أحكام القرآن لابن العربي ط العلمية

 [سُورَةُ الْحَدِيدِ فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ] [الْآيَةُ الْأُولَى قَوْلُهُ تَعَالَى هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ]
الْآيَةُ الْأُولَى قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3].
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمَدِ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْآخِرُ بِعَيْنِهِ [يَعْنِي] لِأَنَّهُ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الْبَاطِنُ، وَأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْبَاطِنُ، وَأَنَّ الْآخِرَ هُوَ الظَّاهِرُ؛ إذْ هُوَ تَعَالَى وَاحِدٌ تَخْتَلِفُ أَوْصَافُهُ، وَتَتَعَدَّدُ أَسْمَاؤُهُ، وَهُوَ تَعَالَى وَاحِدٌ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: قَالَ مَالِكٌ: لَا يُحَدُّ وَلَا يُشَبَّهُ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: مَنْ قَرَأَ " يَدُ اللَّهِ " وَأَشَارَ إلَى يَدِهِ، وَقَرَأَ عَيْنُ اللَّهِ، وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ الْعُضْوِ مِنْهُ يُقْطَعُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ فِي تَقْدِيسِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا أَشْبَهَ إلَيْهِ، وَشَبَّهَهُ بِنَفْسِهِ، فَتُعْدَمُ [نَفْسُهُ وَ] جَارِحَتُهُ الَّتِي شَبَّهَهَا بِاَللَّهِ، وَهَذِهِ غَايَةٌ فِي التَّوْحِيدِ لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهَا مَالِكًا مُوَحِّدٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «ذُكِرَ الدَّجَّالُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ. وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى عَيْنِهِ، وَأَنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ».
فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:

(4/177)


أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ، لَا يُوجِبُ عِلْمًا.
الثَّانِي أَنَّ هَذِهِ الْإِشَارَةَ فِي النَّفْيِ لَا فِي الْإِثْبَاتِ، وَفِي التَّقْدِيسِ لَا فِي التَّشْبِيهِ، وَهَذَا نَفِيسٌ فَاعْرِفْهُ. .

[الْآيَة الثَّانِيَة قَوْلُهُ تَعَالَى وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ]
ِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10].
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: نَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ فَتْحِ مَكَّةَ وَبَيْنَ مَنْ أَنْفَقَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ النَّاسِ كَانَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ أَكْثَرُ، لِضَعْفِ الْإِسْلَامِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ كَانَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ أَشَقُّ، وَالْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[مَسْأَلَة التَّفْضِيلُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحِكْمَةِ وَالْحُكْمِ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ أَهْلُ الْفَضْلِ وَالْعَزْمِ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] وَقَدْ بَيَّنَّا نَحْنُ فِيمَا تَقَدَّمَ تَرْتِيبَ أَحْوَالِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَمَنَازِلِهِمْ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ وَمَرَاتِبِ التَّابِعِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إذَا ثَبَتَ انْتِفَاءُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَقَعَ التَّفْضِيلُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحِكْمَةِ وَالْحُكْمِ؛ فَإِنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ يَكُونُ [فِي الدِّينِ وَيَكُونُ] فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَأَمَّا فِي أَحْكَامِ الدِّينِ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ، وَأَعْظَمُ الْمَنَازِلِ مَرْتَبَةً الصَّلَاةُ». «وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَرَضِهِ: مُرُوا أَبَا

(4/178)


بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ. فَقِيلَ لَهُ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إذَا قَامَ مَقَامَك لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ. فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ». الْحَدِيثَ.
فَقَدَّمَ الْمُقَدَّمَ، وَرَاعَى الْأَفْضَلَ.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ؛ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقِرَاءَةِ سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا، وَلَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ».
وَفِي الصَّحِيحِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَأَخِيهِ فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا». فَفَهِمَ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ أَرَادَ كِبَرَ الْمَنْزِلَةِ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ». وَلَمْ يَعْنِ كِبَرَ السِّنِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ كِبَرَ الْمَنْزِلَةِ.
وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: وَإِنَّ لِلسِّنِّ حَقًّا. وَرَاعَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَحَقُّ بِالْمُرَاعَاةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْعِلْمُ وَالسِّنُّ فِي خَيِّرَيْنِ قُدِّمَ الْعِلْمُ وَأَمَّا أَحْكَامُ الدُّنْيَا فَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ، فَمَنْ قُدِّمَ فِي الدِّينِ قُدِّمَ فِي الدُّنْيَا.
وَفِي الْآثَارِ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْتَرِفْ لِعَالِمِنَا».
وَفِي الْحَدِيثِ الثَّابِتِ فِي الْأَفْرَادِ: «مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ سِنِّهِ مَنْ يُكْرِمُهُ». وَأَنْشَدَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ قَاسِمٍ الْعُثْمَانِيُّ الشَّهِيدُ نَزِيلُ الْقُدْسِ لِابْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ السَّرَقُسْطِيِّ:
يَا عَائِبًا لِلشُّيُوخِ مِنْ أَشَرٍ ... دَاخَلَهُ لِلصِّبَا وَمِنْ بَذَخِ
اُذْكُرْ إذَا شِئْت أَنْ تَعِيبَهُمْ ... جَدَّك وَاذْكُرْ أَبَاك يَا بْنَ أَخِي

(4/179)


وَاعْلَمْ بِأَنَّ الشَّبَابَ مُنْسَلِخٌ ... عَنْك وَمَا وِزْرُهُ بِمُنْسَلِخِ
مَنْ لَا يُعِزُّ الشُّيُوخَ لَا بَلَغَتْ ... يَوْمًا بِهِ سِنُّهُ إلَى الشَّيْخِ

[الْآيَة الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى وَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ]
ُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحديد: 19].
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالشُّهَدَاءُ} [الحديد: 19] وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُمْ النَّبِيُّونَ.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ الْمُؤْمِنُونَ.
الثَّالِثُ أَنَّهُمْ الشُّهَدَاءُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ شَهِيدٌ، أَمَّا الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - فَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى الْأُمَمِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ [كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143]].
وَأَمَّا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ شَهِيدٌ عَلَى الْكُلِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ شَاهِدٍ. وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «خَيْرُ الشُّهَدَاء الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا، وَلَهُ الْأَجْرُ إذَا أَدَّى وَالْإِثْمُ إذَا كَتَمَ». وَنُورُهُمْ [قِيلَ] وَهِيَ:

(4/180)


الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ هُوَ ظُهُورُ الْحَقِّ بِهِ، وَقِيلَ نُورُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَالْكُلُّ صَالِحٌ لِلْقَوْلِ حَاصِلٌ لِلشَّاهِدِ بِالْحَقِّ. وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الشُّهَدَاءَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُمْ الَّذِينَ قَاتَلُوا لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا.
وَهُمْ أَوْفَى دَرَجَةً وَأَعْلَى.
وَالشُّهَدَاءُ قَدْ بَيَّنَّا عَدَدَهُمْ، وَهُمْ الْمَقْتُولُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. الْمَقْتُولُ دُونَ مَالِهِ [الْمَقْتُولُ دُونَ أَهْلِهِ]. الْمَطْعُونُ. الْغَرِقُ. الْحَرِقُ. الْمَجْنُونُ. الْهَدِيمُ. ذَاتُ الْجَمْعِ.
الْمَقْتُولُ ظُلْمًا. أَكِيلُ السَّبْعِ. الْمَيِّتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. مَنْ مَاتَ مِنْ بَطْنٍ فَهُوَ شَهِيدٌ. الْمَرِيضُ شَهِيدٌ. الْغَرِيبُ شَهِيدٌ. صَاحِبُ النَّظْرَةِ شَهِيدٌ. فَهَؤُلَاءِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهِيدًا. وَقَدْ بَيَّنَّاهُمْ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ. الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَالَ جَمَاعَةٌ: إنَّ قَوْلَهُ {وَالشُّهَدَاءُ} [الحديد: 19] مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى: {الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19] عَطْفُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ يَعْنِ ي أَنَّ الصِّدِّيقَ هُوَ الشَّهِيدُ، وَالْكُلُّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، وَالشُّهَدَاءُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ، وَأَظْهَرُهُ عَطْفُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ.

[الْآيَة الرَّابِعَة قَوْلُهُ تَعَالَى ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا]
وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27]. فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:

(4/181)


الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى الرَّهْبَانِيَّةُ: فَعْلَانِيَّةٌ مِنْ الرَّهَبِ كَالرَّحْمَانِيَّةِ؛ وَقَدْ قُرِئَتْ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهِيَ مِنْ الرُّهْبَانِ كالرَّضْوانِيَّةِ مِنْ الرُّضْوَانِ. [وَالرَّهَبُ هُوَ الْخَوْفُ، كَفَى بِهِ عَنْ فِعْلٍ الْتَزَمَ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ وَرَهْبًا مِنْ سَخَطِهِ]. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَفْسِيرِهَا: وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهَا رَفْضُ النِّسَاءِ، وَقَدْ نُسِخَ ذَلِكَ فِي دِينِنَا، كَمَا تَقَدَّمَ.
الثَّانِي: اتِّخَاذُ الصَّوَامِعِ لِلْعُزْلَةِ؛ وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ عِنْدَ فَسَادِ الزَّمَانِ.
الثَّالِثُ: سِيَاحَتُهُمْ، وَهِيَ نَحْوٌ مِنْهُ.
الرَّابِعُ رَوَى الْكُوفِيُّونَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَلْ تَدْرِي أَيَّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ قَالَ: قُلْت: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَعْلَمُ النَّاسِ أَبْصَرُهُمْ بِالْحَقِّ إذَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ يَزْحَفُ عَلَى اسْتِهِ».
وَافْتَرَقَ مَنْ [كَانَ] قَبْلَنَا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، نَجَا مِنْهَا ثَلَاثٌ، وَهَلَكَ سَائِرُهَا: فِرْقَةٌ آزَتْ الْمُلُوكَ، وَقَاتَلَتْهُمْ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى حَتَّى قُتِلُوا، وَفِرْقَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُوَازَاةِ الْمُلُوكِ أَقَامُوا بَيْنَ ظَهْرَانِي قَوْمِهِمْ يَدْعُونَهُمْ إلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَأَخَذَتْهُمْ الْمُلُوكُ وَقَتَلَهُمْ وَقَطَّعَتْهُمْ بِالْمَنَاشِيرِ، وَفِرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَة بِمُوَازَاةِ الْمُلُوك، وَلَا بِأَنْ يُقِيمُوا بَيْنَ ظَهْرَانِي
قَوْمِهِمْ، فَيَدْعُوهُمْ إلَى ذِكْرِ اللَّهِ [وَدِينِهِ] وَدِينِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فَسَاحُوا فِي الْجِبَالِ، وَتَرَهَّبُوا فِيهَا، وَهِيَ الَّتِي قَالَ اللَّهُ فِيهَا: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27].

(4/182)


الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ رُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ، وَاسْمُهُ صُدَيُّ بْنُ عَجْلَانَ، وَأَنَّهُ قَالَ: أَحْدَثْتُمْ قِيَامَ رَمَضَانَ وَلَمْ يُكْتَبْ عَلَيْكُمْ، إنَّمَا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ؛ فَدُومُوا عَلَى الْقِيَامِ إذَا فَعَلْتُمُوهُ، وَلَا تَتْرُكُوهُ؛ فَإِنَّ نَاسًا مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ابْتَدَعُوا بِدَعًا لَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، ابْتَغَوْا بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَعَاتَبَهُمْ اللَّهُ بِتَرْكِهَا، فَقَالَ: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] يَعْنِي تَرَكُوا ذَلِكَ فَعُوقِبُوا عَلَيْهَا.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْله تَعَالَى: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] مِنْ وَصْفِ الرَّهْبَانِيَّةِ، وَأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27] مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ابْتَدَعُوهَا} [الحديد: 27]. وَقَدْ زَاغَ قَوْمٌ عَنْ مَنْهَجِ الصَّوَابِ فَظَنُّوا أَنَّهَا رَهْبَانِيَّةٌ كُتِبَتْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ أَنْ الْتَزَمُوهَا، وَلَيْسَ يَخْرُجُ هَذَا مِنْ قَبِيلِ مَضْمُونِ الْكَلَامِ، وَلَا يُعْطِيه أُسْلُوبُهُ وَلَا مَعْنَاهُ، وَلَا يُكْتَبُ عَلَى أَحَدٍ شَيْءٌ إلَّا بِشَرْعٍ أَوْ نَذْرٍ، وَلَيْسَ فِي هَذَا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ الْمِلَلِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(4/183)