معاني القرآن وإعرابه للزجاج

وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)

سُورَةُ التَّكْوير
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)
معنى (كُوِّرَتْ) جمع ضوءها ولُفَّتْ كما تلف العمامة، يقال: كرتُ العِمَامَةَ
على رأسِي أكوِّرُها، وكوَّرْتُها أكوِّرهاَ إذا لَفَفْتَها.
* * *

(وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2)
انكدرت: تهافتت وتناثرت.
* * *

(وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)
صارتْ سَرَاباً.
* * *

(وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4)
(الْعِشَارُ) النوق الحوامل التي في بطونها أولاها، والواحِدَةُ عُشَراء، وإنما
قيل لها عشار لأنها إذَا أتت عليها عَشَرةُ أَشهُرٍ - وهي تضع إذا وضعت لِتَمام
في سنة - فَهِيَ عُشَراء، أحسن ما يكون في الحملُ، فليس يعطلها أهلها إلا
في حال القيامة.
وخوطبت العرب بأمر العِشار لأن مالها وَعَيْشَها أكثرهُ من
الِإبل (1).
* * *

(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5)
قيل تحشر الوحوش كلها حَتَّى الذُّبَابُ يُحْشَرُ للقصاص.
__________
(1) قال السَّمين:
والعِشار: جمع عُشَراء، وهي الناقةُ التي مَرَّ لِحَمْلِها عشرةُ أشهرٍ، ثم هو اسمُها إلى أَنْ تَضَعَ في تمام السنةِ، وكذلك «نِفاس» في جَمْع نُفَساء. وقيل: العِشارُ: السَّحابُ. وعُطِّلت، أي: لا تُمْطر. وقيل: الأرضُ التي تَعَطَّل زَرْعُها. والتَّعْطيل: الإِهمالُ. ومنه قيل للمرأة: «عاطِلٌ» إذا لم يكُنْ عليها حُلِيّ. وتقدَّم/ في «بئرٍ مُعَطَّلةٍ». وقال امرؤ القيس:
4511 وجِيْدٍ كجِيْدِ الرِّئْمِ ليس بفاحشٍ. . . إذا هي نَصَّتْهُ ولا بمُعَطَّلِ
وقرأ ابنُ كثير في روايةٍ «عُطِلت» بتخفيفِ الطاءِ. قال الرازي: «هو غَلَطٌ، إنما هو» عَطَلَتْ «بفتحتَيْنَ بمعنى تَعَطَّلَتْ؛ لأنَّ التشديدَ فيه للتعدي. يُقال: عَطَّلْتُ الشيءَ وأَعْطَلْتُه فَعَطَلَ».
والوحوش: ما لم يَتَأنَّسْ من حيوانِ البَرِّ. والوَحْشُ أيضاً: المكانُ الذي لا أُنْسَ فيه، ومنه لَقِيْتُه بوَحْشِ إصْمِت، أي: ببلدٍ قَفْر. والوحشُ: الذي يَبيت جوفُه خالياً من الطعام، وجمعُه أَوْحاش، ويُسَمَّى المنسوبُ إلى المكانِ الوَحْشِ: وَحْشِيّ، وعَبَّر بالوَحْشِيِّ عن الجانبِ الذي يُضادُّ الإِنسيَّ، والإِنسيُّ ما يُقْبَلُ من الإِنسان، وعلى هذا وحشيُّ الفَرَس وإنْسِيُّه. وقرأ الحسن وابن ميمون بتشديد الشينِ مِنْ حُشِّرَتْ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/289)


وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)

(وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6)
بالتثقيل، ويقرأ (سُجِرَتْ) بالتخفيف.
ومعنى سُجِّرَتْ قيل إنه في معنى فُجِّرتْ، وقيل سُجِّرَتْ مُلِئَتْ، وِمنه البحر المسْجُورِ المَمْلُوء.
وقيل معنى سُجِرَت جُعَلِتْ مياهها نيراناً بها يعذَب أهل النَّارِ.
* * *

(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)
قُرِنَتْ كل شيعةٍ بمن شَايَعَتْ، وقيل قُرِنَتْ بأعمَالِها، وقيل قُرِنَت
الأجسام بالأرواح.
* * *

(وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)
ويقرأ (وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سَأَلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)
والْمَوْءُودَةُ: التي كانت العرب تَئِدُهَا، كانُوا إذَا وُلدَ لأحَدِهم بنت دَفَنَها حيَّة، فمعنى سؤالها ب (بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)
تبكيتُ قَاتِلِها في القيامة لأن جَوَابَهَا قُتِلَتُ بغير ذنب.
ومثل هذا التبكيت قول الله تعالى: (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ)
فإنما سؤاله وجوابه تبكيت لمَنِ ادَّعى هذا عليه.
يقال: وَأَدْتُ أَئِدُ وأْداً، إذا دفنت المولود حيًّا، والفاعل وَائدٌ، والفاعلة
وائدة، والفاعلات وائدات.
قال الفرزدق:
وَمِنَّا الَّذِي مَنَعَ الوَائِدَا. . . تِ فَأَحْيَا الوَئِيدَ وَلَمْ يُوأَدِ
وكذلك من قرأ: سَأَلَتْ بأي ذنب قُتِلَتْ، سؤالها تبكيت لقاتلها (1).
* * *

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {الموءودة}: هي البنتُ تْدْفَنُ حيةً مِنْ الوَأْدِ، وهو الثِّقَلُ؛ لأنَّها تُثْقَلُ بالترابِ والجَنْدَل. يقال: وَأَدَه يَئِدُهُ كوَعَدَه يَعِدُه. وقال الزمخشري: «وَأَدَ يَئِدُ، مقلوبٌ مِنْ آد يَؤُوْد إذا أَثْقَلَ. قال اللَّهُ تعالى: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} [البقرة: 255] لأنه إثْقالٌ بالتراب». قال الشيخ: «ولا يُدَّعى ذلك؛ لأنَّ كلاً منهما كاملُ التصرُّفِ في الماضي والأمرِ والمضارعِ والمصدرِ واسمِ الفاعلِ واسمِ المفعولِ، وليس فيه شيءٌ مِنْ مُسَوِّغات ادِّعاءِ القَلْبِ. والذي يُعْلَمُ به الأصالةُ مِنْ القَلْب: أَنْ يكونَ أحدُ النَّظْمَيْن فيه حُكْمٌ يَشْهَدُ له بالأصالةِ، والآخرُ ليس كذلك أو كونُه مجرداً من حروف الزيادة والآخر فيه مزيداً، وكونُه أكثرَ تصرفاً والآخر ليس كذلك، أو أكثرَ استعمالاً من الآخرِ، وهذا على ما قُرِّرَ وأُحْكِمَ في علمِ التصريفِ. فالأول: كيَئِس وأيِسَ. والثاني: كَطَأْمَنْ واطمأنَّ. والثالث: كشوايع وشواعِي. والرابع: كلَعَمْري ورَعَمْلي».
وقرأ العامَّةُ: «المَوْءُوْدَة» بهمزةٍ بينَ واوَيْن ساكنتَيْن كالمَوْعودة. وقرأ البزيُّ في روايةٍ بهمزةٍ مضمومةٍ ثم واوٍ ساكنةٍ. وفيها وجهان، أحدُهما: أَنْ تكونَ كقراءةِ الجماعة ثم نَقَلَ حركةَ الهمزةِ إلى الواوِ قبلها، وحُذِفَتِ الهمزةُ، فصار اللفظُ المَوُوْدَة: واوٌ مضومةٌ ثم أخرى ساكنةٌ، فقُلبت الواوُ المضمومةُ همزةً نحو: «أُجوه» في وُجوه، فصار اللفظُ كما ترى، ووزنُها الآن المَفُوْلة؛ لأنَّ المحذوفَ عينُ الكلمةِ. والثاني: أَنْ تكونَ الكلمةُ اسمَ مفعولٍ مِنْ آدَه يَؤُوده مثلَ: قاده يَقُوده. والأصلُ: مأْوُودة، مثلَ مَقْوُوْدة، ثم حَذَفَ إحدى الواوين على الخلافِ المشهورِ في الحَذْفِ مِنْ نحوِ: مَقُوْل ومَصُوْن فوزنُها الآن: إمَّا مَفُعْلَة إنْ قلنا: إنَّ المحذوفَ الواوَ الزائدةُ، وإمَّا مَفُوْلة إنْ قُلْنا: إنَّ المحذوفَ عينُ الكلمةِ، وهذا يُظْهِرُ فَضْلَ عِلْمِ التصريفِ.
وقُرِىءَ «المَوُوْدة» بضمِّ الواو الأولى على أنه نَقَل حركةَ الهمزةِ بعد حَذْفِها ولمَ يَقْلِبَ الواوَ همزةً. وقرأ الأعمش «المَوْدَة» بزنةِ المَوْزَة. وتوجيهُه: أنه حَذَفَ الهمزةَ اعتباطاً، فالتقى ساكنان، فحَذَفَ ثانيهما، ووزنُها المَفْلَة؛ لأنَّ الهمزةَ عينُ الكلمةِ، وقد حُذِفَتْ. وقال مكي: «بل هو تخفيفٌ قياسِيٌّ؛ وذلك أنَّه لمَّا نَقَل حركةَ الهمزةِ إلى الواوِ لم يَهْمِزْها، فاستثقلَ الضمَّةَ عليها، فسَكَّنها، فالتقى ساكنان فحَذَفَ الثاني، وهذا كلُّه خروجٌ عن الظاهرِ، وإنما يظهر في ذلك ما نَقَله القُرَّاء في وقفِ حمزةَ: أنه يقفُ عليها كالمَوْزَة. قالوا: لأجل الخطِّ لأنها رُسِمَتْ كذلك، والرسمُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ.
والعامَّةُ على» سُئِلت «مبنياً للمفعولِ مضمومَ السين. والحسنُ بكسرِها مِنْ سال يَسال كما تقدَّم. وقرأ أبو جعفر» قُتِّلَتْ «بتشديد التاءِ على التكثيرِ؛ لأنَّ المرادَ اسمُ الجنسِ، فناسبَه التكثيرُ.
وقرأ عليٌّ وابن معسود وابن عباس» سَأَلَتْ «مبنياً للفاعل،» قُتِلْتُ «بضمِّ التاءِ الأخيرة التي للمتكلم حكايةً لكلامِها. وعن أُبَيّ وابن مسعود أيضاً وابن يعمرَ» سَأَلَتْ «مبنياً للفاعل،» قُتِلَتْ «بتاءِ التأنيث الساكنةِ كقراءةِ العامة.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/290)


فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15)

وَنَشَرَتْ. نشرت الصحف وأعطى كل إنسان كتابه بيمينه أو بشماله على
قدر عمله.
* * *

(وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11)
وقرئت (قُشِطَتْ) بالْقَافِ، ومعناهما قُلِعَت كما يُقْلَع السَّقْفُ.
يقال: كَشَطْتُ السقفَ وقشطت السقف بمعنى واحد.
والقاف والكاف تُبْدَلُ إحداهما من الأخرى كثيراً.
وَمِثلُ ذَلِكَ لبكت الشيء ولبقته إذَا خَلطته.
* * *

(وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12)
(سُعِرَتْ)
وَ (سُعِّرَتْ) بالتشديد والتخفيف، ومعناه أُوقدت، وكَذَلِكَ (سُعِّرَتْ).
إلا أن (سُعِّرَتْ) أوقدت مرة بعد مرة.
* * *

(وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)
أي قربت من المتقين، وجواب هذه الأشياء قوله:
* * *

(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
أي إذا كانت هذه الأشياء التي هي في يوم القيامة، علمت في ذلك
الوقت كل نفس ما أَحْضَرَتْ، أَي مِنْ عَمَل، فأثيبت عَلَى قَدْرِ عَمَلِها.
* * *

وقوله: (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16)
الخُنَس جمع خَانِسٍ، والجواري جمع جَارِيَةٍ، من جَرَى يَجْرِي.
والخنس جمع خانس وخانسةٍ، وكذلك الْكُنَّسِ جمعُ كانِس وكانسةٍ.
والمعنى فأقسم، و " لَا " مؤكدة.
والخنس ههنا أكثر التفسير يعنى بها النجوم، لأنها تَخْنِس أَيْ تَغِيبُ لأن
مَعَنى (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)).
وَمَعَنَى (الخُنَس). و (الكُنْس) في

(5/291)


وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)

النجوم أنها تطلع جارية، وكذلك تخْنسُ، أي تغيب، وكذلك تكنس تدخل
في كناسها، أي تغيب في المواضع التي تغيب فيها.
وقيل الخنس ههنا يعني بَقَر الْوَحْشِ وظباء الوحش، ومعنى خُنس جمع خَانِسٍ والظباء خنسٌ والبَقَر خُنسٌ.
والخَنسُ قِصَرُ الأنف وتأخره عَنِ الفَمِ، وإذا كان للبقر أو كان للظباء
فمعنى الكنس أي التي تكنس، أي تدخل الكِنَاسَ وهو الغصن من أغْصَانِ
الشجَرِ.
* * *

(وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)
يقال عَسْعَسَ الليل إذَا أَقْبَلَ، وعَسْعَسَ إذا أَدْبَرَ، والمَعْنَيَانِ يرجعان إلى
شيءٍ وَاحدٍ، وهو ابتداء الظلام في أوله، وإدباره في آخره.
* * *

(وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18)
إذا امتدَّ حَتَى يصيرَ نَهَاراً بيِّناً.
وجواب القسم في هذه الأشياء أعني (فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ)
وما بعده قوله:
* * *

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)
يعنى أن القرآن نزل به جبريل عليه السلام.
* * *

(ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20)
قيل إنه من قوة جبريل - صلى الله عليه وسلم - أنه قَلَبَ مَدِينة قوم لُوطٍ بِقَوَادِمِ جناحه وهي قرى أربع.
* * *

(وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22)
هذا أيضاً جواب القسم، المعنى فأقسم بهذه الأشياء أن القرآن نزل به
جبريل عليه السلام، وأقسم بهذه الأشياء مَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ، يعني به النبي - صلى الله عليه وسلم -

(5/292)


وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)

لأنهم قالوا: (يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6).
فقال: (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2).
وقال في هذا الموضع
(وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23)
قد فسرنا ذلك فِي سُورَةِ والنجِمْ.
* * *

(وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
(بِظَنِينٍ)
ويقرأ (بِضَنِينٍ) فمن قَرَأ (بِظَنِينٍ) فمعناه ما هو على الغيب بِمُتهَم وهو الثقة
فيما أداه عن اللَّه - جلَّ وعزَّ -، يقال ظننت زيداً في معنى اتهمت زيداً، ومن قرأ (بِضَنِينٍ) فمعناه ما هو على الغيب ببخيل، أي هو - صلى الله عليه وسلم - يؤدي عن الله وُيعَلِّمُ كتابَ اللَّه (1).
* * *

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)
معناه فأيَّ طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بينتُ لَكُمْ.
* * *

(لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28)
أي الاستقامة واضحة لكم، فمن شاء أخذ في طريق الحقِّ والقصد وهو
الإيمان باللَّهِ عزَّ وجلَّ ورسوله.
ثم أعلمهم أن المشيئَةَ في التوفيق إليه، وأنهم لا يقدرون على ذَلِك
إلا بمشيئة اللَّه وتوفيقه فقال:
* * *

(وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
ودليل ذلك أيضاً: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ).
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {بِضَنِينٍ}: قرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالظاء بمعنى مُتَّهم، مِنْ ظنَّ بمعنى اتَّهم فيتعدَّى لواحدٍ. وقيل: معناه بضعيفِ القوةِ عن التبليغ مِنْ قولِهم: «بئرٌ ظَنُوْنٌ»، أي: قليلةُ الماءِ. وفي مصحفِ عبد الله كذلك، والباقون بالضاد بمعنى: ببخيلٍ بما يأتيه من قِبَلِ ربِّه، إلاَّ أنَّ الطبريَّ نَقَلَ أنَّ الضادَ خطوطُ المصاحفِ كلِّها، وليس كذلك لِما مرَّ، وكان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، وهذا دليلٌ على التمييز بين الحرفين، خِلافاً لمَنْ يقول: إنه لو وقع أحدُهما مَوْقِعَ الآخرِ لجاز، لِعُسْرِ معرفتِه. وقد شَنَّعَ الزمخشري على مَنْ يقول ذلك، وذكر بعضَ المخارج وبعضَ الصفاتِ، بما لا يَليق التطويلُ فيه. و «على الغيب» متعلقٌ ب «ظَنِين» أو «بضَنِين»
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/293)


فهذا إعلام أن الإنسان لا يعمل خيراً إلا بتوفيق اللَّه ولا شرًّا إلا بخذلانٍ
من اللَّه، لأن الخير والشر بقضائه وقَدَرِه يضل من يشاء ويهدي من يشاء كما
قال جَلَّ وَعَزَّ (اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13).

(5/294)


فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)

سُورَةُ الانْفِطَار
(مَكِّيَّة)
بسم اللَّه الرحن الرحيم

قوله عزَّ وجلَّ: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)
أي انشقت، تتشقق السماء يومَ القيامة بالغمام، كما قال عزَّ وجلَّ:
* * *

(وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2)
أي تَساقطت وتهافتت.
* * *

(وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3)
فُجِّرَ العَذْبُ إلى المالح.
* * *

(وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)
يعني بحثرت، أي قلب ترابها وبعث الموتى الذين فيها.
* * *

(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5)
(مَا قَدَّمَتْ) من عَمَلٍ أمرت به وما (أَخَّرَتْ) منه فلم تعلمه.
وقيل: وَأخرَتْ سَنَّتْ من سُنةٍ - عُمِل بها بعدها.
* * *

قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6)
أي ما خدعك وَسَوَّلَ لكَ حتى أضعت ما وجب عليك.
* * *

وقوله: (الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7)
(فَعَدَّلَكَ)
أي خلقك في أحسن تقويم
وتقرأ (فَعَدَلَكَ) بالتخفيف والتشديد جميعاً (1).
* * *

وقوله: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)
يجوز أن يكون (ما) صِلةً مُؤَكدَة، ويكون المعنى في أي صورة شاء
ركَبَكَ. إما طويلا وإما قصيرا، إما مستحسنا وإما غير ذلك.
ويجوز أَنْ يكون
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {الذي خَلَقَكَ}: يحتمل الإِتباعَ على البدلِ والبيان والنعتِ، والقطعَ إلى الرفع أو النصبِ.
قوله: {فَعَدَلَكَ} قرأ الكوفيون «عَدَلَك، مخففاً. والباقون/ مثقلاً. فالتثقيل بمعنى: جَعَلكَ متناسِبَ الأطرافِ، فلم يجعَلْ إحدى يَدَيْكَ أو رِجْلَيْكَ أطولَ، ولا إحدى عينَيْك أَوْسَعَ، فهو من التَّعْديلِ. وقراءةُ التخفيفِ تحتمل هذا، أي: عَدَلَ بعضَ أعضائِك ببعضٍ. وتحتمل أَنْ تكونَ من العُدولِ، أي: صَرَفَك إلى ما شاء من الهيئاتِ والأشكالِ والأشباهِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/295)


يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

ما في معنى الشرط والجزاء، فيكون المعنى في أي صورة ما شاء أن يركبك
فيها ركبك
* * *

وقوله: (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)
أي بل تكذبون بأنكم تبعثون وتدانون، أي تجازون بأعمالكم، ثم
أعلمهم - عزَّ وجلَّ - أن أعمالهم محفوظة فقال:
* * *

(يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
فيكتبونه عليهم.
* * *

وقوله: (يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15)
يوم الجزاء وهو يوم القيامة.
* * *

وقوله (وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17)
فكرر ذكر اليوم تعظيماً لشأنه.
* * *

وقوله: (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
وقرئت (يَوْمُ) لا يملك نفس.
فمن قرأ بالرفع فعلى أن اليومَ صفةٌ لقوله (يَوْمُ الدِّينِ)
ويجوز أن يكون رفعاً بإضمار هو، فيكون المعنى هو لا تملك
لنفس شيئاً، ويجوز أن يكون في موضع رفع وهو مبني على الفتح لِإضافته إلى
قوله " لا تملك " لأن " ما " أضيف إلى غير المتمكن قد يبنى على الفتح وإن
كان في موضع رفع أو جر
كما قال الشاعر:
لم يَمْنع الشُّرْبَ منها غَيْرَ أَن نطقت. . . حمامة في غُصُونٍ ذاتِ أَوْقالِ
فأضاف غير إِلى أن نطقت فبناه على الفتح، وجائز أن يكون نصبه على
معنى هذه الأشياء المذكورة، يكون (يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا) (1).
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ}: قرأ ابن كثير وأبو عمرو برفع «يوم» على أنه خبرُ مبتدأ مضمرٍ، أي: هو يومُ. وجَوَّز الزمخشري أَنْ يكونَ بدلاً مِمَّا قبلَه، يعني قولَه: «يومَ الدين». وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ «يومٌ» مرفوعاً منوناً على قَطْعِه عن الإِضافة، وجَعَلَ الجملةَ نعتاً له، والعائدُ محذوفٌ، أي: لا يَمْلِكُ فيه. وقرأ الباقون «يومَ» بالفتح. وقيل: هي فتحةُ إعرابٍ، ونصبُه بإضمار أعني أو يَتجاوزون، أو بإضمار اذكُرْ، فيكونُ مفعولاً به، وعلى رأي الكوفيين يكون خبراً لمبتدأ مضمر، وإنما بُني لإِضافتِه للفعل، وإن كان معرباً، كقولِه {هذا يَوْمُ يَنفَعُ} [المائدة: 119] وقد تقدَّم.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/296)


وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)

سُورَةُ الْمُطَفِّفِينَ
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله عزَّ وجلَّ: (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1)
(وَيْلٌ) رفع بالابتداء والخبر قوله (لِلْمُطَفِّفِينَ)، ولو كان في غير القرآن لجاز
" ويلاً " للمطففين، على معنى جعل الله لهم ويلاً، والرفع أجود في القراءة
لأن المعنى قد ثبت لهم هذا، والويل كلمة تقال لكل من هو في عذاب
وهلكة، والمطففون الذين ينقصون المكيال والميزان وإنما قيل للفاعل من هذا
مطفف، لأنه لا يكاد يسرق في المكيال والميزان، إلا الشيء الحقير الطفيف.
وإنما أخِذَ من طَفَّ الشيء وهو جانبه، وقد فسر أمره في السورة فقال:
* * *

(الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2)
المعنى إذا اكتالوا من الناس استوفوا عَلَيْهم
الكيل وكذلك إذا اتَّزَنُوا استوفوا الوزن، ولم يذكرا إذا اتَّزَنوا " لأن الكيل
والوزن بهما الشراء والبيع فيما يكال ويوزن.
* * *

(وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
أي إذا كالوا لهم أو وزنوا لهم يخسرون، أي ينقصون في الكيل
والوزن، ويجوز في اللغة يَخْسِرون.
يقال:. أخسَرَتُ الميزان وخَسَرتُه، ولا أعلم أحداً قرأ في هذا الموضع يَخْسرون، ومن " تأول معنى " كَالُوهُم " كالوا لههم لم يجز أن يقف على كالوا حتى يصلها بِ (هم)، فيقول (كالُوهُم) (1).
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ}: رُسِمتا في المصحفِ بغير ألفٍ بعد الواوِ في الفعلَيْن، فمِنْ ثَمَّ اختلفَ الناسُ في «هم» على وجهين، أحدهما: هو ضميرُ نصبٍ، فيكونُ مفعولاً به، ويعودُ على الناس، أي: وإذا كالُوا الناسَ، أو وَزَنوا الناسَ. وعلى هذا فالأصلُ في هذَيْن الفعلَيْن التعدِّي لاثنين، لأحدِهما بنفسِه بلا خِلافٍ، وللآخرِ بحرفِ الجرِّ، ويجوزُ حَذْفُه. وهل كلٌّ منهما أصلٌ بنفسِه، أو أحدُهما أصلٌ للآخر؟ خلافٌ مشهورٌ. والتقدير: وإذا كالوا لهم طعاماً أو وَزَنُوه لهم، فحُذِف الحرفُ والمفعولُ المُسَرَّح. وأنشد الزمخشريُّ:
4513 ولقد جَنَيْتُكَ أَكْمُؤاً وعَساقِلاً. . . ولقد نَهْيْتُك عَن بناتِ الأَوْبَرِ
أي: جَنَيْتُ لك. والثاني: أنه ضميرُ رفعٍ مؤكِّدٍ للواو. والضميرُ عائدٌ على المطففينِ، ويكونُ على هذا قد حَذَفَ المَكيلَ والمَكيلَ له والموزونَ والموزونَ لهُ. إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ رَدَّ هذا، فقال: «ولا يَصِحُّ أَنْ يكونَ ضميراً مرفوعاً للمطفِّفين؛ لأنَّ الكلامَ يَخْرُجُ به إلى نَظْم فاسدٍ، وذلك أنَّ المعنى: إذا أخذوا من الناسِ اسْتَوْفُوا، وإذا أعطَوْهم أَخْسَروا. فإنْ جَعَلْتَ الضميرَ للمطفِّفين انقلبَ إلى قولِك: إذا أخذوا من الناسِ اسْتَوْفَوْا، وإذا تَوَلَّوا الكيلَ أو الوزنَ هم على الخصوص أَخْسَروا، وهو كلامٌ مُتَنَافِرٌ؛ لأنَّ الحديثَ واقعٌ في الفعل لا في المباشر».
قال الشيخ: «ولا تنافُرَ فيه بوجهٍ، ولا فرقَ بين أَنْ يؤكَّد الضميرُ أو لا يُؤَكَّد، والحديثُ واقعٌ في الفعل. غايةُ ما في هذا أنَّ متعلقَ الاستيفاء وهو على الناس مذكورٌ، وهو في {كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ} محذوفٌ للعلم به؛ لأنه من المعلوم أنهم لا يُخْسِرون ذلك لأنفسهم». قلت: الزمخشريُّ يريدُ أَنْ يُحافظَ على أنَّ المعنى مرتبطٌ بشيئَيْن: إذا أخذوا مِنْ غيرِهم، وإذا أَعْطَوْا غيرَهم، وهذا إنما يَتِمُّ على تقديرِ أَنْ يكونَ الضميرُ منصوباً عائداً على الناس، لا على كونِه ضميرَ رفعٍ عائداً على المطفِّفين، ولا شكَّ أن هذا المعنى الذي ذكَره الزمخشريُّ وأرادَه أَتَمُّ وأَحسنُ مِنْ المعنى الثاني. ورجَّح الأوّلَ سقوطُ الألفِ بعد الواوِ، ولأنه دالٌّ على اتصالِ الضميرِ، إلاَّ أنَّ الزمخشري استدركه فقال: «والتعلُّقُ في إبطالِه بخطِّ المصحفِ وأنَّ الألفَ التي تُكتب بعد واوِ الجمع غيرُ ثابتةٍ فيه، ركيكٌ لأنَّ خَطَّ المصحفِ لم يُراعِ في كثيرٍ منه حَدَّ المصطلحِ عليه في علمِ الخطِّ، على أني رأيْتُ في الكتب المخطوطةِ بأيدي الأئمة المُتْقِنين هذه الألفَ مرفوضةً لكونِها غيرَ ثابتةٍ في اللفظِ والمعنى جميعاً؛ لأنَّ الواوَ وحدَها مُعْطِيَةٌ معنى الجَمْع، وإنما كُتِبت هذه الألفُ تَفْرِقَةً بين واوِ الجمعِ وغيرِها في نحو قولِك:» هم [لم] يَدْعُوا «، و» هو يَدْعُو «، فمَنْ لم يُثْبِتْها قال: المعنى كافٍ في التفرقةِ بينهما، وعن عيسى بنِ عمرَ وحمزةَ أنَّها يرتكبان ذلك، أي: يجعلان الضميرَيْن للمطففين، ويقفان عند الواوَيْن وُقَيْفَةً يُبَيِّنان بها ما أرادا».
ولم يَذْكُر فعلَ الوزنِ أولاً؛ بل اقتصر على الكيلِ، فقال: «إذا اكْتالوا» ولم يَقُلْ: أو اتَّزَنوا، كما قال ثانياً: أو وَزَنُوهم. قال الزمخشري: «كأنَّ المطفِّفين كانوا لا يأخذون ما يُكال ويُوْزَنُ إلاَّ بالمكاييلِ دون الموازينِ لتمكُّنهم بالاكتيالِ من الاستيفاءِ والسَّرِقَةِ؛ لأنَّهم يُدَعْدِعُون ويَحْتالون في المَلْء، وإذا أَعْطَوْا/ كالُوا ووزَنوا لتمكُّنِهم من البَخْسِ في النوعَيْن جميعاً».
قولُه: «يُخْسِرون» جوابُ «إذا» وهو مُعَدَّىً بالهمزة. يقال: خَسِرَ الرجلُ، وأَخْسَرْتُه أنا، فمفعولُه محذوفٌ، أي: يُخْسِرون الناسَ مَتاعَهم.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/297)


كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)

ومن الناس من يجعل " هم " توكيداً لما في كالوا، فيجوز أن تقف فتقول: وإذا كالوا، والاختيار أن تكون " هم " في موضع نصب، بمعنى كالوا لهم. ولو كانت على معنى كالوا، ثم جاءت " هم " توكيداً، لكانَ في المصحف ألف مثبْة قَبلَ (همْ).
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5)
يعنى يوم القيامة، أي إنهم لو ظنوا أنهم يبعثون ما نَقصوا في الكيل
والوزن.
* * *

وقوله: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
(يَوْمَ) منصوب بقوله (مَبْعُوثُونَ)
المعنى ألا يظنون أنهم يبعثون يوم القيامة.
ولو قرئت " يَوْمِ يقوم الناس "
بكسر يوم لكان جَيِّداً على معنى ليوم يقوم الناس.
ولو قرئت بالرفع لَكَانَ جَيِّداً يومُ يقوم الناسُ، على معنى ذلك يوم يقوم الناس، ولا يجوز القراءة إلا بما قرأ به القراء
(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ) - بالنصب - لأن القراءة سنة، ولا يجوز أن تخالف
بما يجوز في العربية.
* * *

وقوله: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7)
(كَلَّا) رَدعٌ وتنبيه.
المعنى ليس الأمر على ما هم عليه، فليرتدعوا عَنْ ذَلِكَ
وقوله: (فِي سِجِّينٍ) زعم أهل اللغة أن سِجِّينَ فِعِّيل من السجْنِ، المعنى
كتابهم في حبس، جعل ذلك دَلالة على خساسة مَنْزِلَتِهِمْ.
وقيل (فِي سِجِّينٍ) في حسابٍ، وفِي سِجِّينٍ في حجر من الأرْضِ السابِعَةِ (1).
* * *

وقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8)
أي ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت وَلَا قَوْمُك، ثم فسر فقال:
* * *

(كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9)
أي مكتوب.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {لَفِي سِجِّينٍ}: اختلفوا في نون «سِجِّين». فقيل: هي أصليةٌ. اشتقاقهُ من السِّجْنِ وهو الحَبْسُ، وهو بناءُ مبالغةٍ، فسِجِّين من السَّجْنِّ كسِكِّير من السُّكْر. وقيل: بل هي بدلٌ من اللامِ، والأصلُ: سِجِّيْل، مشتقاً من السِّجِلِّ وهو الكتابُ. واختلفوا فيه أيضاً: هل هو اسمُ موضعٍ، أو اسمُ كتابٍ مخصوصٍ؟ وهل هو صفةٌ أو عَلَمٌ منقولٌ مِنْ وصفٍ كحاتِم. وهو مصروفٌ إذ ليس فيه إلاَّ سببٌ واحدٌ وهو العَلَمِيَّةُ، وإذا كان اسمَ مكانٍ، فقوله «كتابٌ مَرْقُوْمٌ»: إمَّا بدلٌ منه، أو خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، وهو ضميرٌ يعودُ عليه، وعلى التقديرَيْن فهو مُشْكِلٌ؛ لأنَّ الكتابَ ليس هو المكانَ فقيل: التقدير: هو مَحَلُّ كتابٍ، ثم حُذِفَ المضافُ. وقيل: التقديرُ: وما أدراك ما كتابُ سِجِّين؟ فالحذفُ، إمَّا مِنْ الأولِ، وإمَّا مِنْ الثاني: وأمَّا إذا قُلْنا: إنه اسمٌ ل «كتاب» فلا إشكال.
وقال ابن عطية: «مَنْ قال: إنَّ سِجِّيناً موضعٌ فكتابٌ مرفوعٌ، على أنه خبرُ» إنّ «والظرفُ الذي هو» لفي سِجِّين «مُلْغَى، ومَنْ جعله عبارةً عن الخَسارة، فكتابٌ خبرُ مبتدأ محذوفٍ، التقدير: هو كتابٌ، ويكونُ هذا الكلامُ مفسِّراً لِسِجِّين ما هو؟» انتهى، وهذا لا يَصِحُّ ألبتَّةَ؛ إذ دخولُ اللامِ يُعَيِّنُ كونَه خبراً فلا يكونُ مُلْغى. لا يقال: اللامُ تَدْخُلُ على معمولِ الخبرِ فهذا منه فيكونُ مُلْغى؛ لأنه لو فُرِضَ الخبرُ وهو «كتابٌ» عاملاً أو صفتُه عاملةٌ وهو «مرقوم» لامتنعَ ذلك. أمَّا مَنْعُ عملِ «كتابٌ» فلأنَّه موصوف، والمصدرُ الموصوفُ لا يعمل. وأمَّا امتناعُ عملِ «مرقومٌ» فلأنَّه صفةٌ، ومعمولُ الصفةِ لا يتقدَّمُ على موصوفِها. وأيضاً فاللامُ إنما تدخُلُ على معمولِ الخبر بشرطِه، وهذا ليس معمولاً للخبرِ، فتعيَّنَ أَنْ يكونَ الجارُّ هو الخبرَ، وليس بملغى. وأمَّا قولُه ثانياً «ويكون هذا الكلامُ مفسِّراً لسِجِّين ما هو» فمُشْكِلٌ؛ لأنَّ الكتابَ ليس هو الخسَارَ الذي جُعِلَ الضميرُ عائداً عليه مُخْبِراً عنه ب «كتابٌ».
وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: قد أخبر الله تعالى عن كتاب الفجار بأنه في سِجِّين وفَسَّر سِجِّيناً ب» كتاب مرقوم «فكأنه قيل: إنَّ كتابَهم في كتابٍ مرقوم فما معناه؟ قلت:» سِجِّين «كتابٌ جامعٌ، هو ديوانُ الشرِّ دَوَّن الله فيه أعمال الشياطين وأعمال الكفَرَةِ والفَسَقَةِ من الجنِّ والإِنسِ، وهو كتابٌ مَسْطورٌ بَيِّنُ الكِتابةِ، أو مَعْلَمٌ يَعْلَمُ مَنْ رآهُ أنه لا خَيْرَ فيه فالمعنى: أنَّ ما كُتِبَ مِن أعمالِ الفُجَّارِ مُثْبَتٌ في ذلك الديوانِ، ويُسَمَّى سِجِّيلاً فِعِّيلاً من السَّجْلِ وهو الحَبْسُ والتضييق؛ لأنه سببُ الحِبْسِ والتضييق في جهنم» انتهى.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/298)


كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)

وقوله عزَّ وجلَّ: (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
أساطير أباطيل، واحدها أسطورة مثل أحدوثة وَأحادِيث.
* * *

وقوله: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)
(كَلَّا)
وتفسيرها تفسير التي قبلها.
(بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ) بإدغام اللام في الراء وتفخيم الألف.
وقد قرئت بل ران - بإمالة الألف والراء إلى الكسر.
وقرئت بلْ ران بإظهار اللام والإدغام، والِإدغام أجود لقرب اللام من الراء، ولغلبة الراء على اللام.
وإظهار اللام جائز إلا أن اللام من كلمة، والراء من كلمة أخرى.
وران بمعنى غطى عَلَى قُلُوبِهِمْ، يقال: ران على قلبه الذنب يَرينُ رَيْناً إذا غشي على قلبه.
ويقال غان على قلبه يغينُ غَيْناً.
والغَيْنُ كالغيم الرقيق، والريْن كالصدأ يغشى على القلب.
* * *

وقوله جل ثناؤه: (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15)
وفي هذه الآية دليل على أن الله يُرَى في الآخرة، لولا ذلك لما كان في
هذه الآية فائدة، ولا [خسَّت] منزلة الكفار بأنهم يحجبون عن اللَّه - عزَّ وجلَّ -
وقال تعالى في المؤمنين: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23).
فأعلم اللَّه عزَّ وجلَّ أن المؤمنين ينظرون إلى اللَّه، وأن الكفارَ يُحْجَبُونَ عَنْه
* * *

(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16)
ثم بعد [حجبهم] عن الله يدخلِون النار وَلاَ يخرجُونَ عنها خَالِدِين فيها.
* * *

(ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
أي كنتم تكذبون بالبعث والجنة والنَّارِ. ثم أَعْلَمَ - عزَّ وجلَّ - أين محل
كتاب الأبرار وما لهم من النعيم فرفع كتابهم على قدر مرتبتهم كما سَفَل
وخسَّس كتاب الفجار فقال:
* * *

(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18)
أَي أعلى الأمكنة (1).
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {لَفِي عِلِّيِّينَ}: هو خبر «إنَّ». وقال ابنُ عطية هنا كما قال هناك، ويُرَدُّ عليه بما تقدَّم. وعِلِّيُّون جمع عِلِّيّ، أو هو اسمُ مكانٍ في أعلى الجنة، وجَرَى مَجْرَى جمع العقلاء فرُفع بالواوِ ونُصِبَ وجُرَّ بالياء مع فوات شرطِ العقل. وقال أبو البقاء: «واحدُهم عِلِّيّ وهو الملك. وقيل: هي صيغةُ الجمع مثلَ عشرين» ثم ذكر نحواً مِمَّا ذَكرَهُ في «سِجِّين» مِنْ الحَذْفِ المتقدِّم. وقال الزمخشري: «عِلِّيُّون: عَلَمٌ لديوانِ الخبر الذي دُوِّن فيه كلُّ ما عَمِلَتْه الملائكةُ وصُلَحاءُ الثقلَيْنِ، منقولٌ مِنْ جَمْع» عِلِّيّ «فِعِّيل من العُلُو ك» سِجِّين «مِنْ السَّجْن»، سُميِّ بذلك: إمَّا لأنه سببُ الارتفاعِ، وإمَّا لأنه مرفوعٌ في السماءِ السابعةِ «. قلت: وتلك الأقوالُ الماضيةُ في» سِجِّين «كلُّها عائدةٌ هنا.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/299)


خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)

(وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19)
وإعراب هذا الاسم كإعراب الجمع لأنه على لفظ الجمع، كما تقول
هذه قِنِسْرُونَ، ورأيت قِنِسْرِين، وقال بعض النحويين: هذا جمع لما لا
يُحَدُّ وَاحِده، نحو ثَلَاثُون وَأَرْبَعونَ، فثلاثون كان لفظه لفظ جمع ثَلَاثٍ.
وكذلك قول الشاعر:
قَدْ شَرِبَتْ إِلاَّ الدُّهَيْدِهِينَا. . . قُلَيِّصَاتٍ وأُبَيْكِريِنَا
يعني أن الإبل قَدْ شَرِبَت الأجمع الدهْدَاةِ، والدهداة حاشية الإبل كان
قليصات وأبيكرين، ودهيدهين جمع ليس واحده محدوداً معلوم العَدَدِ.
والقول الأول قول أكثر النحويين وأَبْيَنُها.
* * *

وقوله: (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23)
الأرائك: واحدها أريكة، وهي الأسِرَّة في الحجال.
* * *

وقوله: (يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25)
الرحيق الشراب الذي لاَ غِشَّ فيه، قَالَ حَسَّان:
يَسْقُونَ مَنْ وَرَدَ البَريصَ عليهمُ. . . بَرَدى يُصَفَّقُ بالرحِيقِ السَّلْسَل
ومعنى (مَخْتُومٍ): في انقطاعه خاصة - ثم بَيَن فَقَالَ:
* * *

(خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26)

(5/300)


هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)

شربوا هذا الرحيق فَنِيَ ما في الكأس وانقطع الشرْبُ، انختم ذلك بطعم
المسك ورائحته.
* * *

(وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
تأتيهم من علو عيناً تنسم عليهم من الغرف، فعيناً في هذا القول
منصوبة مَفْعولةٌ، كما قال: (أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا).
ويجوز أن يكون (عَيْنًا) منصوبة بقوله يَسْقَوْنَ عيناً، أي مِنْ عَيْنٍ.
ويجوز أن يكون عيناً منصوباً على الحال، ويكون (تَسْنِيم) معرفة
و (عَيْنًا) نكرة.
* * *

وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)
هؤلاء جماعة من كفار قرَيش كان يَمُرُّ بِهِمْ من قَدُمَ إسلامُه مع النبي - صلى الله عليه وسلم - علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، وغيره - رحمهم اللَّه فيعيرونَهُمْ بالإسلام على وجه السخْرِية مِنْهمْ.
* * *

(وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31)
معجبيين بما هم فيه يَتَفكَّهوَنَ بذكرهم.
* * *

(وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33)
أي ما أرسل هؤلاء القوم على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يحفظون عَلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ.
* * *

(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34)
يعني يوم القيامةِ.
* * *

(هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
أي هل جُوزُوا بِسُخْرِيَتهمْ بالمؤمِنينَ في الدنيا.
ويقرأ هَثُّوِّبَ، بإدغام اللام في الثاء.

(5/301)


يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)

سُورَةُ الانْشِقَاق
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)
ْتنشق يوم القيامة بالغمام، وجواب (إذا) يدل عليه: (فَمُلاَقِيهِ)
المعنى إذا كان يوم القيامة لقي الِإنْسَانُ عَمَلَهُ.
* * *

ومعنى: (وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2)
أي سمعت، يقال: أذنت للشيء آذن إذَا سَمِعتَ
قال الشاعِرُ:
صُمٌّ إِذا سَمِعوا خَيْراً ذُكِرْتُ به. . . وِإِنْ ذُكِرْتُ بسُوء عندهم أَذِنُوا
أي سمعوا.
ومعنى (وَحُقَّتْ) أي حق لها أنْ تَفْعَلَ (1).
* * *

(وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3)
أزيلت عَنْ هَيْئَتِهَا وَبُدِّلت.
* * *

(وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4)
أَلْقَتْ مَا فِيهَا مِنَ المَوْتَى والكُنُوز.
* * *

وقوله: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6)
جاء في التفسير إنك عامِل لربك عَمَلاً فملاقيه.
وجاء أيضاً: سَاعٍ إلى
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {وَأَذِنَتْ}: عَطْفٌ على «انْشَقَّتْ»، وقد تقدَّم أنه جوابٌ على زيادةِ الواوِ، ومعنى «أَذِنَتْ»، أي: استمعَتْ أَمْرَه. يُقال: أَذِنْتُ لك، أي: استمَعْتُ كلامَك. وفي الحديث: «ما أَذِن اللَّهُ لشيءٍ إذْنَه لنبيٍّ يتغَنَّى بالقرآن» وقال الشاعر:
4521 صُمٌّ إذا سَمِعوا خيراً ذُكِرْتُ به. . . وإن ذُكِرْتُ بسُوْءٍ عندهم أَذِنوا
وقال آخر:
4522 إنْ يَأْذَنُوا رِيْبةً طاروا بها فَرَحاً. . . وما هُمُ أَذِنُوا مِنْ صالحٍ دَفَنوا
وقال الجحَّافُ بنُ حكيم:
4523 أَذِنْتُ لكمْ لَمَّا سَمِعْتُ هريرَكُمْ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والاستعارةُ المذكورةُ في قولِه تعالى: {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] أو الحقيقةُ عائدٌ ههنا.
قوله: {وَحُقَّتْ} الفاعلُ في الأصلِ هو اللَّهُ تعالى، أي: حَقَّ اللَّهُ عليها ذلك، أي: بسَمْعِه وطاعتِه. يُقال: هو حقيقٌ بكذا وتَحَقَّق به، والمعنى: وحُقَّ لها أَنْ تفعلَ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/303)


إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)

رَبِّك سَعْياً فَمُلاقِيهِ.
والكدح في اللغة السعْيُ [والدأب] في العَمَلِ في باب
الدنيا وباب الآخرة، قال تميم بن مقبل:
وما الدَّهرُ إِلا تارَتانِ فمنهما. . . أَموتُ وأُخْرى أَبْتَغي العَيْشَ أَكْدَحُ
أي وَتَارة أسعى في طلبه العيش وأدْأبُ، وقيلإ فملاقيه @فملاقٍ رَبًكَ.
وقيل فَمُلَاقٍ عَمَلكَ.
* * *

وقوله: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9)
رَوينَا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك العرض على اللَّه - عزَّ وجلَّ - وأَنَّه مَنْ نوقش الحساب عُذِّبَ.
وَرَوينَا أيضاً أنه مَن نوقش الحسابَ هَلَكَ.
* * *

وقوله: (فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11)
أي يقول: يا ويلاه، يا ثبوراه، وهذا يقوله من وقع في هلكة أي من
أوتي كتابه وراء ظهره، ودليل ذلك علَى أَنهُ من المُعذبِينَ قوله:
(وَيَصْلَى سَعِيرًا (12)
وقرئت (وَيَصْلَّى سَعِيرًا)، أي يكثر عذابه.
* * *

وقوله: (إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13)
يعني في الدنْيَا.
* * *
فأمَّا (وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا)
فمن صفة المؤمن، وينقلب إلى أهله في الجنانِ التي أعَدَّهن اللَّه لأوليائه.
* * *

وقوله: (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)

(5/304)


وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)

هذه صفة الكافر ظنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بأن لن يبعث، ومعنى يحور - في
اللغة - أن يرجع إلى اللَّه عزَّ وجلَّ.
* * *

(بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
قبلَ أَن يخلقه، عالماً بأن مرجعه إليه - عَزَّ وَجَلَّ -
* * *

قوله: (فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)
معناه فأقسم وقد فسرنا ذلك.
والشفَق الحمرة التي ترى في الأفق في المغرب بعد سقوط الشمس.
وقيل الشفق النَّهارُ (1).
* * *

(وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17)
معنى وَسَقَ جَمَعَ وَضم.
قَال الشاعِر.
مُسْتَوْسِقَاتٍ لو يَجِدْنَ سَائِقَا
* * *

(وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)
اجتمع واستوى ليلة ثلاثَ عَشْرَةَ وأربَعَة عشرة.
* * *

(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19)
(لَيَرْكَبُنَّ)
أي حالًا بعد حال حتى يصير إلى اللَّه عزَّ وجلَّ، من إحياء وَأمامَةٍ
وَبَعْثٍ.
وقُرِئَتْ: (لَتَرْكَبَنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ).
أي لَتَرْكَبَنَّ يا محمد طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ
من أطباق السماء (2).
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23)
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {بالشفق}: قال الراغب: «الشَّفَقُ: اختلاطُ ضوءِ النهارِ بسوادِ الليل عند غُروبِ الشمس. والإِشفاقُ: عنايةٌ مختلِطَةٌ بخوفٍ؛ لأنَّ المُشْفِقَ يحبُّ المُشْفَقَ عليه، ويَخاف ما يلحقُه، فإذا عُدِّيَ ب» مِنْ «فمعنى الخوفِ فيه أظهرُ، وإذا عُدِّي ب» على «فمعنى العنايةِ فيه أظهرُ». وقال الزمخشري: «الشَّفَقُ: الحُمْرَةُ التي تُرى في الغرب بعد سقوطِ الشمسِ، وبسقوطِه يخرُجُ وقتُ المغربِ ويَدْخُلُ وقتُ العَتَمَةِ عند عامَّةِ العلماء، إلاَّ ما يُرْوى عن أبي حنيفةَ في إحدى الروايتَيْن أنه البياضُ وروى أسدُ بن عمرو أنه رَجَعَ عنه. سُمِّي شَفَقاً لر‍ِقَّته، ومنه الشَّفَقَةُ على الإِنسان: رِقَّةُ القلبِ عليه». انتهى. والشَّفَقُ شفقان: الشَّفَقُ الأحمر، والآخر الأبيضُ، والشَّفَق والشَّفَقَةُ اسمان للإِشفاقِ. قال الشاعر:
4527 تَهْوَى حياتي وأَهْوَى مَوْتَها شَفَقا. . . والموتُ أكرَمُ نَزَّالٍ على الحُرَمِ
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(2) قال السَّمين:
قوله: {لَتَرْكَبُنَّ}: هذا جوابُ القسم. وقرأ الأخَوان وابن كثير بفتحِ التاءِ على خطابِ الواحد، والباقون بضمِّها على خطاب الجمع. وتقدَّم تصريفُ مثلِه. فالقراءةُ الأولى رُوْعي فيها: إمَّا خطابُ الإِنسانِ المتقدِّمِ الذِّكْرِ في قوله: {ياأيها الإنسان} [الانشقاق: 6]، وإمَّا خطابُ غيرِه. وقيل: هو خطابٌ للرسول، أي: لتركبَنَّ مع الكفارِ وجهادِهم. وقيل: التاءُ للتأنيثِ والفعلُ مسندٌ لضميرِ السماء، أي: لتركبَنَّ السماءَ حالاً بعد حال: تكون كالمُهْلِ وكالدِّهان، وتَنْفَطر وتَنشَقُّ. وهذا قولُ ابنِ مسعود. والقراءة الثانيةِ رُوْعِي فيها معنى الإِنسان إذ المرادُ به الجنسُ.
وقرأ عمر «لَيَرْكَبُنَّ» بياء الغَيْبة وضَمِّ الباء على الإِخبار عن الكفار. وقرأ عمر أيضاً وابن عباس بالغَيبة وفتحِ الباء، أي: لَيركبَنَّ الإِنسانُ. وقيل: ليركبَنَّ القمرُ أحوالاً مِنْ سَرار واستهلال وإبدار. وقرأ عبد الله وابن عباس «لَتِرْكَبنَّ» بكسر حَرْفِ المضارعة وقد تقدَّم تحقيقُه في الفاتحة. وقرأ بعضُهم بفتح حرف المضارعة وكسرِ الباء على إسناد الفعل للنفس، أي: لَتَرْكَبِنَّ أنت يا نفسُ.
قوله: {طَبَقاً} مفعولٌ به، أو حالٌ كما سيأتي بيانُه. والطَّبَقُ: قال الزمخشري: «ما طابَقَ غيرَه. يُقال: ما هذا بطَبَقٍ لذا، أي: لا يطابقُه. ومنه قيل للغِطاء: الطَّبَقُ. وأطباق الثرى: ما تَطابَقَ منه، ثم قيل للحال المطابقةِ لغيرِها: طَبَقٌ. ومنه قولُه تعالى: {طَبَقاً عَن طَبقٍ}، أي: حالاً بعد حال، كلُّ واحدةٍ مطابقةٌ لأختها في الشدَّةِ والهَوْلِ. ويجوز أنْ يكونَ جمعَ» طبقة «وهي المرتبةُ، مِنْ قولهم: هم على طبقاتٍ، ومنه» طبَقات الظهر «لفِقارِه، الواحدةُ طبَقَة، على معنى: لَتَرْكَبُّنَّ أحوالاً بعد أحوالٍ هي طبقاتٌ في الشدَّة، بعضُها أرفعُ من بعض، وهي الموتُ وما بعده من مواطنِ القيامة» انتهى. وقيل: المعنى: لتركبُنَّ هذه الأحوال أمةً بعد أمةٍ. ومنه قولُ العباس فيه عليه السلام:
4530 وأنتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الْ. . . أرضُ وضاءَتْ بنورِك الطُّرُقُ
تُنْقَلُ مِنْ صالِبٍ إلى رَحِمٍ. . . إذا مضى عالَمٌ بدا طَبَقُ
يريد: بدا عالَمٌ آخرُ: فعلى هذا التفسير يكون «طبقاً» حالاً لا مفعولاً به. كأنه قيل: متتابعِين أُمَّةً بعد أُمَّة. وأمَّا قولُ الأقرعِ:
4531 إنِّي امرُؤٌ قد حَلَبْتُ الدهرَ أَشْطُرَه. . . وساقَني طبَقاً منه إلى طَبَقِ
فيحتملُ الأمرين، أي: ساقَني مِنْ حالةٍ إلى أخرى، أو ساقني من أمةٍ وناس إلى أمةٍ وناسٍ آخرين، ويكون نصبُ «طَبَقاً» على المعنيَيْن على التشبيه بالظرف، أو الحال، أي: منتقلاً. والطَّبَقُ أيضاً: ما طابقَ الشيءَ، أي: ساواه، ومنه دَلالةُ المطابقةِ. وقال امرؤ القيس:
4532 دِيْمَةٌ هَطْلاءُ فيها وَطَفٌ. . . طَبَقُ الأرضِ تَحَرَّى وتَدُرّ
قوله: {عَن طَبقٍ} في «عن» وجهان، أحدُهما: أنها على بابها، والثاني: أنها بمعنى «بَعْدَ».
وفي محلِّها وجهان، أحدهما: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ فال «تَرْكَبُنَّ». والثاني: أنَّها صفةٌ ل «طَبقا». قال الزمخشري: «فإنْ قلتَ: ما محلُّ» عن طبَق «؟ قلت: النصبُ على أنُّه صفةٌ ل» طبقا «، أي: طبقاً مجاوزاً لطبق، أو حالٌ من الضمير في» لتركبُنَّ «، أي: لتركبُنَّ طبقاً مجاوزِيْن لطبَق أو مجاوزاً أو مجاوزةً على حَسَبِ القراءة».
وقال أبو البقاء: «وعن بمعنى بَعْدَ. والصحيح أنها على بابِها، وهي صفةٌ، أي: طبقاً حاصلاً عن طَبق، أي: حالاً عن حال. وقيل: جيلاً عن جيل» انتهى. يعني الخلافَ المتقدِّمَ في الطبق ما المرادُ به؟ هل هو الحالُ أو الجيلُ أو الأمةُ؟ كما تقدَّم نَقْلُه، وحينئذٍ فلا يُعْرَبُ «طَبَقاً» مفعولاً به بل حالاً، كما تقدَّم، لكنه لم يَذْكُرْ في «طبقاً» غيرَ المفعولِ به. وفيه نظرٌ لِما تقدَّم مِن استحالتِه معنى، إذ يصير التقديرُ: لتركَبُنَّ أمةً بعد أمَّةٍ، فتكون الأمةُ مركوبةً لهم، وإن كان يَصِحُّ على تأويلٍ بعيدٍ جداً وهو حَذْفُ مضافٍ، أي: لَتركبُنَّ سَنَنَ أو طريقةَ طبقٍ بعد طبقٍ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/305)


إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

أي بما يحملون في قلوبهم، يقال: أوْعَيْتُ المتاعَ في الوعاء، ووعيتُ
العلمَ.
* * *

وقوله: (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)
المعنى اجعل بدل البشارة للمؤمنين بالجنة والرحمة والرضوان، للكفار
العذاب الأليم.
* * *

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
لا يمنُّ عليهم، قال أهل اللغة: غير ممنون غير مقطوع، يقال منيت
الحبل إذَا قطعته.

(5/306)