أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية [سُورَةُ الْوَاقِعَةِ فِيهَا آيَةٌ
وَاحِدَةٌ] [قَوْلُهُ تَعَالَى لَا يَمَسُّهُ إلَّا
الْمُطَهَّرُونَ]
قَوْله تَعَالَى: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ}
[الواقعة: 79]. فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ
الْأُولَى [هَلْ] هَذِهِ الْآيَةُ مُبَيِّنَةٌ حَالَ
الْقُرْآنِ فِي كُتُبِ اللَّهِ أَمْ هِيَ مُبَيِّنَةٌ فِي
كُتُبِنَا؟ فَقِيلَ: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقِيلَ:
هُوَ مَا بِأَيْدِي الْمَلَائِكَةِ؛ فَهَذَا كِتَابُ اللَّهِ.
وَقِيلَ: هِيَ مَصَاحِفُنَا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ
قَوْلُهُ: {لا يَمَسُّهُ} [الواقعة: 79] فِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ الْمَسُّ بِالْجَارِحَةِ حَقِيقَةً.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَا يَجِدُ طَعْمَ نَفْعِهِ إلَّا
الْمُطَهَّرُونَ بِالْقُرْآنِ؛ قَالَهُ الْفَرَّاءُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْلُهُ: {إِلا الْمُطَهَّرُونَ}
[الواقعة: 79] فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ
الْمَلَائِكَةُ طُهِّرُوا مِنْ الشِّرْكِ وَالذُّنُوبِ.
الثَّانِي: أَنَّهُ أَرَادَ الْمُطَهَّرِينَ مِنْ الْحَدَثِ،
وَهُمْ الْمُكَلَّفُونَ مِنْ الْآدَمِيِّينَ. الْمَسْأَلَةُ
الرَّابِعَةُ هَلْ قَوْلُهُ: {لا يَمَسُّهُ} [الواقعة: 79]
نَهْيٌ أَوْ نَفْيٌ؟ فَقِيلَ: لَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ،
وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ.
(4/174)
وَقِيلَ: هُوَ نَفْيٌ. وَكَانَ ابْنُ
مَسْعُودٍ يَقْرَؤُهَا: مَا يَمَسُّهُ إلَّا الْمُطَهَّرُونَ،
لِتَحْقِيقِ النَّفْيِ. الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ فِي
تَنْقِيحِ الْأَقْوَالِ: أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّ
الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَهُوَ
بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَنَالُهُ فِي وَقْتٍ،
وَلَا تَصِلُ إلَيْهِ بِحَالٍ؛ فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ
ذَلِكَ لَمَا كَانَ لِلِاسْتِثْنَاءِ فِيهِ مَحَلٌّ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: أَنَّهُ الَّذِي بِأَيْدِي
الْمَلَائِكَةِ مِنْ الصُّحُفِ فَإِنَّهُ قَوْلٌ مُحْتَمَلٌ؛
وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ قَالَ: أَحْسَنُ مَا
سَمِعْت فِي قَوْلِهِ: {لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ}
[الواقعة: 79] أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْآيَةِ الَّتِي فِي
{عَبَسَ وَتَوَلَّى} [عبس: 1]: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [عبس:
12] {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} [عبس: 13] {مَرْفُوعَةٍ
مُطَهَّرَةٍ} [عبس: 14] {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} [عبس: 15]
{كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 16] يُرِيدُ أَنَّ الْمُطَهَّرِينَ
هُمْ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ وُصِفُوا بِالطَّهَارَةِ فِي
سُورَةِ " عَبَسَ "
[مَسْأَلَة إذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَمَسَّ صُحُف الْمُصْحَف
هَلْ يَجِب عَلَيْهِ الْوُضُوء]
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ أَمْرٌ بِالتَّوَضُّؤِ
[بِالْقُرْآنِ] إذَا أَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَمَسَّ صُحُفَهُ،
فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إنَّ
لَفْظَهُ لَفْظُ الْخَبَرِ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ، وَقَدْ
بَيَّنَّا فَسَادَ ذَلِكَ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَفِيمَا
تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَحَقَّقْنَا
أَنَّهُ خَبَرٌ عَنْ الشَّرْعِ، أَيْ لَا يَمَسُّهُ إلَّا
الْمُطَهَّرُونَ شَرْعًا، فَإِنْ وُجِدَ بِخِلَافِ ذَلِكَ
فَهُوَ غَيْرُ الشَّرْعِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ مَعْنَاهُ لَا يَجِدُ طَعْمَهُ
إلَّا الْمُطَهَّرُونَ مِنْ الذُّنُوبِ التَّائِبُونَ
الْعَابِدُونَ فَهُوَ صَحِيحٌ، اخْتَارَهُ الْبُخَارِيُّ؛
قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
«ذَاقَ طَعْمَ الْإِسْلَامِ مَنْ رَضِيَ بِاَللَّهِ رَبًّا،
وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيًّا»؛ لَكِنَّهُ عُدُولٌ عَنْ
الظَّاهِرِ لِغَيْرِ ضَرُورَةِ عَقْلٍ وَلَا دَلِيلِ سَمْعٍ.
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ وَغَيْرُهُ أَنَّ فِي كِتَابِ عَمْرِو
بْنِ حَزْمٍ الَّذِي كَتَبَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنُسْخَتُهُ: «مِنْ مُحَمَّدٍ
النَّبِيِّ إلَى شُرَحْبِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ،
وَالْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، وَنُعَيْمِ
(4/175)
بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ، قِيلَ ذِي رُعَيْنٍ
وَمَعَافِرَ وَهَمْدَانَ: أَمَّا بَعْدُ وَكَانَ فِي كِتَابِهِ
أَلَّا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ».
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ دَخَلَ عَلَى
أُخْتِهِ وَزَوْجِهَا سَعِيدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
نُفَيْلٍ، وَهُمَا يَقْرَآنِ طَهَ، فَقَالَ: مَا هَذِهِ
الْهَيْنَمَةُ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ: هَاتُوا
الصَّحِيفَةَ. فَقَالَتْ لَهُ أُخْتُهُ: إنَّهُ لَا يَمَسُّهُ
إلَّا الْمُطَهَّرُونَ فَقَامَ وَاغْتَسَلَ وَأَسْلَمَ. وَقَدْ
قَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ يَرْثِي النَّبِيَّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:
فَقَدْنَا الْوَحْيَ إذْ وَلَّيْت عَنَّا ... وَوَدَّعَنَا
مِنْ اللَّهِ الْكَلَامُ
سِوَى مَا قَدْ تَرَكْت لَنَا قَدِيمًا ... تَوَارَثَهُ
الْقَرَاطِيسُ الْكِرَامُ
وَأَرَادَ صُحُفَ الْقُرْآنِ الَّتِي كَانَتْ بِأَيْدِي
الْمُسْلِمِينَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُمْلِيهَا عَلَى كَتَبَتِهِ.
وَقَدْ قَالَ أَهْلُ الْعِرَاقِ مِنْهُمْ إبْرَاهِيمُ
النَّخَعِيُّ. وَلَا يَمَسُّ الْقُرْآنَ إلَّا طَاهِرٌ.
وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ؛ فَرُوِيَ
عَنْهُ أَنَّهُ يَمَسُّهُ الْمُحْدِثُ، وَرُوِيَ عَنْهُ
أَنَّهُ يَمَسُّ ظَاهِرَهُ وَحَوَاشِيَهُ وَمَا لَا مَكْتُوبَ
فِيهِ. وَأَمَّا الْكِتَابُ فَلَا يَمَسُّهُ إلَّا
الْمُطَهَّرُونَ. وَهَذَا إنْ سُلِّمَ مِمَّا يُقَوِّي
الْحُجَّةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ حَرِيمَ الْمَمْنُوعِ مَمْنُوعٌ،
وَفِيمَا كَتَبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَيْهِ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(4/176)
|