معاني القرآن
وإعرابه للزجاج قُتِلَ أَصْحَابُ
الْأُخْدُودِ (4)
سُورَةُ الْبُرُوجِ
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1)
جواب القسم: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ).
وقيل (ذَاتِ الْبُرُوجِ)
ذات الكواكب وقيل ذات القصور لقُصُورِ في السماء.
* * *
(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2)
يوم القيَامة.
* * *
(وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3)
شاهد يوم الجمعة، ومشهود يوم عرفة.
وقيل: وَشَاهد يعنى به النبي - صلى الله عليه وسلم -.
ومشهود يوم القيامة، كما قال تعالى:
(ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ
مَشْهُودٌ).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4)
الأخدود: شق في الأرض، ويجمع أَخَاديد (1).
وقيل أصحاب الأخْدُودِ قوم
كانوا يَعْبدُونَ صَنما، وكان معهم قوم يكتمون إيمانَهم،
يعبدون اللَّه عزَّ وجلَّ ويوحدونه، فعلموا بهم فخدُّوا لهم
أخدوداً وملأوه ناراً، وقذفوا بهم في تلك النار فتقحموها ولم
يَرْتَدُّوا عَنْ دينهم ثبوتاً على الإسلام، ويقيناً أنهم
يصيرون إلى الجنة.
فجاء في التفسير أن آخِرَ من ألقي منهم امرأة معها صَبِي رضيع.
فلما رأت النار صدت بَوَجْهِهَا وَأَعْرَضَتْ، فقال لها الصبي:
يا أمتاه قفي
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {قُتِلَ}: هذا جوابُ القسمِ على المختارِ، وإنما
حُذِفَتِ اللامُ، والأصلُ: لَقُتِلَ، كقولِ الشاعر:
4533 حَلَفْتُ لها باللَّهِ حَلْفَةَ فاجرٍ. . . لَناموا فما
إنْ مِنْ حديثٍ ولا صالِ
وإنما حَسُن حَذْفُها للطُّولِ، كما سيأتي إن شاء اللَّهُ
تعالى في قولِه: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا} [الشمس: 9].
وقيل: تقديرُه: لقد قُتِلَ، فحَذَفَ اللامَ وقد، وعلى هذا
فقولُه: «قُتِلَ» خبرٌ لا دُعاءٌ. وقيل بل هي دعاءٌ فلا يكونُ
جواباً. وفي الجواب حينئذٍ أوجهٌ، أحدُها: أنَّه قولُه: {إِنَّ
الذين فَتَنُواْ}. الثاني: قولُه: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ} قاله
المبرد. الثالث: أنه مقدرٌ. فقال الزمخشري: ولم يَذْكُرْ غيرَه
«هو محذوفٌ يَدُلُّ عليه {قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود}، كأنه
قيل: أُقْسِمُ بهذه الأشياءِ إنَّ كفَّار قريشٍ مَلْعونون كما
لُعِنَ أصحابُ الأُخدودِ» ثم قال: «وقُتِل دعاءٌ عليهم، كقوله:
{قُتِلَ الإنسان} [عبس: 17]، وقيل: التقدير: لَتُبْعَثُنَّ.
وقرأ الحسن وابن مقسم» قُتِّلَ «بتشديدِ التاءِ مبالغةً أو
تكثيراً. وقوله:» الموعودِ «، أي: الموعود به. قال مكي:»
الموعود نعتٌ لليوم. وثَم ضميرٌ محذوفٌ يتمُّ الموعودُ به.
ولولا ذلك لَما صَحَّتِ الصفةُ؛ إذ لا ضميرَ يعودُ على
الموصوفِ مِنْ صفتِه «انتهى. وكأنَّه يعني أن اليومَ موعودٌ به
غيرُه من الناس، فلا بُدَّ مِنْ ضمير يَرْجِعُ إليه، لأنه
موعودٌ به لا موعودٌ. وهذا لا يُحتاج إليه؛ إذ يجوزُ أَنْ يكون
قد تَجَوَّزَ بأنَّ اليومَ وَعَدَ بكذا فيصِحُّ ذلك، ويكونُ
فيه ضميرٌ عائدٌ عليه، كأنَّه قيل: واليومِ الذي وَعَدَ أَنْ
يُقْضَى فيه بين الخلائِقِ.
والأُخْدودُ: الشِّقُّ في الأرضِ. قال الزمخشري:» والأخْدودُ:
الخَدُّ في الأرضِ، وهو الشِّقُّ. ونحوُهما بناءً ومعنىً:
الخَقُّ والأُخْقُوق، ومنه: «فساخَتْ قوائمُه في أخاقيقِ
جِرْذان». انتهى. فالخَدُّ في الأصلِ مصدرٌ، وقد يقعُ على
المفعولِ وهو الشِّقُّ نفسُه، وأمَّا الأخدودُ فاسمٌ له فقط.
وقال الراغب: «الخَدُّ والأُخْدُوْدُ شِقٌّ في أرضٍ، مستطيلٌ
غائِصٌ.
وجمع الأخدود: أخاديدُ. وأصلُ ذلك مِن خَدَّيْ الإِنسان، وهما
ما اكتنفا الأَنْفَ عن اليمينِ والشمالِ، والخَدُّ يُستعار
للأرضِ ولغيرها كاستعارةِ الوجهِ، وتخدُّدُ اللحمِ زَوالُه عن
وجهِ الجسم» ثم يُعَبَّرُ بالمُتَخَدِّدِ عن المهزول،
والخِدادُ مِيْسَمٌ في الخَدِّ. وقال غيره: سُمِّيَ الخَدُّ
خَدَّاً لأنَّ الدموعَ تَخُدُّ فيه أخاديدَ، أي: مجاريَ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/307)
فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ
(18)
ولا تنافقي، وقيل إنه قال لها: مَا هِيَ
إلا [غُميضة]، فَصَبَرَتْ فألقِيتْ في النار.
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر أصحاب الأخدودِ
تَعَوَّذَ مِنْ جَهْد البلاء.
فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - قِصًةَ قَوْم بلغت بصيرتُهم
وحقيقة إيمَانِهِم إلى
أن صبروا على أن يحرقوا بالنار في اللَّه عزَّ وجلَّ.
* * *
(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8)
أي ما أنكروا عليهم ذنباً إلا إيمَانَهم، ثم أعلم - عزَّ وجلَّ
- مَا أُعِدَّ
لأوْلَئِك الَّذِينَ أَحْرَقُوا المُؤْمِنِينَ فقال:
* * *
(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ
عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)
أي أحْرَقُوا المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ، يقال فتنت الشيء،
أحرقته، والفَتِينُ
حجارة سودٌ كأنَّها مُحْرَقَة.
(فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ).
فالمعنى واللَّه أعلم فلهم عذاب جهنم بكفرهم، ولهم عذاب الحريق
بما أحرقوا المؤمنين والمؤمنات.
* * *
قوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13)
أي يبدئ الخلق ثم يعيده بعد بلاه.
* * *
(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)
أي المحب أولياءه.
* * *
(ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15)
(الْمَجِيدِ)
ويقرأ (الْمَجِيدُ). ومعنى المجيد الكريم.
فمن جَرَّ (الْمَجِيدِ) فمن صفة العرش، ومن رفع فمن صفة (ذُو).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)
(5/308)
فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ
(22)
(فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) في موضع جرٍّ
بَدَلًا من الجنود، المعنى هل أتاك حديث
فرعون وثمود.
* * *
وقوله: (وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20)
أي لا يعجزه منهم أحد. قدرته مُشْتَمِلة عليهم.
* * *
(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)
ويقرأ (قرآنُ مَجِيدٍ)، والقراءة (قُرْآنٌ مَجِيدٌ) من نعت
قرآن.
ومن قرأ قرآنُ، فالمعنى هو قرآن رَبٍّ مَجِيدٍ.
* * *
وقوله: (فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
القرآن في اللوح وهو أم الكتاب عند اللَّه.
وقرئت (مَحْفُوظٌ)، مِنْ نعت (قُرْآنٌ)
المعنى بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ محفوظٌ في لوح.
(5/309)
يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ
الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)
سُورَةُ الطَّارِقِ
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله: (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1)
جواب القسم: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4).
والطارق النجم، والنجم يعنى به النجوم.
وإنما قيل للنجم طارق لأنه طلوعه بالليل، وكلُّ ما أتى ليلا
فهو طارق، لأن الليل يسكن فيه، ومن هذا قيل: أَطرَقَ فُلَان
إذا أَمْسَكَ عَنِ الكلامِ وَسَكَنَ.
* * *
(النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3)
و (الثَّاقِبُ)
المُضِيء لقال ثقب يثقُبُ تقوباً إذا أضاء، ويقال للموقِدِ:
أثقب نارك أي أَضِئها.
* * *
وقوله: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4)
(لَمَا عَلَيْهَا)
معناه لَعَلَيْها حافظ، و " ما " لغوٌ.
وقرئت " لَمَّا " عَلَيْها حَافِط - بالتشديد.
والمعنى معنى (إلا) استعْمِلَتْ " لَمَّا " في موضع " إلا " في
موضعين:
أحدهما هذا.
والآخر في بَابِ القَسَمِ.
يقال: سَأَلْتكَ لَمَّا فَعلت بمعنى إلا فعلت (1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6)
معناه من فوق، ومذهب سيبويه وأصحابه أن معناه النسب إلى
الاندفاق.
المعنى من ماء ذي اندفاق.
* * *
وقوله: (يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا}: قد تقدَّم في
سورةِ هود التخفيفُ والتشديدُ في «لَمَّاً». فمَنْ خَفَّفها
هنا كانت «إنْ» هنا مخففةً من الثقيلة، و «كلُّ» مبتدأٌ،
واللامُ فارقةٌ، و «عليها» خبرٌ مقدَّمٌ و «حافظٌ» مبتدأٌ
مؤخرٌ، والجملةُ خبرُ «كل» و «ما» مزيدةٌ بعد اللامِ الفارقةِ.
ويجوزُ أَنْ يكونَ «عليها» هو الخبرَ وحدَه، و «حافِظٌ» فاعلٌ
به، وهو أحسنُ. ويجوزُ أَنْ يكونَ «كلُّ» متبدأً، و «حافظٌ»
خبرَه، و «عليها» متعلقٌ به و «ما» مزيدة أيضاً، هذا كلُّه
تفريعٌ على قولِ البصريِين. وقال الكوفيون: «إنْ هنا نافيةٌ،
واللامُ بمعنى» إلاَّ «إيجاباً بعد النفي، و» ما «مزيدةٌ.
وتقدَّم الكلامُ في هذا مُسْتوفى.
وأمَّا قراءةُ التشديدِ فإنْ نافيةٌ، و» لَمَّا «بمعنى» إلاَّ
«، وتقدَّمَتْ شواهدُ ذلك مستوفاةً في هود. وحكى هارونُ أنه
قُرِىءَ هنا» إنَّ «بالتشديدِ،» كلَّ «بالنصب على أنَّه
اسمُها، واللامُ هي الداخلةُ في الخبرِ، و» ما «مزيدةٌ و»
حافظٌ «خبرُها، وعلى كلِّ تقديرِ فإنْ وما في حَيِّزِها جوابُ
القسمِ سواءً جَعَلها مخففةً أو نافيةً. وقيل: الجواب {إِنَّهُ
على رَجْعِهِ}، وما بينهما اعتراضٌ. وفيه بُعْدٌ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/311)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ
الرَّجْعِ (11)
الترائب: جاء في التفسير أنها أربعة أضلاع
من يمنة الصدر وأربَعُ
أضلاع من يَسْرةِ الصدر.
وجاء في التفسير أن الترائب اليدان والرجلان والعينان.
وقال أهل اللغة أجمعون: الترائب موضع القلادة من الصدر.
وأنشدوا لامرئ القيس:
مُهَفْهَفَةٌ بَيْضَاءُ غَيْرُ مُفَاضَةٍ. . . تَرائِبُها
مَصْقُولَةٌ كالسَّجَنْجَلِ
* * *
وقوله: (إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)
جاء في التفسير: على رجع الماء إلى الإحليل لَقَادِرٌ.
وجاء أيضاً على رجعه إلى الصلب، وجاء أيضاً على رجعه على بعث
الإنسانِ، وهذا يشهد له قوله:
* * *
(يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9)
أي إنه قادر على بعثه يوم القيامة.
* * *
وقوله: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ
الصَّدْعِ (12)
(ذات الرجع)
ذات المطر لأنه يجيء ويرجع ويتكرر.
قال أبو عبيدة:
الرجعُ: الماء، وأنشد بيت المنخل الهذلي؛
أَبيض كالرَّجْع رَسوبٌ إِذا. . . ما ثاخَ في مُحْتَفَلٍ
يَخْتَلي
قال يصف السيف، يقول: هو أبيض كالماء.
(5/312)
فَمَهِّلِ
الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
(وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12)
أي تصدع بالنبات.
* * *
(إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13)
جواب القسم يعنى به القرآن، يفصل بين الحق والباطل.
* * *
(وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
مَا هُوَ بالَّلعِبِ.
* * *
(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15)
يعني به الكفار، أنهم يحاتلون النبي عليه السلام، ويظهرون ما
هم
خلافه. .
* * *
(وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)
كيد اللَّه لهم استدراجهم من حيث لا يعلمونَ.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
أي أمهلهم قليلاً.
(5/313)
سَنُقْرِئُكَ فَلَا
تَنْسَى (6)
سُورَةُ الْأَعْلَى
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1)
أي نَزِّهْ ربَّك عن السوءِ وقل:
سبحان ربي الأعلى.
* * *
(الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2)
خلق الإنسان مستوياً، أشهده على نفسه بأنه ربُّه.
وخلقه على الفطرة.
* * *
وقوله: (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)
هداه السبيل إما شَاكِراً وَإما كَفوراً.
وقال بعض النحويين: فَهَدَى وَأَضل ولكن حذفت وأضل لأن في
الكلام دليلاً عليه، قال عزَّ وجلَّ: (يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ
وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ).
* * *
(وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً
أَحْوَى (5)
(أحوى) في موضع نصب حال من (المرعى) المعنى الذي أخرج المرعى
أَحْوَى أي أخرجه أخْضَرَ يضرب إلى الحُوَّة، والحُوَّة
السَّوَادُ.
(فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى)، جفَّفَه حتى صيره هشيماً جافًّا
كالغثاء الذي تراه فوق ماء السيل.
* * *
قوله: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ
اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7)
أعلم الله عزَّ وجلَّ أنه سيجعل للنبي - صلى الله عليه وسلم -
آيةً يتبيَّن له بها الفَضْلية بأن
(5/315)
إِنَّ هَذَا لَفِي
الصُّحُفِ الْأُولَى (18)
جبريل عليه السلام ينزل عليه بالوحي وهو
أُمِّيٌّ لا يكتب كتاباً ولا يقرْؤه.
ويقرئ أصحابه ولا ينسى شيئاً من ذلك ولا يكرر عليه الشيء.
قال الله عز وجل: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ
وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9).
* * *
فأما (إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)
فقيل إلا ما شاء الله ثم يذكره بعد، وقيل إلا ما شاء اللَّه أن
يؤخره من القرآن (1).
* * *
(وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11)
المعنى يتجنب الذكرى الأشقى.
* * *
وقوله: (ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
لا يموت موتاً يستريح به من العذاب، ولا يحيا حياة يجد معها
روح
الحياة.
* * *
وقوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14)
أي قد صادف البقاء الدائم والفوز بالنعيم.
ومعنى (تَزَكَّى) تكثَّر بتقوى اللَّه، ومعنى الزاكي النامي
الكثير.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا
(16)
وقرئت (بَلْ يُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا) بالياء.
والأجود التاء، لأنها رويت عن أُبَيٍّ بن كعب:
بل أنتم تؤثرون الحياة الدنيا.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى
(18)
يعني من قوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) إلى هذا الموضع.
وقيل بل السورة كلها.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {إِلاَّ مَا شَآءَ الله}: فيه أوجهٌ، أحدُها: أنَّه
مفرغٌ، أي: إلاَّ ما شاءَ الله أن يُنْسِيَكَهُ فإنك تَنْساه.
والمرادُ رَفْعُ تلاوتِه. وفي الحديث: «أنه كان يُصبح فينسَى
الآياتِ لقولِه: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا}
[البقرة: 106]. وقيل: إنَّ المعنى بذلك القِلَّةُ
والنُّدْرَةُ، كما رُوِيَ» أنه عليه السلام أسقطَ آيةً في
صلاتِه، فحسِب أُبَيٌّ أنها نُسِخَتْ، فسأله فقال:
«نَسِيْتُها» «وقال الزمخشري:» الغَرَضُ نَفْيُ النِّسْيان
رَأْساً، كما يقول الرجل لصاحبه: أنت سَهِيْمي فيما أَمْلِكُ
إلاَّ ما شاء اللَّهُ، ولم يَقْصِدْ استثناءَ شيءٍ، وهو مِنْ
استعمالِ القلَّة في معنى النفي «انتهى. وهذا القولُ سبقَه
إليه الفراء ومكي. وقال الفراء وجماعة معه:» هذا الاستثناءُ
صلةٌ في الكلام على سنةِ الله تعالى في الاستثناء. وليس [ثم]
شيءٌ أُبيح استثناؤُه «. قال الشيخ:» هذا لا يَنْبغي أَنْ
يكونَ في كلامِ اللَّهِ تعالى ولا في كلامٍ فصيحٍ، وكذلك
القولُ بأنَّ «لا» للنهي، والألفَ فاصلةٌ «انتهى. وهذا الذي
قاله الشيخُ لم يَقْصِدْه القائلُ بكونِه صلةً، أي: زائداً
مَحْضاً بل المعنى الذي ذكره، وهو المبالغةُ في نَفْي النسيانِ
أو النهي عنه.
وقال مكي:» وقيل: معنى ذلك، إلاَّ ما شاء الله، وليس يشاءُ
اللَّهُ أَنْ يَنْسَى منه شيئاً، فهو بمنزلةِ قولِه في هود في
الموضعَيْنِ: خالِدِيْنَ فيها ما دامَتِ السماواتُ والأرضُ
إلاَّ ما شاء ربُّك «وليس جَلَّ ذِكْرُه تَرَكَ شيئاً من
الخلودِ لتقدُّمِ مَشيئتِه بخُلودِهم». وقيل: هو استثناءٌ مِنْ
قولِه {فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى}. نقله مكي. وهذا يَنْبغي أَنْ
لا يجوزَ ألبتَّةَ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/316)
لَا يُسْمِنُ وَلَا
يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
سُورَةُ الْغَاشِيَةِ
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1)
قيل إن الغاشية القيامة لأنها تغشى الخلق، وقيل الغاشية النار
لأنها
ْتغشى وجوه الكفار.
* * *
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2)
(خَاشِعَةٌ) خبر (وُجُوهٌ)، ومعنى خاشعة ذليلة.
* * *
(تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4)
ويقرأ (تُصْلَى).
* * *
وقوله (تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5)
أي متناهية في شدة الحرِّ: كقوله: (يَطُوفُونَ بَيْنَهَا
وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44).
* * *
(لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6)
يعني لأهل النار، والضريع الشبرق.
وهو جنس من الشوك، إذا كان رطباً فهو شبرق، فإذا يبس فهوَ
الضَّرِيعُ، قال كفار قريش: إنَّ الضريع لَتَسْمَنُ عليه
إبِلُنَا، فقال اللَّه - عزَّ وجلَّ -
* * *
(لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
ومعنى (هَلْ أتَاكَ) أي هذا ألم يكن من عِلْمِكَ ولا من علم
قَوْمِكَ، وكذلك
(5/317)
وَإِلَى الْجِبَالِ
كَيْفَ نُصِبَتْ (19)
الأقاصيص التي أخبر بها النبي - صلى الله
عليه وسلم -.
قال اللَّه - عزَّ وجلَّ -: (مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ
وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا).
* * *
وَمَعْنَى (عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ): قيل إنها عاملة ناصبة في
الدنيا لغير ما يقَربُ إلى
الله تعالى، وقيل إنهم الرهبان ومن أشبههم، وقيل (عَامِلَةٌ
نَاصِبَةٌ) في النار.
فوصف مُقاساتها العذاب.
وقوله في صفة أهل الجنة: (لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11)
وقرئت (لَا يَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً)، وقرئت (لَا تُسْمَعُ
فِيهَا لَاغِيَةٌ)
أي لا تسمع فيها آئمة.
ويجوز أن يكون لا تسمع فيها كلمة تلغى، أي تسقط، لا يتكلم أهل
الجنة إلا بالحكمة، وحمد اللَّه على مارزَقَهم من نعيمه
الدائم.
* * *
وقوله: (وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14)
الأكواب آنية شبيهة بالأباريق لا عرى لها.
* * *
(وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15)
واحدتها نمرقة.
* * *
(وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
الذرابِي: البسط، واحدتها زربية.
* * *
وقوله: (أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ
(17)
نبههم الله على عظيم من خلقه قَد ذَلَّلَه للصغِيرِ يقوده
وينتجهُ وينهضه.
ويحمل عليه الثقيل من الحمل وهو بارك فينهض بثقيل حمله، وليس
ذلك في
شيء من الحوامِل غيره، فأراهم عظيماً من خلقه ليدلهم بذلك على
توحيده.
* * *
(وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18)
يعنى بغير عَمَدٍ.
* * *
(وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)
(نُصِبَتْ) مرساة مثبتة لا تزول.
(5/318)
إِنَّ إِلَيْنَا
إِيَابَهُمْ (25)
(وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)
أَي دُحِيتَْ وَبُسِطَتْ.
* * *
(فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)
هذا قبل أن يؤمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالحرب.
* * *
(لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22)
أي بِمسَلَّط.
* * *
(إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ
الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24)
أي عذابَ جَهنَّمَ
* * *
(إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25)
(إيَّابهم)
وقُرئت إيابَهُمْ، بالتخفيف والتثقيل.
ومعنى إيابهم رجوعهم، ومَعْنَى (إيَّابهم) على مصدر أَيَّبَ
إيَّاباً، على معنى فَيْعَلَ فِيعَالاً، من آب يؤوبَ والأصل
إيوابا، فأدغمت الياء في الواو، وانقلبت الواو إلى الياء لأنها
سبقت بسكونٍ.
(5/319)
هَلْ فِي ذَلِكَ
قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
سُورَةُ الْفَجْرِ
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله عزَّ وجلَّ: (وَالْفَجْرِ (1)
الفجر انفجار الصبح من الليل، وجواب القسم (إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصَادِ (14)
* * *
(وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2)
ليالي عشر ذي الحجة.
* * *
(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3)
(وَالْوِتْرِ)
قرئَت (وَالْوَتْرِ) بفتح الواو، والوَتْرِ يوم النحر، والوتر
يوم عرفة
وقيل الشفع والوتر الأعداد، والأعداد كلها شفع ووتر.
وقيل: (الْوَتْرِ) اللَّه عزَّ وجلَّ، الواحد.
و (الشَّفْعِ) جميع الخلق، خلِقوا أزواجاً.
* * *
(وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4)
إذا مَضىَ. سَرَى يَسْرِي، كما قال - عزَّ وجلَّ:
(وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ).
وَ (يَسْرِ) حذفت الياء لأنها رأس آية.
وقد قرئت (والليل إذَا يَسْري) بإثبات الياء.
واتباع المصحف وحذف الياء أَحَبُّ إليَّ لأن القراءة بذلك
أكثر.
ورُووس الآي فَوَاصِلُ تحذف معها اليَاءَات وتدل عليه الكسرات
(1).
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5)
أي لذي عَقْل وَلُبٍّ، ومعنى القسم توكيد ما يَذْكُر وتصحيحه
بأن يُقْسِم
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {إِذَا يَسْرِ}: منصوبٌ بمحذوفٍ هو فعلُ القسم، أي:
أُقْسِم به وقتَ سُراه. وحَذَفَ ياءَ «يَسْري» وَقْفاً،
وأثبتها وصلاً، نافعٌ وأبو عمروٍ، وأثبتها في الحالَيْنِ ابنُ
كثير، وحَذَفَها في الحالين الباقون لسقوطِها في خَطِّ المصحفِ
الكريم، وإثباتُها هو الأصلُ لأنها لامُ فعلٍ مضارعٍ مرفوعٍ،
وحَذْفُها لموافقةِ المصحفِ وموافقةِ رؤوسِ الآي، وجَرْياً
بالفواصلِ مَجْرى القوافي. ومَنْ فَرَّقَ بين حالَتَيْ الوقفِ
والوصلِ فلأنَّ الوقفَ محلُّ استراحةٍ. ونَسَبُ السُّرى إلى
الليل مجازٌ؛ إذ المرادُ: يُسْرَى فيه، قاله الأخفش. وقال
غيره: المرادُ يَنْقُصُ كقوله: {إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر: 33]،
{إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17].
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/321)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ
إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ
فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15)
وقوله: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ
بِعَادٍ (6)
قيل هما عادان عاد الأولى وَهي إرَم، وعاد الأخيرة، وقيل إرم
أبو عاد.
وهو عاد بن إرم، وقيل إرم اسم لبلْدَتِهِمْ التي كانوا فيها.
وإرم لم تنصرف لأنها جعلت اسماً للقبيلة، فلذلك فتحت
وهي في موضع جَرٍّ.
* * *
وقوله: (إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7)
أي ذاتِ الطُولِ، يقال رجل معمَّد إذا كان طويلًا.
وقيل (ذَاتِ الْعِمَادِ)
ذات البناء الطويل الرفيع.
* * *
وقوله: (وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9)
جابوا: قطعوا، كما قال عزَّ وجلَّ - (وَتَنْحِتُونَ مِنَ
الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ).
* * *
(وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10)
فِرْعَون لم ينصرف لأنه أعجمي، وقيل (ذِي الْأَوْتَادِ)، لأنه
كان له أربَعُ
أَسَاطِين، إذا عاقَب الانْسَانَ ربط منه كل قائمة إلى اسطوانة
من تلك
الأساطين.
ومعناه ألم تر كيف أهلك ربُّك هذه الأمم التي كذبت رُسُلَها.
وكيف جعل عقوبتها أن جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب فقال:
(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13)
* * *
وقوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
أي يرصدا من كفر به وعبد غيره بالعذاب.
* * *
وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا
ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي
أَكْرَمَنِ (15)
والمعنى إذا ما اختبره رَبُّهُ وَأَوْسَعَ عَليه فيقول رَبِّي
أَكْرَمَنْ.
(5/322)
وَجَاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)
(وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ
عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)
أي جعل رزقه مَقدَّراً.
(فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا).
أي ليس الأمر كما يظن الِإنسانُ، وهَذَا يُعْنَى به الكافِرُ
الذي لا يؤمِنُ
بالبَعْثِ، وإنما الكرامة عنده والهوان بكثرة الحظ في الدنيا،
وَصِفَةُ المْؤمِنِ أنَ
الإكرَام عنده توفيق اللَّهِ إياه أي ما يؤديه إلى حَظِّ
الآخرةِ.
* * *
(كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا
تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18)
(وَلَا تَحُضُّونَ)
وَيُقْرَأ (وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ).
وكانوا يأكلون أَمْوالَ اليَتامَى إسرافاً وَبِدَاراً فقال:
* * *
(وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19)
((وَيَأْكُلُونَ)
أي تراث اليتامى (لَمًّا) يُلِمُّون بِجَمِيعِه.
* * *
وقوله: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
أي كثيراً، والتزاث أصله الوُراث من وَرِثْتُ، ولكن التاء تبدل
من الوَاوِ
إذَا كَانَتِ الواوُ مَضْمُومَةً، نحو تُراث وأصله وُرَاث ونحو
تجاه وأصله وجاهِ من
وَاجَهْتُ.
* * *
وقوله: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21)
إذا زلزلت فَدَكَّ بعضُهَا بَعْضاً.
* * *
(وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22)
والمعنى والملائكة كما قال جل ثَنَاوةُ: (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ
وَالْمَلَائِكَةُ).
(5/323)
ارْجِعِي إِلَى
رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)
وقوله: (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ
يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى
(23)
كما قال: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ).
وقيل في التفسير جيء بجهنم تقَادُ بألف زِمَام كل زمام في أيدي
سبعين ألف مَلَكٍ.
* * *
(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ)
يَوْمَئِذٍ يُظْهِر الإنْسَانُ التَّوْبَةَ.
(وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى)
أي ومن أين له الذكرى، أي التوبة.
* * *
(يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)
أي لدار الآخرة التي لَا مَوْتَ فِيهَا.
* * *
(فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25)
(لَا يُعَذَّبُ)
المعنى لَا يُعذًبَ عَذَابَ هذا الكافِرِ
وعذاب هذا الصِّنْفَ مِنَ الكفار أحَدٌ.
* * *
(وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26)
ومن قرأ (لَا يُعَذِّبُ)، وهو أكثر القراءة، فالمعنى لا
يَتَوَلَّى يوم القيامَةِ
عذاب اللَّه أَحَدٌ، الملك يومئذ لِله وَحْدَه - جلَّ وعزَّ.
وقيل لا يعذب عَذَابه أَحَدٌ، أي عذاب اللَّه أَحَدٌ، فعلى هذا
لا يُعَذِبُ أحَدٌ في الدنيا عَذَاب اللَّه في الآخرة (1).
* * *
وقوله: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)
" أيُّ " تؤنث إذا دعوت بِها مؤنًثاً وَتذَكَّرُ، تقول: يَا
أَيَّتُهَا المرأة.
وإن شئت يَا أَيُّهَا المرْأةُ، فمن ذكَره فلأنَّ (أَيَّا)
مبْهَمَةٌ ومن أنَّث فَلأنَّها مع إبْهَامِهَا قد لزمها
الإِعراب والإِضافة.
وزعم سيبويه أن بعض العرب تقول كُلتُهُنَّ في كلُهُنَّ.
والمطمئنة التي اطمأنت بالإيمان وأخبتت إلَى رَبِّهَا.
* * *
(ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28)
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {لا يُعَذِّبُ}: قرأ الكسائي «لا يُعَذَّبُ» و «لا
يُوْثَقُ» مبنيين للمفعولِ. والباقون قرؤُوهما مبنيَّيْن
للفاعل. فأمَّا قراءةُ الكسائي فأُسْنِد الفعلُ فيها إلى «أحد»
وحُذِفَ الفاعلُ للعِلْم به وهو اللَّهُ تعالى أو الزَّبانيةُ
المُتَوَلُّون العذابَ بأمرِ اللَّهِ تعالى. وأمَّا عذابه
ووَثاقه فيجوزُ أَنْ يكونَ المصدران مضافَيْن للفاعلِ والضميرِ
للَّهِ تعالى، ومضافَيْنِ للمفعول، والضميرُ للإِنسانِ، ويكون
«عذاب» واقعاً موقع تَعْذيب. والمعنى: لا يُعَذَّبُ أحدٌ
تعذيباً مثلَ تعذيبِ اللَّهِ تعالى هذا الكافرَ، ولا يُوْثَقُ
أحدٌ توثيقاً مثلَ إيثاقِ اللَّهِ إياه بالسَّلاسِلِ
والأغلالِ، أو لا يُعَذَّبُ أحدٌ مثلَ تعذيبِ الكافرِ، ولا
يُوْثَقُ مثلَ إيثاقِه، لكفرِه وعنادِه، فالوَثاق بمعنى
الإيثاق كالعَطاء بمعنى الإِعطاء. إلاَّ أنَّ في إعمالِ اسمِ
المصدرِ عملَ مُسَمَّاه خلافاً مضطرباً فنُقل عن البصريين
المنعُ، وعن الكوفيين الجوازُ، ونُقل العكسُ عن الفريقَيْن.
ومن الإِعمال قولُه:
4571 أكُفْراً بعد رَدِّ الموتِ عني. . . وبعد عَطائِكَ
المِئَةَ الرَّتاعا
ومَنْ مَنَعَ نَصَبَ «المِئَة» بفعلٍ مضمر. وأَصْرَحُ من هذا
قولُ الآخر:
4572. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . فإنَّ
كلامَها شفاءٌ لِما بيا
وقيل: المعنى ولا يَحْمِلُ عذابَ الإِنسانِ أحدٌ كقوله: {وَلاَ
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] قاله الزمخشري.
وأمَّا قراءةُ الباقين فإنه أَسْنَدَ الفعلَ لفاعلِه. /
والضميرُ في «عذابَه» و «وَثاقَه» يُحتمل عَوْدُه على الباري
تعالى، بمعنى: أنَّه لا يُعَذِّبُ في الدنيا مثلَ عذابِ
اللَّهِ تعالى يومئذٍ أحدٌ، أي: إنَّ عذابَ مَنْ يُعَذِّبُ في
الدنيا ليس كعذابِ الله تعالى يومَ القيامةِ، كذا قاله أبو عبد
الله، وفيه نظرٌ: من حيث إنه يَلْزَمُ أَنْ يكونَ «يومئذٍ»
معمولاً للمصدرِ التشبيهيِّ، وهو ممتنعٌ لتقدُّمِه عليه، إلاَّ
أن يُقالَ: يُتَوَسَّعُ فيه.
وقيل: المعنى لا يَكِلُ عذابه ولا وَثاقَه لأحدٍ؛ لأنَّ الأمرَ
لله وحدَه في ذلك. وقيل: المعنى أنَّه في الشدة والفظاعةِ في
حَيِّزٍ لم يُعَذِّبْ أحدٌ قط في الدنيا مثلَه. ورُدَّ هذا:
بأنَّ «لا» إذا دَخَلَتْ على المضارعِ صَيَّرَتْه مستقبلاً،
وإذا كان مستقبلاً لم يطابقْ هذا المعنى، ولا يُطْلَقُ على
الماضي إلاَّ بمجازٍ بعيدٍ، وبأنَّ «يومَئذٍ» المرادُ به يومَ
القيامة لا دارُ الدنيا. وقيل: المعنى أنَّه لا يُعَذِّبُ أحدٌ
في الدنيا مثلَ عذابِ اللهِ الكافرَ فيها، إلاَّ أن هذا مردودٌ
بما رُدَّ به ما قَبلَه. ويُحتمل عَوْدُه على الإِنسان بمعنى:
لا يُعَذِّبُ أحدٌ من زبانيةِ العذابِ مثلَ ما يُعَذِّبون هذا
الكافرَ، أو يكونُ المعنى: لا يَحْمِلُ أحدٌ عذابَ الإِنسانِ
كقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [فاطر: 18]. وهذه
الأوجهُ صَعْبَةُ المَرامِ على طالِبها من غيرِ هذا الموضوعِ
لتفرُّقها في غيرِه وعُسْرِ استخراجِها منه.
وقرأ نافعٌ في روايةٍ وأبو جعفر وشَيْبة بخلافٍ عنهما
«وِثاقَه» بكسر الواو.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
(5/324)
وَادْخُلِي جَنَّتِي
(30)
أَصْلُ (مَرْضِيَّةً) مَرْضوَّة أي راضية
بما أتاها، قد رُضِيَتْ وَزُكيَتْ.
* * *
(فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)
في جملة عبادي المصطفين.
وقرئت فادْخُلي في عَبْدي.
(وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
فعلى هذه القراءة - واللَّه أعلم - ادخلي إلى صاحبك الذي
خَرَجْتِ
مِنه فادخُلي فيه.
والأكثر في القراءة والتفسير: (فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)
وَادْخُلِي جَنَّتِي (30).
(5/325)
|