرَّاءِ والنحاة. وقرأ
عبدُ الله بضمِّهما. وفيها وجهان، أحدُهما: أنَّه جمعُ قَصْرٍ
كرَهْن وَرُهُن، قاله الزمخشريُّ. والثاني: أنَّه مقصورٌ من
قُصور كقولِه:
4458 فيها عيايِيْلُ أُسودٍ ونُمُرْ. . . يريد: ونُمور. فقصَر
وكقوله: «النُّجُم» يريد النجوم. وتخريجُ الزمخشريِّ أَوْلَى؛
لأنَّ محلَّ الثاني: إمَّا الضرورةُ، وإمَّا النُّدُور.
قوله: {جِمَالَةٌ}: قرأ الأخَوان وحَفْصٌ «جِمالَةٌ». والباقون
«جِمالات». فالجِمالَةُ فيها وجهان، أحدُهما: أنَّها جمعٌ
صريحٌ، والتاءُ لتأنيثِ الجمعِ. يُقال: جَمَلٌ وجِمال وجِمالَة
نحو: ذَكَر وذِكار وذِكارة، وحَجَر وحِجارة. والثاني: أنه اسمُ
جمعٍ كالذِّكارة والحِجارة، قاله أبو البقاء، والأولُ قولُ
النُّحاةِ. وأمَّا جِمالات فيجوزُ أَنْ يكونَ جمعاً ل «جِمالة»
هذه، وأَنْ يكونَ جمعاً ل جِمال، فيكون جمعَ الجمعِ. ويجوزُ
أَنْ يكونَ جمعاً ل جَمَل المفردِ كقولهم: «رجِالات قريش» كذا
قالوه. وفيه نظرٌ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أنَّ الأسماءَ الجامدةَ
غيرَ العاقلةِ لا تُجْمَعُ بالألفِ والتاءِ، إلاَّ إذا لم
تُكَسَّرْ. فإنْ كُسِّرَْتْ لَم تُجْمَعْ. قالوا: ولذلك لُحِّن
المتنبيُّ في قولِه:
4459 إذا كان بعضُ الناسِ سَيْفاً لدولةٍ. . . ففي الناسِ
بُوْقاتٌ لها وطُبولُ
فجمع «بُوقاً» على «بُوقات» مع قولِهم: «أَبْواق»، فكذلك
جِمالات مع قولهم: جَمَل وجِمال. على أنَّ بعضَهم لا يُجيزُ
ذلك، ويَجْعَلُ نحو «: حَمَّامات وسِجلاَّت شاذَّاً، وإنْ لم
يُكَسَّرْ.
وقرأ ابنُ عباس والحسنُ وابن جبير وقتادةُ وأبو رجاء، بخلافٍ
عنهم، كذلك، إلاَّ أنَّهم ضَمُّوا الجيمَ وهي حِبالُ السفنِ.
وقيل: قُلوس الجسورِ، الواحدةِ» جُمْلة «لاشتمالِها على طاقاتِ
الحِبال. وفيها وجهان، أحدهما: أَنْ تكونَ» جُمالات «جمعَ
جُمال، وجُمال جَمْعَ جُمْلة، كذا قال الشيخ، ويَحْتاجُ في
إثباتِ أنَّ جُمالاً بالضمِّ جمعُ جُمْلة بالضمِّ إلى نَقْلٍ.
والثاني: أنَّ» جُمالات «جمعُ جُمالة قاله الزمخشري، وهو
ظاهرٌ. وقرأ ابنُ عباس والسُّلَمِيُّ وأبو حيوةَ» جُمالة
«بضمِّ الجيم، وهي دالَّةٌ لِما قاله الزمخشريُّ آنِفاً.
قوله: {صُفْرٌ} صفةٌ لجِمالات أو لِجمالة؛ لأنَّه: إمَّا جمعٌ
أو اسمُ جمعٍ. والعامَّة على سكونِ الفاءِ جمعَ صفْراء.
والحسنُ بضمِّها، وكأنَّه إتْباعٌ. وَوَقَعَ التشبيهُ هنا في
غايةِ الفصاحةِ. قال الزمخشريُّ:» وقيل: صُفْرٌ سُوْدٌ
تَضْرِبُ إلى الصُّفرة. وفي شعرِ عمرانَ بنِ حِطَّانَ
الخارجيِّ:
4460 دَعَتْهُمْ بأعلَى صوتِها ورَمَتْهُمُ. . . بمثل الجِمال
الصفر نَزَّاعةِ الشَّوى
وقال أبو العلاء المعري:
4461 حمراءُ ساطِعَةُ الذوائب في الدُّجَى. . . تَرْمي بكل
شَرارةٍ كطِرافٍ
فشبَّهها/ بالطِّراف، وهو بيت الأُدَم في العِظَمِ
والحُمْرَةِ، وكأنه قَصَدَ بخُبْثِه أَنْ يزيدَ على تشبيهِ
القرآن. ولتبجُّحه بما سُوِّل له مِنْ تَوَهُّم الزيادة جاءَ
في صَدْرِ بيتِه بقولِه: «حمراءُ» توطئةً لها ومناداةً عليها،
وتَنْبيهاً للسامِعين على مكانِها. ولقد عَمِيَ جمع الله له
عَمى الدَّارَيْن عن قولِه عزَّ وجلَّ: «كأنه جِمالةٌ صُفْرٌ»
فإنه بمنزلةِ قولِه كبيتٍ أحمر. وعلى أنَّ في التشبيهِ
بالقَصْر وهو الحِصْنُ تشبيهاً مِنْ جهتَين: مِنْ جهةِ
العِظَمِ، ومن جهةِ الطولِ في الهواءِ، وفي التشبيه بالجِمالات
وهي القُلُوسُ تشبيهٌ مِنْ ثلاثِ جهاتٍ: الطُّولِ والعِظَمِ
والصُّفْرةِ «انتهى. وكان قد قال قبلَ ذلك بقليلٍ:» شُبِّهَتْ
بالقُصورِ ثم بالجِمال لبيانِ التشبيهِ، ألا ترى أنَّهم
يُشَبِّهون الإِبلَ بالأَفْدان «قلت: الأَفْدانُ: القصورُ،
وكأنه يُشيرُ إلى قولِ عنترة:
4462 فوقَفْتُ فيها ناقتي وكأنَّها. . . فَدَنٌ لأَقْضِيَ
حاجةَ المُتَلَوِّمِ
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/268)
فَبِأَيِّ حَدِيثٍ
بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
ههنا إضمار القول، المعنى (إِنَّ
الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا
يَشْتَهُونَ (42)
يقال لهم: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ).
* * *
قوله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48)
إذا أمروا بالصلَاةِ لَمْ يُصَلُّوا.
* * *
وقوله: (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
أي: فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بعد القرآن الذي أتاهم فيه البيان
وأَنَهُ مُعْجِزَة وهو آية
قائمة، دليلة على الإسلام مما جاء به النبي عليه السلام.
(5/269)
|