معاني القرآن
وإعرابه للزجاج أَلَمْ نَجْعَلِ
الْأَرْضَ مِهَادًا (6)
سُورَةُ النَّبَأ
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ: (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1)
أصله عن ما يتساءلون. فأدْغمت النون في الميم، لأن الميم تشرك
النُونَ في الغُنَّةِ في الأنف، وقد فسرنا لم حذفت الألف فيما
مضى من
الكتاب، والمعنى عن أي شيء يتساءلون، فاللفظ لفظ الاستفهام،
والمعنى
تفخيم القصة كماتقول: أي شيء زَيْدٌ.
ثم بين فقال:
* * *
(عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2)
قيل هو القرآنَ، وقيل عن البعث، وقيل عن أمر النبي - صلى الله
عليه وسلم -.
والذي يدل عليه قوله: (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ
مِيقَاتًا)
يدل على أنهم كانوا يَتساءلون عن البعث.
* * *
وقوله: (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4)
وقرئتْ: (كلا ستعلمون) بالتاء.
والذىَ عليه القراء: (كَلَّا سَيَعْلَمُونَ) بالياء.
وهو أجود، والتاء تروى عَنِ الحَسنِ.
* * *
وقوله: (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6)
وقرئت (مَهْداً)، وأكثر القراء يقرأونها (مِهَادًا).
والمعنى واحد وتأويله إنا ذللناها لهم حتى سكنوها وساروا في
مناكبها.
(5/271)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي
الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)
وقوله: (وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)
خلق الذكَر والأنثى، وقيل أزواجاً أي ألواناً.
* * *
(وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9)
والسُّبَاتُ أن ينْقطع عن الحركة والروحُ في بدنه، أي جعلنا
نومكم راحة
لكم.
* * *
(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10)
أي تسكنون فيه وهو مشتمل عليكم
* * *
(وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12)
أي سبعَ سمواتٍ.
* * *
(وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13)
أي جعلنا فيها الشمس سراجاً.
وتأويل (وَهَّاجًا) وَقًاداً. .
* * *
(وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14)
المعصرات: السحائب لأنها تعصر الماء وقيل المعصرات كما يقال:
قد
أَجَزَّ الزرْعُ فهو مُجَزّ إذا صار إلى أن يمطر. فقد أَعْصَر
(1)
ومعنى ثجاج صباب.
* * *
(لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15)
كل ما حصد فهو حَبٌّ، وكل ما أكلته الماشية من الكلأ فهو
نَبَات.
* * *
(وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
أي وبساتين ملتفة، فأعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - ما خلق وأنه
قادِرٌ على
البعث فقال:
* * *
(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17)
* * *
(يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18)
بدل من يوم الفصل، إن شئت كان مُفسَراً ليوم الفصلِ.
وقد فسرنا الصور فيما مضى.
(فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا)
أي تأتي كل أمة مع إمَامِهِم.
__________
(1) قال ابن الجوزي حكايا عن الزَّجَّاجِ ما نصه:
وقال الزجاج: إنما قيل للسحاب: معصرات، كما قيل: أجزَّ الزرع،
فهو مُجِزُّ، أي: صار إلى أن يُجَزَّ، فكذلك السحاب إذا صار
إلى أن يمطر، فقد أعصر. اهـ (زاد المسير. 9/ 6)
وقال السَّمين:
قوله: {مِنَ المعصرات}: يجوزُ في «مِنْ» أَنْ تكونَ على بابِها
من ابتداءِ الغاية، وأَنْ تكونَ للسببية. ويَدُلُّ قراءةُ عبدِ
الله بنِ يزيد وعكرمة وقتادة «بالمُعْصِرات» بالباءِ بدلَ
«مِنْ» وهذا على خلافٍ في «المُعْصِرات» ما المرادُ بها؟ فقيل:
السحاب. يقال: أَعْصَرَتْ السَّحائِبُ، أي: شارَفَتْ أَنْ
تُعْصِرَها الرياحُ فتُمْطِرَ كقولك: «أجَزَّ الزرعُ» إذا حان
له أن يُجَزَّ. ومنه «أَعْصَرَتِ الجارِيَةُ» إذا حان لها أَنْ
تحيضَ. قاله الزمخشريُّ. وأنشد ابنُ قتيبة لأبي النجم:
4466 تَمْشي الهُوَيْنَى ساقِطاً خِمارُها. . . قد أَعْصَرَتْ
أو قَدْ دَنَا إعْصارُها
قلت: ولولا تأويلُ «أَعْصَرَتْ» بذلك لكان ينبغي أَنْ تكونَ
المُعْصَرات بفتح الصادِ اسمَ مفعول؛ لأنَّ الرياحَ
تُعْصِرُها.
وقال الزمخشري: «وقرأ عكرمةُ» بالمُعْصِرات «. وفيه وجهان:
أَنْ يُراد الرياحُ التي حانَ لها أَنْ تُعْصِرَ السحابَ،
وأَنْ يُرادَ السحائبُ؛ لأنَّه إذا كان الإِنزالُ منها فهو
بها/ كما تقول: أَعْطى مِنْ يدِه درهماً، وأَعْطى بيدِه. وعن
مجاهد: المُعْصِرات: الرياحُ ذواتُ الأعاصيرِ. وعن الحسن
وقتادة: هي السماواتُ. وتأويلُه: أنَّ الماءَ يَنْزِلَ من
السماءِ إلى السحاب فكأنَّ السماواتِ يَعْصِرْنَ، أي:
يَحْمِلْنَ على العَصْر ويُمَكِّنَّ منه. فإنْ قلتَ: فما
وَجْهُ مَنْ قرأ» من المُعْصِرات «وفسَّرها بالرياح ذواتِ
الأعاصيرِ، والمطرُ لا يَنْزِلُ من الرياح؟ قلت: الرياحُ هي
التي تُنْشِىءُ السحابَ وتَدِرُّ أخلافَه، فيَصِحُّ أَنْ
تُجْعَلَ مَبْدأً للإِنزال. وقد جاء: إنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ
الرياحَ فتحملُ الماءَ من السماء، فإنْ صَحَّ ذلك فالإِنْزالُ
منها ظاهرٌ. فإنْ قلت: ذكر ابن كَيْسانَ: أنه جَعَلَ
المُعْصِرات بمعنى المُغِيثات، والعاصِرُ هو المُغيث لا
المُعْصِر. يقال: عَصَرَهُ فاعْتَصَرَ. قلت: وَجْهُه أَنْ
يُرادَ: اللاتي أَعْصَرْن، أي: حان لها أَنْ تُعْصِرَ، أي:
تُغيث». قلت: يعني أنَّ «عَصَرَ» بمعنى الإِغاثةِ ثلاثيٌّ،
فكيف قيل هنا: مُعْصِرات بهذا المعنى، وهو من الرُّباعي؟ فأجاب
عنه بما تقدَّم، يعني أنَّ الهمزةَ بمعنى الدُّخولِ في الشيء.
قوله: {ثَجَّاجاً} الثَّجُّ: الانصِبابُ بكثرةٍ وشِدَّةٍ. وفي
الحديث: «أحَبُّ العملِ إلى اللَّهِ العَجُّ والثَّجُّ»
فالعَجُّ: رَفْعُ الصوتِ بالتلبيةِ، والثَّجُّ: إراقةُ دماءِ
الهَدْيِ. يقال: ثَجَّ الماءُ بنفسِه، أي: انصَبَّ وثَجَجْتُه
أنا، أي: صَبَبْتُه ثَجّاً وثُجوجاً، فيكونُ لازماً ومتعدياً.
وقال الشاعر:
4467 إذا رَجَفَتْ فيها رَحَىً مُرْجَحِنَّةٌ. . . تَبَعَّجَّ
ثَجَّاجاً غَزيرَ الحوافِلِ
وقرأ الأعرج «ثجَّاحاً» بالحاءِ المهملةِ أخيراً. وقال
الزمخشري: «ومَثاجِحُ الماءِ مَصابُّه، والماءُ يَنْثَجِحُ في
الوادي».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/272)
إِلَّا حَمِيمًا
وَغَسَّاقًا (25)
(وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ
أَبْوَابًا (19)
أي تشققت كما قال عزَّ وجلَّ: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)
(إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ).
* * *
وقوله: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ
مَآبًا (22)
أي يَرْصُدُ أَهلَ الكفر ومن حق عليه العذاب.
تكاد تميز من الغيظ، فلا يجاوزها من حقت عليه كلمة العذاب.
ومعنى (مَآبًا) إليها يرجعون.
* * *
وقوله: (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23)
وَلَبِثينَ، يقال: لبث الرجل فهو لابث، ويقال: هو لبث بمكان
كذا أي
صار اللبث شَأنَهُ.
والأحقاب واحدها حُقْب، والحقب ثمانون سنة، كل سنة
اثنا عشر شهراً، وكل شهر ثلاثون يوماً، وكل يوم مقداره ألف سنة
من سني الدنيا، والمعنى أنهم يلبثون أحقاباً لاَ يَذُوقُون في
الأحقاب برداً ولا شراباً، وهم خالدون في النار أبداً كما قال
عزَّ وجلَّ: (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) (1).
* * *
ومعنى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24)
قيل نوماً، وجائز أن يكون لَا يَذُفقُونَ فِيهَا بَرْدَ رِيح
وَلاَ ظِلٍّ وَلاَ نَوْم.
* * *
(إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25)
أي لا يذوقون فيها إلَّا حميماً وهو في غاية الحرارة.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {لاَّبِثِينَ}: منصوبٌ على الحالِ من الضميرِ المستترِ
في «للطَّاغِين» وهي حالٌ مقدرةٌ. وقرأ حمزةُ «لَبِثِيْنَ»
دونَ ألفٍ، والباقون «لابِثين» بها. وضَعَّفَ مكيٌّ قراءةَ
حمزةَ، قال: «ومَنْ قرأ» لبِثين «، شَبَّهه بما هو خِلْقَةٌ في
الإِنسان نحو: حَذِر وفَرِق، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ اللُّبْثَ ليس
مِمَّا يكونُ خِلْقَةً في الإِنسان، وبابُ فَعِل إنما هو لِما
يكونُ خِلْقَةً في الإِنسانِ، وليس اللُّبْثُ بخِلْقةٍ».
ورَجَّح الزمخشريُّ قراءةَ حمزةَ فقال: «قُرِىءَ: لابِثين
ولَبِثين. والَّلبِثُ أَقْوى»؛ لأنَّ اللابِثَ يُقال لِمَنْ
وجِدَ منه الُّلبْثُ، ولا يُقال: لِبثٌ إلاَّ لمَنْ شأنُه
الُّلبْثُ كالذي يَجْثُمُ بالمكانِ، لا يكاد يَنْفَكُّ منه «.
قلت: وما قاله الزمخشريُّ أَصْوَبُ. وأمَّا قولُ مكيّ:
الُّلبْثُ ليس خِلْقَةً فمُسَلَّمٌ؛ لكنه بُوْلِغَ في ذلك
فجُعِلَ بمنزلةِ الأشياءِ الخِلْقيَّة.
قوله: {أَحْقَاباً} منصوبٌ على الظرفِ، وناصبهُ» لا بثين «،
هذا هو المشهورُ. وقيل: هو منصوبٌ بقولِه» لا يَذُوقون «وهذا
عند مَنْ يرى تقديمَ معمولِ ما بعد» لا «عليها، وهو أحدُ
الأوجه، وقد تقدَّم هذا مستوفىً في أواخر الفاتحة. وجَوَّز
الزمخشريُّ أَنْ ينتصِبَ على الحالِ، قال:» وفيه وجهٌ آخر: وهو
أَنْ يكونَ مِنْ حَقِبَ عامُنا: إذا قَلَّ مطرُه وخيرُه،
وحَقِبَ فلانٌ: إذا أَخْطَأَهُ الرِّزْقُ فهو حَقِبٌ، وجمعهُ
أَحْقاب، فينتصِبُ حالاً عنهم بمعنى: لابثين فيها حَقِبين
جَحِدين «. وقد تقدَّم الكلامُ على» الحُقُب «، وما قيل فيه في
سورة الكهف.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/273)
وَكَأْسًا دِهَاقًا
(34)
والغَسَّاقُ: قيل ما يَغْسِقُ من جُلُودهم،
أي يسيل.
وقيل: الغسَّاق الشديد البَرْدِ.
* * *
(جَزَاءً وِفَاقًا (26)
أي جُوزُوا وِفْق أعمالهم.
* * *
(إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27)
أي لا يؤمنون بالبعث وَلَا بأنهمْ يُحَاسَبُونَ، ويرجون ثواب
حساب.
* * *
(وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28)
هذا أكثر القراءة، وَقَدْ قُرِئَتْ (كِذَابًا) بالتخفيف.
و (كِذَّابًا) بالتَشْدِيدِ أكثر.
وهو في مصادر فعَّلْتُ أجود من فِعَال.
قال الشاعر:
لَقَدْ طَالَ مَا ثَبَّطَتني عن صَحَابَتي. . . وَعَنْ حوَجٍ
قِضَّاؤها من شِفَائِيَا
من قضيت قضَاء.
ومثل كِذَاباً - بالتخفيف
قول الشاعر:
فَصَدَقْتُها وكَذَبْتُها. . . وَالمَرْءُ يَنْفَعُهُ
كِذَابُهْ
* * *
وقوله: (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29)
(وَكُلَّ) منصوبٌ، بفعل مُضْمَر تفسيره أَحْصَيْنَاهُ كتاباً.
المعنى وأَحصينا كلَّ شيء أحْصَيْناه.
وقوله (كِتاباً) توكيد لقوله (أحْصَيْنَاهُ) لأن معنى
أحْصَيْنَاه وكتبناه
فيما يحصل ويثبت واحد؛ فالمعنى كتبناه كتاباً.
* * *
وقوله - جلَّ وعزَّ: - (وَكَأْسًا دِهَاقًا (34)
أي تقدير الآية لا يرجون ثواب حساب - فهناك مضاف محذوف.
(5/274)
إِنَّا
أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ
مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي
كُنْتُ تُرَابًا (40)
قال أبو إسحاق: الكأس كل إناء فيه شرابٌ
فهو كاس، فإذا لم يكن فيه
شراب. فليس بكأس، وكذلك المائدة: ما كان عليها من الأخونة طعام
فهو
مائدة، ومعنى دهاقاً مليء، وجاء في التفسير أَيْضاً أنها
صافية، قال الشاعر:
يَلَذُّه بكَأْسِه الدِّهاق
* * *
وقوله: (جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)
منصوب بمعنى (إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا)، المعنى جازاهم
بذلك جزاء.
وكذلك (عَطَاءً حِسَابًا)، لأن معنى أعطاهم وجزاهم وَاحِد.
و (حِسَابًا) معناه ما يكفيهم، أي فيه ما يشتهون.
يقال: أَحْسَبَنِي كذا وكذا بمعنى كفاني.
* * *
وقوله: (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا
الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37)
قرئت بالجر على الصفة من قوله: " مِنْ رَبِّكَ " رَبِّ.
وقرئت " ربُّ " على معنى هو رَبُّ السَّمَاواتِ والأرْضِ.
وكذلك قرئَت (الرَّحْمَنُ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا) -
بالجرِّ والرفع.
وتفسيرها تفسير (رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ).
* * *
وقوله: (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا
يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ
صَوَابًا (38)
(الرُّوحُ) خلق كالإنس، وليس هو إنس.
وقيل: الروح جبريل عليه السلام.
* * *
وقوله: (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39)
أي مرْجعاً.
* * *
وقوله: (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا
(40)
جاء في التفسير أنه إذا كان يوم القيامة اقتُصَّ للجَمَّاءِ
مِنَ القَرْناء.
والجمَّاء
(5/275)
التي لا قرن لها.
ثم يجعل اللَّه تعالى الجميع تراباً، وذَلِك التُرابً هو
القَتَرَة
التي تَرْهَقُ وجوهَ الكفار وتعلو وجوههم، فيتمنى الكافر أن
يكون ترَاباً.
وقد قيل: إن معنى (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا).
أي ليتني لم أبعث، كما قال: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ
كِتَابِيَهْ (25).
(5/276)
فَالْمُدَبِّرَاتِ
أَمْرًا (5)
سُورَةُ النَّازِعَاتِ
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1)
وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2)
قيل في التفسير يعنى به الملائكة تنزِع روحَ الكَافِرِ وتنشطها
فيشتد عليه
أمر خروج نَفْسِه.
* * *
وقوله: (وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا
(4)
أرواح المؤمنين تخرج بسهولةٍ.
وقيل: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا) القسِي، (وَالنَّاشِطَاتِ
نَشْطًا) الأَوْهاق
(وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا) السُّفن، (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا)
الخيل.
* * *
(فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5)
(فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا) الملائِكَة، جبريل وميكائيل
وإسرافيل وملَك الموْتِ
فجبريل بالوحي والتنزيل وميكائيل بالقطر والنبات، وإسرافيل
للصورِ وملك
الموت لقبض الأرْوَاحِ.
وقيل: (وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا): النجوم تنزع من مَكَانٍ إلى
مكانٍ وكذلك
(وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا) النجوم تسبح في الفلك كما قال:
(وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ).
__________
(1) الأَوْهاق جمع وهق وهو الأربطة والقيود
(5/277)
أَإِذَا كُنَّا
عِظَامًا نَخِرَةً (11)
وكذلك (فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا)
فأما (المدبرات أمراً) فالملائكةً، وقيل ((فَالسَّابِقَاتِ
سَبْقًا) الملائكة تسبق الشياطينَ بالوَحْي إلى الأنبياء
كل هذا جاء في التفسير واللَّه أعلم بحقيقة ذلك.
* * *
وقوله: (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا
الرَّادِفَةُ (7)
ترجف تتحرك حركة شديدة، وقيل: الراجفة النفخة الأولى التي تموت
معها جميع الخلق.
* * *
وَقَوْلَهُ: (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)
قيل النفخة الثانية التي تبعث معها الخلق، وهو كقوله تعالى:
(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ
وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ
فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68).
و (يَوْمَ) منصوب على معنى قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ
يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ.
ومعنى واجفة شديدة الاضطراب.
* * *
(أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9)
ذليلة.
وجواب والنازعات - واللَّه أعلم - محذوفٌ، والمعنى كأنَّه
أَقْسَمَ فقال:
وهَذِه الأشْياء لَتُبْعثنَّ، والدلِيلُ عَلَى ذَلكَ قوله:
* * *
(يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10)
أي إنا نرد في الحياة بعد الموت إذا كنا عظاماً نَخِرة، أي
نُردُّ ونبعث.
ويقال: رجع فلان في حافرته إذا رجع في الطريق الذي جاء فيه.
(أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11)
وقرئت (نَخِرَةً) (1)، و (نَاخِرَةً) أكثر في القراءة وأجود
لشبه آخِرِ الآي بعضها ببعض، الحافرة
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {نَّخِرَةً}: قرأ الأخَوان وأبو بكر «ناخِرَة» بألفٍ،
والباقون «نَخِرَة» بدونِها وهما كحاذِر وحَذِر، فاعِل لمَنْ
صَدرَ منه الفِعْلُ، وفَعِل لِمَنْ كان فيه غَريزةً، أو
كالغَريزة. وقيل: ناخِرة ونَخِرة بمعنى بالية. وقيل: ناخِرَة،
أي: صارَتِ الريحُ تَنْخِرُ فيها، أي: تُصَوِّتُ، ونَخِرَة،
أي: تَنْخِرُ فيها دائماً. وقيل: ناخِرَة: بالِية، ونَخِرَة:
متآكلة. وعن أبي عمروٍ: الناخِرة: التي لم تَنْخَرْ بعدُ،
والنَّخِرَةُ: البالية. وقيل: الناخِرَةُ: المُصَوِّتَةُ فيها
الريحُ، والنَّخِرةُ: الباليةُ التي تَعَفَّنَتْ. قال
الزمخشري: «يُقال: نَخِر العظمُ، فهو نَخِرٌ وناخِرٌ، كقولِك:
طَمِعَ فهو طَمعٌ وطامعٌ، وفَعِل أَبْلَغُ مِنْ فاعِل، وقد
قُرِىء بها، وهو البالي الأجوفُ الذي تَمُرُّ فيه الرِّيحُ
فيُسْمَعُ له نَخِير». قلت: ومنه قولُه:
4484 وأَخْلَيْتُها مِنْ مُخِّها فكأنَّها. . . قواريرُ في
أجوافِها الريحُ تَنْخِرُ
وقال الراجزُ لفَرَسه:
4485 أَقْدِمْ نَجاحُ إنها الأَساوِرَهْ. . . ولا
يَهْوْلَنَّكَ رَحْلٌ نادِرَهْ
فإنما قَصْرُك تُرْبُ السَّاهِرَهْ. . . ثم تعودُ بعدها في
الحافِرَهْ
مِنْ بعدِ ما كنتَ عِظاماً ناخِرَهْ. . . ونُخْرَةُ الرِّيْح
بضمِّ النون: شِدَّةُ هبوبِها، والنُّخْرَةُ أيضاً: مُقَدَّمُ
أَنْفِ الفَرَسِ والحمارِ والخِنْزير. يقال: هَشَم نُخْرَتَه،
أي: مُقَدَّمَ أَنْفِه. و «إذا» منصوبٌ بمضمرٍ، أي: إذا كُنَّا
كذا نُرَدُّ ونُبْعَثُ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/278)
فَأَرَاهُ الْآيَةَ
الْكُبْرَى (20)
وناخرة وخاسرة. ونخرة جَيدة أيضاً، يقال:
نخر العظم يَنْخَر فهو نخِر مثل عفِنَ الشيءُ يعْفنُ فهو
عَفِن. وَنَاخِرة على معنى عظاماً فارغة يصير فيها من هبوب
الريح كالنخير، ويجوز ناخرة كما تقول: بَلِي الشيء وبليت
العظام فهي بَالِية.
* * *
(قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12)
أي هذه الكرة كرة خُسْران.
والمعنى أهلها خاسرونَ.
ثم أَعْلَمَ عزَّ وجل سهولة البعث عليه فقال:
* * *
(فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ
بِالسَّاهِرَةِ (14)
والساهرة وجه الأرض.
* * *
وقوله: (إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى
(16)
أي المبارك.
وقرئت " طُوَى اذْهَبْ " - غَيْرَ مَصْرُوفَةٍ - وطًوًى
منوَّنَةً.
وقرئت طِوَى بكسر الطاء.
وطُوَى اسم الوادي الذي كلم الله عليه موسى.
فمن صرفه فهو بمنزلة نُغَر (1) وَصُرَدِ إذا سميت به مذكراً،
ومن لم يصرفه فهو على ضربين:
أحدهما أَنْ يكون اسمَ البقعة التي هي مشتملة على الوادي، كما
قال: (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ)
وَقِيلَ إنَه مُنِعَ الصرْف لأنه معدول نحو عُمَر، فكان طوى
عُدِلَ عَنْ طاوٍ
كما أن عًمرَ عُدِلَ عَنْ عَامِر.
ومن قال طِوى بالكسر فعلى معنى المقدَّس مرةً بعد مَرةٍ.
كما قال طرفة بن العَبْد:
أَعاذِل إِنَّ اللَّوْمَ في غيرِ كُنْهِه عليَّ طُِوىً من
غَيِّك المُتَرَدِّد
أي إن اللوْمَ المكرُورَ عَلَيَّ.
* * *
وقوله: (فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20)
__________
(1) النغر فراخ العصافير واحدها نغرة.
(5/279)
وَالْجِبَالَ
أَرْسَاهَا (32)
يعنى أنه اليدُ التي أخرجها تتلألأ من غير
سوء.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ: (فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ
وَالْأُولَى (25)
(نَكَالَ) منصوب مصدر مؤكد لأن معنى أخذه اللَّه نَكَّلَ بِهِ
نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى أي أغرقه في الدنيا ويعذبه في
الآخرة.
وجاء في التفسير أن (نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى)
نكال قوله: (مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي).
وقوله: (أنا رَبُّكُمُ الأعْلَى).
فنكل اللَّه به نكال هاتين الكلمتين (1).
* * *
قوله: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا
(27)
قال بعض النحويين: (بناها) من صلة السَّمَاءِ، المعنى أم التي
بناها.
وقال قوم: السماء ليس مِما يوصل، ولكن المعنى أَأَنْتُمْ
أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ
أَشَدُّ خَلْقًا.
ثم بين كيف خلقها فقال:
* * *
(بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ
لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29)
أي أظْلَمَ لَيْلَها.
* * *
(وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا): أظهر نورها بالشمس.
* * *
وقوله: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30)
القراءة على نصب (الْأَرْضَ)، على معنى: ودحا الأرضَ بعد ذلك،
وفسر
هذا المضمر فقال (دَحَاهَا)، كما تقول: ضربت زيدا وعمرا
أكرمته.
وقد قرئت (وَالْأَرْضُ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) على الرفع
بالابتداء.
والنصب أجودُ، لأنك تعطف بفعل على فعل أحسن، فيكون على معنى
بناها.
وفعَل وفَعَل ودَحَا الأرض بعد ذلك.
* * *
قوله: (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {نَكَالَ الآخرة}: يجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً ل «أَخَذَ»،
والتجوُّزُ: إمَّا في الفعل، أي: نَكَّل بالأَخْذِ نَكالَ
الآخرةِ، وإمَّا في المصدر، أي: أَخَذَه أَخْذَ نَكالٍ. ويجوزُ
أَنْ يكونَ مفعولاً له، أي: لأجل نَكالِه. ويَضْعُفُ جَعْلُه
حالاً لتعريفِهِ، وتأويلُه كتأويلِ جَهْدَك وطاقَتَك غيرُ
مَقيس. ويجوزُ أَنْ يكونَ مصدراً مؤكِّداً لمضمونِ الجملةِ
المتقدِّمةِ، أي: نَكَّل الله به نَكالَ الآخرةِ، قاله
الزمخشري، وجعله ك {وَعْدَ الله} [النساء: 122] و {صِبْغَةَ
الله} [البقرة: 138]. والنَّكالُ: بمنزلةِ التَّنْكيل،
كالسَّلام بمعنى التَّسْليم. والآخرةُ والأولى: «إمَّا
الداران، وإمَّا الكلمتان، فالآخرةُ قولُه: {أَنَاْ رَبُّكُمُ
الأعلى} [النازعات: 24]، والأولى: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ
إله غَيْرِي} [القصص: 38] فحُذِفَ الموصوفُ للعِلْم به. اهـ
(الدُّرُّ المصُون).
(5/280)
إِلَى رَبِّكَ
مُنْتَهَاهَا (44)
تفسير نصب الجبال كتفسير نصب الأرض، وكذلك
يجوز الرفع، وقد
قرئ به في الجبال على تفسير والأرض.
ومعنى (أَرْسَاهَا) أثبتَهَا.
* * *
وقوله: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
نصب (مَتَاعًا لَكُمْ) بمعنى قوله أخْرَجَ مِنْهَا مَاَءَهَا
ومَرْعَاهَا للِإمتاع لكم.
لأن معنى أخرج منها ماءها ومرعاها أمتع بذلك.
* * *
وقوله: (فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34)
إذا جاءت الصيحة التي تَطُم كلَّ شيء، الصيْحة التي يقع معها
البعث
والحساب والعقاب والعذاب والرحمة.
* * *
وقوله: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ
الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39)
هذا جواب فإذا جاءت الطامة الكبرى، فإن الأمر كذلك، ومعنى هي
الْمَأْوَى أي هي الْمَأْوَى له، وقال قوم: الألف واللام بَدَل
من الهاء، المعنى
فهي مأواه لأن الألف واللام بدل من الهاء، وهذا كما تقول
للإنسان: غُضِ
الطرفَ يا هَذَا. فلابس الألف واللام بدلا من الكاف وأن كان
المعنى غضَ
طَرْفَك لأن المخاطب يعلم أنك لا تأمره بغض طرف غيره.
قال الشاعر:
فغضَّ الطرفَ إنَّك من نُمَيْرٍ. . . فلا كعباً بلغتَ ولا
كِلَابا
وكذلك معنى (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) على ذلك
التفسير.
* * *
وقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا
(42)
معناه متى وقوعها وقيامها.
ومعنى (إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44)
أي منتهى علمها.
(5/281)
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ
يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا
(46)
وقوله: (إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ
يَخْشَاهَا (45)
وقرئت (مُنْذِرٌ) بالتنوين على معنى إنما أنت في حال إنذار من
يخشاها
وتنذر أيضاً فيما يستقبل من يخشاها، ومُفعِل وفاعِل إذا كان
واحد منهما ومما كان في معناهما لما يستقبل وللحال نوَّنته
لأنه يكون بَدَلاً من الفعل، والفعل لا يكون إلا نكرة.
وقد يجوز حذف التنوين على الاستئفاف، والمعنى معنى
ثبوته يعني ثبوت التنوين، فإذا كان لما مضى فهو غير مُنَوَّنٍ
ألبتَّةَ، تقول: أنت منذر زيداً، أي - أنت أنذرت زيداً.
* * *
وقوله: (إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
هذه الألف والهاء عائدة على (عَشِيَّةً)، المعنى إِلَّا
عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا.
أو ضحى العشية، فأضفت الضحى إلى العشية، والغداة والعَشِي
والضحوة
والضحى لليوم الذي يكون فيه، فإذا قلت أتيتك صباحاً ومساءه، أو
مساء
وصَباحَه، فالمبنى أتيتك صباحاً ومساء يلي الصباح، وأتيتك مساء
وصَبَاحاً
يلي المساء.
(5/282)
أَمَّا مَنِ
اسْتَغْنَى (5)
سُورَةُ عَبَسَ
بسم اللَّه الرحمن الرحيم
قوله: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2)
(أَنْ) في موضع نصب مفعول له، المعنى لأن جاءه الأعمى.
وهذه الآيات وما بعدها إلى قوله (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى)
نزلت في عبد اللَّه ابن أمِّ مكتوم. كان صار إلى النبي - صلى
الله عليه وسلم - والنبي يدعو بعض أشراف قريش إلى الإسلام رجاء
أن يسلم بإسلامه غيره، فتشَاغَل - عليه السِلام - بدعائه عن
الإقبال
على عبد الله بن أم مكتوم، فأمره الله ألا يتشاغَلَ عن
الإقبالِ على أَحَدٍ من
المسلمين بغيره، فقال: (عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ
الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ
يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4)
(فَتَنْفَعُهُ الذِّكْرَى)
وُيقْرَأُ (فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى).
فمن نصب فعلى جواب (لَعَلَّ) ومن رفع فعلى العطف على
(يَزَّكَّى)
* * *
وقوله: (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى
(6)
أي أنت تقبل عليه، ويقرأ (تَصَّدَّى)، فمن قرأ (تَصَدَّى) -
بتخفيفِ الصاد - فالأصل تَتصَدَّى، ولكن حذفت التاء الثانية
لاجتماع تاءين، ومن قرأ (تَصَّدَّى)
(5/283)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ
مَا أَكْفَرَهُ (17)
بإدغام التاء، فالمعنى أيضا تتَصَدَّى، إلا
أن التاء أدغمت في الصاد لقرب
المخرجين - مخرج التاء مِنَ الصادِ.
* * *
وقوله: (وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7)
أي أي شيء عليك أن لا يسلم من تَدْعُوه إلى الإسلام.
* * *
وقوله: (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10)
معناه تَتَشَاغَلُ، يقال: لَهيت عن الشيء
ألهى عنه إذا تشاغلت عنه.
* * *
وقوله: (كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11)
يعنى به هذه الموعظة التي وعظ الله بها النبي عليه السلام.
* * *
(فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12)
ذُكِرَ لأن الموعظة والوعظ واحد، والمعنى راجع إلى حَمَلَةِ
القُرآن
المعنى فمن شاء أن يذكره ذكره.
ثم أخبر جلَّ وعزَّ أن الكتابَ في اللوح المحفوظ عنده، فقال:
(فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)
بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15)
والسَّفَرَةُ الكتبة، يعني به الملائكة، واحدهم سَافِر
وَسَفَرة مثل كاتب
وكتبة، وكافر وكفرة، وَإنما قيل للكتاب سَفَرة، وللكاتب سافِر،
لأن مَعْنَاه أنه يبَيِّن الشيءَ وُيوَضحُه، يقال أَسْفَرَ
الصُّبْحُ إذَا أضاء، وسفرت المرأة إذا كشفت النقاب عن
وَجْهِهَا، ومنه: سَفَرت بين القوم أي كشفت قلب هذا وقلب هذا
لأصلح بينهم.
* * *
وقوله: (كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
جمع بارٍّ.
* * *
وقوله: (قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17)
يكون على جهة لفظ التعجُب، ويكون التَعَجب مِمَّا يؤمَرُ بِهِ
الآدَمِيُّونَ
(5/284)
ثُمَّ إِذَا شَاءَ
أَنْشَرَهُ (22)
ويكون المعنى كقوله: (فَمَا أَصْبَرَهُمْ
عَلَى النَّارِ) أي اعْجَبُوا أنتم من
كُفْرِ الإنْسَان، ويجوز على معنى التوبيخ ولفظه لفظ
الاستفهام.
أيْ أيُّ شيء أكفَرَهُ. ثم بَيَّن مِن أَمْره ما كان ينبغي أن
يُعْلَمَ مَعَهُ أن الله خَالِقُه، وأنه وَاحِد فقال:
* * *
(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18)
على لفظ الاستفهام، ومعناه التقرير ثم بيَّن فقال:
* * *
(مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19)
المعنى فَقَدَّرَهُ على الاستواء كما قال عزَّ وجلَّ:
(أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ
نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37).
* * *
وقوله: (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20)
أي هداه السبيل (إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا).
* * *
وقوله: (ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)
معنى أقبره جعل له قَبراً يوارى فيه، يقال أَقْبَرْتُ
فُلَاناً، جعلت له قبراً.
وقبرت فلاناً دفنته فأنا قابِرُهُ.
قال الشاعر:
لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتاً إلى نَحْرِهَا. . . عَاشَ ولم
يُنْقَلْ إلَى قَابِرِ
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22)
معناه بعثه، يقال: أنشر اللَّهُ المَوْتَى، فَنُشِرُوا،
فالواحد نَاشِر
قال الشاعر:
حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مَمَّا رَأَوْا. . . يَا عَجَبَاً
لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ
(5/285)
فَإِذَا جَاءَتِ
الصَّاخَّةُ (33)
وقوله: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى
طَعَامِهِ (24)
أي فلينظر الإنسان كيف خلق الله طعامه وطعام جميع الحيوان الذي
جعله الله سبباً لحياتِهِمْ.
* * *
(أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25)
(إِنَّا صَبَبْنَا)
ويقرأ (أَنَّا صَبَبْنَا)، فمن قرأ (إِنَّا) فعلى الابتداء
والاستئناف ومن قرأ (أَنَّا)
فعلى البدل من الطعَام، ويكون (إِنَّا) في موضع جرٍّ، المعنى
فلينظر الإنسان إلى إِنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (1).
* * *
(ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26)
أي بالنبات.
* * *
(فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27)
والحبُ كل ما حُصِدَ، كالحنطة والشعير وكل ما
يتغَذى به من ذي حَبٍّ. والقضب الرطْبة.
* * *
(وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30)
حدائق واحدتها حديقة، وهي البساتين، والشجر الملتف، قوله
(غُلْبًا)
معناه مُتَكاثِفَة عِظام.
* * *
(وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31)
الأب جميع الكلأ الذي تعتلفه الماشيةُ، وذكر اللَّه عزَّ وجلَّ
من آياته ما
يدل على وحدانيته في إنشاء ما يغذو جميع الحيوان.
* * *
وقوله: (مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
منصوب، مصدر مؤكد لقوله (فَأَنْبَتْنَا فِيهَا) الأشياء التي
ذكرت، لأن إنباته
هذه الأشياء قد أمتع بها الخلق من الناس وجميع الحيوان.
* * *
وقوله. (فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33)
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً}: قرأ الكوفيون «أنَّا»
بفتح الهمزة غيرَ ممالةِ الألف. والباقون بالكسر. والحسنُ بن
عليّ بالفتحِ والإِمالةِ. فأمَّا القراءةُ الأولى ففيها ثلاثةُ
أوجهٍ، أحدها: أنها بدلٌ مِنْ «طعامِه» فتكونُ في محلِّ جر.
استشكل بعضُهم هذا الوجهَ، وَرَدَّه: «بأنه ليس الأولَ
فيُبْدَلَ منه؛ لأنَّ الطعامَ ليس صَبَّ الماءِ. ورُدَّ على
هذا بوجهَيْن، أحدهما: أنَّه بدلُ كلٍّ مِنْ كلّ بتأويلٍ: وهو
أنَّ المعنى: فَلْيَنْظُرِ الإِنسانُ إلى إنعامِنا في طعامِه
فصَحَّ البدلُ، وهذا ليسَ بواضح. والثاني: أنَّه مِنْ بدلِ
الاشتمالِ بمعنى: أنَّ صَبَّ الماءِ سببٌ في إخراجِ الطعامِ
فهو مشتملٌ عليه بهذا التقدير. وقد نحا مكي إلى هذا فقال:
لأنَّ هذه الأشياءَ مشتملةٌ على الطعامِ، ومنها يتكوَّنُ؛
لأنَّ معنى» إلى طعامه «: إلى حدوثِ طعامهِ كيف يتأتَّى؟
فالاشتمالُ على هذا إنما هو من الثاني على الأولِ؛ لأنَّ
الاعتبارَ إنما هو في الأشياءِ التي يتكوَّن منها الطعامُ لا
في الطعامِ نفسِه».
والوجه الثاني: أنَّها على تقديرِ لامِ العلةِ، أي: فلينظُرْ
لأِنَّا، ثم حُذِفَ الخافضُ فجرى الخلافُ المشهورُ في محلِّها.
والوجهُ الثالث: أنَّها في محلِّ رفعٍ خبراً لمبتدأ محذوفٍ،
أي: هو أنَّا صَبَبْنا، وفيه ذلك النظرُ المتقدِّم؛ لأنَّ
الضميرَ إنْ عاد على الطعام فالطعامُ ليس هو نفسَ الصَّبِّ،
وإنْ عاد على غيرِه فهو غيرُ معلومٍ، وجوابُه ما تقدَّمَ.
وأمّا القراءةُ الثانية فعلى الاستئنافِ تعديداً لِنِعَمِه
عليه. وأمَّا القراءةُ الثالثةُ فهي «أنَّى» التي بمعنى «كيف»
وفيها معنى التعجبِ، فهي على هذه القراءةِ كلمةٌ واحدةٌ، وعلى
غيرِها كلمتان.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/286)
وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40)
التي تكون عليها القيامةُ، تصِخُّ الأسماع
أي تُصِمُّها فلا يسمع إلا ما
يدعى فيه لإحيائها. .
ثم فسَّرَ في أي وقت تجيء فقال:
(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ
وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ
مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)
(يُغْنِيهِ)
بالغين معجمة، وقد قرئت (شَأْنٌ يُعْنِيهِ)، أي شأن لا يهمه
معه غيرُه
وكذلك (يُغْنِيهِ) لَا يَقْدِرَ مع الاهتمام به على الاهتمام
بغيره.
ثم بَينَ أَحْوَالَ المُؤْمِنِينَ والكَافِرِينَ فوصف أحوال
المؤمنين فقال:
* * *
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ
(39)
(مُسْفِرَةٌ) مضيئة قد علمت ما لها من الفوز والنعيم.
ووصف الكفار وأهل النار فقال:
* * *
(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا
قَتَرَةٌ (41)
أي غَبَرَةٌ يعلوها سواد كالدخَانِ، ثم بَينَ مَنْ أَهْل هَذِه
الحالِ فقال:
(أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42).
(5/287)
|