أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية [سُورَةُ الذَّارِيَاتِ فِيهَا ثَلَاثُ
آيَاتٍ] [الْآيَة الْأُولَى قَوْله تَعَالَى كَانُوا قَلِيلًا
مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ]
الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {كَانُوا قَلِيلا مِنَ
اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] فِيهَا ثَلَاثُ
مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الْهُجُوعُ: النَّوْمُ،
وَذَلِكَ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ الْإِقْبَالُ
[عَلَى الْأُنْسِ بِالْحَدِيثِ، وَكَانَتْ عَادَتَهُمْ، أَوْ]
عَلَى الْوَطْءِ.
الثَّانِي الْإِقْبَالُ عَلَى الصَّلَاةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَالْأَوَّلُ [ضَعِيفٌ وَالثَّانِي] بَاطِلٌ.
وَلَوْلَا مَخَافَتُنَا أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ مُتَعَلِّقٌ
يَوْمًا مَا ذَكَرْنَاهُ لِبُطْلَانِهِ. الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ تَكَلَّمَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ:
{كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:
17] لِأَجْلِ أَنَّ ظَاهِرَهُ يُعْطِي أَنَّ نَوْمَهُمْ
بِاللَّيْلِ كَانَ قَلِيلًا، وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ.
وَإِنَّمَا مَدَحَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ يُصَلِّي
قَلِيلًا؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ؛
وَإِنَّمَا [مَعْنَاهُ] كَانُوا يَهْجَعُونَ قَلِيلًا مِنْ
اللَّيْلِ، أَيْ يَسْهَرُونَ قَلِيلًا. وَمَدَحَ اللَّهُ
تَعَالَى السَّهَرَ بِالْقَلِيلِ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْعِبَادِ
كُلَّهُ قَلِيلٌ.
(4/164)
وَفِي قَوْلِهِ (مَا) اخْتِلَافٌ بَيْنَ
النُّحَاةِ: قَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ صِلَةٌ. وَقَالَ
بَعْضُهُمْ: هِيَ مَعَ الْفِعْلِ بِتَأْوِيلِ الْمَصْدَرِ؛
وَالْكُلُّ صَحِيحٌ. وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ
الْمُلْجِئَةِ.
[مَسْأَلَة صَلَاةُ اللَّيْلِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ صَلَاةُ اللَّيْلِ مَمْدُوحَةٌ
شَرْعًا إجْمَاعًا، وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ،
لِأَجْلِ فَرَاغِ الْقَلْبِ وَضَمَانِ الْإِجَابَةِ،
وَسَيَأْتِي الْقَوْلُ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ
الْمُزَّمِّلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ.
[الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَبِالْأَسْحَارِ
هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ]
َ} [الذاريات: 18].
رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] قَالَ:
هُوَ الرَّجُلُ يَمُدُّ الصَّلَاةَ إلَى السَّحَرِ. قَالَ
ابْنُ شَعْبَانَ: يُرِيدُ مَالِكٌ بِالرَّجُلِ الرَّبِيعَ بْنَ
خُثَيْمٍ.
وَقِيلَ: هِيَ الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَهْلِ قُبَاءَ. وَفِي ذَلِكَ
أَقْوَالٌ هَذَا لُبَابُهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا قَلَّ
لَيْلَةٌ تَمُرُّ بِهِمْ إلَّا أَصَابُوا مِنْهَا خَيْرًا.
قَالَ الْقَاضِي: وَخَصَّ السَّحَرَ لِمَا رُوِيَ عَنْ
النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ
قَالَ: «جَوْفُ اللَّيْلِ أَسْمَعُ». وَرُوِيَ فِي الصِّحَاحِ
عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
أَنَّهُ قَالَ: «إذَا ذَهَبَ الثُّلُثُ الْأَوَّلُ، وَفِي
رِوَايَةٍ: إذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ، وَأَصَحُّهُ إذَا بَقِيَ
ثُلُثُ اللَّيْلِ يَنْزِلُ اللَّهُ كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى
السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي
فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ
يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ، حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ».
[الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ تَعَالَى وَفِي أَمْوَالِهِمْ
حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ]
ِ} [الذاريات: 19].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
(4/165)
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى {وَفِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} [الذاريات: 19]، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي
غَيْرِ مَوْضِعٍ هَلْ فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ
أَمْ لَا بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا.
وَالْأَقْوَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ الزَّكَاةُ؛
لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ: سَأَلَ سَائِلٌ:
{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:
24] {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 25] وَالْحَقُّ
الْمَعْلُومُ هُوَ الزَّكَاةُ الَّتِي بَيَّنَ الشَّرْعُ
قَدْرَهَا وَجِنْسَهَا وَوَقْتَهَا، فَأَمَّا غَيْرُهَا لِمَنْ
يَقُولُ بِهِ فَلَيْسَ بِمَعْلُومٍ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ
مُقَدَّرٍ وَلَا مُجَنَّسٍ وَلَا مُؤَقَّتٍ. الْمَسْأَلَةُ
الثَّانِيَةُ قَوْلُهُ: {لِلسَّائِلِ} [الذاريات: 19]، وَهُوَ
الْمُتَكَفِّفُ. الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ:
{وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19]، وَهُوَ الْمُتَعَفِّفُ؛
فَبَيَّنَ أَنَّ لِلسَّائِلِ حَقَّ الْمَسْأَلَةِ
وَلِلْمَحْرُومِ حَقَّ الْحَاجَةِ.
وَقَدْ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ الَّذِي
يُحَرَّمُ الرِّزْقُ. وَقِيلَ: الَّذِي أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ
قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ
الْمُحْتَرِقَةِ: {قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} [القلم: 26]
{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [القلم: 27]
وَفِيهِ أَقْوَالٌ كَثِيرَةٌ لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ لَمْ
نُطَوِّلْ بِذِكْرِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا أَصَحُّهَا؛ إذْ
يَقْتَضِي هَذَا التَّقْسِيمُ أَنَّ الْمُحْتَاجَ إذَا كَانَ
مِنْهُ مَنْ يَسْأَلُ فَالْقِسْمُ الثَّانِي هُوَ الَّذِي لَا
يَسْأَلُ، وَيَتَنَوَّعُ أَحْوَالُ الْمُتَعَفِّفِ، وَالِاسْمُ
يَعُمُّهُ كُلَّهُ، فَإِذَا رَأَيْته فَسَمِّهِ بِهِ،
وَاحْكُمْ عَلَيْهِ بِحُكْمِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(4/166)
|