معاني القرآن وإعرابه للزجاج

وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)

سُورَةُ الْبَلَدِ
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله عزَّ وجلَّ: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1)
يعنى بالبلد ههنا مكة، والمعنى أقسم بهذا البلد.
و" لا " أدخلت توكيداً كما قال عزَّ وجلَّ: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ). وقرئت (لأقْسِمُ بهذا البلد).
تكون اللام لامَ القسَم والتوكيد، وهذه القراءة قليلة.
وهي في العربية بعيدة لأن لام القسم لا تدخل على الفعل المستقبل إلا معه النون، تقول لأضربن زيداً، ولا يجوز لأضرِبُ تريد الحال.
وزعم سيبويه والخليل أن هذه اللام تدخل مع أن
فاستغنى بها في باب إن، تقول إني لأحِبُّكَ.
* * *

ومعنى: (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)
أُحِلَّتْ مَكًةُ للنبي عليه السلام ساعة من النهار، ولم تحل لأحد قبله ولا
لأحَدٍ بعده، ومعني أُحِلَّتْ له أُحِلَّ لَه صَيْدُهَا وأن يختلى خلالها وأن يعضد
شجرها.
يقال: رَجلْ حِلٌّ وَحَلال وَمُحَلٌّ، وكذلك رجل حرام وحِرْم وَمحْرِمٌ (1).
* * *

وقوله: (وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3)
جاء في التفسير أن معناه آدم وولده، وجاء معناه أيضاً كل والد وكل
مولودٍ.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد}: فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ الجملةَ اعتراضيةٌ على أحد معنَييْن: إمَّا على معنى أنه تعالى أَقْسَمَ بهذا البلدِ وما بعدَه على أنَّ الإِنسانَ خُلِقَ في كَبَدٍ واعتُرِض بينهما بهذه الجملةِ، يعني ومن المكابَدَةِ أنَّ مثلَكَ على عِظَمِ حُرْمَتِك يُسْتَحَلُّ بهذا البلدِ كما يُسْتَحَلُّ الصَّيْدُ في غير الحَرَمِ، وإمَّا على معنى أنَّه أَقْسَم ببلدِه على أنَّ الإِنسان لا يَخْلُوا مِنْ مَقاساةِ الشدائِد. واعْتُرِض بأَنْ وَعَدَه فتحَ مكة تَتْميماً للتسلية، فقال: وأنت حِلٌّ به فيما تَسْتَقْبِلُ تصنعُ فيه ما تريدُ من القَتْلِ والأَسْرِ، ف «حِلٌّ» بمعنى حَلال، قال معنى ذلك الزمخشري. ثم قال: «فإنْ قلتَ أين نظيرُ قولِه» وأنت حِلٌّ «في معنى الاستقبال؟ قلت: قوله تعالى {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] ومثلُه واسعٌ في كلامِ العبادِ تقول لمن تَعِدُهُ الإِكرامَ والحِباء: أنت مُكَرَّمٌ مَحْبُوٌّ، وهو في كلامِ اللَّهِ تعالى أوسعُ؛ لأنَّ الأحوال المُسْتَقْبَلَةَ عنده كالحاضرِةَ المشاهَدَةِ، وكفاك دليلاً قاطِعاً على أنه للاستقبالِ، وأنَّ تفسيرَه بالحالِ مُحالٌ، أنَّ السورةَ بالاتفاقِ مكيةٌ، وأين الهجرةُ عن وقتِ نزولِها فما بالُ الفتحِ؟ وقد ناقشه الشيخ بما لا يَتَّجِهُ، ورَدَّ عليه قولَه الإِجماعَ على نزولِها بمَكةَ بخلافٍ حكاه ابنُ عطية.
الثاني من الوجَهْين الأوَّلَيْن. أنَّ الجملةَ حاليةٌ، أي: لا أُقْسِمُ بهذا البلدِ وأنت حالٌّ بها لعِظَمِ قَدْرِك، أي: لا يُقْسِمُ بشيءٍ وأنت أحَقُّ بالإِقسام بك منه. وقيل: المعنى لا أٌقْسِم به وأنت مُسْتَحَلٌّ فيه، أي: مُسْتَحَلٌّ أَذاك. وتقدَّم الكلام في مثلِ» لا «هذه المتقدِّمةِ فِعْلَ القسمِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/327)


وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)

ْوقوله: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)
هذا جواب القسم، المعنى أقسم بهذه الأشياء (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ)، أي يكابد أمره في الدنيا والآخرة.
وقيل: (فِي كَبَدٍ) أي خلق منتصباً يمشي على رِجْلَيْه وسائر الأشياء والحيوان غير منتصبة.
وقيل (فِي كَبَدٍ) خَلْقُ الإنسان في بَطْنِ أمَهِ ورأسه قِبَلَ رأسِها، فإذا أرادت الولادة انقلب الرأس إلى أسفل.
* * *

وقوله (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5)
هذا جاء في التفسير أنه رجل كان شديداً جدًّا، وكان يبسط له الأديم
العكاظِي فيقوم عليه فيهد فلا يخرج من تحت رجليه إلا قطعاً من شدتِه، وكان يقال له كلدة فقيل: أيحسب لشدته أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ وأنه لا يبعث.
وقيل أن لن يَقْدِرَ عليه اللَّه عزَّ وجلَّ لأنه كان لا يؤمن بالبعث.
* * *

(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6)
وقرئت (أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا)، ويُقْرأَ لُبَّدًا).
ومعنى " لُبَد " كثير بعضه قَدْ لُبِّدَ بِبَعْض، وفُعَل للكثرةِ، يقال: رجل حُطَم: إذا كان كثير الحطم.
ومن قرأ لُبَّداً فَهو جمع لاَبِدٍ.
* * *

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7)
أي أيحسب أن لم يحص عليه ما أنفق، وفي الكلام دليل على أنه
ادعَى أنه أنفق كثيراً لم ينفعهُ.
* * *

وقوله جلَّ وعزَّ: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
أي ألم نَفعل به ما يُسسْتَدلُّ به على أن اللَّه قَادرٌ على أن يبعثه وأن
يحصِيَ عليه ما يعمله.
* * *
(وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)

(5/328)


يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15)

الطريقين الْوَاضِحَيْن، النجد المرتفع من الأرْضِ، فالمعنى ألم نعرْفه
طريق الخير وَطَرِيقَ الشرِّ بَيِّنَيْنِ كبيان الطريقين العَالِيَيْنِ.
* * *

وقوله (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)
المعنى فلم يقتحم العقبة كما قال: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلًى).
ولم يذكر " لا " إلا مَرةٍ وَاحِدَةً، وقلما يتكلم العرب في مثل هذا المكان إلا بلا مَرتين أو أكثر، لا تكاد تقول: لا حَيَّيتَني تريد مَا حَيَّيْتَنِي.
فإن قلت: لاحَييْتَني ولا زُرْتَني صَلَح.
ْوالمعنى في (فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) موجود أن " لا " ثانية كأنَّها في الكلام
لأن قوله: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا)
تدل على معنى فلا اقتحم العقبة ولا آمن.
* * *

وقرئت: (فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)
وقرئت (فَكَّ رَقَبَةً)، (أو أَطْعَمَ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ).
وكلاهما جائز، فمن قال (فَكُّ رَقَبَةٍ) فالمعنى اقتحام العقبة فك رقبة أو إطعام، ومن قرأ (فَكَّ رَقَبَةً) فهو محمول على المعنى (1).
والمسغبة المجاعة.
* * *

ْوقوله: (يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15)
معناه ذا قرابة، تقول زيد ذو قرابتي وذو مقربتي، وزيد قرابتي قبيح لأن
القرابة المصدر
قال الشاعر:
__________
(1) قال السَّمين:
وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائيُّ «فَكَّ» فعلاً ماضياً، «ورقبةً» نصباً «أو أَطْعم» فعلاً ماضياً أيضاً. والباقون «فَكُّ» برفع الكاف اسماً، «رقبةٍ» خَفْصٌ بالإِضافة، «أو إطعامٌ» اسمٌ مرفوعٌ أيضاً. فالقراءةُ الأولى الفعلُ فيها بَدَلٌ مِنْ قولِه «اقتحمَ» فهو بيانٌ له، كأنَّه قيل: فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعَمَ، والثانيةُ يرتفع فيها «فَكُّ» على إضمار مبتدأ، أي: هو فَكُّ رقبة أو إطعامٌ، على معنى الإِباحة. وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ دلَّ عليه «فلا اقتحمَ» تقديرُه: وما أدراك ما اقتحامُ العقبة؟ فالتقدير: اقتحامُ العقبة فكُّ رَقَبَة أو إطعامٌ، وإنما احْتيج إلى تقديرِ هذا المضافِ ليتطابقَ المفسِّر والمفسَّر. ألا ترى أنَّ المفسِّر - بكسرِ السين - مصدرٌ، والمفسَّر - بفتحِ السينِ - وهو العقبةُ غيرُ مصدر، فلو لم نُقَدِّرْ مضافاً لكان المصدرُ وهو «فَكُّ» مُفَسِّراً للعين، وهو العقبةُ.
وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو رجاء «فَكَّ أو أطعمَ» فعلَيْن كما تقدَّم، إلاَّ أنهما نصبا «ذا» بالألف. وقرأ الحسن «إطعامٌ» و «ذا» بالألفِ أيضاً وهو على هاتَيْنِ القراءتَيْن مفعولُ «أَطْعم» أو «إطعامٌ» و «يتيماً» حينئذٍ بدلٌ منه أو نعتٌ له. وهو في قراءةِ العامَّةِ «ذي» بالياء نعتاً ل «يوم» على سبيل المجاز، وُصِفَ اليومُ بالجوع مبالغةً كقولهم: «ليلُك قائمٌ ونهارُك صائمٌ» والفاعلُ لإِطعام محذوفٌ، وهذا أحدُ المواضعِ التي يَطَّرِدُ فيها حَذْفُ الفاعلِ وحدَه عند البصريين، وقد بَيَّنْتُها مُسْتوفاةً ولله الحمدُ.
والمَسْغَبَةُ: الجوعُ مع التعبِ، وربما قيل في العطش مع التعب، قال الراغب. يُقال منه: سَغِبَ الرجل يَسْغَبُ سَغْباً وسُغُوباً فهو ساغِبٌ وسَغْبانُ والمَسْغَبَةُ مَفْعَلَة منه، وكذلك المَتْرَبَةُ من التراب. يقال تَرِب، أي: افتقر حتى لَصِقَ جِلْدُه بالتراب. فأمَّا أَتْرَبَ بالألف فبمعنى استغنى نحو: أَثْرى، أي: صار مالُه كالتراب وكالثرى والمَقْرَبَةُ أيضاً: مَفْعَلَة من القَرابة. وللزمخشري هنا عبارةٌ حلوة قال: «والمَسْغَبَةُ والمَقْرَبَةُ والمَتْرَبَةُ مَفْعَلات مِنْ سَغِبَ إذا جاع وقَرُبَ في النَّسَب وتَرِبَ إذا افتقر».
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/329)


عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)

يَبْكِي عليه غَرِيبٌ ليس يَعْرِفُهُ. . . وذُو قَرَابَتهِ في الحَيِّ مَسْرُورُ
وقوله: (ذَا مَتْرَبةً).
يعنى أنه من فقره قد لصق بالتُّرَابِ.
* * *
وقوله: (ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ

(17)
معناه إذا فعل ذلك وكان عقد الإيمان ثم أقام على إيمانِه.
(وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ).
أي على طاعة اللَّه، والصبر عن الدخول في معاصيه، ثم كان مع ذلك
مِنَ الَّذِينَ يتواصون (بالمرحمة)، أولئك أصحاب اليمن على أنفسهم أي كانوا
ميامين على أنفسهم غير مشائيم.
* * *

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19)
أي هم المشائيم على أنفسهم، نعوذ باللَّهِ من النار.
* * *

وقوله: (عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
ويقرأ بغير هَمزٍ، ومعناه مطبقة.
يقال آصَدْتُ البابَ وأوصدته إذا أطبقته.

(5/330)


وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)

سُورَةُ الشَّمْسِ
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله عزَّ وجلَّ: (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1)
هذا قسم وجوابه: (قَدْ أفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا).
ومعناه لَقَدْ أَفْلَحَ ولكن اللام حذفت لأن الكلامَ طَالَ فصار طوله عوضا منها ومعنى (وضحاها) وَضِيائِها.
وقيل ضحاها النهار، وقرأ الأعمش وأصْحَابُهُ ضحاها وتلاها وطحاها بالفتح، وقرأوا باقي السُّورة بالكسر.
وقرأ الكسائي السورة كلها بالإمالة.
وقرأها أبو عمرو بن العلاء بين اللفظين.
وهذا الذي يسميه الناس الكسر ليس بكسر صحيح، يسميه الخليل
وأبو عمرو الِإمَالَةَ، وإنما كسر من هذه الحروف ما كان منها من ذوات الياء ليدلوا على أن الشيء من ذوات الياء.
ومن فتح ضحاها وَتَلَاهَا وطحاها فلأنه من ذوات الواو، ومن كسر فلأن ذوات الواو كلها إذا رد الشيء إلى ما لم يسم
فاعله انتقل إلى الياء، تقول قد تُلِيَ وَدُحِيَ وَطُحِيَ.
* * *

وقوله: (وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2)
معناه حين تلاها، وقيل حين - استدار فكان يتلو الشمس في الضياء
والنور.
* * *

وقوله: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)

(5/331)


وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)

قالوا معناه إذَا جَلَّى الظلمة، وإن لم يكن في الكلام ذكر الظلمة فالمعنى
يدل عليها كما تقول: أصبحت باردة، تريد أصبحت غُداتنا بَارِدة
وقيل: (وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا) إذا بين الشمس لأنها تبين إذا انبسط النهار.
* * *

وقوله: (وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)
معناه والسماء وبنائها، وكذلك (وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا) معناه والأرض
وطحوها.

وكذلك: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7)
وقيل معنى " ما " ههنا معنى (مَنْ)
المعنى والسماء والذي بناها.
ويحكى عن أهل الحجاز " سُبْحَانَ مَا سَبَّحْتُ لَهُ " أي سبحان الذي سبحت، وَمَنْ سَبَّحْتُ له.
فأقسم اللَّه - عزَّ وجلَّ - بهذه الأشياء العظام من خلقه لأنها تدل
على أَنه واحِدٌ والذي ليس كمثله شيء (1).
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)
قيل علمها طريق الفجور وطَرِيقَ الهدى.
والكلام على أن أَلهَمَها التقوى، وفقَهَا للتقوى، وألْهَمَها فُجورَهَا خذلها، واللَّه أعلم.
* * *

وقوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9)
أي قد أفلحت نفسٌ زَكاهَا اللَّهُ.
* * *

(وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
خابت نَفْسٌ دَسَّاهَا اللَّه.
ومعنى (دَسَّاهَا) جعلها قليلة خَسِيسَةً.
والأصل دَسَّسَهَا، ولكن الحروف إذا اجتمعت من لفظٍ واحِدٍ أُبدَل من أحدها ياء.
قال الشاعر:
تَقَضِّيَ البَازِي إِذا البَازِي كَسَرْ
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {وَمَا بَنَاهَا}: وما بعدَه، فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ «ما» موصولةٌ بمعنى الذي، وبه استشهد مَنْ يُجَوِّزُ وقوعَها على آحادِ أولي العلم؛ لأنَّ المرادَ به الباري تعالى، وإليه ذهب الحسنُ ومجاهدٌ وأبو عبيدةَ، واختاره ابن جرير. والثاني: أنها مصدريةٌ، أي: وبناءِ السماء، وإليه ذهبَ الزجَّاج والمبرد، وهذا بناءً منهما على أنها مختصةٌ بغيرِ العقلاءِ، واعْتُرِضَ على هذا القولِ: بأنَّه يَلْزَمُ أَنْ يكونَ القَسَمُ بنفسِ المصادر: بناءِ السماء وطَحْوِ الأرضِ وتَسْويةِ النفس، وليس المقصودُ إلاَّ القَسَمَ بفاعلِ هذه الأشياءِ وهو الرَّبُّ تبارك وتعالى. وأُجِيب عنه بوجهَيْن، أحدُهما: يكونُ على حَذْفِ مضافٍ، أي: وربِّ - أو باني - بناءِ السماء ونحوه. والثاني: أنه لا غَرْوَ في الإِقسام بهذه الأشياء كما أَقْسم تعالى بالصبح ونحوه.
وقال الزمخشري: «جُعِلَتْ مصدريةً وليس بالوجهِ لقولِه» فأَلْهمها «وما يؤدي إليه مِنْ فسادِ النظم. والوجهُ أَنْ تكونَ موصولةً، وإنما أُوْثِرَتْ على» مَنْ «لإِرادة معنى الوصفية كأنه قيل: والسماءِ والقادرِ العظيم الذي بناها، ونفس والحكيمِ الباهرِ الحكمةِ الذي سَوَّاها. وفي كلامهم:» سبحانَ ما سَخَّرَكُنَّ لنا «انتهى. يعني أنَّ الفاعلَ في» فألهمها «عائدٌ على اللَّهِ تعالى فليكُنْ في» بناها «كذلك، وحينئذٍ يَلْزَمُ عَوْدُه على شيءٍ وليس هنا ما يمكنُ عَوْدُه عليه غيرُ» ما «فتعيَّنَ أَنْ تكونَ موصولةً.
وقال الشيخ:» أمَّا قولُه: «وليس بالوجهِ لقولِه» فَأَلْهمها «يعني مِنْ عَوْدِ الضمير في» فَأَلْهمها «على الله تعالى، فيكونُ قد عاد على مذكورٍ وهو» ما «المرادُ به الذي. قال:» ولا يَلْزَمُ ذلك؛ لأنَّا إذا جَعَلْناها مصدريةً عاد الضميرُ على ما يُفْهَمُ مِنْ سياق الكلامِ، ففي «بناها» ضميرٌ عائدٌ على الله تعالى، أي: وبناها هو، أي: الله تعالى، كما إذا رأيتَ زيداً قد ضرب عَمْراً فتقول: «عجبتُ مِمَّا ضَرَبَ عمراً» تقديره: مِنْ ضَرْبِ عمروٍ هو، كان حسناً فصيحاً جائزاً، وعَوْدُ الضمير على ما يُفْهَمُ مِنْ سياقِ الكلامِ كثيرٌ وقوله: «وما يُؤدِّي إليه مِنْ فسادِ النظم» ليس كذلك، ولا يُؤدِّي جَعْلُها مصدريةً إلى ما ذُكِرَ، وقوله: «وإنما أُوْثِرَتْ» إلى آخره لا يُراد بما ولا بمَنْ الموصولتين معنى الوصفيةِ؛ لأنهما لا يُوْصفُ بهما بخلاف «الذي» فاشتراكُهما في أنَّهما لا يُؤَدِّيان معنى الوصفيةِ موجودٌ بينهما فلا تنفردُ به «ما» دون «مَنْ» وقوله:: وفي كلامِهم «إلى آخره تَأَوَّله أصحابُنا على أنَّ» سبحان «عَلَم و» ما «مصدريةٌ ظرفيةٌ» انتهى.
أمَّا ما رَدَّ به عليه مِنْ كونِه يعود على ما يُفْهَمُ من السِّياق فليس يَصْلُح رَدَّاً، لأنه إذا دار الأمرُ بين عَوْدِه على ملفوظٍ به وبينَ غيرِ ملفوظٍ به فعَوْدُه على الملفوظِ به أولى لأنَّه الأصلُ. وأمَّا قولُه: فلا تنفرد به «ما» دونَ «مَنْ» فليس مرادُ الزمخشري أنها تُوْصَفُ بها وصْفاً صريحاً، بل مُرادُه أنها تقعُ على نوعِ مَنْ يَعْقل، وعلى صفتِه، ولذلك مَثَّل النَّحْويون ذلك بقوله: {فانكحوا مَا طَابَ} [النساء: 3]، وقالوا: تقديره: فانْكِحُوا الطيِّبَ مِنْ النساءِ، ولا شكَّ أن هذا الحكمَ تَنْفَرِدُ به «ما» دون مَنْ. والتنكيرُ في «نفس»: إمَّا لتعظيمِها، أي، نفس عظيمة، وهي نفسُ آدمَ، وإمَّا للتكثيرِ كقولِه: {عَلِمَتْ نَفْسٌ} [الانفطار: 5].
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/332)


وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)

قالوا معناه تقضض.
وقيل: قد أفلح مَنْ زَكَّى نفْسَه بالعمل الصالح.
* * *

وقوله: (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11)
أي بطغيانها، وأصل (طَغْواها) طَغْيَهَا وَفَعْلَى إذا كانت من ذوات الياء
أبدلت في الاسم وَاواً ليفصُل بين الاسم والصفة، تقول: هي التقوى، وإنما
هي مِنْ أيقنتُ، وهي التقوى وإنما هي من يقنت، وقالوا: امرأةٌ خَزْياً لأنها
صفةٌ.
* * *

وقوله تعالى: (فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)
(ناقةَ) مَنْصُوبٌ على معنى ذروا ناقة اللَّه، كما قال سبحانه:
(هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ)، أي ذروا سقياها، وكان للناقَةِ يَوْمٌ وَلَهُمْ يَوْمٌ في الشِّرْبِ.
* * *

(فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14)
(فَكَذَّبُوهُ)
أي فلم يوقنوا أنهم يُعَذبُونَ حين قال لهم (وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ).
* * *
(فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا).
معناه دَمْدَمَ عَلَيْهِمْ أطبق عليهم العَذَابَ، يقال: دَمْدَمْتُ على الشيء إذا
أطبقت عليه، وكذلك [دَمَمْتُ] عليه القبرَ وما أشبهه، وكذلِكَ ناقة مَدْمُومَةٌ، أي قد ألْبَسَها الشحم، فإذا كررت الإطباق قُلْتَ دَمْدَمُتْ عليه (1).
* * *

وقوله: (وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
أكثر ما جاء في التفسير لا يخاف الله تعالى تبعةَ ما أَنزل بِهِمْ، وقيل لا
يخاف رَسُولُ اللَّهِ صَالِحٌ عليه السلام الذي أرسل إليهم عُقْبَاهَا.
وقيل إذا انبعث أشقاها وهو لا يخاف عقباها.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {فَدَمْدَمَ}: الدَّمْدَمَةُ. قيل: الإِطباقُ يُقال: دَمْدَمْتُ عليه القبرَ، أي: أَطْبَقْتُه عليه. وقيل: الإِلزاقُ بالأرض. وقيل: الإِهلاكُ باستئصالٍ. وقيل: الدَّمْدَمَةُ حكايةُ صوتِ الهَدَّة ومنه: دَمْدَمَ في كلامه. ودَمْدَمْتُ الثوبَ: طَلَيْتُه بالصَّبْغ. والباءُ في «بذَنْبهم» للسببية.
قوله: {فَسَوَّاهَا} الضميرُ المنصوبُ يجوزُ عَوْدُه على ثمودَ باعتبار القبيلةِ كما أعادَه في قولِه «بَطَغْواها» ويجوزُ عَوْدُه على الدَّمْدَمَة والعقوبةِ، أي: سَوَّاها بينهم، فلم يَفْلَتْ منهم أحدٌ. وقرأ ابن الزبير «فَدَهْدَمَ» بهاءٍ بين الدالَيْن بدلَ الميم، وهي بمعنى القراءةِ المشهورةِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/333)


وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8)

سُورَةُ وَاللَّيْل
(مَكِّيَّة)
ْبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2)
هذا قسم جوابه (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى)، أي إن سَعْيَ المْؤمِنِ والكَافِرِ
لمخْتَلِف بينهما بُعْدٌ.
ومعنى إذَا يَغْشَى الليل الأرْضَ توارى الأفُقَ
وجميع ما بين السماء والأرض، والنهار إذَا تَجَلَى إذا بأن وظهر.
* * *

(وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3)
كما فسَرناها في قوله: (والسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا).
* * *

وقوله: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)
في التفسير أنها نزلت في أَبِي بَكْرٍ الصديقِ - رَحِمَه اللَّهُ - وكان اشترى
جماعة كان يعذبهم المشركون ليرتدُّوا عن الإسلام فيهم بلال فوصَفَهُ اللَّه - عز وجل - على أنه أعْطى تقوى، وصدَّق بالحسنى، لأنه يجازى عليه.
وقيل صَدَّقَ لأنه يخلف عليه لقوله: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ).
* * *

وقاك: (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7)
أي للأمر السهل الذي لا يقدر عليه أَحَدٌ إلَّا المؤمنين.
* * *

وقوله: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)

(5/335)


وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19)

نزلت في رجل أكْرَة ذِكْرَهُ، وهي جامعة لكل مَنْ بَخِلَ وَكَذَّبَ لأن الله
جلَّ وعزَّ يجازيه أو يخلف عليه.
* * *

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)
العذاب والأمرُ العَسِيرُ.
* * *

(وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
قِيلَ إذا مات وقيل إِذَا تَرَدَّى في النارِ.
* * *

(إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12)
أي إن علينا أن نبين طريق الهدى من طريق الضلاَل.
* * *

وقوله عزَّ وجلَّ: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16)
(تَلَظَّى) معناه تتوهج وَتَتَوقَّدُ.
وَهذه الآية هيَ التي مِنْ أَجْلِهَا قال أهل الإرجاء بالإرجاء، فزعموا أنه لا يدخل النار إلا كافر لقوله: (لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16).
وليس كما ظنوا، هذه نَارٌ مَوْصوفة بعينها لا يصلى هذه النارَ إلا الأشقى الَّذي كذَّبَ وَتَوَلَّى، ولأهل النار منازل فمنها قوله:
(إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).
واللَّه عزَّ وجلَّ كل ما وَعَد عليه بجنس من العذاب فَجَائز أن يُعَذِبَ به.
وقال عزَّ وجلَّ: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) فلو كان كل من لم يشرك باللَّه لا يعذب، لم يكن في قوله تعالى.:
(وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ) فائدة، وكان يغفر ما دون ذلك.
* * *

وقوله: (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18)
أي يطلب أن يكون عند الله زاكياً، لا يطلب بذلك رياءً، ولا سمعةً.
ونزلت في أبي بكر - رضي اللَّه عنه -.
* * *

(وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19)
أي لم يفعل ذلك مجازاة لِيَدٍ أُسْدِيَتْ إليه.

(5/336)


وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)

(إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)
أي إلا طلب ثوابه.
* * *

وقوله: (وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
أي سوف يدخل الجنة كما قال: (ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30).

(5/337)


وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)

سُورَةُ الضُّحَى
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله تعالى: (وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)
هذا قسم وجوابه (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى).
والضحى: النهار، وقيل ساعة من ساعات النهار.
* * *
(وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)
وقوله إذا سجا معناه إذا سكن.
قال الشاعر:
يا حبَّذا القمراءُ والليلُ الساجْ. . . وطُرُقٌ مثلُ مُلاء النَّسَّاجْ
* * *

ومعنى: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)
أي لم يقطع الوحي عنك وَلَا أَبْغَضَكَ، وذلك أنه تأخر الوحي عن
رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - خمسة عشر يوماً، فقال ناس من الناس: إن محمداً قد ودعه صاحبه وقلاه، فأنزل الله عزَّ وجلَّ - (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)
المعنى ما قلاك، كما قال: (وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ)
المعنى والذاكراته (1).
* * *

وقوله: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6)
وكان النبي عليه السلام يكفله عمُّه أَبُو طَالبٍ.
* * *

وقوله: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7)
معناه - واللَّه أعلم - أنه لم يكن يدري القرآن ولا الشرائِع فهداه اللَّه
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {مَا وَدَّعَكَ}: هذا هو الجوابُ. والعامَّةُ على تشديد الدالِ من التَوْديع. [وقرأ] عروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وابن أبي عبلة بتخفيفِها مِنْ قولِهم: وَدَعَه، أي: تركه والمشهورُ في اللغةِ الاستغناءُ عن وَدَعَ ووَذَرَ واسمِ فاعِلهما واسمِ مفعولِهما ومصدرِهما ب «تَرَكَ» وما تصرَّفَ منه، وقد جاء وَدَعَ ووَذَرَ. قال الشاعر:
4591 سَلْ أميري ما الذي غَيَّرَهْ. . . عن وِصالي اليومَ حتى وَدَعَهْ
وقال الشاعر:
4592 وثُمَّ وَدَعْنا آلَ عمروٍ وعامرٍ. . . فرائِسَ أَطْرافِ المُثَقَّفةِ السُّمْرِ
قيل: والتوديعُ مبالغةٌ في الوَدْع؛ لأن مَنْ وَدَّعك مفارقاً فقد بالغ في تَرْكِك.
قوله: {وَمَا قلى} أي: ما أَبْغَضَك، قلاه يَقْليه بكسر العين في المضارع، وطيِّىء تقول: قلاه يقلاه بالفتح قال الشاعر:
4593 أيا مَنْ لَسْتُ أَنْساه. . . ولا واللَّهِ أَقْلاه
لكَ اللَّهُ على ذاكَ. . . لكَ اللَّهُ [لكَ اللَّهُ]
وحُذِفَ مفعولُ «قَلَى» مراعاةً للفواصلِ مع العِلْم به وكذا بعدَ «فآوى» وما بعدَه.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/339)


وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

إلى القرآن وشرائع الإسلام، ودليل ذلك قوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ)
وقال قوم: كان على أَمْرِ قَوْمِهِ أربعين سنة (1).
* * *

وقوله: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9)
أي لا تقهره على ماله.
* * *

(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10)
أي لا تنهرهُ، إما أعطيته، وإما رددته ردًّا لَيِّناً.
* * *

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
أي بلِّغ ما أرسلت به وحَدِّثْ بالنبوة التي آتاك الله وهي أجَلُّ النِّعمِ.
__________
(1) كلام في غاية الفساد والبطلان، ويكفي في رده قوله تعالى (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2).

(5/340)


وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)

سُورَةُ الشَّرْحِ
(مَكِّيَّة)
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1)
أي شرحناه للإسلام.
* * *

(وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2)
أي وضعنا عنك إثمك أن غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر.
* * *

(الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4)
جعل ذكر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - مقروناً بذكر توحيد اللَّه في الأذان وفي كثير مما يذكر الله جلَّ وعزَّ، يقول فيه: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، أشهد أن محمداً رسول اللَّه.
* * *

وقوله: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5)
فذكر العسر مع الألف واللام ثم ثَنَّى ذكره، فصار المعنى إنَّ مع العُسْرِ
يُسْريْنِ، وقال النبي عليه السلام: لا يغلب عسر يُسْرَين.
وقيل: لو دخل العسر جحراً لدخل اليسر عليه، وذلك أن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا في ضيقٍ شديدٍ.
فأعلمهم الله أنهم سَيُوسِرونَ وأن سَيُفْتَح عَلَيْهِمْ.
وَأَبْدَلَهمْ بالعُسْرِ اليُسْرَ (1).
* * *

وقوله: (وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
أي اجْعَل رغبتك إلى الله وحده.
__________
(1) قال السَّمين:
قوله: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً}: العامَّةُ على سكونِ السين في الكلم الأربع، وابن وثاب وأبو جعفر وعيسى بضمِّها. وفيه خلافٌ. هل هو أصلٌ، أو مثقلٌ من المسكِّن؟ والألفُ واللامُ في «العُسر» الأولِ لتعريف الجنس، وفي الثاني للعهدِ؛ ولذلك رُوِيَ عن ابن عباس: «لن يُغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن» ورُوي أيضاً مرفوعاً أنه عليه السلام خرج يضحك يقول: «لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» والسببُ فيه: أنَّ العربَ إذا أَتَتْ باسمٍ ثم أعادَتْه مع الألفِ واللامِ ِكان هو الأولَ نحو: «جاء رجلٌ فأكرمْتُ الرجلَ» وكقولِه تعالى: {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 1516] ولو أعادَتْه بغير ألفٍ ولامٍ كان غيرَ الأول. فقوله: {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} لَمَّا أعاد العُسْرَ الثاني أعادَه بأل، ولَمَّا كان اليُسْرُ الثاني غيرَ الأولِ لم يُعِدْه ب أل.
وقال الزمخشري: «فإنْ قلتَ ما معنى قولِ ابن عباس؟ وذكرَ ما تقدَّم. قلت: هذه عَمَلٌ على الظاهرِ وبناءٌ على قوةِ الرجاءِ، وأنَّ موعدَ اللَّهِ لا يُحْمل إلاَّ على أوفى ما يحتملُه اللفظُ وأَبْلَغُه، والقولُ فيه أنه يحتمل أَنْ تكونَ الجملةُ الثانيةُ تكريراً للأولى، كما كرَّر قولَه: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 15] لتقريرِ معناها في النفوسِ وتمكينِها في القلوب، وكما يُكَرَّر المفرد في قولك:» جاء زيدٌ زيدٌ «وأَنْ تكونَ الأولى عِدَةً بأنَّ العُسْرَ مُرْدَفٌ بيُسْرٍ لا مَحالَةَ، والثانيةُ عِدَةً مستأنفةٌ بأنَّ العُسْرَ متبوعٌ بيسرٍ، فهما يُسْران على تقديرِ الاستئناف، وإنما كان العُسْرُ واحداً لأنه لا يخلو: إمَّا أَنْ يكونَ تعريفُه للعهدِ وهو العسرُ الذي كانوا فيه فهو هو؛ لأنَّ حكمَه حكمُ» زيد «في قولك:» إنَّ مع زيد مالاً، إنَّ مع زيد مالاً «وإمَّا أَنْ يكونَ للجنسِ الذي يَعْلَمُه كلُّ أحدٍ فهو هو أيضاً، وأمَّا اليُسْرُ فمنكَّرٌ مُتَناولٌ لبعض الجنسِ، وإذا كان الكلامُ الثاني مستأنفاً غيرَ مكررٍ فقد تناوَلَ بعضاً غيرَ البعضِ الأولِ بغيرِ إشكال».
وقال أبو البقاء: «العُسْرُ في الموضعَيْنِ واحدٌ؛ لأنَّ الألفَ واللامَ توجبُ تكريرَ الأولِ، وأمَّا» يُسْراً «في الموضعَيْنِ فاثنانِ، لأنَّ النكرةَ إذا أُريد تكريرُها جيْءَ بضميرِها أو بالألفِ واللام، ومن هنا قيل:» لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن «وقال الزمخشري أيضاً:» فإنْ قلتَ: إنَّ «مع» للصحبة، فما معنى اصطحابِ اليُسْرِ والعُسْرِ؟ قلت: أراد أنَّ اللَّهَ تعالى يُصيبُهم بيُسرٍ بعد العُسْرِ الذي كانوا فيه بزمانٍ قريبٍ، فَقَرُبَ اليُسْرُ المترقَّبُ حتى جَعَله كأنَّه كالمقارِنِ للعُسْرِ، زيادةً في التسلية وتقويةً للقلوب «وقال أيضاً: فإنْ قلتَ ما معنى هذا التنكير؟ قلت: التفخيمُ كأنه قيل: إنَّ مع العُسْر يُسْراً عظيماً وأيَّ يُسْرٍ؟ وهو في مُصحفِ ابن مسعودٍ مرةٌ واحدٌ. فإنْ قلتَ: فإذا ثَبَتَ في قراءتِه غيرَ مكررٍ فلِمَ قال:» والذي نفسي بيده لو كان العُسْرُ في جُحْرٍ لطَلَبه اليُسْرُ حتى يَدْخُلَ عليه، لن يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن «قلت:» كأنه قَصَدَ باليُسْرين ما في قوله «يُسْراً» مِنْ معنى التفخيم، فتأوَّله ب «يُسْرِ الدارَيْن» وذلك يُسْران في الحقيقة «.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).

(5/341)