أحكام القرآن للجصاص ط العلمية
سورة
النساء
مدخل
...
سورة النساء
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ
وَالْأَرْحَامَ}. قال الحسن ومجاهد وإبراهيم: "هو قول القائل أسألك
بالله وبالرحم" وقال ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك: "اتقوا الأرحام
أن تقطعوها". وفي الآية دلالة على جواز المسألة بالله تعالى, وقد روى
ليث عن مجاهد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من
سأل بالله فأعطوه" . وروى معاوية بن سويد بن مقرن عن البراء بن عازب
قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع, منها إبرار القسم";
وهذا يدل على مثل ما دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "من سألكم بالله
فأعطوه" . وأما قوله: {وَالْأَرْحَامَ} ففيه تعظيم لحق الرحم وتأكيد
للنهي عن قطعها, قال الله تعالى في موضع آخر: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ
تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا
أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22] فقرن قطع الرحم إلى الفساد في الأرض, وقال
تعالى: {لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة} قيل في الإل: إنه القرابة;
وقال تعالى: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} [النساء:
36].
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في تعظيم حرمة الرحم ما يواطئ ما
ورد به التنزيل, روى سفيان بن عيينة عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد
الرحمن عن عبد الرحمن بن عوف قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "
يقول الله: أنا الرحمن وهي الرحم شققت لها اسما من اسمي فمن وصلها
وصلته ومن قطعها بتته" . وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن
موسى قال: حدثني خالي حيان بن بشر قال: حدثنا محمد بن الحسن عن أبي
حنيفة قال: حدثني ناصح عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من شيء أطيع الله فيه أعجل
ثوابا من صلة الرحم ما من عمل عصي الله به أعجل عقوبة من البغي واليمين
الفاجرة". وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا خالد
بن خداش قال: حدثنا صالح المري قال: حدثنا يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الصدقة وصلة الرحم يزيد
الله بهما في العمر
(2/59)
ويدفع
بهما ميتة السوء ويدفع الله بهما المحذور والمكروه" . وحدثنا عبد
الباقي قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان عن
الزهري عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف عن أمه أم كلثوم بنت عقبة قالت:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أفضل الصدقة على ذي الرحم
الكاشح", قال الحميدي: الكاشح العدو. ورواه أيضا سفيان عن الزهري عن
أيوب بن بشير عن حكيم بن حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل
الصدقة على ذي الرحم الكاشح". وروت حفصة بنت سيرين عن الرباب عن سلمان
بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصدقة على المسلمين صدقة
وعلى ذي الرحم اثنتان; لأنها صدقة وصلة" .
قال أبو بكر: فثبت بدلالة الكتاب والسنة وجوب صلة الرحم واستحقاق
الثواب بها, وجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصدقة على ذي الرحم اثنتين
صدقة وصلة, وأخبر باستحقاق الثواب لأجل الرحم سوى ما يستحقه بالصدقة,
فدل على أن الهبة لذي الرحم المحرم لا يصح الرجوع فيها ولا فسخها أبا
كان الواهب أو غيره; لأنها قد جرت مجرى الصدقة في أن موضوعها القربة
واستحقاق الثواب بها, كالصدقة لما كان موضوعها القربة وطلب الثواب لم
يصح الرجوع فيها, كذلك الهبة لذي الرحم المحرم; ولا يصح للأب بهذه
الدلالة الرجوع فيما وهبه للابن كما لا يجوز لغيره من ذوي الرحم
المحرم, إذ كانت بمنزلة الصدقة, إلا أن يكون الأب محتاجا فيجوز له أخذه
كسائر أموال الابن.
فإن قيل: لم يفرق الكتاب والسنة فيما أوجبه من صلة الرحم بين ذي الرحم
المحرم وغيره, فالواجب أن لا يرجع فيما وهبه لسائر ذوي أرحامه وإن لم
يكن ذا رحم محرم كابن العم والأباعد من أرحامه. قيل له: لو اعتبرنا كل
من بينه وبينه نسب لوجب أن يشترك فيه بنو آدم عليه السلام كلهم; لأنهم
ذوو أنسابه ويجمعهم نوح النبي عليه السلام وقبله آدم عليه السلام وهذا
فاسد فوجب أن يكون الرحم الذي يتعلق به هذا الحكم هو ما يمنع عقد
النكاح بينهما إذا كان أحدهما رجلا والآخر امرأة; لأن ما عدا ذلك لا
يتعلق به حكم, وهو بمنزلة الأجنبيين; وقد روى زياد بن علاقة عن أسامة
بن شريك قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب بمنى وهو يقول:
"أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك فأدناك" , فذكر ذوي الرحم المحرم في
ذلك, فدل على صحة ما ذكرنا. وهو مأمور مع ذلك بمن بعد رحمه أن يصله,
وليس في تأكيد من قرب كما يأمر بالإحسان إلى الجار, ولا يتعلق بذلك حكم
في التحريم ولا في منع الرجوع في الهبة, فكذلك ذوو رحمه الذين ليسوا
بمحرم فهو مندوب إلى الإحسان إليهم ولكنه لما لم يتعلق به حكم التحريم
كانوا بمنزلة الأجنبيين; والله أعلم بالصواب.
(2/60)
باب دفع أموال الأيتام إليهم بأعيانها ومنع الوصي من استهلاكها
قال الله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا
تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ}. روي عن الحسن أنه قال: لما
نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم وجعل ولي اليتيم
يعزل مال اليتيم عن ماله, فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فأنزل الله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ
خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220]. قال أبو
بكر: وأظن ذلك غلطا من الراوي; لأن المراد بهذه الآية إيتاؤهم أموالهم
بعد البلوغ; إذ لا خلاف بين أهل العلم أن اليتيم لا يجب إعطاؤه ماله
قبل البلوغ, وإنما غلط الراوي بآية أخرى وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال:
حدثنا أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا جرير عن عطاء
عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما أنزل الله تعالى: {وَلا
تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
[الأنعام: 152] و {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى
ظُلْماً} [النساء: 10] الآية, انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من
طعامه وشرابه من شرابه, فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو
يفسد, فاشتد ذلك عليهم, فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم
فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ
لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220]
فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم" فهذا هو الصحيح في ذلك; وأما
قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ } فليس من هذا في شيء;
لأنه معلوم أنه لم يرد به إيتاءهم أموالهم في حال اليتم, وإنما يجب
الدفع إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد, وأطلق اسم الأيتام عليهم لقرب
عهدهم باليتيم كما سمى مقاربة انقضاء العدة بلوغ الأجل في قوله تعالى:
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق:
2] والمعنى مقاربة البلوغ; ويدل على ذلك قوله تعالى في نسق الآية:
{فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا
عَلَيْهِمْ} والإشهاد عليه لا يصح قبل البلوغ, فعلم أنه أراد بعد
البلوغ. وسماهم يتامى لأحد معنيين: إما لقرب عهدهم بالبلوغ, أو
لانفرادهم عن آبائهم, مع أن العادة في أمثالهم ضعفهم عن التصرف لأنفسهم
والقيام بتدبير أمورهم على الكمال حسب تصرف المتحنكين الذين قد جربوا
الأمور واستحكمت آراؤهم; وقد روى يزيد بن هرمز أن نجدة كتب إلى ابن
عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه؟ فكتب إليه: "إذا أونس منه الرشد
انقطع عنه يتمه" وفي بعض الألفاظ: "إن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع
عنه يتمه بعد", فأخبر ابن عباس أن اسم اليتيم قد يلزمه بعد البلوغ إذا
لم يستحكم رأيه ولم يؤنس منه رشده, فجعل بقاء ضعف الرأي موجبا لبقاء
اسم اليتيم عليه.
واسم اليتيم قد يقع على المنفرد عن أبيه وعلى المرأة المنفردة عن
زوجها, قال
(2/61)
النبي صلى
الله عليه وسلم: "تستأمر اليتيمة في نفسها", وهي لا تستأمر إلا وهي
بالغة; وقال الشاعر:
إن القبور تنكح الأيامى ... النسوة الأرامل اليتامى
إلا أنه معلوم أنه إذا صار شيخا أو كهلا لا يسمى يتيما وإن كان ضعيف
العقل ناقص الرأي, فلا بد من اعتبار قرب العهد بالصغر. والمرأة الكبيرة
المسنة تسمى يتيمة من جهة انفرادها عن زوج, والرجل الكبير المسن لا
يسمى يتيما من جهة انفراده عن أبيه, وإنما كان كذلك; لأن الأب يلي على
الصغير ويدبر أمره ويحوطه فيكنفه, فسمي الصغير يتيما لانفراده عن أبيه
الذي هذه حاله, فما دام على حال الضعف ونقصان الرأي يسمى يتيما بعد
البلوغ. وأما المرأة فإنما سميت يتيمة لانفرادها عن الزوج الذي هي في
حباله وكنفه, فهي وإن كبرت فهذا الاسم لازم لها; لأن وجود الزوج لها في
هذه الحال بمنزلة الأب للصغير في أنه هو الذي يلي حفظها وحياطتها, فإذا
انفردت عمن هذه حاله معها سميت يتيمة كما سمي الصغير يتيما لانفراده
عمن يدبر أمره ويكنفه ويحفظه, ألا ترى إلى قوله تعالى: {الرِّجَالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] كما قال: {وَأَنْ
تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} [النساء: 127] فجعل الرجل قيما
على امرأته كما جعل ولد اليتيم قيما عليه. وقد روى علي بن أبي طالب
وجابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يتم بعد
حلم", وهذا هو الحقيقة في اليتم, وبعد البلوغ يسمى يتيما مجازا لما
وصفنا.
وما ذكرنا من دلالة اسم اليتيم على الضعيف على ما روي عن ابن عباس يدل
على صحة قول أصحابنا فيمن أوصى ليتامى بني فلان وهم لا يحصون أنها
جائزة للفقراء من اليتامى; لأن اسم اليتيم يدل على ذلك. ويدل عليه ما
حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال:
أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الحسن في قوله عز وجل: {وَلا
تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ
قِيَاماً} قال: السفهاء ابنك السفيه وامرأتك السفيهة, قال: وقوله:
{قِيَاماً} قيام عيشك. وقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"اتقوا الله في الضعيفين اليتيم والمرأة", فسمى اليتيم ضعيفا.
ولم يشرط في هذه الآية إيناس الرشد في دفع المال إليهم, وظاهره يقتضي
وجوب دفعه إليهم بعد البلوغ أونس منه الرشد أو لم يؤنس, إلا أنه قد
شرطه في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ
آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}
فكان ذلك مستعملا عند أبي حنيفة ما بينه وبين خمس وعشرين سنة, فإذا
بلغوا ولم يؤنس منه رشد وجب دفع المال إليه لقوله تعالى: {وَآتُوا
الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} فيستعمله بعد خمس وعشرين سنة على مقتضاه
وظاهره, وفيما قبل ذلك لا يدفعه إلا مع إيناس الرشد, لاتفاق
(2/62)
أهل العلم
أن إيناس الرشد قبل بلوغ هذه السن شرط وجوب دفع المال إليه وهذا وجه
سائغ من قبل أن فيه استعمال كل واحدة من الآيتين على مقتضى ظواهرهما
على فائدتهما, ولو اعتبرنا إيناس الرشد على سائر الأحوال كان فيه إسقاط
حكم الآية الأخرى رأسا, وهو قوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى
أَمْوَالَهُمْ} من غير شرط لإيناس الرشد فيه; لأن الله تعالى أطلق
إيجاب دفع المال من غير قرينة, ومتى وردت آيتان: إحداهما: خاصة مضمنة
بقرينة فيما تقتضيه من إيجاب الحكم. والأخرى: عامة غير مضمنة بقرينة
وأمكننا استعمالهما على فائدتهما لم يجز لنا الاقتصار بهما على فائدة
إحداهما وإسقاط فائدة الأخرى. ولما ثبت بما ذكرنا وجوب دفع المال إليه
لقوله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} وقال في نسق
التلاوة: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا
عَلَيْهِمْ} دل ذلك على أنه جائز الإقرار بالقبض; إذ كان قوله: {
فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} قد تضمن جواز الإشهاد على إقرارهم بقبضها,
وفي ذلك دلالة على نفي الحجر وجواز التصرف; لأن المحجور عليه لا يجوز
إقراره, ومن وجب الإشهاد عليه فهو جائز الإقرار.
وأما قوله تعالى: {وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} فإنه
روي عن مجاهد وأبي صالح: "الحرام بالحلال" أي لا تجعل بدل رزقك الحلال
حراما تتعجل بأن تستهلك مال اليتيم فتنفقه أو تتجر فيه لنفسك أو تحبسه
وتعطيه غيره, فيكون ما تأخذه من مال اليتيم خبيثا حراما وتعطيه مالك
الحلال الذي رزقك الله تعالى; ولكن آتوهم أموالهم بأعيانها" وهذا يدل
على أن ولي اليتيم لا يجوز له أن يستقرض مال اليتيم من نفسه ولا يستبدل
فيحبسه لنفسه ويعطيه غيره, وليس فيه دلالة على أنه لا يجوز له التصرف
فيه بالبيع والشرى لليتيم; لأنه إنما حظر عليه أن يأخذه لنفسه ويعطي
اليتيم غيره. وفيه الدلالة على أنه ليس له أن يشتري من مال اليتيم
لنفسه بمثل قيمته سواء; لأنه قد حظر عليه استبدال مال اليتيم لنفسه,
فهو عام في سائر وجوه الاستبدال إلا ما قام دليله وهو أن يكون ما يعطي
اليتيم أكثر قيمة مما يأخذه على قول أبي حنيفة, لقوله تعالى: {وَلا
تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}
[الأنعام: 152]. وقال سعيد بن المسيب والزهري والضحاك والسدي في قوله:
{وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ} قال: "لا تجعلوا الزائف
بدل الجيد والمهزول بدل السمين".
وأما قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ}
فإنه روي عن مجاهد والسدي: "لا تأكلوا أموالهم مع أموالكم مضيفين لها
إلى أموالكم", فنهوا عن خلطها بأموالهم على وجه الاستقراض لتصير دينا
في ذمته فيجوز لهم أكلها وأكل أرباحها.
قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً}. قال ابن عباس والحسن
ومجاهد وقتادة:
(2/63)
"إثما
كبيرا". وفي هذه الآية دلالة على وجوب تسليم أموال اليتامى بعد البلوغ
وإيناس الرشد إليهم وإن لم يطالبوا بأدائها; لأن الأمر بدفعها مطلق
متوعد على تركه غير مشروط فيه مطالبة الأيتام بأدائها, ويدل على أن من
له عند غيره مال فأراد دفعه إليه أنه مندوب على الإشهاد عليه, لقوله
تعالى: { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا
عَلَيْهِمْ} والله الموفق.
(2/64)
باب تزويج الصغار
قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى
فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ
وَرُبَاعَ} . روى الزهري عن عروة قال: قلت لعائشة: قوله تعالى: {وَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} الآية؟ فقالت: يا ابن
أختي هي اليتيمة تكون في حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ويريد أن
ينكحها بأدنى من صداقها, فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهن وأمروا أن
ينكحوا سواهن من النساء قالت عائشة: ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى
الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن, فأنزل الله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ
فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى
عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} إلى قوله تعالى: {وَتَرْغَبُونَ أَنْ
تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] قالت: والذي ذكر الله تعالى أنه يتلى
عليكم في الكتاب الآية الأولى التي قال فيها: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} . وقوله في الآية الأخرى: {وَتَرْغَبُونَ
أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في
حجره حين تكون قليلة المال والجمال, فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها
وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن. قال أبو بكر:
وروي عن ابن عباس نحو تأويل عائشة في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} . وروي عن سعيد بن جبير والضحاك
والربيع تأويل غير هذا, وهو ما حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال:
حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال: أخبرنا عبد الرزاق قال:
أخبرنا معمر عن أيوب عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ
النِّسَاءِ} يقول: وما أحل لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع وخافوا في
النساء مثل الذي خفتم في اليتامى ألا تقسطوا فيهن. وروي عن مجاهد: وإن
خفتم ألا تقسطوا فحرجتم من أكل أموالهم, وكذلك فتحرجوا من الزنا
فانكحوا النساء نكاحا طيبا مثنى وثلاث ورباع. وروي فيه قول ثالث وهو ما
روى شعبة عن سماك عن عكرمة قال: "كان الرجل من قريتي تكون عنده النسوة
ويكون عنده الأيتام فيذهب ماله فيميل على مال الأيتام, فنزلت: {وَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} الآية.
وقد اختلف الفقهاء في تزويج غير الأب والجد الصغيرين, فقال أبو حنيفة"
لكل
(2/64)
من كان من
أهل الميراث من القرابات أن يزوج الأقرب فالأقرب, فإن كان المزوج الأب
أو الجد فلا خيار لهم بعد البلوغ, وإن كان غيرهما فلهم الخيار بعد
البلوغ". وقال أبو يوسف ومحمد: "لا يزوج الصغيرين إلا العصبات الأقرب
فالأقرب"; قال أبو يوسف: "ولا خيار لهما بعد البلوغ" وقال محمد: "لهما
الخيار إذا زوجهما غير الأب والجد". وذكر ابن وهب عن مالك في تزويج
الرجل يتيمه إذا رأى له الفضل والصلاح والنظر: "أن ذلك جائز له عليه".
وقال ابن القاسم عن مالك في الرجل يزوج أخته وهي صغيرة: "إنه لا يجوز,
ويزوج الوصي وإن كره الأولياء, والوصي أولى من الولي, غير أنه لا يزوج
الثيب إلا برضاها ولا ينبغي أن يقطع عنها الخيار الذي جعل لها في
نفسها, ويزوج الوصي بنيه الصغار وبناته الصغار ولا يزوج البنات الكبار
إلا برضاهن". وقول الليث في ذلك كقول مالك, وكذلك قال يحيى بن سعيد
وربيعة إن الوصي أولى. وقال الثوري: "لا يزوج العم ولا الأخ الصغيرة,
والأموال إلى الأوصياء, والنكاح إلى الأولياء". وقال الأوزاعي: "لا
يزوج الصغيرة إلا الأب". وقال الحسن بن صالح: "لا يزوج الوصي إلا أن
يكون وليا". وقال الشافعي: "لا يزوج الصغار من الرجال والنساء إلا الأب
أو الجد إذا لم يكن أب, ولا ولاية للوصي على الصغيرة".
قال أبو بكر: روى جرير عن مغيرة عن إبراهيم قال: قال عمر: "من كان في
حجره تركة1 لها عوار فليضمها إليه فإن كانت رغبة فليزوجها غيره". وروي
عن علي وابن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابت وأم سلمة والحسن وطاوس وعطاء
في آخرين جواز تزويج غير الأب والجد الصغيرة. وروي عن ابن عباس وعائشة
في تأويل الآية ما ذكرنا وأنها في اليتيمة فتكون في حجر وليها فيرغب في
مالها وجمالها ولا يقسط لها في صداقها, فنهوا أن ينكحوهن أو يبلغوا بهن
أعلى سننهن في الصداق. ولما كان ذلك عندهما تأويل الآية دل على أن جواز
ذلك من مذهبهما أيضا, ولا نعلم أحدا من السلف منع ذلك, والآية تدل على
ما تأولها عليه ابن عباس وعائشة; لأنهما ذكرا أنها في اليتيمة تكون في
حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ولا يقسط لها في الصداق فنهوا أن
ينكحوهن أو يقسطوا لهن في الصداق وأقرب الأولياء الذي تكون اليتيمة في
حجره ويجوز له تزوجها هو ابن العم فقد تضمنت الآية جواز تزويج ابن العم
اليتيمة التي في حجره.
ـــــــ
1 قوله: "من كان في حجره تركة الخ" التركة بفتح التاء وسكون الراء
بمعنى اليتيمة المتروكة, والعوار بالفتح معناها العيب, والمراد أن من
كان في حجره يتيمة وهي دميمة لا يرغب أحد للزوج فليضمها إلى نفسه فإن
وجدت رغبة بتزوجها فليزوجها غيره "لمصححه".
(2/65)
فإن قيل:
لم جعلت هذا التأويل أولى من تأويل سعيد بن جبير وغيره الذي ذكرت مع
احتمال الآية للتأويلات كلها؟ قيل له: ليس يمتنع أن يكون المراد
المعنيين جميعا لاحتمال اللفظ لهما وليسا متنافيين فهو عليهما جميعا,
ومع ذلك فإن ابن عباس وعائشة قد قالا: إن الآية نزلت في ذلك, وذلك لا
يقال بالرأي وإنما يقال توقيفا فهو أولى; لأنهما ذكرا سبب نزولها
والقصة التي نزلت فيها, فهو أولى.
فإن قيل: يجوز أن يكون المراد الجد. قيل له: إنما ذكرا أنها نزلت في
اليتيمة التي في حجره ويرغب في نكاحها, والجد لا يجوز له نكاحها,
فعلمنا أن المراد ابن العم ومن هو أبعد منه من سائر الأولياء.
فإن قيل: إن الآية إنما هي في الكبيرة; لأن عائشة قالت: إن الناس
استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن فأنزل الله
تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ
فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى
النِّسَاءِ} [النساء: من 127] يعني قوله: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} قال: فلما قال: {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ}
دل على أن المراد الكبار منهن دون الصغار; لأن الصغار لا يسمين نساء.
قيل له: هذا غلط من وجهين: أحدهما: أن قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا
تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} حقيقته تقتضي اللاتي لم يبلغن, لقول النبي
صلى الله عليه وسلم: "لا يتم بعد بلوغ الحلم", ولا يجوز صرف الكلام عن
حقيقته إلى المجاز إلا بدلالة, والكبيرة تسمى يتيمة على وجه المجاز,
وقوله تعالى: {فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} لا دلالة فيه على ما ذكرت;
لأنهن إذا كن من جنس النساء جازت إضافتهن إليهن, وقد قال الله تعالى:
{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} والصغار والكبار
داخلات فيهن, وقال: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ
النِّسَاءِ} [النساء: 22] والصغار والكبار مرادات به, وقال:
{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} [النساء: 23] ولو تزوج صغيرة حرمت عليه
أمها تحريما مؤبدا; فليس إذا في إضافة اليتامى إلى النساء دلالة على
أنهن الكبار دون الصغار. والوجه الآخر: أن هذا التأويل الذي ذكره ابن
عباس وعائشة لا يصح في الكبار; لأن الكبيرة إذا رضيت بأن يتزوجها بأقل
من مهر مثلها جاز النكاح, وليس لأحد أن يعترض عليها, فعلمنا أن المراد
الصغار اللاتي يتصرف عليهن في التزويج من هن في حجره. ويدل عليه ما روى
محمد بن إسحاق قال: أخبرني عبد الله بن أبي بكر بن حزم وعبد الله بن
الحارث ومن لا أتهم عن عبد الله بن شداد قال: كان الذي زوج رسول الله
صلى الله عليه وسلم أم سلمة ابنها سلمة, فزوجه رسول الله صلى الله عليه
وسلم بنت حمزة وهما صبيان صغيران فلم يجتمعا حتى ماتا, فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "هل جزيت سلمة بتزويجه إياي أمه؟", وفيه الدلالة
على ما ذكرنا من وجهين: أحدهما: أنه زوجهما وليس بأب ولا
(2/66)
جد, فدل
على أن تزويج غير الأب والجد جائز للصغيرين. والثاني: أن النبي صلى
الله عليه وسلم لما فعل ذلك وقد قال الله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ}
[الأنعام: 153-155] فعلينا اتباعه, فيدل على أن للقاضي تزويج الصغيرين,
وإذا جاز ذلك للقاضي جاز لسائر الأولياء; لأن أحدا لم يفرق بينهما.
ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي" ,
فأثبت النكاح إذا كان بولي, والأخ وابن العم أولياء, والدليل عليه أنها
لو كانت كبيرة كانوا أولياء في النكاح. ويدل عليه من طريق النظر اتفاق
الجميع على أن الأب والجد إذا لم يكونا من أهل الميراث بأن كانا كافرين
أو عبدين لم يزوجا, فدل على أن هذه الولاية مستحقة بالميراث, فكل من
كان من أهل الميراث فله أن يزوج الأقرب فالأقرب; ولذلك قال أبو حنيفة:
"إن للأم ومولى الموالاة أن يزوجوا إذا لم يكن أقرب منهم; لأنهم من أهل
الميراث".
فإن قيل: لما كان في النكاح مال وجب أن لا يجوز عقد من لا يجوز تصرفه
في المال. قيل له: إن المال يثبت في النكاح من غير تسمية فلا اعتبار
فيه بالولاية في المال, ألا ترى أن عند من لا يجيز النكاح بغير ولي
فللأولياء حق في التزويج وليست لهم ولاية في المال على الكبيرة؟ ويلزم
مالكا والشافعي أن لا يجيزا تزويج الأب لابنته البكر الكبيرة; إذ لا
ولاية له عليها في المال, فلما جاز عند مالك والشافعي لأب البكر
الكبيرة تزويجها بغير رضاها مع عدم ولايته عليها في المال دل ذلك على
أنه لا اعتبار في استحقاق الولاية في عقد النكاح بجواز التصرف في
المال, ولا ثبت بما ذكرنا من دلالة الآية جواز تزويج ولي الصغيرة إياها
من نفسه دل على أن لولي الكبيرة أن يزوجها من نفسه برضاها. ويدل أيضا
على أن العاقد للزوج والمرأة يجوز أن يكون واحدا, بأن يكون وكيلا لهما
كما جاز لولي الصغيرة أن يزوجها من نفسه, فيكون الموجب للنكاح والقابل
له واحدا. ويدل على أنه إذا كان وليا لصغيرين جاز له أن يزوج أحدهما من
صاحبه. فالآية دالة من هذه الوجوه على بطلان مذهب الشافعي في قوله:
"وإن الصغيرة لا يزوجها غير الأب والجد" وفي قوله: "إنه لا يجوز لولي
الكبيرة أن يتزوجها برضاها بغير محضر منها" ويدل على بطلان قوله في أنه
لا يجوز أن يكون رجل واحد وكيلا لهما جميعا في عقد النكاح عليهما.وإنما
قال أصحابنا: إنه لا يجوز للوصي تزويج الصغيرة, من قبل قول النبي صلى
الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي", والوصي ليس بولي لها, ألا ترى أن
قوله: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ
سُلْطَاناً} [الاسراء: 33] فلو وجب لها قود لم يكن الوصي لها وليا في
ذلك ولم يستحق الولاية فيه؟ فثبت أن الوصي لا يقع عليه اسم الولي,
فواجب أن لا يجوز تزويجه إياها; إذ ليس بولي لها.
فإن قيل: فواجب على هذا أن لا يكون الأخ. أو العم وليا للصغيرة; لأنهما
لا
(2/67)
يستحقان
الولاية في القصاص. قيل له: لم نجعل عدم الولاية في القصاص علة في ذلك
حتى يلزمنا عليها, وإنما بينا أن ذلك الاسم لا يتناول ولا يقع عليه من
جهة ما يستحق من التصرف في المال, وأما الأخ والعم فهما وليان; لأنهما
من العصبات, وأحد لا يمتنع من إطلاق اسم الولي على العصبات, قال الله
تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} [مريم: 5]. قيل:
إنه أراد به بني أعمامه وعصباته, فاسم الولي يقع على العصبات ولا يقع
على الوصي; فلما قال صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي" أنتفى
بذلك جواز تزويج الوصي للصغيرة; إذ ليس بولي, وقال صلى الله عليه وسلم:
"أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها" وفي لفظ آخر: "بغير إذن مواليها,
فنكاحها باطل" فقد اقتضى بطلان نكاح المجنونة والبكر الكبيرة إذا زوجها
الوصي أو تزوجت بإذن الوصي دون إذن الولي لحكم النبي صلى الله عليه
وسلم ببطلان نكاحها إذ كانت متزوجة بغير إذن ولي. وأيضا فإن هذه
الولاية في النكاح مستحقة بالميراث لما دللنا عليه, وليس الوصي من أهل
الميراث, فلا ولاية له. وأيضا فإن السبب الذي به يستحق الولاية في
النكاح هو النسب, وذلك لا يصح النقل فيه ولا يستحقه الوصي لعدم السبب
الذي به يستحق الولاية, وليس التصرف في المال بعد الموت كالتصرف في
النكاح; لأن المال يصح النقل فيه والنكاح لا يصح النقل فيه إلى غير
الزوجين, فلم يجز أن يكون للوصي ولاية فيه, وليس الوصي كالوكيل في حال
حياة الأب; لأن الوكيل يتصرف بأمر الموكل وأمره باق لجواز تصرفه وأمر
الميت منقطع فيما لا يصح فيه النقل وهو النكاح, فلذلك اختلفا.
فإن قيل: فإن الحاكم يزوج عندكم الصغيرين مع عدم الميراث والولاية من
طريق النسب. قيل له: إن الحاكم قائم مقام جماعة المسلمين فيما يتصرف
فيه من ذلك, وجماعة المسلمين هم من أهل ميراث الصغيرين وهم باقون,
فاستحق الولاية من حيث هو كالوكيل لهم وهو من أهل ميراثه; لأنه لو مات
ولا وارث له من ذوي أنسابه ورثه المسلمون.
وفي هذه الآية دلالة أيضا على أن للأب تزويج ابنته الصغيرة من حيث دلت
على جواز تزويج سائر الأولياء, إذ كان هو أقرب الأولياء, ولا نعلم في
جواز ذلك خلافا بين السلف والخلف من فقهاء الأمصار إلا شيئا رواه بسر
بن الوليد عن ابن شبرمة أن تزويج الآباء على الصغار لا يجوز, وهو مذهب
الأصم. ويدل على بطلان هذا المذهب سوى ما ذكرنا من دلالة هذه الآية
قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ
إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ
يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فحكم بصحة طلاق الصغيرة التي لم تحض, والطلاق لا
يقع إلا في نكاح صحيح, فتضمنت الآية جواز تزويج الصغيرة.
(2/68)
ويدل عليه
أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج عائشة وهي بنت ست سنين, زوجها إياه
أبو بكر الصديق رضي الله عنه; وقد حوى هذا الخبر معنيين: أحدهما: جواز
تزويج الأب الصغيرة, والآخر أن لا خيار لها بعد البلوغ; لأن النبي صلى
الله عليه وسلم لم يخيرها بعد البلوغ.
وأما قوله تعالى: {مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} , فإن مجاهدا
قال: "معناه انكحوا نكاحا طيبا". وعن عائشة والحسن وأبي مالك: "ما أحل
لكم". وقال الفراء: أراد بقوله تعالى: {مَا طَابَ} المصدر, كأنه قال:
فانكحوا من النساء الطيب, أي الحلال, قال: ولذلك جاز أن يقول "ما" ولم
يقل "من".
وأما قوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} فإنه إباحة للثنتين إن
شاء وللثلاث إن شاء وللرباع إن شاء, على أنه مخير في أن يجمع في هذه
الأعداد من شاء; قال: فإن خاف أن لا يعدل اقتصر من الأربع على الثلاث,
فإن خاف أن لا يعدل اقتصر من الثلاث على الاثنتين, فإن خاف أن لا يعدل
بينهما اقتصر على الواحدة. وقيل: إن" الواو" ههنا بمعنى" أو" كأنه قال:
مثنى أو ثلاث أو رباع. وقيل أيضا فيه: إن" الواو" على حقيقتها ولكنه
على وجه البدل, كأنه قال: وثلاث بدلا من مثنى, ورباع بدلا من ثلاث, لا
على الجمع بين الأعداد ومن قال هذا قال: إنه لو قيل: إن" أو" لجاز أن
لا يكون الثلاث لصاحب المثنى ولا الرباع لصاحب الثلاث, فأفاد ذكر"
الواو" إباحة الأربع لكل أحد ممن دخل في الخطاب, وأيضا فإن المثنى داخل
في الثلاث والثلاث في الرباع; إذ لم يثبت أن كل واحد من الأعداد مراد
مع الأعداد الأخر على وجه الجمع, فتكون تسعا; وهذا كقوله تعالى: {قُلْ
أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ
وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ
فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} [فصلت: 9-10] إلى قوله: {وَقَدَّرَ
فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 10] والمعنى: في
أربعة أيام باليومين المذكورين بديا, ثم قال: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ
سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] ولولا أن ذلك كذلك لصارت الأيام
كلها ثمانية, وقد علم أن ذلك ليس كذلك لقوله تعالى: {خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54] فكذلك
المثنى داخل في الثلاث والثلاث في الرباع, فجميع ما أباحته الآية من
العدد أربع لا زيادة عليها.
وهذا العدد إنما هو للأحرار دون العبيد في قول أصحابنا والثوري والليث
والشافعي وقال مالك: "للعبد أن يتزوج أربعا". والدليل على أن الآية في
الأحرار دون العبيد قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ}
[النساء: 3] إنما هو مختص بالأحرار; لأن العبد لا يملك عقد النكاح
لاتفاق الفقهاء أنه لا يجوز له أن يتزوج إلا بإذن المولى وأن المولى
أملك بالعقد عليه منه بنفسه; لأن المولى لو زوجه وهو كاره لجاز عليه
ولو تزوج هو
(2/69)
بغير إذن
الولي لم يجز نكاحه; وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما عبد تزوج
بغير إذن مولاه فهو عاهر" , وقال الله تعالى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً
عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] فلما كان
العبد لا يملك عقد النكاح لم يكن من أهل الخطاب بالآية, فوجب أن تكون
الآية في الأحرار. وأيضا لا يختلفون أن للرق تأثيرا في نقصان حقوق
النكاح المقدرة كالطلاق والعدة, فلما كان العدد من حقوق النكاح وجب أن
يكون للعبد النصف مما للحر. وقد روي عن ستة من الصحابة أن العبد لا
يتزوج إلا اثنتين, ولا يروى عن أحد من نظرائهم خلافه فيما نعلمه. وقد
روى سليمان بن يسار عن عبد الله بن عتبة قال: قال عمر بن الخطاب: "ينكح
العبد اثنتين ويطلق اثنتين وتعتد الأمة حيضتين, فإن لم تحض فشهر ونصف".
وروى الحسن وابن سيرين عن عمر وعبد الرحمن بن عوف: "أن العبد لا يحل له
أكثر من امرأتين". وروى جعفر بن محمد عن أبيه أن عليا قال: "لا يجوز
للعبد أن ينكح فوق اثنتين". وروى حماد عن إبراهيم أن عمر وعبد الله
قالا: "لا ينكح العبد أكثر من اثنتين", وشعبة عن الحكم عن الفضل بن
عباس قال: "يتزوج العبد اثنتين", وابن سيرين قال: قال عمر: أيكم يعلم
ما يحل للعبد من النساء؟ فقال رجل من الأنصار: أنا, فقال عمر: كم؟ قال:
اثنتين, فسكت; ومن يشاور عمر ويرضى بقوله فالظاهر أنه صحابي. وروى ليث
عن الحكم قال: "اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن العبد
لا يجمع من النساء فوق اثنتين فقد ثبت بإجماع أئمة الصحابة ما ذكرناه,
ولا نعلم أحدا من نظرائهم قال: إنه يتزوج أربعا, فمن خالف ذلك كان
محجوجا بإجماع الصحابة. وقد روي نحو قولنا عن الحسن وإبراهيم وابن
سيرين وعطاء والشعبي.
فإن قيل: روى يحيى بن حمزة عن أبي وهب عن أبي الدرداء قال: "يتزوج
العبد أربعا" وهو قول مجاهد والقاسم وسالم وربيعة الرأي. قيل له إسناد
حديث أبي الدرداء فيه رجل مجهول وهو أبو وهب, ولو ثبت لم يجز الاعتراض
به على قول الأئمة الذين ذكرنا أقاويلهم واستفاض ذلك عنهم; وقد ذكر
الحكم وهو من جلة فقهاء التابعين إجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن العبد لا يتزوج أكثر من اثنتين.
وأما قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} فإن
معناه والله أعلم: العدل في القسم بينهن, لما قال تعالى في آية أخرى:
{وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ
حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} [النساء: 129] والمراد ميل
القلب, والعدل الذي يمكنه فعله ويخاف أن لا يفعل إظهار الميل بالفعل,
فأمره الله تعالى بالاقتصار على الواحدة إذا خاف إظهار الميل والجور
ومجانبة العدل.
وقوله عطفا على ما تقدم من إباحة العدد المذكور بعقد النكاح: {أَوْ مَا
مَلَكَتْ
(2/70)
أَيْمَانُكُمْ} يقتضي حقيقته وظاهره إيجاب التخيير بين أربع حرائر
وأربع إماء بعقد النكاح, فيوجب ذلك تخييره بين تزويج الحرة والأمة;
وذلك لأن قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} كلام غير
مستقل بنفسه بل هو مضمن بما قبله, وفيه ضمير لا يستغنى عنه, وضميره ما
تقدم ذكره مظهرا في الخطاب, وغير جائز لنا إضمار معنى لم يتقدم له ذكر
إلا بدلالة من غيره, فلم يجز لنا أن نجعل الضمير في قوله تعالى {أَوْ
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الوطء, فيكون تقديره: قد أبحت لكم وطء ملك
اليمين; لأنه ليس في الآية ذكر الوطء وإنما الذي في أول الآية ذكر
العقد; لأن قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} لا خلاف أن
المراد به العقد, فوجب أن يكون قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ} ضميره, أو فانكحوا ما ملكت أيمانكم, وذلك النكاح هو
العقد, فالضمير الراجع إليه أيضا هو العقد دون الوطء.
فإن قيل: لما صلح أن يكون النكاح اسما للوطء ثم عطف عليه قوله: {أَوْ
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} صارت كقوله: فانكحوا ما ملكت أيمانكم,
فيكون معناه الوطء في هذا الموضع وإن كان معناه العقد في أول الخطاب.
قيل له: لا يجوز هذا; لأنه إذا كان ضميره ما تقدم ذكره بديا في أول
الخطاب فوجب أن يكون بعينه ومعناه المراد به ضميرا فيه, فإذا كان
النكاح المذكور هو العقد فكأنه قيل: فاعقدوا عقدة النكاح فيما طاب لكم,
فإذا أضمره في ملك اليمين كان الضمير هو العقد; إذ لم يجز للوطء ذكر من
جهة المعنى ولا من طريق اللفظ, فامتنع من أجل ذلك إضمار الوطء فيه وإن
كان اسم النكاح قد يتناوله. ومن جهة أخرى أنه لما لم يكن في الآية ذكر
النكاح إلا ما تقدم في أولها وثبت أن المراد به العقد لم يجز أن يكون
ضمير ذلك اللفظ بعينه وطئا لامتناع أن يكون لفظ واحد مجازا حقيقة; لأن
أحد المعنيين يتناوله اللفظ مجازا والآخر حقيقة, ولا يجوز أن ينتظمهما
لفظ واحد, فوجب أن يكون ضميره عقد النكاح المذكور بديا في الآية.
فإن قيل: الذي يدل على أن ضميره هو الوطء دون العقد إضافته لملك اليمين
إلى المخاطبين, ومعلوم استحالة تزوجه بملك يمينه ويجوز له وطء ملك
يمينه, فعلمنا أن المراد الوطء دون العقد. قيل له: لما أضاف ملك اليمين
إلى الجماعة كان المراد نكاح ملك يمين الغير, كقوله تعالى: {وَمَنْ
لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] فأضاف عقد النكاح على ملك أيمانهم إليهم,
والخطاب متوجه إلى كل واحد منهم في إباحة تزويج ملك غيره, كذلك قوله
تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} محمول على هذا المعنى; فليس
إذا فيما ذكرت دليل على وجوب إضمار لا ذكر له في الخطاب, فوجب أن يكون
ضميره ما تقدم ذكره مظهرا وهو عقد النكاح.
(2/71)
وفيما وصف
دليل على اقتضاء الآية التخيير بين تزوج الأمة والحرة لمن يستطيع أن
يتزوج حرة; لأن التخيير لا يصح إلا فيما يمكنه فعل كل واحد منهما على
حاله فقد حوت هذه الآية الدلالة من وجهين على جواز تزويج الأمة مع وجود
الطول إلى الحرة, أحدهما: عموم قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ
لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وذلك شامل للحرائر والإماء لوقوع اسم النساء
عليهن. والثاني: قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وذلك
يقتضي التخيير بينهن وبين الحرائر في التزويج, وقد قدمنا دلالة قوله
تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} [البقرة: 221]
على ذلك في سورة البقرة. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ
مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24]
وذلك عموم شامل للحرائر والإماء, وغير جائز تخصيصه إلا بدلالة.
وأما قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} فإن ابن عباس
والحسن ومجاهدا وأبا رزين والشعبي وأبا مالك وإسماعيل وعكرمة وقتادة
قالوا: "يعني لا تميلوا عن الحق". وروى إسماعيل بن أبي خالد عن أبي
مالك الغفاري: "ذلك أدنى ألا تعولوا: أن لا تميلوا". وأنشد عكرمة شعرا
لأبي طالب:
بميزان صدق لا يخس شعيرة ... ووزان قسط وزنه غير عائل
قال: غير مائل. قال أهل اللغة أصل العول المجاوزة للحد, فالعول في
الفريضة مجاوزة حد السهام المسماة, والعول الميل الذي هو خلاف العدل
لخروجه عن حد العدل, وعال يعول إذا جار, وعال يعيل إذا تبختر, وعال
يعيل إذا افتقر, حكى لنا ذلك أبو عمر غلام ثعلب. وقال الشافعي في قوله
تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} معناه: أن لا يكثر من
تعولون; قال: هذا يدل على أن على الرجل نفقة امرأته. وقد خطأه الناس في
ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا خلاف بين السلف وكل من روي عنه تفسير
هذه الآية أن معناه: أن لا تميلوا وأن لا تجوروا, وأن هذا الميل هو
خلاف العدل الذي أمر الله به من القسم بين الناس. والثاني: خطأه في
اللغة; لأن أهل اللغة لا يختلفون في أنه لا يقال في كثرة العيال" عال
يعول" ذكره المبرد وغيره من أئمة اللغة, وقال أبو عبيدة معمر بن
المثنى: أن لا تعولوا, قال: أن لا تجوروا, يقال: علت علي أي جرت.
والثالث: أن في الآية ذكر الواحدة أو ملك اليمين, والإماء في العيال
بمنزلة النساء, ولا خلاف أن له أن يجمع من العدد من شاء بملك اليمين,
فعلمنا أنه لم يرد كثرة العيال وأن المراد نفي الجور والميل بتزوج
امرأة واحدة; إذ ليس معها من يلزمه القسم بينه وبينها; إذ لا قسم
للإماء بملك اليمين; والله أعلم.
(2/72)
باب هبة المرأة المهر لزوجها
قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ
طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً
مَرِيئاً} . روي عن قتادة وابن جريج في قوله تعالى: {وَآتُوا
النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} قالا: "فريضة", كأنهما ذهبا إلى
نحلة الدين وأن ذلك فرض فيه. وروي عن أبي صالح في قوله تعالى: {وَآتُوا
النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} قال: "كان الرجل إذا زوج موليته
أخذ صداقها فنهوا عن ذلك", فجعله خطابا للأولياء أن لا يحبسوا عنهن
المهور إذا قبضوها. إلا أن معنى النحلة يرجع إلى ما ذكره قتادة في أنها
فريضة, وهذا على معنى ما ذكره الله عقيب ذكر المواريث {فَرِيضَةً مِنَ
اللَّهِ}. قال بعض أهل العلم: إنما سمي المهر نحلة والنحلة في الأصل
العطية والهبة في بعض الوجوه; لأن الزوج لا يملك بدله شيئا; لأن البضع
في ملك المرأة بعد النكاح هو قبله, ألا ترى أنها لو وطئت بشبهة كان
المهر لها دون الزوج؟ فإنما سمي المهر نحلة; لأنه لم يعتض من قبلها
عوضا يملكه, فكان في معنى النحلة التي ليس بإزائها بدل; وإنما الذي
يستحقه الزوج منها بعقد النكاح هو الاستباحة لا الملك. وقال أبو عبيدة
معمر بن المثنى في قوله تعالى: {نِحْلَةً} يعني: بطيبة أنفسكم, يقول:
لا تعطوهن مهورهن وأنتم كارهون ولكن آتوهن ذلك وأنفسكم به طيبة وإن كان
المهر لهن دونكم. قال أبو بكر: فجائز على هذا المعنى أن يكون إنما سماه
نحلة; لأن النحلة هي العطية وليس يكاد يفعلها الناحل إلا متبرعا بها
طيبة بها نفسه, فأمروا بإيتاء النساء مهورهن بطيبة من أنفسهم كالعطية
التي يفعلها المعطي بطيبة من نفسه.
ويحتج بقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} في
إيجاب كمال المهر للمخلو بها لاقتضاء الظاهر له, وأما قوله تعالى:
{فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً
مَرِيئاً} فإنه يعني عن المهر, لما أمرهم بإيتائهن صدقاتهن عقبه بذكر
جواز قبول إبرائها وهبتها له لئلا يظن أن عليه إيتاءها مهرها وإن طابت
نفسها بتركه. قال قتادة في هذه الآية: "ما طابت به نفسها من غير كره
فهو حلال". وقال علقمة لامرأته: أطعميني من الهنيء المريء. فتضمنت
الآية معاني: منها أن المهر لها وهي المستحقة له لا حق للولي فيه.
ومنها أن على الزوج أن يعطيها بطيبة من نفسه. ومنها جواز هبتها المهر
للزوج والإباحة للزوج في أخذه بقوله تعالى: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً
مَرِيئاً}. ومنها تساوي حال قبضها للمهر وترك قبضها في جواز هبتها
للمهر; لأن قوله تعالى: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} يدل على
المعنيين, ويدل أيضا على جواز هبتها للمهر قبل القبض أن الله تعالى لم
يفرق بينهما.
(2/73)
فإن قيل:
قوله تعالى: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} يدل على أن المراد فيما
تعين من المهر, إما أن يكون عرضا بعينه فقبضته أو لم تقبضه أو دراهم قد
قبضتها, فأما دين في الذمة فلا دلالة في الآية على جواز هبتها له; إذ
لا يقال لما في الذمة كله هنيئا مريئا. قيل له: ليس المراد في ذلك
مقصورا على ما يتأتى فيه الأكل دون ما لا يتأتى; لأنه لو كان كذلك لوجب
أن يكون خاصا في المهر إذا كان شيئا مأكولا, وقد عقل من مفهوم الخطاب
أنه غير مقصور على المأكول منه دون غيره; لأن قوله تعالى: {وَآتُوا
النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} عام في المهور كله سواء كانت من
جنس المأكول أو من غيره, وقوله تعالى: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً}
شامل لجميع الصدقات المأمور بإيتائها. فدل أنه لا اعتبار بلفظ الأكل في
ذلك وأن المقصد فيه جواز استباحته بطيبة من نفسها; وقال الله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} [النساء:
10] وقال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وهو عموم في النهي عن سائر وجوه التصرف في
مال اليتيم من الديون والأعيان المأكول وغير المأكول, وشامل للنهي في
أخذ أموال الناس إلا على وجه التجارة عن تراض, وليس المأكول بأولى
بمعنى الآية من غيره. وإنما خص الأكل بالذكر; لأنه معظم ما يبتغى له
الأموال, إذ به قوام بدن الإنسان, وفي ذكره للأكل دلالة على ما دونه,
وهذا كقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ
فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] فخص
البيع بالذكر وإن كان ما عداه من سائر ما يشغله عن الصلاة بمثابته في
النهي; لأن الاشتغال بالبيع من أعظم أمورهم في السعي في طلب معايشهم,
فعقل من ذلك إرادة ما هو دونه وأنه أولى بالنهي; إذ قد نهاهم عما هم
إليه أحوج والحاجة إليه أشد. وكما قال تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] فخص اللحم
بذكر التحريم وسائر أجزائه مثله; لأنه معظم ما يراد منه وينتفع به,
فكان في تحريمه أعظم منافعه دلالة على ما دونه, فكذلك قوله تعالى:
{فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} قد اقتضى جواز هبتها للمهر من أي جنس
كان عينا أو دينا قبضته أو لم تقبضه. ومن جهة أخرى أنه إذا جازت هبتها
للمهر إذا كان مقبوضا معينا فكذلك حكمه إذا كان دينا; لأنه قد ثبت جواز
تصرفها في مالها, فلا يختلف حكم العين والدين فيه; ولأن أحدا لم يفرق
بينهما. وقد دلت هذه الآية على جواز هبة الدين والبراءة منه كما جازت
هبة المرأة للمهر وهو دين, ويدل أيضا على أن من وهب لإنسان دينا له
عليه أن البراءة قد وقعت بنفس الهبة; لأن الله تعالى قد حكم بصحته
وأسقطه عن ذمته. ويدل على أن من وهب لإنسان مالا فقبضه وتصرف فيه أنه
جائز له ذلك وإن لم يقل بلسانه قد قبلت; لأن الله تعالى قد أباح له أكل
ما وهبه من غير شرط القبول, بل يكون التصرف فيه
(2/74)
بحضرته
حين وهبه قبولا. ويدل على أنها لو قالت" قد طبت لك نفسا عن مهري"
وأرادت الهبة والبراءة أن ذلك جائز لقوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ
عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} .
وقد اختلف الفقهاء في هبة المرأة مهرها لزوجها, فقال أبو حنيفة وأبو
يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والشافعي: "إذا بلغت المرأة واجتمع لها
عقلها جاز لها التصرف في مالها بالهبة أو غيرها بكرا كانت أو ثيبا".
وقال مالك: "لا يجوز أمر البكر في مالها ولا ما وضعت عن زوجها من
الصداق وإنما ذلك إلى أبيها في العفو عن زوجها, ولا يجوز لغير الأب من
أوليائها ذلك" قال: "وبيع المرأة ذات الزوج دارها وخادمها جائز وإن كره
الزوج إذا أصابت وجه البيع, فإن كانت فيه محاباة كان من ثلث مالها, وإن
تصدقت أو وهبت أكثر من الثلث لم يجز من ذلك قليل ولا كثير" قال مالك:
"والمرأة الأيم إذا لم يكن لها زوج في مالها كالرجل في ماله سواء".
وقال الأوزاعي: "لا تجوز عطية المرأة حتى تلد وتكون في بيت زوجها سنة".
وقال الليث: "لا يجوز عتق المرأة ذات الزوج ولا صدقتها إلا في الشيء
اليسير الذي لا بد لها منه لصلة رحم أو غير ذلك مما يتقرب به إلى الله
تعالى".
قال أبو بكر: الآية قاضية بفساد هذه الأقوال شاهدة بصحة قول أصحابنا
الذي قدمنا, لقوله عز وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ
نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} ولم يفرق فيه بين البكر والثيب
ولا بين من أقامت في بيت زوجها سنة أو لم تقم, وغير جائز الفرق بين
البكر والثيب في ذلك إلا بدلالة تدل على خصوص حكم الآية في الثيب دون
البكر; وأجاز مالك هبة الأب والله تعالى أمرنا بإعطائها جميع الصداق
إلا أن تهب هي شيئا منه له, فالآية قاضية ببطلان هبة الأب; لأنه مأمور
بإيتاء جميع الصداق إلا أن تطيب نفسها بتركه, ولم يشرط الله تعالى طيبة
نفس الأب, فمنع ما أباحه الله له بطيبة نفسها من مهرها وأجاز ما حظره
الله تعالى من منع شيء من مهرها إلا بطيبة نفسها بهبة الأب. وهذا
اعتراض على الآية من وجهين بغير دلالة: أحدهما: منعها الهبة مع اقتضاء
ظاهر الآية لجوازها. والثاني: جواز هبة الأب مع أمر الله الزوج
بإعطائها الجميع إلا أن تطيب نفسا بتركه. ويدل على ذلك قوله تعالى:
{وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً
إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] فمنع أن يأخذ منها شيئا مما أعطاها إلا
برضاها بالفدية فقد شرط رضا المرأة ولم يفرق مع ذلك بين البكر والثيب.
ويدل عليه حديث زينب امرأة عبد الله بن مسعود, أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال للنساء: "تصدقن ولو من حليكن", وفي حديث ابن عباس:
(2/75)
أن النبي
صلى الله عليه وسلم خرج يوم الفطر فصلى ثم خطب ثم أتى النساء فأمرهن أن
يتصدقن, ولم يفرق في شيء منه بين البكر والثيب; ولأن هذا حجر ولا يصح
الحجر على من هذه صفته, والله أعلم.
(2/76)
باب دفع المال إلى السفهاء
قال الله تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي
جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} قال أبو بكر: قد اختلف أهل العلم في
تأويل هذه الآية, فقال ابن عباس: "لا يقسم الرجل ماله على أولاده فيصير
عيالا عليهم بعد; إذ هم عيال له, والمرأة من أسفه السفهاء"; فتأول ابن
عباس الآية على ظاهرها ومقتضى حقيقتها; لأن قوله تعالى:
{أَمْوَالَكُمُ} يقتضي خطاب كل واحد منهم بالنهي عن دفع ماله إلى
السفهاء لما في ذلك من تضييعه, لعجز هؤلاء عن القيام بحفظه وتثميره,
وهو يعني به الصبيان والنساء الذين لا يكملون لحفظ المال. ويدل ذلك
أيضا على أنه لا ينبغي له أن يوكل في حياته بماله ويجعله في يد من هذه
صفته, وأن لا يوصي به إلى أمثالهم. ويدل أيضا على أن ورثته إذا كانوا
صغارا أنه لا ينبغي أن يوصي بماله إلا إلى أمين مضطلع بحفظه عليهم.
وفيه الدلالة على النهي عن تضييع المال ووجوب حفظه وتدبيره والقيام به,
لقوله تعالى: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً} فأخبر أنه جعل
قوام أجسادنا بالمال, فمن رزقه الله منه شيئا فعليه إخراج حق الله
تعالى منه ثم حفظ ما بقي وتجنب تضييعه, وفي ذلك ترغيب من الله تعالى
لعباده في إصلاح المعاش وحسن التدبير. وقد ذكر الله تعالى ذلك في مواضع
من كتابه العزيز, منه قوله تعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ
الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} [الاسراء: 26-27]
وقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا
تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً}
[الاسراء:29] وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ
يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا} [الفرقان: 67] وما أمر الله تعالى به من
حفظ الأموال وتحصين الديون بالشهادات والكتاب والرهن على ما بينا فيما
سلف. وقد قيل في قوله تعالى: {الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً}
يعني أنه جعلكم قواما عليها فلا تجعلوها في يد من يضيعها. والوجه
الثاني من التأويل: ما روي عن سعيد بن جبير أنه أراد: لا تؤتوا السفهاء
أموالهم, وإنما أضافها إليهم كما قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] يعني: لا يقتل بعضكم بعضا, وقوله تعالى:
{فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 54] وقوله تعالى: {فَإِذَا
دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61]
يريد: من يكون فيها. وعلى هذا التأويل يكون السفهاء محجورا عليهم
فيكونون ممنوعين من أموالهم إلى أن يزول السفه.
(2/76)
وقد اختلف
في معنى السفهاء ههنا, فقال ابن عباس: "السفيه من ولدك وعيالك" وقال:
"المرأة من أسفه السفهاء". وقال سعيد بن جبير والحسن والسدي والضحاك
وقتادة: "النساء والصبيان". وقال بعض أهل العلم: "كل من يستحق صفة سفيه
في المال من محجور عليه وغيره". وروى الشعبي عن أبي بردة عن أبي موسى
الأشعري قال: "ثلاثة يدعون الله لا يستجاب لهم رجل كانت له امرأة سيئة
الخلق فلم يطلقها, ورجل أعطى ماله سفيها وقد قال الله تعالى: {وَلا
تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} ورجل داين رجلا فلم يشهد عليه".
وروي عن مجاهد: "أن السفهاء النساء". وقيل إن أصل السفه خفة الحلم,
ولذلك سمي الفاسق سفيها; لأنه لا وزن له عند أهل الدين والعلم, ويسمى
الناقص العقل سفيها لخفة عقله; وليس السفه في هؤلاء صفة ذم ولا يفيد
معنى العصيان لله تعالى, وإنما سموا سفهاء لخفة عقولهم ونقصان تمييزهم
عن القيام بحفظ المال.
فإن قيل: لا خلاف أنه جائز أن نهب النساء والصبيان المال, وقد أراد
بشير أن يهب لابنه النعمان فلم يمنعه النبي صلى الله عليه وسلم منه
إلا; لأنه لم يعط سائر بنيه مثله, فكيف يجوز حمل الآية على منع إعطاء
السفهاء أموالنا؟ قيل له: ليس المعنى فيه التمليك وهبة المال, وإنما
المعنى فيه أن نجعل الأموال في أيديهم وهم غير مضطلعين بحفظها, وجائز
للإنسان أن يهب الصغير والمرأة كما يهب الكبير العاقل ولكنه يقبضه له
من يلي عليه ويحفظ ماله ولا يضيعه, وإنما منعنا الله تعالى بالآية أن
نجعل أموالنا في أيدي الصغار والنساء التي لا يكملن بحفظها وتدبيرها.
وقوله عز وجل: {وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ} يعني وارزقوهم من
هذه الأموال; لأن "في" ههنا بمعنى "من" إذ كانت حروف الصفات تتعاقب
فيقوم بعضها مقام بعض, كما قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ
إِلَى أَمْوَالِكُمْ} وهو بمعنى "مع" فنهانا الله عن دفع الأموال إلى
السفهاء الذين لا يقومون بحفظها وأمرنا بأن نرزقهم منها ونكسوهم. فإن
كان مراد الآية النهي عن إعطائهم مالنا على ما اقتضى ظاهرها ففي ذلك
دليل على وجوب نفقة الأولاد السفهاء والزوجات لأمره إيانا بالإنفاق
عليهم من أموالنا; وإن كان تأويلها ما ذهب إليه القائلون بأن مرادها أن
لا نعطيهم أموالهم وهم سفهاء, فإنما فيه الأمر بالإنفاق عليهم من
أموالهم. وهذا يدل على الحجر من وجهين: أحدهما: منعهم من أموالهم.
والثاني: إجازته تصرفنا عليهم في الإنفاق عليهم وشرى أقواتهم وكسوتهم.
وقوله تعالى: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً}, قال مجاهد وابن
جريج: {قَوْلاً مَعْرُوفاً} عدة جميلة بالبر والصلة على الوجه الذي
يجوز ويحسن. ويحتمل أن يريد به إجمال المخاطبة لهم وإلانة القول فيما
يخاطبون به, كقوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا
(2/77)
تَقْهَرْ}
[الضحى:9] وكقوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ
مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً}
[الاسراء:28] وقد قيل: إنه جائز أن يكون القول المعروف ههنا التأديب
والتنبيه على الرشد والصلاح والهداية للأخلاق الحسنة, ويحتمل أن يريد
به: إذا أعطيتموهم الرزق والكسوة من أموالكم أن تجملوا لهم القول ولا
تؤذوهم بالتذمر عليهم والاستخفاف بهم, كما قال تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ
الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ
فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} يعني
والله أعلم إجمال اللفظ وترك التذمر والامتنان; وكما قال تعالى: {لا
تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة: 264]. وجائز
أن تكون هذه المعاني كلها مرادة بقوله تعالى: {وَقُولُوا لَهُمْ
قَوْلاً مَعْرُوفاً} والله أعلم.
(2/78)
باب دفع المال إلى اليتيم
قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا
النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ} قال الحسن ومجاهد وقتادة والسدي: "يعني اختبروهم في
عقولهم ودينهم". قال أبو بكر: أمرنا باختبارهم قبل البلوغ; لأنه قال:
{وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} فأخبر أن
بلوغ النكاح بعد الابتلاء; لأن" حتى غاية مذكورة بعد الابتلاء, فدلت
الآية من وجهين على أن هذا الابتلاء قبل البلوغ. وفي ذلك دليل على جواز
الإذن للصغير الذي يعقل في التجارة; لأن الابتلاء لا يكون إلا باستبراء
حاله في العلم بالتصرف وحفظ المال ومتى أمر بذلك كان مأذونا في
التجارة.
وقد اختلف الفقهاء في إذن الصبي في التجارة, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف
ومحمد وزفر والحسن بن زياد والحسن بن صالح: جائز للأب أن يأذن لابنه
الصغير في التجارة إذا كان يعقل الشرى والبيع, وكذلك وصي الأب أو الجد
إذا لم يكن وصي أب ويكون بمنزلة العبد المأذون له". وقال ابن القاسم عن
مالك: "لا أرى إذن الأب, والوصي للصبي في التجارة جائزا, وإن لحقه في
ذلك دين لم يلزم الصبي منه شيء". وقال الربيع عن الشافعي في كتابه في
الإقرار: وما أقر به الصبي من حق الله تعالى أو الآدمي أو حق في مال أو
غيره فإقراره ساقط عنه سواء كان الصبي مأذونا له في التجارة أذن له
أبوه أو وليه من كان أو حاكم, ولا يجوز للحاكم أن يأذن له, فإن فعل
فإقراره ساقط عنه, وكذلك شراؤه وبيعه مفسوخ".
قال أبو بكر: ظاهر الآية يدل على جواز الإذن له في التجارة لقوله
تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} والابتلاء هو اختبارهم في عقولهم
ومذاهبهم وحزمهم فيما يتصرفون فيه, فهو
(2/78)
عام في
سائر هذه الوجوه, وليس لأحد أن يقتصر بالاختبار على وجه دون وجه فيما
يحتمله اللفظ, والاختبار في استبراء حاله في المعرفة بالبيع والشرى
وضبط أموره وحفظ ماله لا يكون إلا بإذن له في التجارة, ومن قصر
الابتلاء على اختبار عقله بالكلام دون التصرف في التجارة وحفظ المال
فقد خص عموم اللفظ بغير دلالة.
فإن قيل: الذي يدل على أنه لم يرد الإذن له في التصرف في حال الصغر
قوله تعالى في نسق التلاوة: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} وإنما أمر بدفع المال إليهم بعد
البلوغ وإيناس الرشد, ولو جاز الإذن له في التجارة في صغره لجاز دفع
المال إليه في حال الصغر, والله تعالى إنما أمر بدفع المال إليه بعد
البلوغ وإيناس الرشد. قيل له: ليس الإذن له في التجارة من دفع المال
إليه في شيء; لأن الإذن هو أن يأمره بالبيع والشرى, وذلك ممكن بغير مال
في يده كما يأذن للعبد في التجارة من غير مال يدفعه إليه; فنقول: إن
الآية اقتضت الأمر بابتلائه, ومن الابتلاء الإذن له في التجارة وإن لم
يدفع إليه مالا, ثم إذا بلغ وقد أونس منه رشده دفع المال إليه, ولو كان
الابتلاء لا يقتضي اختباره بالإذن له في التصرف في الشرى والبيع وإنما
هو اختبار عقله من غير استبراء حال في ضبطه وعلمه بالتصرف لما كان
للابتلاء وجه قبل البلوغ; فلما أمر بذلك قبل البلوغ علمنا أن المراد
اختبار أمره بالتصرف, ولأن اختبار صحة عقله لا ينبئ عن ضبطه لأموره
وحفظه لماله وعلمه بالبيع والشرى, ومعلوم أن الله تعالى أمر بالاحتياط
له في استبراء أمره في حفظ المال والعلم بالتصرف, فوجب أن يكون
الابتلاء المأمور به قبل البلوغ مأمورا بذلك لا لاختبار صحة عقله فحسب.
وأيضا فإن لم يجز الإذن له في التجارة قبل البلوغ; لأنه محجور عليه
فالابتلاء إذا ساقط من هذا الوجه, فلا يخلو بعد البلوغ متى أردنا
التوصل إلى إيناس رشده من أن نختبره بالإذن له في التجارة أو لا نختبره
بذلك, فإن وجب اختباره فقد أجزت له التصرف وهو عندك محجور عليه بعد
البلوغ إلى إيناس الرشد, فإن جاز الإذن له في التجارة وهو محجور عليه
بعد البلوغ فقد أخرجته من الحجر وإن لم يخرج من الحجر وهو ممنوع من
ماله بعد البلوغ وهو مأذون له, فهلا أذنت له قبل البلوغ في التجارة
لاستبراء حاله كما يستبرأ حاله بالإذن بعد البلوغ مع بقاء الحجر إلى
إيناس الرشد وإن لم يستبرأ حاله بعد البلوغ بالإذن فكيف يعلم إيناس
الرشد منه؟ فقول المخالف لا يخلو من ترك الابتلاء أو دفع المال قبل
إيناس الرشد.
ويدل على جواز الإذن للصغير في التجارة ما روي: أن النبي صلى الله عليه
وسلم أمر عمر بن أبي سلمة وهو صغير بتزويج أم سلمة إياه, وروى عبد الله
بن شداد: أنه أمر سلمة بن أبي سلمة بذلك وهو صغير, وفي ذلك دليل على
جواز الإذن له في التصرف الذي يملكه
(2/79)
عليه غيره
من بيع أو شرى; ألا ترى أنه يقتضي جواز توكيل الأب إياه بشرى عبد
للصغير أو بيع عبد له؟ هذا هو معنى الإذن له في التجارة. وأما تأويل من
تأول قوله تعالى: { وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} على اختبارهم في عقولهم
ودينهم, فإن اعتبار الدين في دفع المال غير واجب باتفاق الفقهاء; لأنه
لو كان رجلا فاسقا ضابطا لأموره عالما بالتصرف في وجوه التجارات لم يجز
أن يمنع ماله لأجل فسقه, فعلمنا أن اعتبار الدين في ذلك غير واجب; وإن
كان رجلا ذا دين وصلاح إلا أنه غير ضابط لماله يغبن في تصرفه كان
ممنوعا من ماله عند القائلين بالحجر لقلة الضبط وضعف العقل, فعلمنا أن
اعتبار الدين في ذلك لا معنى له.
وأما قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} فإن ابن عباس
ومجاهدا والسدي قالوا: "هو الحلم" وهو بلوغ حال النكاح من الاحتلام.
(2/80)
مطلب في تفسير الرشد
وأما قوله تعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} فإن ابن عباس
قال: "فإن علمتم منهم ذلك". وقيل: إن أصل الإيناس هو الإحساس, حكي عن
الخليل. وقال الله تعالى: {إِنِّي آنَسْتُ نَاراً} [طه: 10] يعني
أحسستها وأبصرتها.
وقد اختلف في معنى الرشد ههنا, فقال ابن عباس والسدي: "الصلاح في
العقل" وحفظ المال". وقال الحسن وقتادة: "الصلاح في العقل والدين".
وقال إبراهيم النخعي ومجاهد: "العقل". وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس
في قوله تعالى: { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً} قال: "إذا أدرك
بحلم وعقل ووقار".
قال أبو بكر: إذا كان اسم الرشد يقع على العقل لتأويل من تأوله عليه,
ومعلوم أن الله تعالى شرط رشدا منكورا ولم يشرط سائر ضروب الرشد, اقتضى
ظاهر ذلك أن حصول هذه الصفة له بوجود العقل موجبا لدفع المال إليه
ومانعا من الحجر عليه; فهذا يحتج به من هذا الوجه في إبطال الحجر على
الحر العاقل البالغ, وهو مذهب إبراهيم ومحمد بن سيرين وأبي حنيفة; وقد
بينا هذه المسألة في سورة البقرة.
وقوله تعالى: {فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} يقتضي وجوب دفع
المال إليهم بعد البلوغ وإيناس الرشد على ما بينا, وهو نظير قوله
تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ} وهذه الشريطة معتبرة فيها
أيضا, وتقديره: وآتوا اليتامى أموالهم إذا بلغوا وآنستم منهم رشدا.
(2/80)
مطلب في أن السرف مجاوزة حد المباح إلى المحظور من إفراط أو تقصير
وأما قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ
يَكْبَرُوا} فإن السرف مجاوزة حد المباح إلى المحظور, فتارة يكون السرف
في التقصير وتارة في الإفراط لمجاوزة حد الجائز في الحالين.
وقوله تعالى: {وَبِدَاراً} قال ابن عباس وقتادة والحسن والسدي:
"مبادرة" والمبادرة الإسراع في الشيء, فتقديره النهي عن أكل أموالهم
مبادرة أن يكبروا فيطالبوا بأموالهم. وفيها دلالة على أنه إذا صار في
حد الكبر استحق المال إذا كان عاقلا من غير شرط إيناس الرشد; لأنه إنما
شرط إيناس الرشد بعد البلوغ, وأفاد بقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوهَا
إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} أنه لا يجوز له إمساك ماله
بعدما يصير في حد الكبر, ولولا ذلك لما كان لذكر الكبر ههنا معنى; إذ
كان الوالي عليه هو المستحق لماله قبل الكبر وبعده, فهذا يدل على أنه
إذا صار في حد الكبر استحق دفع المال إليه. وجعل أبو حنيفة حد الكبر في
ذلك خمسا وعشرين سنة; لأن مثله يكون جدا, ومحال أن يكون جدا ولا يكون
في حد الكبار. والله أعلم.
(2/81)
باب أكل ولي اليتيم من ماله
قال الله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ
فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}. قال أبو بكر: قد اختلف السلف
في تأويله, فروى معمر عن الزهري عن القاسم بن محمد قال: جاء رجل إلى
ابن عباس فقال: إن في حجري أيتاما لهم أموال, وهو يستأذنه أن يصيب
منها, فقال ابن عباس: ألست تهنأ جرباءها؟ قال: بلى, قال: ألست تبغي
ضالتها؟ قال: بلى, قال: ألست تلوط حياضها؟ قال: بلى, قال: ألست تفرط
عليها يوم ورودها؟ قال: بلى, قال: فاشرب من لبنها غير ناهك في الحلب
ولا مضر بنسل. وروى الشيباني عن عكرمة عن ابن عباس قال: "الوصي إذا
احتاج وضع يده مع أيديهم ولا يكتسي عمامة". فشرط في الحديث الأول عمله
في مال اليتيم في إباحة الأكل, ولم يشرط في حديث عكرمة. وروى ابن لهيعة
عن يزيد بن أبي حبيب قال: حدثني أبو الخير مرثد بن عبد الله اليزني أنه
سأل أناسا من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله
تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} فقالوا: فينا نزلت, إن الوصي كان إذا عمل
في نخل اليتيم كانت يده مع أيديهم. وقد طعن في هذا الحديث من جهة سنده,
ويفسد أيضا من جهة أنه لو أبيح لهم الأكل لأجل عملهم لما
(2/81)
اختلف فيه
الغني والفقير, فعلمنا أن هذا التأويل ساقط. وأيضا في حديث ابن عباس
إباحة الأكل دون أن يكتسي منه عمامة, ولو كان ذلك مستحقا لعمله لما
اختلف فيه حكم المأكول والملبوس, فهذا أحد الوجوه التي تأولت عليه
الآية وهو أن يقتصر على الأكل فحسب إذا عمل لليتيم. وقال آخرون: "يأخذه
قرضا ثم يقضيه". وروى شريك عن أبي إسحاق عن حارثة بن مضرب عن عمر قال:
"إني أنزلت مال الله تعالى مني بمنزلة اليتيم, إن استغنيت استعففت وإن
افتقرت أكلت بالمعروف وقضيت". وروي عن عبيدة السلماني وسعيد بن جبير
وأبي العالية وأبي وائل ومجاهد مثل ذلك, وهو أن يأخذ قرضا ثم يقضيه إذا
وجد. وقول ثالث: قال الحسن وإبراهيم وعطاء بن أبي رباح ومكحول: "إنه
يأخذ منه ما يسد الجوعة ويواري العورة ولا يقضي إذا وجد". وقول رابع:
وهو ما روي عن الشعبي أنه بمنزلة الميتة يتناوله عند الضرورة, فإذا
أيسر قضاه وإذا لم يوسر فهو في حل. وقول خامس: وهو ما روى مقسم عن ابن
عباس: {فَلْيَسْتَعْفِفْ} قال: بغناه {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قال: فلينفق على نفسه من ماله حتى لا
يصيب من مال اليتيم شيئا; حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن
عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا منجاب بن الحارث قال حدثنا أبو عامر
الأسدي قال: حدثنا سفيان عن الأعمش عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس بمعنى
ذلك. وقد روى عكرمة عنه أنه يقضي. وروي عن ابن عباس أنه منسوخ. وقال
مجاهد في رواية أخرى: فليأكل بالمعروف من مال نفسه ولا رخصة له في مال
اليتيم وهو قول الحكم.
قال أبو بكر: فحصل الاختلاف بين السلف على هذه الوجوه; وروي عن ابن
عباس أربع روايات على ما ذكرنا: أحدها: أنه إذا عمل لليتيم في إبله شرب
من لبنها, والثانية: أنه يقضي, والثالثة: لا ينفق من مال اليتيم شيئا
ولكنه يقوت على نفسه من ماله حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم, والرابعة:
أنه منسوخ. والذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذه قرضا ولا غيره
غنيا كان أو فقيرا, ولا يقرضه غيره أيضا. وقد روى إسماعيل بن سالم عن
محمد قال: أما نحن فلا نحب للوصي أن يأكل من مال اليتيم شيئا قرضا ولا
غيره, ولم يذكر خلافا. وروى محمد في كتاب الآثار عن أبي حنيفة عن رجل
عن ابن مسعود قال: "لا يأكل الوصي من مال اليتيم قرضا ولا غيره", وهو
قول أبي حنيفة; وذكر الطحاوي أن مذهب أبي حنيفة أنه يأخذ قرضا إذا
احتاج ثم يقضيه, كما روي عن عمر ومن تابعه. وروى بشر بن الوليد عن أبي
يوسف: "أنه لا يأكل من مال اليتيم إذا كان مقيما, فإن خرج لتقاضي دين
لهم أو إلى ضياع لهم فله أن ينفق ويكتسي ويركب, فإذا رجع رد الثياب
والدابة إلى اليتيم" قال: وقال أبو يوسف: وقوله تعالى:
(2/82)
{فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} يجوز أن يكون منسوخا بقوله تعالى: {ولا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]. قال أبو بكر: جعل أبو
يوسف الوصي في هذه الحال كالمضارب في جواز النفقة من ماله في السفر.
وقال ابن عبد الحكم عن مالك: "ومن كان له يتيم فخلط نفقته بماله فإن
كان الذي يصيب اليتيم أكثر مما يصيب وليه من نفقته فلا بأس, وإن كان
الفضل لليتيم فلا يخلطه" ولم يفرق بين الغني والفقير. وقال المعافى عن
الثوري: "يجوز لولي اليتيم أن يأكل طعام اليتيم ويكافئه عليه"; وهذا
يدل على أنه كان يجيز له أن يستقرض من ماله. وقال الثوري: "لا يعجبني
أن ينتفع من ماله بشيء وإن لم يكن على اليتيم فيه ضرر, نحو اللوح يكتب
فيه". وقال الحسن بن حي: "يستقرض الوصي من مال اليتيم إذا احتاج إليه
ثم يقضيه, ويأكل الوصي من مال اليتيم بقدر عمله فيه إذا لم يضر
بالصبي".
قال أبو بكر: قال الله تعالى: {وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا
تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ
إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} وقال تعالى:
{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ
يَكْبَرُوا} وقال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152]
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى
ظُلْماً} [النساء: 10] وقال تعالى: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى
بِالْقِسْطِ} [النساء: 127] وقال تعالى: {ولا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ
بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ
مِنْكُمْ} [النساء: 29]. وهذه الآي محكمة حاظرة لمال اليتيم على وليه
في حال الغنى والفقر, وقوله تعالى: { وَمَنْ كَانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} متشابه محتمل للوجوه التي ذكرنا; فأولى
الأشياء بها حملها على موافقة الآي المحكمة, وهو أن يأكل من مال نفسه
بالمعروف لئلا يحتاج إلى مال اليتيم; لأن الله تعالى قد أمرنا برد
المتشابه إلى المحكم ونهانا عن اتباع المتشابه من غير رد له إلى
المحكم. قال الله تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ
الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي
قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ
الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] وتأويل من تأوله
على جواز أخذ مال اليتيم قرضا أو غير قرض مخالف لمعنى المحكم, ومن
تأوله على غير ذلك فقد رده إلى المحكم وحمله على معناه فهو أولى. وقد
روي أن: قوله تعالى {فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} منسوخ رواه الحسن بن
أبي الحسن بن عطية عن عطية أبيه عن ابن عباس: {وَمَنْ كَانَ فَقِيراً
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} نسختها الآية التي تليها: {إِنَّ
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً}. وروى عثمان بن
عطاء عن أبيه عن ابن عباس مثله. وروى عيسى بن عبيد الكندي عن عبيد الله
بن عمر بن مسلم عن الضحاك بن مزاحم في قوله تعالى:
(2/83)
{وَمَنْ
كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} منسوخ بقوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً}
فإن قيل: روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلا سأل النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: ليس لي مال ولي يتيم؟ فقال: "كل من مال يتيمك غير مسرف
ولا متأثل مالك بماله" وروى عمرو بن دينار عن الحسن العوفي عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "يأكل ولي اليتيم من ماله بالمعروف غير متأثل
منه مالا". قيل له: غير جائز الاعتراض بهذين الخبرين على ما ذكرنا من
الآي المقتضية لحظر مال اليتيم; فإن صح ذلك فهو محمول على الوجه الذي
يجوز, وهو أن يعمل في مال اليتيم مضاربة فيأخذ منه مقدار ربحه, وهذا
جائز عندنا, وقد روي عن جماعة من السلف نحو ذلك.
فإن قيل: فإن جاز أن يأخذ ربح مال اليتيم إذا عمل به مضاربة, فلم لا
يجوز أن يأكل من ماله إذا عمل فيه كما روي عن ابن عباس في إحدى
الروايات عنه أنه إذا كان يهنأ جرباء الإبل ويبغي ضالتها ويلوط حياضها
جاز له أن يشرب من لبنها غير مضر بنسل ولا ناهك حلبا؟ وكما روي عن
الحسن أن الوصي كان إذا عمل في نخل اليتيم كانت يده مع أيديهم; قيل له:
لأنه لا يخلو الوصي إذا أعان في الإبل وعمل في النخل من أحد وجهين: إما
أن يأخذه على وجه الأجرة لعمله, أو على غير وجه الأجرة والعوض من
العمل, فإن كان يأخذه على وجه الأجرة فذلك يفسد من أربعة أوجه: أحدها:
أن الذين أباحوا ذلك له إنما أباحوه في حال الفقر; إذ لا خلاف أن الغني
لا يجوز له أخذه, وهو نص الكتاب في قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً
فَلْيَسْتَعْفِفْ} واستحقاق الأجرة لا يختلف فيه الغني والفقير, فبطل
أن يكون أجرة من هذا الوجه. والوجه الثاني: أن الوصي لا يجوز له أن
يستأجر نفسه لليتيم. والوجه الثالث: أن الذين أباحوا ذلك لم يشرطوا له
شيئا معلوما, والإجارة لا تصح إلا بأجرة معلومة. والوجه الرابع: أن من
أباح ذلك له لم يجعله أجرة, فبطل أن يكون ذلك أجرة, وليس هو بمنزلة ربح
المضاربة إذا عمل به الوصي; لأن الربح الذي يستحقه من المال لم يكن قط
مالا لليتيم, ألا ترى أن ما يشرطه رب المال للمضارب من الربح لم يكن قط
ملكا لرب المال, ولو كان ملكا لرب المال مشروطا للمضارب بدلا من عمله
لوجب أن يكون مضمونا عليه كالأجرة التي هي مستحقة من مال المستأجر بدلا
من عمل الأجير هي مضمونة على المستأجر؟ فلما لم يكن الربح المشروط
للمضارب مضمونا على رب المال ثبت أنه لم يكن قط ملكا لرب المال, وأنه
إنما حدث على ملك المضارب ويدل على ذلك أن مريضا لو دفع مالا مضاربة
وشرط للمضارب تسعة أعشار الربح وهو أكثر من ربح مثله, أن ذلك جائز, ولم
(2/84)
يحتسب
بالمشروط للمضارب من ذلك من مال المريض إن مات من مرضه, وأن ذلك ليس
بمنزلة ما لو استأجره بأكثر من أجرة مثله فيكون ذلك من الثلث; فليس إذا
في أخذه ربح المضاربة أخذ شيء من مال اليتيم.
فإن قيل: هلا كان الوصي في ذلك كسائر العمال والقضاة الذين يعملون
ويأخذون أرزاقهم لأجل عملهم للمسلمين فكذلك الوصي إذا عمل لليتيم جاز
له أخذ رزقه بقدر عمله. قيل له: لا خلاف بين الفقهاء أن الوصي لا يجوز
له أخذ شيء من مال اليتيم لأجل عمله إذا كان غنيا, وقد حظر ذلك عليه نص
التنزيل في قوله تعالى: { وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ} ولا
خلاف مع ذلك أن القضاة والعمال جائز لهم أخذ أرزاقهم مع الغنى; فلو كان
ما أخذه ولي اليتيم من ماله يجري مجرى رزق القضاة والعمال جاز له أن
يأخذه في حال الغنى, فدل ذلك على أن ولي اليتيم لا يستحق رزقا من ماله;
ولا خلاف أيضا أن القاضي لا يجوز له أن يأخذ من مال اليتيم شيئا وإليه
القيام بأمر الأيتام, فثبت بذلك أن سائر الناس ممن لهم الولاية على
الأيتام لا يجوز لهم أخذ شيء من أموالهم لا قرضا ولا غيره كما لا يأخذه
القاضي فقيرا كان أو غنيا.
فإن قيل: فما الفرق بين رزق القاضي والعامل وبين أخذ ولي اليتيم من
ماله مقدار الكفاية وبين أخذ الأجرة؟ قيل له: إن الرزق ليس بأجرة لشيء
وإنما هو شيء جعله الله له ولكل من قام بشيء من أمور المسلمين, ألا ترى
أن الفقهاء لهم أخذ الأرزاق ولم يعملوا شيئا يجوز أخذ الأجرة عليه؟ لأن
اشتغالهم بالفتيا وتفقيه الناس فرض, ولا جائز لأحد أخذ الأجرة على
الفروض, والمقاتلة وذريتها يأخذون الأرزاق وليست بأجرة, وكذلك الخلفاء;
وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم سهم من الخمس والفيء وسهم من الغنيمة
إذا حضر القتال, وغير جائز لأحد أن يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم
قد كان يأخذ الأجر على شيء مما يقوم به من أمور الدين, وكيف يجوز ذلك
مع قول الله تعالى: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا
أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [صّ:86] { قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23]
فثبت بذلك أن الرزق ليس بأجرة. ويدلك على هذا أنه قد تجب للفقراء
والمساكين والأيتام في بيت المال الحقوق ولا يأخذونها بدلا من شيء,
فأخذ الأجرة للقاضي ولمن قام بشيء من أمور الدين غير جائز, وقد منع
القاضي أن يقبل الهدية. وسئل عبد الله بن مسعود عن قوله تعالى:
{أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} [المائدة: 42] أهو الرشا؟ قال: "لا, ذاك كفر
إنما هو هدايا العمال"; وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"هدايا الأمراء غلول". فالقاضي ممنوع من أخذ الأجرة على شيء من أمر
القضاء ومحظور عليه قبول الهدايا; وتأولها السلف على أنها السحت
المذكور في كتاب الله تعالى. وولي اليتيم لا يخلو فيما
(2/85)
يأخذه من
مال اليتيم من أن يأخذه أجرة أو على سبيل رزق القاضي والعامل, ومعلوم
أن الأجرة إنما تكون على عمل معلوم ومدة معلومة وأجر معلوم, وينبغي أن
يتقدم له عقد إجارة ويستوي فيها الغني والفقير, ومن يجيز له أخذ شيء من
مال اليتيم على وجه القرض أو على جهة غير القرض فإنه لا يجعله أجرة كما
ذكرنا ولاختلاف حكم الغني والفقير عندهم فيه; فثبت أنه ليس بأجرة ولا
يجوز له أن يأخذه على حسب ما يأخذه القضاة من الأرزاق لاستواء حال
الغني والفقير من القضاء فيما يأخذونه من الأرزاق, واختلاف الغني
والفقير عند مجيزي أخذ ذلك من مال اليتيم ولأن الرزق إنما يجب في بيت
مال المسلمين لا في مال أحد بعينه من الناس. فالمشبه لولي اليتيم فيما
يجيز له أخذ شيء من ماله بالقاضي والأجير فيما يأخذ أنه مغفل للواجب
عليه.
ويدل على أن ولي اليتيم لا يحل له أخذ شيء من ماله قول النبي صلى الله
عليه وسلم في غنائم خيبر: "لا يحل لي مما أفاء الله عليكم مثل هذه"
يعني وبرة أخذها من بعيره "إلا الخمس والخمس مردود فيكم" . فإذا كان
النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتولاه من مال المسلمين كما ذكرنا,
فالوصي فيما يتولاه من مال اليتيم أحرى أن يكون كذلك. وأيضا لما كان
دخول الوصي في الوصية على وجه التبرع من غير شرط أجرة, كان بمنزل
المستبضع فلا أجرة له ولا يحل له أخذ شيء منه قرضا ولا غيره كما لا
يجوز ذلك للمستبضع.
وقوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ
فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ}. قال أبو بكر: الآية التي تقدم ذكرها في أمر
الأيتام تدل على أن سبيل الأيتام أن يلي عليهم غيرهم في حفظ أموالهم
والتصرف عليهم فيما يعود نفعه عليهم وهم وصي الأب أو الجد إن لم يكن
وصي أب, أو وصي الجد إن لم يكن أحد من هؤلاء, أو أمين حاكم عدل بعد أن
يكون الأمين أيضا عدلا; وكذلك شرط الأوصياء والجد والأب وكل من يتصرف
على الصغير لا يستحق الولاية عليه إلا أن يكون عدلا مأمونا. فأما
الفاسق والمتهم من الآباء والمرتشي من الحكام والأوصياء والأمناء غير
المأمونين فإن واحدا من هؤلاء غير جائز له التصرف على الصغير ولا خلاف
في ذلك نعلمه, ألا ترى أنه لا خلاف بين المسلمين في أن القاضي إذا فسق
بأخذ الرشا أو ميل إلى هوى وترك الحكم أنه معزول غير جائز الحكم؟ فكذلك
حكم الله فيمن ائتمنه على أموال الأيتام من قاض أو وصي أو أمين أو
حاكم, فغير جائز ثبوت ولايته في ذلك إلا على شرط العدالة وصحة الأمانة.
وقد أمر الله أولياء الأيتام بالإشهاد عليهم بعد البلوغ بما يدفعون
إليهم من أموالهم; وفي ذلك ضروب من الأحكام: أحدها: الاحتياط لكل واحد
من اليتيم ووالي ماله, فأما اليتيم فلأنه إذا قامت عليه البينة بقبض
المال كان أبعد من أن يدعي ما ليس له, وأما الوصي فلأن يبطل دعوى
(2/86)
اليتيم
بأنه لم يدفعه إليه, كما أمر الله تعالى بالإشهاد على البيوع احتياطا
للمتبايعين. ووجه آخر في الإشهاد: وهو أنه يظهر أداء أمانته وبراءة
ساحته, كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم الملتقط بالإشهاد على اللقطة
في حديث عياض بن حمار المجاشعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من
وجد لقطة فليشهد ذوي عدل ولا يكتم ولا يغيب" , فأمره بالإشهاد لتظهر
أمانته وتزول عنه التهمة; والله الموفق
(2/87)
ذكر اختلاف الفقهاء في تصديق الوصي على دفع المال إلى اليتيم
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد في الوصي إذا ادعى
بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع المال إليه: "إنه يصدق" وكذلك لو قال:
أنفقت عليه في صغره, صدق في نفقة مثله, وكذلك لو قال: هلك المال; وهو
قول سفيان الثوري. وقال مالك: "لا يصدق الوصي أنه دفع المال إلى
اليتيم" وهو قول الشافعي, قال: "لأن الذي زعم أنه دفعه إليه غير الذي
ائتمنه كالوكيل بدفع المال إلى غيره لا يصدق إلا ببينة" وقال الله
تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا
عَلَيْهِمْ}.
قال أبو بكر: وليس في الأمر بالإشهاد دليل على أنه غير أمين ولا مصدق
فيه; لأن الإشهاد مندوب إليه في الأمانات كهو في المضمونات, ألا ترى
أنه يصح الإشهاد على رد الأمانات من الودائع كما يصح في أداء المضمونات
من الديون؟ فإذا ليس في الأمر بالإشهاد دلالة على أنه غير مصدق فيه إذا
لم يشهد.
فإن قيل: إذا كان مصدقا في الرد فما معنى الإشهاد مع قبول قوله بغير
بينة؟ قيل له: فيه ما قدمنا ذكره من ظهور أمانته والاحتياط له في زوال
التهمة عنه في أن لا يدعى عليه بعد ما قد ظهر رده, وفيه الاحتياط
لليتيم في أن لا يدعي ما يظهر كذبه فيه, وفيه أيضا سقوط اليمين عن
الوصي إذا كانت له بينة في دفعه إليه; ولو لم يشهد وادعى اليتيم أنه لم
يدفعه كان القول قول الوصي مع يمينه, وإذا أشهد فلا يمين عليه. فهذه
المعاني كلها مضمنة بالإشهاد وإن كان أمانة في يده.
ويدل على أنه مصدق فيه بغير إشهاد اتفاق الجميع على أنه مأمور بحفظه
وإمساكه على وجه الأمانة حتى يوصله إلى اليتيم في وقت استحقاقه, فهو
بمنزلة الودائع والمضاربات وما جرى مجراها من الأمانات, فوجب أن يكون
مصدقا على الرد كما يصدق على رد الوديعة. والدليل على أنه أمانة أن
اليتيم لو صدقه على الهلاك لم يضمنه, كما أن المودع إذا صدق المودع في
هلاك الوديعة لم يضمنه. وأما قول الشافعي: "إنه لما لم يأتمنهم الأيتام
لم يصدقوا". فقول ظاهر الاختلال بعيد من معاني الفقه منتقض
(2/87)
فاسد;
لأنه لو كان ما ذكره علة لنفي التصديق لوجب أن لا يصدق القاضي إذا قال
لليتيم: قد دفعته إليك; لأنه لم يأتمنه. وكذلك يلزمه أن يقول في الأب
إذا قال بعد بلوغ الصغير: "قد دفعت إليك مالك" أن لا يصدقه; لأنه لم
يأتمنه, ويلزمه أيضا أن يوجب عليهم الضمان إذا تصادقوا بعد البلوغ أنه
قد هلك; لأنه أمسك ماله من غير ائتمان له عليه. وأما تشبيهه إياه
بالوكيل بدفع المال إلى غيره فتشبيه بعيد, ومع ذلك فلا فرق بينهما من
الوجه الذي صدقنا فيه الوصي; لأن الوكيل مصدق أيضا في براءة نفسه غير
مصدق في إيجاب الضمان ودفعه إلى غيره, وإنما لم يقبل قوله على المأمور
بالدفع إليه, فأما في براءة نفسه فهو مصدق كما صدقنا الوصي على الرد
بعد البلوغ. وأيضا فإن الوصي في معنى من يتصرف على اليتيم بإذنه, ألا
ترى أنه يجوز تصرفه عليه في البيع والشرى كجواز تصرف أبيه؟ فإذا كان
إمساك الوصي المال بائتمان الأب له عليه وإذن الأب جائز على الصغير صار
كأنه ممسك له بعد البلوغ بإذنه, فلا فرق بينه وبين المودع. وقوله
تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالْأَقْرَبُونَ} الآية. قال أبو بكر: قد انتظمت هذه الجملة عموما
ومجملا, فأما العموم فقوله: "للرجال وللنساء" وقوله تعالى: {مِمَّا
تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} فذلك عموم في إيجاب الميراث
للرجال والنساء من الوالدين والأقربين, فدل من هذه الجهة على إثبات
مواريث ذوي الأرحام; لأن أحدا لا يمتنع أن يقول: إن العمات والخالات
والأخوال وأولاد البنات من الأقربين, فوجب بظاهر الآية إثبات ميراثهم.
إلا أنه لما كان قوله {نَصِيبٌ} مجملا غير مذكور المقدار في الآية
امتنع استعمال حكمه إلا بورود بيان من غيره. إلا أن الاحتجاج بظاهر
الآية في إثبات ميراث لذوي الأرحام سائغ, وهذا مثل قوله تعالى: {خُذْ
مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وقوله تعالى: {أَنْفِقُوا
مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ
الْأَرْضِ} [البقرة: 267] وقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ
حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] عطفا على ما قدم ذكره من الزرع والثمرة.
فهذه ألفاظ قد اشتملت على العموم والمجمل, فلا يمنع ما فيها من الإجمال
من الاحتجاج بعمومها متى اختلفنا فيما انتظمه لفظ العموم, وهو أصناف
الأموال الموجب فيها, وإن لم يصح الاحتجاج بما فيها من المجمل عند
اختلافنا في المقدار الواجب; كذلك متى اختلفنا في الورثة المستحقين
للميراث ساغ الاحتجاج بعموم قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا
تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} الآية; ومتى اختلفنا في
المقدار الواجب لكل واحد منهم احتجنا في إثباته إلى بيان من غيره.
فإن قيل: لما قال: {نَصِيباً مَفْرُوضاً} ولم يكن لذوي الأرحام نصيب
مفروض
(2/88)
علمنا
أنهم لم يدخلوا في مراد الآية. قيل له: ما ذكرت لا يخرجهم من حكمها
وكونهم مرادين بها; لأن الذي يجب لذوي الأرحام عند موجبي مواريثهم هو
نصيب مفروض لكل واحد منهم, وهو معلوم مقدر كأنصباء ذوي السهام لا فرق
بينهما من هذا الوجه; وإنما أبان الله تعالى أن لكل واحد من الرجال
والنساء نصيبا مفروضا غير مذكور المقدار في الآية; لأنه مؤذن ببيان
وتقدير معلوم له يرد في التالي فكما ورد البيان في نصيب الوالدين
والأولاد وذوي السهام بعضها بنص التنزيل وبعضها بنص السنة وبعضها
بإجماع الأمة وبعضها بالقياس والنظر; كذلك قد ورد بيان أنصباء ذوي
الأرحام بعضها بالسنة وبعضها بدليل الكتاب وبعضها باتفاق الأمة من حيث
أوجبت الآية لذوي الأرحام أنصباء, فلم يجز إسقاط عمومها فيهم ووجب
توريثهم بها. ثم إذا استحقوا الميراث بها كان المستحق من النصيب
المفروض على ما ذهب إليه القائلون بتوريث ذوي الأرحام فيهم, فهم وإن
كانوا مختلفين في بعضها فقد اتفقوا في البعض, وما اختلفوا فيه لم يخل
من دليل لله تعالى يدل على حكم فيه.
فإن قيل: قد روي عن قتادة وابن جريج أن الآية نزلت على سبب, وهو أن أهل
الجاهلية كانوا يورثون الذكور دون الإناث فنزلت الآية, وقال غيرهما: إن
العرب كانت لا تورث إلا من طاعن بالرمح وذاد عن الحريم والمال, فأنزل
الله تعالى هذه الآية إبطالا لحكمهم, فلا يصح اعتبار عمومها في غير ما
وردت فيه. قيل له: هذا غلط من وجوه: أحدها: أن السبب الذي ذكرت غير
مقصور على الأولاد وذوي السهام من القرابات الذين بين الله حكمهم في
غيرها, وإنما السبب أنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث, وجائز أن
يكونوا قد كانوا يورثون ذوي الأرحام من الرجال دون الإناث; فليس فيما
ذكرت إذا دليل على أن السبب كان توريث الأولاد ومن ذكرهم الله تعالى من
ذوي السهام في آية المواريث. ومن جهة أخرى أنها لو نزلت على سبب خاص لم
يوجب ذلك تخصيص عموم اللفظ, بل الحكم للعموم دون السبب عندنا, فنزولها
على سبب ونزولها مبتدأة من غير سبب سواء. وأيضا فإن الله قد ذكر مع
الأولاد غيرهم من الأقربين في قوله تعالى: {مِمَّا تَرَكَ
الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} فعلمنا أنه لم يرد به ميراث الأولاد
دون سائر الأقربين. ويحتج بهذه الآية في توريث الإخوة والأخوات مع الجد
كنحو احتجاجنا بها في توريث ذوي الأرحام.
وقوله تعالى: {نَصِيباً مَفْرُوضاً} يعني والله أعلم: معلوما مقدرا.
ويقال إن أصل الفرض الحز في القداح علامة لها يميز بينها, والفرضة
العلامة في قسم الماء يعرف بها كل ذي حق نصيبه من الشرب; فإذا كان أصل
الفرض هذا ثم نقل إلى المقادير المعلومة
(2/89)
في الشرع
أو إلى الأمور الثابتة اللازمة. وقد قيل: إن أصل الفرض الثبوت, ولذلك
سمي الحز الذي في سية القوس فرضا لثبوته; والفرض في الشرع ينقسم إلى
هذين المعنيين, فمتى أريد به الوجوب كان المفروض في أعلى مراتب
الإيجاب. وقد اختلف في معنى الفرض والواجب في الشرع من بعض الوجوه, وإن
كان كل مفروض واجبا من حيث كان الفرض يقتضي فارضا وموجبا له وليس كذلك
الواجب; لأنه قد يجب من غير إيجاب موجب له, ألا ترى أنه جائز أن يقال:
إن ثواب المطيعين واجب على الله في حكمته ولا يجوز أن يقال إنه فرض
عليه؟; إذ كان الفرض يقتضي فارضا, وقد يكون واجبا في الحكمة غير مقتض
موجبا. وأصل الوجوب في اللغة هو السقوط, يقال: وجبت الشمس إذا سقطت,
ووجب الحائط إذا سقط, وسمعت وجبة يعني سقطة, وقال الله تعالى: {فَإِذَا
وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] يعني سقطت; فالفرض في أصل اللغة أشد
تأثيرا من الواجب, وكذلك حكمهما في الشرع; إذ كان الحز الواقع ثابت
الأثر وليس كذلك الوجوب.
قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى
وَالْيَتَامَى} الآية. قال سعيد بن المسيب وأبو مالك وأبو صالح: "هي
منسوخة بالميراث". وقال ابن عباس وعطاء والحسن والشعبي وإبراهيم ومجاهد
والزهري: "إنها محكمة ليست بمنسوخة". وروى عطية عن ابن عباس: "يعني عند
قسمة الميراث, وذلك قبل أن ينزل القرآن, فأنزل الله تعالى بعد ذلك
الفرائض فأعطى كل ذي حق حقه فجعلت الصدقة فيما سمى المتوفى". ففي هذه
الرواية عن ابن عباس أنها كانت واجبة عند قسمة الميراث ثم نسخت
بالميراث, وجعلت ذلك في وصية الميت لهم. وروى عكرمة عنه: "أنها ليست
بمنسوخة, وهي في قسمة الميراث ترضخ لهم, فإن كان في المال تقصير اعتذر
إليهم", فهو قوله تعالى: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} وروى
الحجاج عن أبي إسحاق: أن أبا موسى الأشعري وعبد الرحمن بن أبي بكر كانا
يعطيان من حضر من هؤلاء. وقال قتادة عن الحسن قال: قال أبو موسى: "هي
محكمة". وروى أشعث عن ابن سيرين عن حميد بن عبد الرحمن قال: "ولي أبي
ميراثا, فأمر بشاة فذبحت ثم صنعت, ولما قسم ذلك الميراث أطعمهم ثم تلا:
{وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى} الآية".
وروى محمد بن سيرين عن عبيدة مثله, وقال: "لولا هذه الآية لكانت هذه
الشاة من مالي"1 وذكر أنه كان من مال
ـــــــ
1 قوله: "من مالي" أي من جملة مال اليتيم الذي إليه فأضافه إلى نفسه
إضافة مجازية لا حقيقية "لمصححه".
(2/90)
يتيم قد
وليه. وروى هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في هذه الآية قال: "هذه
الآية يتهاون بها الناس, وقال: هما وليان أحدهما يرث والآخر لا يرث,
والذي يرث هو الذي أمر أن يرزقهم ويعطيهم, والذي لا يرث هو الذي أمر أن
يقول لهم قولا معروفا ويقول هذا المال لقوم غيب أو لأيتام صغار ولكم
فيه حق ولسنا نملك أن نعطي منه شيئا, فهذا القول المعروف; قال: هي
محكمة وليست بمنسوخة". فحمل سعيد بن جبير قوله: {فَارْزُقُوهُمْ} على
أنهم يعطون أنصباءهم من الميراث والقول المعروف للآخرين, فكانت فائدة
الآية عنده إن حضر بعض الورثة وفيهم غائب أو صغير أنه يعطى الحاضر
نصيبه من الميراث ويمسك نصيب الغائب والصغير; فإن صح هذا التأويل فهو
حجة لقول من يقول في الوديعة "إذا كانت بين رجلين وغاب أحدهما أن
للحاضر أن يأخذ نصيبه ويمسك المودع نصيب الغائب" وهو قول أبي يوسف
ومحمد; وأبو حنيفة يقول: "لا يعطى أحد المودعين شيئا إذا كانا شريكين
فيه حتى يحضر الآخر". وروى عطاء عن سعيد بن جبير: {وَقُولُوا لَهُمْ
قَوْلاً مَعْرُوفاً} قال: "يقول عدة جميلة إن كان الورثة صغارا, يقول
أولياء الورثة لهؤلاء الذين لا يرثون من قرابة الميت واليتامى
والمساكين: إن هؤلاء الورثة صغار فإذا بلغوا أمرناهم أن يعرفوا حقكم
ويتبعوا فيه وصية ربهم".
فحصل اختلاف السلف في ذلك على أربعة أوجه: قال سعيد بن المسيب وأبو
مالك وأبو صالح: إنها منسوخة بالميراث. والثاني: رواية عكرمة عن ابن
عباس وقول عطاء والحسن والشعبي وإبراهيم ومجاهد: أنها ثابتة الحكم غير
منسوخة وهي في الميراث. والثالث, وهو قول ثالث عن ابن عباس: أنها في
وصية الميت لهؤلاء منسوخة عن الميراث; وروي نحوه عن زيد بن أسلم قال
زيد بن أسلم: "هذا شيء أمر به الموصي في الوقت الذي يوصي فيه"; واستدل
بقوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ
ذُرِّيَّةً ضِعَافاً} قال: يقول له من حضره: اتق الله وصلهم وبرهم
وأعطهم. والرابع: قول سعيد بن جبير في رواية أبي بشر عنه أن قوله:
{فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} هو الميراث نفسه {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً
مَعْرُوفاً} لغير أهل الميراث. فأما الذين قالوا: إنها منسوخة فإنه كان
عندهم على الوجوب قبل نزول الميراث, فلما نزلت المواريث وجعل لكل وارث
نصيب معلوم صار ذلك منسوخا. وأما الذين قالوا إنها ثابتة الحكم فإنه
محمول عندنا على أنهم رأوها ندبا واستحبابا لا حتما وإيجابا; لأنها لو
كانت واجبة مع كثرة قسمة المواريث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم
والصحابة ومن بعدهم لنقل وجوب ذلك واستحقاقه لهؤلاء كما نقلت المواريث
لعموم الحاجة إليه, فلما لم يثبت وجوب ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم
ولا عن الصحابة دل ذلك على أنه استحباب ليس بإيجاب; وما روي عن
(2/91)
عبد
الرحمن وعبيدة وأبي موسى في ذلك فجائز أن يكون الورثة كانوا كبارا,
فذبح الشاة من جملة المال بإذنهم; وما روي في هذا الحديث أن عبيدة قسم
ميراث أيتام فذبح شاة, فإن هذا على أنهم كانوا يتامى فكبروا; لأنهم لو
كانوا صغارا لم تصح مقاسمتهم. وتدل على أنه ندب ما روى عطاء عن سعيد بن
جبير: أن الوصي يقول لهؤلاء الحاضرين من أولي القربى وغيرهم: إن هؤلاء
الورثة صغار, ويعتذرون إليهم بمثله, ولو كانوا مستحقين له على الإيجاب
لوجب إعطاؤهم صغارا كان الورثة أو كبارا. وأيضا فإن الله تعالى قد قسم
المواريث بين الورثة وبين نصيب كل واحد منهم في آية المواريث ولم يجعل
فيها لهؤلاء شيئا, وما كان ملكا لغيره فغير جائز إزالته إلى غيره إلا
بالوجوه التي حكم الله بإزالته بها لقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً
عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"دماؤكم وأموالكم عليكم حرام" وقال: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة
من نفسه" ; وهذا كله يوجب أن يكون إعطاء هؤلاء الحاضرين عند القسمة
استحبابا لا إيجابا.
وأما قوله تعالى: {وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً} فقد روي عن
ابن عباس أنه إذا كان في المال تقصير اعتذر إليهم. وعن سعيد بن جبير
قال: يعطى الميراث أهله وهو معنى قوله تعالى: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}
في هذه الرواية ويقول لمن لا يرث: إن هذا المال لقوم غيب ولأيتام صغار
ولكم فيه حق ولسنا نملك أن نعطي منه شيئا". فمعناه عنده ضرب من
الاعتذار إليهم. وقال بعض أهل العلم: إذا أعطوهم عند القسمة شيئا لا
يمن عليهم ولا ينتهرهم ولا يسيء اللفظ فيما يخاطبهم به, لقوله تعالى:
{قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا
أَذىً} [البقرة: 263] وقوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ
وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} [الضحى:9-10].
قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ
ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ} الآية. اختلف السلف في
تأويله, فروي عن ابن عباس رواية وعن سعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة
والضحاك والسدي قالوا: "هو الرجل يحضره الموت فيقول له من يحضره: اتق
الله أعطهم صلهم برهم, ولو كانوا هم الذين يوصون لأحبوا أن يبقوا
لأولادهم", قال حبيب بن أبي ثابت: فسألت مقسما عن ذلك, فقال: لا, ولكنه
الرجل يحضره الموت فيقول له من يحضره: اتق الله وأمسك عليك مالك, ولو
كانوا ذوي قرابته لأحبوا أن يوصي لهم. فتأوله الأولون على نهي الحاضرين
عن الحض على الوصية, وتأوله مقسم على نهي من يأمره بتركها. وقال الحسن
في رواية أخرى: "هو الرجل يكون عند الميت فيقول أوص بأكثر من الثلث من
مالك". وعن ابن عباس رواية أخرى أنه قال
(2/92)
في ولاية
مال اليتيم وحفظه: "إن عليهم أن يعملوا فيه ويقولوا بمثل ما يجب أن
يعمل ويقال في أموال أيتامهم وضعاف ذريتهم بعد موتهم". وجائز أن تكون
هذه المعاني التي تأول السلف عليها الآية مرادة بها; إلا أن ما نهي عنه
من الأمر بالوصية أن النهي عنها إذا قصد المشير بذلك إلى الإضرار
بالورثة أو بالموصى لهم مما لا يرضاه هو لنفسه لو كان مكان هؤلاء, وذلك
بأن يكون المريض قليل المال له ذرية ضعفاء فيأمره الذي يحضره باستغراق
الثلث للوصية, ولو كان هو مكانه لم يرض بذلك وصية له لأجل ورثته. وهذا
يدل على أن المستحب له إذا كان له ورثة ضعفاء وهو قليل المال أن لا
يوصي بشيء ويتركه لهم أو يوصي لهم بأقل من الثلث وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم لسعد حين قال أوصي بجميع مالي؟ فقال: "لا" إلى أن رده
إلى الثلث فقال: "الثلث والثلث كثير, إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من
أن تدعهم عالة يتكففون الناس" ; فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن
الورثة إذا كانوا فقراء فترك الوصية ليستغنوا به أفضل من فعلها. وذكر
الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه كان يقول: "الأفضل لمن له مال كثير
الوصية بما يريد أن يوصي به على وجه القربة من ثلث ماله, والأفضل لمن
ليس له مال كثير أن لا يوصي منه بشيء وأن يبقيه لورثته والنهي منصرف
أيضا إلى من يأمره من الحاضرين بأن يوصي بأكثر من الثلث, على ما روي عن
الحسن; لأن ذلك لا يجوز أن يفعله لقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"الثلث كثير" ولنهيه سعدا عن الوصية بأكثر من الثلث وجائز أن يكون ما
قاله مقسم مرادا بأن يقول الحاضر: لا توص بشيء ولو كان من ذوي قرابته
لأحب أن يوصي له, فيشير عليه بما لا يرضاه لنفسه. وقد روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم معنى ذلك, حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إبراهيم
بن هاشم قال: حدثنا هدبة قال: حدثنا همام قال: حدثنا قتادة عن أنس أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما
يحب لنفسه من الخير" . وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا الحسن بن العباس
الرازي قال: حدثنا سهل بن عثمان قال: حدثنا زياد بن عبد الله عن ليث عن
طلحة عن خيثمة عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"من سره أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا
إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويحب أن يأتي إلى الناس ما يحب أن
يؤتى إليه" . قال أبو بكر: فهذا معنى قوله تعالى: {وَلْيَخْشَ
الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا
عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً}
فنهاه عز وجل أن يشير على غيره ويأمره بما لا يرضاه لنفسه ولأهله
ولورثته, وأمر الله تعالى بأن يقول الحاضرون قولا سديدا وهو العدل
والحق الذي لا خلل فيه ولا فساد في إجحاف بوارث أو حرمان لذي قرابة.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى
ظُلْماً} الآية. روي عن ابن عباس
(2/93)
وسعيد بن
جبير ومجاهد: "أنه لما نزلت هذه الآية عزل من كان في حجره يتيم طعامه
عن طعامه وشرابه عن شرابه حتى فسد, حتى أنزل الله تعالى: {وَإِنْ
تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ
الْمُصْلِحِ} [البقرة: 220] فرخص لهم في الخلطة على وجه الإصلاح". قال
أبو بكر: قد خص الله تعالى الأكل بالذكر, وسائر الأموال غير المأكول
منها محظور إتلافه من مال اليتيم كحظر المأكول منه; ولكنه خص الأكل
بالذكر; لأنه أعظم ما يبتغى له الأموال, وقد بينا ذلك ونظائره فيما قد
سلف.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} روي عن
السدي: "أن لهب النار يخرج من فمه ومسامعه وأنفه وعينيه يوم القيامة,
يعرفه كل من رآه أنه أكل مال اليتيم". وقيل: "إنه كالمثل; لأنهم يصيرون
به إلى جهنم فتمتلئ بالنار أجوافهم".
ومن جهال الحشو وأصحاب الحديث من يظن أن قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} منسوخ بقوله تعالى:
{وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة220] وقد أثبته بعضهم
في الناسخ والمنسوخ; لما روي أنه لما نزلت هذه الآية عزلوا طعام اليتيم
وشرابه حتى نزل قوله تعالى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}
[البقرة220]. وهذا القول من قائله يدل على جهله بمعنى النسخ وبما يجوز
نسخه مما لا يجوز, ولا خلاف بين المسلمين أن أكل مال اليتيم ظلما محظور
وأن الوعيد المذكور في الآية قائم فيه على اختلاف منهم في إلحاق الوعيد
به في الآخرة لا محالة أو جواز الغفران, فأما النسخ فلا يجيزه عاقل في
مثله; وجهل هذا الرجل أن الظلم لا تجوز إباحته بحال, فلا يجوز نسخ
حظره, وإنما عزل من كان في حجره يتيم من الصحابة طعامه عن طعامه; لأنه
خاف أن يأكل من مال اليتيم ما لا يستحقه فتلحقه صفة الظلم ويصير من أهل
الوعيد في الآية واحتاطوا بذلك, فلما نزل قوله تعالى: {وَإِنْ
تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة220] زال عنهم الخوف في الخلطة
بعد أن يقصدوا الإصلاح بها; وليس فيه إباحة لأكل مال اليتيم ظلما حتى
يكون ناسخا لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ
الْيَتَامَى ظُلْماً} والله أعلم.
(2/94)
باب الفرائض
قال أبو بكر: قد كان أهل الجاهلية يتوارثون بشيئين: أحدهما النسب
والآخر السبب فأما ما يستحق بالنسب فلم يكونوا يورثون الصغار ولا
الإناث وإنما يورثون من قاتل على الفرس وحاز الغنيمة, روي ذلك عن ابن
عباس وسعيد بن جبير في آخرين منهم, إلى أن أنزل الله تعالى:
{وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ}
[النساء: 127] إلى قوله تعالى: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الْوِلْدَانِ} [النساء: 127] وأنزل الله تعالى
(2/94)
قوله:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ} . وقد كانوا مقرين بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم
على ما كانوا عليه في الجاهلية في المناكحات والطلاق والميراث إلى أن
نقلوا عنه إلى غيره بالشريعة, قال ابن جريج: قلت لعطاء: أبلغك أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أقر الناس على ما أدركهم من طلاق أو نكاح أو
ميراث؟ قال: لم يبلغنا إلا ذلك. وروى حماد بن زيد عن ابن عون عن ابن
سيرين قال: "توارث المهاجرون والأنصار بنسبهم الذي كان في الجاهلية".
وقال ابن جريج عن عمرو بن شعيب قال: ما كان من نكاح أو طلاق في
الجاهلية فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقره على ذلك إلا الربا,
"فما أدرك الإسلام من ربا لم يقبض رد إلى البائع رأس ماله وطرح الربا".
وروى حماد بن زيد عن أيوب عن سعيد بن جبير قال: "بعث الله تعالى محمدا
صلى الله عليه وسلم والناس على أمر جاهليتهم إلى أن يؤمروا بشيء أو
ينهوا عنه, وإلا فهم على ما كانوا عليه من أمر جاهليتهم", وهو على ما
روي عن ابن عباس أنه قال: "الحلال ما أحل الله تعالى والحرام ما حرم
الله تعالى, وما سكت عنه فهو عفو". فقد كانوا مقرين بعد مبعث النبي صلى
الله عليه وسلم فيما لا يحظره العقل على ما كانوا عليه, وقد كانت العرب
متمسكة ببعض شرائع إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام, وقد كانوا أحدثوا
أشياء منها ما يحظره العقل نحو الشرك وعبادة الأوثان ودفن البنات وكثير
من الأشياء المقبحة في العقول, وقد كانوا على أشياء من مكارم الأخلاق
وكثير من المعاملات التي لا تحظرها العقول, فبعث الله نبيه صلى الله
عليه وسلم داعيا إلى التوحيد وترك ما تحظره العقول من عبادة الأوثان
ودفن البنات والسائبة والوصيلة والحامي وما كانوا يتقربون به إلى
أوثانهم, وتركهم فيما لم يكن العقل يحظره من المعاملات وعقود البياعات
والمناكحات والطلاق والمواريث على ما كانوا عليه; فكان ذلك جائزا منهم;
إذ ليس في العقل حظره ولم تقم حجة السمع عليهم بتحريمه, فكان أمر
مواريثهم على ما كانوا عليه من توريث الذكور المقاتلة منهم دون الصغار
ودون الإناث إلى أن أنزل الله تعالى آي المواريث. وكان السبب الذي
يتوارثون به شيئين, أحدهما: الحلف والمعاقدة, والآخر: التبني; ثم جاء
الإسلام فتركوا برهة من الدهر على ما كانوا عليه ثم نسخ, فمن الناس من
يقول إنهم كانوا يتوارثون بالحلف والمعاقدة بنص التنزيل ثم نسخ. وقال
شيبان عن قتادة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ1 أَيْمَانُكُمْ
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] قال: "كان الرجل في الجاهلية
يعاقد الرجل فيقول دمي دمك وهدمي هدمك2 وترثني وأرثك
ـــــــ
1 قوله تعالى {عَقَدَتْ} هكذا قرأ السبعة مات عدا عاصما وحمزة والكسائي
فإنهم قرأوا {عَقَدَتْ} بغير ألف لمصححه".
2 قوله: "وهدمي هدمك" الهدم بالسكون الدال وفتحها أيضا بمعنى القبر أي
أقبر حيث تقبر "لمصححه".
(2/95)
وتطلب بي
وأطلب بك" قال: "فورثوا السدس في الإسلام من جميع الأموال ثم يأخذ أهل
الميراث ميراثهم, ثم نسخ بعد ذلك فقال الله تعالى: {وَأُولُوا
الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ}
[الأنفال: 75] وروى الحسن بن عطية عن أبيه عن ابن عباس في قوله تعالى:
{وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ
نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33]: "كان الرجل في الجاهلية يحلف له الرجل
فيكون تابعا له, فإذا مات صار الميراث لأهله وأقاربه وبقي تابعه ليس له
شيء, فأنزل الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] فكان يعطى من ميراثه". وقال عطاء
عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33]: وذلك أن الرجل في الجاهلية وفي
الإسلام كان يرغب في خلة الرجل فيعاقده فيقول: ترثني وأرثك, وأيهما مات
قبل صاحبه كان للحي ما اشترط من مال الميت, فلما نزلت هذه الآية في
قسمة الميراث ولم يذكر أهل العقد جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: يا نبي الله نزلت قسمة الميراث ولم يذكر أهل العقد وقد كنت
عاقدت رجلا فمات؟ فنزلت: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ
شَهِيداً} [النساء: 33].
فأخبر هؤلاء السلف أن ميراث الحليف قد كان حكمه ثابتا في الإسلام من
طريق السمع لا من جهة إقرارهم على ما كانوا عليه من أمر الجاهلية. وقال
بعضهم: لم يكن ذلك ثابتا بالسمع من طريق الشرع وإنما كانوا مقرين على
ما كانوا عليه من أمر الجاهلية إلى أن نزلت آية المواريث فأزالت ذلك
الحكم; حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان
قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن منصور عن مجاهد
في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ
نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] قال: "كان حلفاء في الجاهلية فأمروا أن
يعطوهم نصيبهم من المشورة والعقل والنصر ولا ميراث لهم". قال: وحدثنا
أبو عبيد قال: حدثنا معاذ عن ابن عون عن عيسى بن الحارث عن عبد الله بن
الزبير في قوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى
بِبَعْضٍ} قال: "نزلت هذه الآية في العصبات, كان الرجل يعاقد الرجل
يقول: ترثني وأرثك, فنزلت: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى
بِبَعْضٍ} . قال: وحدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الله بن صالح عن
معاوية بن إبراهيم عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:
33] قال: كان الرجل يقول ترثني وأرثك, فنسختها: {وَأُولُوا
الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى
(2/96)
أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً} [الأنفال: 75] قال: إلا أن توصوا
لأوليائهم الذين عاقدوهم وصية".
فذكر هؤلاء أن ما كان من ذلك في الجاهلية نسخ بقوله تعالى: {وَأُولُوا
الْأَرْحَامِ} [الأنفال: 75] وأن قوله تعالى: {فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}
[النساء: 33] إنما أريد به الوصية أو المشورة والنصر من غير ميراث;
وأولى الأشياء بمعنى الآية تثبيت التوارث بالحلف; لأن قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:
33] يقتضي نصيبا ثابتا لهم, والعقل والمشورة والوصية ليست بنصيب ثابت,
وهو مثل قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ} المفهوم من ظاهره إثبات نصيب
من الميراث, كذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] قد اقتضى ظاهره إثبات نصيب لهم
قد استحقوه بالمعاقدة; والمشورة يستوي فيها سائر الناس فليست إذا
بنصيب, فالعقل إنما يجب على حلفائه وليس هو بنصيب له, والوصية إن لم
تكن مستحقة واجبة فليست بنصيب; فتأويل الآية على النصيب المسمى له في
عقد المحالفة أولى وأشبه بمفهوم الخطاب مما قال الآخرون. وهذا عندنا
ليس بمنسوخ, وإنما حدث وارث آخر هو أولى منهم كحدوث ابن لمن له أخ لم
يخرج الأخ من أن يكون من أهل الميراث, إلا أن الابن أولى منه, وكذلك
أولو الأرحام أولى من الحليف, فإذا لم يكن رحم ولا عصبة فالميراث لمن
حالفه وجعله له; وكذلك أجاز أصحابنا الوصية بجميع المال لمن لا وارث
له.
وأما الميراث بالدعوة والتبني فإن الرجل منهم كان يتبنى ابن غيره فينسب
إليه دون أبيه من النسب ويرثه, وقد كان ذلك حكما ثابتا في الإسلام, وقد
كان النبي صلى الله عليه وسلم تبنى زيد بن حارثة وكان يقال له زيد بن
محمد حتى أنزل الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ
رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] وقال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ
مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37]
وقال تعالى: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ
فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ
وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]. وقد كان أبو حذيفة بن عتبة تبنى سالما,
فكان يقال له سالم بن أبي حذيفة, إلى أن أنزل الله تعالى: {ادْعُوهُمْ
لِآبَائِهِمْ} رواه الزهري عن عروة عن عائشة; فنسخ الله تعالى الدعوة
بالتبني ونسخ ميراثه. حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن
محمد بن اليمان المؤدب قال: حدثنا وأبو عبيد قال: حدثنا عبد الله بن
صالح عن ليث عن عقيل عن ابن شهاب قال: أخبرني سعيد بن المسيب في قوله
تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}
[النساء: 33] قال ابن المسيب:
(2/97)
"إنما
أنزل الله تعالى ذلك في الذين كانوا يتبنون رجالا ويورثونهم, فأنزل
الله تعالى فيهم أن يجعل لهم نصيب من الوصية ورد الميراث إلى الموالي
من ذوي الرحم والعصبة, وأبى الله أن يجعل للمدعين ميراثا ممن ادعاهم,
ولكن جعل لهم نصيبا من الوصية, فكان ما تعاقدوا عليه في الميراث الذي
رد عليه أمرهم".
قال أبو بكر: وجائز أن يكون المراد بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] منتظما للحلف
والتبني جميعا; إذ كل واحد منهما يثبت بالعقد; فهذا الذي ذكرنا كان من
مواريث الجاهلية وبقي في الإسلام, بعضها بالإقرار عليه إلى أن نقلوا
عنه وبعضه بنص ورد في إثباته إلى أن ورد ما أوجب نقله.
وأما مواريث الإسلام فإنها معقودة بشيئين: أحدهما نسب, والآخر سبب ليس
بنسب; فأما المستحق بالنسب فما نص الله تعالى عليه في كتابه وبين رسوله
صلى الله عليه وسلم بعضه وأجمعت الأمة على بعضه وقامت الدلالة على بعض,
وأما السبب الذي ورث به في الإسلام فبعضه ثابت وبعضه منسوخ الحكم. فمن
الأسباب التي ورث بها في الإسلام ما ذكرنا في عقد المحالفة وميراث
الأدعياء, وقد ذكرنا حكمه ونسخ ما روي نسخه وأن ذلك عندنا ليس بنسخ
وإنما جعل وارث أولى من وارث.
وكان من الأسباب التي أوجب الله تعالى به الميراث الهجرة; حدثنا جعفر
بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو
عبيد قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني عن ابن
عباس في قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا
وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ
بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ
وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] قال:
"كان المهاجر لا يتولى الأعرابي ولا يرثه وهو مؤمن, ولا يرث الأعرابي
المهاجر, فنسختها: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى
بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75]. وقال بعضهم: نسخها قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ
جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}
[النساء: 33] وكانوا يتوارثون بالأخوة التي آخى بها رسول الله صلى الله
عليه وسلم بينهم". وروى هشام بن عروة عن أبيه: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم آخى بين الزبير بن العوام وبين كعب بن مالك, فارتث كعب يوم
أحد, فجاء به الزبير يقوده بزمام راحلته, ولو مات كعب عن الضح والريح1
لورثه الزبير, حتى أنزل الله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ
ـــــــ
1 قوله: "ولو مات كعب عن الضح والريح" أراد لو مات عما طلعت عليه الشمس
وجرت عليه الريح كنى بهما عن كثرة المال كما في لسان العرب "لمصححه".
(2/98)
فِي
كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [لأنفال: 75].
وروى ابن جريج عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "كان المهاجرون
والأنصار يرث الرجل الرجل الذي آخى بينه وبينه رسول الله صلى الله عليه
وسلم دون أخيه, فلما نزلت هذه الآية: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ
مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النساء: 33] نسخت, ثم
قال تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ
نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] من النصر, والرفادة". فذكر ابن عباس في هذا
الحديث أن قوله تعالى: {والذين عقدت أيمانكم} أريد به معاقدة الأخوة
التي آخى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم. وروى معمر عن قتادة
في قوله تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال:
72] إن المسلمين كانوا يتوارثون بالهجرة والإسلام, فكان الرجل يسلم ولا
يهاجر فلا يرث أخاه, فنسخ الله تعالى ذلك بقوله {وَأُولُوا
الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} .[لأنفال: 75] وروى جعفر بن سليمان
عن الحسن قال: كان الأعرابي المسلم لا يرث من المهاجر شيئا وإن كان ذا
قربى ليحثهم بذلك على الهجرة, فلما كثر المسلمون أنزل الله تعالى:
{وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ
اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ}. [ لأنفال : 75] فنسخت
هذه الآية تلك, { إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ
مَعْرُوفاً} [الأحزاب: 6] فرخص الله للمسلم أن يوصي لقرابته من اليهود
والنصارى والمجوس من الثلث وما دونه, {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ
مَسْطُوراً} [الأحزاب: 6] قال: مكتوبا.
فجملة ما حصل عليه التوارث بالأسباب في أول الإسلام التبني والحلف
والهجرة والمؤاخاة التي آخى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نسخ
الميراث بالتبني والهجرة والمؤاخاة; وأما الحلف فقد بينا أنه جعلت
القرابة أولى منه ولم ينسخ إذا لم تكن قرابة, وجائز أن يجعل له جميع
ماله أو بعضه ومن الأسباب التي عقد بها التوارث في الإسلام ولاء
العتاقة والزوجية وولاء الموالاة, وهو عندنا يجري مجرى الحلف, وإنما
يثبت حكمه إذا لم يكن وارث من ذي رحم أو عصبة. فجميع ما انعقدت عليه
مواريث الإسلام السبب والنسب, والسبب كان على أنحاء مختلفة: منها
المعاقدة بالحلف والتبني, والأخوة التي آخى بينهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم والهجرة والزوجية وولاء العتاقة وولاء الموالاة, فأما إيجاب
الميراث بالحلف والتبني والأخوة التي آخى بينهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم بها فمنسوخ مع وجود العصبات وذوي الأرحام, وولاء العتاقة
والموالاة والزوجية هي أسباب ثابتة يستحق بها الميراث على الترتيب
المشروط لذلك. وأما النسب الذي يستحق به الميراث فينقسم إلى أنحاء
ثلاثة: ذوو السهام والعصبات وذوو الأرحام, وسنبين ذلك في موضعه.
فأما الآيات الموجبة لميراث ذوي الأنساب من ذوي السهام والعصبات وذوي
(2/99)
الأرحام,
فقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالْأَقْرَبُونَ} وقوله تعالى: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي
الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا
كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ
وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ} [النساء: 127] نسخ بهما في
رواية عن ابن عباس وغيره من السلف ما كان عليه الأمر في توريث الرجال
المقاتلة دون الذكور الصغار والإناث.
وقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} فيه بيان للنصيب
المفروض في قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ} إلى قوله تعالى:
{نَصِيباً مَفْرُوضاً} والنصيب المفروض هو الذي بين مقداره في قوله
تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ}. وقد روي عن ابن عباس
أنه قرأ: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ
تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ}
[البقرة: 180] فقال: قد نسخ هذا قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ
مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}. وقال مجاهد: "كان
الميراث للولد وكانت الوصية للوالدين والأقربين, فنسخ الله تعالى من
ذلك ما أحب, فجعل للولد الذكر مثل حظ الأنثيين, وجعل لكل واحد من
الأبوين السدس مع الولد". قال ابن عباس: وقد كان الرجل إذا مات وخلف
زوجته اعتدت سنة كاملة في بيته ينفق عليها من تركته, وهو قوله تعالى
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً
لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة:
240] ثم نسخ ذلك بالربع أو الثمن. وقوله تعالى: {وَأُولُوا
الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] نسخ به
التوارث بالحلف وبالهجرة وبالتبني على النحو الذي بينا; وكذلك قوله
تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} هي آية محكمة غير
منسوخة, وهي موجبة لنسخ الميراث بهذه الأسباب التي ذكرنا; لأنه جعل
الميراث للمسمين فيها, فلا يبقى لأهل هذه الأسباب شيء, وذلك موجب لسقوط
حقوقهم في هذه الحال. وروى محمد بن عبد الله بن عقيل عن جابر بن عبد
الله قال: جاءت امرأة من الأنصار ببنتين لها فقالت: يا رسول الله هاتان
بنتا ثابت بن قيس قتل معك يوم أحد ولم يدع لهما عمهما مالا إلا أخذه,
فما ترى يا رسول الله؟ فوالله لا تنكحان أبدا إلا ولهما مال فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: يقضي الله في ذلك فنزلت سورة النساء:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ} الآية, فقال صلى الله عليه وسلم: ادع لي المرأة
وصاحبها فقال لعمهما: "أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك".
قال أبو بكر: قد حوى هذا الخبر معان: منها أن العم قد كان يستحق
الميراث دون البنتين على عادة أهل الجاهلية في توريث المقاتلة دون
النساء والصبيان, ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حين سألته
المرأة بل أقر الأمر على ما كان عليه وقال لها: "يقضي الله في ذلك" ثم
لما نزلت الآية أمر العم بدفع
(2/100)
نصيب
البنتين والمرأة إليهن; وهذا يدل على أن العم لم يأخذ الميراث بديا من
جهة التوقيف بل على عادة أهل الجاهلية في المواريث; لأنه لو كان كذلك
لكان إنما يستأنف فيما يحدث بعد نزول الآية وما قد مضى على حكم منصوص
متقدم لا يعترض عليه بالنسخ, فدل على أنه أخذه على حكم الجاهلية التي
لم ينقلوا عنها. وروى سفيان بن عيينة عن محمد بن المنكدر عن جابر بن
عبد الله قال: مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني فأتاني
وقد أغمي علي, فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم رش علي من وضوئه
فأفقت فقلت: يا رسول الله كيف تقضي في مالي؟ فلم يجبني بشيء حتى نزلت
آية المواريث: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}.
قال أبو بكر: ذكر في الحديث الأول قصة المرأة مع بنتيها وذكر في هذا
الحديث أن جابرا سأله عن ذلك, وجائز أن يكون الأمران جميعا قد كانا;
سألته المرأة فلم يجبها منتظرا للوحي ثم سأله جابر في حال مرضه, فنزلت
الآية وهي ثابتة الحكم مثبتة للنصيب المفروض في قوله تعالى:
{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}
الآية.
ولم يختلف أهل العلم في أن المراد بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ
فِي أَوْلادِكُمْ} أولاد الصلب, وأن ولد الولد غير داخل مع ولد الصلب,
وأنه إذا لم يكن ولد الصلب فالمراد أولاد البنين دون أولاد البنات, فقد
انتظم اللفظ أولاد الصلب وأولاد الابن إذا لم يكن ولد الصلب, وهذا يدل
على صحة قول أصحابنا فيمن أوصى لولد فلان أنه لولده لصلبه, فإن, لم يكن
له ولد لصلبه فهو لولد ابنه.
وقوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} قد أفاد أنه
إن كان ذكرا وأنثى فللذكر سهمان وللأنثى سهم, وأفاد أيضا أنهم إذا
كانوا جماعة ذكورا وإناثا أن لكل ذكر سهمين ولكل أنثى سهما, وأفاد أيضا
أنه إذا كان مع الأولاد ذوو سهام نحو الأبوين والزوج والزوجة أنهم متى
أخذوا سهامهم كان الباقي بعد السهام بين الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين
وذلك; لأن قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} اسم
للجنس يشتمل على القليل والكثير منهم, فمتى ما أخذ ذوو السهام سهامهم
كان الباقي بينهم على ما كانوا يستحقونه لو لم يكن ذو سهم.
وقوله عز وجل: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ
ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} فنص
على نصيب ما فوق الابنتين وعلى الواحدة ولم ينص على فرض الابنتين; لأن
في فحوى الآية دلالة على بيان فرضهما, وذلك لأنه قد أوجب للبنت الواحدة
مع الابن الثلث, وإذا كان لها مع الذكر الثلث كانت بأخذ الثلث مع
الأنثى أولى, وقد احتجنا إلى بيان حكم ما فوقهما; فلذلك نص على حكمه.
وأيضا لما قال الله
(2/101)
تعالى:
{لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فلو ترك ابنا وبنتا كان
للابن سهمان ثلثا المال وهو حظ الأنثيين, فدل ذلك على أن نصيب الابنتين
الثلثان; لأن الله تعالى جعل نصيب الابن مثل نصيب البنتين وهو الثلثان.
ويدل على أن للبنتين الثلثين أن الله تعالى أجرى الإخوة والأخوات مجرى
البنات وأجرى الأخت الواحدة مجرى البنت الواحدة, فقال تعالى: {إِنِ
امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا
تَرَكَ} [النساء: 176] ثم قال: { فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ
فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً
رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}
[النساء: 176] فجعل حظ الأختين كحظ ما فوقهما وهو الثلثان كما جعل حظ
الأخت كحظ البنت. وأوجب لهم إذا كانوا ذكورا وإناثا للذكر مثل حظ
الأنثيين, فوجب أن تكون الابنتان كالأختين في استحقاق الثلثين
لمساواتهما لهما في إيجاب المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين إذا لم
يكن غيرهم, كما في مساواة الأخت للبنت إذا لم يكن غيرها في استحقاق
النصف بالتسمية. وأيضا البنتان أولى بذلك; إذ كانتا أقرب إلى الميت من
الأختين, وإذا كانت الأخت بمنزلة البنت فكذلك البنتان في استحقاق
الثلثين; ويدل على ذلك حديث جابر في قصة المرأة التي أعطى النبي صلى
الله عليه وسلم فيها البنتين الثلثين والمرأة الثمن والعم ما بقي. ولم
يخالف في ذلك أحد إلا شيئا روي عن ابن عباس أنه. جعل للبنتين النصف
كنصيب الواحدة واحتج بقوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ
اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ}, وليس في ذلك دليل على أن
للابنتين النصف وإنما فيه نص على أن ما فوق ابنتين فلهن الثلثان, فإن
كان القائل بأن للابنتين الثلثين مخالفا للآية فإن الله تعالى قد جعل
للابنة النصف إذا كانت وحدها, وأنت جعلت للابنتين النصف وذلك خلاف
الآية, فإن لم تلزمه مخالفة الآية حين جعل للابنتين النصف وإن كان الله
قد جعل للواحدة النصف فكذلك لا تلزم مخالفيه مخالفة الآية في جعلهم
للابنتين الثلثين; لأن الله تعالى لم ينف بقوله تعالى: {فَإِنْ كُنَّ
نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} أن يكون
للابنتين الثلثان وإنما نص على حكم ما فوقهما, وقد دل على حكمهما في
فحوى الآية على النحو الذي بينا وما ذكرناه من دلالة حكم الأختين على
حكم الابنتين على ما ذكرنا. وقد قيل إن قوله تعالى: {فإن كن نساء فوق
اثنتين} أن ذكر" فوق" ههنا صلة للكلام, كقوله تعالى: {فَاضْرِبُوا
فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} [الأنفال: 12].
قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ
مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ} يوجب ظاهره أن يكون لكل واحد منهما
السدس مع الولد ذكرا كان الولد أو أنثى; لأن اسم الولد ينتظمهما, إلا
أنه لا خلاف إذا كان الولد بنتا لا تستحق أكثر من النصف لقوله تعالى:
{وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} فوجب أن تعطى النصف بحكم
النص,
(2/102)
ويكون
للأبوين لكل واحد السدس بنص التنزيل, ويبقى السدس يستحقه الأب
بالتعصيب; فاجتمع ههنا للأب الاستحقاق بالتسمية وبالتعصيب جميعا; وإن
كان الولد ذكرا فللأبوين السدسان بحكم النص; والباقي للابن; لأنه أقرب
تعصيبا من الأب. وقال تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ
وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فأثبت الميراث للأبوين
بعموم اللفظ ثم فصل نصيب الأم وبين مقداره بقوله: {فَلِأُمِّهِ
الثُّلُثُ} ولم يذكر نصيب الأب فاقتضى ظاهر اللفظ للأب الثلثين; إذ ليس
هناك مستحق غيره وقد أثبت الميراث لهما بديا وقد كان ظاهر اللفظ يقتضي
المساواة لو اقتصر على قوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} دون تفصيل
نصيب الأم, فلما قصر نصيب الأم على الثلاث علم أن المستحق للأب
الثلثان.
قوله تعالى: { فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} قال
علي وعبد الله بن مسعود وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت
وسائر أهل العلم: "إذا ترك أخوين وأبوين فلأمه السدس وما بقي فلأبيه"
وحجبوا الأم عن الثلث إلى السدس كحجبهم لها بثلاثة إخوة. وقال ابن
عباس: "للأم الثلث" وكان لا يحجبها إلا بثلاثة من الإخوة والأخوات.
وروى معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: "إذا ترك أبوين وثلاثة
إخوة فللأم السدس وللإخوة السدس الذي حجبوا الأم عنه وما بقي فللأب".
وروي عنه: "أنه إن كان الإخوة من قبل الأم فالسدس لهم خاصة, وإن كانوا
من قبل الأب والأم أو من قبل الأب لم يكن لهم شيء وكان ما بعد السدس
للأب". والحجة للقول الأول أن اسم الإخوة قد يقع على الاثنين كما قال
تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}
[التحريم: 4] وهما قلبان; وقال تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ
الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [صّ:21] ثم قال تعالى:
{خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [صّ: 22] فأطلق لفظ الجمع
على اثنين; وقال تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً
فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} فلو كان أخا وأختا كان حكم
الآية جاريا فيهما وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"اثنان فما فوقهما جماعة" , ولأن الاثنين إلى الثلاثة في حكم الجمع
أقرب منهما إلى الواحد; لأن لفظ الجمع موجود فيهما نحو قولك: "قاما
وقعدا وقاموا وقعدوا" كل ذلك جائز في الاثنين والثلاثة1 ولا يجوز مثله
في الواحد, فلما كان الاثنان في حكم اللفظ أقرب إلى الثلاثة منهما إلى
الواحد وجب إلحاقهما بالثلاثة دون الواحد. وقد روى عبد الرحمن بن أبي
الزناد عن أبيه عن خارجة بن زيد عن أبيه, أنه كان يحجب الأم
ـــــــ
1 قوله: "والثلاثة" فيه تأمل. "لمصححه".
(2/103)
بالأخوين,
فقالوا له: يا أبا سعيد إن الله تعالى يقول: {فَإِنْ كَانَ لَهُ
إِخْوَةٌ} وأنت تحجبها بالأخوين فقال: إن العرب تسمي الأخوين إخوة.
فإذا كان زيد بن ثابت قد حكى عن العرب أنها تسمي الأخوين إخوة, فقد ثبت
أن ذلك اسم لهما فيتناولهما اللفظ. وأيضا قد ثبت أن حكم الأختين حكم
الثلاث في استحقاق الثلثين بنص التنزيل في قوله تعالى: {وَإِنْ
كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ } وكذلك
حكم الأختين من الأم حكم الثلاث في استحقاق الثلث دون حكم الواحدة,
فوجب أن يكون حكمهما حكم الثلاث في حجب الأم عن الثلث إلى السدس; إذ
كان حكم كل واحد من ذلك حكما متعلقا بالجمع فاستوى فيه حكم الاثنين
والثلاث وروي عن قتادة أنه قال: "إنما يحجب الإخوة الأم من غير أن
يرثوا مع الأب; لأنه يقوم بنكاحهم والنفقة عليهم دون الأم" وهذه العلة
إنما هي مقصورة على الإخوة من الأب والأم والإخوة من الأب, فأما الإخوة
من الأم فليس إلى الأب شيء من أمرهم وهم يحجبون أيضا كما يحجب الإخوة
من الأب والأم, ولا خلاف بين الصحابة في ثلاثة إخوة وأبوين أن للأم
السدس وما بقي فللأب; إلا شيئا يروى عن ابن عباس. وروى عبد الرزاق عن
معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس: "أن للأم السدس وللإخوة السدس
الذي حجبوا الأم عنه وما بقي فللأب, وكان لا يحجب بمن لا يرث, فلما حجب
الأم بالإخوة ورثهم". وهو قول شاذ وظاهر القرآن خلافه; لأنه تعالى قال:
{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} ثم قال تعالى: {فَإِنْ
كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} عطفا على قوله تعالى:
{وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ} تقديره: وورثه أبواه وله إخوة; وذلك يمنع أن
يكون للإخوة شيء.
قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}. الدين
مؤخر في اللفظ وهو مبتدأ به في المعنى على الوصية; لأن" أو" لا توجب
الترتيب وإنما هي لأحد شيئين, فكأنه قيل: من بعد أحد هذين. وقد روي عن
علي كرم الله وجهه أنه قال: "ذكر الله الوصية قبل الدين وهي بعده" يعني
أنها مقدمة في اللفظ مؤخرة في المعنى.
قوله تعالى: { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} الآية. هذا
نص متفق على تأويله كاتفاقهم على تنزيله, وأن الولد الذكر والأنثى في
ذلك سواء يحجب الزوج عن النصف إلى الربع والزوجة من الربع إلى الثمن
إذا كان الولد من أهل الميراث. ولم يختلفوا أيضا أن ولد الابن بمنزلة
ولد الصلب في حجب الزوج والمرأة عن النصيب الأكثر إلى الأقل إذا لم يكن
ولد الصلب.
قوله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ
أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} قيل إن معناه: لا تعلمون أيهم أقرب لكم نفعا
في الدين والدنيا والله يعلمه فاقسموه على
(2/104)
ما بينه;
إذ هو عالم بالمصالح. وقيل إن معناه: آباؤكم وأبناؤكم متقاربون في
النفع حتى لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا, إذ كنتم تنتفعون بآبائكم في
حال الصغر وتنتفعون بأبنائكم عند الكبر, ففرض ذلك في أموالكم للآباء
والأبناء علما منه بمصالح الجميع. وقيل: لا يدري أحدكم أهو أقرب وفاة
فينتفع ولده بماله, أم الولد أقرب وفاة فينتفع الأب والأم بماله, ففرض
في مواريثكم ما فرض علما منه وحكما.
وقد اختلف السلف في الحجب بمن لا يرث, وهو أن يخلف الحر المسلم أبوين
حرين مسلمين وأخوين كافرين أو مملوكين أو قاتلين, فقال علي وعمر وزيد:
"للأم الثلث وما بقي فللأب, وكذلك المسلمة إذا تركت زوجا وابنا كافرا
أو مملوكا أو قاتلا, أو الرجل ترك امرأة وابنا كذلك أنهم لا يحجبون
الزوج ولا المرأة عن نصيبهما الأكثر إلى الأقل" وهو قول أبي حنيفة وأبي
يوسف ومحمد ومالك والثوري والشافعي. وقال عبد الله بن مسعود: "يحجبون
وإن لم يرثوا". وقال الأوزاعي والحسن بن صالح: "المملوك والكافر لا
يرثان ولا يحجبان والقاتل لا يرث ويحجب".
قال أبو بكر: لا خلاف أن الأب الكافر لا يحجب ابنه من ميراث جده وأنه
بمنزلة الميت, فكذلك في حكم حجب الأم والزوج والزوجة. واحتج من حجب
بظاهر قوله تعالى: { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} ولم يفرق بين الكافر
والمسلم. فيقال له: فلم حجبت به الأم دون الأب والله تعالى إنما حجبهما
جميعا بالولد بقوله تعالى: {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ
مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} ؟ فإن جاز أن لا يحجب الأب
وجعلت قوله تعالى: {إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} على ولد يجوز الميراث,
فكذلك حكمه في الأم.
قوله تعالى: {وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ} إلى قوله تعالى:
{فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}. قد دل على أنهن إذا كن أربعا
يشتركن في الثمن, وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
وقد اختلف السلف في ميراث الأبوين مع الزوج والزوجة, فقال علي وعمر
وعبد الله بن مسعود وعثمان وزيد: "للزوجة الربع وللأم ثلث ما بقي وما
بقي فللأب, وللزوج النصف وللأم ثلث ما بقي وما بقي فللأب". وقال ابن
عباس: "للزوج والزوجة ميراثهما وللأم الثلث كاملا وما بقي فللأب" وقال:
"لا أجد في كتاب الله تعالى ثلث ما بقي" وعن ابن سيرين مثل قول ابن
عباس; وروي أنه تابعه في المرأة والأبوين وخالفه في الزوج والأبوين,
لتفضيله الأم على الأب. والصحابة ومن بعدهم من التابعين وفقهاء الأمصار
على القول الأول, إلا ما حكينا عن ابن عباس وابن سيرين وظاهر القرآن
يدل
(2/105)
عليه;
لأنه قال: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ
فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} فجعل الميراث بينهما أثلاثا كما جعله أثلاثا
بين الابن والبنت في قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ} وجعله بين الأخ والأخت أثلاثا بقوله تعالى: {وَإِنْ
كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ} ثم لما سمى للزوج والزوجة ما سمى لهما وأخذا نصيبهما
كان الباقي بين الابن والبنتين على ما كان قبل دخولهما, وكذلك بين الأخ
والأخت, وجب أن يكون أخذ الزوج والزوجة نصيبهما موجبا للباقي بين
الأبوين على ما استحقاه أثلاثا قبل دخولهما; وأيضا هما كشريكين بينهما
مال إذا استحق منه شيء كان الباقي بينهما على ما استحقاه بديا; والله
أعلم بالصواب
(2/106)
باب ميراث أولاد الابن
قال أبو بكر رضي الله عنه: قد بينا أن قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ
فِي أَوْلادِكُمْ} قد أريد به أولاد الصلب وأولاد الابن إذا لم يكن ولد
الصلب; إذ لا خلاف أن من ترك بني ابن وبنات ابن أن المال بينهم للذكر
مثل حظ الأنثيين بحكم الآية, وكذلك لو ترك بنت ابن كان لها النصف وإن
كن جماعة كان لهن الثلثان على سهام ميراث ولد الصلب, فثبت بذلك أن
أولاد الذكور مرادون بالآية.
واسم الولد يتناول أولاد الابن كما يتناول أولاد الصلب, قال الله
تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} ولا يمتنع أحد أن يقول إن النبي صلى الله
عليه وسلم من ولد هاشم ومن ولد عبد المطلب, فثبت بذلك أن اسم الأولاد
يقع على ولد الابن وعلى ولد الصلب جميعا; إلا أن أولاد الصلب يقع عليهم
هذا الاسم حقيقة ويقع على أولاد الابن مجازا, ولذلك لم يرادوا في حال
وجود أولاد الصلب ولم يشاركوهم في سهامهم, وإنما يستحقون ذلك في أحد
حالين: إما أن يعدم ولد الصلب رأسا فيقومون مقامهم, وإما أن لا يحوز
ولد الصلب الميراث فيستحقون بعض الفضل أو جميعه, فإما أن يستحقوا من
أولاد الصلب على وجه الشركة بينهم كما يستحقه ولد الصلب بعضهم مع بعض
فليس كذلك.
فإن قيل: لما كان الاسم يتناول ولد الصلب حقيقة وولد الابن مجازا لم
يجز أن يرادوا بلفظ واحد لامتناع كون لفظ واحد حقيقة ومجازا. قيل له:
إنهم لم يرادوا بلفظ واحد في حال واحدة متى وجد أولاد الصلب, فإن ولد
الابن لا يستحقون الميراث معهم بالآية وليس يمتنع أن يراد ولد الصلب في
حال وجودهم وولد الابن في حال عدم ولد الصلب, فيكون اللفظ مستعملا في
حالين في إحداهما هو حقيقة وفي الأخرى هو مجاز ولو أن رجلا قال: "قد
أوصيت بثلث مالي لولد فلان وفلان" وكان لأحدهما
(2/106)
أولاد
لصلبه ولم يكن للآخر ولد لصلبه وكان له أولاد ابن, كانت الوصية لولد
فلان لصلبه ولأولاد أولاد فلان, ولم يمتنع دخول أولاد بنيه في الوصية
مع أولاد الآخر لصلبه وإنما يمتنع دخول ولد فلان لصلبه وولد ولده معه,
فأما ولد غيره لغير صلبه فغير ممتنع دخوله مع أولاد الآخر لصلبه; فكذلك
قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} يقتضي ولد الصلب
لكل واحد من المذكورين إذا كان ولا يدخل معه ولد الابن, ومن ليس له ولد
لصلبه وله ولد ابن دخل في اللفظ ولد ابنه. وإنما جاز ذلك; لأن قوله
تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} خطاب لكل واحد من الناس,
فكان كل واحد منهم مخاطبا به على حياله; فمن له منهم ولد لصلبه تناوله
اللفظ على حقيقته ولم يتناول ذلك ولد ابنه, ومن ليس له ولد لصلبه وله
ولد ابن فهو مخاطب بذلك على حياله, فيتناول ولد ابنه.
فإن قيل: إن اسم الولد يقع على كل واحد من ولد الصلب وولد الابن حقيقة
لم يبعد; إذ كان الجميع منسوبين إليه من جهة ولادته, ونسبه متصل به من
هذا الوجه فيتناول الجميع, كالأخوة لما كان اسما لاتصال النسب بينه
وبينه من جهة أحد أبويه شمل الاسم الجميع وكان عموما فيهم جميعا, سواء
كانوا لأب وأم أو لأب أو لأم. ويدل عليه أن قوله تعالى: {وَحَلائِلُ
أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} قد عقل به حليلة ابن الابن
كما عقل حليلة ابن الصلب فإذا ترك بنتا وبنت ابن فللبنت النصف بالتسمية
ولبنت الابن السدس وما بقي للعصبة. فإن ترك بنتين وبنت ابن وابن ابن,
فللبنتين الثلثان والباقي لابن الابن وبنت الابن بينهما للذكر مثل حظ
الأنثيين. وكذلك لو كانت بنتين وبنات ابن وابن ابن ابن أسفل منهن كان
للبنات الثلثان وما بقي فبين بنات الابن ومن هو أسفل منهن من بني ابن
الابن للذكر مثل حظ الأنثيين. وهذا قول أهل العلم جميعا من الصحابة
والتابعين, إلا ما روي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يجعل الباقي لابن
الابن وإن سفل ولا يعطي بنات الابن شيئا إذا استكمل البنات الثلثين,
وإنما كان يجعل لبنات الابن تكملة الثلثين مثل أن يترك بنتا وبنات ابن
فيكون للبنت النصف ولبنات الابن السدس تكملة الثلثين, فإن كان معهن ابن
ابن لم يعط بنات الابن أكثر من السدس; وكذلك قوله في الأخوات من الأب
مع الأخوات من الأب والأم; وذهب في ذلك إلى أن إناث ولد الابن لو كن
وحدهن لم يأخذن شيئا بعد استيفاء البنات الثلثين, فكذلك إذا كان لهن أخ
لم يكن لهن شيء, ألا ترى أنه لو كان ابن عم مع إحداهن لم يأخذن شيئا.
وليس هذا عند الجماعة كذلك; لأن بنات الابن يأخذن تارة بالفرض وتارة
بالتعصيب, وأخوهن ومن هو أسفل منهن يعصبهن, كبنات الصلب يأخذن تارة
بالفرض وتارة
(2/107)
بالتعصيب;
فلو انفرد البنات لم يأخذن أكثر من الثلثين وإن كثرن, ولو كان معهن أخ
لهن وهن عشر كان لهن خمسة أسداس المال, فيأخذن في حال كون الأخ معهن
أكثر مما يأخذن في حال الانفراد; فكذلك حكم بنات الابن إذا استوفى بنات
الصلب الثلثين لم يبق لهن فرض, فإن كان معهن أخ صرن عصبة معه ووجب قسمة
الثلث الباقي بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. وكذلك قالوا في بنتين وبنت
ابن وأخت, أن للبنتين الثلثين والباقي للأخت ولا شيء لبنت الابن; لأنها
لو أخذت في هذه الحال التي ليس معها ذكر كانت مستحقة بفرض البنات,
والبنات قد استوعبن الثلثين, فلم يبق من فرض البنات شيء تأخذه, فكانت
الأخت أولى; لأنها عصبة مع البنات, فما تأخذه الأخت في هذه الحال فإنما
تأخذه بالتعصيب; فإذا كان مع بنت الابن أخ لها كان الباقي بعد الثلثين
بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ولا شيء للأخت.
وقد حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عبد الله بن
عامر بن زرارة قال: حدثنا علي بن مسهر عن الأعمش عن ابن قيس الأودي عن
هزيل بن شرحبيل الأودي قال: جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري وسلمان بن
ربيعة فسألهما عن بنت وبنت ابن وأخت لأب وأم, فقالا: "للبنت النصف
وللأخت النصف ولم يورثا بنت الابن شيئا وأت ابن مسعود فإنه سيتابعنا"
فأتاه الرجل فسأله وأخبره بقولهما, فقال: "لقد ضللت إذا وما أنا من
المهتدين, ولكن "أقضي فيها بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: لابنته
النصف ولابن الابن السدس تكملة الثلثين, وما بقي فللأخت من الأب
والأم". فهذا السدس تأخذه بنت الابن بالفرض لا بالتعصيب لم يختلفوا فيه
إلا ما روي عن أبي موسى الأشعري وسلمان بن ربيعة وهو الآن اتفاق. ثم لم
يخالفهم عبد الله لو كان معها أخ أن للبنت النصف وما بقي فبين بنت
الابن وابن الابن للذكر مثل حظ الأنثيين, وأنها لا تعطى السدس في هذه
الحال كما أعطيت إذا لم يكن معها أخ; ففي هذا دليل على أن بنت الابن
تستحق تارة بالفرض وتارة بالتعصيب مع إخوتها كفرائض بنات الصلب. ومن
قول عبد الله في بنت وبنات ابن وابن ابن أن للبنت النصف وما بقي فبين
بنات الابن وابن الابن للذكر مثل حظ الأنثيين ما لم تزد أنصباء بنات
الابن على السدس فلا يعطيهن أكثر من السدس; فلم يعتبر الفرض على حدة في
هذه الحال ولا التعصيب على حدة, ولكنه اعتبر التسمية في منع الزيادة
على السدس واعتبر المقاسمة في النقصان, وهو خلاف القياس والله أعلم
بالصواب.
(2/108)
باب الكلالة
قال الله عز وجل: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ
امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ
(2/108)
وَاحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ}. قال أبو بكر: الميت نفسه يسمى كلالة وبعض من
يرثه يسمى كلالة وقوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً}
يدل على أن الكلالة ههنا اسم الميت والكلالة حاله وصفته, ولذلك انتصب
وروى السميط بن عمير أن عمر رضي الله عنه قال: "أتى علي زمان وما أدري
ما الكلالة, وإنما الكلالة ما خلا الولد والوالد" وروي عاصم الأحول عن
الشعبي قال: قال أبو بكر رضي الله عنه: "الكلالة ما خلا الولد والوالد"
فلما طعن عمر رضي الله عنه قال: "رأيت أن الكلالة من لا ولد له ولا
والد, وإني لأستحيي الله أن أخالف أبا بكر1; هو ما عدا الوالد والولد".
وروى طاوس عن ابن عباس قال: "كنت آخر الناس عهدا بعمر بن الخطاب فسمعته
يقول: القول ما قلت, قلت: وما قلت؟ قال: الكلالة من لا ولد له". وروى
سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن الحسن بن محمد قال: سألت ابن عباس
عن الكلالة فقال: "من لا ولد له ولا والد" قال: قلت: فإن الله تعالى
يقول في كتابه: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ
أُخْتٌ} [النساء: 176] فغضب وانتهرني.
فظاهر الآية وقول من ذكرناهم من الصحابة يدل على أن الميت نفسه يسمى
كلالة; لأنهم قالوا: "الكلالة من لا والد له ولا ولد" وقال بعضهم:
"الكلالة من لا ولد له" وهذه صفة الموروث الميت; لأنه معلوم أنهم لم
يريدوا أن الكلالة هو الوارث الذي لا ولد له ولا والد, إذ كان وجود
الولد والوالد للوارث لا يغير حكم ميراثه من موروثه وإنما يتغير حكم
الميراث بوجود هذه الصفة للميت المورث.
والذي يدل على أن اسم الكلالة قد يقع على بعض الوارثين, ما رواه شعبة
عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: "أتاني رسول الله صلى
الله عليه وسلم يعودني وأنا مريض, فقلت: يا رسول الله كيف الميراث
فإنما يرثني كلالة؟ فنزلت آية الفرائض"; وهذا الحرف تفرد به شعبة في
رواية محمد بن المنكدر; فأخبر جابر أن الكلالة ورثته ولم ينكر عليه
النبي صلى الله عليه وسلم وروى ابن عون عن عمرو بن سعيد عن حميد بن عبد
الرحمن قال: حدثنا رجل من بني سعد: "أن سعدا مرض بمكة فقال: يا رسول
الله ليس لي وارث إلا كلالة"; فأخبر في هذا الخبر أيضا أن الكلالة هم
الورثة وحديث سعد متقدم لحديث جابر; لأن مرضه كان بمكة وليس فيه ذكر
الآية, فقال قوم: كان في حجة الوداع, وقال قوم: كان في عام الفتح;
ويقال إن الصحيح أنه كان في عام الفتح, وحديث جابر كان بالمدينة في
ـــــــ
1 قوله: "أن أخالف أبا بكر" يعني أن أبا بكر رضي الله عنه ذهب إلى أن
الكلالة اسم لما عدا الولد والولد من الورثة وعمر رضي الله عنه كان
يقول اسم للمورث الذي مات عن غير والد وولد ثم رجع إلى قول أبي بكر رضي
الله عنها "لمصححه".
(2/109)
آخر أيام
النبي صلى الله عليه وسلم وروى شعبة عن أبي إسحاق, عن البراء قال: "آخر
آية نزلت: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} وآخر سورة نزلت
براءة". قال يحيى بن آدم: وقد بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال للذي سأله عن الكلالة: "يكفيك آية الصيف" وهي قوله تعالى:
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ } [النساء:
176] لأنها نزلت في الصيف ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى
مكة, ونزلت عليه آية الحج: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}
[آل عمران: 97] وهي آخر آية نزلت بالمدينة, ثم خرج إلى مكة فنزلت عليه
بعرفة يوم عرفة: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]
الآية, ثم نزلت عليه من الغد يوم النحر: {وَاتَّقُوا يَوْماً
تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] هذه الآية, ثم لم ينزل
عليه شيء بعدها حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها; هكذا
سمعنا. قال يحيى: وفي حديث آخر أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه
وسلم عن الكلالة, فقال: "من مات وليس له ولد ولا والد فورثته كلالة" .
قال أبو بكر: ولم يذكر تاريخ الأخبار والآي; لأن الحكم يتغير فيما
ذكرنا بالتاريخ, ولكنه لما جرى ذكر الآي والأخبار اتصل ذلك بها, وإنما
أردنا بذلك أن نبين أن اسم الكلالة يتناول الميت تارة وبعض الورثة تارة
أخرى.
وقد اختلف السلف في الكلالة, فروى جرير عن أبي إسحاق الشيباني عن عمرو
بن مرة عن سعيد بن المسيب, أن عمر بن الخطاب سأل رسول الله صلى الله
عليه وسلم: كيف يورث الكلالة؟ قال: "أوليس قد بين الله تعالى ذلك؟" ثم
قرأ: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} إلى آخر
الآية, فأنزل الله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ
فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176] إلى آخرها; قال: فكأن عمر لم يفهم,
فقال لحفصة: إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب نفس فسليه
عنها فرأت منه طيب نفس فسألته عنها, فقال: "أبوك كتب لك هذا؟ ما أرى
أباك يعلمها أبدا"; قال: فكان عمر يقول: ما أراني أعلمها أبدا وقد قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال.
(2/110)
مطلب: في قول عمر: "ثلاث لأن يكون بينهن لنا أحب إلي من الدنيا وما
فيها
...
مطلب: في قول عمر: "ثلاث لأن يكون بينهن لنا أحب إلي من الدنميا وما
فيها".
وروى سفيان عن عمرو بن مرة عن مرة قال: قال عمر: "ثلاث لأن يكون بينهن
لنا أحب إلي من الدنيا وما فيها: الكلالة والخلافة والربا" وروى قتادة
عن سالم بن أبي الجعد عن معدان بن أبي طلحة قال: قال عمر: ما سألت رسول
الله صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألته عن الكلالة, حتى طعن
بأصبعه في صدري ثم قال: "يكفيك آية الصيف"
(2/110)
وروي عن
عمر أنه قال عند موته: "اعلموا أني لم أقل في الكلالة شيئا".
فهذه الأخبار التي ذكرنا تدل على أنه لم يقطع فيها بشيء وأن معناها
والمراد بها كان ملتبسا عليه.
قال سعيد بن المسيب: كان عمر كتب كتابا في الكلالة, فلما حضرته الوفاة
محاه وقال: "ترون فيه رأيكم "; فهذه إحدى الروايات عن عمر, وروي عنه
أنه قال: "الكلالة من لا ولد له ولا والد" وروي عنه أن الكلالة من لا
ولد له. وروي عن أبي بكر الصديق وعلي وابن عباس في إحدى الروايتين: "أن
الكلالة ما عدا الوالد والولد" وروى محمد بن سالم عن الشعبي عن ابن
مسعود أنه قال: "الكلالة ما خلا الوالد والولد" وعن زيد بن ثابت مثله
وروي عن ابن عباس رواية أخرى: "أن الكلالة ما خلا الولد".
قال أبو بكر: اتفقت الصحابة على أن الولد ليس من الكلالة, واختلفوا في
الوالد, فقال الجمهور: "الوالد خارج من الكلالة". وقال ابن عباس في
إحدى الروايتين مثله, وفي رواية أخرى أن الكلالة ما عدا الولد. فلما
اختلف السلف فيهما على هذه الوجوه وسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم
عن معناها فوكله إلى حكم الآية وما في مضمونها, وهي قوله تعالى:
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:
176] وقد كان عمر رجلا من أهل اللسان لا يخفى عليه ما طريق معرفته
اللغة; ثبت أن معنى اسم الكلالة غير مفهوم من اللغة وأنه من متشابه
الآي التي أمرنا الله تعالى بالاستدلال على معناه بالمحكم ورده إليه;
ولذلك لم يجب النبي صلى الله عليه وسلم عمر عن سؤاله في معنى الكلالة
ووكله إلى استنباطه والاستدلال عليه. وفي ذلك ضروب من الدلالة على
المعاني. أحدها: أن بمسألته إياه لم يلزمه توقيفه على معناها من طريق
النص; لأنه لو كان واجبا عليه توقيفه على معناها لما أخلاه النبي صلى
الله عليه وسلم من بيانها وذلك أنه لم يكن أمر الكلالة في الحال التي
سأل عنها حادثة تلزمه تنفيذ حكمها في الحال, ولو كان كذلك لما أخلاه من
بيانها, وإنما سأله سؤال مستفهم مسترشد لمعنى الآية من طريق النص, ولم
يكن على النبي صلى الله عليه وسلم توقيف الناس على جليل الأحكام
ودقيقها; لأن منها ما هو مذكور باسمه وصفته ومنها ما هو مدلول عليه
بدلالة مفضية إلى العلم به لا احتمال فيه ومنها ما هو موكول إلى اجتهاد
الرأي, فرد النبي صلى الله عليه وسلم عمر إلى اجتهاده; وهذا يدل على
أنه رآه من أهل الاجتهاد, وأنه ممن قال الله تعالى: {لَعَلِمَهُ
الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] وفيه الدلالة على
تسويغ اجتهاد الرأي في الأحكام وأنه أصل يرجع إليه في أحكام الحوادث
والاستدلال على معاني الآي المتشابهة وبنائها على المحكم; واتفاق
الصحابة أيضا على تسوية الاجتهاد في استخراج معاني الكلالة يدل على
ذلك, ألا ترى أن بعضهم قال: "هو من لا
(2/111)
ولد له
ولا والد" وقال بعضهم: "من لا ولد له" وأجاب عمر بأجوبة مختلفة ووقف
فيها في بعض الأحوال ولم ينكر بعضهم على بعض الكلام فيها بما أداه إليه
اجتهاده؟ وفي ذلك دليل على اتفاقهم على تسويغ الاجتهاد في الأحكام.
(2/112)
مطلب: في قوله عليه السلام: "من قال في القوآن برأيهى فأصاب فقد أخطأ"
ويدل على أن ما روى أبو عمران الجوني عن جندب قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: { من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ;} إنما هو
فيمن قال فيه بما سنح في وهمه وخطر على باله من غير استدلال عليه
بالأصول, وأن من استدل على حكمه واستنبط معناه فحمله على المحكم المتفق
على معناه فهو ممدوح مأجور ممن قال الله تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83].
وقد تكلم أهل اللغة في معنى الكلالة, قال أبو عبيدة معمر بن المثنى:
"الكلالة كل من لم يرثه أب ولا ابن فهو عند العرب كلالة, مصدر من تكلله
النسب أي تعطف النسب عليه" قال أبو عبيدة: "من قرأها يورث بالكسر أراد
من ليس بولد ولا والد". قال أبو بكر والذي قرأه بالكسر الحسن وأبو رجاء
العطاردي.
قال أبو بكر: وقد قيل إن الكلالة في أصل اللغة هو الإحاطة, فمنه
الإكليل لإحاطته بالرأس, ومنه الكل لإحاطته بما يدخل عليه; فالكلالة في
النسب من أحاط بالولد والوالد من الإخوة والأخوات وتكللهما وتعطف
عليهما, والولد والوالد ليسا بكلالة; لأن أصل النسب وعموده الذي إليه
ينتهي هو الولد والوالد, ومن سواهما فهو خارج عنهما وإنما يشتمل عليهما
بالانتساب عن غير جهة الولادة ممن نسب إليه كالإكليل المشتمل على الرأس
وهذا يدل على صحة قول من تأولها على من عدا الوالد والولد وأن الولد
إذا لم يكن من الكلالة كذلك الوالد; لأن نسبة كل واحد منهما إلى الميت
من طريق الولادة وليس كذلك الإخوة والأخوات; لأن نسب كل واحد منهما لا
يرجع إلى الميت من طريق ولاد بينهما ويشبه أن يكون من تأوله على من عدا
الولد وأخرج الولد وحده من الكلالة, أن الولد من الوالد وكأنه بعضه
وليس الوالد من الولد كما ليس الأخ والأخت ممن ينسب إليه بالأخوة,
فاعتبر من قال ذلك الكلالة بمن لا ينسب إليه بأنه منه وبعضه, فأما من
كانت نسبته إلى الميت من حيث هو منه فليس بكلالة.
وقد كان اسم الكلالة مشهورا في الجاهلية, قال عامر بن الطفيل:
فإني وإن كنت ابن فارس عامر ... وفي السر منها والصريح المهذب
فما سودتني عامر عن كلالة ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
(2/112)
وهذا يدل
على أنه رأى الجد الذي انتسبوا إليه كلالة, وأخبر مع ذلك أن سيادته
ليست من طريق النسب والكلالة لكنه بنفسه ساد ورأس. وقال بعضهم: كلت
الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت, وحمل فلان على فلان ثم كل عنه إذا
تباعد, والكلال هو الإعياء; لأنه قد يبعد عليه تناول ما يريده; وأنشد
الفرزدق:
ورثتم قناة الملك غير كلالة ... عن ابني مناف عبد شمس وهاشم
يعني: ورثتموها بالآباء لا بالأخوة والعمومة.
وذكر الله تعالى الكلالة في موضعين من كتابه: أحدهما: قوله تعالى:
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ
امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا
تَرَكَ} [النساء: 176] إلى آخر الآية, فذكر ميراث الإخوة والأخوات عند
عدم الولد وسماهم كلالة; وعدم الوالد مشروط فيها وإن لم يكن مذكورا
لقوله تعالى في أول السورة: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ
الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} فلم يجعل
للإخوة ميراثا مع الأب, فخرج الوالد من الكلالة كما خرج الولد; لأنه لم
يورثهم مع الأب كما لم يورثهم مع الابن, والبنت أيضا ليست بكلالة فإن
ترك ابنة أو ابنتين وإخوة وأخوات لأب وأم أو لأب فالبنات لسن بكلالة,
ومن ورث معهما كلالة. وقال تعالى في أول السورة: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ
يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ
فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} فهذه الكلالة هي الأخ والأخت لأم لا
يرثان مع والد ولا ولد ذكرا كان أو أنثى. وقد روي أن في قراءة سعد بن
أبي وقاص: "وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت لأم" فلا
خلاف مع ذلك أن المراد بالأخ والأخت ههنا إذا كانا لأم دونهما إذا كان
لأب وأم أو لأب. وقد روي عن طاوس عن ابن عباس: "أن الكلالة ما عدا
الولد, وورث الإخوة من الأم مع الأبوين السدس, وهو السدس الذي حجبت
الأم عنه", وهو قول شاذ, وقد بينا ما روي عنه أنها ما عدا الوالد
والولد; ولا خلاف أن الإخوة والأخوات من الأم يشتركون في الثلث ولا
يفضل منهم ذكر على أنثى.
وقد اختلفوا في الجد هل يورث كلالة, فقال قائلون: "لم يورث كلالة".
وقال آخرون: "بل هو كلالة" وهو قول من يورث الإخوة والأخوات مع الجد,
والأولى أن يكون خارجا من الكلالة لثلاثة أوجه: أحدها: أنهم لا يختلفون
أن ابن الابن خارج عن الكلالة; لأنه منسوب إلى الميت بالولاد, فواجب
على هذا خروج الجد منها; إذ كانت النسبة بينهما من طريق الولاد. ومن
جهة أخرى: أن الجد هو أصل النسب كالأب وليس بخارج عنه, فوجب أن يكون
خارجا عن الكلالة; إذ كانت الكلالة ما تكلل على النسب وتعطف عليه ممن
ليس أصل النسب متعلقا به. والثالث: أنهم لا يختلفون أن قوله
(2/113)
تعالى:
{وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ
أَوْ أُخْتٌ} لم يدخل فيه الجد وأنه خارج عنه لا يرث معه الإخوة من
الأم كما لا يرثون مع الابن والبنت, فدل ذلك على أن الجد بمنزلة الأب
في خروجه عن الكلالة; وهذا يدل على أن الجد بمنزلة الأب في نفي مشاركة
الإخوة والأخوات إياه في الميراث.
فإن قيل: هذا لا يدل على ما ذكرته من قبل أن البنت خارجة عن الكلالة
ولا يرث معها الإخوة والأخوات من الأم ويرث معها الإخوة والأخوات من
الأب والأم, فكذلك الجد. قيل له: لم نجعل ما ذكرناه علة للمسألة
فيلزمنا ما وصفت, وإنما قلنا إنه لما لم يتناوله اسم الكلالة كالأب
والابن اقتضى ظاهر الآية أن يكون ميراث الإخوة والأخوات عند عدمه إلا
أن تقوم الدلالة على توريثهم معه, والبنت وإن كانت خارجة عن الكلالة
فقد قامت الدلالة على توريث الإخوة والأخوات من الأب معها, فخصصناها من
الظاهر وبقي حكم اللفظ فيما سواها ممن يشتمله اسم الكلالة; والله أعلم.
(2/114)
باب العول
روى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال: أول من
أعال الفرائض عمر بن الخطاب لما التوت عليه الفرائض ودافع بعضها بعضا
قال: والله ما أدري أيكم قدم الله ولا أيكم أخر; وكان امرأ ورعا فقال:
ما أجد شيئا هو أوسع لي أن أقسم المال عليكم بالحصص; وأدخل على كل ذي
حق ما دخل عليه من عول الفريضة. وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي في
بنتين وأبوين وامرأة قال: "صار ثمنها تسعا", وكذلك رواه الحكم بن عتيبة
عنه, وهو قول عبد الله وزيد بن ثابت. وقد روي أن العباس بن عبد المطلب
أول من أشار على عمر بالعول, قال عبيد الله بن عبد الله: قال ابن
العباس: أول من أعال الفرائض عمر بن الخطاب وأيم الله لو قدم من قدم
الله لما عالت فريضة فقيل له: وأيها التي قدم الله وأيها التي أخر؟
قال: كل فريضة لم تزل عن فريضة إلا إلى فريضة فهي التي قدم الله, وكل
فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها ما بقي فهي التي أخر الله تعالى;
فأما التي قدم الله تعالى فالزوج والزوجة والأم; لأنهم لا يزولون من
فرض إلا إلى فرض, والبنات والأخوات نزلن من فرض إلى تعصيب مع البنتين
والإخوة فيكون لهن ما بقي مع الذكور, فنبدأ بأصحاب السهام ثم يدخل
الضرر على الباقين وهم الذين يستحقون ما بقي إذا كانوا عصبة. قال عبيد
الله بن عبد الله: فقلنا له: فهلا راجعت فيه عمر فقال: إنه كان امرأ
مهيبا ورعا; قال ابن عباس: ولو كلمت فيه عمر لرجع. وقال الزهري: لولا
أنه تقدم ابن عباس إمام عدل فأمضى أمرا
(2/114)
فمضى وكان
امرأ ورعا ما اختلف على ابن عباس اثنان من أهل العلم. وروى محمد بن
إسحاق عن ابن أبي نجيح عن عطاء بن أبي رباح قال: سمعت ابن عباس ذكر
الفرائض وعولها فقال: أترون الذي أحصى رمل عالج عددا جعل في مال قسمه
نصفا ونصفا وثلثا؟ فهذا النصف وهذا النصف فأين موضع الثلث؟ قال عطاء:
فقلت لابن عباس: يا ابن عباس إن هذا لا يغني عنك ولا عني شيئا, لو مت
أو مت قسم ميراثنا على ما عليه القوم من خلاف رأيك ورأيي. قال: فإن
شاءوا فلندع أبناءنا وأبناءهم ونساءنا ونساءهم وأنفسنا وأنفسهم ثم
نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين, ما جعل الله في مال نصفا ونصفا
وثلثا.
والحجة للقول الأول أن الله تعالى قد سمى للزوج النصف وللأخت من الأب
والأم النصف وللإخوة من الأم الثلث, ولم يفرق بين حال اجتماعهم
وانفرادهم, فوجب استعمال نص الآية في كل موضع على حسب الإمكان; فإذا
انفردوا واتسع المال لسهامهم قسم بينهم عليها, وإذا اجتمعوا وجب
استعمال حكم الآية في التضارب بها, ومن اقتصر على بعض وأسقط بعضا أو
نقص نصيب بعض ووفى الآخرين كمال سهامهم فقد أدخل الضيم على بعضهم مع
مساواته للآخرين في التسمية. فأما ما قاله ابن عباس من تقديم من قدم
الله تعالى وتأخير من أخر, فإنما قدم بعضا وأخر بعضا وجعل له الباقي في
حال التعصيب, فأما حال التسمية التي لا تعصيب فيها فليس واحد منهم أولى
بالتقديم من الآخر, ألا ترى أن الأخت منصوص على فرضها بقوله تعالى:
{وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176]كنصه على فرض
الزوج والأم والإخوة من الأم, فمن أين وجب تقديم هؤلاء عليها في هذه
الحالة وقد نص الله تعالى على فرضها في هذه الحال كما نص على فرض الذين
معها؟ وليس يجب; لأن الله أزال فرضها إلى غير فرض في موضع أن يزيل
فرضها في الحال التي نص عليه فيها; فهذا القول أشنع في مخالفة الآي
التي فيها سهام المواريث من القول بإثبات نصف ونصف وثلث على وجه
المضاربة بها. ولذلك نظائر في المواريث من الأصول أيضا, قال الله
تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} فلو ترك
الميت ألف درهم وعليه دين لرجل ألف درهم ولآخر خمسمائة ولآخر ألف, كانت
الألف المتروكة مقسومة بينهم على قدر ديونهم, وليس يجوز أن يقال له لم
يكن استيفاء ألفين وخمسمائة من ألف استحال الضرب بها; وكذلك لو أوصى
رجل بثلث ماله لرجل وبسدسه لآخر ولم تجز ذلك الورثة تضاربا في الثلث
بقدر وصاياهم, فيضرب أحدهما بالسدس والآخر بالثلث مع استحالة استيفاء
النصف من الثلث; وكذلك الابن يستحق جميع المال لو انفرد وللبنت النصف
لو
(2/115)
انفردت,
فإذا اجتمعا ضرب الابن بجميع المال والبنت بالنصف فيكون المال بينهما
أثلاثا, وهكذا سبيل العول في الفرائض عند تدافع السهام, والله أعلم.
(2/116)
باب المشركة
اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة المشركة وهي أن
تخلف المورثة زوجها وأمها وإخوتها لأمها وإخوتها لأبيها وأمها, فقال
علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري:
"للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين من الأم الثلث, وسقط الإخوة
والأخوات من الأب والأم". وروى سفيان الثوري عن عمرو بن مرة عن عبد
الله بن سلمة قال: سئل علي عن الإخوة من الأم فقال: "أرأيتم لو كانوا
مائة أكنتم تزيدونهم على الثلث؟" قالوا: لا, قال: "فأنا لا أنقصهم منه
شيئا"; وجعل الإخوة والأخوات من الأب والأم عصبة في هذه الفريضة وقد
حالت السهام دونهم. وقال عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وزيد بن
ثابت: "للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين من الأم الثلث, ثم يرجع
الإخوة من الأب والأم على الإخوة من الأم فيشاركونهم فيكون الثلث الذي
أخذوه بينهم سواء" وروى معمر عن سماك بن الفضل عن وهب بن منبه عن الحكم
بن مسعود الثقفي قال: "شهدت عمر بن الخطاب أشرك الإخوة من الأب والأم
مع الإخوة من الأم في الثلث, فقال له رجل: قضيت عام الأول بخلاف هذا
قال: كيف قضيت؟ قال: جعلته للإخوة من الأم ولم تعط الإخوة من الأب
والأم شيئا, قال: تلك على ما قضينا وهذه على ما قضينا". وروي أن عمر
كان لا يشرك بينهم حتى احتج الإخوة من الأب والأم فقالوا: يا أمير
المؤمنين لنا أب وليس لهم أب ولنا أم كما لهم, فإن كنتم حرمتمونا
بأبينا فورثونا بأمنا كما ورثتم هؤلاء بأمهم واحسبوا أن أبانا كان
حمارا, أليس قد تراكضنا في رحم واحدة؟ فقال عمر عند ذلك: صدقتم فأشرك
بينهم وبين الإخوة من الأم في الثلث. وذهب أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد
وزفر والحسن بن زياد إلى قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن تابعه
في ترك الشركة بينهم; والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى {وَإِنْ
كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ
فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ
ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} فنص على فرض الإخوة من الأم
وهو الثلث, وبين أيضا حكم الإخوة من الأب والأم في قوله تعالى:
{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء:
176] إلى قوله تعالى: {وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالاً وَنِسَاءً
فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 176] فلم يجعل
الله لهم فرضا مسمى وإنما جعل لهم المال على وجه التعصيب للذكر مثل حظ
الأنثيين; ولا خلاف أنها لو تركت زوجا وأما وأخا لأم وإخوة وأخوات لأب
وأم أن
(2/116)
للزوج
النصف وللأم السدس وللأخ من الأم السدس وما بقي وهو السدس بين الإخوة
والأخوات من الأب والأم للذكر مثل حظ الأنثيين ولم يدخلوا مع الأخ من
الأم في نصيبه, فلما كانوا مع ذوي السهام إنما يستحقون باقي المال
بالتعصيب لا بالفرض لم يجز لنا إدخالهم مع الإخوة من الأم في فرضهم;
لأن ظاهر الآية ينفي ذلك; إذ كانت الآية إنما أوجبت لهم ما يأخذونه
للذكر مثل حظ الأنثيين بالتعصيب لا بالفرض, فمن أعطاهم بالفرض فهو خارج
عن حكم الآية; ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا
الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولى عصبة ذكر" فجعل للعصبة بقية
المال بعد أخذ ذوي السهام سهامهم, فمن أشركهم مع ذوي السهام وهم عصبة
فقد خالف الأثر.
فإن قيل: لما اشتركوا في نسب الأم وجب أن لا يحرموا بالأب. قيل له: هذا
غلط; لأنها لو تركت زوجا وأما وأخا لأم وإخوة وأخوات لأب وأم أخذ الأخ
من الأم السدس كاملا وأخذ الإخوة والأخوات من الأب والأم السدس الباقي
بينهم, وعسى يصيب كل واحد منهم أقل من العشر, ولم يكن لواحد منهم أن
يقول قد حرمتموني بالأب مع اشتراكنا في الأم, بل كان نصيب الأخ من الأم
أوفر من نصيب كل واحد منهم, فدل ذلك على معنيين: أحدهما: انتقاض العلة
بالاشتراك في الأم. والثاني: أنهم لم يأخذوا بالفرض وإنما أخذوا
بالتعصيب. ويدل على فساد ذلك أيضا أنها لو تركت زوجا وأختا لأب وأم
وأختا وأخا لأب أن للزوج النصف وللأخت من الأب والأم النصف ولا شيء
للأخ والأخت من الأب; لأنهما عصبة, فلا يدخل مع ذوي السهام. ولم يجز أن
يجعل من الأب بمنزلة من لم يكن حتى تستحق الأخت من الأب سهمها الذي
كانت تأخذه في حال الانفراد عن الأخ, وإنما التعصيب أخرجها عن السدس
الذي. كانت تستحقه, كذلك التعصيب يخرج الإخوة من الأب والأم عن الثلث
الذي يستحقه الإخوة من الأم; والله أعلم.
(2/117)
ذكر اختلاف السلف في ميراث الأخت مع البنت
لم يختلف عن علي وعمر وعبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل في
رجل خلف بنتا وأختا لأب وأم وعصبة أن للبنت النصف وما بقي فللأخت,
فجعلوها عصبة مع البنات. وقال عبد الله بن عباس وابن الزبير: "للبنت
النصف وما بقي فللعصبة وإن بعد نسبهم, ولا حظ للأخت في الميراث مع
البنت"; وروي أن ابن الزبير رجع عن ذلك بعد أن قضى به وروي أنه قيل
لعبد الله بن عباس: إن عليا وعبد الله وزيدا كانوا يجعلون الأخوات مع
البنات عصبة فيورثونهن فاضل المال, فقال: أأنتم أعلم أم الله؟
(2/117)
يقول الله
تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا
نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] وأنتم تجعلون لها مع الولد النصف.
قال أبو بكر: مما يحتج به للقول الأول قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ
نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ
نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ
مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً} فظاهره يقتضي توريث الأخت مع
البنت; لأن أخاها الميت هو من الأقربين, وقد جعل الله ميراث الأقربين
للرجال والنساء. ويحتج فيه بحديث أبي قيس الأودي عن هزيل بن شرحبيل عن
عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بنت وبنت ابن
وأخت لأب وأم أن للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين وما بقي
فللأخت, فأعطى للأخت بقية المال بعد السهام وجعلها عصبة مع البنت. وأما
احتجاج من يحتج في ذلك بأن الله تعالى إنما جعل لها النصف إذا لم يكن
ولد, ولا يجوز أن يجعل لها النصف مع الولد; فإنه غير لازم من قبل أن
الله تعالى نص على سهمها عند عدم الولد ولم ينف ميراثها مع وجوده,
وتسميته لها النصف عند عدم الولد لا دلالة فيه على سقوط حقها إذا كان
هناك ولد; إذ لم يذكر هذه الحال بنفي الميراث ولا بإيجابه, فهو موقوف
على دليله. ومع ذلك فإن معناه: إن امرؤ هلك وليس له ولد ذكر; بدلالة
قوله تعالى في نسق التلاوة: {وَهُوَ يَرِثُهَا} يعني الأخ يرث الأخت
{إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} معناه عند الجميع: إن لم يكن لها ولد
ذكر إذ لا خلاف بين الصحابة أنها إذا تركت ولدا أنثى وأخا أن للبنت
النصف والباقي للأخ, والولد المذكور هاهنا هو المذكور بديا في أول
الآية. وأيضا قال الله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} ومعناه عند
الجميع: إن كان له ولد ذكر; لأنه لا خلاف بين الصحابة ومن بعدهم من
الفقهاء أنه لو ترك ابنة وأبوين أن للبنت النصف وللأبوين السدسان
والباقي للأب, فيأخذ الأب في هذه الحال مع الولد الأنثى أكثر من السدس,
وأن قوله تعالى: {وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ
مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ} على أنه ولد ذكر, وكذلك لو ترك
أبا وبنتا كان للبنت النصف وللأب النصف; فقد أخذ في هاتين المسألتين
أكثر من السدس مع الولد.
قال أبو بكر: وشذت طائفة من الأمة فزعمت أنه إذا ترك بنتا وأختا كان
المال كله للبنت, وكذلك البنت والأخ. وهذا قول خارج عن ظاهر التنزيل
واتفاق الأمة, قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ
اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً
فَلَهَا النِّصْفُ} فنص على سهم البنت وسهم ما فوق الثنتين, وجعل لها
إذا انفردت النصف وإذا ضامها غيرها الثلثين لهما جميعا; فغير جائز أن
تعطى أكثر منه إلا بدلالة.
(2/118)
فإن قيل:
إذا كان ذكر النصف والثلثين غير دال على نفي ما فوقهما على ما ذكرت
فليس إذا في الظاهر نفي ما زاد وإنما تحتاج إلى أن تطالب خصمك بإقامة
الدلالة على أن الزيادة مستحقة. قيل له: لما كان قوله تعالى: {
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} أمرا باعتبار السهام المذكورة;
إذ كانت الوصية أمرا, أوجب ذلك اعتبار كل فرض مقدر في الآية على حياله
ممنوعا من الزيادة والنقصان فيه, فاقتضى ذلك وجوب الاقتصار على
المقادير المذكورة لمن سميت له غير زائدة ولا ناقصة, ولم يقل بذلك من
حيث خصه بالذكر دون ما تقدم من الأمر باعتبارها في ابتداء الخطاب,
فلذلك منعنا الزيادة عليها إلا بدلالة.
وقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ
وَالْأَقْرَبُونَ} يدل على وجوب توريث الأخ مع البنت, ويدل عليه حديث
ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ألحقوا الفرائض بأهلها فما
أبقت فلأولى عصبة ذكر" , فواجب بمجموع الآية والخبر أنا إذا أعطينا
البنت النصف أن نعطي الباقي الأخ; لأنه أولى عصبة ذكر.
(2/119)
مطلب: اختلف السلف في ابني عم أحدهما أخ لأم
واختلف السلف في ابني عم أحدهما أخ لأم, فقال علي وزيد: "للأخ من الأم
السدس وما بقي فبينهما نصفان" وهو قول فقهاء الأمصار. وقال عمر وعبد
الله: "المال للأخ من الأم", وقالا: "ذو السهم أحق ممن لا سهم له"
وإليه كان يذهب شريح والحسن. ولم يختلفوا في أخوين لأم أحدهما ابن عم
أن لهما الثلث بنسب الأم وما بقي فلابن العم خاصة, ولم يجعلوا ابن العم
أحق بجميع الميراث لاجتماع السهم والتسمية له دون الآخر, كذلك حكم ابني
العم إذا كان أحدهما أخا لأم فغير جائز أن يجعل أولى بالميراث من أجل
اختصاصه بالسهم والتعصيب. وشبه عمر وعبد الله ذلك بالأخ لأب وأم وأخ
لأب أنه أولى بالميراث, وليس هذا عند الآخرين مشبها لهذه المسألة من
قبل أن نسبهما من جهة واحدة وهي الأخوة, فاعتبر فيها أقربهما إليه, وهو
الذي اجتمع له قرابة الأب والأم, ولا يستحق بقرابته من الأم سهم الأخ
من الأم بل إنما يؤكد ذلك حكم الأخوة; وليس كذلك ابنا العم إذا كان
أحدهما أخا لأم; لأنك تريد أن تؤكد بالأخوة من جهة الأم ما ليس بأخوة,
وإنما هو سبب آخر غيرها فلم يجز أن تؤكده بها ويدلك على هذا أن نسبته
من جهة أنه ابن العم لا يسقط سهمه من جهة أنه أخ لأم بل يرث بأنه أخ
لأم سهم الأخ من الأم وإن كان ابن عم, ألا ترى أن الميتة لو تركت أختين
لأب وأم وزوجا وأخا لأم هو ابن عم أن للأختين الثلثين وللزوج النصف
وللأخ من الأم السدس ولم يسقط سهمه من جهة أنه ابن عم؟ ولو تركت زوجا
وأما وأختا لأم وإخوة لأب وأم كان للزوج النصف وللأم السدس وللأخت من
الأم السدس وما بقي فللإخوة من الأب والأم,
(2/119)
ولم يستحق
الإخوة من الأب والأم سهم الأخوة من الأم لمشاركتهم للأخ من الأم في
نسبها, بل إنما استحقوا بالتعصيب فكانت قرابتهم بالأب والأم مؤكدة
لتعصيبهم فلا يستحقون بها أن يكونوا من ذوي السهام, وقرابة ابن العم
بنسبه من جهة الأم لا تخرجه من أن يكون من ذوي السهام فيما يستحقه من
سهم الأخ من الأم; وليس لهذا تأثير في تأكيد التعصيب; لأنه لو كان كذلك
لوجب أن لا يستحق أبدا إلا بالتعصيب, كما لا يأخذ الإخوة من الأب والأم
إلا بالتعصيب ولا يأخذون بقرابتهم من الأم سهم الأخوة من الأم, والله
أعلم.
(2/120)
باب الرجل يموت وعليه دين ويوصي بوصية
قال الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
وروي عن الحارث عن علي قال: "تقرءون الوصية قبل الدين, وإن محمدا صلى
الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية". قال أبو بكر وهذا لا خلاف فيه
بين المسلمين; وذلك لأن معنى قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى
بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أن الميراث بعد هذين, وليست" أو" في هذا الموضع
لأحدهما بل قد تناولتهما جميعا, وذلك لأن قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} مستثنى عن الجملة المذكورة في قسمة
المواريث, ومتى دخلت "أو" على النفي صارت في معنى" الواو" كقوله تعالى:
{وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الانسان: 24] وقال
تعالى: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ
ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام:
146] فكانت" أو" في هذه المواضع بمنزلة" الواو" فكذلك قوله تعالى:
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} لما كان في معنى
الاستثناء كأنه قال: إلا أن تكون هناك وصية أو دين فيكون الميراث
بعدهما جميعا. وتقديم الوصية على الدين في الذكر غير موجب للتبدئة بها
على الدين; لأن "أو" لا توجب الترتيب, وإنما ذكر الله تعالى ذلك بعد
ذكر الميراث إعلاما لنا أن سهام المواريث جارية في التركة بعد قضاء
الدين وعزل حصة الوصية, ألا ترى أنه إذا أوصى بثلث ماله كانت سهام
الورثة معتبرة بعد الثلث فيكون للزوجة الربع أو الثمن في الثلثين؟
وكذلك سهام سائر أهل الميراث جارية في الثلثين دون الثلث الذي فيه
الوصية. فجمع تعالى بين ذكر الدين والوصية ليعلمنا أن سهام الميراث
معتبرة بعد الوصية كما هي معتبرة بعد الدين وإن كانت الوصية مخالفة
للدين من جهة الاستيفاء; لأنه لو هلك من المال شيء لدخل النقصان على
أصحاب الوصايا كما يدخل على الورثة, وليس كذلك الدين; لأنه لو هلك من
المال شيء استوفي الدين كله من الباقي وإن استغرقه وبطل حق الموصى له
والورثة جميعا, فالموصى له شريك الورثة من وجه ويأخذ شبها من الغريم من
وجه آخر, وهو أن سهام أهل المواريث معتبرة بعد
(2/120)
الوصية
كاعتبارها بعد الدين. وليس المراد بقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ
يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أن الموصى له يعطى وصيته قبل أن يأخذ الورثة
أنصباءهم, بل يعطون كلهم معا كأنه أحد الورثة في هذا الوجه, وما هلك من
المال قبل القسمة فهو ذاهب منهم جميعا.
(2/121)
باب مقدار الوصية الجائزة
قال الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
ظاهره يقتضي جواز الوصية بقليل المال وكثيره; لأنها منكورة لا تختص
ببعض دون بعض; إلا أنه قد قامت الدلالة من غير هذه الآية على أن المراد
بها الوصية ببعض المال لا بجميعه, وهو: قوله تعالى {لِلرِّجَالِ
نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ
نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ
مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} فأطلق إيجاب الميراث فيه من غير ذكر الوصية, فلو
اقتضى قوله تعالى: { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
الوصية بجميع المال لصار قوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا
تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} منسوخا بجواز الوصية بجميع
المال, فلما كان حكم هذه الآية ثابتا في إيجاب الميراث وجب استعمالها
مع آية الوصية, فوجب أن تكون الوصية مقصورة على بعض المال والباقي
للورثة حتى نكون مستعملين لحكم الآيتين ويدل عليه أيضا قوله تعالى:
{وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً
ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا
قَوْلاً سَدِيداً} يعني في منع الرجل الوصية بجميع ماله على ما تقدم من
بيان تأويله; فيدل على جواز الوصية ببعض المال لاحتمال اللفظ للمعنيين.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار تلقتها الأمة بالقبول
والاستعمال في الاقتصار بجواز الوصية على الثلث, منها ما حدثنا محمد بن
بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة وابن أبي خلف
قالا: حدثنا سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال: مرض أبي مرضا
شديدا قال ابن أبي خلف بمكة مرضا أشفى منه, فعاده رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن لي مالا كثيرا وليس يرثني إلا ابنة
لي, أفأتصدق بالثلثين؟ قال: "لا" قال: فبالشطر؟"قال: "لا" قال:
فبالثلث؟ قال: "لثلث والثلث كثير وإنك إن تترك ورثتك أغنياء خير من أن
تدعهم عالة يتكففون الناس فإنك لن تنفق نفقة إلا أجرت عليها حتى اللقمة
ترفعها إلى في امرأتك" قلت: يا رسول الله أتخلف عن هجرتي؟ قال "إنك إن
تخلف بعدي فتعمل عملا تريد به وجه الله لا تزداد به إلا رفعة ودرجة,
لعلك أن تخلف حتى ينتفع بك أقوام ويضر بك آخرون" ثم قال: "اللهم أمض
لأصحابي هجرتهم ولا تردهم على أعقابهم", لكن البائس سعد بن خولة يرثي
له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن مات بمكة.
قال أبو بكر: قد حوى هذا الخبر ضروبا من الأحكام والفوائد, منها: أن
الوصية
(2/121)
غير جائزة
في أكثر من الثلث. والثاني: أن المستحب النقصان عن الثلث, ولذلك قال
بعض الفقهاء: أستحب النقصان عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: "والثلث
كثير" . والثالث: أنه إذا كان قليل المال وورثته فقراء أن الأفضل أن لا
يوصي بشيء, لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من
أن تدعهم عالة يتكففون الناس" وفي ذلك أيضا دليل على جواز الوصية بجميع
المال إذا لم يكن له وارث; لأنه أخبر أن الوصية بأكثر من الثلث ممنوعة
لأجل الورثة وفيه الدلالة على أن الصدقة في المرض وصية غير جائزة إلا
من الثلث; لأن سعدا قال: أتصدق بجميع مالي؟ فقال: "لا" إلى أن رده إلى
الثلث; وقد رواه جرير عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن
سعد قال: عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض, فقال: أوصيت ؟
قلت: نعم قال: بكم ؟ قلت: بمالي كله في سبيل الله, قال: فما تركت
لولدك؟ قال: هم أغنياء, قال: أوص بالعشر فما زلت أناقصه ويناقصني حتى
قال: أوص بالثلث والثلث كثير . قال أبو عبد الرحمن: فنحن نستحب أن ننقص
من الثلث لقوله صلى الله عليه وسلم: "والثلث كثير". فذكر في هذا الحديث
أنه قال: "أوصيت بمالي كله" وهذا لا ينفي ما روي في الحديث الأول من
الصدقة في المرض; لأنه جائز أن يكون لما منعه الوصية بأكثر من الثلث ظن
أن الصدقة جائزة في المرض فسأله عنها, فأخبر صلى الله عليه وسلم أن حكم
الصدقة حكم الوصية في وجوب الاقتصار بها على الثلث, وهو نظير حديث
عمران بن حصين في الرجل الذي أعتق ستة أعبد له عند موته, وفيه: "إن
الرجل مأجور في النفقة على أهله" وهذا يدل على أن من وهب لامرأته هبة
لم يجز له الرجوع فيها; لأنها بمنزلة الصدقة; لأنه قد استوجب بها
الثواب من الله تعالى; وهو نظير ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "إذا أعطى الرجل امرأته عطية فهي له صدقة".
وقول سعد: "أتخلف عن هجرتي" عنى به أنه يموت بمكة وهي داره التي هاجر
منها إلى المدينة, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم نهى المهاجرين أن
يقيموا بعد النفر أكثر من ثلاث, فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه
يتخلف بعده حتى ينفع الله به أقواما ويضر به آخرين; وكذلك كان, فإنه
بقي بعده صلى الله عليه وسلم وفتح الله على يده بلاد العجم وأزال به
ملك الأكاسرة; وذلك من علوم الغيب الذي لا يعلمه غير الله تعالى. حدثنا
عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أبو عبد الله عبيد الله بن حاتم العجلي
قال: حدثني عبد الأعلى بن واصل قال: حدثنا إسماعيل بن صبيح قال: حدثنا
مبارك بن حسان قال: حدثنا نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال حاكيا عن الله تعالى أنه قال: "يا ابن آدم اثنتان ليست لك
واحدة منهما: جعلت لك نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك1 لأطهرك وأزكيك,
وصلاة عبادي عليك بعد انقضاء
ـــــــ
1 قوله: "بكظمك" بفتحتين هو مخرج النفس من الحلق. "لمصححه".
(2/122)
أجلك".
ففي هذا الحديث أيضا أن له بعض المال عند الموت لا جميعه. وحدثنا عبد
الباقي قال: حدثنا محمد بن أحمد بن شيبة قال: حدثنا محمد بن صالح بن
النطاح قال: حدثنا عثمان قال: سمعت طلحة بن عمرو قال: حدثنا عطاء عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أعطاكم ثلث
أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم". قال أبو بكر: فهذه الأخبار
الموجبة للاقتصار بالوصية على الثلث عندنا في حيز التواتر الموجب للعلم
لتلقي الناس إياها بالقبول, وهي مبينة لمراد الله تعالى في الوصية
المذكورة في الكتاب أنها مقصورة على الثلث.
وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} يدل
على أن من ليس عليه دين لآدمي ولم يوص بشيء أن جميع ميراثه لورثته,
وأنه إن كان عليه حج أو زكاة لم يجب إخراجه إلا أن يوصي به, وكذلك
الكفارات والنذور.
فإن قيل: إن الحج دين, وكذلك كل ما يلزمه الله تعالى من القرب في المال
لقول النبي صلى الله عليه وسلم للخثعمية حين سألته عن الحج عن أبيها:
"أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أكان يجزئ ؟" قالت: نعم, قال:
"فدين الله أحق بالقضاء". قيل له: إن النبي صلى الله عليه وسلم إنما
سماه دين الله تعالى ولم يسمه بهذا الاسم إلا مقيدا فلا يتناوله
الإطلاق, وقول الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ
دَيْنٍ} إنما اقتضى التبدئة بما يسمى به دينا على الإطلاق, فلا ينطوي
تحته ما لا يسمى به إلا مقيدا; لأن في اللغة والشرع أسماء مطلقة وأسماء
مقيدة, فلا يتناول المطلق إلا ما يقع الاسم عليه على الإطلاق, فإذا لم
تتناول الآية ما كان من حق الله تعالى من الديون لما وصفنا, اقتضى قوله
تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} أنه إذا لم
يوص لم يكن عليه دين لآدمي أن يستحق الوارث جميع تركته. وحديث سعد يدل
على ذلك أيضا; لأنه قال: أتصدق بمالي؟ وفي لفظ آخر: أوصي بمالي؟ فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "الثلث والثلث كثير" ولم يستثن النبي صلى
الله عليه وسلم الحج ولا الزكاة ونحوهما من حقوق الله تعالى, ومنع
الصدقة والوصية إلا بثلث المال; فثبت بذلك أنه إذا أوصى بهذه الحقوق
كانت من الثلث.
(2/123)
مطلب: في الوضية بالزكاة والنذور وسائر الحقوق الواجبة لا تجوز إلا من
الثلث
ويدل عليه أيضا حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله
تعالى جعل لكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم" وحديث ابن
عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حاكيا عن الله تعالى: "جعلت لك
نصيبا في مالك حين أخذت بكظمك" يدل جميع ذلك على
(2/123)
أن وصيته
بالزكاة والنذور وسائر القرب وإن كانت واجبة لا تجوز إلا من الثلث,
والله أعلم.
(2/124)
باب الوصية للوارث
حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عبد الوهاب بن نجدة
قال: حدثنا ابن عياش عن شرحبيل بن مسلم قال: سمعت أبا أمامة قال: سمعت
رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا
وصية لوارث" وروى عمرو بن خارجة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا وصية لوارث إلا أن تجيزها الورثة" . ونقل أهل السير خطبة النبي صلى
الله عليه وسلم في حجة الوداع وفيها: "أن لا وصية لوارث" فورد نقل ذلك
مستفيضا كاستفاضة وجوب الاقتصار بالوصية على الثلث دون ما زاد, لا فرق
بينهما من طريق نقل الاستفاضة واستعمال الفقهاء له وتلقيهم إياه
بالقبول. وهذا عندنا في حيز المتواتر الموجب للعلم والنافي للريب
والشك. وقوله في حديث عمرو بن خارجة: "إلا أن تجيزها الورثة" يدل على
أنها إذا أجازتها فهي جائزة, وتكون وصية من قبل الموصي لا تكون هبة من
قبل الوارث; لأن الهبة من قبل الوارث ليست بإجازة من قبل الموروث.
وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا عبد الله بن عبد الصمد قال: حدثنا محمد
بن عمرو قال: حدثنا يونس بن راشد عن عطاء الخراساني عن عكرمة عن ابن
عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث إلا أن
تشاء الورثة".
قال أبو بكر: وقد اختلف الفقهاء فيمن أوصى بأكثر من الثلث فأجازه
الورثة في حياته أو أوصى لبعض ورثته فأجازه الباقون في حياته, فقال أبو
حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر. والحسن بن زياد والحسن بن صالح وعبيد الله
بن الحسن والشافعي: "لا يجوز ذلك حتى يجيزوها بعد الموت". وقال ابن أبي
ليلى وعثمان البتي: "ليس لهم أن يرجعوا فيه بعد الموت وهي جائزة
عليهم". وقال ابن القاسم عن مالك: إذا استأذنهم فكل وارث بائن عن الميت
مثل الولد الذي قد بان عن أبيه والأخ وابن العم الذين ليسوا في عياله
فإنه ليس لهم أن يرجعوا, فأما امرأته وبناته اللاتي لم يبن وكل من في
عياله وإن كان قد احتلم فلهم أن يرجعوا, وكذلك العم وابن العم ومن خاف
منهم أنه إن لم يجز لحقه ضرر منه في قطع النفقة إن صح, فلهم أن
يرجعوا". وقول الليث في هذا كقول مالك. قال أبو بكر: وإن أجازوها بعد
الموت جازت عند جميع الفقهاء. قال أبو بكر: لما لم يكن لهم فسخها في
الحياة كذلك لا تعمل إجازتهم; لأنهم لم يستحقوا بعد شيئا; والله أعلم.
(2/124)
باب الوصية بجميع المال إذا لم يكن وارث
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد: "إذا لم يكن له
وارث فأوصى بجميع ماله جاز" وهو قول شريك بن عبد الله. وقال مالك
والأوزاعي والحسن بن صالح: "لا تجوز وصيته إلا من الثلث".
قال أبو بكر: قد بينا دلالة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] وأنهم كانوا
يتوارثون بالحلف, وهو أن يحالفه على أنه إن مات ورثه ما يسمي له من
ميراثه من ثلث أو أكثر, وقد كان ذلك حكما ثابتا في صدر الإسلام وفرضه
الله تعالى بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] ثم أنزل الله تعالى:
{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}
وقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ
حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} وقوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] فجعل
ذوي الأرحام أولى من الحلفاء, ولم يبطل بذلك ميراث الحلفاء أصلا بل جعل
ذوي الأنساب أولى منهم كما جعل الابن أولى من الأخ. فإذا لم يكن ذوو
الأنساب جاز له أن يجعل ماله على أصل ما كان عليه حكم التوارث في
الحلف. وأيضا فإن الله تعالى أوجب سهام المواريث بعد الوصية بقوله
تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وقال:
{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}
وقد بينا أن ظاهر قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا
أَوْ دَيْنٍ} يقتضي جواز الوصية بجميع المال, لولا قيام دلالة الإجماع
والسنة على منع ذلك ووجوب الاقتصار بها على الثلث وإيجاب نصيب الرجال
والنساء من الأقربين, فمتى عدم من وجب به تخصيص الوصية في بعض المال
وجب استعمال اللفظ في جواز الوصية بجميع المال على ظاهره ومقتضاه; ويدل
عليه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد: "إنك إن تدع ورثتك أغنياء
خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس" فأخبر أن منع الوصية بأكثر من
الثلث إنما هو لحق الورثة. ويدل عليه حديث الشعبي وغيره عن عمرو بن
شرحبيل قال: قال عبد الله بن مسعود: "ليس من حي من العرب أحرى أن يموت
الرجل منهم ولا يعرف له وارث منكم معشر همدان, فإذا كان ذلك فليضع ماله
حيث أحب", ولا يعلم له مخالف من الصحابة وأيضا فإنه لا يخلو من لا وارث
له إذا مات من أن يستحق المسلمون ماله من جهة الميراث أو من جهة أنه
مال لا مالك له فيضعه الإمام حيث يرى, فلما جاز أن يستحقه الرجل مع
ابنه ومع أبيه والبعيد عن القريب علمنا أنه غير مستحق لهم على وجه
الميراث; لأن الأب والجد لا يجتمعان في استحقاق ميراث واحد من جهة
الأبوة. وأيضا لو كان ميراثا لم يجز حرمان واحد منهم; لأن سبيل الميراث
أن لا يخص به بعض الورثة دون
(2/125)
بعض وأيضا
لو كان ميراثا لوجب أن يكون لو كان الميت رجلا من همدان ولا يعرف له
وارث أن يستحق ميراثه أهل قبيلته; لأنهم أقرب إليه من غيرهم, فلما كان
إنما يستحقه بيت المال للمسلمين وللإمام أن يصرفه إلى من شاء من الناس
ممن يراه أهلا له, دل ذلك على أن المسلمين لا يأخذونه ميراثا, وإذا لم
يأخذوه ميراثا وإنما كان للإمام صرفه إلى حيث يرى; لأنه لا مالك له,
فمالكه أولى بصرفه إلى من يرى. ومن جهة أخرى أنهم إذا لم يأخذوه ميراثا
أشبه الثلث الذي يوصي به الميت ولا ميراث فيه, فله أن يصرفه إلى من
شاء, فكذلك بقية المال إذا لم يستحقه الوارث كان له صرفه إلى من شاء
ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال:
حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا أيوب قال: سمعت نافعا عن
ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما حق امرئ مسلم له
مال يوصي فيه تمر عليه الليلتان إلا ووصيته عنده مكتوبة" فلم يفرق بين
الوصية ببعض المال أو بجميعه, وظاهره يقتضي جواز الوصية بجميع المال;
وقد قامت الدلالة على وجوب الاقتصار على بعضه إذا كان له وارث, فإذا لم
يكن له وارث فهو على ظاهر مقتضاه في جوازها بالجميع; والله أعلم.
(2/126)
باب الضرار في الوصية
قال الله تعالى: {غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} قال أبو
بكر: الضرار في الوصية على وجوه: منها أن يقر في وصيته بمال أو ببعضه
لأجنبي أو يقر على نفسه بدين لا حقيقة له زبا للميراث عن وارثه
ومستحقه. ومنها أن يقر باستيفاء دين له على غيره في مرضه لئلا يصل إلى
وارثه ومنها أن يبيع ماله من غيره في مرضه ويقر باستيفاء ثمنه. ومنها
أن يهب ماله في مرضه أو يتصدق بأكثر من ثلثه في مرضه إضرارا منه
بورثته. ومنها أن يتعدى فيوصي بأكثر مما تجوز له الوصية به وهو الزيادة
على الثلث. فهذه الوجوه كل من المضارة في الوصية, وقد بين النبي صلى
الله عليه وسلم ذلك في فحوى قوله لسعد: "الثلث والثلث كثير إنك أن تدع
ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس". وحدثنا عبد الباقي
بن قانع قال: حدثنا أحمد بن الحسن المصري قال: حدثنا عبد الصمد بن حسان
قال: حدثنا سفيان الثوري عن داود يعني ابن أبي هند عن عكرمة عن ابن
عباس قال: "الإضرار في الوصية من الكبائر" ثم قرأ: {تِلْكَ حُدُودُ
اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قال: "في الوصية" {وَمَنْ
يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} قال: "في الوصية".
وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا القاسم بن زكريا ومحمد بن الليث قالا:
حدثنا حميد بن زادويه قال: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثنا عمر بن
المغيرة عن داود بن
(2/126)
أبي هند
عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإضرار
في الوصية من الكبائر". وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا طاهر بن عبد
الرحمن بن إسحاق القاضي قال: حدثنا يحيى بن معين قال: حدثنا عبد الرزاق
قال: أخبرنا معمر عن أشعث عن شهر بن حوشب عن أبي هريرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة
فإذا أوصى حاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار, وإن الرجل
ليعمل بعمل أهل النار سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بغير عمله
فيدخل الجنة" . قال أبو بكر: ومصداقه في كتاب الله فيما تأوله ابن عباس
في قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ} قال: "في الوصية" {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}
قال: "في الوصية".
(2/127)
باب من يحرم الميراث مع وجود النسب
قال أبو بكر: لا خلاف بين المسلمين أن قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ
فِي أَوْلادِكُمْ} وما عطف عليه من قسمة الميراث خاص في بعض المذكورين
دون بعض, فبعض ذلك متفق عليه وبعضه مختلف فيه, فما اتفق عليه أن الكافر
لا يرث المسلم وأن العبد لا يرث وأن قاتل العمد لا يرث; وقد بينا ميراث
هؤلاء في سورة البقرة ما أجمعوا عليه منه وما اختلفوا فيه. واختلف في
ميراث المسلم من الكافر وميراث المرتد, فأما ميراث المسلم من الكافر
فإن الأئمة من الصحابة متفقون على نفي التوارث بينهما, وهو قول عامة
التابعين وفقهاء الأمصار. وروى شعبة عن عمرو بن أبي حكيم عن ابن باباه1
عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الدؤلي قال: كان معاذ بن جبل باليمن
فارتفعوا إليه في يهودي مات وترك أخاه مسلما, فقال: سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: "الإسلام يزيد ولا ينقص".
ـــــــ
1 قوله: "ابن باباه" اسمه عبد الله واسم أبيه باباه كما في خلاصة تهذيب
الكمال "لمصححه".
(2/127)
مطلب: في قول مسروق: ما أحدث في الإسلام قضية أعجب من قضية قضاها
معاوية
وروى ابن شهاب عن داود بن أبي هند قال: قال مسروق: ما أحدث في الإسلام
قضية أعجب من قضية قضاها معاوية قال: كان يورث المسلم من اليهودي
والنصراني ولا يورث اليهودي والنصراني من المسلم, قال: فقضى بها أهل
الشام; قال داود: فلما قدم عمر بن عبد العزيز ردهم إلى الأمر الأول.
وروى هشيم عن مجالد عن الشعبي: أن
(2/127)
مطلب: تأويل لا يقضى به على النص
وأما حديث معاذ فإنه لم يعن هذه المقالة, وإنما تأول فيها قوله:
"الإيمان يزيد ولا ينقص" والتأويل لا يقضى به على النص والتوقيف وإنما
يرد التأويل إلى المنصوص عليه ويحمل على موافقته دون مخالفته. وقول
النبي صلى الله عليه وسلم: "الإيمان يزيد ولا ينقص" يحتمل أن يريد به
من أسلم ترك على إسلامه ومن خرج عن الإسلام رد إليه; وإذا احتمل ذلك
واحتمل ما تأوله معاذ وجب حمله على موافقة خبر أسامة في منع التوارث,
إذ غير جائز رد النص بالتأويل والاحتمال. والاحتمال أيضا لا تثبت به
حجة; لأنه مشكوك فيه وهو مفتقر في إثبات حكمه إلى دلالة من غيره, فسقط
الاحتجاج به. وأما قول مسروق: "ما أحدث في الإسلام قضية أعجب من قضية
قضى بها معاوية في توريث المسلم من الكافر" فإنه يدل على بطلان هذا
المذهب لإخباره أنها قضية محدثة في الإسلام, وذلك يوجب أن يكون قبل
قضية معاوية لم يكن يورث المسلم من الكافر; وإذا ثبت أن من قبل قضية
معاوية لم يكن يورث المسلم من الكافر وأن معاوية لا يجوز أن يكون خلافا
عليهم, بل هو ساقط القول معهم. ويؤيد ذلك أيضا قول داود بن أبي هند: إن
عمر بن عبد العزيز ردهم إلى الأمر الأول; والله أعلم.
(2/128)
باب ميراث المرتد
اختلف السلف في ميراث المرتد الذي اكتسبه في حال الإسلام قبل الردة على
أنحاء ثلاثة: فقال علي وعبد الله وزيد بن ثابت والحسن البصري وسعيد بن
المسيب وإبراهيم النخعي وجابر بن زيد وعمر بن عبد العزيز وحماد والحكم
وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وابن شبرمة والثوري والأوزاعي وشريك:
"يرثه ورثته من المسلمين إذا مات أو قتل على ردته". وقال ربيعة وعمر بن
عبد العزيز وابن أبي ليلى ومالك والشافعي:
(2/128)
مطلب: في حكم ردة الوارث بعد موت مورثه
وأيضا لا خلاف نعلمه بين المسلمين أن من ورث ميراثا فمات قبل القسمة أن
نصيبه من الميراث لورثته, وكذلك لو ارتد لم يبطل ميراثه الذي استحقه
وأنه لا يكون بمنزلة من كان مرتدا وقت الموت, فكذلك من أسلم أو أعتق
بعد الموت قبل القسمة فلا حظ له في الميراث, والله أعلم.
(2/132)
باب حد الزانيين
قال الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ
فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} الآية. قال أبو بكر:
لم يختلف السلف في أن ذلك كان حد الزانية في بدء الإسلام وأنه منسوخ
غير ثابت الحكم; حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد
بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن
عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ
الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ} إلى قوله: {سَبِيلاً}, قال: وقال في المطلقات: {لا
تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ
يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] قال: هذه الآيات قبل
أن
(2/132)
مطلب في أن رجم المحصن ثبت بالسنة
قال: وإن كانا محصنين رجما بسنة النبي صلى الله عليه وسلم قال: فهو
سبيلها الذي جعله الله لها; يعني قوله تعالى: {حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ
الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً}. قال أبو بكر: فكان
حكم الزانية في بدء الإسلام ما أوجب من حدها بالحبس إلى أن يتوفاهن
الموت أو يجعل الله لهن سبيلا, ولم يكن عليها في ذلك الوقت شيء غير
هذا, وليس في الآية فرق بين البكر والثيب; فهذا يدل على أنه كان حكما
عاما في البكر والثيب.
وقوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا}, فإنه
روي عن الحسن وعطاء: "أن المراد الرجل والمرأة". وقال السدي: "البكرين
من الرجال والنساء". وروي عن مجاهد: "أنه أراد الرجلين الزانيين". وهذا
التأويل الأخير يقال إنه لا يصح; لأنه لا معنى للتثنية ههنا; إذ كان
الوعد والوعيد إنما يجيئان بلفظ الجمع; لأنه لكل واحد منهم, أو بلفظ
الواحد لدلالته على الجنس الشامل لجميعهم; وقول الحسن صحيح وتأويل
السدي محتمل أيضا, فاقتضت الآيتان بمجموعهما أن حد المرأة كان الأذى
والحبس جميعا إلى أن تموت, وحد الرجل التعيير والضرب بالنعال; إذ كانت
المرأة مخصوصة في الآية الأولى بالحبس ومذكورة مع الرجل في الآية
الثانية بالأذى فاجتمع لها الأمران جميعا, ولم يذكر للرجال إلا الأذى
فحسب. ويحتمل أن تكون الآيتان نزلتا معا فأفردت المرأة بالحبس وجمعا
جميعا في الأذى, وتكون فائدة إفراد المرأة بالذكر إفرادها بالحبس إلى
أن تموت وذلك حكم لا يشاركها فيه الرجل, وجمعت مع الرجل في الأذى
لاشتراكهما فيه ويحتمل أن يكون إيجاب الحبس للمرأة متقدما للأذى, ثم
زيد في حدها وأوجب على الرجل الأذى, فاجتمع للمرأة الأمران وانفرد
الرجل بالأذى دونها فإن كان كذلك فإن الإمساك في البيوت إلى الموت أو
السبيل قد كان حدها, فإذا ألحق به الأذى صار منسوخا; لأن الزيادة في
النص بعد استقرار حكمه توجب النسخ; إذ كان الحبس في ذلك الوقت جميع
حدها, ولما وردت الزيادة صار بعض حدها, فهذا يوجب أن يكون كون
(2/133)
الإمساك
حدا منسوخا. وجائز أن يكون الأذى حدا لهما جميعا بديا ثم زيد في حد
المرأة الحبس إلى الموت أو السبيل الذي يجعله الله لها, فيوجب ذلك نسخ
الأذى في المرأة أن يكون حدا; لأنه صار بعضه بعد نزول الحبس; فهذه
الوجوه كلها محتملة.
فإن قيل: هل يحتمل أن يكون الحبس منسوخا بإسقاط حكمه والاقتصار على
الأذى إذا كان نازلا بعده؟ قيل له: لا يجوز نسخه على جهة رفع حكمه
رأسا; إذ ليس في إيجاب الأذى ما ينفي الحبس لجواز اجتماعهما; ولكنه
يكون نسخه من طريق أنه يصير بعض الحد بعد أن كان جميعه, وذلك ضرب من
النسخ.
(2/134)
مطلب الزيادة في النص بعد استقرار حكمه توجب النسخ
وقد قيل في ترتيب الآيتين وجهان: أحدهما: ما روي عن الحسن أن قوله
تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} نزلت قبل
قوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} ثم أمر
أن توضع في التلاوة بعده, فكان الأذى حدا لهما جميعا, ثم الحبس للمرأة
مع الأذى. وذلك يبعد من وجه; لأن قوله تعالى: {وَالَّذَانِ
يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا}" الهاء" التي في قوله:
{يَأْتِيَانِهَا} كناية لا بد لها من مظهر متقدم مذكور في الخطاب أو
معهود معلوم عند المخاطب, وليس في قوله تعالى: {وَالَّذَانِ
يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} دلالة من الحال على أن المراد الفاحشة فوجب
أن تكون كناية راجعة إلى الفاحشة التي تقدم ذكرها في أول الآية; إذ لو
لم تكن كناية عنها لم يستقم الكلام بنفسه في إيجاب الفائدة وإعلام
المراد, وليس ذلك بمنزلة قوله تعالى: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ
دَابَّةٍ} [فاطر: 45] وقوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ
الْقَدْرِ} [القدر:1] لأن من مفهوم ذكر الإنزال أنه القرآن, وفي مفهوم
قوله تعالى: {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} أنها الأرض,
فاكتفى بدلالة الحال وعلم المخاطب بالمراد عن ذكر المكني عنه; فالذي
يقتضيه ظاهر الخطاب أن يكون ترتيب معاني الآيتين على حسب ترتيب اللفظ
فإما أن تكونا نزلتا معا وإما أن يكون الأذى نازلا بعد الحبس إن كان
المراد بالأذى من أريد بالحبس من النساء. والوجه الثاني: ما روي عن
السدي أن قوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} إنما كان
حكما في البكرين خاصة, والأولى في الثيبات دون الأبكار. إلا أن هذا قول
يوجب تخصيص اللفظ بغير دلالة, وذلك غير سائغ لأحد مع إمكان استعمال
اللفظين على حقيقة مقتضاهما; وعلى أي وجه تصرف وجوه الاحتمال في حكم
الآيتين وترتيبهما فإن الأمة لم تختلف في نسخ هذين الحكمين عن
الزانيين.
وقد اختلف السلف في معنى السبيل المذكور في هذه الآية, فروي عن ابن
عباس: أن السبيل الذي جعله لهن الجلد لغير المحصن والرجم للمحصن" وعن
قتادة مثل
(2/134)
ذلك. وروي
عن مجاهد في بعض الروايات: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً}:
"أو يضعن ما في بطونهن"; وهذا لا معنى له; لأن الحكم كان عاما في
الحامل والحائل, فالواجب أن يكون السبيل مذكورا لهن جميعا.
(2/135)
مطلب: دلالة تكفي عن ذكر مرجع الضمير
واختلف أيضا فيما نسخ هذين الحكمين, فقال قائلون: نسخ بقوله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] وقد كان قوله تعالى: {وَالَّذَانِ
يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} في البكرين, فنسخ ذلك عنهما بالجلد المذكور
في هذه الآية, وبقي حكم الثيب من النساء الحبس فنسخ بالرجم. وقال
آخرون: نسخ بحديث عبادة بن الصامت وهو ما حدثنا جعفر بن محمد قال:
حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا أبو
النضر عن شعبة عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله الرقاشي عن عبادة
بن الصامت قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني قد جعل
الله لهن سبيلا, البكر بالبكر والثيب بالثيب البكر تجلد وتنفى والثيب
تجلد وترجم" . وهذا هو الصحيح وذلك لأن قوله: "خذوا عني قد جعل الله
لهن سبيلا" يوجب أن يكون بيانا للسبيل المذكور في الآية, ومعلوم أنه لم
يكن بين قول النبي صلى الله عليه وسلم وبين الحبس والأذى واسطة حكم,
وأن آية الجلد التي في سورة النور لم تكن نزلت حينئذ; لأنها لو كانت
نزلت كان السبيل متقدما لقوله: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا" ولما
صح أن يقول ذلك; فثبت بذلك أن الموجب لنسخ الحبس والأذى قول النبي صلى
الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت, وأن آية الجلد نزلت بعده. وفي
ذلك دليل على نسخ القرآن بالسنة; إذ نسخ بقول: " خذوا عني قد جعل الله
لهن سبيلا" ما أوجب الله من الحبس والأذى بنص التنزيل.
فإن قيل: فقوله تعالى: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ } وما ذكر
في الآيتين من الحبس والأذى كان في البكرين دون الثيبين. قيل له: لم
يختلف السلف في أن حكم المرأة الثيب كان الحبس, وإنما قال السدي إن
الأذى كان في البكرين خاصة; وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن
السبيل المذكور في آية الحبس وذلك لا محالة في الثيب, فأوجب أن يكون
منسوخا بقوله: "الثيب بالثيب الجلد والرجم", فلم يخل الحبس من أن يكون
منسوخا في جميع الأحوال بغير القرآن, وهي الأخبار التي فيها إيجاب رجم
المحصن; فمنها حديث عبادة الذي ذكرنا, وحديث عبد الله وعائشة وعثمان
حين كان محصورا فاستشهد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد
إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير نفس" , وقصة ماعز والغامدية ورجم
النبي صلى الله عليه وسلم إياهما قد نقلته الأمة لا يتمارون فيه.
(2/135)
مطلب: في انكار الخوارج الرجم
فإن قيل: هذه الخوارج بأسرها تنكر الرجم, ولو كان ذلك منقولا من جهة
الاستفاضة الموجبة للعلم لما جهلته الخوارج. قيل له: إن سبيل العلم
بمخبر هذه الأخبار السماع من ناقليها وتعرفه من جهتهم, والخوارج لم
تجالس فقهاء المسلمين ونقلة الأخبار منهم وانفردوا عنهم غير قابلين
لأخبارهم; فلذلك شكوا فيه ولم يثبتوه وليس يمتنع أن يكون كثير من
أوائلهم قد عرفوا ذلك من جهة الاستفاضة ثم جحدوا محاملة منهم على ما
سبقوا إلى اعتقاده من رد أخبار من ليس على مقالتهم, وقلدهم الأتباع ولم
يسمعوا من غيرهم فلم يقع لهم العلم به, أو الذين عرفوه كانوا عددا
يسيرا يجوز على مثلهم كتمان ما عرفوه وجحدوه, ولم يكونوا صحابة فيكونوا
قد عرفوه من جهة المعاينة أو بكثرة السماع من المعاينين له, فلما خلوا
من ذلك لم يعرفوه; ألا ترى أن فرائض صدقات المواشي منقولة من جهة النقل
المستفيض الموجب للعلم ولا يعرفها إلا أحد رجلين إما فقيه قد سمعها
فثبت عنده العلم بها من جهة الناقلين لها وإما رجل صاحب مواش تكثر
بلواه بوجوبها فيتعرفها ليعلم ما يجب عليه فيها؟ ومثله أيضا إذا كثر
سماعه وقع له العلم بها, وإن لم يسمعها إلا من جهة الآحاد لم يعلمها;
وهذا سبيل الخوارج في جحودهم الرجم وتحريم تزويج المرأة على عمتها
وخالتها وما جرى مجرى ذلك مما اختص أهل العدل بنقله دون الخوارج
والبغاة.
وقد تضمنت هاتان الآيتان أحكاما: منها استشهاد أربعة من الشهداء على
الزنا. ومنها الحبس للمرأة والأذى للرجل والمرأة جميعا. ومنها سقوط
الأذى والتعبير عنهما بالتوبة, لقوله تعالى: {فَإِنْ تَابَا
وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} وهذه التوبة إنما كانت مؤثرة في
إسقاط الأذى دون الحبس, وأما الحبس فكان موقوفا على ورود السبيل, وقد
بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك السبيل وهو الجلد والرجم, ونسخ جميع
ما ذكر في الآية إلا ما ذكر من استشهاد أربعة شهود, فإن اعتبار عدد
الشهود باق في الحد الذي نسخ به الحدان الأولان وهو الجلد والرجم. وقد
بين الله ذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ
جَلْدَةً} [النور: 4]
(2/136)
مطلب في جواز تعمد النظر إلى الزانيين لإقامة الحد عليهما
وقال تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ
لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ
الْكَاذِبُونَ} [النور:13] فلم ينسخ اعتبار العدد ولم ينسخ الاستشهاد
أيضا, وهذا
(2/136)
يوجب جواز
إحضار الشهود والنظر إلى الزانيين لإقامة الحد عليهما; لأن الله تعالى
أمر بالاستشهاد على الزنا وذلك لا يكون إلا بتعمد النظر فدل ذلك على أن
تعمد النظر إلى الزانيين لإقامة الحد عليهما لا يسقط شهادته; وكذلك فعل
أبو بكر مع شبل بن معبد ونافع بن الحارث وزياد في قصة المغيرة بن شعبة,
وذلك موافق لظاهر الآية.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ
تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} الآية; روى الشيباني
عن عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية قال: "كانوا إذا مات الرجل كان
أولياؤه أحق بامرأته من ولي نفسها, إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا
زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها, فنزلت هذه الآية في ذلك", وقال الحسن
ومجاهد: "كان الرجل إذا مات وترك امرأته قال وليه: ورثت امرأته كما
ورثت ماله, فإن شاء تزوجها بالصداق الأول وإن شاء زوجها وأخذ صداقها"
قال مجاهد: "وذلك إذا لم يكن ابنها" قال أبو مجلز: فكان بالميراث أولى
من ولي نفسها. وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: "كانوا في أول
الإسلام إذا مات الرجل يقوم أقرب الناس منه فيلقي على امرأته ثوبا فيرث
نكاحها, فمات أبو عامر زوج كبشة بنت معن, فجاء ابن عامر من غيرها وألقى
عليها ثوبا فلم يقربها ولم ينفق عليها, فشكت إلى النبي صلى الله عليه
وسلم فأنزل الله: {لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً
وَلا تَعْضُلُوهُنَّ} أن تؤتوهن الصداق الأول". وقال الزهري: "كان
يحبسها من غير حاجة إليها حتى تموت فيرثها فنهوا عن ذلك".
وقوله تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا
آتَيْتُمُوهُنَّ} قال ابن عباس وقتادة والسدي والضحاك: "هو أمر للأزواج
بتخلية سبيلها إذا لم يكن له فيها حاجة ولا يمسكها إضرارا بها حتى
تفتدي ببعض مالها". وقال الحسن: "هو نهي لولي الزوج الميت أن يمنعها من
التزوج على ما كان عليه أمر الجاهلية". وقال مجاهد: "هو نهي لوليها أن
يعضلها".
قال أبو بكر: الأظهر هو تأويل ابن عباس; لأن قوله تعالى: {لِتَذْهَبُوا
بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} وما ذكر بعده يدل عليه; لأن قوله:
{لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} يريد به المهر حتى تفتدي
كأنه يعضلها أو يسيء إليها لتفتدي منه ببعض مهرها.
وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}, قال
الحسن وأبو قلابة والسدي: "هو الزنا وإنه إنما تحل له الفدية إذا اطلع
منها على ريبة". وقال ابن عباس والضحاك وقتادة: "هي النشوز, فإذا نشزت
حل له أن يأخذ منها الفدية". وقد بينا في سورة البقرة أمر الخلع
وأحكامه.
(2/137)
مطلب فيما
تضمنه قوله تعالى : {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} من حقوق الورأة
على الزوج
وقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أمر للأزواج بعشرة
نسائهم بالمعروف, ومن المعروف أن يوفيها حقها من المهر والنفقة والقسم
وترك أذاها بالكلام الغليظ والإعراض عنها والميل إلى غيرها وترك العبوس
والقطوب في وجهها بغير ذنب وما جرى مجرى ذلك, وهو نظير قوله تعالى:
{فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229].
(2/138)
مطلب: في كراهة الطلاق وقوله عليه السلام: "أبغض الحلال عند الله
الطلاق"
وقوله تعالى: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا
شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} يدل على أنه مندوب
إلى إمساكها مع كراهة لها; وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما
يوافق معنى ذلك, حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا
كثير بن عبيد قال: حدثنا محمد بن خالد عن معروف بن واصل عن محارب بن
دثار عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبغض الحلال إلى
الله تعالى الطلاق". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن
خالد بن يزيد النيلي قال: حدثنا مهلب بن العلاء قال: حدثنا شعيب بن
بيان عن عمران القطان عن قتادة عن أبي تميمة الهجيمي عن أبي موسى
الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا ولا تطلقوا
فإن الله لا يحب الذواقين والذواقات". فهذا القول من النبي صلى الله
عليه وسلم موافق لما دلت عليه الآية من كراهة الطلاق والندب إلى
الإمساك بالمعروف مع كراهته لها, وأخبر الله تعالى أن الخيرة ربما كانت
لنا في الصبر على ما نكره بقوله تعالى: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا
شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} وهو كقوله تعالى:
{وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ
تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ} [البقرة: 216].
وقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ
وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} الآية, قد اقتضت هذه الآية إيجاب
المهر لها تمليكا صحيحا ومنع الزوج أن يأخذ منها شيئا مما أعطاها,
وأخبر أن ذلك سالم لها سواء استبدل بها أو أمسكها, وأنه محظور عليه أخذ
شيء منه إلا بما أباح الله تعالى به أخذ مال الغير في قوله تعالى:
{إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} وظاهره يقتضي
حظر أخذ شيء منه بعد الخلوة, فيحتج به في إيجاب كمال المهر إذا طلق بعد
الخلوة لعموم اللفظ في حظر الأخذ في كل حال إلا ما خصه الدليل; وقد خص
قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ
وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}
[البقرة: 237] إذا طلق قبل الخلوة في سقوط نصف المهر;
(2/138)
لأنه لا
خلاف أن ذلك مراد إذا طلق قبل الخلوة. وقد اختلف في الخلوة هل هي
المسيس المراد بالآية أو المسيس الجماع؟ واللفظ محتمل للأمرين; لأن
عليا وعمر وغيرهما من الصحابة قد تأولوه عليها, وتأوله عبد الله بن
مسعود على الجماع, فلا يخص عموم قوله تعالى: {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ
شَيْئاً} بالاحتمال.
(2/139)
مطلب:
فيما تضمنه قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} من
الأحكام
وقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا
مِنْهُ شَيْئاً} يدل على أن من وهب لامرأته هبة لا يجوز له الرجوع
فيها; لأنها مما آتاها, وعموم اللفظ قد حظر أخذ شيء مما آتاها من غير
فرق بين المهر وغيره ويحتج فيمن خلع امرأته على مال وقد أعطاها صداقها
أنه لا يرجع عليها بشيء من الصداق الذي أعطاها عينا كان أو عرضا على ما
قاله أبو حنيفة في ذلك. ويحتج به فيمن أسلف امرأته نفقتها لمدة ثم ماتت
قبل المدة أنه لا يرجع في ميراثها بشيء مما أعطاها لعموم اللفظ; لأنه
جائز أن يريد أن يتزوج بأخرى بعد موتها مستبدلا بها مكان الأولى, فظاهر
اللفظ قد تناول هذه الحال.
فإن قيل: لما عقب ذلك قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ
أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} دل على أن المراد بأول الخطاب فيما
أعطاها هو المهر دون غيره; إذ كان هذا المعنى إنما يختص بالمهر دون ما
سواه. قيل له: ليس يمتنع أن يكون أول الخطاب عموما في جميع ما انتظمه
الاسم, ويكون المعطوف عليه بحكم خاص فيه ولا يوجب ذلك خصوص اللفظ
الأول, وقد بينا نظائر ذلك في مواضع. وهذه الآية أيضا تدل على أنه إذا
دخل بها ثم وقعت الفرقة من قبلها بمعصية أو غير معصية أن مهرها واجب لا
يبطله وقوع الفرقة من قبلها. وفائدة تخصيص الله تعالى حال الاستبدال
بالنهي عن أخذ شيء مما أعطاها مع شمول الحظر لسائر الأحوال إزالة توهم
من يظن أن ذلك جائز عند حصول البضع لها وسقوط حق الزوج عنه بطلاقها وأن
الثانية قد قامت مقام الأولى فتكون أولى بالمهر الذي أعطاها فنص على
حظر الأخذ في هذه الحال, ودل به على عمومه في سائر الأحوال إذا لم يبح
له أخذ شيء مما أعطاها في الحال التي يسقط حقه عن بضعها, فهو أولى أن
لا يأخذ منها شيئا مع بقاء حقه في استباحة بضعها وكونه أملك بها من
نفسها. وأكد الله تعالى حظر أخذ شيء مما أعطى بأن جعله ظلما كالبهتان,
وهو الكذب الذي يباهت به مخبره ويكابر به من يخاطبه, وهذا أقبح ما يكون
من الكذب وأفحشه; فشبه أخذ ما أعطاها بغير حق بالبهتان في قبحه فسماه
بهتانا وإثما.
قوله عز وجل: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى
بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} .
(2/139)
مطلب: في قول الفراء أن الإفضاء هو الخلوة
قال أبو بكر: ذكر الفراء أن الإفضاء هو الخلوة وإن لم يقع دخول. وقول
الفراء حجة فيما يحكيه من اللغة, فإذا كان اسم الإفضاء يقع على الخلوة
فقد منعت الآية أن يأخذ منها شيئا بعد الخلوة والطلاق; لأن قوله تعالى:
{وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ} قد أفاد الفرقة والطلاق,
والإفضاء مأخوذ من الفضاء, وهو المكان الذي ليس فيه بناء حاجز عن إدراك
ما فيه, فسميت الخلوة إفضاء لزوال المانع من الوطء والدخول. ومن الناس
من يقول: إن الفضاء السعة, وأفضى: إذا صار في المتسع مما يقصده. وجائز
على هذا الوضع أيضا أن تسمى الخلوة إفضاء لوصوله بها إلى مكان الوطء
واتساع ذلك بالخلوة, وقد كان يضيق عليه الوصول إليها قبل الخلوة, فسميت
الخلوة إفضاء لهذا المعنى, فأخبر تعالى أنه غير جائز له أخذ شيء مما
أعطاها مع إفضاء بعضهم إلى بعض, وهو الوصول إلى مكان الوطء وبذلها ذلك
له وتمكينها إياه من الوصول إليها. فظاهر هذه الآية يمنع الزوج أخذ شيء
مما أعطاها إذا كان النشوز من قبله; لأن قوله تعالى: {وَإِنْ
أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} يدل على أن الزوج هو
المريد للفرقة دونها, ولذلك قال أصحابنا: إن النشوز إذا كان من قبله
يكره له أن يأخذ شيئا من مهرها, وإذا كان من قبلها فجائز له ذلك لقوله
تعالى: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا
آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} فقيل
عن ابن عباس: إن الفاحشة هي النشوز, وقال غيره: "هي الزنا". و لقوله
تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ
عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ومن الناس من يقول
إنها منسوخة بقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ
زَوْجٍ}. وذلك غلط; لأن قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ
زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} قد أفاد حال كون النشوز من قبله, وقوله تعالى:
{إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} [البقرة: 229]
إنما فيه ذكر حال أخرى غير الأولى, وهي الحال التي يكون النشوز منها
وافتدت فيها المرأة منه, فهذه حال غير تلك وكل واحدة من الحالين مخصوصة
بحكم دون الأخرى.
(2/140)
مطلب: في
قوله تعالى : {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً}
وقوله تعالى: {وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقاً غَلِيظاً} قال الحسن وابن
سيرين وقتادة والضحاك والسدي: هو قوله: { فََإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ
أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. قال قتادة: "وكان يقال
للناكح في صدر الإسلام: الله عليك لتمسكن بمعروف أو لتسرحن بإحسان".
وقال مجاهد: "كلمة النكاح التي يستحل بها الفرج". وقال غيره: هو قول
(2/140)
النبي صلى
الله عليه وسلم: "إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة
الله تعالى" ; والله أعلم بالصواب.
(2/141)
باب ما يحرم من النساء
قال الله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ
النِّسَاءِ}. قال أبو بكر: أخبرنا أبو عمر غلام ثعلب قال: الذي حصلناه
عن ثعلب عن الكوفيين والمبرد عن البصريين أن النكاح في أصل اللغة هو
اسم للجمع بين الشيئين, تقول العرب: "أنكحنا الفرا فسنرى" هو مثل ضربوه
للأمر يتشاورون فيه ويجتمعون عليه ثم ينظر عن ماذا يصدرون فيه, معناه:
جمعنا بين الحمار وأتانه.
(2/141)
مطلب: في النكاح يطلق على الوطء حقيقة وعلى العقد مجازا
قال أبو بكر: إذا كان اسم النكاح في حقيقة اللغة موضوعا للجمع بين
الشيئين, ثم وجدناهم قد سموا الوطء نفسه نكاحا من غير عقد كما قال
الأعشى:
ومنكوحة غير ممهورة ... وأخرى يقال له فادها
يعني المسبية الموطوءة بغير مهر ولا عقد, وقال الآخر:
ومن أيم قد أنكحتها رماحنا ... وأخرى على عم وخال تلهف
وهذا يعني المسبية أيضا; ومنه قول الآخر أيضا:
فنكحن1 أبكارا وهن بأمة ... أعجلنهن مظنة الإعذار
وهو يعني الوطء أيضا; ولا يمتنع أحد من إطلاق اسم النكاح على الوطء.
وقد تناول الاسم العقد أيضا, قال الله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49] والمراد به العقد دون الوطء, وقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "أنا من نكاح ولست من سفاح" ; فدل بذلك على
معنيين: أحدهما: أن اسم النكاح يقع على العقد, والثاني: دلالته على أنه
قد يتناول الوطء من غير عقد, لولا ذلك لاكتفى بقوله: أنا من نكاح, إذ
كان السفاح لا يتناول اسم النكاح بحال, فدل قوله: "ولست من سفاح" بعد
ـــــــ
1 قوله: "فنكحن" إلى آخر البيت للنابغة الذبياني ومعنى المة بالكسر
النعمة. وقوله: "العذار" وهو الخنان والمني نكحن وهي ماسوران لم يختن
بعد كما في شرح البطليوس. "لمصححه".
(2/141)
مطلب" في مناظر جرت بين الإمام الشافعي مع بعض الناس في قوله: "إن
الحرام لا يحرم الحلال",
...
شائعا في الجاهلية, فلو كان النبي صلى الله عليه وسلم أقر أحدا منهم
على ذلك النكاح لنقل واستفاض, فلما لم ينقل ذلك دل على أن المراد
بقوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}: فإنكم غير مؤاخذين به وذلك; لأنهم
قبل ورود الشرع بخلاف ما هم عليه كانوا مقرين على أحكامهم, فأعلمهم
الله تعالى أنهم غير مؤاخذين فيما لم تقم عندهم حجة السمع بتركه, فلا
احتمال في قوله: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} في هذا الموضع إلا ما ذكرنا;
وقوله تعالى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} عند ذكر الجمع بين الأختين
يحتمل غير ما ذكرنا ههنا, وسنذكره إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى.
ومعنى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} ههنا استثناء منقطع كقوله: "لا تلق
فلانا إلا ما لقيت" يعني لكن ما لقيت فلا لوم عليك فيه.
وقوله: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} هذه الهاء كناية عن النكاح; وقد قيل
فيه وجهان: أحدهما: النكاح بعد النهي فاحشة, ومعناه هو فاحشة, فـ "كان"
في هذا الموضع ملغاة وهو موجود في كلامهم, قال الشاعر:
فإنك لو رأيت ديار قوم ... وجيران لنا كانوا كرام
فأدخل" كان" وهي ملغاة غير معتد بها; لأن القوافي مجرورة. وقال الله
تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} [النساء: 17] والله عليم
حكيم. ويحتمل أن يريد به أن ما كان منه في الجاهلية فهو فاحشة فلا
تفعلوا مثله, وهذا لا يكون إلا بعد قيام حجة السمع عليهم بتحريمه, ومن
قال هذا جعل قوله تعالى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} فإنه يسلم منه
بالإقلاع عنه والتوبة منه.
قال أبو بكر: والأولى حمله على أنه فاحشة بعد نزول التحريم; لأن ذلك
مراد عند الجميع لا محالة, ولم تقم الدلالة على أن حجة السمع قد كانت
قامت عليهم بتحريمه من جهة الرسل المتقدمين فيستحقون اللوم عليه; ويدل
عليه قوله تعالى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} وظاهره يقتضي نفي المؤاخذة
بما سلف منه.
فإن قيل: هذا يدل على أن من عقد نكاحا على امرأة أبيه ووطئها كان وطؤه
زنا موجبا للحد; لأنه سماها فاحشة, وقال الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا
الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الاسراء:32] قيل
له: الفاحشة لفظ مشترك يقع على كثير من المحظورات, وقد روي في قوله
تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أن خروجها من
بيته فاحشة. وروي أن الفاحشة في ذلك أن تستطيل بلسانها على أهل زوجها,
وقيل فيها: إنها الزنا. فالفاحشة اسم يتناول مواقعة المحظور, وليس يختص
بالزنا دون غيره حتى إذا أطلق فيه اسم الفاحشة كان زنا, وما كان من وطء
عن عقد فاسد فإنه لا يسمى
(2/145)
مطلب اختلف السلف في التحريم بقليل الرضاع
واختلف السلف ومن بعدهم في التحريم بقليل الرضاع, فروي عن عمر وعلي
وابن عباس وابن عمر والحسن وسعيد بن المسيب وطاوس وإبراهيم والزهري
والشعبي: "قليل الرضاع وكثيره يحرم في الحولين" وهو قول أبي حنيفة وأبي
يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والأوزاعي والليث قال الليث: "اجتمع
المسلمون على أن قليل الرضاع وكثيره يحرم في المهد ما يفطر الصائم".
وقال ابن الزبير والمغيرة بن شعبة وزيد بن ثابت: "لا تحرم الرضعة ولا
الرضعتان". وقال الشافعي: "لا يحرم من الرضاع إلا خمس رضعات متفرقات".
(2/156)
قال أبو
بكر: وقد ذكرنا في سورة البقرة الكلام في مدة الرضاع والاختلاف فيها,
وقد قدمنا ذكر دلالة الآية على إيجاب التحريم بقليل الرضاع, وغير جائز
لأحد إثبات تحديد الرضاع الموجب للتحريم إلا بما يوجب العلم من كتاب أو
سنة منقولة من طريق التواتر, ولا يجوز قبول أخبار الآحاد عندنا في
تخصيص حكم الآية الموجبة للتحريم بقليل الرضاع; لأنها آية محكمة ظاهرة
المعنى بينة المراد لم يثبت خصوصها بالاتفاق, وما كان هذا وصفه فغير
جائز تخصيصه بخبر الواحد ولا بالقياس. ويدل عليه من جهة السنة قول
النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما الرضاعة من المجاعة", رواه مسروق عن
عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم; ولم يفرق بين القليل والكثير, فهو
محمول عليهما جميعا. ويدل عليه أيضا ما روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم من جهة التواتر والاستفاضة أنه قال: "يحرم من الرضاع ما يحرم من
النسب" رواه علي وابن عباس وعائشة وحفصة عن النبي صلى الله عليه وسلم
وتلقاه أهل العلم بالقبول والاستعمال; فلما حرم النبي صلى الله عليه
وسلم من الرضاع ما يحرم من النسب وكان معلوما أن النسب متى ثبت من وجه
أوجب التحريم وإن لم يثبت من وجه آخر, كذلك الرضاع يجب أن يكون هذا
حكمه في إيجاب التحريم بالرضعة الواحدة لتسوية النبي صلى الله عليه
وسلم بينهما فيما علق بهما من حكم التحريم.
واحتج من اعتبر خمس رضعات بما روت عائشة وابن الزبير وأم الفضل أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحرم المصة ولا المصتان" وبما روي
عن عائشة أنها قالت: "كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات,
فنسخن بخمس معلومات, فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي فيما يقرأ
من القرآن".
قال أبو بكر: وهذه الأخبار لا يجوز الاعتراض بها على ظاهر قوله تعالى:
{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ
الرَّضَاعَةِ} لما بينا أن ما لم يثبت خصوصه من ظواهر القرآن وكان ظاهر
المعنى بين المراد لم يجز تخصيصه بأخبار الآحاد, فهذا أحد الوجوه التي
تسقط الاعتراض بهذا الخبر ووجه آخر وهو ما حدث أبو الحسن الكرخي قال:
حدثنا الحضرمي قال: حدثنا عبد الله بن سعيد قال: حدثنا أبو خالد عن
حجاج عن حبيب بن أبي ثابت عن طاوس عن ابن عباس أنه سئل عن الرضاع فقلت:
إن الناس يقولون لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان قال: "قد كان ذاك, فأما
اليوم فالرضعة الواحدة تحرم". وروى محمد بن شجاع قال: حدثنا إسحاق بن
سليمان عن حنظلة عن طاوس قال: "اشترطت عشر رضعات ثم قيل الرضعة الواحدة
تحرم"; فقد عرف ابن عباس وطاوس خبر العدد في الرضاع وأنه منسوخ
بالتحريم بالرضعة الواحدة وجائز أن يكون التحديد كان مشروطا في رضاع
الكبير, وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في رضاع الكبير وهو
(2/157)
منسوخ عند
فقهاء الأمصار, فجائز أن يكون تحديد الرضاع كان في رضاع الكبير, فلما
نسخ سقط التحديد; إذ كان مشروطا فيه. وأيضا يلزم الشافعي إيجاب التحريم
بثلاث رضعات لدلالة قوله: "لا تحرم الرضعة ولا الرضعتان" على إيجاب
التحريم فيما زاد على أصله في المخصوص بالذكر وأما حديث عائشة فغير
جائز اعتقاد صحته على ما ورد, وذلك لأنها ذكرت أنه كان فيما أنزل من
القرآن عشر رضعات فنسخن بخمس, وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي
وهو مما يتلى; وليس أحد من المسلمين يجيز نسخ القرآن بعد موت النبي صلى
الله عليه وسلم, فلو كان ثابتا لوجب أن تكون التلاوة موجودة, فإذا لم
توجد به التلاوة ولم يجز النسخ بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم لم
يخل ذلك من أحد وجهين: إما أن يكون الحديث مدخولا في الأصل غير ثابت
الحكم, أو يكون إن كان ثابتا فإنما نسخ في حياة رسول الله صلى الله
عليه وسلم وما كان منسوخا فالعمل به ساقط. وجائز أن يكون ذلك كان
تحديدا لرضاع الكبير, وقد كانت عائشة تقول به في إيجاب التحريم في رضاع
الكبير دون سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم; وقد ثبت عندنا وعند
الشافعي نسخ رضاع الكبير, فسقط حكم التحديد المذكور في حديث عائشة هذا.
ومع ذلك لو خلا من هذه المعاني التي ذكرنا من الاستحالة والاحتمال لما
جاز الاعتراض به على ظاهر القرآن; إذ هو من أخبار الآحاد. ومما يدل على
ما ذكرنا من سقوط اعتبار التحديد أن الرضاع يوجب تحريما مؤبدا, فأشبه
الوطء الموجب لتحريم الأم والبنت والعقد الموجب للتحريم كحلائل الأبناء
وما نكح الآباء, فلما كان القليل من ذلك ككثيره فيما يتعلق به من حكم
التحريم وجب أن يكون ذلك حكم الرضاع في إيجاب التحريم بقليله.
(2/158)
مطلب: اختلف أهل لعلم في لبن الفحل
واختلف أهل العلم في لبن الفحل, وهو الرجل يتزوج المرأة فتلد منه ولدا
وينزل لها لبن بعد ولادتها منه فترضع به صبيا; فإن من قال بتحريم لبن
الفحل يحرم هذا الصبي على أولاد الرجل وإن كانوا من غيرها, ومن لا
يعتبره لا يوجب تحريما بينه وبين أولاده من غيرها. فممن قال بلبن الفحل
ابن عباس وروى الزهري عن عمرو بن الشريد عن ابن عباس أنه سئل عن رجل له
امرأتان أرضعت هذه غلاما وهذه جارية, هل يصح للغلام أن يتزوج الجارية؟
فقال: "لا, اللقاح واحد", وهو قول القاسم وسالم وعطاء وطاوس. وذكر
الخفاف عن سعيد عن ابن سيرين قال: "كرهه قوم ولم ير به قوم بأسا, ومن
كرهه كان أفقه من الذين لم يروا به بأسا" وذكر عباد بن منصور. قال: قلت
للقاسم بن محمد: امرأة أبي أرضعت جارية من الناس بلبان إخوتي من أبي
أتحل لي؟ قال: "لا, أبوك أبوها" فسألت طاوسا والحسن فقالا مثل ذلك,
وسألت مجاهدا فقال: "اختلف فيه
(2/158)
فقهاء
فلست أقول فيه شيئا" وسألت محمد بن سيرين فقال مثل قول مجاهد وسألت
يوسف بن ماهك فذكر حديث أبي قعيس. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر
ومالك والثوري والأوزاعي والليث والشافعي: "لبن الفحل يحرم". وقال سعيد
بن المسيب وإبراهيم النخعي وأبو سلمة بن عبد الرحمن وعطاء بن يسار
وسليمان بن يسار: "إن لبن الفحل لا يحرم شيئا من قبل الرجال" وروي مثله
عن رافع بن خديج.
والدليل على صحة القول الأول حديث الزهري وهشام بن عروة عن عروة عن
عائشة: أن أفلح أخا أبي القعيس جاء ليستأذن عليها وهو عمها من الرضاعة
بعد أن نزل الحجاب, قالت فأبيت أن آذن له, فلما جاء النبي صلى الله
عليه وسلم أخبرته, قال: "ليلج عليك فإنه عمك" قلت: إنما أرضعتني
المرأة. ولم يرضعني الرجل قال: "ليلج عليك فإنه عمك تربت يمينك" وكان
أبو القعيس زوج المرأة التي أرضعت عائشة. ويدل عليه من جهة النظر أن
سبب نزول اللبن هو ماء الرجل والمرأة جميعا; لأن الحمل منهما جميعا,
فوجب أن يكون الرضاع منهما كما كان الولد منهما وإن اختلف سببهما.
فإن قيل: قد روى مالك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة أنها
كانت تدخل عليها من أرضعته أخواتها وبنات أخيها ولا تدخل عليها من
أرضعته نساء إخوتها. قيل له: هذا غير مخالف لما ورد في لبن الفحل; إذ
كان لها أن تأذن لمن شاءت من محارمها وتحجب من شاءت. ويدل عليه أيضا من
جهة النظر أن البنت محرمة على الجد وإن لم تكن من مائه; لأنه كان سبب
حدوث الأب الذي هو من مائه, كذلك الرجل لما كان هو سبب نزول اللبن من
المرأة وجب أن يتعلق به التحريم وإن لم يكن اللبن منه; إذ كان هو سببه
كما يتعلق به التحريم من جهة الأم. والمنصوص عليه في التنزيل من الرضاع
الأمهات والأخوات من الرضاعة, إلا أنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه
وسلم بالنقل المستفيض الموجب للعلم أنه قال: "يحرم من الرضاع ما يحرم
من النسب" واتفق الفقهاء على استعماله; والله أعلم.
(2/159)
باب أمهات النساء والربائب
قال الله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي
فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} ولم
تختلف الأمة أن الربائب لا يحرمن بالعقد على الأم حتى يدخل بها أو يكون
منه ما يوجب التحريم من اللمس والنظر على ما بيناه فيما سلف, وهو نص
التنزيل في قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ
فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}.
واختلف السلف في أمهات النساء, هل يحرمن بالعقد دون الدخول؟ فروى
(2/159)
حماد بن
سلمة عن قتادة عن خلاس أن عليا قال في رجل طلق امرأته قبل الدخول بها:
"فله أن يتزوج أمها, وإن تزوج أمها ثم طلقها قبل الدخول يتزوج بنتها
تجريان مجرى واحدا"; وأهل النقل يضعفون حديث خلاس عن علي; ويروى عن
جابر بن عبد الله مثل ذلك, وهو قول مجاهد وابن الزبير. وعن ابن عباس
روايتان: إحداهما ما يرويه ابن جريج عن أبي بكر بن حفص عن عمرو بن مسلم
بن عويمر بن الأجدع عنه: أن أم المرأة لا تحرم إلا بالدخول, والأخرى ما
يرويه عكرمة عنه: أنها تحرم بنفس العقد. وقال عمر وعبد الله بن مسعود
وعمران بن حصين ومسروق وعطاء والحسن وعكرمة: "تحرم بالعقد دخل بها أو
لم يدخل".
(2/160)
مطلب: افتى ابن مسعود بحل التزويج بأم المرأة قيل الدخول بها ثم رجع عن
ذلك
وروى أبو أسامة عن سفيان عن أبي فروة عن أبي عمرو الشيباني عن عبد الله
بن مسعود أنه أفتى في امرأة تزوجها رجل فطلقها قبل أن يدخل بها أو ماتت
قال: "لا بأس أن يتزوج أمها" فلما أتى المدينة رجع فأفتاهم فنهاهم وقد
ولدت أولادا. وروى إبراهيم عن شريح أن ابن مسعود كان يقول بقول علي
ويفتي به, يعني في أمهات النساء, فحج فلقي أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم فذاكرهم ذلك فكرهوا. أن يتزوجها, فلما رجع ابن مسعود نهى من
كان أفتاه بذلك, وكانوا أحياء من بني فزارة أفتاهم بذلك وقال: "إني
سألت أصحابي فكرهوا ذلك".
وروى قتادة عن سعيد بن المسيب أن زيد بن ثابت قال في رجل طلق امرأته
قبل الدخول فأراد أن يتزوج أمها, قال: "إن طلقها قبل الدخول يتزوج
أمها, وإن ماتت لم يتزوج أمها", وأصحاب الحديث يضعفون حديث قتادة هذا
عن سعيد بن المسيب عن زيد ويقولون: إن أكثر ما يرويه قتادة عن سعيد بن
المسيب بينه وبينه رجال, وإن رواياته عن سعيد مخالفة لروايات أكثر
أصحاب سعيد الثقات; وقال عبد الرحمن بن مهدي عن مالك عن سعيد بن
المسيب: أحب إلي من قتادة عن سعيد. وقد روى يحيى بن سعيد الأنصاري عن
زيد بن ثابت خلاف رواية قتادة. ويقال إن حديث يحيى وإن كان مرسلا فهو
أقوى من حديث قتادة عن سعيد قال أبو بكر: وهذا الذي ذكرناه طريقة أصحاب
الحديث, والفقهاء لا يعتبرون ذلك في قبول الأخبار وردها, وإنما ذكرنا
ذلك ليعرف به مذهب القوم فيه دون اعتباره والعمل عليه; ويشبه أن يكون
زيد بن ثابت إنما فرق بين الموت والطلاق في التحريم; لأن الطلاق قبل
الدخول لا يتعلق به شيء من أحكام الدخول ألا ترى أنه يجب في نصف المهر
ولا تجب عليها العدة؟ وأما الموت
(2/160)
فلما كان
في حكم الدخول في باب استحقاق كمال المهر ووجوب العدة جعله كذلك في حكم
التحريم. والدليل على أن أمهات النساء يحرمن بالعقد قوله تعالى:
{وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} هي مبهمة عامة كقوله: {وَحَلائِلُ
أَبْنَائِكُمُ} وقوله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ
النِّسَاءِ}, فغير جائز تخصيصه إلا بدلالة.
وقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ
نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} حكم مقصور على الربائب دون
أمهات النساء, وذلك من وجوه: أحدها أن كل واحدة من الجملتين مكتفية
بنفسها في إيجاب الحكم المذكور فيها, أعني قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ
نِسَائِكُمْ} وقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ
مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وكل كلام اكتفى بنفسه
من غير تضمين له بغيره ولا حمله عليه وجب إجراؤه على مقتضى لفظه دون
تعليقه بغيره, فلما كان قوله: { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} جملة مكتفية
بنفسها يقتضي عمومها تحريم أمهات النساء مع وجود الدخول وعدمه, وكان
قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ
نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} جملة قائمة بنفسها على ما
فيها من شرط الدخول, لم يجز لنا بناء إحدى الجملتين على الأخرى بل
الواجب إجراء المطلق منهما على إطلاقه والمقيد على تقييده وشرطه, إلا
أن تقوم الدلالة على أن إحداهما مبنية على الأخرى محمولة على شرطها.
وأخرى: وهي أن قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ
مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا
دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} يجري هذا الشرط مجرى
الاستثناء, تقديره: وربائبكم اللاتي في حجوركم من نسائكم إلا اللاتي لم
تدخلوا بهن; لأن فيه إخراج بعض ما انتظمه العموم, فلما كان ذلك في معنى
الاستثناء وكان من حكم الاستثناء عوده إلى ما يليه إلا أن تقوم الدلالة
على رجوعه إلى ما تقدم, وجب أن يكون حكمه مقصورا على الربائب ولم يجز
رده إلى ما تقدمه إلا بدلالة. وأخرى: وهي أن شرط الدخول تخصيص لعموم
اللفظ, وهو لا محالة مستعمل في الربائب ورجوعه إلى أمهات النساء مشكوك
فيه, وغير جائز تخصيص العموم بالشك, فوجب أن يكون عموم التحريم في
أمهات النساء مقرا على بابه. وأخرى: وهي أن إضمار شرط الدخول لا يصح في
أمهات النساء مظهرا; لأنه لا يستقيم أن يقال: وأمهات نسائكم من نسائكم
اللاتي دخلتم بهن; لأن أمهات نسائنا لسن من نسائنا والربائب من نسائنا;
لأن البنت من الأم وليست الأم من البنت, فلما لم يستقم الكلام بإظهار
أمهات النساء في الشرط لم يصح إضماره فيه, فثبت بذلك أن قوله: {مِنْ
نِسَائِكُمُ } إنما هو من وصف الربائب دون أمهات النساء وأيضا فلو
جعلنا قوله: { مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} نعتا
لأمهات النساء وجعلنا تقديره: وأمهات نسائكم من
(2/161)
نسائكم
اللاتي دخلتم بهن لخرج الربائب من الحكم وصار حكم الشرط في أمهات
النساء دونهن, وذلك خلاف نص التنزيل, فثبت أن شرط الدخول مقصور على
الربائب دون أمهات النساء.
وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إسماعيل بن الفضل قال: حدثنا
قتيبة بن سعيد قال: حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أيما رجل نكح امرأة فدخل بها فلا
يحل له نكاح ابنتها, وإن لم يدخل بها فلينكح ابنتها; وأيما رجل نكح
امرأة فدخل بها أو لم يدخل بها فلا يحل له نكاح أمها".
وقد حكي عن السلف اختلاف في حكم الربيبة, فذكر ابن جريج قال: أخبرني
إبراهيم بن عبيد بن رفاعة عن مالك بن أوس عن علي بن أبي طالب كرم الله
وجهه أنه قال في الربيبة إذا لم تكن في حجر الزوج وكانت في بلد آخر ثم
فارق الأم بعد الدخول: "إنه جائز له أن يتزوج الربيبة". ونسب عبد
الرزاق إبراهيم هذا فقال: إبراهيم بن عبيد في غير هذا الحديث, وهو
مجهول لا تثبت بمثله مقالة; ومع ذلك فإن أهل العلم ردوه ولم يتلقه أحد
منهم بالقبول. وقد ذكر قتادة عن خلاس عن علي أن الربيبة والأم تجريان
مجرى واحدا, وهو خلاف هذا الحديث; لأن الأم لا محالة تحرم بالدخول
بالبنت وقد جعل الربيبة مثلها, فاقتضى تحريم البنت بالدخول بالأم سواء
كانت في حجره أو لم تكن. وذكر في حديث إبراهيم هذا أن عليا احتج في ذلك
بأن الله تعالى قال: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} فإذا
لم تكن في حجره لم تحرم. وحكاية هذا الحجاج يدل على وهي الحديث وضعفه;
لأن عليا لا يحتج بمثله وذلك; لأنا قد علمنا أن قوله:
{وَرَبَائِبُكُمُ} لم يقتض أن تكون تربية زوج الأم لها شرطا في
التحريم, وأنه متى لم يربها لم تحرم, وإنما سميت بنت المرأة ربيبة; لأن
الأعم الأكثر أن زوج الأم يربيها; ثم معلوم أن وقوع الاسم على هذا
المعنى لم يوجب كون تربيته إياها شرطا في التحريم, كذلك قوله: {فِي
حُجُورِكُمْ} كلام خرج على الأعم الأكثر من كون الربيبة في حجر الزوج;
وليست هذه الصفة شرطا في التحريم كما أن تربية الزوج إياها ليست شرطا
فيه, وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم "في خمس وعشرين من الإبل بنت
مخاض وفي ست وثلاثين بنت لبون" وليس كون المخاض أو اللبن بالأم شرطا في
المأخوذ وإنما ذكره; لأن الأغلب أنها إذا دخلت في السنة الثانية كان
بأمها مخاض وإذا دخلت في الثالثة كان بأمها لبن; فإنما أجرى الكلام على
غالب الحال, كذلك قوله تعالى: {فِي حُجُورِكُمْ} على هذا الوجه.
قال أبو بكر: لا خلاف بين أهل العلم في تحريم من ذكر ممن لا يعتق عليه
بملك اليمين, وأن الأم والأخت من الرضاعة محرمتان بملك اليمين كما هما
بالنكاح, وكذلك
(2/162)
أم المرأة
وابنتها إذا دخل بالأم وأن كل واحدة منهما محرمة عليه تحريما مؤبدا إذا
وطئ الأخرى; وكذلك لا خلاف أنه لا يجوز له الجمع بين أم وبنت بملك
اليمين. وروي ذلك عن عمر وابن عباس وابن عمر وعائشة ولا خلاف أيضا أن
الوطء بملك اليمين يحرم ما يحرمه الوطء بالنكاح فيما يتعلق به تحريم
مؤبد.
قوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ}
قال عطاء بن أبي رباح: نزلت في النبي صلى الله عليه وسلم حين تزوج
امرأة زيد ونزلت: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ}
[الأحزاب: 4] و {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ}
[الأحزاب: 40], قال: وكان يقال له زيد بن محمد.
(2/163)
مطلب: الحلية اسم يختص بالزوجة دون المملوكة بملك اليمين
قال أبو بكر: حليلة الابن هي زوجته, ويقال إنما سميت حليلة; لأنها تحل
معه في فراش, وقيل: لأنه يحل له منها الجماع بعقد النكاح, والأمة إن
استباح فرجها بالملك لا تسمى حليلة ولا تحرم على الأب ما لم يطأها,
وعقد نكاح الابن عليها يحرمها على أبيه تحريما مؤبدا, وهذا يدل على أن
الحليلة اسم يختص بالزوجة دون ملك اليمين. ولما علق حكم التحريم
بالتسمية دون ذكر الوطء اقتضى ذلك تحريمهن بالعقد دون شرط الوطء; لأنا
لو شرطنا الوطء لكان فيه زيادة في النص, ومثلها يوجب النسخ; لأنها تبيح
ما حظرته الآية, وهذا لا خلاف فيه بين المسلمين.
قال أبو بكر: وقوله تعالى: {الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} قد تناول عند
الجمع تحريم حليلة ولد الولد على الجد, وهذا يدل على أن ولد الولد يطلق
عليه أنه من صلب الجد; لأن إطلاق الآية قد اقتضاه عند الجميع, وفيه
دلالة على أن ولد الولد منسوب إلى الجد بالولادة. وهذه الآية في
تخصيصها حليلة الابن من الصلب في معنى قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى
زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا
مِنْهُنَّ وَطَراً} [الأحزاب: 37] لما تضمنه من إباحة تزويج حليلة
الابن من جهة التبني. وقوله: {فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} يدل على
أن حليلة الابن هي زوجته; لأنه عبر في هذا الموضع عنهن باسم الأزواج
وفي الآية الأولى بذكر الحلائل.
قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ
سَلَفَ} قال أبو بكر: قد اقتضى ذلك تحريم الجمع بين الأختين في سائر
الوجوه لعموم اللفظ; والجمع على وجوه: منها أن يعقد عليهما جميعا معا
فلا يصح نكاح واحدة منهما; لأنه جامع بينهما, وليست إحداهما بأولى
بجواز نكاحها من الأخرى, ولا يجوز تصحيح نكاحهما مع تحريم الله
(2/163)
تعالى
الجمع بينهما, وغير جائز تخيير الزوج في أن يختار أيتهما شاء من قبل أن
العقدة وقعت فاسدة مثل النكاح في العدة أو هي تحت زوج, فلا يصح أبدا.
ومن الجمع أن يتزوج إحداهما ثم يتزوج الأخرى بعدها, فلا يصح نكاح
الثانية; لأن الجمع بها حصل وعقدها وقع منهيا عنه وعقد الأولى وقع
مباحا, فيفرق بينه وبين الثانية. ومن الجمع أيضا أن يجمع بين وطئهما
بملك اليمين, فيطأ إحداهما ثم يطأ الأخرى قبل إخراج الموطوءة الأولى من
ملكه; فهذا ضرب من الجمع, وقد كان فيه خلاف بين السلف ثم زال وحصل
الإجماع على تحريم الجمع بينهما بملك اليمين.
(2/164)
مطلب: سئل علي عن وطء أختين بملك اليمين فقال: "أحلتهما آية وحرمهما
آية" إلى آخره
وروي عن عثمان وابن عباس أنهما أباحا ذلك وقالا: "أحلتهما آية وحرمتهما
آية" وقال عمر وعلي وابن مسعود والزبير وابن عمر وعمار وزيد بن ثابت:
"لا يجوز الجمع بينهما بملك اليمين", وقال الشعبي: سئل علي عن ذلك
فقال: "أحلتهما آية وحرمتهما آية" فإذا أحلتهما آية وحرمتهما آية
فالحرام أولى. وروى عبد الرحمن المقري قال: حدثنا موسى بن أيوب الغافقي
قال: حدثني عمي إياس بن عامر قال: سألت علي بن أبي طالب عن الأختين
بملك اليمين وقد وطئ إحداهما هل يطأ الأخرى؟ فقال: "أعتق الموطوءة حتى
يطأ الأخرى" وقال: "ما حرم الله من الحرائر شيئا إلا حرم من الإماء
مثله إلا عدد الأربع" وروي عن عمار مثل ذلك. قال أبو بكر: أحلتهما آية,
يعنون به قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وقوله: "حرمتهما آية" قوله تعالى: {وَأَنْ
تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} , فروي عن عثمان الإباحة. وروي عنه
أنه ذكر التحريم والتحليل وقال: "لا آمر به ولا أنهى عنه". وهذا القول
منه يدل على أنه كان ناظرا فيه غير قاطع بالتحليل والتحريم فيه, فجائز
أن يكون قال فيه بالإباحة ثم وقف فيه, وقطع علي فيه بالتحريم; وهذا يدل
على أنه كان من مذهبه أن الحظر والإباحة إذا اجتمعا فالحظر أولى إذا
تساوى سبباهما, وكذلك يجب أن يكون حكمهما في الأخبار المروية عن النبي
صلى الله عليه وسلم; ومذهب أصحابنا يدل على أن ذلك قولهم, وقد بيناه في
أصول الفقه وقد روى إياس بن عامر أنه قال لعلي: إنهم يقولون إنك تقول
أحلتهما آية وحرمتهما آية؟ فقال: "كذبوا" وهذا يحتمل أن يريد به نفي
المساواة في مقتضى الآيتين وإبطال مذهب من يقول بالوقف فيه على ما روي
عن عثمان; لأنه قال في رواية الشعبي: "أحلتهما آية وحرمتهما آية"
والتحريم أولى, وإنكاره أن يكون أحلتهما آية وحرمتهما آية إنما هو على
جهة أن آيتي التحليل والتحريم غير متساويتين في مقتضاهما, وأن التحريم
أولى من التحليل. ومن جهة أخرى أن إطلاق القول بأنه أحلتهما آية
وحرمتهما آية من غير تقييد هو قول منكر لاقتضاء حقيقته أن يكون شيء
واحد مباحا محظورا في حال
(2/164)
واحدة,
فجائز أن يكون علي رضي الله عنه أنكر إطلاق القول بأنه أحلتهما آية
وحرمتهما آية من هذا الوجه, وأنه إذا كان مقيدا بالقطع على أحد الوجهين
كان سائغا جائزا على ما روي عنه في الخبر الآخر
(2/165)
مطلب لذا تساوى سببا الحظر والإباحة رجح بينهما الحظر
ومما يدل على أن التحريم أولى لو تساوت الآيتان في إيجاب حكميهما أن
فعل المحظور يستحق به العقاب وترك المباح لا يستحق به العقاب,
والاحتياط الامتناع مما لا يأمن استحقاق العقاب به, فهذه قضية واجبة في
حكم العقل. وأيضا فإن الآيتين غير متساويتين في إيجاب التحريم
والتحليل, وغير جائز الاعتراض بإحداهما على الأخرى; إذ كل واحدة منهما
ورودها في سبب غير سبب الأخرى وذلك لأن قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا
بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} وارد في حكم التحريم كقوله تعالى: {وَحَلائِلُ
أَبْنَائِكُمُ} {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} وسائر من ذكر في الآية
تحريمها. وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} وارد في إباحة المسبية التي لها زوج في دار
الحرب; وأفاد وقوع الفرقة وقطع العصمة فيما بينهما, فهو مستعمل فيما
ورد فيه من إيقاع الفرقة بين المسبية وبين زوجها وإباحتها لمالكها, فلا
يجوز الاعتراض به على تحريم الجمع بين الأختين; إذ كل واحدة من الآيتين
واردة في سبب غير سبب الأخرى, فيستعمل حكم كل واحدة منهما في السبب
الذي وردت فيه. ويدل على ذلك أنه لا خلاف بين المسلمين في أنها لم
تعترض على حلائل الأبناء وأمهات النساء وسائر من ذكر تحريمهن في الآية,
وأنه لا يجوز وطء حليلة الابن ولا أم المرأة بملك اليمين, ولم يكن قوله
تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} موجبا لتخصيصهن لوروده في
سبب غير سبب الآية الأخرى; كذلك ينبغي أن يكون حكمه في اعتراضه على
تحريم الجمع. وامتناع علي رضي الله عنه ومن تابعه في ذلك من الصحابة من
الاعتراض بقوله تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} على تحريم
الجمع بين الأختين يدل على أن حكم الآيتين إذا وردتا في سببين: إحداهما
في التحليل والأخرى في التحريم, أن كل واحدة منهما تجري على حكمها في
ذلك السبب ولا يعترض بها على الأخرى, وكذلك ينبغي أن يكون حكم الخبرين
إذا وردا عن الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك, وقد بينا ذلك في
أصول الفقه. وأيضا لا نعلم خلافا بين المسلمين في حظر الجمع بين
الأختين إحداهما بالنكاح والأخرى بملك اليمين, نحو أن تكون عنده امرأة
بنكاح فيشتري أختها أنه لا يجوز له وطؤهما جميعا; وهذا يدل على أن
تحريم الجمع قد انتظم ملك اليمين كما انتظم النكاح, وعموم قوله تعالى:
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} يقتضي تحريم جمعهما على سائر
الوجوه, وهو موجب لتحريم تزويج المرأة وأختها تعتد منه لما فيه من
الجمع بينهما في استحقاق نسب ولديهما وفي إيجاب
(2/165)
النفقة
المستحقة بالنكاح والسكنى لهما, وذلك كله من ضروب الجمع فوجب أن يكون
محظورا منتفيا بتحريمه الجمع بينهما.
فإن قيل: قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} مقصور
على النكاح دون غيره. قيل له: هذا غلط, لاتفاق فقهاء الأمصار على تحريم
الجمع بينهما بملك اليمين على ما بيناه; وليس ملك اليمين بنكاح, فعلمنا
أن تحريم الجمع غير مقصور على النكاح. وأيضا فإن اقتصارك بالتحريم على
النكاح دون غيره من سائر ضروب الجمع تخصيص بغير دلالة, وذلك غير سائغ
لأحد. وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار في ذلك, فروي عن علي وابن عباس
وزيد بن ثابت وعبيدة السلماني وعطاء ومحمد بن سيرين ومجاهد في آخرين من
التابعين: "أنه لا يتزوج المرأة في عدة أختها, وكذلك لا يتزوج الخامسة
وإحدى الأربع تعتد منه", فبعضهم أطلق العدة وهو قول أبي حنيفة وأبي
يوسف ومحمد وزفر والثوري والحسن بن صالح وروي عن عروة بن الزبير
والقاسم بن محمد وخلاس: "له أن يتزوج أختها إذا كانت عدتها من طلاق
بائن" وهو قول مالك والأوزاعي والليث والشافعي واختلف عن سعيد بن
المسيب والحسن وعطاء, فروي عن كل واحد منهم روايتان, إحداهما أنه
يتزوجها, والأخرى أنه لا يتزوجها; وقال قتادة: رجع الحسن عن قوله أنه
يتزوجها في عدة أختها. وما قدمنا من دلالة الآية وعمومها في تحريم
الجمع كاف في إيجاب التحريم ما دامت الأخت معتدة منه. ويدل عليه من جهة
النظر اتفاق الجميع على تحريم الجمع بين وطء الأختين بملك اليمين,
والمعنى فيه أن إباحة الوطء حكم من أحكام النكاح وإن لم يكن نكاح ولا
عقد, فواجب على ذلك تحريم الجمع بينهما في حكم من أحكام النكاح, فلما
كان استلحاق النسب ووجوب النفقة والسكنى من أحكام النكاح وجب أن يكون
ممنوعا من الجمع بينهما فيه.
فإن قيل: كيف يكون جامعا بينهما مع ارتفاع الزوجية وكونها أجنبية منه,
ولو كان قد طلقها ثلاثا ثم وطئها في العدة وجب عليه الحد؟ وهذا يدل على
أنها بمنزلة الأجنبية منه فلا تمنع تزويج أختها قيل له: لا يختلفان في
وجوب الحد; لأنه كما يجب عليه الحد كذلك يجب عليها بوطئه إياها, ومع
ذلك لا يجوز لها أن تتزوج وتجمع إلى حقوق نكاح الأول زوجا آخر; ولم يكن
وجوب الحد عليها بمطاوعتها إياه على الوطء مبيحا لها نكاح زوج آخر, بل
كانت في المنع من زوج ثان بمنزلة من هي في حياله, وكذلك الزوج لا يجوز
له جمع أختها في هذه الحال مع بقاء حقوق النكاح وإن كان وطؤه إياها
موجبا للحد. ودليل آخر, وهو أنه لما كان تحريم نكاح الأخت من طريق
الجمع, ووجدنا تحريم نكاح زوج آخر إذا كانت عند زوج من طريق الجمع, ثم
وجدنا العدة تمنع من
(2/166)
الجمع ما
يمنع نفس النكاح, وجب أن يكون الزوج ممنوعا من تزويج أختها في عدتها
كما منع ذلك في حال بقاء نكاحها; إذ كانت العدة تمنع من الجمع ما يمنعه
نفس النكاح كما جرت العدة مجرى النكاح في باب منعها من نكاح زوج آخر
حتى تنقضي عدتها. فإن قيل: هذا يوجب أن يكون الرجل في العدة إذا منعته
من تزويج الأخت حتى تنقضي عدتها.
قيل له: ليس تحريم النكاح مقصورا على العدة حتى إذا منعناه من نكاح
أختها فقد جعلناه في العدة ألا ترى أنه ممنوع من تزوج أختها إذا كانت
معتدة منه من طلاق رجعي ولم يوجب ذلك أن يكون الرجل في العدة؟ وكذلك
قبل الطلاق كل واحد منهما ممنوع من عقد نكاح على الأخت أو لزوج آخر,
وليس واحد منهما في العدة.
وقوله تعالى: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ}. قال أبو بكر: قد ذكرنا معنى
قوله: إلا ما قد سلف عند ذكر قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ
آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} واختلاف المختلفين
في تأويله واحتماله لما قيل فيه. وقال تعالى عند ذكر تحريم الجمع بين
الأختين: {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ } وهو في هذا الموضع يحتمل من
المعاني ما احتمله الأول; وفيه احتمال لمعنى آخر لا يحتمله الأول, وهو
أن يكون معناه أن العقود المتقدمة على الأختين لا تنفسخ ويكون له أن
يختار إحداهما; ويدل عليه حديث أبي وهب الجيشاني عن الضحاك بن فيروز
الديلمي عن أبيه قال: أسلمت وعندي أختان, فأتيت النبي صلى الله عليه
وسلم فقال: "طلق إحداهما" وفي بعض الألفاظ: "طلق أيتهما شئت" , فلم
يأمره بمفارقتهما إن كان العقد عليهما معا, ولم يأمره بمفارقة الآخرة
منهما إن كان تزوجهما في عقدين, ولم يسأله عن ذلك; فدل ذلك على بقاء
نكاحه عليهما بقوله: "طلق أيتهما شئت" ودل ذلك على أن العقد عليهما كان
صحيحا قبل نزول التحريم وأنهم كانوا مقرين على ما كانوا عليه من عقودهم
قبل قيام حجة السمع ببطلانها.
واختلف أهل العلم في الكافر يسلم تحته أختان أو خمس أجنبيات, فقال أبو
حنيفة وأبو يوسف والثوري: "يختار الأوائل منهن إن كن خمسا, وإن كانتا
أختين اختار الأولى, وإن كان تزوجهن في عقدة واحدة فرق بينه وبينهن".
وقال محمد بن الحسن ومالك والليث والأوزاعي والشافعي: "يختار من الخمس
أربعا أيتهن شاء ومن الأختين أيتهما شاء" إلا أن الأوزاعي روي عنه في
الأختين أن الأولى امرأته ويفارق الآخرة. وقال الحسن بن صالح: "يختار
الأربع الأوائل, فإن لم يدر أيتهن الأولى طلق كل واحدة حتى تنقضي عدتها
ثم يتزوج أربعا". والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى: {وَأَنْ
تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} وذلك خطاب لجميع المكلفين, فكان عقد
الكافر على الأختين بعد نزول التحريم كعقد المسلم في حكم الفساد, فوجب
التفريق بينه وبين الآخرة لوقوع
(2/167)
عقدها على
فساد بنص التنزيل, كما يفرق بينهما لو نكحها بعد الإسلام لقوله تعالى:
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} والجمع واقع بالثانية وإن
كان تزوجهما في عقدة واحدة فهي فاسدة فيهما جميعا لوقوعها منهيا عنها
بظاهر النص.
(2/168)
مطلب: النهي عندنا يقتضي الفساد
فدل ذلك من وجهين على ما ذكرنا: أحدهما: وقوع العقدة منهيا عنها,
والنهي عندنا يقتضي الفساد. والثاني: أنه منع الجمع بينهما بحال. فلو
أبقينا عقده عليهما بعد الإسلام كنا مثبتين لما نفاه الله تعالى من
الجمع, فدل ذلك على بطلان العقد الذي وقع به الجمع. ومن جهة النظر أنه
لما لم يجز أن يبتدئ المسلم عقدا على أختين ولم يجز أيضا أن يبقى له
عقد على أختين وإن لم تكونا أختين في حال العقد, كمن تزوج رضيعتين
فأرضعتهما امرأة فاستوى حكم الابتداء والبقاء في نفي الجمع بينهما,
أشبه نكاح ذوات المحارم في استواء حال البقاء والابتداء فيهما. فلما لم
يختلف العقد على ذوات المحارم في وقوعه في حال الكفر وحال الإسلام ووجب
التفريق متى طرأ عليه الإسلام وكان بمنزلة ابتداء العقد بعد الإسلام,
وجب مثله في نكاح الأختين وأكثر من أربع نسوة; وكما لم يختلف حكم
البقاء والابتداء فيهما كما لم يختلف في ذوات المحارم, وجب الحكم
بفساده بعد الإسلام كما قلنا في ذوات المحارم.
واحتج من خيره بعد الإسلام بحديث فيروز الديلمي الذي قدمناه, وبما روى
ابن أبي ليلى عن حميضة بن الشمردل عن الحارث بن قيس قال: أسلمت وعندي
ثمان نسوة, فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن "أختار منهن أربعا"
وبما روى معمر عن الزهري عن سالم عن ابن عمر, أن غيلان بن سلمة أسلم
وعنده عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "خذ منهن أربعا".
فأما حديث فيروز فإن في لفظه ما يدل على صحة العقد وكان قبل نزول
التحريم; لأنه قال: "أيتهما شئت" وهذا يدل على بقاء العقد عليهما بعد
الإسلام. وحديث الحارث بن قيس يحتمل أن يكون العقد كان قبل نزول
التحريم, فكان صحيحا إلى أن طرأ التحريم, فلزمه اختيار الأربع منهن
ومفارقة سائرهن, كرجل له امرأتان فطلق إحداهما ثلاثا فيقال له: اختر
أيتهما شئت; لأن العقد كان صحيحا إلى أن طرأ التحريم. فإن قيل: لو كان
ذلك يختلف لسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن وقت العقد. قيل له: يجوز
أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد علم ذلك فاكتفى بعلمه عن مسألته.
وأما حديث معمر عن الزهري عن سالم عن أبيه في قصة غيلان فإنه مما لا
يشك أهل النقل فيه أن معمرا1 أخطأ فيه بالبصرة, وأن أصل هذا الحديث
مقطوع من حديث
ـــــــ
1 قوله: أن معمرا" هو معمر بن راشد البصري ثم اليماني, انتهى مختصرا من
خلاصة تهذيب الكمال. "لمصححه".
(2/168)
الزهري,
رواه مالك عن الزهري قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
لرجل من ثقيف أسلم وعنده عشر نسوة: "اختر منهن أربعا", ورواه عقيل بن
خالد عن ابن شهاب قال: بلغنا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال لغيلان بن سلمة. وكيف يجوز أن يكون عنده
عن سالم عن أبيه فيجعله بلاغا عن عثمان بن محمد بن أبي سويد ويقال: إنه
إنما جاء الغلط من قبل أن معمرا كان عنده عن الزهري حديثان في قصة
غيلان, أحدهما هذا وهو بلاغ عن عثمان بن محمد بن أبي سويد, والآخر
حديثه عن سالم عن أبيه أن غيلان بن سلمة طلق نساءه في زمن عمر وقسم
ماله بين ورثته فقال له عمر: "لئن لم تراجع نساءك ثم مت لأورثهن ثم
لأرجمن قبرك كما رجم قبر أبي رغال", فأخطأ معمر وجعل إسناد هذا الحديث
لحديث إسلامه مع النسوة.
(2/169)
فصل
قال أبو بكر: والمنصوص على تحريمه في الكتاب هو الجمع بين الأختين, وقد
وردت آثار متواترة في النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها, رواه
علي وابن عباس وجابر وابن عمر وأبو موسى وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة
وعائشة وعبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح
المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على بنت أخيها ولا على بنت أختها"
وفي بعضها : "لا الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى" . على
اختلاف بعض الألفاظ مع اتفاق المعنى; وقد تلقاها الناس بالقبول مع
تواترها واستفاضتها. وهي من الأخبار الموجبة للعلم والعمل, فوجب
استعمال حكمها مع الآية.
(2/169)
مطلب: شذت طائفة من الخوارجى بإباحة الجمع ببين غير الأختين من المحارم
وشذت طائفة من الخوارج بإباحة الجمع بين من عدا الأختين لقوله تعالى:
{وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } وأخطأت في ذلك وضلت عن سواء
السبيل; لأن الله تعالى كما قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ
ذَلِكُمْ} قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وقد ثبت عن
النبي صلى الله عليه وسلم تحريم الجمع بين من ذكرنا, فوجب أن يكون
مضموما إلى الآية, فيكون قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ
ذَلِكُمْ} مستعملا فيمن عدا الأختين وعدا من بين النبي صلى الله عليه
وسلم تحريم الجمع بينهن. وليس يخلو قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا
وَرَاءَ ذَلِكُمْ} من أن يكون نزل قبل حكم النبي صلى الله عليه وسلم
بتحريم من حرم الجمع بينهن أو معه أو بعده, وغير جائز أن يكون قوله
تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} بعد الخبر; لأن قوله
تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} مرتب على تحريم من ذكر
تحريمهن منهن; لأن قوله: {مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} المراد به ما وراء من
تقدم ذكر تحريمهن, وقد كان قبل تحريم الجمع بين
(2/169)
باب تحريم نكاح ذوات الأزواج
قال الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} عطفا على من حرم من النساء من عند قوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} فروى سفيان عن حماد عن إبراهيم
عن عبد الله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ} قال: ذوات الأزواج من المسلمين والمشركين وقال علي بن
أبي طالب: "ذوات الأزواج من المشركين". وقد روى سعيد بن جبير عن ابن
عباس: "كل ذات زوج إتيانها زنا إلا ما سبيت".
قال أبو بكر: اتفق هؤلاء على أن المراد بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ النِّسَاءِ} ذوات الأزواج منهن وأن نكاحها حرام ما دامت ذات زوج,
واختلفوا في قوله تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}, فتأوله
علي وابن عباس في رواية, وعمر وعبد الرحمن بن عوف وابن عمر: أن الآية
إنما وردت في ذوات الأزواج من السبايا أبيح وطؤهن بملك اليمين, ووجب
بحدوث السبي عليها دون زوجها وقوع الفرقة بينهما; وكانوا يقولون: إن
بيع الأمة لا يكون طلاقا ولا يبطل نكاحها. وتأوله ابن مسعود وأبي بن
كعب وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله وابن عباس في رواية عكرمة: أنه في
جميع ذوات الأزواج من السبايا وغيرهم; وكانوا يقولون: بيع الأمة
طلاقها. وقد حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا
(2/170)
أبو داود
قال: حدثنا عبد الله بن عمر بن ميسرة قال: حدثنا يزيد بن زريع قال:
حدثنا سعيد عن قتادة عن أبي الخليل عن أبي علقمة الهاشمي عن أبي سعيد
الخدري: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشا إلى أوطاس, فلقوا
عدوا فقاتلوهم وظهروا عليهم فأصابوا منهم سبايا لهن أزواج من المشركين,
فكان المسلمون يتحرجون من غشيانهن, فأنزل الله تعالى:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
أي هن لكم حلال إذا انقضت عدتهن. وقد ذكر أن أبا علقمة هذا رجل جليل من
أهل العلم, وقد روى عنه يعلى بن عطاء, وروى هو هذا الحديث عن أبي سعيد,
وله أحاديث عن أبي هريرة وهذا حديث صحيح السند قد أخبر فيه بسبب نزول
الآية وأنها في السبايا, وتأولها ابن مسعود ومن وافقه على جميع النساء
ذوات الأزواج إذا ملكن حل وطؤهن لمالكهن ووقعت الفرقة بينهن وبين
أزواجهن.
فإن قيل: أنتم لا تعتبرون السبب وإنما تراعون حكم اللفظ إن كان عاما
فهو على عمومه حتى تقوم دلالة الخصوص فهلا اعتبرت ذلك في هذه الآية
وجعلتها على العموم في سائر من يطرأ عليه الملك من النساء ذوات الأزواج
فينتظم السبايا وغيرهن قيل له: الدلالة ظاهرة في الآية على خصوصها في
السبابا, وذلك لأنه قال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} , فلو كان حدوث الملك موجبا لإيقاع الفرقة
لوجب أن تقع الفرقة بينها وبين زوجها إذا اشترتها امرأة أو أخوها من
الرضاعة لحدوث الملك.
فإن قيل: جائز أن يقال ذلك في سائر ما طرأ عليهن الملك, سواء كان حدوث
الملك سببا لإباحة الوطء أو لم يكن بأن تملكها امرأة أو رجل لا يحل له
وطؤها قيل له: فشأن الآية إنما هو فيمن حدث له ملك اليمين فأباحت له
وطأها; لأنه استثناء بملك اليمين من حظر وطء المحصنات من النساء, فواجب
على ذلك أنه إذا لم يستبح المالك وطأها بملك اليمين أن تكون الزوجية
قائمة بينها وبين زوجها بحكم الآية, وإذا وجب ذلك بحكم الآية وجب أن
يكون قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} خاصا في السبايا, ويكون السبب الموجب للفرقة
اختلاف الدارين لا حدوث الملك ويدل على أن حدوث الملك لا يوجب الفرقة
ما روى حماد عن إبراهيم عن الأسود عن عائشة: أنها اشترت بريرة فأعتقتها
وشرطت لأهلها الولاء, فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
"الولاء لمن أعتق" وقال لها: "يا بريرة اختاري فالأمر إليك" ; ورواه
سماك عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة مثله. وروى قتادة عن
عكرمة عن ابن عباس: أن زوج بريرة كان عبدا أسود يسمى مغيثا, فقضى رسول
الله صلى الله عليه وسلم فيها أن "الولاء لمن أعطى الثمن" وخيرها
(2/171)
فإن قيل:
فقد روى ابن عباس في أمر بريرة ما روى, ثم قال بعد ذلك: قال النبي صلى
الله عليه وسلم: "بيع الأمة طلاقها" فينبغي أن يقضي قوله هذا على ما
رواه; لأنه لا يجوز أن يخالف النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه.
قيل له: قد روي عن ابن عباس أن الآية نزلت في السبايا وأن بيع الأمة لا
يوقع فرقة بينها وبين زوجها, فجائز أن يكون الذي ذكرت عنه من أن بيع
الأمة طلاقها كان يقول قبل أن تثبت عنده قصة بريرة وتخيير النبي صلى
الله عليه وسلم إياها بعد الشرى, فلما سمع بقصة بريرة رجع عن قوله.
وأيضا يحتمل أن يريد بقوله: "بيع الأمة طلاقها " إذا اشتراها الزوج ولا
يبقى النكاح مع الملك. والنظر يدل على أن بيع الأمة ليس بطلاق ولا يوجب
الفرقة; وذلك; لأن الطلاق لا يملكه غير الزوج ولا يصح إلا بإيقاعه أو
بسبب من قبله, فلما لم يكن من الزوج في ذلك سبب وجب أن لا يكون طلاقا.
ويدل أيضا على ذلك أن ملك اليمين لا ينافي النكاح; لأن الملك موجود قبل
البيع غير ناف للنكاح, فكذلك ملك المشتري لا ينافيه.
فإن قيل: لما طرأ ملك المشتري ولم يكن منه رضا بالنكاح وجب أن ينفسخ.
قيل له: هذا غلط; لأنه قد ثبت أن الملك لا ينافي النكاح, والمعنى الذي
ذكرت إن كان معتبرا فإنما يوجب للمشتري خيارا في فسخ النكاح, وليس هذا
قول أحد; لأن عبد الله بن مسعود ومن تابعه يوجبون فسخ النكاح بحدوث
الملك.
(2/172)
مطلب: في حكم الزوجين الحربيين إذا سبيا معا
واختلف الفقهاء في الزوجين إذا سبيا معا, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف
ومحمد وزفر: "إذا سبي الحربيان معا وهما زوجان فهما على النكاح, وإن
سبي أحدهما قبل الآخر وأخرج إلى دار الإسلام فقد وقعت الفرقة" وهو قول
الثوري وقال الأوزاعي: "إذا سبيا جميعا فما كانا في المقاسم فهما على
النكاح, فإذا اشتراهما رجل فإن شاء جمع بينهما وإن شاء فرق بينهما
فاتخذها لنفسه أو زوجها غيره بعدما يستبرئها بحيضة" وهو قول الليث بن
سعد. وقال الحسن بن صالح: "إذا سبيت ذات زوج استبرئت بحيضتين; لأن
زوجها أحق بها إذا جاء في عدتها, وغير ذات الأزواج بحيضة". وقال مالك
والشافعي: "إذا سبيت بانت من زوجها سواء كان معها زوجها أو لم يكن".
قال أبو بكر: قد ثبت أن حدوث الملك غير موجب للفرقة بدلالة الأمة
المبيعة والموروثة, فوجب أن لا تقع الفرقة بالسبي نفسه; لأنه ليس فيه
أكثر من حدوث الملك. ودليل آخر, وهو أن حدوث الرق عليها لا يمنع ابتداء
العقد, فلأن لا يمنع بقاءه أولى; لأن البقاء هو آكد في ثبوت النكاح معه
من الابتداء ألا ترى أنه قد يمنع الابتداء ما لا يمنع البقاء وهو حدوث
العدة عليها من وطء بشبهة يمنع ابتداء العقد ولا يمنع بقاء العقد
(2/172)
المتقدم؟
فإن احتجوا بحديث أبي سعيد الخدري في قصة سبايا أوطاس وسبب نزول الآية
عليها وهو قوله: { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} لم يفرق بين من سبيت مع زوجها أو وحدها. قيل
له: روى حماد قال: أخبرنا الحجاج عن سالم المكي عن محمد بن علي قال:
"لما كان يوم أوطاس لحقت الرجال بالجبال وأخذت النساء, فقال المسلمون:
كيف نصنع ولهن أزواج؟ فأنزل الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فأخبر أن الرجال لحقوا
بالجبال وأن السبايا كن منفردات عن الأزواج والآية فيهن نزلت. وأيضا لم
يأسر النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة حنين من الرجال أحدا فيما نقل
أهل المغازي, وإنما كانوا من بين قتيل أو مهزوم. وسبى النساء, ثم جاءه
الرجال بعدما وضعت الحرب أوزارها فسألوه أن يمن عليهم بإطلاق سباياهم,
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو
لكم" وقال للناس: "من رد عليهم فذاك ومن تمسك بشيء منهن فله خمس فرائض
في كل رأس" وأطلق الناس سباياهم, فثبت بذلك أنه لم يكن مع السبايا
أزواجهن.
فإن احتجوا بعموم قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} لم يخصص من معهن أزواجهن والمنفردات منهن. قيل
له: قد اتفقنا على أنه لم يرد عموم الحكم في إيجاب الفرقة بالملك; لأنه
لو كان كذلك لوجب أن تقع الفرقة بشرى الأمة وهبتها بالميراث وغيره من
وجوه الأملاك الحادثة, فلما لم يكن ذلك كذلك علمنا أن الفرقة لم تتعلق
بحدوث الملك وكان ذلك دليلا على مراد الآية, وذلك; لأنه إذا لم يخل
مراد الله تعالى في المعنى الموجب للفرقة في المسبية من أحد وجهين: إما
اختلاف الدارين بهما, أو حدوث الملك, ثم قامت دلالة السنة واتفاق الخصم
معنا على نفي إيجاب الفرقة بحدوث الملك, قضى ذلك على مراد الآية بأنه
اختلاف الدارين, وأوجب ذلك خصوص الآية في المسبيات دون أزواجهن.
(2/173)
مطلب: إذا خرجت الحربية إلينا مسلمة أو ذمية
ولم يلحق بها زوجها وقعت الفرقة بينهما
ويدل على أن المعنى فيه ما ذكرنا من اختلاف الدارين, أنهما لو خرجا
مسلمين أو ذميين لم تقع بينهما فرقة; لأنهما لم تختلف بهما الداران,
فدل ذلك على أن المعنى الموجب للفرقة بين المسبية وزوجها إذا كانت
منفردة اختلاف الدارين بهما; ويدل عليه أن الحربية إذا خرجت إلينا
مسلمة أو ذمية ثم لم يلحق بها زوجها وقعت الفرقة بلا خلاف, وقد حكم
الله تعالى بذلك في المهاجرات في قوله: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ
(2/173)
تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] ثم
قال: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِر} [الممتحنة: 10].
قال أبو بكر: قوله تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يقتضي
إباحة الوطء بملك اليمين لوجود الملك, إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم
قد روي عنه ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عمرو
بن عون قال: أخبرنا شريك عن قيس بن وهب عن أبي الوداك عن أبي سعيد
الخدري, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سبايا أوطاس: "لا توطأ
حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة". وحدثنا محمد بن بكر قال:
حدثنا أبو داود قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا أبو معاوية عن
محمد بن إسحاق قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب عن أبي مرزوق عن حنش
الصنعاني عن رويفع بن ثابت الأنصاري قال: قام فينا خطيبا فقال: أما إني
لا أقول لكم إلا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم
حنين: "لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره
حتى يستبرئها بحيضة". قال أبو داود: ذكر الاستبراء هاهنا وهم من أبي
معاوية, وهو صحيح في حديث أبي سعيد. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو
داود قال: حدثنا النفيلي قال: حدثنا مسكين قال: حدثنا شعبة عن يزيد بن
خمير عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه عن أبي الدرداء, أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان في غزوة, فرأى امرأة مجحا1 فقال: لعل
صاحبها ألم بها؟ قالوا: نعم, قال: "لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في
قبره, كيف يورثه وهو لا يحل له وكيف يستخدمه2 وهو لا يحل له" . فهذه
الأخبار تمنع من استحدث ملكا في جارية أن يطأها حتى يستبرئها إن كانت
حائلا, وحتى تضع حملها إن كانت حاملا; وليس بين فقهاء الأمصار خلاف في
وجوب استبراء المسبية على ما ذكرنا; إلا أن الحسن بن صالح قال: "عليها
العدة حيضتين إذا كان لها زوج في دار الحرب" وقد ثبت بحديث أبي سعيد
إلى ذكرنا الاستبراء بحيضة واحدة, وليس هذا الاستبراء بعدة; لأنها لو
كانت عدة لفرق النبي صلى الله عليه وسلم بين ذوات الأزواج منهن وبين من
ليس لها زوج منهن; لأن العدة لا تجب إلا عن فراش, فلما سوى النبي صلى
الله عليه وسلم بين من كان لها فراش وبين من لم يكن لها فراش دل ذلك
على أن هذه الحيضة ليست بعدة.
ـــــــ
1 قوله: "جحا" بضم الميم وكسر الجيم وتشديد الحاء المهملة, أي حاملا
دنا وقت ولادتها. "لمصححه".
2 قوله: "كيف يورثه" إلى آخره أي كيف يجعله ابنا له ويورثهى مع باقي
ورثته ولا يحل له ذلك لكونه ليس منه, وقوله: "كيف يستخدمه" أي كيف يجوز
له أن يتكملك ويستخدمه استخدام العبيد بعد أن خالطه جزء منه, لأن ماء
الوطء ينمي الولد ويزيد في أجزائه, انتهى ملحصا من ابن رسلان شرح أبي
داود "لمصححه".
(2/174)
فإن قيل:
قد ذكر في حديث أبي سعيد الذي ذكرت: "إذا انقضت عدتهن" فجعل ذلك عدة.
قيل له: يجوز أن تكون هذه اللفظة من كلام الراوي تأويلا منه للاستبراء
أنه عدة, وجائز أن تكون العدة لما كان أصلها استبراء الرحم أجري اسم
العدة على الاستبراء على وجه المجاز.
قال أبو بكر: وقد روي في قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} تأويل آخر: روى زمعة عن
الزهري عن سعيد بن المسيب قال: "ذوات الأزواج" ورجع ذلك إلى قوله: حرم
الله الزنا. وروى معمر عن ابن طاوس عن أبيه في قوله تعالى:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
قال: "فزوجتك مما ملكت يمينك" يقول: حرم الله تعالى الزنا, لا يحل لك
أن تطأ امرأة إلا ما ملكت يمينك. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
قال: "نهي عن الزنا". وعن عطاء بن السائب قال: "كل محصنة عليك حرام إلا
امرأة تملكها بنكاح". قال أبو بكر: وكأن تأويلها عند هؤلاء أن ذوات
الأزواج حرام إلا على أزواجهن; وليس يمتنع أن يكون ذلك من مراد الله
تعالى بالآية لاحتمال اللفظ له, وذلك لا يمنع إرادة المعاني التي
تأولها الصحابة عليها من إباحة وطء السبايا اللاتي لهن أزواج حربيون
فيكون محمولا على الأمرين, والأظهر أن ملك اليمين هي الأمة دون
الزوجات; لأن الله قد فرق بينهما, فقال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5 و6] فجعل ملك اليمين غير
الزوجات; والإطلاق إنما يتناول الإماء المملوكات دون الزوجات, وهي كذلك
في الحقيقة; لأن الزوج لا يملك من زوجته شيئا وإنما له منها استباحة
الوطء ومنافع بضعها في ملكها دونه, ألا تري أنها لو وطئت بشبهة وهي تحت
زوج كان المهر لها دونه؟ فدل ذلك على أنه لا يملك من زوجته شيئا, فوجب
أن يحمل قوله تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} على من
يملكها في الحقيقة وهي المسبية.
قوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} روي عن عبيدة قال: "أربع"
وإنما نصب" كتاب الله "; لأنهم يقولون: إن معنى {كِتَابَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ} أي كتب الله عليكم ذلك; وقيل: معناه حرم ذلك كتابا من الله
عليكم; وهذا تأكيد لوجوبه وإخبار منه لنا بفرضه; لأن الكتاب هو الفرض.
قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}. روي عن عبيدة
السلماني والسدي: "أحل لكم ما دون الخمس أن تبتغوا بأموالكم على وجه
النكاح". وقال عطاء: "أحل لكم ما وراء ذوات المحارم من أقاربكم". وقال
قتادة: {مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}: "ما ملكت
(2/175)
أيمانكم".
وقيل: "ما وراء ذوات المحارم وما وراء الزيادة على الأربع أن تبتغوا
بأموالكم نكاحا أو ملك يمين" قال أبو بكر: هو عام فيما عدا المحرمات في
الآية وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم
(2/176)
باب المهور
قال الله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ
تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} فعقد الإباحة بشريطة إيجاب بدل البضع هو
مال; فدل ذلك على معنيين: أحدهما: أن بدل البضع واجب أن يكون ما يستحق
به تسليم مال. والثاني: أن يكون المهر ما يسمى أموالا. وذلك; لأن هذا
خطاب لكل أحد في إباحة ما وراء ذلك أن يبتغي البضع بما يسمى أموالا,
كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ}
خطاب لكل أحد في تحريم أمهاته وبناته عليه, وفي ذلك دليل على أنه لا
يجوز أن يكون المهر الشيء التافه الذي لا يسمى أموالا.
واختلف الفقهاء في مقدار المهر, فروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "لا
مهر أقل من عشرة دراهم", وهو قول الشعبي وإبراهيم في آخرين من
التابعين, وقول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد. وقال
أبو سعيد الخدري والحسن وسعيد بن المسيب وعطاء: "يجوز النكاح على قليل
المهر وكثيره". وتزوج عبد الرحمن بن عوف على وزن نواة من ذهب, فقال بعض
الرواة: قيمتها ثلاثة دراهم وثلث, وقال آخرون: النواة عشرة أو خمسة.
وقال مالك: "أقل المهر ربع دينار". وقال ابن أبي ليلى والليث والثوري
والحسن بن صالح والشافعي: "يجوز بقليل المال وكثيره ولو درهم".
قال أبو بكر: قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ
تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} يدل على أن ما لا يسمى أموالا لا يكون
مهرا وأن شرطه أن يسمى أموالا, هذا مقتضى الآية وظاهرها, ومن كان له
درهم أو درهمان لا يقال عنده أموال, فلم يصح أن يكون مهرا بمقتضى
الظاهر. فإن قيل: ومن عنده عشرة دراهم لا يقال عنده أموال وقد أجزتها
مهرا قيل له: كذلك يقتضي الظاهر, لكن أجزناها بالاتفاق, وجائز تخصيص
الآية بالإجماع; وأيضا قد روى حرام بن عثمان عن ابني جابر عن أبيهما أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا مهر أقل من عشرة دراهم" . وقال علي
بن أبي طالب: "لا مهر أقل من عشرة دراهم". ولا سبيل إلى معرفة هذا
الضرب من المقادير التي هي حقوق الله تعالى من طريق الاجتهاد والرأي,
وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق; وتقديره العشرة مهرا دون ما هو أقل
منها يدل على أنه
(2/176)
قاله
توقيفا, وهو نظير ما روي عن أنس في أقل الحيض أنه ثلاثة أيام وأكثره
عشرة, وعن عثمان بن أبي العاص الثقفي في أكثر النفاس أنه أربعون يوما;
أن ذلك توقيف; إذ لا يقال في مثله من طريق الرأي; وكذلك ما روي عن علي
بن أبي طالب رضي الله عنه أنه إذا قعد في آخر صلاته مقدار التشهد فقد
تمت صلاته, فدل تقديره للفرض بمقدار التشهد أنه قاله من طريق التوقيف.
وقد احتج بعض أصحابنا لاعتبار العشرة أن البضع عضو لا تجوز استباحته
إلا بمال فأشبه القطع في السرقة, فلما كانت اليد عضوا لا تجوز استباحته
إلا بمال وكان المقدار الذي يستباح به عشرة على أصلهم, فكذلك المهر
يعتبر به. وأيضا لما اتفق الجميع على أنه لا تجوز استباحة البضع بغير
بدل واختلفوا فيما تجوز استباحته به من المقدار, وجب أن يكون باقيا على
الحظر في منع استباحته إلا بما قام دليل جوازه, وهو العشرة المتفق
عليها وما دونها مختلف فيه, فالبضع باق على حكم الحظر. وأيضا لما لم
تجز استباحته إلا ببدل كان الواجب أن يكون البدل الذي به يصح قيمة
البضع هو مهر المثل وأن لا يحط عنه شيء إلا بدلالة, ألا ترى أنه لو
تزوجها على غير مهر لكان الواجب لها مهر مثلها؟ وفي ذلك دليل على أن
عقد النكاح يوجب مهر المثل, فغير جائز إسقاط شيء من موجبه إلا بدلالة,
وقد قامت دلالة الإجماع على جواز إسقاط ما زاد على العشرة واختلفوا
فيما دونه, فوجب أن يكون واجبا بإيجاب العقد له; إذ لم تقم الدلالة على
إسقاطه.
فإن قيل: لما قال الله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ
أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا
فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] اقتضى ذلك إيجاب نصف الفرض قليلا كان أو
كثيرا. قيل له: لما ثبت بما ذكرنا أن المهر لا يكون أقل من عشرة دراهم
كانت تسميتة لبعض العشرة تسمية لها, كسائر الأشياء التي لا تتبعض تكون
تسميته لبعضها تسمية لجميعها, كالطلاق والنكاح ونحوهما, وإذا كانت
العشرة لا تتبعض في العقد صارت تسميته لبعضها تسمية لجميعها, فإذا
طلقها قبل الدخول وجب لها نصف العشرة; لأن العشرة هي الفرض ألا ترى أنه
لو طلق امرأته نصف تطليقة كان مطلقا لها تطليقة كاملة, ولو طلق نصفها
كان مطلقا لجميعها؟ وكذلك لو عفا عن نصف دم عمد كان عافيا عن جميعه؟
فلما كان ذلك كذلك وجب أن تكون تسميته لخمسة تسمية للعشرة لقيام
الدلالة على أن العشرة لا تتبعض في عقد النكاح, فمتى أوجبنا بعد الطلاق
خمسة كان ذلك نصف الفرض. وأيضا فإنا نوجب نصف المفروض فلسنا مخالفين
لحكم الآية, ونوجب الزيادة إلى تمام الخمسة بدلالة أخرى, وإنما كان
يكون مذهبنا خلاف الآية لو
(2/177)
لم نوجب
نصف الفرض, فأما إذا أوجبناه وأوجبنا زيادة عليه بدلالة أخرى فليس في
ذلك مخالفة للآية.
واحتج من أجاز أن يكون المهر أقل من عشرة بحديث عامر بن ربيعة: أن
امرأة جيء بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تزوجت رجلا على
نعلين, فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رضيت من نفسك ومالك
بنعلين؟" قالت: نعم, فأجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبحديث أبي
الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أعطى امرأة
في نكاح كف دقيق أو سويق أو طعاما فقد استحل". وبحديث الحجاج بن أرطاة
عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي عن عبد الرحمن بن السلماني قال: خطب
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أنكحوا الأيامى منكم" فقالوا: يا
رسول الله وما العلائق بينهما؟ قال: "ما تراضى به الأهلون". وبما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من استحل بدرهمين فقد استحل"
وأن عبد الرحمن بن عوف تزوج على وزن نواة من ذهب وأخبر النبي صلى الله
عليه وسلم فقال:" أولم ولو بشاة" ولم ينكر ذلك عليه. وبحديث أبي حازم
عن سهل بن سعد في قصة المرأة التي قالت للنبي صلى الله عليه وسلم قد
وهبت نفسي لك يا رسول الله, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما لي
بالنساء من حاجة" فقال له رجل: زوجنيها فقال: هل عندك من شيء تصدقها
إياه؟ فقال: إزاري هذا. فقال: إن أعطيتها إزارك جلست ولا إزار لك , إلى
أن قال: "التمس ولو خاتما من حديد" ; فأجاز أن يكون المهر خاتما من
حديد, وخاتم من حديد لا يساوي عشرة.
والجواب عن إجازته النكاح على نعلين أن النعلين قد يجوز أن تساويا عشرة
دراهم أو أكثر, فلا دلالة فيه على موضع الخلاف; لأنه تزوجها على نعلين
ثم أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وجائز أن يكون قيمتها عشرة أو أكثر,
وليس بعموم لفظ في إباحة التزويج على نعلين أي نعلين كانتا, فلا دلالة
فيه على قول المخالف. وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بجواز
النكاح, وجواز النكاح لا يدل على أنه هو المهر لا غيره; لأنه لو تزوجها
على غير مهر لكان النكاح جائزا; ولم يدل جواز النكاح على أن لا شيء
لها, كذلك جواز النكاح على نعلين قيمتهما أقل من عشرة دراهم لا دلالة
فيه على أنه لا يجب غيرهما. وأما قوله: "من استحل بدرهمين أو بكف دقيق
فقد استحل" فإنه إخبار عن ملك البضع, لا دلالة فيه على أنه لا يجب
غيره. وكذلك حديث عبد الرحمن في تزوجه على وزن نواة من ذهب, وعلى أنه
قد روي في الخبر أن قيمتها كانت خمسة أو عشرة. وأما قوله: " العلائق ما
تراضى به الأهلون" فإنه محمول على ما يجوز مثله في الشرع, ألا ترى أنهم
لو تراضوا بخمر أو خنزير أو شغار لما جاز تراضيهما؟ كذلك في حكم
التسمية يكون مرتبا على ما ثبت حكمه في الشرع من تسمية العشرة. وأما
حديث سهل بن سعد فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمره
(2/178)
بتعجيل
شيء لها, وعلى ذلك كان مخرج كلامه; لأنه لو أراد ما يصح به العقد من
التسمية لاكتفى بإثباته في ذمته ما يجوز به العقد عن السؤال عما يعجل,
فدل ذلك على أنه لم يرد به ما يصح مهرا ألا ترى أنه لما لم يجد شيئا
قال: "زوجتكها بما معك من القرآن" وما معه من القرآن لا يكون مهرا؟ فدل
ذلك على صحة ما ذكرنا.
واختلف الفقهاء فيمن تزوج امرأة على خدمته سنة, فقال أبو حنيفة وأبو
يوسف: "إذا تزوج امرأة على خدمته سنة فإن كان حرا فلها مهر مثلها, وإن
كان عبدا فلها خدمته سنة" وقال محمد: "لها قيمة خدمته إن كان حرا".
وقال مالك: "إذا تزوجها على أن يؤاجرها نفسه سنة أو أكثر أو أقل ويكون
ذلك صداقها فإنه يفسخ النكاح إن لم يدخل بها, وإن دخل بها ثبت النكاح".
وقال الأوزاعي: "إذا تزوجها على أن يحجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها فهو
ضامن لنصف حجها من الحملان والكسوة والنفقة". وقال الحسن بن صالح
والشافعي: "النكاح جائز على خدمته إذا كان وقتا معلوما". وقال أبو
حنيفة وأبو يوسف ومحمد: "إذا تزوجها على تعليم سورة من القرآن لم يكن
ذلك مهرا ولها مهر مثلها" وهو قول مالك والليث; وقال الشافعي: "يكون
ذلك مهرا لها, فإن طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف أجرة التعليم إن
كان قد علمها" وهي رواية المزني وحكى الربيع عنه أنه يرجع عليها بنصف
مهر مثلها. قال أبو بكر: قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ
ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} قد اقتضى أن يكون بدل البضع
ما يستحق به تسليم مال; لأن قوله: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ}
يحتمل معنيين: أحدهما: تمليك المال بدلا من البضع, والآخر: تسليمه
لاستيفاء منافعه, فدل ذلك على أن المهر الذي يملك به البضع إما أن يكون
مالا أو منافع في مال يستحق بها تسليمه إليها; إذ كان قوله: {أَنْ
تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} يشتمل عليهما ويقتضيهما.
(2/179)
طلب: في أن المنافع لا تكون مهرا
ويدل على أن المهر حكمه أن يكون مالا قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ
صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ
نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4] وذلك لأن قوله:
{وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:4] أمر يقتضي
ظاهره الإيجاب, ودل بفحواه على أن المهر ينبغي أن يكون مالا من وجهين:
أحدهما: قوله: {وَآتُوا} [النساء:4] معناه: أعطوا, والإعطاء إنما يكون
في الأعيان دون المنافع; إذ المنافع لا يتأتى فيها الإعطاء على
الحقيقة; والثاني: قوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ
نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4] وذلك لا يكون في
المنافع وإنما هو في المأكول أو فيما يمكن صرفه بعد
(2/179)
الإعطاء
إلى المأكول; فدلت هذه الآية على أن المنافع لا تكون مهرا.
فإن قيل: فهذا يوجب أن لا تكون خدمة العبد مهرا. قيل له: كذلك اقتضى
ظاهر الآية ولولا قيام الدلالة لما جاز, ويدل عليه نهي النبي صلى الله
عليه وسلم عن نكاح الشغار, وهو أن يزوجه أخته على أن يزوجه أخته أو
يزوجه أمته على أن يزوجه أمته وليس بينهما مهر, وهذا أصل في أن المهر
لا يصح إلا أن يستحق به تسليم مال, فلما أبطل النبي صلى الله عليه وسلم
أن تكون منافع البضع مهرا; لأنها ليست بمال دل ذلك على أن كل ما شرط من
بدل البضع مما لا يستحق به تسليم مال لا يكون مهرا, وكذلك قال أصحابنا
لو تزوجها على عفو من دم عمد أو على طلاق فلانة أن ذلك ليس بمهر مثل
منافع البضع إذا جعلها مهرا, وقد قال الشافعي: "إنه إذا سمى في الشغار
لإحداهما مهرا أن النكاح جائز ولكل واحدة منهما مهر مثلها" ولم يجعل
البضع مهرا في الحال التي أجاز النكاح فيها, ونهى النبي صلى الله عليه
وسلم عن نكاح الشغار; فدل ذلك على معنيين: أحدهما: أنه إذا كان الشغار
في الأمتين كان المهر منافع البضع; لأن المهر إنما يستحقه المولى,
فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون منافع البضع بدلا في النكاح.
والثاني: إذا كان الشغار في الحرتين, وهو أن يقول: "أزوجك أختي على أن
تزوجني أختك أو أزوجك بنتي على أن تزوجني بنتك" فيكون هذا عقدا عاريا
من ذكر المهر لواحدة من المرأتين; لأنه شرط المنافع لغير المنكوحة وهو
الولي, فالشغار في أحد الوجهين يكون عقد نكاح عاريا عن تسمية بدل
للمنكوحة, وفي الوجه الآخر يكون بدل البضع منافع بضع آخر, فأبطل النبي
صلى الله عليه وسلم ذلك أن يكون بدلا فصار أصلا في أن بدل البضع شرطه
أن يستحق به تسليم مال.
فإن قيل: إن منافع بضع الأمة حق في مال, فهلا كانت كالتزويج على خدمة
العبد قيل له: لأن خدمة العبد يستحق بها تسليم مال وهو رقبة العبد,
كالمستأجر له يستحق تسليم العبد إليه للخدمة, وزوج الأمة لا يستحق
تسليمها إليه بعقد النكاح; لأن للمولى أن لا يبوئها بيتا; وقوله تعالى:
{أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} قد اقتضى أن يستحق عليه بعقد النكاح
تسليم مال بدلا من البضع.
وأما التزويج على تعليم سورة من القرآن فإنه لا يصح مهرا من وجهين:
أحدهما: ما ذكرنا من أنه لا يستحق به تسليم مال كخدمة الحر. والوجه
الآخر: أن تعليم القرآن فرض على الكفاية, فكل من علم إنسانا شيئا من
القرآن فإنما قام بفرض; وقد روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "بلغوا عني ولو آية" فكيف يجوز أن يجعل عوضا للبضع,
ولو جاز ذلك لجاز التزويج على تعليم الإسلام؟ وهذا باطل; لأن ما أوجب
الله تعالى على الإنسان فعله فهو متى فعله فرضا فلا يستحق أن يأخذ عليه
شيئا من
(2/180)
أعراض
الدنيا, ولو جاز ذلك لجاز للحكام أخذ الرشى على الحكم, وقد جعل الله
ذلك سحتا محرما.
فإن احتج محتج بحديث سهل بن سعد في قصة المرأة التي قالت للنبي صلى
الله عليه وسلم قد وهبت نفسي لك فقال رجل زوجنيها, إلى أن قال: "هل معك
من القرآن شيء" قال: نعم, سورة كذا, فقال عليه السلام: "قد زوجتكها بما
معك من القرآن"; وبما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال:
حدثنا أحمد بن حفص بن عبد الله قال: حدثني أبي قال: حدثني إبراهيم بن
طهمان عن الحجاج الباهلي عن عسل عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة بنحو
قصة سهل بن سعد في أمر المرأة, وقال فيه: "ما تحفظ من القرآن؟" قال:
سورة البقرة أو التي تليها, قال: "قم فعلمها عشرين آية وهي امرأتك".
قيل له: معناه لما معك من القرآن, كما قال تعالى: {ذَلِكُمْ بِمَا
كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا
كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر:75] ومعناه: لما كنتم تفرحون وأيضا كون
القرآن معه لا يوجب أن يكون بدلا, والتعليم ليس له ذكر في هذا الخبر,
فعلمنا أن مراده: أني زوجتك تعظيما للقرآن ولأجل ما معك من القرآن; وهو
كما روى عبد الله بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس قال: خطب أبو طلحة أم
سليم فقالت: إني آمنت بهذا الرجل وشهدت أنه رسول الله فإن تابعتني
تزوجتك, قال: فأنا على ما أنت عليه; فتزوجته, فكان صداقها الإسلام.
ومعناه أنها تزوجته لأجل إسلامه; لأن الإسلام لا يكون صداقا لأحد في
الحقيقة. وأما حديث إبراهيم بن طهمان فإنه ضعيف السند, وقد روى هذه
القصة مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد, فلم يذكر أنه قال: "علمها" ولم
يعارض بحديث إبراهيم بن طهمان, ولو صح هذا الحديث لم يكن فيه دلالة على
أنه جعل تعليم القرآن مهرا لأنه جائز أن يكون أمره بتعليمها القرآن
ويكون المهر ثابتا في ذمته; إذ لم يقل: إن تعليم القرآن مهر لها
(2/181)
مطلب: في
قوله {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ} الآية
فإن قيل: قال الله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى
ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}
[القصص: 27] فجعل منافع الحر بدلا من البضع. قيل له: لم يشرط المنافع
للمرأة وإنما شرطها لشعيب النبي عليه السلام وما شرط للأب لا يكون
مهرا, فالاحتجاج به باطل في مسألتنا وأيضا لو صح أنها كانت مشروطة لها
وأنه إنما أضافها إلى نفسه لأنه هو المتولي للعقد, أو لأن مال الولد
منسوب إلى الوالد كقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" فهو
منسوخ بالنهي عن الشغار.
وقوله تعالى: {أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} يدل على أن عتق الأمة
لا يكون صداقا لها; إذ
(2/181)
كانت
الآية مقتضية لكون بدل البضع ما يستحق به تسليم مال إليها, وليس في
العتق تسليم مال وإنما فيه إسقاط الملك من غير أن استحقت به تسليم مال
إليها ألا ترى أن الرق الذي كان المولى يملكه لا ينتقل إليها وإنما
يتلف به ملكه؟ فإذا لم يحصل لها به مال أو لم تستحق به تسليم مال إليها
لم يكن مهرا.
(2/182)
مطلب: في أنه عليه السلام كان له أن يتزوج بغير مهر
وما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وجعل عتقها صداقها;
فلأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له أن يتزوج بغير مهر, وكان مخصوصا
به دون الأمة, قال الله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ
نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا
خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: 50] فكان صلى
الله عليه وسلم مخصوصا بجواز ملك البضع بغير بدل كما كان مخصوصا بجواز
تزويج التسع دون الأمة.
قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ
طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً
مَرِيئاً} [النساء:4] يدل أيضا على أن العتق لا يكون صداقا من وجوه:
أحدها: أنه قال: {وَآتُوهُنَّ} [النساء:4] وذلك أمر يقتضي الإيجاب,
وإعطاء العتق لا يصح. والثاني: قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ
شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً} والعتق لا يصح فسخه بطيب نفسها عن شيء منه.
والثالث: قوله تعالى: {فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} وذلك محال في
العتق.
قوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ}. قال أبو بكر: يحتمل
قوله تعالى: { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} وجهين: أحدهما: الحكم
بكونهم محصنين بعقد النكاح والإخبار عن حالهم إذا نكحوا. والثاني: أن
يكون الإحصان شرطا في الإباحة المذكورة في قوله تعالى: {وَأُحِلَّ
لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}; فإن كان المراد الوجه الأول فإطلاق
الإباحة عموم يصح اعتباره فيما انتظمه إلا ما قام دليله, وإن أراد
الوجه الثاني كان إطلاق الإباحة مجملا لأنه معقود بشريطة حصول الإحصان
به, والإحصان لفظ مجمل مفتقر إلى البيان, فلا يصح حينئذ الاحتجاج به,
والأولى حمله على الإخبار عن حصول الإحصان بالتزويج لإمكان استعماله,
وذلك لأنه متى ورد لفظ يحتمل أن يكون عموما يمكننا استعمال ظاهره
ويحتمل أن يكون مجملا موقوف الحكم على البيان, فالواجب حمله على معنى
العموم دون الإجمال لما فيه من استعمال حكمه عند وروده, فعلينا المصير
إليه; وغير جائز حمله على وجه يسقط عنا استعماله إلا بورود بيان من
غيره, وفي نسق التلاوة وفحوى الآية ما يوجب أن يكون ذكر الإحصان إخبارا
عن كونه محصنا بالنكاح وذلك لأنه قال: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ
مُسَافِحِينَ} والسفاح هو الزنا, فأخبر أن
(2/182)
الإحصان
المذكور هو ضد الزنا وهو العفة, وإذا كان المراد بالإحصان في هذا
الموضع العفاف فقد حصل على وجه لا يكون مجملا; لأن تقديره: وأحل لكم ما
وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم عفة غير زنا; وهذا لفظ ظاهر المعنى بين
المراد, فيوجب ذلك معنيين: أحدهما: إطلاق لفظ الإباحة وكونه عموما,
والآخر: الإخبار بأنهم إذا فعلوا ذلك كانوا محصنين غير مسافحين,
والإحصان لفظ مشترك متى أطلق لم يكن عموما كسائر الألفاظ المشتركة;
وذلك لأنه اسم يقع على معان مختلفة وأصله المنع ومنه سمي الحصن لمنعه
من صار فيه من أعدائه, ومنه الدرع الحصينة أي المنيعة, والحصان بالكسر
الفحل من الأفراس لمنعه راكبه من الهلاك, والحصان بالنصب العفيفة من
النساء لمنعها فرجها من الفساد; قال حسان في عائشة رضي الله عنهما:
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
الْغَافِلاتِ} [النور: 23] يعني العفائف والإحصان في الشرع اسم يقع على
معان مختلفة غير ما كان الاسم لها في اللغة, فمنها الإسلام, قال الله
تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ}, روي: فإذا أسلمن; ويقع على التزويج; لأنه
قد روي في التفسير أيضا أن معناه: فإذا تزوجن. وقال تعالى:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
[النساء: 24] ومعناه: ذوات الأزواج. ويقع على العفة في قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 23] ويقع على
الوطء بنكاح صحيح في إحصان الرجم. والإحصان في الشرع يتعلق به حكمان:
أحدهما: في إيجاب الحد على قاذفه في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] فهذا يعتبر فيه العفاف والحرية
والإسلام والعقل والبلوغ, فما لم يكن على هذه الصفة لم يجب على قاذفه
الحد لأنه لا حد على قاذف المجنون والصبي الزاني والكافر والعبد; فهذه
الوجوه من الإحصان معتبرة في إيجاب الحد على القاذف والحكم الآخر هو
الإحصان الذي يتعلق به إيجاب الرجم إذا زنى, وهذا الإحصان يشتمل على
الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والنكاح الصحيح مع الدخول بها وهما على
هذه الصفة, فإن عدم شيء من هذه الخلال لم يكن عليه الرجم إذا زنى.
والسفاح هو الزنا, قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا من نكاح ولست من
سفاح". وقال مجاهد والسدي في قوله تعالى: {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} قالا:
"غير زانين". ويقال إن أصله من سفح الماء وهو صبه, ويقال: سفح دمعه
وسفح دم فلان وسفح الجبل أسفله, لأنه موضع مصب الماء, وسافح الرجل إذا
زنى لأنه صب ماءه من غير أن يلحقه حكم مائه في ثبوت النسب ووجوب العدة
وسائر أحكام النكاح, فسمي مسافحا لأنه لم يكن له من فعله هذا غير صب
الماء, وقد أفاد ذلك نفي نسب
(2/183)
الولد
المخلوق من مائه منه وأنه لا يلحق به ولا تجب على المرأة العدة منه ولا
تصير فراشا ولا يجب عليه مهر ولا يتعلق بذلك الوطء شيء من أحكام
النكاح; هذه المعاني كلها في مضمون هذا اللفظ, والله أعلم بالصواب.
(2/184)
باب المتعة
قال الله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} قال أبو بكر: هو عطف على ما تقدم ذكره من
إباحة نكاح ما وراء المحرمات في قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا
وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ثم قال: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ}
يعني: دخلتم بهن, { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} كاملة, وهو
كقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء:
4] وقوله تعالى: {فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20].
والاستمتاع هو الانتفاع, وهو ههنا كناية عن الدخول, قال الله تعالى:
{أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا
وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الاحقاف: 20] يعني تعجلتم الانتفاع بها,
وقال: {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ} [التوبة: 69] يعني: بحظكم
ونصيبكم من الدنيا; فلما حرم الله تعالى من ذكر تحريمه في قوله:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} وعنى به نكاح الأمهات ومن ذكر
معهن, ثم عطف عليه قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}
اقتضى ذلك إباحة النكاح فيمن عدا المحرمات المذكورة, ثم قال: {أَنْ
تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ} يعني والله أعلم: نكاحا
تكونوا به محصنين عفائف {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} ثم عطف عليه حكم النكاح
إذا اتصل به الدخول بقوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ
فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فأوجب على الزوج كمال المهر. وقد سمى الله
المهر أجرا في قوله: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ
وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فسمى المهر أجرا, وكذلك الأجور المذكورة في
هذه الآية هي المهور. وإنما سمي المهر أجرا لأنه بدل المنافع وليس ببدل
عن الأعيان, كما سمي بدل منافع الدار والدابة أجرا.
(2/184)
مطلب: في دليل قول أبي حنيفة من استأجر امرأة فزنى بها لا حد عليه
وفي تسمية الله المهر أجرا دليل على صحة قول أبي حنيفة فيمن استأجر
امرأة فزنى بها أنه لا حد عليه; لأن الله تعالى قد سمى المهر أجرا, فهو
كمن قال: "أمهرك كذا "; وقد روي نحوه عن عمر بن الخطاب. ومثل هذا يكون
نكاحا فاسدا; لأنه بغير شهود; وقال تعالى في آية أخرى: {وَلا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}
[الممتحنة: 10] وقد كان ابن عباس يتأول قوله تعالى: {فَمَا
اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} على متعة
النساء; وروي عنه فيها أقاويل, روي أنه كان يتأول الآية على إباحة
(2/184)
باب الزيادة في المهور
قال الله تعالى بعد ذكر المهر: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا
تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ}, والفريضة ههنا التسمية
والتقدير, كفرائض المواريث والصدقات, وقد بينا ذلك فيما سلف. وروي عن
الحسن في قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ
بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} أنه ما تراضيتم به من حط بعض الصداق أو
تأخيره أو هبة جميعه وفي هذه الآية دلالة على جواز الزيادة في المهر
لقوله تعالى: {فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ}
وهو عموم في الزيادة والنقصان والتأخير والإبراء, وهو بالزيادة أخص منه
بغيرها; لأنه علقه بتراضيهما, والبراءة والحط والتأخير لا يحتاج في
وقوعه إلى رضى الرجل, والزيادة لا تصح إلا بقبولهما; فلما علق ذلك
بتراضيهما جميعا دل على أن المراد الزيادة. ولا يجوز الاقتصار به على
البراءة والحط والتأجيل; لأن عموم اللفظ يقتضي جواز الجميع, فلا يخص
بغير دلالة; ولأن الاقتصار به على ما ذكرت يسقط فائدة ذكر تراضيهما
جميعا وإضافة ذلك إليهما, وغير جائز إسقاط حكم اللفظ والاقتصار به على
ما يجعل وجوده وعدمه سواء.
وقد اختلف الفقهاء في الزيادة في المهر, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف
ومحمد: "الزيادة في الصداق بعد النكاح جائزة وهي ثابتة إن دخل بها أو
مات عنها, وإن طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة وكان لها نصف المسمى في
العقد". وقال زفر بن الهذيل والشافعي: "الزيادة بمنزلة هبة مستقبلة"
إذا قبضتها جازت في قولهما جميعا, وإن لم تقبضها بطلت. وقال مالك بن
أنس: "تصح الزيادة, فإن طلقها قبل الدخول رجع نصف ما زادها إليه وهي
بمنزلة مال وهبه لها يقوم به عليه, وإن مات عنها قبل أن تقبض فلا شيء
لها منه لأنها عطية لم تقبض".
قال أبو بكر: قد ذكرنا وجه دلالة الآية على جواز الزيادة; ومما يدل على
جواز الزيادة أن عقد النكاح في ملكهما, والدليل على ذلك أنه جائز له أن
يخلعها على البضع فيأخذ منها بدله فهما مالكان للتصرف في البضع, فلما
كان العقد في ملكهما وجب أن تجوز الزيادة فيه كما جازت في ابتداء عقد
النكاح من حيث كانا مالكين للعقد;; إذ كان الملك هو التصرف وتصرفهما
جائز فيه. ويدل عليه اتفاق الجميع على أنه إذا قبضها
(2/195)
جاز, فلا
يخلو بعد الإقباض من أن تكون هبة مستقبلة على ما قال زفر والشافعي أو
زيادة في المهر لاحقة بالعقد على ما ذكرنا, وغير جائز أن تكون هبة
مستقبلة; لأنهما لم يدخلا فيها على أنها هبة وإنما أوجباها على أنها
بدل من البضع لاحقة بالعقد, و لا يجوز لنا أن نلزمهما عقدا لم يعقداه
على أنفسهما لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وقوله
صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عند شروطهم", فإذا عقدا على أنفسهما
عقدا لم يجز لنا إلزامهما عقدا غيره بظاهر الآية والسنة; إذ كانت الآية
إنما اقتضت إيجاب الوفاء بنفس العقد الذي عقده لا بغيره; لأن إلزامه
عقدا غيره لا يكون وفاء بالعقد الذي عقده, وكذلك قوله: " المسلمون عند
شروطهم" يقتضي الوفاء بالشرط, وليس في إسقاط الشرط وإلزامهما معنى غيره
الوفاء بالشرط; فدلت الآية والسنة معا على بطلان قول المخالف من وجهين:
أحدهما: اقتضاء عمومهما لإيجاب الوفاء بالعقد والشرط, والآخر: ما
انتظمنا من امتناع إلزام عقد أو شرط غير ما عقداه; ولما بطل إلزامهما
الهبة بعد القبض وصح التمليك دل على أنها ملكت من جهة الزيادة.
ويدل على أنه غير جائز أن يجعلها هبة, أنها متى كانت زيادة كانت مضمونة
على المرأة بالقبض; لأنها بدل من البضع, وإذا كانت هبة لم تكن مضمونة
عليها, وإذا كانت زيادة سقطت بالطلاق قبل الدخول, وإذا كانت هبة لم
يؤثر الطلاق فيها, وإذا دخلا فيها على عقد يوجب الضمان لم يجز لنا
إلزامهما. عقدا لا ضمان فيه ألا ترى أنهما إذا تعاقدا عقد بيع لم يجز
إلزامهما عقد هبة ولو تعاقدا عقد إقالة لم يلزمهما عقد بيع مستقبل؟ وفي
ذلك دليل على أنه غير جائز إثبات الهبة بعقد الزيادة, وإذا لم تكن هبة
وقد صح التمليك كانت زيادة لاحقة بالعقد بدلا من البضع مع التسمية.
وأما قول مالك في جعله إياها هبة, ثم قوله: "إنه إذا طلقها قبل الدخول
رجع إليه نصف الزيادة" فإنه قول غير منتظم; لأنها إن كانت هبة فلا تعلق
لها بعقد النكاح ولا بالمهر ولا تأثير للطلاق في رجوع شيء منها إليه,
وإن كانت زيادة في المهر فغير جائز بطلانها بالموت. وإنما قال أصحابنا:
"إنه إذا طلقها قبل الدخول بطلت الزيادة كلها" من قبل أن الزيادة لما
لم تكن موجودة في العقد وإنما كانت ملحقة به, وجب أن يكون بقاؤها
موقوفا على سلامة العقد أو الدخول بالمرأة ألا ترى أن الزيادة في البيع
إنما تلحق به على شرط بقاء العقد وأنه متى بطل العقد بطلت الزيادة؟
فكذلك الزيادة في المهر.
(2/196)
مطلب: المهر المسمى يبطل قبل الدخول زإنما يجب نصف المسمى لها على معنى
المتعة
فإن قيل: التسمية الموجودة في العقد إنما يبطل بعضها بورود الطلاق
عليها قبل
(2/196)
الدخول,
فهلا كانت الزيادة كذلك; إذ كانت إذا صحت ولحقت به كانت بمنزلة وجودها
فيه فلا فرق بينهما وبين المسمى فيه قيل له: عندنا أن المسمى في العقد
يبطل كله أيضا إذا طلق قبل الدخول لبطلان العقد المسمى فيها كهلاك
المبيع قبل القبض, وإنما يجب النصف على جهة الاستقبال كالمتعة. وقد روي
عن إبراهيم النخعي أنه قال فيمن طلق قبل الدخول وقد سمى لها: "إن نصف
المسمى هو متعتها" وكذلك كان يقول أبو الحسن الكرخي وعلى هذا المعنى
قالوا في شاهدين شهدا على رجل بطلاق امرأته قبل الدخول وهو يجحد ثم
رجعا: "إنهما يضمنان للزوج نصف المهر الذي غرم "; لأن الطلاق قبل
الدخول يسقط جميع المهر والنصف الذي يلزمه في التقدير كأنه دين مستأنف
ألزماه بشهادتهما, فعلى هذا لا يختلف حكم الزيادة والتسمية في سقوطهما
بالطلاق قبل الدخول.
فإن قيل: هذا التأويل يؤدي إلى مخالفة قوله تعالى: {وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ
لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] لأنك قلت إن
الجميع يسقط ويجب النصف على وجه الاستئناف. قيل له: ليس في الآية نفي
لأن يكون النصف الواجب بعد الطلاق مهرا على وجه الاستئناف, وإنما فيه
وجوب نصف المفروض غير مقيد بوصف ولا شرط, ونحن نوجب النصف أيضا, فليس
فيما ذكرنا من وجوبه في التقدير على وجه الاستئناف على أنه متعتها
مخالفة للآية. ويدل على أن الطلاق قبل الدخول يسقط جميع الزيادة, أنا
قد علمنا أن العقد إذا خلا من التسمية يوجب مهر المثل; إذ غير جائز أن
يملك البضع بلا بدل; ثم إذا رد الطلاق قبل الدخول أسقطه; إذ لم يكن
مسمى في العقد, كذلك الزيادة لما لم تكن مسماة في العقد وجب أن يسقطها
الطلاق قبل الدخول وإن كانت قد وجبت بإلحاقها بالعقد, والله أعلم.
(2/197)
باب نكاح الإماء. مطلب: تخصيص الحكم بشيء في اللفظ لا يدل على نفيه عما
عداه
قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ
يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} قال أبو بكر: الذي
اقتضته هذه الآية إباحة نكاح الإماء المؤمنات عند عدم الطول إلى
الحرائر المؤمنات; لأنه لا خلاف أن المراد بالمحصنات ههنا الحرائر وليس
فيها حظر لغيرهن لأن تخصيص هذه الحال بذكر الإباحة فهذا لا يدل على حظر
ما عداها, كقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ
إِمْلاقٍ} [الاسراء31] لا دلالة فيه على إباحة القتل عند زوال هذه
الحال, وقوله
(2/197)
تعالى:
{لا تَأْكُلُوا الرِّبا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130] لا
يدل على إباحته إذا لم يكن أضعافا مضاعفة, وقوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ
مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117]
ليس بدلالة على أن أحدنا يجوز أن يقوم له برهان على صحة القول بأن مع
الله إلها آخر تعالى الله على ذلك; وقد بينا ذلك في أصول الفقه. فإذا
ليس في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً} الآية,
إلا إباحة نكاح الإماء لمن كانت هذه حاله, ولا دلالة فيه على حكم من
وجد طولا إلى الحرة لا بحظر ولا إباحة.
وقد اختلف السلف في معنى الطول, فروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد
وقتادة والسدي أنهم قالوا: "هو الغنى". وروي عن عطاء وجابر بن زيد
وإبراهيم قالوا: "إذا هوي الأمة فله أن يتزوجها وإن كان موسرا إذا خاف
أن يزني بها". فكان معنى الطول عند هؤلاء في هذا الموضع أن لا ينصرف
قلبه عنها بنكاح الحرة لميله إليها ومحبته لها, فأباحوا له في هذه
الحال نكاحها. والطول يحتمل الغنى والقدرة ويحتمل الفضل, قال الله
تعالى: {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3], قيل فيه: ذو
الفضل, وقيل: ذو القدرة; والفضل والغنى يتقاربان في المعنى فاحتمل
الطول المذكور في الآية الغنى والقدرة, واحتمل الفضل والسعة. فإذا كان
معناه الغنى احتمل وجهين: أحدهما: حصول الغنى له بكون الحرة تحته,
والثاني: غنى المال وقدرته على تزوج حرة. وإذا كان معناه الفضل احتمل
إرادة الغنى; لأن الفضل يوجب ذلك, والثاني: اتساع قلبه لتزوج الحرة
والانصراف عن الأمة, وأنه إن لم يتسع قلبه لذلك وخشي الإقدام من نفسه
على محظور جاز له أن يتزوجها وإن كان موسرا على ما روي عن عطاء وجابر
بن زيد وإبراهيم هذه الوجوه كلها تحتملها الآية.
وقد اختلف السلف في ذلك, فروي عن ابن عباس وجابر وسعيد بن جبير والشعبي
ومكحول: "لا يتزوج الأمة إلا أن لا يجد طولا إلى الحرة". وروي عن مسروق
والشعبي قالا: "نكاح الأمة بمنزلة الميتة والدم ولحم الخنزير لا يحل
إلا لمضطر". وروي عن علي وأبي جعفر ومجاهد وسعيد بن جبير وسعيد بن
المسيب رواية وإبراهيم والحسن رواية والزهري قالوا: "ينكح الأمة وإن
كان موسرا". وعن عطاء وجابر بن زيد: "أنه إن خشي أن يزني بها تزوجها".
وروي عن عطاء: "أنه يتزوج الأمة على الحرة". وعن عبد الله بن مسعود
قال: "لا يتزوج الأمة على الحرة إلا المملوك". وقال عمر وعلي وسعيد بن
المسيب ومكحول في آخرين: "لا يتزوج الأمة على الحرة". وقال إبراهيم:
"يتزوج الأمة على الحرة إذا كان له منها ولد" وقال: "إذا تزوج أمة وحرة
في عقد واحد بطل نكاحهما جميعا". وقال ابن عباس ومسروق: "إذا تزوج حرة
فهو طلاق الأمة".
(2/198)
وقال
إبراهيم رواية: "يفرق بينه وبين الأمة إلا أن يكون له منها ولد". وقال
الشعبي: "إذا وجد الطول إلى الحرة بطل نكاح الأمة". وروى مالك عن يحيى
بن سعيد عن سعيد بن المسيب قال: "لا تنكح الأمة على الحرة إلا أن تشاء
الحرة ويقسم للحرة يومين وللأمة يوما". قال أبو بكر: وهذا يدل على أنه
كان لا يرى تزويج الأمة على الحرة جائزا إن لم ترض الحرة.
واختلفوا فيمن يجوز أن يتزوج من الإماء. فروي عن ابن عباس أنه قال: "لا
يتزوج من الإماء أكثر من واحدة". وقال إبراهيم ومجاهد والزهري: "يجمع
أربع إماء إن شاء". فاختلف السلف في نكاح الأمة على هذه الوجوه; واختلف
فقهاء الأمصار في ذلك أيضا, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والحسن بن
زياد: "للرجل أن يتزوج أمة إذا لم تكن تحته حرة وإن وجد طولا إلى
الحرة, ولا يتزوجها إذا كانت تحته حرة". وقال سفيان الثوري: "إذا خشي
على نفسه في المملوكة فلا بأس بأن يتزوجها وإن كان موسرا". وقال مالك
والليث والأوزاعي والشافعي: "الطول المال; فإذا وجد طولا إلى الحرة لا
يتزوج أمة, وإن لم يجد طولا لم يتزوجها أيضا حتى يخشى العنت على نفسه".
واتفق أصحابنا والثوري والأوزاعي والشافعي أنه لا يجوز له أن يتزوج أمة
وتحته حرة, ولا يفرقون بين إذن الحرة في ذلك وغير إذنها. وقال ابن وهب
عن مالك: "لا بأس بأن يتزوج الرجل الأمة على الحرة والحرة بالخيار".
وقال ابن القاسم عنه في الأمة تنكح على الحرة: "أرى أن يفرق بينهما" ثم
رجع وقال" تخير الحرة إن شاءت أقامت وإن شاءت فارقت". قال: وسئل مالك
عن رجل تزوج أمة وهو ممن يجد طولا إلى الحرة, قال: "أرى أن يفرق
بينهما" "فقيل له: إنه يخاف العنت, قال: "السوط يضرب به" ثم خففه بعد
ذلك, قال: وقال مالك: "إذا تزوج العبد أمة على حرة فلا خيار للحرة لأن
الأمة من نسائه". وقال عثمان البتي: "لا بأس أن يتزوج الرجل الأمة على
الحرة".
والدليل على جواز نكاح الأمة وإن قدر على تزوج الحرة إذا لم تكن تحته,
قول الله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ
مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا
فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] قد حوت هذه
الآية الدلالة من وجهين على جواز تزويج الأمة مع القدرة على نكاح
الحرة: أحدهما: إباحة النكاح على الإطلاق في جميع النساء من العدد
المذكور من غير تخصيص لحرة من أمة. والثاني: قوله تعالى في نسق الخطاب:
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3], ومعلوم أن قوله: {أَوْ
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] غير مكتف بنفسه في إفادة
الحكم وأنه مفتقر إلى ضمير وضميره هو ما تقدم ذكره مظهرا في الخطاب وهو
عقد النكاح, فكان تقديره: فاعقدوا نكاحا على
(2/199)
ما طاب
لكم من النساء أو على ما ملكت أيمانكم; وغير جائز إضمار الوطء فيه; إذ
لم يتقدم له ذكر فثبت بدلالة هذه الآية أنه مخير بين تزويج الأمة أو
الحرة.
فإن قيل: قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}
[النساء: 3] إباحة معقودة بشرط, وهي أن تكون مما طاب لنا, فدل على أنه
مما طاب حتى يجوز العقد; وهو إذا كان كذلك كان بمنزلة المجمل المفتقر
إلى البيان. قيل له: قوله تعالى: {مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] يحتمل
وجهين: أحدهما: أن يكون معناه ما استطبتموه, فيكون مفيدا للتخيير, كقول
القائل: "اجلس ما طاب لك في هذه الدار وكل ما طاب لك من هذا الطعام"
فيفيد تخييره في فعل ما شاء منه. والوجه الآخر: ما حل لكم. فإن كان
المراد الوجه الأول فقد اقتضى تخييره في نكاح من شاء وذلك عموم في
الحرائر والإماء, وإن كان معناه ما حل لكم, فإنه قد عقبه بيان ما طاب
لكم منها, وهو قوله تعالى: {مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3], فقد خرج بذلك عن حيز الإجمال إلى حيز
العموم, واستعمال العموم واجب كيف تصرفت الحال. وعلى أنها لو كانت
محتملة للعموم والإجمال جميعا لكان حملها على معنى العموم أولى لإمكان
استعماله, ومتى أمكننا استعمال حكم اللفظ على وجه فعلينا استعماله;
ويدل عليه قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ
تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} وذلك عموم في الحرائر والإماء. ويدل عليه
قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ
وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5], والإحصان اسم يقع
على الإسلام وعلى العقد, يدل عليه قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ} روي
عن بعض السلف: "فإذا أسلمن" وقال بعضهم: "فإذا تزوجن". ومعلوم أنه لم
يرد به التزويج في هذا الموضع, فثبت أنه أراد العفاف, وذلك عموم في
الحرائر والإماء. وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] هو عموم أيضا في
تزوج الإماء الكتابيات, ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا
الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ}
[النور: 32], وذلك عموم يوجب جواز نكاح الإماء كما اقتضى جواز نكاح
الحرائر. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ
مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221], ومحال أن يخاطب
بذلك إلا من قدر على نكاح المشركة الحرة, ومن وجد طولا إلى الحرة
المشركة فهو يجد طولا إلى الحرة المسلمة, فاقتضى ذلك جواز نكاح الأمة
مع وجود الطول إلى الحرة المسلمة كما اقتضاه مع وجوده إلى الحرة
المشركة. ويدل عليه من طريق النظر أن القدرة على نكاح امرأة لا تحرم
نكاح أخرى,
(2/200)
كالقدرة
على تزويج البنت لا يحرم تزويج الأم, والقدرة على نكاح المرأة لا يحرم
نكاح أختها; فوجب على هذا أن لا تمنع قدرته على نكاح الحرة من تزويج
الأمة بل الأمة أيسر أمرا في ذلك من الأختين والأم والبنت; والدليل
عليه جواز اجتماع الحرة والأمة تحته عند جميع فقهاء الأمصار وامتناع
اجتماع الأم والبنت والأختين تحته, فلما لم يكن إمكان تزويج البنت الذي
هو أغلظ حكما مانعا من الأم الحرة والأمة وجب أن لا يكون لإمكان تزوج
الحرة تأثير في منع نكاح الأمة.
واحتج من خالف في ذلك بقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ
طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله
تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا
خَيْرٌ لَكُمْ} , وأنه أباح نكاح الأمة بشرط عدم الطول إلى الحرة وخشية
العنت, فلا تجوز استباحته إلا بوجود الشرطين جميعا; وهذه الآية قاضية
على ما تلوت من الآي لما فيها من بيان حكم الأمة في التزويج. قيل له:
ليس في هذه الآية حظر نكاح الأمة في حال وجود الطول إلى الحرة. وإنما
فيها إباحته في حال عدم الطول إليها, وسائر الآي التي تلونا يقتضي
إباحة نكاحها في سائر الأحوال, فليس في أحدهما ما يوجب تخصيص الأخرى
لورودهما جميعا في حكم الإباحة, وليس في واحدة منهما حظر, فلا يجوز أن
يقال إن هذه مخصصة لها; والجميع وارد في حكم واحد.
فإن قيل: هذا كقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة: 4] فكان مقتضى جميع ذلك
امتناع جوازه مع وجود ما قبله. قيل له: لأنه جعل الفرض بديا عتق رقبة,
فاقتضى ذلك أن يكون الفرض هو العتق لا غير, فلما نقله عند عدم الرقبة
إلى الصيام اقتضى ذلك أن لا يجزي غيره إذا عدم الرقبة, فلما قال:
{فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} [المجادلة:
4] كان حكم الكفارة مقصورا على المذكور في الآية على ما اقتضته من
الترتيب, وليس معك آية تحظر نكاح الإماء حتى إذا ذكرت إباحتهن بشرط
وحال كان عدم الشرط والحال موجبا لحظرهن, بل سائر الآي الواردة في
إباحة النكاح ليس فيها فرق بين الحرائر والإماء, فليس إذا في قوله:
{وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ
الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} دلالة على حظرهن عند وجود الطول إلى
الحرائر.
وذكر إسماعيل بن إسحاق هذه الآية وذكر اختلاف السلف فيها, ثم ذكر قول
أصحابنا في تجويزهم نكاح الأمة مع القدرة على تزويج الحرة, فقال: وهذا
قول تجاوز فساده ولا يحتمل التأويل; لأنه محظور في الكتاب إلا من الجهة
التي أبيحت. قال أبو
(2/201)
بكر:
قوله: "لا يحتمل التأويل" خلاف الإجماع وذلك لأن الصحابة قد اختلفوا
فيه. وقد حكينا أقاويلهم, ولولا خشية الإطالة لذكرنا أسانيدها; ولو كان
لا يحتمل التأويل لما قال به من قال من السلف; إذ غير جائز لأحد تأويل
آية على معنى لا تحتمله, وقد ظهر هذا الاختلاف في السلف فلم ينكر بعضهم
على بعض القول فيها على الوجوه التي اختلفوا فيها, ولو كان هذا القول
غير محتمل ولا يسوغ التأويل فيه لأنكره من لم يقل به منهم على قائليه,
فإذا كان هذا القول مستفيضا فيهم من غير نكير ظهر من أحد منهم على
قائليه فقد حصل بإجماعهم تسويغ الاجتهاد فيه واحتمال الآية للتأويل
الذي تأولته; فقد بان بما وصفنا أن إنكاره لاحتمال التأويل غير صحيح.
وأما قوله: "إنه محظور في الكتاب إلا من الجهة التي أبيحت" فإنه لا
يخلو من أن يريد أنه محظور فيه نصا أو دليلا, فإن ادعى نصا طولب
بتلاوته وإظهاره ولا سبيل له إلى ذلك, وإن ادعى على ذلك دليلا طولب
بإيجاده وذلك معدوم, فلم يحصل من قوله إلا على هذه الدعوى لنفسه
والتعجب من قول خصمه, اللهم إلا أن يزعم أن تخصيصه الإباحة بهذه الحال
والشرط دليل على حظر ما عداه, فإن كان إلى هذا ذهب فإن هذا دليل يحتاج
إلى دليل, وما نعلم أحدا استدل بمثله قبل الشافعي ولو كان هذا دليلا
لكانت الصحابة أولى بالسبق إلى الاستدلال به في هذه المسألة ونظائرها
من المسائل مع كثرة ما اختلفوا فيه من أحكام الحوادث التي لم يخل كثير
منها من إمكان الاستدلال عليها بهذا الضرب كما استدلوا عليها بالقياس
والاجتهاد وسائر ضروب الدلالات, وفي تركهم الاستدلال بمثله دليل على أن
ذلك لم يكن عندهم دليلا على شيء; فإذا لم يحصل إسماعيل من قوله: "هو
محظور في الكتاب" على حجة ولا شبهة. وقد حكى داود الأصبهاني أن إسماعيل
سئل عن النص ما هو؟ فقال: النص ما اتفقوا عليه, فقيل له: فكل ما
اختلفوا فيه من الكتاب فليس بنص؟ فقال: القرآن كله نص, فقيل له: فلم
اختلف أصحاب محمد النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن كله نص؟ فقال داود:
ظلمه السائل, ليس مثله يسأل عن هذه المسألة, هو أقل من أن يبلغ علمه
هذا الموضع. فإن كانت حكاية داود عنه صحيحة فإن ذلك لا يليق بإنكاره
على القائلين بإباحة نكاح الأمة مع إمكان تزوج الحرة; لأنه حكي عنه أنه
قال مرة: "ما اتفقوا عليه فهو نص" وقال مرة: "القرآن كله نص" وليس في
القرآن ما يخالف قولنا ولا اتفقت الأمة أيضا على خلافه. وفي حكاية داود
هذا عن إسماعيل عهدة1 وهو غير أمين ولا ثقة فيما يحكيه وغير مصدق على
إسماعيل خاصة لأنه كان نفاه من بغداد وقذفه بالعظائم, وما أظن تعجب
إسماعيل من قولنا إلا من جهة أنه كان يعتقد في مثله أنه دلالة
ـــــــ
1 قوله: "عهدة" أي ضعف كما في أساس البلاغة. "لمصحح".
(2/202)
على حظر
ما عدا المذكور; وقد بينا أن ذلك ليس بدليل واستقصينا القول فيه في
أصول الفقه.
ومما يدل على صحة قولنا أن خوف العنت وعدم الطول ليسا بضرورة; لأن
الضرورة ما يخاف فيها تلف النفس, وليس في فقد الجماع تلف النفس, وقد
أبيح له نكاح الأمة, فإذا جاز نكاح الأمة في غير ضرورة فلا فرق بين
وجود الطول وعدمه; إذ عدم الطول ليس بضرورة في التزوج; إذ لا تقع لأحد
ضرورة إلى التزوج إلا أن يكره عليه بما يوجب تلف النفس أو بعض الأعضاء.
ويدل على أن الإباحة المذكورة في الآية غير معقودة بضرورة قوله في نسق
الخطاب: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وما اضطر إليه الإنسان من
ميتة أو لحم خنزير أو نحوه لا يكون الصبر عليه خيرا له; لأنه لو صبر
عليه حتى مات كان عاصيا وأيضا فليس النكاح بفرض حتى تعتبر فيه الضرورة,
وأصله تأديب وندب; وإذا كان كذلك وقد جاز في غير الضرورة وجب أن يجوز
في حال وجود الطول كما جاز في حال عدمه.
وقوله تعالى: {بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} في نسق التلاوة قيل فيه: إن
كلكم من آدم, وقيل فيه: كلكم مؤمنون. يدل على أنه أراد المساواة بينهم
في النكاح, وهذا يدل على وجوب التسوية بين الحرة والأمة إلا فيما تقوم
فيه دلالة التفضيل. وأما من قال: "إن نكاح الحرة طلاق للأمة" فقوله واه
ضعيف لا مساغ له في النظر; لأنه لو كان كما ذكر لوجب أن يكون الطول إلى
الحرة فاسخا لنكاح الأمة كما قال الشعبي كالمتيمم إذا وجد الماء ينتقض
تيممه توضأ أو لم يتوضأ.
(2/203)
مطلب: في
تأويل أبي يوسف قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً}
وقد روي عن أبي يوسف أنه تأول قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ
مِنْكُمْ طَوْلاً} على عدم الحرة في ملكه وأن وجود الطول هو كون الحرة
تحته. وهذا تأويل سائغ; لأن من ليس عنده حرة فهو غير مستطيع للطول
إليها; إذ لا يصل إليها ولا يقدر على وطئها, فكان وجود الطول عنده هو
ملك وطء الحرة. وهو أولى بمعنى الآية من تأويل من تأوله على القدرة على
تزوجها; لأن القدرة على المال لا توجب له ملك الوطء إلا بعد النكاح,
فوجود الطول بحال ملك الوطء أخص منه بوجود المال الذي به يتوصل إلى
النكاح. ويدل عليه أنا وجدنا لملك وطء الزوجة تأثيرا في منع نكاح أخرى,
ولم نجد هذه المزية لوجود المال, فإذا لا حظ لوجود المال في منع نكاح
الأمة; فتأويل أبي يوسف الآية على ملك وطء الحرة أصح من تأويل من
تأولها على ملك المال.
(2/203)
فإن قيل:
وجود ثمن رقبة الظهار كوجود الرقبة في ملكه, فهلا كان وجود مهر الحرة
كوجود نكاحها قيل له: هذا خطأ منتقض من وجوه: أحدها: أنك لم تعقده
بمعنى يوجب الجمع بينهما وبدلالة يدل بها على صحة المعنى, وما خلا من
ذلك من دعوى الخصم فهو ساقط غير مقبول. والثاني: أن ذلك يوجب أن يكون
وجود مهر امرأة في ملكه كوجود نكاحها في منع تزويج أمها أو أختها, فلما
لم يكن ذلك كذلك بان به فساد ما ذكرت; وعلى أن الرقبة ليست عروضا1
للنكاح لأن الرقبة فرض عليه عتقها, وغير جائز له الانصراف عنها مع
وجودها, وجائز للرجل أن لا يتزوج مع الإمكان; فلما كان كذلك كان وجود
ثمن الرقبة في ملكه كوجودها; إذ كانت فرضا هو مأمور بعتقها على حسب
الإمكان, وليس النكاح بفرض فيلزمه التوصل إليه لوجود المهر, فليس إذا
لوجود المهر في ملكه تأثير في منع نكاح الأمة وكان واجده بمنزلة من لم
يجد. وإنما قال أصحابنا إنه لا يتزوج الأمة على الحرة لما روى الحسن
ومجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تنكح الأمة على
الحرة" , ولولا ما ورد من الأثر لم يكن تزويج الأمة على الحرة محظورا;
إذ ليس في القرآن ما يوجب حظره والقياس يوجب إباحته, ولكنهم اتبعوا
الأثر في ذلك والله تعالى أعلم.
ـــــــ
1 قوله: "عروضا" بفتح العين وضم الراء أي نظيرا كما في لسان العرب.
"لمصححه"
(2/204)
باب نكاح الأمة الكتابية
قال أبو بكر: اختلف أهل العلم فيه, فروي عن الحسن ومجاهد وسعيد بن عبد
العزيز وأبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم كراهة ذلك, وهو قول الثوري.
وقال أبو ميسرة في آخرين: "يجوز نكاحها", وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف
ومحمد وزفر. وروي عن أبي يوسف أنه كرهه إذا كان مولاها كافرا والنكاح
جائز; ويشبه أن يكون ذهب إلى أن ولدها يكون عبدا لمولاها وهو مسلم
بإسلام الأب, كما يكره بيع العبد المسلم من الكافر. وقال مالك
والأوزاعي والشافعي والليث بن سعد: "لا يجوز النكاح". والدليل على
جوازه جميع ما ذكرنا من عموم الآي في الباب الذي قبله الموجبة لجواز
نكاح الأمة مع وجود الطول إلى الحرة, ودلالتها على جواز نكاح الأمة
الكتابية كهي على إباحة نكاح المسلمة. ومما يختص منها بالدلالة على هذه
المسألة قوله عز وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]. وروى جرير عن ليث عن مجاهد
في قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] قال: "العفائف". وروى هشيم عن مطرف عن
الشعبي: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
(2/204)
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] قال: "إحصانها أن تغتسل من
الجنابة وتحصن فرجها من الزنا. فثبت بذلك أن اسم الإحصان قد يتناول
الكتابية, قال تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فاستثنى ملك اليمين من المحصنات, فدل على أن
الاسم يقع عليهن لولا ذلك لما استثناهن, وقال تعالى: {فَإِذَا
أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} فأطلق اسم الإحصان في هذا
الموضع على الإماء ولما ثبت أن اسم المحصنات يقع على الكتابيات من
الحرائر والإماء وأطلق الله نكاح الكتابيات المحصنات بقوله:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}
[المائدة: 5] كان عاما في الحرائر والإماء منهن.
فإن احتجوا بقوله: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}
[البقرة: 221] وكانت هذه مشركة, وقال في آية أخرى: {وَمَنْ لَمْ
يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ
الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ} , فكانت إباحة نكاح الإماء مقصورة على المسلمات منهن
دون الكتابيات, وجب أن يكون نكاح الإماء الكتابيات باقيا على حكم
الحظر. قيل له: إطلاق اسم المشركات لا يتناول الكتابيات وإنما يقع على
عبدة الأوثان دون غيرهم; لأن الله تعالى قد فرق بينهما في قوله: {لَمْ
يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ
مُنْفَكِّينَ} [البينة: 1] فعطف المشركين على أهل الكتاب, وهذا يدل على
أن إطلاق الاسم إنما يتناول عبدة الأوثان دون غيرهم فلم يعم الكتابيات,
فغير جائز الاعتراض به في حظر نكاح الإماء الكتابيات. وأيضا فلا خلاف
بين فقهاء الأمصار أن قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] قاض على قوله: {وَلا
تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] وذلك لأنهم لا يختلفون في
جواز نكاح الحرائر الكتابيات, فليس يخلو حينئذ قوله: {وَلا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] من أن يكون عاما في إطلاقه للكتابيات
والوثنيات أو أن يكون إطلاقه مقصورا على الوثنيات دون الكتابيات; فإن
كان الإطلاق إنما يتناول الوثنيات دون الكتابيات فالسؤال عنها ساقط
فيه; إذ ليس بناف فيه لنكاح الكتابيات, وإن كان الإطلاق ينتظم الصنفين
جميعا لو حملناه على ظاهره فقد اتفقوا أنه مرتب على قوله:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}
[المائدة: 5] لاتفاق الجميع على استعماله معه في الحرائر منهن. وإذا
كان كذلك لم يخل من أن تكون الآيتان نزلتا معا, أو أن تكون إباحة نكاح
الكتابيات متأخرة عن حظر نكاح المشركات, أو أن يكون حظر نكاح المشركات
متأخرا عن إباحة نكاح الكتابيات. فإن كانتا نزلتا معا فهما مستعملتان
جميعا على جهة ترتيب حظر نكاح المشركات على إباحة نكاح الكتابيات, أو
أن يكون
(2/205)
نكاح
الكتابيات نازلا بعده فيكون مستعملا أيضا, أو أن يكون حظر نكاح
المشركات متأخرا عن إباحة نكاح الكتابيات, فإن كان كذلك فإنه ورد مرتبا
على إباحة نكاح الكتابيات; فالإباحة مستعملة في الأحوال كلها كيف تصرفت
الحال وعلى أنه لا خلاف أن قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] نزل بعد تحريمه نكاح
المشركات; لأن آية تحريم المشركات في سورة البقرة, وإباحة نكاح
الكتابيات في سورة المائدة وهي نزلت بعدها, فهي قاضية على تحريم
المشركات إن كان إطلاق اسم المشركات يتناول الكتابيات. ثم لما لم تفرق
الآية المبيحة لنكاح الكتابيات بين الحرائر منهن وبين الإماء واقتضى
عمومها الفريقين منهن, وجب استعمالها فيهما جميعا وأن لا يعترض بتحريم
نكاح المشركات عليهن كما لم يجز الاعتراض به على الحرائر منهن. وأما
تخصيص الله تعالى المؤمنات من الإماء في قوله: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ} فقد بينا في المسألة المتقدمة أن التخصيص بالذكر لا
يدل على أن ما عدا المخصوص حكمه بخلافه.
فإن قيل: لا يصح الاحتجاج بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] في إباحة النكاح
وذلك لأن الإحصان اسم مشترك يتناول معاني مختلفة, وليس بعموم فيجرى على
مقتضى لفظه بل هو مجمل موقوف الحكم على البيان, فما ورد به البيان من
توقيف أو اتفاق صرنا إليه وكان حكم الآية مقصورا عليه, وما لم يرد به
بيان فهو على إجماله لا يصح الاحتجاج بعمومه; فلما اتفق الجميع على أن
الحرائر من الكتابيات مرادات به استعملنا حكم الآية فيهن, ولما لم تقم
الدلالة على إرادة الإماء الكتابيات احتجنا في إثباتها إلى دليل من
غيرها. قيل له: لما روي عن جماعة من السلف في قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ
مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المائدة: 5] أنهن العفائف منهن;
إذ كان اسم الإحصان يقع على العفة, وجب اعتبار عموم اللفظ في جميع
العفائف; إذ قد ثبت أن العفة مرادة بهذا الإحصان, وما عدا ذلك من ضروب
الإحصان لم تقم الدلالة على أنها مرادة وقد اتفقوا على أنه ليس من شرط
هذا الإحصان استكمال شرائطه كلها, فما وقع عليه الاسم واتفق الجميع أنه
مراد أثبتناه, وما عداه يحتاج مثبته شرطا في الإباحة إلى دلالة
فإن قيل: اسم الإحصان يقع على الحرية, فما أنكرت أن يكون المراد بقوله:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}
[المائدة: 5] الحرائر منهن؟ قيل له: لما كان معلوما أنه لم يرد بذكر
الإحصان في هذا الموضع استيفاء شرائطه, لم يجز لأحد أن يقتصر بمعنى
الإحصان فيه على بعض ما يقع عليه الاسم دون بعض, بل إذا تناوله
(2/206)
الاسم من
وجه وجب اعتبار عمومه فيه, فلما كانت الأمة قد يتناولها اسم الإحصان
على الإطلاق في بعض الوجوه من طريق العفة أو غيرها جاز اعتبار عموم
اللفظ فيه, وإذا جاز لك أن تقتصر باسم الإحصان على الحرية دون غيرها
فجائز لغيرك أن يقتصر به على العفاف دون غيره, وغير جائز لنا إجمال حكم
اللفظ مع, إمكان استعماله على العموم; وقد أطلق الله اسم الإحصان على
الأمة فقال تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ
فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} فقال
بعضهم: أراد: فإذا أسلمن, وقال بعضهم: فإذا تزوجن; فكان اعتبار هذا
العموم سائغا في إيجاب الحد عليهن. وقد قال في الآية:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} [المائدة: 5] ولم يرد به حصول
جميع شرائط الإحصان وإنما أراد به العفائف منهن, وحرم ذوات الأزواج
بقوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ} فكان عموما في تحريم ذوات الأزواج إلا ما استثناهن;
فكذلك قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ
قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] لا يمنع ذكر الإحصان فيه من اعتبار عمومه
فيمن يقع عليه الاسم من جهة العفاف على ما روي عن السلف. ومن جهة النظر
أنه لا خلاف بين الفقهاء في إباحة وطء الأمة الكتابية بملك اليمين, وكل
من جاز وطؤها بملك اليمين جاز وطؤها بملك النكاح على الوجه الذي يجوز
عليه نكاح الحرة المنفردة, ألا ترى أن المسلمة لما جاز وطؤها بملك
اليمين جاز وطؤها بالنكاح, وأن الأخت من الرضاعة وأم المرأة وحليلة
الابن وما نكح الآباء لما لم يجز وطؤهن بملك اليمين حرم وطؤهن بالنكاح؟
فلما اتفق الجميع على جواز وطء الأمة الكتابية بملك اليمين وجب جواز
وطئها بالنكاح على الوجه الذي يجوز فيه وطء الحرة المنفردة.
فإن قيل: قد يجوز وطء الأمة الكتابية بملك اليمين ولا يجوز بالنكاح كما
إذا كانت تحته حرة. قيل له: لم نجعل ما ذكرنا علة لجواز نكاحها في سائر
الأحوال, وإنما جعلناه علة لجواز نكاحها منفردة غير مجموعة إلى غيرها
ألا ترى أن الأمة المسلمة يجوز وطؤها بملك اليمين ويجوز نكاحها منفردة,
ولو كانا تحته حرة لما جاز نكاحها لأنه لم يجز نكاحها من طريق جمعها
إلى الحرة كما لا يجوز نكاحها لو كانت أختها تحته وهي أمة؟ فعلتنا
صحيحة مستمرة جارية في معلولاتها غير لازم عليها ما ذكرت; إذ كانت
منصوبة للجواز نكاحها منفردة غير مجموعة إلى غيرها; وبالله التوفيق.
(2/207)
باب نكاح الأمة بغير إذن مولاها
قال الله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} . قال أبو
بكر: قد اقتضى ذلك بطلان نكاح الأمة إلا أن يأذن سيدها وذلك لأن قوله
تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} يدل
(2/207)
على كون
الإذن شرطا في جواز النكاح وإن لم يكن النكاح واجبا, وهو مثل قوله صلى
الله عليه وسلم: "من أسلم فليسلم في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل
معلوم" ; أن السلم ليس بواجب, ولكنه إذا اختار أن يسلم فعليه استيفاء
هذه الشرائط, كذلك النكاح وإن لم يكن حتما فعليه إذا أراد أن يتزوج
الأمة أن لا يتزوجها إلا بإذن سيدها. وقد روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم هذا المعنى في نكاح العبد; حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا
محمد بن شاذان قال: أخبرنا معلى قال: حدثنا عبد الوارث قال: حدثنا
القاسم بن عبد الواحد عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا تزوج العبد بغير إذن مولاه فهو
عاهر" . حدثنا عبد الباقي قال: حدثنا محمد بن الخطابي قال: حدثنا أبو
نعيم الفضل بن دكين قال: حدثنا الحسن بن صالح عن عبد الله بن محمد بن
عقيل قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر". وروى عبيد الله بن عمر
عن نافع عن ابن عمر قال: "نكاح العبد بغير إذن سيده زنا". وروى هشيم عن
يونس عن نافع: "أن مملوكا لابن عمر تزوج بغير إذنه فضربهما وفرق بينهما
وأخذ كل شيء أعطاها". وقال الحسن وسعيد بن المسيب وإبراهيم والشعبي:
"إذا تزوج العبد بغير إذن مولاه فالأمر إلى المولى إن شاء أجاز وإن شاء
رد". وقال عطاء: "نكاح العبد بغير إذن سيده ليس بزنا ولكنه أخطأ
السنة". وروى قتادة عن خلاس: "أن غلاما لأبي موسى تزوج بغير إذنه, فرفع
ذلك إلى عثمان, ففرق بينهما وأعطاها الخمسين وأخذ ثلاثة أخماس".
قال أبو بكر: واتفق من ذكرنا قوله من السلف أنه لا حد عليهما, وإنما
روي الحد عن ابن عمر, وجائز أن يكون جلدهما تعزيرا لا حدا فظن الراوي
أنه حد. واتفق علي وعمر في المتزوجة في العدة أنه لا حد عليها, ولا
نعلم أحدا من الصحابة خالفهما في ذلك. والعبد الذي تزوج بغير إذن مولاه
أيسر أمرا من المتزوجة في العدة; لأن ذلك نكاح تلحقه الإجازة عند عامة
التابعين وفقهاء الأمصار, ونكاح المعتدة لا تلحقه إجازة عند أحد;
وتحريم نكاح المعتدة منصوص عليه في الكتاب في قوله تعالى: {وَلا
تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ }
[البقرة: 235] وتحريم نكاح العبد من جهة خبر الواحد والنظر.
فإن قيل: قال النبي صلى الله عليه وسلم في العبد يتزوج بغير إذن مولاه:
"هو عاهر" , وقد قال صلى الله عليه وسلم: "وللعاهر الحجر" . قيل له: لا
خلاف أن العبد غير مراد بقوله: "وللعاهر الحجر" لأنه لا يرجم إذا زنى,
وإنما سماه عاهرا على المجاز والتشبيه بالزنى لإقدامه على وطء محظور;
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "العينان تزنيان والرجلان تزنيان"
وذلك مجاز, فكذلك قوله
(2/208)
في العبد.
وأيضا فقد قال: "أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر" ولم يذكر
الوطء, ولا خلاف أنه لا يكون عاهرا بالتزوج; فدل أن إطلاقه ذلك كان على
وجه المجاز تشبيها له بالعاهر.
وقوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} يدل على أن
للمرأة أن تزوج أمتها; لأن قوله: {أَهْلِهِنَّ} المراد به الموالي;
لأنه لا خلاف أنه لا يجوز لها أن تتزوج بغير إذن مولاها, وأنه لا
اعتبار بإذن غير المولى إذا كان المولى بالغا عاقلا جائز التصرف في
ماله. وقال الشافعي: "لا يجوز للمرأة أن تزوج أمتها وإنما توكل غيرها
بالتزويج" وهو قول يرده ظاهر الكتاب; لأن الله تعالى لم يفرق بين عقدها
التزويج وبين عقد غيرها بإذنها. ويدل على أنها إذا أذنت لا مرأة أخرى
في تزويجها أنه جائز لأنها تكون منكوحة بإذنها, وظاهر الآية مقتض لجواز
نكاحها بإذن مولاها, فإذا وكل مولاها أو مولاتها امرأة بتزويجها وجب أن
يجوز ذلك; لأن ظاهر الآية قد أجازه, ومن منع ذلك فإنما خص الآية بغير
دلالة. وأيضا فإن كانت هي لا تملك عقد النكاح عليها فغير جائز توكيلها
غيرها به; لأن توكيل الإنسان إنما يجوز فيما يملكه فأما ما لا يملكه
فغير جائز توكيل غيره به في العقود التي تتعلق أحكامها بالموكل دون
الوكيل, وقد يصح عندنا توكيل من لا يصح عقده إذا عقد في العقود التي
تتعلق أحكامها بالوكيل دون الموكل وهي عقود البياعات والإجارات, فأما
عقد النكاح إذا وكل به فإنما يتعلق حكمه بالموكل دون الوكيل ألا ترى أن
الوكيل بالنكاح لا يلزمه المهر ولا تسليمه البضع؟ فلو لم تكن المرأة
مالكة لعقد النكاح لما صح توكيلها به لغيرها; إذ كانت أحكام العقود غير
متعلقة بالوكيل, فلما صح توكيلها به مع تعلق أحكامه بها دون الوكيل دل
على أنها تملك العقد. وهذا أيضا دليل على أن الحرة تملك عقد النكاح على
نفسها كما جاز توكيلها على غيرها به وهو وليها.
وقوله تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} يدل على وجوب
مهرها إذا نكحها سمى لها مهرا أو لم يسم; لأنه لم يفرق بين من سمى وبين
من لم يسم في إيجابه المهر. ويدل على أنه قد أريد به مهر المثل قوله
تعالى: {بِالْمَعْرُوفِ} وهذا إنما يطلق فيما كان مبنيا على الاجتهاد
وغالب الظن في المعتاد والمتعارف كقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ
لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233].
وقوله تعالى: {وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} يقتضي ظاهره وجوب دفع المهر
إليها, والمهر واجب للمولى دونها; لأن المولى هو المالك للوطء الذي
أباحه للزوج بعقد النكاح فهو المستحق لبدله, كما لو آجرها للخدمة كان
المولى هو المستحق للأجرة دونها, كذلك المهر; ومع ذلك فإن الأمة لا
تملك شيئا فلا تستحق قبض المهر. ومعنى الآية على أحد
(2/209)
وجهين:
إما أن يكون المراد إعطاءهن المهر بشرط إذن المولى فيه, فيكون الإذن
المذكور بديا مضمرا في إعطائها المهر كما كان مشروطا في التزويج, فيكون
تقديره: فانكحوهن بإذن أهلهن وآتوهن أجورهن بإذنهن; فيدل ذلك على أنه
غير جائز إعطاؤهن المهر إلا بإذن المولى, وهو كقوله تعالى:
{وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} [الأحزاب: 35] والمعنى:
والحافظات فروجهن وقوله تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً
وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] ومعناه: والذاكرات الله وتكون دلالة
هذا الضمير ما في الآية من نفي ملكها لتزويجها نفسها وأن المولى أملك
بذلك منها; وقوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً
لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] فنفى ملكه نفيا عاما; وفيه
الدلالة على أن الأمة لا تستحق مهرها ولا تملكه. والوجه الآخر أن يكون
أضاف الإعطاء إليهن والمراد المولى, كما لو تزوج صبية صغيرة أو أمة
صغيرة بإذن الأب والمولى جاز أن يقال أعطهما مهريهما, ويكون المراد
إعطاء الأب أو المولى ألا ترى أنه يصح أن يقال لمن عليه دين ليتيم قد
مطله به إنه مانع لليتيم حقه وإن كان اليتيم لا يستحق قبضه ويقال أعط
اليتيم حقه؟ وقال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ
وَابْنَ السَّبِيلِ} [الاسراء: 26] وقد انتظم ذلك الصغار والكبار من
أهل هذه الأصناف; وإعطاء الصغار إنما يكون بإعطاء أوليائهم فكذلك جائز
أن يكون المراد بقوله: {وَآتُوهُنَّ} إيتاء من يستحق ذلك من مواليهن.
وزعم بعض أصحاب مالك أن الأمة هي المستحقة لقبض مهرها وأن المولى إذا
آجرها للخدمة كان هو المستحق للأجر دونها, واحتج للمهر بقوله تعالى:
{وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وقد بينا وجه ذلك ومعناه, وعلى أنه إن كان
المهر يجب لها لأنه بدل بضعها فكذلك يجب أن تكون الأجرة لها لأنه بدل
منافعها. ومن حيث كان المولى هو المالك لمنافعها كما كان مالكا لبضعها,
فمن استحق الأجرة دونها فواجب أن يستحق قبض المهر دونها لأنه بدل ملك
المولى لا ملكها لأنها لا تملك منافع بضعها ولا منافع بدنها, والمولى
هو العاقد في الحالين وبه تمت الإجارة والنكاح, فلا فرق بينهما. وحكى
هذا القائل أن بعض العراقيين أجاز أن يزوج المولى أمته عبده بغير صداق;
وهذا خلاف الكتاب زعم. قال أبو بكر: ما أشد إقدام مخالفينا على الدعاوى
على الكتاب والسنة ومن راعى كلامه وتفقد ألفاظه قلت دعاويه بما لا سبيل
له إلى إثباته; فإن كان هذا القائل إنما أراد أنهم أجازوا أن يزوج أمته
عبده بغير تسمية مهر, فإن كتاب الله تعالى قد حكم بجواز ذلك في قوله
تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ
تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] فحكم
بصحة الطلاق في نكاح لا مهر فيه مسمى. فدعواه
(2/210)
أن ذلك
خلاف الكتاب قد أكذبها الكتاب, وإن كان مراده أنهم قالوا إنه لا يثبت
مهر ويستبيح بضعها بغير بدل فهذا ما لا نعلم أحدا من العراقيين قاله;
فحصل هذا القائل على معنيين باطلين: أحدهما: دعواه على الكتاب, وقد
بينا أن الكتاب بخلاف ما قال. والثاني دعواه على بعض العراقيين ولم يقل
أحد منهم ذلك, بل قولهم في ذلك أنه إذا زوج أمته من عبده وجب لها المهر
بالعقد لامتناع استباحة البضع بغير بدل, ثم يسقط في الثاني حين يستحقه
المولى لأنها لا تملك والمولى هو الذي يملك مالها ولا يثبت للمولى على
عبده دين, فههنا حالان: إحداهما حال العقد يثبت فيها المهر على العبد,
والحال الثانية هي حال انتقاله إلى المولى بعد العقد, فيسقط, كما أن
رجلا لو كان له على آخر مال فقضاه إياه كان لما قبضه حالان: إحداهما
حال قبضه فيملكه مضمونا بمثله ثم يصير قصاصا بماله عليه, وكما يقول في
الوكيل في الشرى إن المشترى انتقل إليه بالعقد ولا يملكه وينتقل في
الثاني ملكه إلى الموكل, ولذلك نظائر كثيرة لا يفهمها إلا من ارتاض
المعاني الفقهية وجالس أهل فقه هذا الشأن وأخذ عنهم.
قوله تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ
أَخْدَانٍ} يعني والله أعلم: فانكحوهن محصنات غير مسافحات; وأمر بأن
يكون العقد عليها بنكاح صحيح وأن لا يكون وطؤها على وجه الزنا; لأن
الإحصان ههنا النكاح والسفاح الزنا. {وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ }
يعني: لا يكون وطؤها على حسب ما كانت عليه عادة أهل الجاهلية في اتخاذ
الأخدان; قال ابن عباس: "كان قوم منهم يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون
ما خفي منه "; والخدن هو الصديق للمرأة يزني بها سرا, فنهى الله تعالى
عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن وزجر عن الوطء إلا عن نكاح صحيح أو ملك
يمين.
(2/211)
مطلب: الفتاة تطلق على الأمة ولو عجوزا
وسمى الله الإماء الفتيات بقوله: {مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ}
والفتاة اسم للشابة, والعجوز الحرة لا تسمى فتاة, والأمة الشابة
والعجوز كل واحدة منهما تسمى فتاة; ويقال إنها سميت فتاة وإن كانت
عجوزا لأنها إذا كانت أمة لا توقر توقير الكبيرة. والفتوة حال الغرة
والحداثة; والله أعلم بالصواب.
(2/211)
باب حد الأمة والعبد
قال الله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ
فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}. قال
أبو بكر: قرئ فإذا أحصن" بفتح الألف, وقرئ بضم الألف "; فروي عن ابن
عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة أن: {أُحْصِنَّ} بالضم معناه تزوجن.
وعن
(2/211)
مطلب: إذا علقت الحكام بمعنان فحيث وجدت فالحكم ثابت
وخص الله الأمة بإيجاب نصف حد الحرة عليها إذا زنت, وعقلت الأمة من ذلك
أن العبد بمثابتها; إذ كان المعنى الموجب لنقصان الحد معقولا من الظاهر
وهو الرق وهو موجود في العبد. وكذلك قوله تعالى: {وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } [النور: 4] خص المحصنات بالذكر وعقلت الأمة
حكم المحصنين أيضا في هذه الآية إذا قذفوا, إذ كان المعنى في المحصنة
العفة والحرية والإسلام, فحكموا للرجل بحكم النساء بالمعنى. وهذا يدل
على أن الأحكام إذا علقت بمعان فحيثما وجدت فالحكم ثابت حتى تقوم
الدلالة على الاقتصار على بعض المواضع دون بعض.
(2/213)
فصل
قوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ} يدل على جواز عطف الواجب على الندب; لأن النكاح ندب ليس
بفرض, وإيتاء المهر واجب; ونحوه قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ
لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] ثم قال: {وَآتُوا النِّسَاءَ
صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] ويصح عطف الندب على الواجب أيضا
كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ
وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى} [النحل: 90] فالعدل واجب والإحسان ندب.
قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} قال ابن عباس
وسعيد بن جبير والضحاك وعطية العوفي: هو الزنا. وقال آخرون: هو الضرر
الشديد في دين أودنيا, من قوله تعالى: {وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل
عمران: 118]. وقوله: {لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} راجع إلى
قوله: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ
الْمُؤْمِنَاتِ} , وهذا شرط إلى المندوب إليه من ترك نكاح الأمة
والاقتصار على تزوج الحرة لئلا يكون ولده عبدا لغيره, فإذا خشي العنت
ولم يأمن مواقعة المحظور فهو مباح لا كراهة فيه لا في الفعل ولا في
الترك. ثم عقب ذلك بقوله تعالى: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ}
فأبان عن موضع الندب, والاختيار هو ترك نكاح الأمة رأسا; فكانت دلالة
الآية مقتضية لكراهية نكاح الأمة إذا لم يخش العنت, ومتى خشي العنت
فالنكاح مباح إذا لم تكن تحته حرة. والاختيار أن يتركه رأسا وإن خشي
العنت, لقوله: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} . وإنما ندب الله
تعالى إلى ترك نكاح الأمة رأسا مع خوف العنت لأن الولد المولود على
فراش النكاح
(2/213)
مطلب البيان من الله تعالى على وجهين
وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ
سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} يعني والله
أعلم: يريد ليبين لنا ما بنا الحاجة إلى معرفته. والبيان من الله تعالى
على وجهين: أحدهما بالنص والآخر بالدلالة, ولا تخلو حادثة صغيرة ولا
كبيرة إلا ولله فيها حكم إما بنص وإما بدليل, وهو نظير قوله: {ثُمَّ
إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:19], وقوله: {هَذَا بَيَانٌ
لِلنَّاسِ} [آل عمران: 138], وقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ
مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].
وقوله: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} من الناس من
يقول: "إن هذا يدل على أن ما حرمه علينا وبين لنا تحريمه من النساء في
الآيتين اللتين قبل هذه الآية كان محرما على الذين كانوا من قبلنا من
أمم الأنبياء المتقدمين". وقال آخرون: "لا دلالة فيه على اتفاق الشرائع
وإنما معناه أنه يهديكم سنن الذين من قبلكم في بيان ما لكم فيه من
المصلحة كما بينه لهم وإن كانت العبادات والشرائع مختلفة في أنفسها,
إلا أنها وإن كانت مختلفة في أنفسها فهي متفقة في باب المصالح". وقال
آخرون: "يبين لكم سنن الذين من قبلكم من أهل الحق وغيرهم لتجتنبوا
الباطل وتحبوا الحق".
وقوله تعالى: {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} يدل على بطلان مذهب أهل الإجبار;
لأنه أخبر أنه يريد أن يتوب علينا, وزعم هؤلاء أنه يريد من المصرين
الإصرار ولا يريد منهم التوبة والاستغفار.
قوله تعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ} فقال
قائلون: "المراد به كل مبطل; لأنه يتبع شهوة نفسه فيما وافق الحق أو
خالفه ولا يتبع الحق في مخالفة الشهوة". وقال مجاهد: "أراد به الزنا".
وقال السدي: "اليهود والنصارى".
(2/214)
وقوله:
{أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} يعني به العدول عن الاستقامة
بالاستكثار من المعصية; وتكون إرادتهم للميل على أحد وجهين: إما
لعداوتهم, أو للأنس بهم والسكون إليهم في الإقامة على المعصية; فأخبر
الله تعالى أن إرادته لنا خلاف إرادة هؤلاء. وقد دلت الآية على أن
القصد في اتباع الشهوة مذموم, إلا أن يوافق الحق فيكون حينئذ غير مذموم
في اتباع شهوته; إذ كان قصده اتباع الحق. ولكن من كان هذا سبيله لا
يطلق عليه أنه متبع لشهوته; لأن مقصده فيه اتباع الحق وافق شهوته أو
خالفها.
قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ
الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} . التخفيف هو تسهيل التكليف وهو خلاف التثقيل
وهو نظير قوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ
الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157], وقوله تعالى: {يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:
185], وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ
حَرَجٍ} [الحج: 78], وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة:
6]; فنفى الضيق والثقل والحرج عنا في هذه الآيات. ونظيره قول النبي صلى
الله عليه وسلم: "جئتكم بالحنيفية السمحة" وذلك لأنه وإن حرم علينا ما
ذكر تحريمه من النساء فقد أباح لنا غيرهن من سائر النساء تارة بنكاح
وتارة بملك يمين, وكذلك سائر المحرمات قد أباح لنا من جنسها أضعاف ما
حظر فجعل لنا مندوحة عن الحرام بما أباح من الحلال.
(2/215)
مطلب: في معنى المراد من قول ابن مسعود: "إن الله لم يجعل شفاءكم فيما
حرم عليكم"
وعلى هذا المعنى ما روي عن عبد الله بن مسعود: "إن الله لم يجعل شفاءكم
فيما حرم عليكم" يعني أنه لم يقتصر بالشفاء على المحرمات بل جعل لنا
مندوحة وغنى عن المحرمات بما أباحه لنا من الأغذية والأدوية حتى لا
يضرنا فقد ما حرم في أمور دنيانا. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
"أنه ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما".
وهذه الآيات يحتج بها في المصير إلى التخفيف فيما اختلف فيه الفقهاء
وسوغوا فيه الاجتهاد, وفيه الدلالة على بطلان مذهب المجبرة في قولهم إن
الله يكلف العباد ما لا يطيقون; لإخباره بأنه يريد التخفيف عنا, وتكليف
ما لا يطاق غاية التثقيل, والله أعلم بمعاني كتابه.
(2/215)
باب التجارات وخيار البيع
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً
عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}. قال أبو بكر: قد انتظم هذا العموم النهي عن
أكل مال الغير
(2/215)
باب خيار المتبايعين
اختلف أهل العلم في خيار المتبايعين, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد
وزفر والحسن بن زياد ومالك بن أنس: "إذا عقد بيع بكلام فلا خيار لهما
وإن لم يتفرقا" وروي نحوه عن عمر بن الخطاب. وقال الثوري والليث وعبيد
الله بن الحسن والشافعي: "إذا عقدا فهما بالخيار ما لم يتفرقا". وقال
الأوزاعي: "هما بالخيار ما لم يتفرقا إلا في بيوع ثلاثة: بيع مزايدة
الغنائم والشركة في الميراث والشركة في التجارة, فإذا صافقه فقد وجب
وليسا فيه بالخيار". ووقت الفرقة أن يتوارى كل واحد منهما عن صاحبه;
وقال الليث: "التفرق أن يقوم أحدهما". وكل من أوجب الخيار يقول: إذا
خيره في المجلس فاختار فقد وجب البيع. وروي خيار المجلس عن ابن عمر.
قال أبو بكر: قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ
(2/220)
تَرَاضٍ
مِنْكُمْ} يقتضي جواز الأكل بوقوع البيع عن تراض قبل الافتراق, إن كانت
التجارة إنما هي الإيجاب والقبول في عقد البيع, وليس التفرق والاجتماع
من التجارة في شيء ولا يسمى ذلك تجارة في شرع ولا لغة, فإذا كان الله
قد أباح أكل ما اشترى بعد وقوع التجارة عن تراض فمانع ذلك بإيجاب
الخيار خارج عن ظاهر الآية مخصص لها بغير دلالة ويدل على ذلك أيضا قوله
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}
[المائدة1], فألزم كل عاقد الوفاء بما عقد على نفسه وذلك عقد قد عقده
كل واحد منهما على نفسه فيلزمه الوفاء به; وفي إثبات الخيار نفي للزوم
الوفاء به وذلك خلاف مقتضى الآية. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {إِذَا
تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:
282] إلى قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةَ
تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا
تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282], ثم أمر
عند عدم الشهود بأخذ الرهن وثيقة بالثمن, وذلك مأمور به عند عقده البيع
قبل التفرق; لأنه قال تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى
أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] فأمر بالكتابة عند عقده
المداينة, وأمر بالكتابة بالعدل, وأمر الذي عليه الدين بالإملاء; وفي
ذلك دليل على أن عقده المداينة قد أثبت الدين عليه بقوله تعالى:
{وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ
وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} [البقرة: 282] فلو لم يكن عقد المداينة
موجبا للحق عليه قبل الافتراق لما قال: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ} [البقرة: 282], ولما وعظه بالبخس وهو لا شيء عليه; لأن ثبوت
الخيار له يمنع ثبوت الدين للبائع في ذمته, وفي إيجاب الله تعالى الحق
عليه بعقد المداينة في قوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ
الْحَقُّ} [البقرة: 282] دليل على نفي الخيار وإيجاب البتات. ثم قال
تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]
تحصينا للمال واحتياطا للبائع من جحود المطلوب أو موته قبل أدائه. ثم
قال تعالى: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً
إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ
لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا} [البقرة: 282], ولو كان
لهما الخيار قبل الفرقة لم يكن في الإشهاد احتياط ولا كان أقوم
للشهادة; إذ لا يمكن للشاهد إقامة الشهادة بثبوت المال. ثم قال:
{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] و"إذا" هي للوقت,
فاقتضى ذلك الأمر بالشهادة عند وقوع التبايع من غير ذكر الفرقة, ثم أمر
برهن مقبوض في السفر بدلا من الاحتياط بالإشهاد في الحضر. وفي إثبات
الخيار إبطال الرهن إذ غير جائز إعطاء الرهن بدين لم يجب بعد, فدلت
الآية بما تضمنته من الأمر بالإشهاد على عقد المداينة وعلى التبايع
والاحتياط في تحصين المال تارة بالإشهاد وتارة بالرهن أن العقد قد أوجب
ملك المبيع للمشتري وملك الثمن للبائع بغير خيار لهما; إذ كان إثبات
الخيار نافيا لمعاني الإشهاد والرهن ونافيا لصحة الإقرار بالدين.
(2/221)
فإن قيل:
الأمر بالإشهاد والرهن ينصرف إلى أحد المعنيين: إما أن يكون الشهود
حاضرين العقد ويفترقان بحضرتهم فتصح حينئذ شهادتهم على صحة البيع ولزوم
الثمن, وإما أن يتعاقدا فيما بينهما عقد مداينة ثم يفترقان ويقران عند
الشهود بعد ذلك فيشهد الشهود على إقرارهما به أو يرهنه بالدين رهنا
فيصح. قيل له: أول ما في ذلك أن الوجهين جميعا خلاف الآية وفيهما إبطال
ما تضمنته من الاحتياط بالإشهاد والرهن وذلك لأن الله تعالى قال:
{إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ}
[البقرة: 282] إلى قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ} [البقرة:
282], فأمر بالإشهاد على عقد المداينة عند وقوعه بلا تراخ احتياطا
لهما, وزعمت أنت أنه يشهد بعد الافتراق, وجائز أن تهلك السلعة قبل
الافتراق فيبطل الدين, أو يجحده إلى أن يفترقا ويشهدا, وجائز أن يموت
فلا يصل البائع إلى تحصين ماله بالإشهاد, وقال الله تعالى:
{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] فندب إلى الإشهاد
على التبايع عند وقوعه, ولم يقل: "إذا تبايعتم وتفرقتم" وموجب الخيار
مثبت في الآية من التفرق ما ليس فيها, وغير جائز أن يزاد في حكم الآية
ما ليس فيها. وإن تركا الإشهاد إلى بعد الافتراق كان في ذلك ترك
الاحتياط الذي من أجله ندب إلى الإشهاد, وعسى أن يموت المشتري قبل
الإشهاد أو يجحده فيصير حينئذ إيجاب الخيار مسقطا لمعنى الاحتياط
وتحصين المال بالإشهاد, وفي ذلك دليل على وقوع البيع بالإيجاب والقبول
بتاتا لا خيار فيه لواحد منهما.
فإن قيل: فلو شرطا في البيع ثبوت الخيار لثلاث كان الإشهاد عليه صحيحا
مع شرط الخيار, ولم يكن ما تلوت من آية الدين وكتب الكتاب والإشهاد
والرهن مانعا وقوعه على شرط الخيار وصحة الإشهاد عليه, فكذلك إثبات
خيار المجلس لا ينفي صحة الشهادة والرهن. قيل له: الآية بما فيها من
الإشهاد لم تتضمن البيع المشروط فيه الخيار وإنما تضمنت بيعا باتا,
وإنما أجزنا شرط الخيار بدلالة خصصناه بها من جملة ما تضمنته الآية في
المداينات واستعملنا حكمها في البياعات العارية من شرط الخيار, فليس
فيما أجزنا من البيع المعقود على شرط الخيار ما يمنع استعمال حكم الآية
بما انتظمته من الاحتياط بالإشهاد والرهن وصحة إقرار العاقد في
البياعات التي لم يشرط فيها خيار, والبيع المعقود على شرط الخيار خارج
عن حكم الآية غير مراد بها لما وصفنا حتى يسقط الخيار ويتم البيع,
فحينئذ يكونان مندوبين إلى الإشهاد على الإقرار دون التبايع; ولو
أثبتنا الخيار في كل بيع وتم البيع على حسب ما يذهب إليه مخالفونا لم
يبق للآية موضع يستعمل فيه حكمها على حسب مقتضاها وموجبها. وأيضا فإن
إثبات الخيار إنما يكون مع عدم الرضى بالبيع ليرتئي في إبرام البيع أو
فسخه, فإذا تعاقدا عقد البيع من غير شرط
(2/222)
الخيار
فكل واحد منهما راض بتمليك ما عقد عليه لصاحبه, فلا معنى لإثبات الخيار
فيه مع وجود الرضى به, ووجود الرضى مانع من الخيار ألا ترى أنه لا خلاف
بين المثبتين لخيار المجلس أنه إذا قال لصاحبه "اختر" فاختاره ورضي به
أن ذلك مبطل لخيارهما؟ وليس في ذلك أكثر من رضاهما بإمضاء البيع,
والرضى موجود منهما بنفس المعاقدة, فلا يحتاجان إلى رضى ثان; لأنه لو
جاز أن يشترط بعد رضاهما به بديا بالعقد رضى آخر لجاز أن يشترط رضى ثان
وثالث, وكان لا يمنع رضاهما به من إثبات خيار ثالث ورابع, فلما بطل هذا
صح أن رضاهما بالبيع هو إبطال للخيار وإتمام للبيع. وإنما صح خيار
الشرط في البيع لأنه لم يوجد من المشروط له الخيار رضى بإخراج شيئه من
ملكه حين شرط لنفسه الخيار, ومن أجل ذلك جاز إثبات الخيار فيه.
فإن قيل: فأنت قد أثبت خيار الرؤية وخيار العيب مع وجود الرضى بالبيع,
ولم يمنع رضاهما من إثبات الخيار على هذا الوجه, فكذلك لا يمنع رضاهما
به من إثبات خيار المجلس. قيل له: ليس خيار الرؤية وخيار العيب من خيار
المجلس في شيء; وذلك لأن خيار الرؤية لا يمنع وقوع الملك لكل واحد
منهما فيما عقد له صاحبه من جهته لوجود الرضى من كل واحد منهما به,
فليس لهذا الخيار تأثير في نفي الملك, بل الملك واقع مع وجود الخيار
لأجل وجود الرضى من كل واحد منهما به, وخيار المجلس على وقوع القائلين
به مانع من وقوع الملك لكل واحد منهما فيما ملكه إياه صاحبه مع وجود
الرضى من كل واحد منهما بتمليكه إياه, ولا فرق بين الرضى به بديا
بإيجابه له العقد وبينه إذا قال: "قد رضيت فاختر" ورضي به صاحبه; فلا
فرق بين البيع فيما فيه خيار الرؤية وخيار العيب وبين ما ليس فيه واحد
من الخيارين في باب وقوع الملك به, وإنما يختلفان بعد ذلك في خيار غير
ناف للملك, وإنما هو لأجل جهالة صفات المبيع عنده أو لفوت جزء منه موجب
له بالعقد.
ويدل على أن الرضى بالعقد هو الموجب للملك اتفاق الجميع على وقوع الملك
لكل واحد منهما بعد الافتراق وبطلان الخيار به, وقد علمنا أنه ليس في
الفرقة دلالة على الرضى ولا على نفيه; لأن حكم الفرقة والبقاء في
المجلس سواء في نفي دلالته على الرضى, فعلمنا أن الملك إنما وقع بالرضى
بديا بالعقد لا بالفرقة. وأيضا فإنه ليس في الأصول فرقة يتعلق بها
تمليك وتصحيح العقد, بل في الأصول أن الفرقة إنما تؤثر في فسخ كثير من
العقود, من ذلك الفرقة عن عقد الصرف قبل القبض وعن السلم قبل القبض
لرأس المال وعن الدين قبل تعيين أحدهما, فلما وجدنا الفرقة في الأصول
في كثير من العقود إنما تأثيرها في إبطال العقد دون جوازه ولم نجد في
الأصول فرقة
(2/223)
مؤثرة في
تصحيح العقد وجوازه ثبت أن اعتبار خيار المجلس ووقوع الفرقة في تصحيح
العقد خارج عن الأصول مع ما فيه من مخالفة ظاهر الكتاب. وأيضا قد ثبت
بالسنة واتفاق الأمة أن من شرط صحة عقد الصرف افتراقهما عن مجلس العقد
عن قبض صحيح, فإن كان خيار المجلس ثابتا في عقد الصرف مع التقابض
والعقد لم يتم ما بقي الخيار, فإذا افترقا لم يجز أن يصح بالافتراق ما
من شأنه أن يبطله الافتراق قبل صحته, فإذا كانا قد افترقا عنه ولما يصح
بعد لم يجز أن يصح بالافتراق فيكون الموجب لصحته هو الموجب لبطلانه.
ويدل على نفي خيار المجلس قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال
امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه" فأحل له المال بطيبة من نفسه, وقد وجد
ذلك بعقد البيع, فوجب بمقتضى الخبر أن يحل له; ودلالة الخبر على ذلك
كدلالة قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ
مِنْكُمْ} . ويدل عليه نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام حتى
يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري, فأباح بيعه إذا جرى فيه
الصاعان ولم يشترط فيه الافتراق, فوجب على ذلك أن يجوز بيعه إذا اكتاله
من بائعه في المجلس الذي تعاقدا فيه; وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يقبضه" فلما أجاز بيعه بعد القبض ولم
يشرط فيه الافتراق, فوجب بقضية الخبر أنه إذا قبضه في المجلس أن يجوز
بيعه, وذلك ينفي خيار البائع لأن ما للبائع فيه خيار لا يجوز تصرف
المشتري فيه. ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من باع
عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع, ومن باع نخلا وله
ثمرة فثمرته للبائع إلا أن يشترط المبتاع" , فجعل الثمرة ومال العبد
للمشتري بالشرط من غير ذكر التفريق, ومحال أن يملكها المشتري قبل ملك
الأصل المعقود عليه; فدل ذلك على وقوع الملك للمشتري بنفس العقد. ويدل
عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: "لن يجزي ولد
والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه"; واتفق الفقهاء على أنه لا
يحتاج إلى استئناف عتق بعد الشرى, وأنه متى صح له الملك عتق عليه,
فالنبي صلى الله عليه وسلم أوجب عتقه بالشرى من غير شرط الفرقة. ويدل
عليه من جهة النظر أن المجلس قد يطول ويقصر, فلو علقنا وقوع الملك على
خيار المجلس لأوجب بطلانه لجهالة مدة الخيار الذي علق عليه وقوع الملك,
ألا ترى أنه لو باعه بيعا باتا وشرطا الخيار لهما بمقدار قعود فلان في
مجلسه كان البيع باطلا لجهالة مدة الخيار الذي تعلقت عليه صحة العقد؟
واحتج القائلون بخيار المجلس بما روي عن ابن عمر وأبي برزة وحكيم بن
حزام عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المتبايعان بالخيار ما لم
يفترقا" . وروي عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "إذا تبايع المتبايعان بالبيع فكل واحد منهما بالخيار من بائعه ما
لم
(2/224)
يفترقا أو
يكون بيعهما عن خيار فإذا كان عن خيار فقد وجب" وكان ابن عمر إذا بايع
الرجل ولم يخيره وأراد أن لا يقيله قام فمشى هنيهة ثم رجع. فاحتج
القائلون بهذه المقالة بظاهر قوله: "المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا"
وابن عمر هو راوي الحديث, وقد عقل من مراد النبي صلى الله عليه وسلم
فرقة الأبدان.
قال أبو بكر: فأما ما روي من فعل ابن عمر فلا دلالة فيه على أنه من
مذهبه لأنه جائز أن يكون خاف أن يكون بائعه ممن يرى الخيار في المجلس
فيحذر منه بذلك حذرا مما لحقه في البراءة من العيوب, حتى خوصم إلى
عثمان فحمله على خلاف رأيه ولم يجز البراءة إلا أن يبينه لمبتاعه. وقد
روي عن ابن عمر ما يدل على موافقته, وهو ما روى ابن شهاب عن حمزة بن
عبد الله عن أبيه قال: "ما أدركت الصفقة حيا فهو من مال المبتاع", وهذا
يدل على أنه يرى أن المبيع كان يدخل في ملك المشتري بالصفقة ويخرج عن
ملك البائع, وذلك ينفي الخيار.
(2/225)
مطلب: في قوله عليه السلام: "المتبايعان بالخيار"
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "المتبايعان بالخيار ما لم يفترقا", وفي
بعض الألفاظ : "البائعان بالخيار ما لم يفترقا", فإن حقيقته تقتضي حال
التبايع وهي حال السوم, فإذا أبرما البيع وتراضيا فقد وقع البيع, فليسا
متبايعين في هذه الحال في الحقيقة كما أن المتضاربين والمتقايلين إنما
يلحقهما هذا الاسم في حال التضارب والتقايل, وبعد انقضاء الفعل لا
يسميان به على الإطلاق وإنما يقال كانا متقايلين ومتضاربين; وإذا كانت
حقيقة معنى اللفظ ما وصفنا لم يصح الاستدلال في موضع الخلاف به.
فإن قيل: هذا التأويل يودي إلى إسقاط فائدة الخبر; لأنه غير مشكل على
أحد أن المتساومين قبل وجود التراضي بالعقد هما على خيارهما في إيقاع
العقد أو تركه. قيل له: بل فيه أعظم الفوائد, وهو أنه قد كان جائزا أن
يظن ظان أن البائع إذا قال للمشتري "قد بعتك" أن لا يكون له رجوع فيه
قبل قبول المشتري, كالعتق على مال والخلع على مال أنه ليس للمولى ولا
للزوج الرجوع فيه قبل قبول العبد والمرأة; فأبان النبي صلى الله عليه
وسلم حكم البيع في إثبات الخيار لكل واحد منهما في الرجوع قبل قبول
الآخر وأنه مفارق للعتق والخلع.
فإن قيل: كيف يجوز أن يسمى المتساومان متبايعين قبل وقوع العقد بينهما؟
قيل له: جائز إذا قصدا إلى البيع بإظهار السوم فيه كما نسمي القاصدين
إلى القتل متقاتلين وإن لم يقع منهما قتل بعد, وكما قيل لولد إبراهيم
عليه السلام المأمور بذبحه: الذبيح
(2/225)
لقربه من
الذبح وإن لم يذبح; وقال تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ}
[الطلاق: 2] والمعنى فيه مقاربة البلوغ ألا ترى أنه قال في آية أخرى:
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا
تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] وأراد به حقيقة البلوغ. فجائز على هذا
أن يسمى المتساومان متبايعين إذا قصدا إيقاع العقد على النحو الذي
بينا, والذي لا يختل على أحد أنهما بعد وقوع البيع منهما لا يسميان
متبايعين على الحقيقة كسائر الأفعال إذا انقضت زال عن فاعليها الأسماء
المشتقة لها من أفعالهم, إلا في أسماء المدح والذم على ما بينا في صدر
هذا الكتاب; وإنما يقال كانا متبايعين وكانا متقايلين وكانا متضاربين.
ويدل على أن هذا الاسم ليس بحقيقة لهما بعد إيقاع العقد أنه قد يصح
منهما الإقالة والفسخ بعد العقد وهما في الحقيقة متقايلان في حال فعل
الإقالة, وغير جائز أن يكونا متقايلين متفاسخين ومتبايعين في حال
واحدة, فدل ذلك على أن إطلاق اسم المتبايعين عليهما إنما يتناول حال
السوم وإيقاع العقد حقيقة, وأن هذا الاسم إنما يلحقهما بعد انقضاء
العقد على معنى أنهما كانا متبايعين وذلك مجاز, وإذا كان كذلك وجب حمل
اللفظ على الحقيقة وهي حال التبايع, وهو أن يقول: "قد بعتك" فأطلق اسم
البيع من قبل نفسه قبل قبول الآخر, فهذه هي الحال التي هما متبايعان
فيها وهي حال ثبوت الخيار لكل واحد منهما. فللبائع الخيار في الفسخ قبل
قبول الآخر وللمشتري الخيار في القبول قبل الافتراق. ويدلك على أن
المراد هذه الحال قوله: "المتبايعان" وإنما البائع أحدهما وهو صاحب
السلعة, فكأنه قال: إذا قال البائع قد بعت فهما بالخيار قبل الافتراق;
لأنه معلوم أن المشتري ليس ببائع, فثبت أن المراد: إذا باع البائع قبل
قبول المشتري.
وقد اختلف الفقهاء في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: "المتبايعان
بالخيار ما لم يفترقا" فروي عن محمد بن الحسن أن معناه: إذا قال البائع
قد بعتك فله أن يرجع ما لم يقل المشتري قبلت, قال: وهو قول أبي حنيفة.
وعن أبي يوسف: "هما المتساويان, فإذا قال بعتك بعشرة فللمشتري خيار
القبول في المجلس وللبائع خيار الرجوع فيه قبل قبول المشتري, ومتى قام
أحدهما قبل قبول البيع بطل الخيار الذي كان لهما ولم تكن لواحد منهما
إجازته". فحمله محمد على الافتراق بالقول وذلك سائغ, قال الله تعالى:
{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا
جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة:4], ويقال: تشاور القوم في كذا
فافترقوا عن كذا, يراد به الاجتماع على قول والرضى به وإن كانوا
مجتمعين في المجلس. ويدل على أن المراد الافتراق بالقول, ما حدثنا محمد
بن بكر البصري قال:
(2/226)
حدثنا أبو
داود قال: حدثنا قتيبة قال: حدثنا الليث عن محمد بن عجلان عن عمرو بن
شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص, أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قال: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة
خيار, ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله" . وقوله:
"المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا" هو على الافتراق بالقول ألا ترى أنه
قال: "ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله" ؟ وهذا هو افتراق الأبدان
بعد الافتراق بالقول وصحة وقوع العقد به, والاستقالة هو مسألة الإقالة;
وهذا يدل من وجهين على نفي الخيار بعد وقوع العقد: أحدهما: أنه لو كان
له خيار المجلس لما احتاج إلى أن يسأله الإقالة بل كان هو يفسخه بحق
الخيار الذي له فيه, والثاني: أن الإقالة لا تكون إلا بعد صحة العقد
وحصول ملك كل واحد منهما فيما عقد عليه من قبل صاحبه, فهذا أيضا يدل
على نفي الخيار وصحة البيع. وقوله: "ولا يحل له أن يفارقه" يدل على أنه
مندوب إلى إقالته إذا سأله إياها ما داما في المجلس مكروه له أن لا
يجيبه إليها, وأن حكمه في ذلك بعد الافتراق مخالف له إذا لم يفارقه في
أنه لا يكره له ترك إجابته إلى الإقالة بعد الفرقة ويكره له قبلها.
ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا علي بن أحمد الأزدي
قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الله بن زرارة قال: حدثنا هشيم عن يحيى بن
سعيد عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"البيعان لا بيع بينهما إلا أن يفترقا إلا بيع الخيار" . وحدثنا عبد
الباقي قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا القعنبي قال: حدثنا عبد
العزيز بن مسلم القسملي عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "كل بيعين لا بيع بينهما حتى يفترقا" , فأخبر
عليه السلام أن كل بيعين لا بيع بينهما إلا بعد الافتراق, وهذا يدل على
أنه أراد بنفيه البيع بينهما في حال السوم وذلك لأنهما لو كانا قد
تبايعا لم ينف النبي صلى الله عليه وسلم تبايعهما مع صحة العقد ووقوعه
فيما بينهما; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينفي ما قد أثبت; فعلمنا
أن المراد المتساومان اللذان قد قصدا إلى التبايع وأوجب البائع البيع
للمشتري وقصد المشتري إلى شرائه منه بأن قال له "بعني" فنفى أن يكون
بينهما بيع حتى يفترقا بالقول والقبول; إذ لم يكن قوله "بعني" قبولا
للعقد ولا من ألفاظ البيع وإنما هو أمر به, فإذا قال "قد قبلت" وقع
البيع; فهذا هو الافتراق الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم على
القول الذي قدمنا ذكر نظائره في إطلاق ذلك في اللسان.
فإن قيل: ما أنكرت أن يكون مراد النبي صلى الله عليه وسلم عن نفيه
البيع حال إيقاع البيع بالإيجاب والقبول؟ وإنما نفى أن يكون بينهما بيع
لما لهما فيه من خيار المجلس. قيل له: هذا غلط, من قبل أن ثبوت الخيار
لا يوجب نفي اسم البيع عنه ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد
أثبت بينهما البيع إذا شرطا فيه الخيار بعد الافتراق ولم يكن ثبوت
الخيار فيه
(2/227)
موجبا
لنفي اسم البيع عنه; لأنه قال: "كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا
إلا بيع الخيار"؟ فجعل بيع الخيار بيعا, فلو أراد بقوله: "كل بيعين فلا
بيع بينهما حتى يفترقا" حال وقوع الإيجاب والقبول لما نفى البيع بينهما
لأجل خيار المجلس كما لم ينفه إذا كان فيه خيار مشروط بل أثبته وجعله
بيعا; فدل ذلك على أن قوله: "كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا" إنما
أراد به المتساويين في البيع. وأفاد ذلك أن قوله: "اشتر مني" أو قول
المشتري "بعني" ليس ببيع حتى يفترقا بأن يقول البائع "قد بعت" ويقول
المشتري "قد اشتريت" فيكونا قد افترقا وتم البيع, ووجب أن لا يكون فيه
خيار مشروط فيكون ذلك بيعا, وإن لم يفترقا بأبدانهما بعد حصول الافتراق
فيهما بالإيجاب والقبول. وأكثر أحوال ما روي من قوله: "المتبايعان
بالخيار ما لم يفترقا" احتماله لما وصفنا ولما قال مخالفنا; وغير جائز
الاعتراض على ظاهر القرآن بالاحتمال بل الواجب حمل الحديث على موافقة
القرآن ولا يحمل على ما يخالفه.
ويدل من جهة النظر على ما وصفنا اتفاق الجميع على أن النكاح والخلع
والعتق على مال والصلح من دم العمد إذا تعاقداه بينهما صح بالإيجاب
والقبول من غير خيار يثبت لواحد منهما, والمعنى فيه الإيجاب والقبول
فيما يصح العقد عليه من غير خيار مشروط.
وقوله عز وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} قال عطاء والسدي: "لا
يقتل بعضكم بعضا". قال أبو بكر: هو نظير قوله تعالى: {وَلا
تُقَاتِلُوهُمْ1 عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ
فِيهِ} [البقرة: 191] ومعناه: يقتلوا بعضكم. وتقول العرب: قتلنا ورب
الكعبة, إذا قتل بعضهم. وقيل: إنما حسن ذلك; لأنهم أهل دين واحد فهم
كالنفس الواحدة, فلذلك قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وأراد قتل
بعضكم بعضا وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المؤمنين كالنفس
الواحدة إذا ألم بعضه تداعى سائره بالحمى والسهر وقال: المؤمنون
كالبنيان يشد بعضه بعضا" فكان تقديره: ولا يقتل بعضكم بعضا في أكل
أموالكم بالباطل ولا غيره مما هو محرم عليكم, وهو كقوله تعالى:
{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور:
61]. ويحتمل: ولا تقتلوا أنفسكم في طلب المال وذلك بأن يحمل نفسه على
الغرر المؤدي إلى التلف. ويحتمل: ولا تقتلوا أنفسكم في حال غضب أو ضجر.
وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة لاحتمال اللفظ لها.
ـــــــ
1 قوله: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ} الآية, قرأ حمزة والكسائي: ولا تقتلوهم,
وحتى يقتلوكم وإن قتلوكم كله بغير ألف وقرأ الباقون بالألف "لمصححه".
(2/228)
وقوله
تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ
نُصْلِيهِ نَاراً} فإنه قيل فيما عاد إليه هذا الوعيد وجوه: أحدها: أنه
عائد على أكل المال بالباطل وقتل النفس بغير حق, فيستحق الوعيد بكل
واحدة من الخصلتين. وقال عطاء: "في قتل النفس المحرمة خاصة". وقيل: إنه
عائد على فعل كل ما نهي عنه من أول السورة. وقيل: من عند قوله: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا
النِّسَاءَ كَرْهاً} [النساء: 19] لأن ما قبله مقرون بالوعيد, والأظهر
عوده إلى ما يليه من أكل المال بالباطل وقتل النفس المحرمة. وقيد
الوعيد بقوله: {عُدْوَاناً وَظُلْماً} ليخرج منه فعل السهو والغلط وما
كان طريقه الاجتهاد في الأحكام إلى حد التعمد والعصيان. وذكر الظلم
والعدوان مع تقارب معانيهما; لأنه يحسن مع اختلاف اللفظ, كقول عدي بن
زيد:
وقددت الأديم لراهشيه ... وألفى قولها كذبا ومينا
والكذب هو المين; وحسن العطف لاختلاف اللفظين. وكقول بشر بن حازم:
فما وطئ الحصى مثل ابن سعدى ... ولا لبس النعال ولا احتذاها
والاحتذاء هو لبس النعل. وكما تقول: بعدا وسحقا, ومعناهما واحد, وحسن
لاختلاف اللفظ والله أعلم.
(2/229)
باب النهي عن التمني
قال الله تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ
بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} . روى سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن أم
سلمة قالت: قلت يا رسول الله يغزو الرجال ولا تغزو النساء ويذكر الرجال
ولا تذكر النساء؟ فأنزل الله تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ
اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية, ونزلت: {إِنَّ
الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ } [الأحزاب: 35] وروى قتادة عن الحسن
قال: "لا يتمن أحد المال وما يدريه لعل هلاكه في ذلك المال". وقال سعيد
عن قتادة في قوله: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ
بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون المرأة شيئا
ولا الصبي ويجعلون الميراث لمن يحبون فلما ألحق للمرأة نصيبها وللصبي
نصيبه وجعل للذكر مثل حظ الأنثيين, قالت النساء: لو كان أنصباؤنا في
الميراث كأنصباء الرجال وقال الرجال: إنا لنرجو أن نفضل على النساء في
الآخرة كما فضلنا عليهن في الميراث فأنزل الله تعالى: { لِلرِّجَالِ
نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ}
يقول: المرأة تجزى بحسناتها عشر أمثالها كما يجزى الرجل; قال:
{وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيماً} ونهى الله عن تمني ما فضل الله به بعضنا على بعض; لأن
الله تعالى لو علم أن المصلحة له في إعطائه ما أعطى
(2/229)
الآخر
لفعل, ولأنه لا يمنع من بخل ولا عدم وإنما يمنع ليعطي ما هو أكثر منه.
وقد تضمن ذلك النهي عن الحسد وهو تمني زوال النعمة عن غيره إليه, وهو
مثل ما روى أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يخطب
الرجل على خطبة أخيه ولا يسوم على سوم أخيه ولا تسأل المرأة طلاق أختها
لتكتفئ ما في صحفتها فإن الله هو رازقها" , فنهى صلى الله عليه وسلم أن
يخطب على خطبة أخيه إذا كانت قد ركنت إليه ورضيت به, وأن يسوم على سومه
كذلك; فما ظنك بمن يتمنى أن يجعل له ما قد صار لغيره وملكه وقال صلى
الله عليه وسلم: "لا تسأل المرأة طلاق أختها لتكتفئ ما في صحفتها" ,
يعني أن تسعى في إسقاط حقها وتحصيله لنفسها. وروى سفيان عن الزهري عن
سالم عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حسد إلا في
اثنتين: رجل آتاه الله مالا فهو ينفق منه آناء الليل والنهار, ورجل
آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل والنهار" .
(2/230)
مطلب: التمني على وجهين محظور وغير محظور
قال أبو بكر: والتمني على وجهين: أحدهما: أن يتمنى الرجل أن تزول نعمة
غيره عنه, فهذا الحسد, وهو التمني المنهي عنه. والآخر: أن يتمنى أن
يكون له مثل ما لغيره من غير أن يريد زوال النعمة عن غيره, فهذا غير
محظور إذا قصد به وجه المصلحة, وما يجوز في الحكمة. ومن التمني المنهي
عنه أن يتمنى ما يستحيل وقوعه, مثل أن تتمنى المرأة أن تكون رجلا أو
تتمنى حال الخلافة والإمامة ونحوها من الأمور التي قد علم أنها لا تكون
ولا تقع.
وقوله تعالى: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ
نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ} قيل فيه وجوه: أحدها: أن لكل واحد حظا من
الثواب قد عرض له بحسن التدبير في أمره ولطف له فيه حتى استحقه وبلغ
علو المنزلة به, فلا تتمنوا خلاف هذا التدبير, فإن لكل منهم حظه ونصيبه
غير مبخوس ولا منقوص والآخر: أن لكل أحد جزاء ما اكتسب فلا يضيعه بتمني
ما لغيره محبطا لعمله. وقيل فيه: إن لكل فريق من الرجال والنساء نصيبا
مما اكتسب من نعم الدنيا, فعليه أن يرضى بما قسم الله له.
وقوله تعالى: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ} قيل فيه: إن معناه
إن احتجتم إلى ما لغيركم فسلوا الله أن يعطيكم مثل ذلك من فضله, لا بأن
تتمنوا ما لغيركم; إلا أن هذه المسألة تغني إن تكن معقودة بشريطة
المصلحة, والله تعالى أعلم بالصواب.
(2/230)
باب العصبة
قال الله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ
الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} . قال ابن عباس
(2/230)
باب ولاء الموالاة
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ
نَصِيبَهُمْ} روى طلحة بن
(2/232)
مصرف عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} قال: كان المهاجر يرث الأنصاري
دون ذوي رحمه بالأخوة التي آخى الله بينهم, فلما نزلت {وَلِكُلٍّ
جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ}
نسخت; ثم قرأ: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ
نَصِيبَهُمْ}, قال: من النصر والرفادة, ويوصي له, وقد ذهب الميراث.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} قال: كان الرجل يعاقد الرجل
أيهما مات ورثه الآخر, فأنزل الله تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ
مَعْرُوفاً} [الأحزاب: 6], يقول: إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا
لهم وصية, فهو لهم جائز من ثلث مال الميت, فذلك المعروف. وروى أبو بشر
عن سعيد بن جبير في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ
فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} قال: كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيموت
فيرثه, فعاقد أبو بكر رجلا فمات فورثه. وقال سعيد بن المسيب: هذا في
الذين كانوا يتبنون رجالا ويورثونهم, فأنزل الله فيهم أن يجعل لهم من
الوصية, ورد الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم والعصبة.
قال أبو بكر: قد ثبت بما قدمنا من قول السلف أن ذلك كان حكما ثابتا في
الإسلام, وهو الميراث بالمعاقدة والموالاة; ثم قال قائلون: إنه منسوخ
بقوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي
كِتَابِ اللَّهِ } [الأحزاب: 6]. وقال آخرون: ليس بمنسوخ من الأصل,
ولكنه جعل ذوي الأرحام أولى من موالي المعاقدة, فنسخ ميراثهم في حال
وجود القرابات وهو باق لهم إذا فقد الأقرباء على الأصل الذي كان عليه.
واختلف الفقهاء في ميراث موالي الموالاة, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف
ومحمد وزفر: "من أسلم على يدي رجل ووالاه وعاقده ثم مات ولا وارث له
غيره فميراثه له". وقال مالك وابن شبرمة والثوري والأوزاعي والشافعي:
"ميراثه للمسلمين". وقال يحيى بن سعيد: "إذا جاء من أرض العدو فأسلم
على يده فإن ولاءه لمن والاه, ومن أسلم من أهل الذمة على يدي رجل من
المسلمين فولاؤه للمسلمين عامة". وقال الليث بن سعد: "من أسلم على يدي
رجل فقد والاه وميراثه للذي أسلم على يده إذا لم يدع وارثا غيره"
قال أبو بكر: الآية توجب الميراث للذي والاه وعاقده على الوجه الذي ذهب
إليه أصحابنا; لأنه كان حكما ثابتا في أول الإسلام, وحكم الله به في نص
التنزيل, ثم قال: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ
فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأحزاب:
6] فجعل ذوي الأرحام أولى من المعاقدين الموالي, فمتى فقد ذوو الأرحام
(2/233)
وجب
ميراثهم بقضية الآية; إذ كانت إنما نقلت ما كان لهم إلى ذوي الأرحام
إذا وجدوا, فإذا لم يوجدوا فليس في القرآن ولا في السنة ما يوجب نسخها,
فهي ثابتة الحكم مستعملة على ما تقتضيه من إثبات الميراث عند فقد ذوي
الأرحام.
وقد ورد الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم بثبوت هذا الحكم وبقائه عند
عدم ذوي الأرحام, وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال:
حدثنا يزيد بن خالد الرملي وهشام بن عمار الدمشقي قالا: حدثنا يحيى بن
حمزة عن عبد العزيز بن عمر قال: سمعت عبد الله بن موهب يحدث عمر بن عبد
العزيز عن قبيصة بن ذؤيب عن تميم الداري أنه قال: يا رسول الله ما
السنة في الرجل يسلم على يدي الرجل من المسلمين؟ قال: "هو أولى الناس
بمحياه ومماته", فقوله: "هو أولى الناس بمماته" يقتضي أن يكون أولاهم
بميراثه; إذ ليس بعد الموت بينهما ولاية إلا في الميراث, وهو في معنى
قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ} يعني ورثة. وقد روي نحو
قول أصحابنا في ذلك عن عمر وابن مسعود والحسن وإبراهيم. وروى معمر عن
الزهري أنه سئل عن رجل أسلم فوالى رجلا هل بذلك بأس؟ قال: لا بأس به,
قد أجاز ذلك عمر بن الخطاب. وروى قتادة عن سعيد بن المسيب قال: "من
أسلم على يدي قوم ضمنوا جرائره وحل لهم ميراثه". وقال ربيعة بن أبي عبد
الرحمن: "إذا أسلم الكافر على يدي رجل مسلم بأرض العدو أو بأرض
المسلمين فميراثه للذي أسلم على يديه". وقد روى أبو عاصم النبيل عن ابن
جريج عن أبي الزبير عن جابر قال: كتب النبي صلى الله عليه وسلم: "على
كل بطن عقوله" وقال: "لا يتولى مولى قوم إلا بإذنهم", وقد حوى هذا
الخبر معنيين: أحدهما: جواز الموالاة; لأنه قال: "إلا بإذنهم" فأجاز
الموالاة بإذنهم. والثاني: أن له أن يتحول بولاية إلى غيره, إلا أنه
كرهه إلا بإذن الأولين; ولا يجوز أن يكون مراده عليه السلام في ذلك إلا
في ولاء الموالاة; لأنه لا خلاف أن ولاء العتاقة لا يصح النقل عنه;
وقال صلى الله عليه وسلم: "الولاء لحمة كلحمة النسب".
فإن احتج محتج بما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا
عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا محمد بن بشر وابن نمير وأبو أسامة عن
زكريا عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "لا حلف في الإسلام, وأيما حلف كان في الجاهلية لم
يزده الإسلام إلا شدة" قال: فهذا يوجب بطلان حلف الإسلام ومنع التوارث
به. قيل له: يحتمل أن يريد به نفي الحلف في الإسلام على الوجه الذي
كانوا يتحالفون عليه في الجاهلية وذلك; لأن حلف الجاهلية كان على أن
يعاقده فيقول: "هدمي هدمك ودمي دمك وترثني وأرثك" وكان في هذا
(2/234)
الحلف
أشياء قد حظرها الإسلام, وهو أنه كان يشرط أن يحامي عليه ويبذل دمه
دونه ويهدم ما يهدمه فينصره على الحق والباطل; وقد أبطلت الشريعة هذا
الحلف وأوجبت معونة المظلوم على الظالم حتى يتنصف منه وأن لا يلتفت إلى
قرابة ولا غيرها. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى
أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ
غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا
الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا } [النساء: 135], فأمر الله تعالى بالعدل
والقسط في الأجانب والأقارب وأمر بالتسوية بين الجميع في حكم الله
تعالى, فأبطل ما كان عليه أمر الجاهلية من معونة القريب والحليف على
غيره ظالما كان أو مظلوما.
(2/235)
مطلب: في معنى قوله: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"
وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"
قالوا: يا رسول الله هذا يعينه مظلوما فكيف يعينه ظالما؟ قال: "أن ترده
عن الظلم فذلك معونة منك له".
وكان في حلف الجاهلية أن يرثه الحليف دون أقربائه فنفى النبي صلى الله
عليه وسلم بقوله: "لا حلف في الإسلام" التحالف على النصرة والمحاماة من
غير نظر في دين أو حكم وأمر باتباع أحكام الشريعة دون ما يعقده الحليف
على نفسه, ونفى أيضا أن يكون الحليف أولى بالميراث من الأقارب; فهذا
معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا حلف في الإسلام" . وأما قوله: "
وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" فإنه يحتمل أن
الإسلام قد زاده شدة وتغليظا في المنع منه وإبطاله, فكأنه قال: إذا لم
يجز الحلف في الإسلام مع ما فيه من تناصر المسلمين وتعاونهم فحلف
الجاهلية أبعد من ذلك.
قال أبو بكر: وعلى نحو ما ذكرنا من التوارث بالموالاة قال أصحابنا فيمن
أوصى بجميع ماله ولا وارث له إنه جائز, وقد بينا ذلك فيما سلف وذلك;
لأنه لما جاز له أن يجعل ميراثه لغيره بعقد الموالاة ويزويه عن بيت
المال, جاز له أن يجعله لمن شاء بعد موته بالوصية; إذ كانت الموالاة
إنما تثبت بينهما بعقده وإيجابه وله أن ينتقل بولائه ما لم يعقل عنه,
فأشبهت الوصية التي تثبت بقوله وإيجابه ومتى شاء رجع فيها; إلا أنها
تخالف الوصية من وجه, وهو أنه وإن كان يأخذه بقوله فإنه يأخذه على وجه
الميراث ألا ترى أنه لو ترك الميت ذا رحم كان أولى بالميراث من مولى
الموالاة؟ ولم يكن في الثلث بمنزلة من أوصى لرجل بماله فيجوز له منه
الثلث بل لا يعطى شيئا إذا كان له وارث من قرابة أو ولاء عتاقة, فولاء
الموالاة يشبه الوصية بالمال من وجه إذا لم يكن له وارث, ويفارقها من
وجه على نحو ما بينا والله أعلم.
(2/235)
باب ما يجب على المرأة من طاعة زوجها
قال الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا
فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ
أَمْوَالِهِمْ} . روى يونس عن الحسن أن رجلا جرح امرأته, فأتى أخوها
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
القصاص فأنزل الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ}
الآية, فقال صلى الله عليه وسلم: "أردنا أمرا وأراد الله غيره" . وروى
جرير بن حازم عن الحسن قال: لطم رجل امرأته, فاستعدت عليه رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: عليكم القصاص فأنزل الله:
{وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ
وَحْيُهُ} [طه: 114], ثم أنزل الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ
عَلَى النِّسَاءِ} .
قال أبو بكر: الحديث الأول يدل على أن لا قصاص بين الرجال والنساء فيما
دون النفس, وكذلك روي عن الزهري. والحديث الثاني جائز أن يكون لطمها;
لأنها نشزت عليه, وقد أباح الله تعالى ضربها عند النشوز بقوله:
{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ
فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} . فإن قيل: لو كان ضربه إياها لأجل
النشوز لما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم القصاص. قيل له: إن النبي
صلى الله عليه وسلم إنما قال ذلك قبل نزول هذه الآية التي فيها إباحة
الضرب عند النشوز; لأن قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى
النِّسَاءِ} إلى قوله: {وَاضْرِبُوهُنَّ} نزل بعد, فلم يوجب عليهم بعد
نزول الآية شيئا, فتضمن قوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى
النِّسَاءِ} قيامهم عليهن بالتأديب والتدبير والحفظ والصيانة لما فضل
الله به الرجل على المرأة في العقل والرأي وبما ألزمه الله تعالى من
الإنفاق عليها. فدلت الآية على معان: أحدها: تفضيل الرجل على المرأة في
المنزلة وأنه هو الذي يقوم بتدبيرها وتأديبها, وهذا يدل على أن له
إمساكها في بيته ومنعها من الخروج وأن عليها طاعته وقبول أمره ما لم
تكن معصية. ودلت على وجوب نفقتها عليه بقوله: {وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ
أَمْوَالِهِمْ} وهو نظير قوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ
وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] وقوله تعالى:
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7], وقول النبي صلى
الله عليه وسلم: "ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف" . وقوله تعالى:
{وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} منتظم للمهر والنفقة; لأنهما
جميعا مما يلزم الزوج لها.
قوله تعالى: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا
حَفِظَ اللَّهُ} يدل على أن في النساء الصالحة; وقوله: {قَانِتَاتٌ} ,
روي عن قتادة: "مطيعات لله تعالى ولأزواجهن" وأصل القنوت مداومة
الطاعة, ومنه القنوت في الوتر لطول القيام. وقوله: {حَافِظَاتٌ
لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}, قال عطاء وقتادة: "حافظات لما غاب
عنه أزواجهن من ماله وما
(2/236)
يجب من
رعاية حاله وما يلزم من صيانة نفسها له". قال عطاء في قوله: {بِمَا
حَفِظَ اللَّهُ} : "أي بما حفظهن الله في مهورهن وإلزام الزوج من
النفقة عليهن". وقال آخرون: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} : "إنهن إنما صرن
صالحات قانتات حافظات بحفظ الله إياهن من معاصيه وتوفيقه وما أمدهن به
من ألطافه ومعونته" وروى أبو معشر عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {: خير النساء امرأة إذا نظرت إليها
سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها خلفتك في مالك ونفسها ثم قرأ
رسول الله صلى الله عليه وسلم : {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى
النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} الآية
والله الموفق.
(2/237)
باب النهي عن النشوز
قال الله تعالى: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ
وَاهْجُرُوهُنَّ} . قيل في معنى تخافون معنيان: أحدهما: يعلمون; لأن
خوف الشيء إنما يكون للعلم بموقعه, فجاز أن يوضع مكان" يعلم" "يخاف"
كما قال أبو محجن الثقفي:
ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
ويكون خفت بمعنى ظننت, وقد ذكره الفراء. وقال محمد بن كعب: "هو الخوف
الذي هو خلاف الأمن, كأنه قيل: تخافون نشوزهن بعلمكم بالحال المؤذنة
به". وأما النشوز, فإن ابن عباس وعطاء والسدي قالوا: "أراد به معصية
الزوج فيما يلزمها من طاعته", وأصل النشوز الترفع على الزوج بمخالفته,
مأخوذ من نشز الأرض وهو الموضع المرتفع منها. وقوله تعالى:
{فَعِظُوهُنَّ} , يعني خوفوهن بالله وبعقابه. وقوله تعالى:
{وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} قال ابن عباس وعكرمة والضحاك
والسدي: "هجر الكلام". وقال سعيد بن جبير: "هجر الجماع". وقال مجاهد
والشعبي وإبراهيم: "هجر المضاجعة".
وقوله: {وَاضْرِبُوهُنَّ} , قال ابن عباس: "إذا أطاعته في المضجع فليس
له أن يضربها". وقال مجاهد: "إذا نشزت عن فراشه يقول لها اتقي الله
وارجعي". وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عبد الله
بن محمد النفيلي وعثمان بن أبي شيبة وغيرهما قالوا: حدثنا حاتم بن
إسماعيل قال: حدثنا جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر بن عبد الله عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه خطب بعرفات في بطن الوادي فقال: "اتقوا الله في
النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله, وإن
لكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فإن فعلن فاضربوهن ضربا غير
مبرح, ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" . وروى ابن جريج عن عطاء
قال: "الضرب غير المبرح بالسواك
(2/237)
ونحوه".
وقال سعيد عن قتادة: "ضربا غير شائن". ذكر لنا أن نبي الله صلى الله
عليه وسلم قال: "مثل المرأة مثل الضلع متى ترد إقامتها تكسرها, ولكن
دعها تستمتع بها" . وقال الحسن: {وَاضْرِبُوهُنَّ} قال: "ضربا غير مبرح
وغير مؤثر". وحدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال: حدثنا الحسن بن أبي
الربيع قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في
قوله: {فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ} قال: "إذا خاف
نشوزها وعظها, فإن قبلت وإلا هجرها في المضجع, فإن قبلت وإلا ضربها
ضربا غير مبرح" ثم قال: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا
عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} قال: لا تعللوا عليهن بالذنوب.
(2/238)
باب الحكمين كيف يعملان
قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا
حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} . وقد اختلف في
المخاطبين بهذه الآية من هم, فروي عن سعيد بن جبير والضحاك: "أنه
السلطان الذي يترافعان إليه" وقال السدي: "الرجل والمرأة". قال أبو
بكر: قوله: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} هو خطاب للأزواج لما
في نسق الآية من الدلالة عليه, وهو قوله: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي
الْمَضَاجِعِ} , وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} الأولى
أن يكون خطابا للحاكم الناظر بين الخصمين والمانع من التعدي والظلم
وذلك; لأنه قد بين أمر الزوج وأمره بوعظها وتخويفها بالله ثم بهجرانها
في المضجع إن لم تنزجر ثم بضربها إن أقامت على نشوزها, ثم لم يجعل بعد
الضرب للزوج إلا المحاكمة إلى من ينصف المظلوم منهما من الظالم ويتوجه
حكمه عليهما. وروى شعبة عن عمرو بن مرة قال: سألت سعيد بن جبير عن
الحكمين, فغضب وقال: "ما ولدت; إذ ذاك"; فقلت: إنما أعني حكمي شقاق,
قال: "إذا كان بين الرجل وامرأته درء1 وتدارؤ بعثوا حكمين فأقبلا على
الذي جاء التدارؤ من قبله فوعظاه, فإن أطاعهما وإلا أقبلا على الآخر,
فإن سمع منهما وأقبل إلى الذي يريدان وإلا حكما بينهما, فما حكما من
شيء فهو جائز". وروى عبد الوهاب قال: حدثنا أيوب عن سعيد بن جبير في
المختلعة: "يعظها فإن انتهت وإلا هجرها وإلا ضربها, فإن انتهت وإلا رفع
أمرها إلى السلطان, فيبعث حكما من أهلها وحكما من أهله, فيقول الحكم
الذي من أهلها يفعل كذا ويفعل كذا, ويقول الحكم الذي من أهله تفعل به
كذا وتفعل به كذا, فأيهما كان أظلم رده إلى السلطان وأخذ فوق يده, وإن
كانت ناشزا أمروه أن يخلع".
قال أبو بكر: وهذا نظير العنين والمجبوب والإيلاء في باب أن الحاكم هو
الذي
ـــــــ
1 قوله: "درء" الدرء الاعوجاج والاختلاف ومثله التدارؤ. "لمصححه".
(2/238)
يتولى
النظر في ذلك والفصل بينهما بما يوجبه حكم الله, فإذا اختلفا وادعى
النشوز وادعت هي عليه ظلمه وتقصيره في حقوقها, حينئذ بعث الحاكم حكما
من أهله وحكما من أهلها ليتوليا النظر فيما بينهما ويردا إلى الحاكم ما
يقفان عليه من أمرهما. وإنما أمر الله تعالى بأن يكون أحد الحكمين من
أهلها والآخر من أهله لئلا تسبق الظنة إذا كانا أجنبيين بالميل إلى
أحدهما, فإذا كان أحدهما من قبله والآخر من قبلها زالت الظنة وتكلم كل
واحد منهما عمن هو من قبله. ويدل أيضا قوله: { فَابْعَثُوا حَكَماً
مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا} على أن الذي من أهله وكيل له,
والذي من أهلها وكيل لها, كأنه قال: فابعثوا رجلا من قبله ورجلا من
قبلها; فهذا يدل على بطلان قول من يقول: إن للحكمين أن يجمعا إن شاءا
وإن شاءا فرقا بغير أمرهما.
وزعم إسماعيل بن إسحاق أنه حكي عن أبي حنيفة وأصحابه أنهم لم يعرفوا
أمر الحكمين. قال أبو بكر: هذا تكذب عليهم, وما أولى بالإنسان حفظ
لسانه لا سيما فيما يحكيه عن العلماء, قال الله تعالى: { مَا يَلْفِظُ
مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [قّ:18] ومن علم أنه
مؤاخذ بكلامه قل كلامه فيما لا يعنيه. وأمر الحكمين في الشقاق بين
الزوجين منصوص عليه في الكتاب, فكيف يجوز أن يخفى عليهم مع محلهم من
العلم والدين والشريعة ولكن عندهم أن الحكمين ينبغي أن يكونا وكيلين
لهما, أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل الزوج؟ وكذا روي عن علي بن أبي
طالب. وروى ابن عيينة عن أيوب عن ابن سيرين عن عبيدة قال: أتى عليا رجل
وامرأته مع كل واحد منهما فئام من الناس, فقال علي: ما شأن هذين؟
قالوا: بينهما شقاق, قال: { فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ
وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ
بَيْنَهُمَا}, فقال علي: هل تدريان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن
تجمعا أن تجمعا وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا. فقالت المرأة: رضيت
بكتاب الله, فقال الرجل: أما الفرقة فلا, فقال علي: كذبت والله لا
تنفلت مني حتى تقر كما أقرت. فأخبر علي أن قول الحكمين إنما يكون برضا
الزوجين فقال أصحابنا: ليس للحكمين أن يفرقا إلا أن يرضى الزوج; وذلك
لأنه لا خلاف أن الزوج لو أقر بالإساءة إليها لم يفرق بينهما ولم يجبره
الحاكم على طلاقها قبل تحكيم الحكمين. وكذلك لو أقرت المرأة بالنشوز لم
يجبرها الحاكم على خلع ولا على رد مهرها; فإذا كان كذلك حكمهما قبل بعث
الحكمين فكذلك بعد بعثهما لا يجوز إيقاع الطلاق من جهتهما من غير رضى
الزوج وتوكيله ولا إخراج المهر عن ملكها من غير رضاها; فلذلك قال
أصحابنا: إنهما لا يجوز خلعهما إلا برضى الزوجين, فقال أصحابنا: ليس
للحكمين أن يفرقا إلا برضى الزوجين; لأن الحاكم لا يملك ذلك فكيف
(2/239)
يملكه
الحكمان؟ وإنما الحكمان وكيلان لهما أحدهما وكيل المرأة والآخر وكيل
الزوج في الخلع أو في التفريق بغير جعل إن كان الزوج قد جعل إليه ذلك.
قال إسماعيل: "الوكيل ليس بحكم ولا يكون حكما إلا ويجوز أمره عليه وإن
أبى". وهذا غلط منه; لأن ما ذكر لا ينفي معنى الوكالة; لأنه لا يكون
وكيلا أيضا إلا ويجوز أمره عليه فيما وكل به. فجواز أمر الحكمين عليهما
لا يخرجهما عن حد الوكالة, وقد يحكم الرجلان حكما في خصومة بينهما
ويكون بمنزلة الوكيل لهما فيما يتصرف به عليهما, فإذا حكم بشيء لزمهما,
بمنزلة اصطلاحهما على أن الحكمين في شقاق الزوجين ليس يغادر أمرهما من
معنى الوكالة شيئا; وتحكيم الحكم في الخصومة بين رجلين يشبه حكم الحاكم
من وجه ويشبه الوكالة من الوجه الذي بينا. والحكمان في الشقاق إنما
يتصرفان بوكالة محضة كسائر الوكالات.
قال إسماعيل: "والوكيل لا يسمى حكما". وليس ذلك كما ظن; لأنه إنما سمي
ههنا الوكيل حكما تأكيدا للوكالة التي فوضت إليه. وأما قوله: "إن
الحكمين يجوز أمرهما على الزوجين وإن أبيا" فليس كذلك, ولا يجوز أمرهما
عليهما إذا أبيا; لأنهما وكيلان, وإنما يحتاج الحاكم أن يأمرهما بالنظر
في أمرهما ويعرف أمور المانع من الحق منهما حتى ينقلا إلى الحاكم ما
عرفاه من أمرهما, فيكون قولهما مقبولا في ذلك إذا اجتمعا, وينهى الظالم
منهما عن ظلمه; فجائز أن يكونا سميا حكمين لقبول قولهما عليهما, وجائز
أن يكونا سميا بذلك; لأنهما إذا خلعا بتوكيل منهما وكان ذلك موكولا إلى
رأيهما وتحريهما للصلاح سميا حكمين; لأن اسم الحكم يفيد تحري الصلاح
فيما جعل إليه وإنفاذ القضاء بالحق والعدل, فلما كان ذلك موكولا إلى
رأيهما وأنفذا على الزوجين حكما من جمع أو تفريق مضى ما أنفذاه فسميا
حكمين من هذا الوجه. فلما أشبه فعلهما فعل الحاكم في القضاء عليهما بما
وكلا به على جهة تحري الخير والصلاح وسميا حكمين, ويكونان مع ذلك
وكيلين لهما; إذ غير جائز أن تكون لأحد ولاية على الزوجين من خلع أو
طلاق إلا بأمرهما.
وزعم أن عليا إنما ظهر منه النكير على الزوج; لأنه لم يرض بكتاب الله,
قال: "ولم يأخذه بالتوكيل وإنما أخذه بعدم الرضا بكتاب الله"; وليس هذا
على ما ذكر; لأن الرجل لما قال: "أما الفرقة فلا" قال علي: "كذبت أما
والله لا تنفلت مني حتى تقر كما أقرت" فإنما أنكر على الزوج ترك
التوكيل بالفرقة وأمره بأن يوكل بالفرقة, وما قال الرجل لا أرضى بكتاب
الله حتى ينكر عليه, وإنما قال لا أرضى بالفرقة بعد رضى المرأة
بالتحكيم; وفي هذا دليل على أن الفرقة عليه غير نافذة إلا بعد توكيله
بها. قال: "ولما
(2/240)
قال:
{إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} علمنا أن
الحكمين يمضيان أمرهما وأنهما إن قصدا الحق وفقهما الله للصواب من
الحكم. قال: وهذا لا يقال للوكيلين; لأنه لا يجوز لواحد منهما أن يتعدى
ما أمر به". والذي ذكره لا ينفي معنى الوكالة; لأن الوكيلين إذا كانا
موكلين بما رأيا من جمع أو تفريق على جهة تحري الصلاح والخير فعليهما
الاجتهاد فيما يمضيانه من ذلك, وأخبر الله أنه يوفقهما للصلاح إن صلحت
نياتهما, فلا فرق بين الوكيل والحكم; إذ كل من فوض إليه أمر يمضيه على
جهة تحري الخير والصلاح, فهذه الصفة التي وصفه الله بها لاحقة به. قال:
وقد روي عن ابن عباس ومجاهد وأبي سلمة وطاوس وإبراهيم قالوا: "ما قضى
به الحكمان من شيء فهو جائز", وهذا عندنا كذلك أيضا. ولا دلالة فيه على
موافقة قوله; لأنهم لم يقولوا إن فعل الحكمين في التفريق والخلع جائز
بغير رضى الزوجين, بل جائز أن يكون مذهبهم أن الحكمين لا يملكان
التفريق إلا برضى الزوجين بالتوكيل ولا يكونان حكمين إلا بذلك, ثم ما
حكما بعد ذلك من شيء فهو جائز; وكيف يجوز للحكمين أن يخلعا بغير رضاه
ويخرجا المال عن ملكها وقد قال الله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ
صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ
نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء:4] وقال الله تعالى:
{وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً
إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ
أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا
افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229], وهذا الخوف المذكور ههنا هو المعني
بقوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ
أَهْلِهَا} وحظر الله على الزوج أخذ شيء مما أعطاها إلا على شريطة
الخوف منهما ألا يقيما حدود الله, فأباح حينئذ أن تفتدي بما شاءت وأحل
للزوج أخذه فكيف يجوز للحكمين أن يوقعا خلعا أو طلاقا من غير رضاهما
وقد نص الله على أنه لا يحل له أخذ شيء مما أعطى إلا بطيبة من نفسها
ولا أن تفتدي به فالقائل بأن للحكمين أن يخلعا بغير توكيل من الزوج
مخالف لنص الكتاب. وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ
تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فمنع كل أحد أن
يأكل مال غيره إلا برضاه. وقال الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى
الْحُكَّامِ} [البقرة: 188], فأخبر تعالى أن الحاكم وغيره سواء في أنه
لا يملك أخذ مال أحد ودفعه إلى غيره. وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه" , وقال صلى الله عليه وسلم:
"فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فإنما أقطع له قطعة من النار", فثبت بذلك
أن الحاكم لا يملك أخذ مالها ودفعه إلى زوجها, ولا يملك إيقاع طلاق على
الزوج بغير توكيله ولا رضاه; وهذا حكم الكتاب والسنة وإجماع الأمة في
أنه لا يجوز للحاكم في غير ذلك من الحقوق إسقاطه ونقله عنه إلى غيره من
غير رضا من هو له, فالحكمان إنما يبعثان للصلح بينهما وليشهدا على
(2/241)
الظالم
منهما كما روى سعيد عن قتادة في قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ
بَيْنِهِمَا} الآية, قال: "إنما يبعث الحكمان ليصلحا, فإن أعياهما أن
يصلحا شهدا على الظالم بظلمه, وليس بأيديهما الفرقة ولا يملكان ذلك"
وكذلك روي عن عطاء.
قال أبو بكر: وفي فحوى الآية ما يدل على أنه ليس للحكمين أن يفرقا, وهو
قوله تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}
ولم يقل: إن يريدا فرقة, وإنما يوجه الحكمان ليعظا الظالم منهما وينكرا
عليه ظلمه وإعلام الحاكم بذلك ليأخذ هو على يده, فإن كان الزوج هو
الظالم أنكرا عليه ظلمه وقالا له لا يحل لك أن تؤذيها لتخلع منك, وإن
كانت هي الظالمة قالا لها قد حلت لك الفدية, وكان في أخذها معذورا لما
يظهر للحكمين من نشوزها, فإذا جعل كل واحد منهما إلى الحكم الذي من
قبله ما له من التفريق والخلع; كانا مع ما ذكرنا من أمرهما وكيلين جائز
لهما أن يخلعا إن رأيا وأن يجمعا إن رأيا ذلك صلاحا, فهما في حال
شاهدان, وفي حال مصلحان وفي حال آمران بمعروف وناهيان عن منكر ووكيلان
في حال إذا فوض إليهما الجمع والتفريق. وأما قول من قال إنهما يفرقان
ويخلعان من غير توكيل من الزوجين, فهو تعسف خارج عن حكم الكتاب والسنة,
والله أعلم بالصواب.
(2/242)
باب الخلع دون السلطان
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والحسن بن صالح والشافعي:
"يجوز الخلع بغير سلطان" وروي مثله عن عمر وعثمان وابن عمر رضي الله
عنهم. وقال الحسن وابن سيرين: "لا يجوز الخلع إلا عند السلطان". والذي
يدل على جوازه عند غير سلطان قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ
شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} [النساء: 4] اقتضى
ظاهره جواز أخذه ذلك منها على وجه الخلع وغيره. وقال تعالى: {فَلا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ولم يشترط
ذلك عند السلطان. وكما جاز عقد النكاح وسائر العقود عند السلطان وعند
غيره, كذلك يجوز الخلع; إذ لا اختصاص في الأصول لهذه العقود بكونها عند
السلطان; والله تعالى أعلم.
(2/242)
باب بر الوالدين
قال الله تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} فقرن تعالى ذكره إلزام بر الوالدين
بعبادته وتوحيده وأمر به كما أمر بهما, كما قرن شكرهما بشكره في قوله
تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:
14], وكفى بذلك دلالة
(2/242)
ذكر الخلاف في الشفعة بالجوار
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: "الشريك في المبيع أحق من الشريك
في الطريق, ثم الشريك في الطريق أحق من الجار الملازق, ثم الجار
الملازق بعدهما" وهو قول ابن شبرمة والثوري والحسن بن صالح. وقال مالك
والشافعي: "لا شفعة إلا
(2/245)
في مشاع,
ولا شفعة في بئر لا بياض لها1 ولا تحتمل القسم". وقد روي وجوب الشفعة
للجار عن جماعة من السلف, روي عن عمر وعن أبي بكر بن أبي حفص بن عمر
قال: قال شريح: "كتب إلي عمر أن أقضي بالشفعة للجار". وروى عاصم عن
الشعبي عن شريح قال: "الشريك أحق من الخليط2 والخليط أحق من الجار,
والجار أحق ممن سواه". وروى أيوب عن محمد قال: "كان يقال: الشريك أحق
من الخليط, والخليط أحق ممن سواه". وقال إبراهيم: "إذا لم يكن شريك
فالجار أحق بالشفعة" وقال طاوس مثل ذلك. وقال إبراهيم بن ميسرة: كتب
إلينا عمر بن عبد العزيز: "إذا حدت الحدود فلا شفعة", قال طاوس: "الجار
أحق".
والذي يدل على وجوب الشفعة للجار ما روى حسين المعلم عن عمرو بن شعيب
عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم:
أرض ليس لأحد فيها شريك إلا الجار؟ فقال: "الجار أحق بسقبه3 ما كان" .
وروى سفيان عن إبراهيم بن ميسرة عن عمرو بن الشريد عن أبي رافع عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الجار أحق بسقبه" وروى أبو حنيفة
قال: حدثنا عبد الكريم عن المسور بن مخرمة عن رافع بن خديج قال: عرض
سعد بيتا له, فقال: خذه فإني قد أعطيت به أكثر مما تعطيني ولكنك أحق
به; لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الجار أحق بسقبه".
وروى أبو الزبير عن جابر قال: "قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالشفعة بالجوار". وروى عبد الملك بن أبي سليمان عن, عطاء عن جابر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بسقبه ينتظر به وإن كان
غائبا إذا كان طريقهما واحدا". وروى ابن أبي ليلى عن نافع عن ابن عمر
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الجار أحق بسقبه ما كان" .
وروى قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"جار الدار أحق بشفعة الجار" ; وقتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "جار الدار أحق بالدار" . وروى سفيان عن منصور عن الحكم
قال: حدثني من سمع عليا وعبد الله يقولان: قضى رسول الله صلى الله عليه
وسلم بالجوار, ويونس عن الحسن قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالجوار.
فاتفق هؤلاء الجماعة على الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وما نعلم
أحدا دفع هذه الأخبار مع شيوعها واستفاضتها في الأمة, فمن عدل عن القول
بها كان تاركا للسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
1 قوله: "لا بياض لها" البياض الأرض التي لا عمارة فيها كما في لسان
العرب. "لمصححه".
2 قوله: "الخليط" الشريك المشاركة في الشيوع, والخليط المشاركة في حقوق
المال, كذا في النهاية. "لمصححه".
3 قوله: "بسقبه" الصقب والسقب بفتحتين بمعنى القرب أي أحق من غيره بسبب
قربه كما في الزرقاني. "لمصححه".
(2/246)
واحتج من
أبى ذلك بما روى أبو عاصم النبيل قال: حدثنا مالك عن الزهري عن سعيد بن
المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: قضى رسول الله صلى
الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم يقسم, فإذا وقعت الحدود فلا شفعة;
وكذلك رواه عن مالك أبو قتيلة المدني وعبد الملك بن عبد العزيز
الماجشون. وهذا الحديث رواه هؤلاء موصولا عن أبي هريرة وأصله عن سعيد
بن المسيب مقطوع, رواه معن ووكيع والقعنبي وابن وهب كلهم عن مالك عن
الزهري عن سعيد بن المسيب من غير ذكر أبي هريرة, وكذلك هو في موطأ
مالك. ولو ثبت موصولا لما جاز الاعتراض به على الأخبار التي رواها نحو
عشرة من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاب الشفعة للجار;
لأنها في حيز المتواتر المستفيض الذي لا تجوز معارضته بأخبار الآحاد.
ولو ثبت من وجوه يجوز أن يعارض به ما قدمنا ذكره لم يكن فيه ما ينفي
أخبار إيجاب الشفعة للجار وذلك لأن أكثر ما فيه أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قضى بالشفعة فيما لم يقسم, ثم قال: فإذا وقعت الحدود فلا
شفعة , فأما قوله: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم
يقسم فإنه متفق على استعماله في إيجاب الشفعة للشريك, ومع ذلك فهو
حكاية قضية من النبي صلى الله عليه وسلم قضى بها, وليس بعموم لفظ ولا
حكاية قول منه. وأما قوله: "فإذا وقعت الحدود فلا شفعة" فإنه يحتمل أن
يكون من كلام الراوي, إذ ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله,
ولا أنه قضى به; وإذا احتمل أن تكون رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم
واحتمل أن يكون من قول الراوي أدرجه في الحديث, كما وجد ذلك في كثير من
الأخبار, لم يجز لنا إثباته عن النبي صلى الله عليه وسلم; إذ غير جائز
لأحد أن يعزي إلى النبي صلى الله عليه وسلم مقالة بالشك والاحتمال;
فهذا وجه منع الاعتراض به على ما ذكرنا.
واحتجوا أيضا بما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا حامد بن محمد
المردف قال: حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري قال: حدثنا عبد الواحد
بن زياد قال: حدثنا معمر عن الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن جابر
بن عبد الله قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفعة فيما لم
يقسم, فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة. وهذا لا دلالة فيه على
نفي الشفعة بالجوار من وجهين: أحدهما: أنه إنما نفى وجوب الشفعة إذا
وقعت الحدود وصرفت الطرق, فأفاد بذلك نفي الشفعة لغير الجار الملاصق;
لأن صرف الطرق ينفي الملاصقة; لأن بينه وبين جاره طريقا. والثاني: أنه
متى حملناه على حقيقته كان الذي يقتضيه اللفظ نفي الشفعة عند وقوع
الحدود وصرف الطرق, ووقوع الحدود وصرف الطرق إنما هو القسمة, فكأنه
إنما أفاد أن القسمة لا شفعة فيها, كما قال أصحابنا إنه لا شفعة في
قسمة; وكذلك الحديث الأول محمول على ذلك أيضا. وأيضا فقد روى عبد الملك
بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(2/247)
"الجار
أحق بصقبه1 ينتظر به وإن كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا". فهذان
الخبران قد رويا عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم وغير جائز أن
نجعلهما متعارضين مع إمكان استعمالهما جميعا; وقد يمكننا استعمالهما
على الوجه الذي ذكرنا, ومخالفونا يجعلونهما متعارضين ويسقطون أحدهما
بالآخر.
ـــــــ
1 قوله: "بصقبه" الصقب والسقب بفتحتين بمعنى القرب, أي أحق من غيره
بسبب قربه كما في الزرقاني. لمصححه".
(2/248)
مطلب: إذا خرج الكلام على سبب فلا مفهوم له عند الفقهاء
وأيضا جائز أن يكون ذلك كلاما خرج على سبب, فنقل الراوي لفظ النبي صلى
الله عليه وسلم وترك نقل السبب, نحو أن يختصم إليه رجلان أحدهما جار
والآخر شريك, فيحكم بالشفعة للشريك دون الجار; وقال: فإذا وقعت الحدود
فلا شفعة لصاحب النصيب المقسوم مع الجار; كما روى أسامة بن زيد أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ربا إلا في النسيئة" وهو عند سائر
الفقهاء كلام خارج على سبب اقتصر فيه راويه على نقل قول النبي صلى الله
عليه وسلم دون ذكر السبب, وهو أن يكون سئل عن النوعين المختلفين من
الذهب والفضة إذا بيع أحدهما بالآخر, فقال صلى الله عليه وسلم: "لا ربا
إلا في النسيئة" يعني فيما سئل عنه; كذلك ما ذكرنا. وأيضا لو تساوت
أخبار إيجاب الشفعة بالجوار وأخبار نفيها, لكانت أخبار الإيجاب أولى من
أخبار النفي; لأن الأصل أنها غير واجبة حتى يرد الشرع بإيجابها, فخبر
نفي الشفعة وارد على الأصل وخبر إثباتها ناقل عنه وارد بعده فهو أولى.
فإن قيل: يحتمل أن يريد بالجار الشريك. قيل له: هذه الأخبار التي
رويناها أكثرها ينفي هذا التأويل; لأن فيها أن جار الدار أحق بشفعة
داره, والشريك لا يسمى جار الدار; وحديث جابر قال فيه: "ينتظر به وإن
كان غائبا إذا كان طريقهما واحدا" وغير جائز أن يكون هذا في الشريك في
المبيع. وأيضا فإن الشريك لا يسمى جارا; لأنه لو استحق اسم الجوار
بالشركة لوجب أن يكون كل شريكين في شيء جارين, كالشريكين في عبد واحد
ودابة واحدة, فلما لم يستحق اسم الجار بالشركة في هذه الأشياء دل ذلك
على أن الشريك لا يسمى جارا, وإنما الجار هو الذي ينفرد حقه ونصيبه من
حق الشريك ويتميز ملك كل واحد عن ملك صاحبه. وأيضا فإن الشركة إنما
تستحق بها الشفعة; لأنها تقتضي حصول الجوار بالقسمة. والدليل عليه أن
الشركة في سائر الأشياء لا توجب الشفعة لعدم حصول الجوار بها عند
القسمة, فدل ذلك على أن الشركة في العقار إنما تستحق بها الشفعة لما
يتعلق بها من الجوار عند القسمة, وإن كان الشريك أحق من الجار
(2/248)
لمزية
حصلت له مع تعلق حق الجوار بالقسمة. والدليل عليه أن الشركة في سائر
الأشياء لا توجب الشفعة لعدم حصول الجوار بها, كما أن الأخ من الأب
والأم أولى بالميراث من الأخ من الأب, وإن كانت الأخوة من جهة الأب
يستحق بها التعصيب والميراث إذا لم يكن أخ لأب وأم, ومعلوم أن القرابة
من جهة الأم لا يستحق بها التعصيب; إذ لم تكن هناك قرابة من جهة الأب,
إلا أنها أكدت تعصيب القرابة من الأب; كذلك الشريك إنما يستحق الشفعة
بالشركة; لما تعلق بها من حصول الجوار عند القسمة, والشريك أولى من
الجار لمزية حصلت له كما وصف بالتعصيب, ويكون المعنى الذي يتعلق به
وجوب الشفعة هو الجوار. وأيضا لما كان المعنى الذي به وجبت الشفعة
بالشركة هو دوام التأذي بالشريك, وكان ذلك موجودا في الجوار; لأنه
يتأذى به في الإشراف عليه ومطالعة أموره والوقوف على أحواله وجب أن
تكون له الشفعة لوجود المعنى الذي من أجله وجبت الشفعة للشريك; وهذا
المعنى غير موجود في الجار غير الملاصق; لأن بينه وبينه طريقا يمنعه
التشرف عليه والاطلاع على أموره.
وأما قوله تعالى: {وَابْنَ السَّبِيلِ}, فإنه روي عن مجاهد والربيع بن
أنس أنه المسافر; وقال قتادة والضحاك: "هو الضيف". قال أبو بكر: ومعناه
صاحب الطريق; وهذا كما يقال لطير الماء: ابن ماء, قال الشاعر:
وردت اعتسافا والثريا كأنها ... على قمة الرأس ابن ماء محلق
ومن تأوله على الضيف فقوله سائغ أيضا; لأن الضيف كالمجتاز غير المقيم,
فسمي ابن السبيل تشبيها بالمسافر المجتاز, وهو كما يقال: عابر السبيل.
وقال الشافعي: "ابن السبيل هو الذي يريد السفر وليس معه نفقته" وهذا
غلط; لأنه ما لم يصر في الطريق لا يسمى ابن السبيل كما لا يسمى مسافرا
ولا عابر سبيل.
وقوله عز وجل: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} يعني الإحسان المأمور به
في أول الآية. وروى سليمان التيمي عن قتادة عن أنس قال: كانت عامة وصية
رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة وما ملكت أيمانكم حتى جعل يغرغر
بها في صدره وما يقبض بها لسانه, وروته أيضا أم سلمة. وروى الأعمش عن
طلحة بن مصرف عن أبي عمارة عن عمرو بن شرحبيل قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "الغنم بركة والإبل عز لأهلها, والخيل معقود في
نواصيها الخير إلى يوم القيامة, والمملوك أخوك فأحسن إليه فإن وجدته
مغلوبا فأعنه" . وروى مرة الطيب1 عن أبي بكر قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة سيئ الملكة" قيل:
ـــــــ
1 قوله: "مرة الطب" هو مرة بن شراحيل الهمداني, روى عن أبي بكر وعمر
وجماعة, يفال له مرة............==
(2/249)
يا رسول
الله أليس قد حدثتنا أن هذه الأمة أكثر الأمم مملوكين وأتباعا؟ قال:
"بلى, فأكرموهم ككرامة أولادكم وأطعموهم مما تأكلون" . وروى الأعمش عن
المعرور بن سويد قال: مررت على أبي ذر وهو بالربذة, فسمعته يقول: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المماليك هم إخوانكم ولكن الله تعالى
خولكم إياهم, فأطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون" .
(2/250)
مطلب: في معنى البخل لغة وشرعا
قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ
بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}. قيل
في معنى البخل في اللغة: إنه مشقة الإعطاء, وقيل: البخل منع ما لا ينفع
منعه ولا يضر بذله. وقيل: البخل منع الواجب, ونظيره الشح, ونقيضه
الجود. وقد عقل من معناه في أسماء الدين أنه منع الواجب. ويقال: إنه لا
يصح إطلاقه في الدين إلا على جهة أن فاعله قد أتى كبيرة بالمنع قال
الله تعالى: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ
اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ
سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:
180] فأطلق الوعيد على من بخل بحق الله الذي أوجبه في ماله. وأما قوله
تعالى: {وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} فإنه قد
روي عن ابن عباس ومجاهد والسدي أنها نزلت في اليهود إذ بخلوا بما أعطوا
من الرزق. وكتموا ما أوتوا من العلم بصفة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: هو فيمن كان بهذه الصفة وفيمن كتم نعم الله وأنكرها, وذلك كفر
بالله تعالى.
قال أبو بكر: الاعتراف بنعم الله تعالى واجب وجاحدها كافر, وأصل الكفر
إنما هو من تغطية نعم الله تعالى وكتمانها وجحودها. وهذا يدل على أنه
جائز للإنسان أن يتحدث بنعم الله عنده, لا على جهة الفخر بل على جهة
الاعتراف بالنعمة والشكر للمنعم, وهو كقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا
سيد ولد آدم ولا فخر, وأنا أفصح العرب ولا فخر" فأخبر بنعم الله عنده
وأبان أنه ليس إخباره بها على وجه الافتخار. وقال صلى الله عليه وسلم:
"لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى" وقد كان صلى الله عليه
وسلم خيرا منه, ولكنه نهى أن يقال ذلك على وجه الافتخار. وقال تعالى:
{فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} .[لنجم:
32] وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلا يمدح رجلا فقال:
"لو سمعك لقطعت ظهره". ورأى المقداد رجلا يمدح عثمان
ـــــــ
== الطب ومرة الخير, قال الحارث الغنوي: سجد حتى اكل التراب جبهته.
هكذا في خلاصة تهذيب الكمال. "لمصححه".
(2/250)
في وجهه
فحثا في وجهه التراب وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب". وقد روي: "إياكم
والتمادح فإنه الذبح". فهذا إذا كان على وجه الفخر فقد كره, وأما أن
يتحدث بنعم الله عنده أو يذكرها غيره بحضرته فهذا نرجو أن لا يضر; إلا
أن أصلح الأشياء لقلب الإنسان أن لا يغتر بمدح الناس له ولا يعتد به.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ
وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} معناه والله
أعلم: أنه أعد للذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل والذين ينفقون
أموالهم رياء الناس عذابا مهينا; وفي ذلك دليل على أن كل ما يفعله
العبد لغير وجه الله فإنه لا قربة فيه ولا يستحق عليه الثواب; لأن ما
يفعل على وجه الرياء فإنما يريد به عوضا من الدنيا كالذكر الجميل
والثناء الحسن, فصار ذلك أصلا في أن كل ما أريد به عوض من أعواض الدنيا
أنه ليس بقربة, كالاستئجار على الحج وعلى الصلاة وسائر القرب, أنه متى
استحق عليه عوضا يخرج بذلك عن باب القربة. وقد علمنا أن هذه الأشياء
سبيلها أن لا تفعل إلا على وجه القربة فثبت بذلك أنه لا يجوز أن يستحق
عليها الأجرة وأن الإجارة عليها باطلة
قوله تعالى: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ
الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} يدل على بطلان مذهب
أهل الجبر; لأنهم لو لم يكونوا مستطيعين للإيمان بالله والإنفاق لما
جاز أن يقال ذلك فيهم; لأن عذرهم واضح وهو أنهم غير ممكنين مما دعوا
إليه ولا قادرين عليه, كما لا يقال للأعمى: "ماذا عليه لو أبصر" ولا
يقال للمريض: "ماذا عليه لو كان صحيحا"; وفي ذلك أوضح دليل على أن الله
قطع عذرهم من فعل ما كلفهم من الإيمان وسائر الطاعات وأنهم ممكنون من
فعلها.
وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا
الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ
حَدِيثاً}, فأخبر الله عنهم أنهم لا يكتمون1 الله هناك شيئا من أحوالهم
وما عملوه, لعلمهم بأن الله مطلع عليهم عالم بأسرارهم, فيقرون بها ولا
يكتمونها. وقيل: يجوز أن يكون المراد أنهم لا يكتمون أسرارهم هناك كما
كانوا يكتمونها في الدنيا. فإن قيل: قد أخبر الله عنهم أنهم يقولون
والله ربنا ما كنا مشركين قيل له: فيه وجوه: أحدها: أن الآخرة مواطن
فموطن لا تسمع فيه إلا همسا أي صوتا خفيا, وموطن يكذبون فيه فيقولون ما
كنا نعمل من سوء والله ربنا ما كنا مشركين, وموطن يعترفون فيه بالخطإ
ويسألون الله أن يردهم إلى الدنيا; وروي ذلك عن الحسن وقال ابن عباس:
ـــــــ
1 قوله" لا يكتمون" أي لا يقدرون أن يكتموا كما كانوا مقيدرين على
الكتمان في الدنيا "لمصححه"
(2/251)
إن قوله
تعالى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} داخل في التمني بعدما نطقت
جوارحهم بفضيحتهم وقيل: إن معناه أنه لا يعتد بكتمانهم; لأنه ظاهر عند
الله لا يخفى عليه منه شيء, فكان تقديره أنهم غير قادرين هناك على
الكتمان; لأن الله يظهره. وقيل: إنهم لم يقصدوا الكتمان; لأنهم إنما
أخبروا على ما توهموا, ولا يخرجهم ذلك من أن يكونوا قد كتموا, والله
تعالى أعلم.
(2/252)
باب الجنب يمر في المسجد
...
لصلاة المغرب فقرأ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون:1]
فالتبس عليه فأنزل الله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ
سُكَارَى}. وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن
اليمان المؤدب قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان
بن عطاء عن عطاء الخراساني عن ابن عباس, في قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ
عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ
وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219], وقال في سورة النساء: {لا
تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا
تَقُولُونَ} ثم نسختها هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ}
[المائدة: 90] الآية. قال أبو عبيد: وحدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية
بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ
عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة:
219] قال: وقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى
حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} قال: "كانوا لا يشربونها عند الصلاة
فإذا صلوا العشاء شربوها". قال أبو عبيد: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن
أبي إسحاق عن أبي ميسرة قال: قال عمر: اللهم بين لنا في الخمر فنزلت:
{لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا
تَقُولُونَ} , وذكر الحديث. قال أبو عبيد: وحدثنا هشيم قال: أخبرنا
مغيرة عن أبي رزين قال: "شربت الخمر بعد الآية التي في سورة البقرة
والتي في سورة النساء, وكانوا يشربونها حتى تحضر الصلاة فإذا حضرت
الصلاة تركوها, ثم حرمت في المائدة".
قال أبو بكر: فأخبر هؤلاء أن المراد السكر من الشراب, وأخبر ابن عباس
وأبو رزين أنهم تركوا شربها بعد نزول الآية عند الصلاة وشربوها في غير
أوقات الصلوات; ففي هذا دلالة على أنهم عقلوا من قوله تعالى: {لا
تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} النهي عن شربها في الحال
التي يكونون فيها سكارى عند لزوم فرض الصلاة, وهذا يدل على أن قوله
تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} إنما أفاد النهي
عن شربها في أوقات الصلوات, وكان معناه: لا يكن منكم شرب تصيرون به إلى
حال السكر عند أوقات الصلوات فتصلوا وأنتم سكارى وذلك أنهم لما كانوا
متعبدين بفعل الصلوات في أوقاتها منهيين عن تركها, قال تعالى: {لا
تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} , وقد علمنا أنه لم ينسخ
بذلك فرض الصلاة, كان في مضمون هذا اللفظ النهي عما يوجب السكر عند
أوقات الصلوات, كما أنه لما نهينا عن فعل الصلاة مع الحدث لقوله تعالى:
{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:
6], وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" .
وكما قال تعالى: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى
تَغْتَسِلُوا}, كان ذلك نهيا عن ترك الطهارة ولم يكن نهيا عن فعل
الصلاة. ولم يوجب كون الإنسان جنبا أو محدثا
(2/253)
سقوط فرض
الصلاة; وإنما نهي عن فعلها في هذه الحال, وهو مأمور مع ذلك بتقديم
الطهارة لها; كذلك النهي عن الصلاة في حال السكر إنما دل على حظر شرب
يوجب السكر قبل الصلاة, وفرض الصلاة قائم عليه. فهذا التأويل يدل على
ما روي عن ابن عباس وأبي رزين, وظاهر الآية وفحواها يقتضي ذلك على
الوجه الذي بينا. وهذا التأويل لا ينافي ما قدمنا ذكره عن السلف في حظر
الصلاة عند السكر; لأنه جائز أن يكونوا نهوا عن شرب يقتضي كونه سكران
عند حضور الصلاة, فيكون ذلك حظرا قائما, فإن اتفق أن يشرب حتى أنه كان
سكران عند حضور الصلاة كان منهيا عن فعلها مأمورا بإعادتها في حال
الصحو, أو يكون النهي مقصورا على فعلها مع النبي صلى الله عليه وسلم أو
في جماعة; وهذه المعاني كلها صحيحة جائزة يحتملها لفظ الآية.
وقوله تعالى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} يدل على أن السكران
الذي منع من الصلاة هو الذي قد بلغ به السكر إلى حال لا يدري ما يقول,
وأن السكران الذي يدري ما يقول لم يتناوله النهي عن فعل الصلاة; وهذا
يشهد للتأويل الذي ذكرنا من أن النهي إنما انصرف إلى الشرب لا إلى فعل
الصلاة; لأن السكران الذي لا يدري ما يقول لا يجوز تكليفه في هذه الحال
كالمجنون والنائم والصبي الذي لا يعقل, والذي يعقل ما يقول لم يتوجه
إليه النهي; لأن في الآية إباحة فعل الصلاة إذا علم ما يقول; وهذا يدل
على أن الآية إنما حظرت عليه الشرب لا فعل الصلاة في حال السكر الذي لا
يعلم ما يقول فيه; إذ غير جائز تكليف السكران الذي لا يعقل. وهي تدل
أيضا على أن السكر الذي يتعلق به الحكم هو الذي لا يعقل صاحبه ما يقول,
وهذا يدل على صحة قول أبي حنيفة في السكر الموجب للحد" أنه هو الذي لا
يعرف فيه الرجل من المرأة" ومن لا يعقل ما يقول لا يعرف الرجل من
المرأة.
وقوله تعالى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} يدل على فرض القراءة
في الصلاة; لأنه منعه من الصلاة لأجل عدم إقامة القراءة فيها, فلولا
أنها من أركانها وفروضها لما منع من الصلاة لأجلها.
فإن قيل: لا دلالة في ذلك على وجوب القراءة فيها; وذلك لأن قوله تعالى:
{حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} قد دل على أنه ممنوع منها في الحال
التي لا يعلم ما يقول, ولم يذكر القراءة وإنما ذكر نفي العلم بما يقول,
وهذا على سائر الأقوال والكلام, ومن صار بهذه الحال من السكر لم يصح له
إحضار نية الصلاة ولا فعل سائر أركانها, فإنما منع من الصلاة من كانت
هذه; لأنه لا تصح منه نية الصلاة ولا سائر أفعالها, ومع ذلك فلا يعلم
أنه طاهر غير محدث. قيل له: هذا على ما ذكرت في أن من كانت هذه
(2/254)
حاله فلا
يصح منه فعل الصلاة على سائر شرائطها, إلا أن اختصاصه القول بالذكر دون
غيره من أمور الصلاة وأحوالها يدل على أن المراد به قول مفعول في
الصلاة وأنه متى كان من السكر على حال لم يمكنه إقامة القراءة فيها لم
يصح له فعلها لأجل عدم القراءة, وأن وجود القراءة فيها من فروضها
وشرائطها, وهذا مثل قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 43] في
إفادته أن في الصلاة قياما مفروضا, ومثل قوله: {وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] في دلالته على فرض الركوع في الصلاة.
وأما قوله عز وجل: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى
تَغْتَسِلُوا} فإن أهل العلم قد تنازعوا تأويله, فروى المنهال بن عمرو
عن زر عن علي رضي الله عنه في قوله: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي
سَبِيلٍ} : "إلا أن تكونوا مسافرين ولا تجدون ما تتيممون به وتصلون".
وروى قتادة عن أبي مجلز عن ابن عباس مثله, وعن مجاهد مثله. وروي عن عبد
الله بن مسعود أنه قال: "هو الممر في المسجد". وروى عطاء بن يسار عن
ابن عباس مثله في تأويل الآية, وكذلك روي عن سعيد بن المسيب وعطاء
وعمرو بن دينار في آخرين من التابعين.
واختلف السلف في مرور الجنب في المسجد, فروي عن جابر قال: "كان أحدنا
يمر في المسجد مجتازا وهو جنب". وقال عطاء بن يسار: "كان رجال من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضئون ثم يأتون المسجد
فيتحدثون فيه". وقال سعيد بن المسيب: "الجنب لا يجلس في المجلس ويجتاز"
وكذلك روي عن الحسن. وما روي في ذلك عن عبد الله فإن الصحيح فيه ما
تأوله شريك عن عبد الكريم الجزري عن أبي عبيدة: {وَلا جُنُباً إِلَّا
عَابِرِي سَبِيلٍ} قال: "الجنب يمر في المسجد ولا يجلس", ورواه معمر عن
عبد الكريم عن أبي عبيدة عن عبد الله; ويقال إن أحدا لم يرفعه إلى عبد
الله غير معمر وسائر الناس وقفوه.
واختلف فقهاء الأمصار في ذلك, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر
والحسن بن زياد: "لا يدخله إلا طاهرا سواء أراد القعود فيه أو
الاجتياز", وهو قول مالك بن أنس والثوري. وقال الليث: "لا يمر فيه إلا
أن يكون بابه إلى المسجد". وقال الشافعي: "يمر فيه ولا يقعد".
والدليل على أن الجنب لا يجوز له أن يجتاز في المسجد ما حدثنا محمد بن
بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا عبد الواحد بن
زياد قال: حدثنا أفلت بن خليفة قال: حدثتني جسرة بنت دجاجة قالت: سمعت
عائشة رضي الله عنها تقول: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجوه
بيوت أصحابه شارعة في المسجد, فقال: "وجهوا هذه البيوت عن المسجد" ثم
دخل ولم يصنع, القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة, فخرج
(2/255)
إليهم بعد
فقال: "وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب" ولم يفرق
فيه بين الاجتياز وبين القعود, فهو عليهما سواء. والثاني: أنه أمرهم
بتوجيه البيوت الشارعة لئلا يجتازوا في المسجد إذا أصابتهم جنابة; لأنه
لو أراد القعود لم يكن لقوله: "وجهوا هذه البيوت فإني لا أحل المسجد
لحائض ولا جنب" معنى; لأن القعود منهم بعد دخول المسجد لا تعلق له بكون
البيوت شارعة إليه, فدل على أنه إنما أمر بتوجيه البيوت لئلا يضطروا
عند الجنابة إلى الاجتياز في المسجد; إذ لم يكن لبيوتهم أبواب غير ما
هي شارعة إلى المسجد. وقد روى سفيان بن حمزة عن كثير بن زيد عن المطلب:
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن أذن لأحد أن يمر في المسجد
ولا يجلس فيه وهو جنب, إلا علي بن أبي طالب فإنه كان يدخله جنبا ويمر
فيه; لأن بيته كان في المسجد فأخبر في هذا الحديث بحظر النبي صلى الله
عليه وسلم الاجتياز كما حظر عليهم القعود.
(2/256)
مطلب: ورد من بعض الخصوصيات لبعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم
وما ذكر من خصوصية علي رضي الله عنه فهو صحيح, وقول الراوي: "لأنه كان
بيته في المسجد" ظنا منه; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر في
الحديث الأول بتوجيه البيوت الشارعة إلى غيره ولم يبح لهم المرور لأجل
كون بيوتهم في المسجد, وإنما كانت الخصوصية فيه لعلي رضي الله عنه دون
غيره, كما خص جعفر بأن له جناحين في الجنة دون سائر الشهداء, وكما خص
حنظلة بغسل الملائكة له حين قتل جنبا, وخص دحية الكلبي بأن جبريل كان
ينزل على صورته, وخص الزبير بإباحة لبس الحرير لما شكا من أذى القمل;
فثبت بذلك أن سائر الناس ممنوعون من دخول المسجد مجتازين وغير مجتازين.
وأما ما روى جابر: "كان أحدنا يمر في المسجد مجتازا وهو جنب" فلا حجة
فيه; لأنه لم يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم علم بذلك فأقره عليه,
وكذلك ما روي عن عطاء بن يسار: "كان رجال من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم تصيبهم الجنابة فيتوضئون ثم يأتون المسجد فيتحدثون فيه" لا
دلالة فيه للمخالف; لأنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرهم
عليه بعد علمه بذلك منهم ولأنه جائز أن يكون ذلك في زمان النبي صلى
الله عليه وسلم قبل أن يحظر عليهم ذلك; ولو ثبت جميع ذلك عن النبي صلى
الله عليه وسلم ثم روي ما وصفنا لكان خبر الحظر أولى; لأنه طارئ على
الإباحة لا محالة فهو متأخر عنها ولما ثبت باتفاق الفقهاء حظر القعود
فيه لأجل الجنابة تعظيما لحرمة المسجد وجب أن يكون كذلك حكم الاجتياز
تعظيما للمسجد; ولأن العلة في حظر القعود فيه هو الكون فيه جنبا وذلك
موجود في الاجتياز,
(2/256)
وكما أنه
لما كان محظورا عليه القعود في ملك غيره بغير إذنه كان حكم الاجتياز
فيه حكم القعود فكان الاجتياز بمنزلة القعود, كذلك القعود في المسجد
لما كان محظورا وجب أن يكون كذلك الاجتياز اعتبارا بما ذكرنا; والعلة
في الجميع حظر الكون فيه.
وأما قوله تعالى: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى
تَغْتَسِلُوا} وتأويل من تأوله على إباحة الاجتياز في المسجد, فإن ما
روي عن علي وابن عباس في تأويله أن المراد المسافر الذي لا يجد الماء
فيتيمم, أولى من تأويل من تأوله على الاجتياز في المسجد وذلك لأن قوله
تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} نهي عن فعل
الصلاة نفسها في هذه الحال لا عند المسجد; لأن ذلك حقيقة اللفظ ومفهوم
الخطاب, وحمله على المسجد عدول بالكلام عن حقيقته إلى المجاز بأن تجعل
الصلاة عبارة عن موضعها, كما يسمى الشيء باسم غيره للمجاورة أو لأنه
تسبب منه, كقوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ}
[الحج: 40] يعني به مواضع الصلوات. ومتى أمكننا استعمال اللفظ على
حقيقته لم يجز صرفه عنها إلى المجاز إلا بدلالة, ولا دلالة توجب صرف
ذلك عن الحقيقة وفي نسق التلاوة ما يدل على أن المراد حقيقة الصلاة,
وهو قوله تعالى: {حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} وليس للمسجد قول
مشروط يمنع من دخوله لتعذره عليه عند السكر, وفي الصلاة قراءة مشروطة,
فمنع من أجل العذر عن إقامتها عن فعل الصلاة; فدل ذلك على أن المراد
حقيقة الصلاة, فيكون تأويل من تأوله عليها موافقا لظاهرها وحقيقتها.
وقوله تعالى: {إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} فإن معناه
المسافر; لأن المسافر يسمى عابر سبيل, ولولا أنه يطلق عليه هذا الاسم;
لما تأوله عليه علي وابن عباس; إذ غير جائز لأحد تأويل الآية على ما لا
يقع عليه الاسم. وإنما سمي المسافر عابر سبيل; لأنه على الطريق, كما
يسمى ابن السبيل; فأباح الله تعالى له في حال السفر أن يتيمم ويصلي وإن
كان جنبا, فدلت الآية على معنيين: أحدهما: جاز التيمم للجنب إذا لم يجد
الماء والصلاة به, والثاني: أن التيمم لا يرفع الجنابة; لأنه سماه جنبا
مع كونه متيمما; فهذا التأويل أولى من تأويل من حمله على الاجتياز في
المسجد.
وقوله تعالى: {حَتَّى تَغْتَسِلُوا} غاية لإباحة الصلاة, ولا خلاف أن
الغاية في هذا الموضع داخلة في الحظر إلى أن يستوعبها بوجود الاغتسال,
وأنه لا تجوز له الصلاة وقد بقي من غسله شيء في حال وجود الماء وإمكان
استعماله من غير ضرر يخافه; فهذا دليل على أن الغاية قد تدخل في الجملة
التي قبلها; وقال الله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى
اللَّيْلِ} [البقرة: 187] والغاية خارجة من الجملة; لأنه بدخول أول
الليل يخرج من الصوم; لأن" إلى" غاية كما أن" حتى" غاية. وهذا أصل في
أن الغاية قد يجوز دخولها
(2/257)
في الكلام
تارة وخروجها أخرى, وحكمها موقوف على الدلالة في دخولها أو خروجها.
وسنذكر أحكام الجنابة ومعناها وحكم المريض والمسافر في سورة المائدة
إذا انتهينا إليها إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ
قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً} يدل على قول أصحابنا في قول الرجل
لامرأته أنت طالق قبل قدوم فلان, أنها تطلق في الحال قدم فلان أو لم
يقدم. وحكي عن بعضهم أنها لا تطلق حتى يقدم; لأنه لا يقال إنه قبل قدوم
فلان وما قدم. والصحيح ما قال أصحابنا, وهذه الآية تدل عليه; لأنه قال
الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا
نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ
وُجُوهاً} فكان الأمر بالإيمان صحيحا قبل طمس الوجوه ولم يوجد الطمس
أصلا, وكان ذلك إيمانا قبل طمس الوجوه وما وجد; وهو نظير قوله تعالى:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [القصص: 3] فكان
الأمر بالعتق للرقبة أمرا صحيحا وإن لم يوجد المسيس.
فإن قيل: إن هذا وعيد من الله لليهود ولم يسلموا ولم يقع ما توعدوا به.
قيل له: إن قوما من هؤلاء اليهود أسلموا, منهم عبد الله بن سلام وثعلبة
بن سعية وزيد بن سعنة وأسد بن سعية وأسد بن عبيد ومخيريق في آخرين
منهم, وإنما كان الوعيد العاجل معلقا بترك جميعهم الإسلام; ومحتمل أن
يريد به الوعيد في الآخرة; إذ لم يذكر في الآية تعجيل العقوبة في
الدنيا إن لم يسلموا.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ}.
قال الحسن وقتادة والضحاك: "هو قول اليهود والنصارى: نحن أبناء الله
وأحباؤه, وقالوا: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى" وروي عن عبد
الله أنه قال: "هو تزكية الناس بعضهم بعضا لينال بها شيئا من الدنيا".
(2/258)
مطلب: في بيان التزكية المنهي عنها
قال أبو بكر: وهذا يدل على أن النهي عن التزكية من هذا الوجه, وقال
الله: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32], وقد روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم
التراب}.
قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ
مِنْ فَضْلِهِ} . روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي وعكرمة: "أن
المراد بالناس ههنا هو النبي صلى الله عليه وسلم خاصة". وقال قتادة:
"العرب". وقال آخرون: "النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه"; وهذا أولى;
لأن أول الخطاب في ذكر اليهود, وقد كانوا قبل ذلك يقرءون في كتبهم مبعث
النبي صلى الله عليه وسلم
(2/258)
وصفته
وحال نبوته, وكانوا يوعدون العرب بالقتل عند مبعثه; لأنهم زعموا أنهم
لا يتبعونه, وكانوا يظنون أنه يكون من بني إسرائيل, فلما بعثه الله
تعالى من ولد إسماعيل حسدوا العرب وأظهروا الكفر به وجحدوا ما عرفوه.
قال الله تعالى: {وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى
الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ}
[البقرة: 89], وقال الله تعالى: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ
عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109] فكانت عداوة اليهود للعرب ظاهرة
بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم حسدا منهم لهم أن يكون النبي صلى
الله عليه وسلم مبعوثا منهم; فالأظهر من معنى الآية حسدهم للنبي صلى
الله عليه وسلم وللعرب. والحسد هو تمني زوال النعمة عن صاحبها; ولذلك
قيل: إن كل أحد تقدر أن ترضيه إلا حاسد نعمة فإنه لا يرضيه إلا زوالها;
والغبطة غير مذمومة; لأنها تمني مثل النعمة من غير زوالها عن صاحبها بل
مع سرور منه ببقائها عليه.
قوله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً
غَيْرَهَا} قيل فيه: إن الله تعالى يجدد لهم جلودا غير الجلود التي
احترقت; والقائلون بهذا هم الذين يقولون إن الجلد ليس بعض الإنسان,
وكذلك اللحم والعظم, وإن الإنسان هو الروح اللابس لهذا البدن. ومن قال
إن الجلد هو بعض الإنسان وإن الإنسان هو هذا الشخص بكماله, فإنه يقول
إن الجلود تجدد بأن ترد إلى الحال التي كانت عليها غير محترقة, كما
يقال لخاتم كسر ثم صيغ خاتم آخر: هذا الخاتم غير ذاك الخاتم, وكما يقال
لمن قطع قميصه قباء: هذا اللباس غير ذاك اللباس. وقال بعضهم: التبديل
إنما هو للسرابيل التي قد ألبسوها; وهو تأويل بعيد; لأن السرابيل لا
تسمى جلودا; والله تعالى أعلم.
(2/259)
باب ما أوجب الله تعالى من أداء الأمانات
قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا
الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} اختلف أهل التفسير في المأمورين بأداء
الأمانة في هذه الآية من هم, فروي عن زيد بن أسلم ومكحول وشهر بن حوشب
أنهم ولاة الأمر. وقال ابن جريج: "إنها نزلت في عثمان بن طلحة, أمر بأن
ترد عليه مفاتيح الكعبة". وقال ابن عباس وأبي بن كعب والحسن وقتادة:
"هو في كل مؤتمن على شيء "; وهذه أولى; لأن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ} خطاب يقتضي عمومه سائر المكلفين فغير جائز الاقتصار به
على بعض الناس دون بعض إلا بدلالة; وأظن من تأوله على ولاة الأمر ذهب
إلى قوله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا
بِالْعَدْلِ} لما كان خطابا لولاة الأمر كان ابتداء الخطاب منصرفا
إليهم; وليس ذلك كذلك; إذ لا يمتنع أن يكون أول الخطاب عموما في سائر
الناس وما عطف عليه
(2/259)
خاصا في
ولاة الأمر على ما ذكرنا في نظائره في القرآن وغيره.
قال أبو بكر: ما اؤتمن عليه الإنسان فهو أمانة, فعلى المؤتمن عليها
ردها إلى صاحبها; فمن الأمانات الودائع وعلى مودعيها ردها إلى من أودعه
إياها, ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أنه لا ضمان على المودع فيها إن
هلكت. وقد روي عن بعض السلف فيه الضمان, ذكر الشعبي عن أنس قال:
"استحملني رجل بضاعة فضاعت من بين ثيابي, فضمنني عمر بن الخطاب".
وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا حامد بن محمد قال: حدثنا شريح
قال: حدثنا ابن إدريس عن هشام بن حسان عن أنس بن سيرين عن أنس بن مالك
قال: "استودعت ستة آلاف درهم, فذهبت, فقال لي عمر: ذهب لك معها شيء؟
قلت: لا, فضمنني". وروى حجاج عن أبي الزبير عن جابر: أن رجلا استودع
متاعا فذهب من بين متاعه, فلم يضمنه أبو بكر رضي الله عنه وقال: هي
أمانة. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إسماعيل بن الفضل قال:
حدثنا قتيبة قال: حدثنا ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده, أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من استودع وديعة فلا ضمان عليه".
وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إبراهيم بن هاشم قال: حدثنا محمد
بن عون قال: حدثنا عبد الله بن نافع عن محمد بن نبيه الحجبي عن عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ضمان
على راع ولا على مؤتمن".
قال أبو بكر: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضمان على مؤتمن" يدل على
نفي ضمان العارية; لأن العارية أمانة في يد المستعير;; إذ كان المعير
قد ائتمنه عليها; ولا خلاف بين الفقهاء في نفي ضمان الوديعة إذا لم
يتعد فيه المودع. وما روي عن عمر في تضمين الوديعة فجائز أن يكون
المودع اعترف بفعل يوجب الضمان عنده, فلذلك ضمنه.
واختلف الفقهاء في ضمان العارية بعد اختلاف من السلف فيه, فروي عن عمر
وعلي وجابر وشريح وإبراهيم: "أن العارية غير مضمونة". وروي عن ابن عباس
وأبي هريرة: "أنها مضمونة". وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر
والحسن بن زياد: "هي غير مضمونة إذا هلكت" وهو قول ابن شبرمة والثوري
والأوزاعي. وقال عثمان البتي: "المستعير ضامن لما استعاره إلا الحيوان
والعقل; فإن اشترط عليه في الحيوان والعقل الضمان فهو ضامن". وقال
مالك: "لا يضمن الحيوان في العارية ويضمن الحلي والثياب ونحوها". وقال
الليث: "لا ضمان في العارية ولكن أبا العباس أمير المؤمنين قد كتب إلي
بأن أضمنها فالقضاء اليوم على الضمان ": وقال الشافعي: "كل عارية
مضمونة"
قال أبو بكر: والدليل على نفي ضمانها عند الهلاك إذا لم يتعد فيها أن
المعير قد
(2/260)
ائتمن
المستعير عليها حين دفعها إليه, وإذا كان أمينا لم يلزمه ضمانها; لأنا
روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ضمان على مؤتمن" وذلك
عموم في نفي الضمان عن كل مؤتمن. وأيضا لما كانت مقبوضة بإذن مالكها لا
على شرط الضمان لم يضمنها كالوديعة. وأيضا قد اتفق الجميع على نفي ضمان
الثوب المستأجر مع شرط بذل المنافع إذا لم يشترط عليه ضمان بدل
المقبوض, فالعارية أولى أن لا تكون مضمونة; إذ ليس فيها ضمان مشروط
بوجه. ومن جهة أخرى أن المقبوض على وجه الإجارة مقبوض لاستيفاء المنافع
ولم يكن مضمونا, فوجب أن لا تضمن العارية; إذ كانت مقبوضة لاستيفاء
المنافع. وأيضا لما كانت الهبة غير مضمونة على الموهوب له; لأنها
مقبوضة بإذن مالكها لا على شرط ضمان البدل وهي معروف وتبرع وجب أن تكون
العارية كذلك; إذ هي معروف وتبرع. وأيضا قد اتفق الجميع على أن العارية
لو نقصت بالاستعمال لم يضمن النقصان, فإذا كان الجزء منها غير مضمون مع
حصول القبض عليه وجب أن لا يضمن الكل; لأن ما تعلق ضمانه بالقبض لا
يختلف فيه حكم الكل والبعض, كالغصب والمقبوض ببيع فاسد; فلما اتفق
الجميع على أن الجزء الفائت بالنقصان غير مضمون وجب أن لا يضمن الجميع
كالودائع وسائر الأمانات.
وقد اختلف في ألفاظ حديث صفوان بن أمية في العارية, فذكر بعضهم فيه
الضمان ولم يذكره بعضهم. وروى شريك عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي
مليكة عن أمية عن صفوان بن أمية عن أبيه قال: استعار النبي صلى الله
عليه وسلم من صفوان أدراعا من حديد يوم حنين, فقال له: يا محمد مضمونة
فقال: مضمونة فضاع بعضها, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إن شئت
غرمناها لك" فقال: لا, أنا أرغب في الإسلام من ذلك يا رسول الله. ورواه
إسرائيل عن عبد العزيز بن رفيع عن ابن أبي مليكة عن صفوان بن أمية,
قال: استعار رسول الله صلى الله عليه وسلم من صفوان بن أمية أدراعا
فضاع بعضها, فقال: "إن شئت غرمناها لك" فقال: لا يا رسول الله. فوصله
شريك وذكر فيه الضمان وقطعه إسرائيل ولم يذكر الضمان. وروى قتادة عن
عطاء: أن النبي صلى الله عليه وسلم استعار من صفوان بن أمية دروعا يوم
حنين, فقال له: أمؤداة يا رسول الله العارية؟ فقال: "نعم". وروى جرير
عن عبد العزيز بن رفيع عن أناس من آل عبد الله بن صفوان قال: أراد رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يغزو حنينا; وذكر الحديث من غير ذكر ضمان.
ويقال إنه ليس في رواة هذا الحديث أحفظ ولا أتقن ولا أثبت من جرير بن
عبد الحميد, ولم يذكر الضمان, ولو تكافأت الرواة فيه حصل مضطربا. وقد
روي في أخبار أخر من طريق أبي أمامة وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "العارية مؤداة". وإن صح ذكر الضمان في حديث صفوان فإن معناه ضمان
الأداء, كما
(2/261)
روي في
بعض ألفاظ حديث صفوان أنه قال: "هي مضمونة حتى أؤديها إليك", وكما
حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا الفريابي قال: حدثنا قتيبة قال:
حدثنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن أبي هند: أن أول ما ضمنت
العارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لصفوان: "أعرنا سلاحك وهي
علينا ضمان حتى نأتيك بها" , فثبت بذلك أنه إنما شرط له ضمان الرد وذلك
لأن صفوان كان حربيا كافرا في ذلك الوقت, فظن أنه يأخذها على جهة
استباحة ماله كسائر أموال الحربيين, ولذلك قال له: أغصبا تأخذها يا
محمد؟ فقال: "لا, بل عارية مضمونة حتى أؤديها إليك وعارية مؤداة";
فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأخذها على أنها عارية مؤداة وأنه
ليس يأخذها على سبيل ما تؤخذ عليه أموال أهل الحرب; وهو كقول القائل:
أنا ضامن لحاجتك, يعني القيام بها والسعي فيها حتى يقضيها; قال الشاعر
يصف ناقة:
بتلك أسلي حاجة إن ضمنتها ... وأبرئ هما كان في الصدر داخلا
قال أهل اللغة في قوله: "إن ضمنتها" يعني إن هممت بها وأردتها.
وأيضا فإنا نسلم للمخالف صحة الخبر بما روي فيه من الضمان, ونقول: إنه
لا دلالة فيه على موضع الخلاف وذلك لأنه قال: "عارية مضمونة" فجعل
الأدراع التي قبضها مضمونة, وهذا يقتضي ضمان عينها بالرد لا ضمان
قيمتها,; إذ لم يقل أضمن قيمتها; وغير جائز صرف اللفظ عن الحقيقة إلى
المجاز إلا بدلالة. وأيضا فيما ادعى المخالف إثبات ضمير في اللفظ لا
دلالة عليه وهو ضمان القيمة, ولا يجوز إثباته إلا بدلالة; ويدل على
أنها لم تكن مضمونة ضمان القيمة عند الهلاك أن النبي صلى الله عليه
وسلم لما فقد منها أدراعا قال لصفوان: "إن شئت غرمناها لك", فلو كان
ضمان القيمة قد حصل عليه لما قال: "إن شئت غرمناها لك" وهو غارم, فدل
ذلك على أن الغرم لم يجب بالهلاك وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما
أراد أن يغرمها إذا شاء ذلك صفوان متبرعا بالغرم ألا ترى أن النبي صلى
الله عليه وسلم لما استقرض من عبد الله بن ربيعة ثلاثين ألفا في هذه
الغزاة أيضا ثم أراد أن يردها إلى عبد الله أبى عبد الله أن يقبلها
فقال له: "خذها فإن جزاء القرض الوفاء والحمد "؟ فلو كان الغرم لازما
فيما فقد من الأدراع لما قال: "إن شئت غرمناها لك". ويدل على أنه لم
يكن ضامنا لقيمة ما فقد أنه قال: لا, فإن في قلبي اليوم من الإيمان ما
لم يكن قبل; وفي ذلك دليل على أنها لم تكن مضمونة القيمة; لأن ما كان
مضمونا لا يختلف حكمه في الإيمان والكفر. وقال بعض شيوخنا: إن صفوان
لما كان حربيا جاز أن يشرط له ذلك; إذ قد يجوز فيما بيننا وبين أهل
الحرب من الشروط ما لا يجوز فيما بيننا بعضنا لبعض ألا ترى أنه يجوز أن
يرتهن منهم الأحرار ولا يجوز مثله فيما بيننا؟ وكان
(2/262)
أبو الحسن
الكرخي يأبى هذا التأويل ويقول: لا يصح شرط الضمان لأهل الحرب فيما ليس
بمضمون ألا ترى أنه لو شرطنا لهم ضمان الودائع والمضاربات ونحوها لم
يصح؟.
واحتج من قال بضمان العارية بما رواه شعبة وسعيد بن أبي عروبة عن قتادة
عن الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على اليد ما
أخذت حتى تؤديه" ولا دلالة في هذا الحديث أيضا على موضع الخلاف; لأنه
إنما أوجب رد المأخوذ بعينه وليس فيه ذكر ضمان القيمة عند هلاكه, ونحن
نقول إن عليه رد العارية, فهذا لا خلاف فيه ولا تعلق له أيضا بموضع
الخلاف; والله تعالى أعلم بالصواب.
(2/263)
باب ما أمر الله تعالى به من الحكم بالعدل
قال الله تعالى: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا
بِالْعَدْلِ}, وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْأِحْسَانِ} [النحل: 90], وقال تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ
فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} [الأنعام: 152]. وحدثنا عبد
الباقي بن قانع قال: حدثنا عبد الله بن موسى بن أبي عثمان قال: حدثنا
عبيد بن حباب الحلي قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي الرجال عن إسحاق بن
يحيى بن طلحة بن عبيد الله قال: قال ثابت الأعرج: أخبرني أنس بن مالك
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال هذه الأمة بخير ما إذا قالت
صدقت وإذا حكمت عدلت وإذا استرحمت رحمت" . وحدثنا عبد الباقي قال:
حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا عبد الرحمن المقري عن كهمس بن الحسن عن
عبد الله الأسلمي قال: شتم رجل ابن عباس, فقال له ابن عباس: "إنك
لتشتمني وفي ثلاث خصال: إني لآتي على الآية من كتاب الله تعالى فلوددت
بالله أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم, وإني لأسمع بالحاكم من حكام
المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به ولعلي لا أقاضى إليه أبدا, وإني لأسمع
بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح به وما لي من سائمة".
وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال: حدثنا أبو عبيد
القاسم بن سلام قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن حميد
عن الحسن قال: "إن الله أخذ على الحكام ثلاثا: أن لا يتبعوا الهوى, وأن
يخشوه ولا يخشوا الناس, وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا ثم قرأ: {يَا
دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ
النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [صّ: 26] الآية; وقال
الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ
يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} إلى قوله تعالى:
{فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي
ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44].
(2/263)
باب في طاعة أولي الأمر
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} . قال أبو بكر:
اختلف في تأويل أولي الأمر, فروي عن جابر بن عبد الله وابن عباس رواية
والحسن وعطاء ومجاهد: "أنهم أولو الفقه والعلم", وعن ابن عباس رواية
وأبي هريرة: "أنهم أمراء السرايا". ويجوز أن يكونوا جميعا مرادين
بالآية; لأن الاسم يتناولهم جميعا; لأن الأمراء يلون أمر تدبير الجيوش
والسرايا وقتال العدو, والعلماء يلون حفظ الشريعة وما يجوز مما لا
يجوز, فأمر الناس بطاعتهم والقبول منهم ما عدل الأمراء والحكام وكان
العلماء عدولا مرضيين موثوقا بدينهم وأمانتهم فيما يؤدون; وهو نظير
قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا
تَعْلَمُونَ} [الانبياء: 7]. ومن الناس من يقول: إن الأظهر من أولي
الأمر ههنا أنهم الأمراء; لأنه قدم ذكر الأمر بالعدل; وهذا خطاب لمن
يملك تنفيذ الأحكام وهم الأمراء والقضاة, ثم عطف عليه الأمر بطاعة أولي
الأمر وهم ولاة الأمر الذين يحكمون عليهم ما داموا عدولا مرضيين وليس
بممتنع أن يكون ذلك أمرا بطاعة الفريقين من أولي الأمر وهم أمراء
السرايا والعلماء; إذ ليس في تقدم الأمر بالحكم بالعدل ما يوجب
الاقتصار بالأمر بطاعة أولي الأمر على الأمراء دون غيرهم. وقد روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أطاع أميري فقد أطاعني". وروى
الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: قام رسول الله صلى الله
عليه وسلم بالخيف من منى فقال: "نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها ثم
أداها إلى من لم يسمعها, فرب حامل فقه لا فقه له ورب حامل فقه إلى من
هو أفقه منه. ثلاث لا يغل1 عليهن قلب مؤمن: إخلاص العمل لله تعالى"
وقال بعضهم: "وطاعة ذوي الأمر" وقال بعضهم: "والنصيحة لأولي الأمر
ولزوم جماعة المسلمين, فإن دعوتهم تحيط من وراءهم". والأظهر من هذا
الحديث أنه أراد بأولي الأمر الأمراء. وقوله تعالى عقيب ذلك: {فَإِنْ
تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} يدل
على أن أولي الأمر هم الفقهاء; لأنه أمر سائر الناس بطاعتهم ثم قال:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ} , فأمر أولي الأمر برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة
نبيه صلى الله عليه وسلم; إذ كانت العامة ومن ليس من أهل العلم ليست
هذه منزلتهم; لأنهم لا يعرفون كيفية الرد إلى كتاب الله والسنة ووجوه
دلائلهما على أحكام الحوادث فثبت أنه خطاب للعلماء.
ـــــــ
1 قوله عليه السلام: "لا يغل" فيه روايتان, بفتح الياء وكسر الغين وبضم
الياء زكسر الغين, فمعنى الول: لا يدخل قلبه حقد يزيله عن الخق, ومعنى
الثاني: لا يكون في قلبه غش ولكن يكون مخلصا في هذه الأشياء لله تعالى.
"لمصححه".
(2/264)
مطلب:في إبطال قول الرافضة يشترط أن يكون الإمام معصوما
واستدل بعض أهل العلم على إبطال قول الرافضة في الإمامة بقوله تعالى:
{أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ} , قال: فليس يخلو أولو الأمر من أن يكونوا الفقهاء أو
الأمراء أو الإمام الذي يدعونه, فإن كان المراد الفقهاء والأمراء فقد
بطل أن يكون الإمام, والفقهاء والأمراء يجوز عليهم الغلط والسهو
والتبديل والتغيير وقد أمرنا بطاعتهم. وهذا يبطل أصل الإمامة فإن شرط
الإمام عندهم أن يكون معصوما لا يجوز عليه الغلط والخطأ والتبديل
والتغيير; ولا يجوز أن يكون المراد الإمام; لأنه قال في نسق الخطاب:
{فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ} , فلو كان هناك إمام مفروض الطاعة لكان الرد إليه واجبا
وكان هو يقطع الخلاف والتنازع, فلما أمر برد المتنازع فيه من الحوادث
إلى الكتاب والسنة دون الإمام دل ذلك على بطلان قولهم في الإمامة, ولو
كان هناك إمام تجب طاعته لقال: فردوه إلى الإمام; لأن الإمام عندهم هو
الذي يقضي قوله على تأويل الكتاب والسنة, فلما أمر بطاعة أمراء السرايا
والفقهاء وأمر برد المتنازع فيه من الحوادث إلى الكتاب والسنة دون
الإمام ثبت أن الإمام غير مفروض الطاعة في أحكام الحوادث المتنازع
فيها, وأن لكل واحد من الفقهاء أن يردها إلى نظائرها من الكتاب والسنة.
وزعمت هذه الطائفة أن المراد بقوله تعالى: {وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ} علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهذا تأويل فاسد; لأن أولي
الأمر جماعة وعلي بن أبي طالب رجل واحد. وأيضا فقد كان الناس مأمورين
بطاعة أولي الأمر في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن علي
بن أبي طالب لم يكن إماما في أيام النبي صلى الله عليه وسلم فثبت أن
أولي الأمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم كانوا أمراء وقد كان على
المولى عليهم طاعتهم ما لم يأمروهم بمعصية, وكذلك حكمهم بعد النبي صلى
الله عليه وسلم في لزوم اتباعهم وطاعتهم ما لم تكن معصية.
(2/265)
مطلب: قي
بيان مراد من قوله تعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ}
وقوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى
اللَّهِ وَالرَّسُولِ} روي عن مجاهد وقتادة وميمون بن مهران والسدي:
"إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم". قال أبو بكر:
وذلك عموم في وجوب الرد إلى كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم في
حياة النبي وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم. والرد إلى الكتاب والسنة
يكون من وجهين: أحدهما: إلى المنصوص عليه المذكور باسمه ومعناه,
والثاني: الرد إليهما من جهة الدلالة عليه واعتباره به من طريق القياس
والنظائر; وعموم اللفظ ينتظم الأمرين جميعا, فوجب إذا تنازعنا في شيء
رده إلى نص
(2/265)
الكتاب
والسنة إن وجدنا المتنازع فيه منصوصا على حكمه في الكتاب والسنة, وإن
لم نجد فيه نصا منهما وجب رده إلى نظيره منهما; لأنا مأمورون بالرد في
كل حال; إذ لم يخصص الله تعالى الأمر بالرد إليهما في حال دون حال.
وعلى أن الذي يقتضيه فحوى الكلام وظاهره الرد إليهما فيما لا نص فيه
وذلك لأن المنصوص عليه الذي لا احتمال فيه لغيره لا يقع التنازع فيه من
الصحابة مع علمهم باللغة ومعرفتهم بما فيه احتمال مما لا احتمال فيه,
فظاهر ذلك يقتضي رد المتنازع فيه إلى نظائره من الكتاب والسنة.
فإن قيل: إنما المراد بذلك ترك التنازع والتسليم لما في كتاب الله وسنة
رسول الله صلى الله عليه وسلم. قيل: إن ذلك خطاب للمؤمنين; لأنه قال
تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ} , فإن كان تأويله ما ذكرت فإن معناه: اتبعوا كتاب الله
وسنة نبيه وأطيعوا الله ورسوله; وقد علمنا أن كل من آمن ففي اعتقاده
للإيمان اعتقاد لالتزام حكم الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم فيؤدي
ذلك إلى إبطال فائدة قوله تعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ} وعلى أن ذلك قد تقدم الأمر به في أول الآية, وهو قوله
تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} فغير جائز حمل معنى
قوله تعالى: {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} على ما قد أفاده
بديا في أول الخطاب, ووجب حمله على فائدة مجددة وهو رد غير المنصوص
عليه وهو الذي وقع فيه التنازع إلى المنصوص عليه; وعلى أنا نرد جميع
المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة بحق العموم ولا نخرج منه شيئا بغير
دليل.
(2/266)
مطلب: يجوز الاجتهاد في حالين مع وجوده صلى الله عليه وسلم
فإن قيل: لما كانت الصحابة مخاطبين بحكم هذه الآية عند التنازع في حياة
النبي صلى الله عليه وسلم وكان معلوما أنه لم يكن يجوز لهم استعمال
الرأي والقياس في أحكام الحوادث بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم بل كان
عليهم التسليم له واتباع أمره دون تكلف الرد من طريق القياس, ثبت أن
المراد استعمال المنصوص وترك تكلف النظر والاجتهاد فيما لا نص فيه. قيل
له: هذا غلط وذلك; لأن استعمال الرأي والاجتهاد ورد الحوادث إلى
نظائرها من المنصوص قد كان جائزا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم في
حالين ولم يكن يجوز في حال; فأما الحالان اللتان كانتا يجوز فيهما
الاجتهاد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم فإحداهما في حال غيبتهم عن
حضرته, كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم معاذا حين بعثه إلى اليمن
فقال له: "كيف تقضي إن عرض لك قضاء؟" قال: أقضي بكتاب الله قال: فإن لم
يكن في كتاب الله؟ قال: أقضي بسنة نبي الله, قال: فإن لم يكن في كتاب
الله ولا في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي لا آلو, قال: فضرب بيده
على صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول
(2/266)
رسول الله
لما يرضي رسول الله"; فهذه إحدى الحالين اللتين كان يجوز الاجتهاد
فيهما في حياة النبي صلى الله عليه وسلم. والحال الأخرى: أن يأمره
النبي صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد بحضرته ورد الحادثة إلى نظيرها
ليستبرئ في اجتهاده وهل هو موضع لذلك, ولكن إن أخطأ وترك طريق النظر
أعلمه وسدده, وكان يعلمهم وجوب الاجتهاد في أحكام الحوادث بعده.
فالاجتهاد بحضرته على هذا الوجه سائغ, كما حدثنا عبد الباقي بن قانع
قال: حدثنا أسلم بن سهل قال: حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله قال:
حدثنا أبي عن حفص بن سليمان عن كثير بن شنظير عن أبي العالية عن عقبة
بن عامر قال: جاء خصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اقض
بينهما يا عقبة" قلت: يا رسول الله أقضي بينهما وأنت حاضر قال: "اقض
بينهما فإن أصبت فلك عشر حسنات وإن أخطأت فلك حسنة واحدة" ; فأباح له
النبي صلى الله عليه وسلم الاجتهاد بحضرته على الوجه الذي ذكرنا وأمر
النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وعقبة بن عامر بالاجتهاد صدر عندنا عن
الآية, وهو قوله تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ
إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} لأنا متى وجدنا من النبي صلى الله عليه
وسلم حكما مواطئا لمعنى قد ورد به القرآن حملناه على أنه حكم به عن
القرآن وأنه لم يكن حكما مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم كنحو قطعه
السارق وجلده الزاني وما جرى مجراهما; فقول القائل" إن الاجتهاد في
أحكام الحوادث لم يكن سائغا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وإن رد
المتنازع فيه إلى الكتاب والسنة كان واجبا حينئذ, فدل على أن المراد به
ترك الاختلاف والتنازع والتسليم للمنصوص عليه في الكتاب والسنة" غير
صحيح. وأما الحال التي لم يكن يسوغ الاجتهاد فيها في حياة النبي صلى
الله عليه وسلم فهو أن يجتهد بحضرته على جهة إمضاء الحكم والاستبداد
بالرأي لا على الوجه الذي قدمناه, فهذا لعمري اجتهاد مطرح لا حكم له,
ولم يكن يسوغ ذلك لأحد, والله أعلم.
(2/267)
باب وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم
قال الله تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} , وقال
تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ
اللَّهِ} , وقال تعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ
اللَّهَ}, وقال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} فأكد
جل وعلا بهذه الآيات وجوب طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأبان أن
طاعته طاعة الله, وأفاد بذلك أن معصيته معصية الله; وقال الله تعالى:
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63], فأوعد على
مخالفة أمر الرسول, وجعل مخالف أمر الرسول والممتنع من تسليم ما جاء به
والشاك فيه خارجا من الإيمان بقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا
يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا
تَسْلِيماً}
(2/267)
قيل في
الحرج ههنا إنه الشك, روي ذلك عن مجاهد. وأصل الحرج الضيق, وجائز أن
يكون المراد التسليم من غير شك في وجوب تسليمه ولا ضيق صدر به بل
بانشراح صدر وبصيرة ويقين.
وفي هذه الآية دلالة على أن من رد شيئا من أوامر الله تعالى أو أوامر
رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج من الإسلام سواء رده من جهة الشك
فيه أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم, وذلك يوجب صحة ما ذهب
إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة وقتلهم وسبي
ذراريهم; لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي صلى الله عليه وسلم
قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان.
فإن قيل: إذا كانت طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة الله تعالى
فهلا كان أمر الرسول أمر الله تعالى قيل له: إنما كانت طاعته طاعة الله
بموافقتها إرادة كل واحد منهما أوامره, وأما الأمر فهو قول القائل"
افعل" ولا يجوز أن يكون أمرا واحدا لآمرين كما لا يكون فيه قول واحد من
قائلين ولا فعل واحد من فاعلين.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ
فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} قيل: الثبات الجماعات,
واحدها ثبة. وقيل: الثبة عصبة منفردة من عصب. فأمرهم الله بأن ينفروا
فرقا فرقة بعد فرقة, فرقة في جهة وفرقة في جهة, أو ينفروا جميعا من غير
تفرق; وروي ذلك عن ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة. وقوله تعالى:
{خُذُوا حِذْرَكُمْ} معناه: خذوا سلاحكم, فسمى السلاح حذرا; لأنه يتقى
به الحذر; ويحتمل: احذروا عدوكم بأخذ سلاحكم, كقوله تعالى:
{وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] فانتظمت
هذه الآية الأمر بأخذ السلاح لقتال العدو على حال افتراق العصب أو
اجتماعها بما هو أولى في التدبير. والنفور هو الفزع, نفر ينفر نفورا
إذا فزع, ونفر إليه إذا فزع من أمر إليه; والمعنى: انفروا إلى قتال
عدوكم; والنفر جماعة تفزع إلى مثلها, والنفير إلى قتال العدو,
والمنافرة: المحاكمة للفزع إليها فيما ينوب من الأمور التي يختلف فيها;
ويقال إن أصلها أنهم كانوا يسألون الحاكم: أينا أعز نفرا؟.
وقد روي في هذه الآية نسخ; روى ابن جريج وعثمان بن عطاء عن ابن عباس في
قوله تعالى: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً} قال: "عصبا
وفرقا". وقال في براءة: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة: 41]
الآية, وقال: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً}
[التوبة: 39] الآية. قال: فنسخ هذه الآيات قوله تعالى: {وَمَا كَانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً
(2/268)
فَلَوْلا
نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ} [التوبة: 122] وتمكث
طائفة منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فالماكثون مع النبي صلى
الله عليه وسلم هم الذين يتفقهون في الدين وينذرون إخوانهم إذا رجعوا
إليهم من الغزوات لعلهم يحذرون ما نزل من قضاء الله في كتابه وحدوده.
قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} .
قيل: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في طاعة الله; لأنها تؤدي إلى ثواب الله في
جنته التي أعدها لأوليائه, وقيل: دين الله الذي شرعه ليؤدي إلى ثوابه
ورحمته, فيكون تقديره: في نصرة دين الله تعالى. وقيل في الطاغوت إنه
الشيطان, قاله الحسن والشعبي. وقال أبو العالية: "هو الكاهن". وقيل:
"كل ما عبد من دون الله".
وقوله تعالى: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} الكيد هو
السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال والقصد لإيقاع الضرر قال الحسن:
"إنما قال: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} لأنه كان
أخبرهم أنهم يستظهرون عليهم, فلذلك كان ضعيفا". وقيل: إنما سماه ضعيفا
لضعف نصرته لأوليائه بالإضافة إلى نصرة الله للمؤمنين.
قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا
فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}, فإن الاختلاف على ثلاثة أوجه: اختلاف
تناقض بأن يدعو أحد الشيئين إلى فساد الآخر, واختلاف تفاوت وهو أن يكون
بعضه بليغا وبعضه مرذولا ساقطا; وهذان الضربان من الاختلاف منفيان عن
القرآن, وهو إحدى دلالات إعجازه; لأن كلام سائر الفصحاء والبلغاء إذا
طال مثل السور الطوال من القرآن لا يخلو من أن يختلف اختلاف التفاوت.
والثالث: اختلاف التلاؤم, وهو أن يكون الجميع متلائما في الحسن,
كاختلاف وجوه القراءات ومقادير الآيات واختلاف الأحكام في الناسخ
والمنسوخ. فقد تضمنت الآية الحض على الاستدلال بالقرآن لما فيه من وجوه
الدلالات على الحق الذي يلزم اعتقاده والعمل به.
قوله تعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي
الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}
قال الحسن وقتادة وابن أبي ليلى: "هم أهل العلم والفقه", وقال السدي:
"الأمراء والولاة". قال أبو بكر: يجوز أن يريد به الفريقين من أهل
الفقه والولاة لوقوع الاسم عليهم جميعا. فإن قيل: أولوا الأمر من يملك
الأمر بالولاية على الناس, وليست هذه صفة أهل العلم. قيل له: إن الله
تعالى لم يقل" من يملك الأمر بالولاية على الناس" وجائز أن يسمى
الفقهاء أولي الأمر لأنهم يعرفون أوامر الله ونواهيه ويلزم غيرهم قبول
قولهم فيها, فجائز أن يسموا أولي الأمر من هذا الوجه كما قال في آية
أخرى: {لِيَتَفَقَّهُوا
(2/269)
فِي
الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ
لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122], فأوجب الحذر بإنذارهم وألزم
المنذرين قبول قولهم, فجاز من أجل ذلك إطلاق اسم أولي الأمر عليهم;
والأمراء أيضا يسمون بذلك لنفاذ أمورهم على من يلون عليه.
وقوله تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} , فإن
الاستنباط هو الاستخراج, ومنه استنباط المياه والعيون; فهو اسم لكل ما
استخرج حتى تقع عليه رؤية العيون أو معرفة القلوب; والاستنباط في الشرع
نظير الاستدلال والاستعلام.
(2/270)
مطلب: فيما دلت عليه هذه الآية من وجوب القول بالقياس
وفي هذه الآية دلالة على وجوب القول بالقياس واجتهاد الرأي في أحكام
الحوادث; وذلك لأنه أمر برد الحوادث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في
حياته إذا كانوا بحضرته وإلى العلماء بعد وفاته والغيبة عن حضرته صلى
الله عليه وسلم; وهذا لا محالة فيما لا نص فيه لأن المنصوص عليه لا
يحتاج إلى استنباطه, فثبت بذلك أن من أحكام الله ما هو منصوص عليه
ومنها ما هو مودع في النص قد كلفنا الوصول إلى علمه بالاستدلال عليه
واستنباطه فقد حوت هذه الآية معاني: منها أن في أحكام الحوادث ما ليس
بمنصوص عليه بل مدلول عليه. ومنها أن على العلماء استنباطه والتوصل إلى
معرفته برده إلى نظائره من المنصوص. ومنها أن العامي عليه تقليد
العلماء في أحكام الحوادث. ومنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان
مكلفا باستنباط الأحكام والاستدلال عليها بدلائلها; لأنه تعالى أمر
بالرد إلى الرسول, وإلى أولي الأمر, ثم قال: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ
يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ولم يخص أولي الأمر بذلك دون الرسول; وفي
ذلك دليل على أن للجميع الاستنباط والتوصل إلى معرفة الحكم بالاستدلال.
فإن قيل: ليس هذا استنباطا في أحكام الحوادث, إنما هو في الأمن والخوف
من العدو, لقوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ
الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى
أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ
مِنْهُمْ} فإنما ذلك في شأن الأراجيف التي كان المنافقون يرجفون بها,
فأمرهم الله بترك العمل بها ورد ذلك إلى الرسول, وإلى الأمراء حتى لا
يفتوا1 في أعضاد المسلمين إن كان شيء يوجب الخوف, وإن كان شيئا يوجب
الأمن لئلا يأمنوا فيتركوا الاستعداد للجهاد والحذر من الكفار; فلا
دلالة في ذلك على جواز الاستنباط في أحكام الحوادث. قيل له: قوله
تعالى: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ} ليس
بمقصور على أمر العدو; لأن الأمن والخوف قد يكونان فيما
ـــــــ
1 قوله: "لا يفتوا" يقال فت في عضد فلان أي أضعفه وأوهنه. "لمصححه".
(2/270)
يتعبدون
به من أحكام الشرع فيما يباح ويحظر وما يجوز وما لا يجوز, ذلك كله من
الأمن والخوف; فإذا ليس في ذكره الأمن والخوف دلالة على وجوب الاقتصار
به على ما ينفق من الأراجيف بالأمن والخوف في أمر العدو, بل جائز أن
يكون عاما في الجميع, وحظر به على العامي أن يقول في شيء من حوادث
الأحكام ما فيه حظر أو إباحة أو إيجاب أو غير ذلك, وألزمهم رده إلى
الرسول وإلى أولي الأمر منهم ليستنبطوا حكمه بالاستدلال عليه بنظائره
من المنصوص. وأيضا فلو سلمنا لك أن نزول الآية مقصور على الأمن والخوف
من العدو; لكانت دلالته قائمة على ما ذكرنا; لأنه إذا جاز استنباط
تدبير الجهاد ومكايد العدو بأخذ الحذر تارة والإقدام في حال والإحجام
في حال أخرى, وكان جميع ذلك مما تعبدنا الله به ووكل الأمر فيه إلى
آراء أولي الأمر واجتهادهم فقد ثبت وجوب الاجتهاد في أحكام الحوادث من
تدبير الحروب ومكايد العدو وقتال الكفار, فلا فرق بينه وبين الاجتهاد
والاستدلال على النظائر من سائر الحوادث من العبادات وفروع الشريعة,
إذا كان جميع ذلك من أحكام الله تعالى, ويكون المانع من الاجتهاد
والاستنباط في مثله كمن أباح الاستنباط في البيوع خاصة ومنعه في
المناكحات أو أباحه في الصلاة ومنعه في المناسك, وهذا خلف من القول.
فإن قيل: ليس الاستنباط مقصورا على القياس واجتهاد الرأي دون الاستدلال
بالدليل الذي لا يحتمل في اللغة إلا معنى واحدا. قيل له: الدليل الذي
لا يحتمل في اللغة إلا معنى واحدا لا يقع بين أهل اللغة فيه تنازع; إذ
كان أمرا معقولا في اللفظ, فهذا ليس باستنباط بل هو في مفهوم الخطاب,
وذلك عندنا نحو قوله تعالى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الاسراء: 23]
أنه دلالة على النهي عن الضرب والشتم والقتل ونحوه, وهذا لا يقع في
مثله خلاف; فإن أردت بالدليل الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا هذا الضرب
من دلائل الخطاب فإن هذا لا تنازع فيه ولا يحتاج فيه إلى استنباط. وإن
أردت بالدليل تخصيص الشيء بالذكر فيكون دلالة على أن ما عداه فحكمه
بخلافه, فإن هذا ليس بدليل, وقد بيناه في أصول الفقه; ولو كان هذا ضربا
من الدليل لما أغفلته الصحابة ولاستدلت به على أحكام الحوادث, ولو
فعلوا هذا لاستفاض ذلك عنهم وظهر, فلما لم ينقل ذلك عنهم دل على سقوط
قولك. وأيضا لو كان هذا ضربا من الاستدلال لم يمنع ذلك إيجاب الاستنباط
فيما لا طريق إليه إلا من جهة الرأي والقياس; إذ ليس يوجد في كل حادثة
هذا الضرب من الدلالة, وقد أمرنا باستنباط سائر ما لا نص فيه فما لم
نجد فيه من الحوادث هذا الضرب من الدليل, فعلينا استنباط حكمه من طريق
القياس والاجتهاد; إذ لا سبيل لنا إليه إلا من هذه الجهة.
(2/271)
فإن قيل:
لما قال تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ولم
يكن دليل القياس مفضيا بنا إلى العلم بمدلوله; إذ كان القائس يجوز على
نفسه الخطأ ولا يجوز القطع بأن ما أداه إليه قياسه واجتهاده هو الحق
عند الله, علمنا أنه لم يرد الاستنباط من طريق القياس والاجتهاد. قيل
له: قوله: "إن القائس لا يقطع بأن قياسه هو الحق عند الله" خطأ لا نقول
به وذلك أن ما كان طريقه الاجتهاد فإن المجتهد ينبغي له أن يقطع بأن ما
أداه إليه اجتهاده هو الحق عند الله, وهذا عندنا علم منه بأن هذا حكم
الله عليه, فاستنباطه حكم الحوادث من طريق الاجتهاد يوجب العلم بصحة
موجبه وما أداه إليه اجتهاده. وهذه الآية أيضا تدل على بطلان قول
القائلين بالإمامة; لأنه لو كان كل شيء من أحكام الدين منصوصا عليه
لعرفه الإمام ولزال موضع الاستنباط وسقط الرد إلى أولي الأمر, بل كان
الواجب الرد إلى الإمام الذي يعرف صحة ذلك من باطله من جهة النص.
قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ
مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} قال أهل اللغة: التحية الملك, ومنه قول
الشاعر:
أسير به إلى النعمان حتى ... أنيخ على تحيته بجند
يعني: على ملكه. ومعنى قوله: "حياك الله" أي" ملكك الله". ويسمى السلام
تحية أيضا; لأنهم كانوا يقولون حياك الله فأبدلوا منه بعد الإسلام
بالسلام وأقيم مقام قولهم حياك الله. قال أبو ذر: كنت أول من حيا رسول
الله صلى الله عليه وسلم بتحية الإسلام فقلت: السلام عليك ورحمة الله.
وقال النابغة:
يحيون بالريحان يوم السباسب1
يعني أنهم يعطون الريحان. ويقال لهم" حياكم الله" والأصل فيه ما ذكرنا
من أنه ملكك الله; فإذا حملنا قوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ
بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} على حقيقته
أفاد أن من ملك غيره شيئا بغير بدل فله الرجوع فيه ما لم يثب منه, فهذا
يدل على صحة قول أصحابنا فيمن وهب لغير ذي رحم أن له الرجوع فيها ما لم
يثب منها, فإذا أثيب منها فلا رجوع له فيها; لأنه أوجب أحد شيئين من
ثواب أو رد لما جيء به.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجوع في الهبة ما حدثنا محمد
بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا سليمان بن داود المهري قال:
أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني أسامة بن
ـــــــ
1 قوله: "السباسب" هو عيد للنصارى ويسمونه يوم الشانين, وفي الحديث:
"إن الله أبدلكم بيوم السباسب يوم العيد". "لمصححه".
(2/272)
زيد أن
عمرو بن شعيب حدثه عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "مثل الذي يسترد ما وهب كمثل الكلب يقيء قيأه,
فإذا استرد الواهب فليوقف وليعرف1 بما استرد ثم ليدفع إليه ما وهب".
وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا وكيع عن إبراهيم بن إسماعيل بن
مجمع عن عمرو بن دينار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "الرجل أحق بهبته ما لم يثب منها" . وروى ابن عباس وابن عمر أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لرجل يعطي عطية أو يهب هبة
فيرجع فيها. إلا الوالد2 فيما يعطي ولده, ومثل الذي يعطي العطية ثم
يرجع فيها كمثل الكلب يأكل فإذا شبع قاء ثم عاد في قيئه" وهذا الخبر
يدل على معنيين: أحدهما: صحة الرجوع في الهبة, والآخر: كراهته وأنه من
لؤم الأخلاق ودناءتها في العادات وذلك لأنه شبه الراجع في الهبة بالكلب
يعود في قيئه. وهو يدل من وجهين على ما ذكرنا: أحدهما: أنه شبهه بالكلب
إذا عاد في قيئه, ومعلوم أنه ليس بمحرم على الكلب, فما شبهه به فهو
مثله. والثاني: أنه لو كان الرجوع في الهبة لا يصح بحال لما شبه الراجع
بالكلب العائد في القيء, لأنه لا يجوز تشبيه ما لا يقع بحال بما قد صح
وجوده. وهذا يدل أيضا على صحة الرجوع في الهبة مع استقباح هذا الفعل
وكراهته. وقد روي الرجوع في الهبة لغير ذي الرحم المحرم عن علي وعمر
وفضالة بن عبيد من غير خلاف من أحد من الصحابة رضي الله عنهم. وقد روي
عن جماعة من السلف أن ذلك في رد السلام, منهم جابر بن عبد الله. وقال
الحسن: "السلام تطوع ورده فريضة" وذكر الآية.
ثم اختلف في. أنه خاص في أهل الإسلام أو عام في أهل الإسلام وأهل
الكفر, فقال عطاء: "هو في أهل الإسلام خاصة". وقال ابن عباس وإبراهيم
وقتادة: "هو عام في الفريقين" وقال الحسن: "تقول للكافر وعليكم ولا تقل
ورحمة الله لأنه لا يجوز الاستغفار للكفار". وقد روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "لا تبدءوا اليهود بالسلام فإن بدءوكم فقولوا
وعليكم" . وقال أصحابنا رد السلام فرض على الكفاية, إذا سلم على جماعة
فرد واحد منهم أجزأ. وأما قوله تعالى: {بِأَحْسَنَ مِنْهَ} إذا أريد به
رد السلام فهو الزيادة في الدعاء, وذلك إذا قال: "السلام عليكم" يقول
هو: "وعليكم السلام
ـــــــ
1 قوله: "فليوقف وليعرف" لفظهما مبني للمفعول من باب التفعيل, هكذا في
أبي داود, ومثله في جامع الأصول والجامع الكبير للسيوطي. والذي ظهر أن
معناه يعرف الواهب بكراهة استرداده لما وهبه لعله تدع عن ذلك, فإذا لم
يرتدع يدفع إليه ما وهب. "لمصححه".
2 قوله: إلا الوالد فيما يعطى ولده" هكذا في سنن أبي داود ومثله في
جامع الصول قال ابن رسلان: قال بهذا الاستثناء مالك والشافعي.
"لمصححه".
(2/273)
ورحمة
الله" وإذا قال: "السلام عليكم ورحمة الله" قال هو: "وعليكم السلام
ورحمة الله وبركاته".
قوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ
أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا} روي عن ابن عباس: "أنها نزلت في قوم
أظهروا الإسلام بمكة وكانوا يعينون المشركين على المسلمين" وروي مثله
عن قتادة. وقال الحسن ومجاهد: "نزلت في قوم قدموا المدينة فأظهروا
الإسلام ثم رجعوا إلى مكة فأظهروا الشرك". وقال زيد بن ثابت: "نزلت في
الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وقالوا لو نعلم
قتالا لاتبعناكم". وفي نسق الآية دلالة على خلاف هذا التأويل الأخير
وأنهم من أهل مكة, وهو قوله تعالى: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ
أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
وقوله تعالى: {أَرْكَسَهُمْ} قال ابن عباس: "ردهم". وقال قتادة:
"أركسهم أهلكهم". وقال غيرهم: "أركسهم نكسهم". قال الكسائي: "أركسهم
وركسهم بمعنى" وإنما المعنى ردهم في حكم الكفر من الصغار والذلة, وقيل
من السبي والقتل; لأنهم أظهروا الارتداد بعدما كانوا على النفاق. وإنما
وصفوا بالنفاق وقد أظهروا الارتداد عن الإسلام لأنهم نسبوا إلى ما
كانوا عليه قبل من إضمار الكفر, قاله الحسن. وقال النحويون: هذا يحسن
مع علم التعريف وهو الألف واللام, كما تقول: "هذه العجوز هي الشابة"
يعني هي التي كانت شابة, ولا يجوز" هذه شابة". فأبان تعالى للمسلمين
بهذه الآية عن أحوال هذه الطائفة من المنافقين أنهم يظهرون لكم الإسلام
وإذا رجعوا إلى قومهم أظهروا الكفر والردة, ونهى المسلمين عن أن يحسنوا
بهم الظن وأن يجادلوا عنهم.
قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ
سَوَاءً} يعني هذه الطائفة أخبر بذلك عن ضمائرهم واعتقاداتهم لئلا يحسن
المؤمنون بهم الظن وليعتقدوا معاداتهم والبراءة منهم.
وقوله تعالى: {فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى
يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} يعني والله أعلم: حتى يسلموا
ويهاجروا; لأن الهجرة بعد الإسلام, وأنهم وإن أسلموا لم تكن بيننا
وبينهم موالاة إلا بعد الهجرة, وهو كقوله تعالى: {ا مَا لَكُمْ مِنْ
وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] وهذا في
حال ما كانت الهجرة فرضا; وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من
كل مسلم أقام بين أظهر المشركين, وأنا بريء من كل مسلم أقام مع مشرك
قيل: ولم يا رسول الله؟ قال: لا تراءى ناراهما" . فكانت الهجرة فرضا
إلى أن فتحت مكة فنسخ فرض الهجرة. حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو
داود قال: حدثنا
(2/274)
عثمان بن
أبي شيبة قال: حدثنا جرير عن منصور عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "لا هجرة ولكن جهاد
ونية وإذا استنفرتم فانفروا" . حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود
قال: حدثنا مؤمل بن الفضل قال: حدثنا الوليد عن الأوزاعي عن الزهري عن
عطاء بن يزيد عن أبي سعيد الخدري: أن أعرابيا سأل النبي صلى الله عليه
وسلم عن الهجرة, فقال: "ويحك إن شأن الهجرة شديد فهل لك من إبل؟" قال:
نعم, قال: "فهل تؤدي صدقتها؟" قال: نعم, قال: "فاعمل من وراء البحار
فإن الله لن يترك من عملك شيئا" فأباح النبي صلى الله عليه وسلم ترك
الهجرة. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسدد قال:
حدثنا يحيى عن إسماعيل بن أبي خالد قال: حدثنا عامر قال: أتى رجل عبد
الله بن عمرو فقال: أخبرني بشيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "المسلم من سلم
المسلمون من لسانه ويده, والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه" . وروي عن
الحسن أن حكم الآية ثابت في كل من أقام في دار الحرب فرأى فرض الهجرة
إلى دار الإسلام قائما.
وقوله تعالى: {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ} فإنه روي عن ابن عباس: "فإن
تولوا عن الهجرة". قال أبو بكر: يعني والله أعلم: فإن تولوا عن الإيمان
والهجرة; لأن قوله تعالى: {حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} قد
انتظم الإيمان والهجرة جميعا, وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} راجع إليهما;
ولأن من أسلم حينئذ ولم يهاجر لم يجب قتله في ذلك الوقت, فدل على أن
المراد: فإن تولوا عن الإيمان والهجرة فخذوهم واقتلوهم.
وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} , قال أبو عبيد: يصلون بمعنى ينتسبون إليهم,
كما قال الأعشى:
إذا اتصلت قالت أبكر بن وائل ... وبكر سبتها والأنوف رواغم
وقال زيد الخير:
إذا اتصلت تنادي يا لقيس ... وخصت بالدعاء بني كلاب
قال أبو بكر: الانتساب يكون بالرحم ويكون بالحلف وبالولاء, وجائز أن
يدخل فيه أيضا رجل في عهدهم على حسب ما كان بين رسول الله صلى الله
عليه وسلم وبين قريش من الموادعة فدخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم ودخلت بنو كنانة في عهد قريش. وقيل إن الآية منسوخة;
حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال:
حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء الخراساني
عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} إلى قوله تعالى:
(2/275)
{فَمَا
جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً}, وفي قوله تعالى: {لا
يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ
وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8] قال: ثم نسخت هذه الآيات: {بَرَاءَةٌ مِنَ
اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
[التوبة:1] إلى قوله: {وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
[التوبة: 11]. وقال السدي في قوله: { إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى
قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}: إلا الذين يدخلون في قوم
بينكم وبينهم أمان فلهم منه مثل ما لهم". وقال الحسن: "هؤلاء بنو مدلج,
كان بينهم وبين قريش عهد وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش
عهد, فحرم الله تعالى من بني مدلج ما حرم من قريش".
(2/276)
مطلب: إذا عقد الإمام عهدا بينه زبين قوم يدخل من كان في حيزهم وأهل
نصرتهم
قال أبو بكر: إذا عقد الإمام عهدا بينه وبين قوم من الكفار فلا محالة
يدخل فيه من كان في حيزهم ممن ينسب إليهم بالرحم أو الحلف أو الولاء
بعد أن يكون في حيزهم ومن أهل نصرتهم, وأما من كان من قوم آخرين فإنه
لا يدخل في العهد ما لم يشرط, ومن شرط من أهل قبيلة أخرى دخوله في عهد
المعاهدين فهو داخل فيهم إذا عقد العهد على ذلك كما دخلت بنو كنانة في
عهد قريش.
وأما قول من قال: "إن ذلك منسوخ" فإنما أراد أن معاهدة المشركين
وموادعتهم منسوخة بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5], فهو كما قال; لأن الله أعز الإسلام
وأهله, فأمروا أن لا يقبلوا من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف لقوله
تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ
وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ
تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا
سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] فهذا حكم ثابت في مشركي العرب, فنسخ به
الهدنة والصلح وأقرهم على الكفر وأمرنا في أهل الكتاب بقتالهم حتى
يسلموا أو يعطوا الجزية بقوله تعالى: {"قَاتِلُوا الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] إلى
قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}
[التوبة: 29] فغير جائز للإمام أن يقر أحدا من أهل سائر الأديان على
الكفر من غير جزية. وأما مشركو العرب فقد كانوا أسلموا في زمن الصحابة
ورجع من ارتد منهم إلى الإسلام بعدما قتل من قتل منهم, فهذا وجه صحيح
في نسخ معاهدة أهل الكفر على غير جزية والدخول في الذمة على أن تجري
عليهم أحكامنا فكان ذلك حكما ثابتا بعدما أعز الله الإسلام وأظهر أهله
على سائر المشركين, فاستغنوا بذلك عن العهد والصلح. إلا أنه إن احتيج
إلى ذلك في وقت لعجز المسلمين عن مقاومتهم أو خوف منهم على أنفسهم أو
(2/276)
ذراريهم,
جاز لهم مهادنة العدو ومصالحته من غير جزية يؤدونها إليهم; لأن حظر
المعاهدة والصلح إنما كان بسبب قوتهم على العدو واستعلائهم عليهم, وقد
كانت الهدنة جائزة مباحة في أول الإسلام, إنما حظرت لحدوث هذا السبب,
فمتى زال السبب وعاد الأمر إلى الحال التي كان المسلمون عليها من خوفهم
العدو على أنفسهم عاد الحكم الذي كان من جواز الهدنة; وهذا نظير ما
ذكرنا من نسخ التوارث بالحلف والمعاقدة بذوي الأرحام, فمتى لم يترك
وارثا عاد حكم التوارث بالمعاقدة.
قوله عز وجل: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ
يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ} قال الحسن والسدي: "ضاقت
صدورهم على أن يقاتلوكم" والحصر الضيق, ومنه الحصر في القراءة لأنه
ضاقت عليه المذاهب فلم يتوجه لقراءته, ومنه المحصور في حبس أو نحوه.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: قال هلال بن عويمر الأسلمي: "هو الذي حصر
صدره أن يقاتل المسلمين أو يقاتل قومه وبينه وبين رسول الله صلى الله
عليه وسلم حلف".
قال أبو بكر: ظاهره يدل على أن الذين حصرت صدورهم كانوا قوما مشركين
محالفين للنبي صلى الله عليه وسلم ضاقت صدورهم أن يكونوا مع قومهم على
المسلمين لما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم من العهد وأن
يقاتلوا مع المسلمين ذوي أرحامهم وأنسابهم, فأمر الله تعالى المسلمين
بالكف عن هؤلاء إذا اعتزلوهم فلم يقاتلوا المسلمين وإن لم يقاتلوا
المشركين مع المسلمين. ومن الناس من يقول إن هؤلاء كانوا قوما مسلمين
كرهوا قتال قومهم من المشركين لما بينهم وبينهم من الرحم, وظاهر الآية
وما روي في تفسيرها يدل على خلاف ذلك; لأن المسلمين لم يقاتلوا
المسلمين قط في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وإن قعدوا عن القتال
معهم ولا كانوا قط مأمورين بقتال أمثالهم.
وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ
فَلَقَاتَلُوكُمْ} يعني إن قاتلتموهم ظالمين لهم; يدل على أنهم لم
يكونوا مسلمين.
وقوله تعالى: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ
وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ
عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} يقتضي أن يكونوا مشركين, إذ ليس ذلك من صفات أهل
الإسلام; فدل ذلك على أن هؤلاء كانوا قوما مشركين بينهم وبين النبي صلى
الله عليه وسلم حلف, فأمر الله تعالى نبيه أن يكف عنهم إذا اعتزلوا
قتال المسلمين والمشركين وأن لا يكلفهم قتال قومهم من أهل الشرك أيضا.
والتسليط المذكور في الآية له وجهان: أحدهما: تقوية قلوبهم ليقاتلوكم,
والثاني إباحة القتال لهم في الدفع عن أنفسهم.
قوله تعالى: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ
وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ}, قال مجاهد:
(2/277)
"نزلت في
قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون ثم
يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا
وههنا, فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا يصلحوا". وذكر أسباط عن السدي قال:
"نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي, وكان يأمن في المسلمين والمشركين
فينقل الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين, فقال:
{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا
قَوْمَهُمْ} . وظاهر الآية يدل على أنهم كانوا يظهرون الإيمان إذا
جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأنهم إذا رجعوا إلى قومهم أظهروا
الكفر, لقوله تعالى: {كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا
فِيهَا} , والفتنة ههنا الشرك; وقوله: {أُرْكِسُوا فِيهَا} يدل على
أنهم قبل ذلك كانوا مظهرين للإسلام, فأمر الله تعالى المؤمنين بالكف عن
هؤلاء أيضا إذا اعتزلونا وألقوا إلينا السلم, وهو الصلح, كما أمرنا
بالكف عن الذين يصلون إلى قوم بيننا وبينهم ميثاق وعن الذين جاءونا وقد
حصرت صدورهم; وكما قال في آية أخرى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ
الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ
دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} [الممتحنة: 8] وكما قال: {وَقَاتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190], فخص
الأمر بالقتال لمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا, ثم نسخ ذلك بقوله:
{فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] على
ما قدمنا من الرواية عن ابن عباس.
ومن الناس من يقول إن هذه الآيات غير منسوخة وجائز للمسلمين ترك قتال
من لا يقاتلهم من الكفار, إذ لم يثبت أن حكم هذه الآيات في النهي عن
قتال من اعتزلنا وكف عن قتالنا منسوخ. وممن حكي عنه أن فرض الجهاد غير
ثابت ابن شبرمة وسفيان الثوري, وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى.
إلا أن هذه الآيات فيها حظر قتال من كف عن قتالنا من الكفار, ولا نعلم
أحدا من الفقهاء يحظر قتال من اعتزل قتالنا من المشركين وإنما الخلاف
في جواز ترك قتالهم لا في حظره فقد حصل الاتفاق من الجميع على نسخ حظر
القتال لمن كان وصفه ما ذكرنا والله الموفق للصواب.
(2/278)
باب قتل الخطإ
قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً
إِلَّا خَطَأً} . قال أبو بكر: قد اختلف في معنى" كان" ههنا, فقال
قتادة: "معناه ما كان له ذلك في حكم الله وأمره". وقال آخرون: "ما كان
له سبب جواز قتل". وقال آخرون: "ما كان له ذلك فيما سلف كما ليس له
الآن".
(2/278)
مطلب: في
معنى الاستثناء في قوله تعالى : { إِلَّا خَطَأً} وفيه فوائد شريفة
واختلف أيضا في معنى "إلا" فقال قائلون: هو استثناء منقطع بمعنى لكن قد
يقتله خطأ, فإذا وقع ذلك فحكمه كيت وكيت, وهو كما قال النابغة:
وقفت فيها أصيلالا أسائلها ... عيت جوابا وما بالربع من أحد
إلا الأواري لأيا ما أبينها ... والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
وقال آخرون: هو استثناء صحيح قد أفاد أن له أن يقتله خطأ في بعض
الأحوال, وهو أن يرى عليه سيما المشركين أويجده في حيزهم فيظنه مشركا
فجائز له قتله وهو خطأ; كما روي عن الزهري عن عروة بن الزبير: أن حذيفة
بن اليمان قاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد فأخطأ
المسلمون يومئذ بأبيه يحسبونه من العدو وكروا عليه بأسيافهم, فطفق
حذيفة يقول: إنه أبي فلم يفهموا قوله حتى قتلوه, فقال عند ذلك: يغفر
الله لكم وهو أرحم الراحمين فبلغت النبي صلى الله عليه وسلم فزادت
حذيفة عنده خيرا. ومن الناس من يقول معناه: ولا خطأ; لأن قتل المؤمن
غير مباح بحال قتال فغير جائز أن يكون الاستثناء محمولا على حقيقته.
وهذا ليس بشيء من وجهين: أحدهما: أن" إلا" لم توجد بمعنى" ولا".
والثاني: ما أنكره من امتناع إباحة قتل الخطإ موجود في حظره لأن الخطأ
إن كان لا تصح إباحته لأنه غير معلوم عنده أنه خطأ, فكذلك لا يصح حظره
ولا النهي عنه. وقال آخرون: قد تضمن قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ
أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً} إيجاب العقاب لقاتله لاقتضاء
إطلاق النهي لذلك وأفاد بذلك استحقاق المأثم, ثم قال: {إِلَّا خَطَأً}
فإنه لا مأثم على فاعله, إنما أدخل الاستثناء على ما تضمنه اللفظ من
استحقاق المأثم وأخرج منه قاتل الخطإ, والاستثناء مستعمل في موضعه على
هذا القول غير معدول به عن وجهه, إنما دخل على المأثم المستحق بالقتل
وأخرج قاتل الخطإ منه ولم يدخل على فعل القاتل فيكون مبيحا لما حظره
بلفظ الجملة.
قال أبو بكر: وهذا وجه صحيح سائغ; وتأويل من تأوله على إباحة قتل الخطإ
فيمن يظنه مشركا فإنه معلوم أنه لم يصح له ذلك إلا على الصفة المشروطة
إن كان ذلك إباحة, وهو أن يكون ذلك خطأ عند القاتل, وإذا كان قتل
المسلم الذي في حيز العدو قصد بالقتل لا يكون خطأ عند القاتل, وإنما
عنده أنه قتل عمد مأمور به, فغير جائز أن يكون ذلك مراد الآي; لأن
الإباحة على قول هذا القائل لم يوجد شرطها وهو أن يكون
(2/279)
قتل خطأ
عند القاتل. ألا ترى أنه إذا قال" لا تقتله عمدا" اقتضى النهي قتلا
بهذه الصفة عند القاتل, وإذا قال" لا تقتله بالسيف" فإنما حظر عليه
قتلا بهذه الصفة؟ فكذلك قوله: {إِلَّا خَطَأً} إذا كان قد اقتضى إباحة
قتل الخطإ فواجب أن يكون شرط الإباحة أن يكون عنده أنه خطأ, وذلك محال
لا يجوز وقوعه; لأن الخطأ هو الذي لا يعلم القاتل أنه مخطئ فيه, والحال
التي لا يعلمها لا يجوز أن يتعلق بها حظر ولا إباحة.
وقال أصحابنا: القتل على أنحاء أربعة عمد, وخطأ, وشبه عمد, وما ليس
بعمد ولا خطأ ولا شبه عمد. فالعمد ما تعمد ضربه بسلاح مع العلم بحال
المقصود به. والخطأ على ضربين: أحدهما: أن يقصد رمي مشرك أو طائر فيصيب
مسلما, والثاني: أن يظنه مشركا لأنه في حيز أهل الشرك أو عليه لباسهم;
فالأول خطأ في الفعل والثاني خطأ في القصد. وشبه العمد ما تعمد ضربه
بغير سلاح من حجر أو عصا; وقد اختلف الفقهاء في ذلك وسنذكره في موضعه
إن شاء الله تعالى. وأما ما ليس بعمد ولا شبه عمد ولا خطأ, فهو قتل
الساهي والنائم; لأن العمد ما قصد إليه بعينه, والخطأ أيضا الفعل فيه
مقصود إلا أنه يقع الخطأ تارة في الفعل وتارة في القصد, وقتل الساهي
غير مقصود أصلا فليس هو في حيز الخطإ ولا العمد, إلا أن حكمه حكم الخطإ
في الدية والكفارة.
قال أبو بكر: وقد ألحق بحكم القتل ما ليس بقتل في الحقيقة لا عمدا ولا
غير عمد, وذلك نحو حافر البئر وواضع الحجر في الطريق إذا عطب به إنسان;
هذا ليس بقاتل في الحقيقة; إذ ليس له فعل في قتله; لأن الفعل منا إما
أن يكون مباشرة أو متولدا, وليس من واضع الحجر وحافر البئر فعل في
العاثر بالحجر والواقع في البئر لا مباشرة ولا تولدا, فلم يكن قاتلا في
الحقيقة; ولذلك قال أصحابنا: إنه لا كفارة عليه. وكان القياس أن لا تجب
عليه الدية, ولكن الفقهاء متفقون على وجوب الدية فيه.قال الله تعالى:
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ولم يذكر في الآية من عليه الدية
من القاتل أو العاقلة.
وقد وردت آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاب دية الخطإ
على العاقلة, واتفق الفقهاء عليه; منها ما روي الحجاج عن الحكم عن مقسم
عن ابن عباس قال: كتب النبي صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين
والأنصار أن يعقلوا معاقلهم ويفكوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين
المسلمين. وروى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه
وسلم: "أنه كتب على كل بطن عقوله, ثم كتب أنه لا يحل أن يتولى مولى رجل
بغير إذنه" وروى مجالد عن الشعبي عن جابر: أن امرأتين من هذيل قتلت
إحداهما الأخرى ولكل واحدة منهما زوج وولد, فجعل رسول الله صلى الله
عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة وترك زوجها
(2/280)
وولدها,
فقال عاقلة المقتولة: ميراثها لنا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا,
ميراثها لزوجها وولدها"; قال: وكانت حبلى, فألقت جنينا, فخاف عاقلة
القاتلة أن يضمنهم, فقالوا: يا رسول الله لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا
استهل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا سجع الجاهلية" فقضى في
الجنين غرة عبدا أو أمة. وروى محمد بن عمر عن أبي سلمة عن أبي هريرة:
أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين عبدا أو أمة, فقال الذي قضي
عليه العقل: أنودي من لا شرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل فمثل ذلك يطل;
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا لقول الشاعر, فيه غرة عبد أو
أمة" . وروى عبد الواحد بن زياد عن مجالد عن الشعبي عن جابر: أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم جعل في الجنين غرة على عاقلة القاتل. وروى
الأعمش عن إبراهيم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل العقل على
العصبة. وعن إبراهيم قال: اختصم علي والزبير في ولاء موالي صفية إلى
عمر, فقضى بالميراث للزبير والعقل على علي رضي الله عنه. وروي عن علي
وعمر في قوم أجلوا عن قتيل أن الدية على بيت المال, وعن عمر في قتيل
وجد بين وداعة وحي آخر أنه قضى بالدية على العاقلة فقد تواترت الآثار
عن النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاب دية الخطإ على العاقلة واتفق
السلف وفقهاء الأمصار عليه.
فإن قيل: قال الله تعالى: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا
عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164], وقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة
أخيه" , وقال لأبي رمثة وابنه: إنه "لا يجني عليك ولا تجني عليه" ,
والعقول أيضا تمنع أخذ الإنسان بذنب غيره. قيل له: أما قوله تعالى:
{وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] فلا دلالة فيه على نفي وجوب الدية على
العاقلة; لأن الآية إنما نفت أن يؤخذ الإنسان بذنب غيره, وليس في إيجاب
الدية على العاقلة أخذهم بذنب الجاني, إنما الدية عندنا على القاتل
وأمر هؤلاء القوم بالدخول معه في تحملها على وجه المواساة له من غير أن
يلزمهم ذنب جنايته, وقد أوجب الله في أموال الأغنياء حقوقا للفقراء من
غير إلزامهم ذنبا لم يذنبوه بل على وجه المواساة, وأمر بصلة الأرحام
بكل وجه أمكن ذلك, وأمر ببر الوالدين; وهذه كلها أمور مندوب إليها
للمواساة وصلاح ذات البين; فكذلك أمرت العاقلة بتحمل الدية عن قاتل
الخطإ على جهة المواساة من غير إجحاف بهم وبه, وإنما يلزم كل رجل منهم
ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم ويجعل ذلك في أعطياتهم إذا كانوا من أهل
الديوان ومؤجلة ثلاث سنين; فهذا مما ندبوا إليه من مكارم الأخلاق. وقد
كان تحمل الديات مشهورا في العرب قبل الإسلام, وكان ذلك مما يعد من
جميل أفعالهم ومكارم أخلاقهم; وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت
لأتمم
(2/281)
مكارم
الأخلاق", فهذا فعل مستحسن في العقول مقبول في الأخلاق والعادات; وكذلك
قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة
أخيه" "ولا يجني عليك ولا تجني عليه". لا ينفي وجوب الدية على العاقلة
على هذا النحو الذي ذكرناه من معنى الآية من غير أن يلام على فعل الغير
أو يطالب بذنب سواه.
ولوجوب الدية على العاقلة وجوه سائغة مستحسنة في العقول: أحدها: أنه
جائز أن يتعبد الله بديا بإيجاب المال عليهم لهذا الرجل من غير قتل كان
منه, كما أوجب الصدقات في مال الأغنياء للفقراء. والثاني: أن موضوع
الدية على العاقلة إنما هو على النصرة والمعونة, ولذلك أوجبها أصحابنا
على أهل ديوانه دون أقربائه لأنهم أهل نصرته ألا ترى أنهم يتناصرون على
القتال والحماية والذب عن الحريم؟ فلما كانوا متناصرين في القتال
والحماية أمروا بالتناصر والتعاون على تحمل الدية ليتساووا في حملها
كما تساووا في حماية بعضهم بعضا عند القتال. والثالث: أن في إيجاب
الدية على العاقلة زوال الضغينة والعداوة من بعضهم لبعض إذا كانت قبل
ذلك, وهو داع إلى الألفة وصلاح ذات البين ألا ترى أن رجلين لو كانت
بينهما عداوة فتحمل أحدهما عن صاحبه ما قد لحقه لأدى ذلك إلى زوال
العداوة وإلى الألفة وصلاح ذات البين؟ كما لو قصده إنسان بضرر فعاونه
وحماه عنه انسلت سخيمة قلبه وعاد إلى سلامة الصدر والموالاة والنصرة.
والرابع: أنه إذا تحمل عنه جنايته حمل عنه القاتل إذا جنى أيضا, فلم
يذهب حمله للجناية عنه ضياعا بل كان له أثر محمود يستحق مثله عليه إذا
وقعت منه جناية. فهذه وجوه كلها مستحسنة في العقول غير مدفوعة, وإنما
يؤتى الملحد المتعلق بمثله من ضيق عقله وقلة معرفته وإعراضه عن النظر
والفكر; والحمد لله على حسن هدايته وتوفيقه.
ولا خلاف بين الفقهاء في وجوب دية الخطإ في ثلاث سنين, قال أصحابنا:
"كل دية وجبت من غير صلح فهي في ثلاث سنين". وروى أشعث عن الشعبي
والحكم عن إبراهيم قالا: "أول من فرض العطاء عمر بن الخطاب وفرض فيه
الدية كاملة في ثلاث سنين وثلثي الدية في سنتين والنصف في سنتين وما
دون ذلك في عامه". قال أبو بكر: استفاض ذلك عن عمر ولم يخالفه أحد من
السلف واتفق فقهاء الأمصار عليه فصار إجماعا لا يسع خلافه.
واختلف فقهاء الأمصار في العاقلة من هم, فقال أبو حنيفة وسائر أصحابنا:
"الدية في قتل الخطإ على العاقلة في ثلاث سنين من يوم يقضى بها,
والعاقلة هم أهل ديوانه إن كان من أهل الديوان يؤخذ ذلك من أعطياتهم
حتى يصيب الرجل منهم من الدية كلها
(2/282)
ثلاثة
دراهم أو أربعة دراهم, فإن أصابه أكثر من ذلك ضم إليهم أقرب القبائل في
النسب من أهل الديوان, وإن كان القاتل ليس من أهل الديوان فرضت الدية
على عاقلته الأقرب فالأقرب في ثلاث سنين من يوم يقضي بها القاضي, فيؤخذ
في كل سنة ثلث الدية عند رأس كل حول ويضم إليهم أقرب القبائل منهم في
النسب حتى يصيب الرجل منهم من الدية ثلاثة دراهم أو أربعة". قال محمد
بن الحسن: "ويعقل عن الحليف حلفاؤه ولا يعقل عنه قومه". وقال عثمان
البتي: "ليس أهل الديوان أولى بها من سائر العاقلة". وقال ابن القاسم
عن مالك: "الدية على القبائل على الغني على قدره ومن دونه على قدره حتى
يصيب الرجل منها مائة درهم ونصفا" وحكي عنه أن ذلك يؤخذ من أعطياتهم.
وقال الثوري: "تجعل الدية ثلثا في العام الذي أصيب فيه الرجل ولكن تكون
عند الأعطية على الرجال". وقال الحسن بن صالح: "العقل على رءوس الرجال
في أعطية المقاتلة" وقال الليث: "العقل على القاتل وعلى القوم الذين
يأخذ معهم العطاء ولا يكون على قومه منه شيء, وإن لم يكن فيهم من يحمل
العقل ضم إلى ذلك أقرب القبائل إليهم". وروى المزني في مختصره عن
الشافعي: "أن العقل على ذوي الأنساب دون أهل الديوان والحلفاء على
الأقرب فالأقرب من بني أبيه ثم من بني جده ثم من بني جد أبيه, فإن
عجزوا عن البعض حمل الموالي المعتقون الباقي, فإن عجزوا عن بعض ولهم
عواقل عقلتهم عواقلهم, فإن لم يكن لهم ذو نسب ولا مولى من أعلى حمل على
الموالي من أسفل, ويحمل من كثر ماله نصف دينار ومن كان دونه ربع دينار
ولا يزاد على هذا ولا ينقص منه".
قال أبو بكر: حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب على كل بطن
عقوله وقال: لا يتولى مولى قوم إلا بإذنهم يدل على سقوط اعتبار الأقرب
فالأقرب, وأن القريب والبعيد من الجاني سواء في ذلك. وروي عن عمر أنه
قال لسلمة بن نعيم حين قتل مسلما وهو يظنه كافرا: "إن عليك وعلى قومك
الدية" ولم يفرق بين القريب والبعيد منهم, وهذا يدل على تساوي القريب
والبعيد, ويدل أيضا على التسوية بينهم فيما يلزم كل واحد منهم من غير
اعتبار الغني والفقير, ويدل على أن القاتل يدخل في العقل مع العاقلة
لأنه قال: "عليك وعلى قومك الدية". وكان أهل الجاهلية يتعاقلون
بالنصرة, ثم جاء الإسلام فجرى الأمر فيه كذلك, ثم جعل عمر الدواوين
فجمع بها الناس وجعل أهل كل راية وجند يدا واحدة وجعل عليهم قتال من
يليهم من الأعداء, فصاروا يتناصرون بالرايات والدواوين وعليها
يتعاقلون, وإذا لم يكن من أهل الديوان فعلى القبائل لأن التناصر في هذه
الحال بالقبائل; فالمعنى الذي تعاقلوا به في الجاهلية والإسلام معنى
واحد وهو النصرة, فإذا
(2/283)
كانت في
الجاهلية النصرة بالرايات والدواوين تعاقلوا بها لأنهم في هذه الحال
أخص بالنصرة من القبيلة, فإذا فقدت الرايات تناصروا بالقبائل وبها
يتعاقلون أيضا. والدليل على أن العقل تابع للنصرة أن النساء لا يدخلن
في العقل لعدم النصرة فيهن, فدل ذلك على صحة اعتبار النصرة في العقل.
وأما العقل بالحلف فإن سعد بن إبراهيم روى عن جبير بن مطعم عن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية
فلم يزده الإسلام إلا شدة" فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم حلف
الجاهلية, وقد كان الحلف عندهم كالقرابة في النصرة والعقل, ثم أكده
الإسلام. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مولى القوم من
أنفسهم وحليفهم منهم". وقد كانت ظهرت خيل للنبي صلى الله عليه وسلم على
رجل من المشركين, فربطه إلى سارية من سواري المسجد, فقال: علام أحبس؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بجريرة حلفائك".
فإن قيل فقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم حلف الإسلام بقوله: "لا حلف
في الإسلام" . قيل له: معناه نفي التوارث به مع ذوي الأرحام لأنهم
كانوا يورثون الحليف دون ذوي الأرحام, فأما حكم الحلف في العقل والنصرة
فباق ثابت; وكذلك الولاء ثابت يعقل به, لما روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم في الأخبار المتقدمة.
وإنما ألزم أصحابنا كل واحد ثلاثة دراهم أو أربعة دراهم لاتفاق الجميع
على لزومه هذا القدر, وما زاد مختلف فيه لم تقم الدلالة عليه فلم يلزم.
ويدخل القاتل معهم في العقل, وهو قول أصحابنا ومالك وابن شبرمة والليث
والشافعي. وقال الحسن بن صالح والأوزاعي: "لا يدخل فيه". وروي عن عمر
بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز: "أنه يعقل معهم" وما روي عن أحد من
السلف خلافه. ومن جهة النظر أن الدية إنما تلزم القاتل والعاقلة تعقل
عنه على جهة المواساة والنصرة, فواجب أن لا يلزم العاقلة إلا المتيقن;
وقد اتفقوا على أن ما عدا حصة الواحد منهم لازم للعاقلة واختلفوا في
المقدار الذي هو نصيب أحدهم هل تحمله العاقلة, فواجب أن لا يكون لازما
لعدم الدلالة على لزومه العاقلة. ومن جهة أخرى أن العاقلة إنما تعقل
عنه, فعقله عن نفسه أولى, فينبغي أن يدخل معهم. وأيضا لو كان غيره هو
الجاني لدخل مع سائر العاقلة للتخفيف عنهم, فإذا كان هو الجاني فهو
أولى بالدخول معهم للتخفيف عنهم لأنهم متساوون في التناصر والمواساة.
قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}. قال أبو حنيفة وأبو
يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والأوزاعي والشافعي: "يجزي في كفارة
القتل الصبي إذا كان أحد أبويه مسلما" وهو قول عطاء. وروي عن ابن عباس
والحسن وإبراهيم والشعبي: "لا يجزي
(2/284)
إلا من
صام وصلى". ولم يختلفوا في جوازه في رقبة الظهار. ويدل على صحة القول
الأول قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}, وهذه رقبة مؤمنة
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه
يهودانه وينصرانه" فأثبت له حكم الفطرة عند الولادة, فوجب جوازه بإطلاق
اللفظ. ويدل عليه أن قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً}
منتظم للصبي كما يتناول الكبير, فوجب أن يتناوله عموم قوله تعالى:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} , ولم يشرط الله عليها الصيام
والصلاة فلا تجوز الزيادة فيه; لأن الزيادة في النص موجب النسخ; ولو أن
عبدا أسلم فأعتقه مولاه عن كفارته قبل حضور وقت الصلاة والصيام كان
مجزيا عن الكفارة لحصول اسم الإيمان, فكذلك الصبي إذا كان داخلا في
إطلاق اسم الإيمان.
فإن قيل: العبد المعتق بعد إسلامه لا يجزي إلا أن يكون قد صام وصلى.
قيل له: لا يختلف المسلمون في إطلاق اسم الإيمان على العبد الذي أسلم
قبل حضور وقت الصلاة أو الصوم, فمن أين شرطت مع الإيمان فعل الصلاة
والصوم والله سبحانه لم يشرطهما؟ ولم زدت في الآية ما ليس فيها وحظرت
ما أباحته من غير نص يوجب ذلك وفيه إيجاب نسخ القرآن؟ وأيضا لما كان
حكم الصبي حكم الرجل في باب التوارث والصلاة عليه ووجوب الدية على
قاتله, وجب أن يكون حكمه حكمه في جوازه عن الكفارة, إذ كانت رقبة تامة
لها حكم الإيمان.
فإن قيل: قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} يقتضي حقيقة
رقبة بالغة معتقدة للإيمان لا من لها حكم الإيمان من غير اعتقاد, ولا
خلاف مع ذلك أيضا أن الرقبة التي هذه صفتها مرادة بالآية; فلا يدخل
فيها من لا تلحقه هذه السمة إلا على وجه المجاز وهو الطفل الذي لا
اعتقاد له. قيل له: لا خلاف بين السلف أن غير البالغ جائز في كفارة
الخطإ إذا كان قد صام وصلى, ولم يشرط أحد وجود الإيمان منه حقيقة ألا
ترى أن من له سبع سنين مأمور بالصلاة على وجه التعليم وليس له اعتقاد
صحيح للإيمان؟ فثبت بذلك سقوط اعتبار وجود حقيقة الإيمان للرقبة; ولما
ثبت ذلك باتفاق السلف علمنا أن الاعتبار فيه بمن لحقته سمة الإيمان على
أي وجه سمي, والصبي بهذه الصفة إذا كان أحد أبويه مسلما, فوجب جوازه عن
الكفارة.
(2/285)
مطلب: تصح البراءة ما لم يردها المبرأ
تصح البراءة ما لم يردها المبرأ. قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ
يَصَّدَّقُوا} قال أبو بكر: يعني والله أعلم إلا أن يبرئ أولياء القتيل
من الدية; فسمي الإبراء منها صدقة. وفيه دليل على أن من كان له على آخر
دين
(2/285)
فقال: "قد
تصدقت به عليك" أن ذلك براءة صحيحة وأنه لا يحتاج في صحة هذه البراءة
إلى قبول المبرأ منه; ولذلك قال أصحابنا: إن البراءة واقعة ما لم يردها
المبرأ منه. وقال زفر: "لا يبرئ الغريم من الدين إلا أن يقبل البراءة
وكذلك الصدقة" وجعله بمنزلة هبة الأعيان. وظاهر الآية يدل على صحة قول
أصحابنا لأنه لم يشرط القبول ولأن الدين حق فيصح إسقاطه كالعفو عن دم
العمد والعتق ولا يحتاج إلى قبول وقال أصحابنا: "إذا رد المبرأ منه
البراءة من الدين عاد الدين" وقال غيرهم: "لا يعود" وجعلوه كالعتق
والعفو عن دم العمد. والدليل على صحة قولنا أن البراءة من الدين يلحقها
الفسخ ألا ترى أنه لو صالحه على ثوب برئ فإن هلك الثوب قبل القبض بطلت
البراءة وعاد الدين؟ والعتق والعفو عن الدم لا ينفسخان بحال. ويدل أيضا
على وقوع البراءة من الدين بلفظ التمليك أن الصدقة من ألفاظ التمليك,
وقد حكم بصحة البراءة بها, وأنه ليس بمنزلة الأعيان إذا ملكها غيره
بلفظ الإبراء, فلا يملك, مثل أن يقول: "قد أبرأتك من هذا العبد" فلا
يملكه وإن قبل البراءة, وإذا قال: "قد تصدقت بما لي عليك من الدين, أو
قد وهبت لك ما لي عليك" صحت البراءة. ويدل على ذلك أن من له على غيره
دين وهو غني فقال: "قد تصدقت به عليك" برئ منه; لأن الله تعالى لم يفرق
بين الغني والفقير في ذلك. ويدل على أن الأهل يعبر به عن الأولياء
والورثة; لأن قوله {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} معناه: إلى
ورثته. وقال محمد بن الحسن فيمن أوصى لأهل فلان: "إن القياس أن يكون
ذلك لزوجاته, إلا أني قد تركت القياس وجعلته لكل من كان في عياله" قال
أبو بكر: الأهل اسم يقع على الزوجة وعلى جميع من يشتمل عليه منزله وعلى
أتباع الرجل وأشياعه, قال الله تعالى: {إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ
إِلَّا امْرَأَتَكَ} [العنكبوت: 33] فكان ذلك على جميع أهل منزله من
أولاده وغيرهم, وقال: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ}
[الشعراء:170] ويقع على من اتبعه في دينه كقوله: {وَنُوحاً إِذْ نَادَى
مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ
الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الانبياء:76] فسمى أتباعه في دينه أهله; وقال
في ابنه: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ
صَالِحٍ} [هود: 46]. فاسم الأهل يقع على معاني مختلفة, وقد يطلق اسم
الأهل ويراد به الآل وهو قراباته من قبل الأب, كما يقال آل النبي وأهل
بيت النبي صلى الله عليه وسلم" وهما سواء.
(2/286)
باب شبه العمد
قال أبو بكر أصل أبي حنيفة في ذلك أن العمد ما كان بسلاح أو ما يجري
مجراه,
(2/286)
مثل الذبح
بليطة قصبة أو شقة العصا أو بكل شيء له حد يعمل عمل السلاح أو بحرقه
بالنار; فهذا كله عنده عمد محض فيه القصاص; ولا نعلم في هذه الجملة
خلافا بين الفقهاء. وقال أبو حنيفة: "ما سوى ذلك من القتل بالعصا
والحجر صغيرا كان أو كبيرا فهو شبه العمد, وكذلك التغريق في الماء;
وفيه الدية مغلظة على العاقلة وعليه الكفارة" ولا يكون التغليظ عنده
إلا في أسنان الإبل خاصة دون عددها. ولي فيما دون النفس شبه عمد بل بأي
شيء ضربه فعليه القصاص إذا أمكن, وإن لم يكن فعليه أرشه مغلظا إذا كان
من الإبل بقسط ما يجب. وأصل أبي يوسف ومحمد أن شبه العمد ما لا يقتل
مثله كاللطمة الواحدة والضربة الواحدة بالسوط, ولو كرر ذلك حتى صار
جملته مما يقتل كان عمدا وفيه القصاص بالسيف, وكذلك إذا غرقه بحيث لا
يمكنه الخلاص منه; وهو قول عثمان البتي, إلا أنه يجعل دية شبه العمد في
ماله. وقال ابن شبرمة: "وما كان من شبه العمد فهو عليه في ماله, يبدأ
بماله فيؤخذ حتى لا يترك له شيء, فإن لم يتم كان ما بقي من الدية على
عاقلته". وقال ابن وهب عن مالك: "إذا ضربه بعصا أو رماه بحجر أو ضربه
عمدا فهو عمد وفيه القصاص, ومن العمد أن يضربه في نائرة تكون بينهما ثم
ينصرف عنه وهو حي ثم يموت, فتكون فيه القسامة". وقال ابن القاسم عن
مالك: "شبه العمد باطل, إنما هو عمد أو خطأ". وقال الأشجعي عن الثوري:
"شبه العمد أن يضربه بعصا أو بحجر أو بيده فيموت ففيه الدية مغلظة ولا
قود فيه, والعمد ما كان بسلاح وفيه القود, والنفس يكون فيها العمد وشبه
العمد والخطأ, والجراحة لا يكون فيها إلا خطأ أو عمد". وروى الفضل بن
دكين عن الثوري قال: "إذا حدد عودا أو عظما فجرح به بطن حر فهذا شبه
عمد ليس فيه قود". قال أبو بكر: هذا قول شاذ وأهل العلم على خلافه.
وقال الأوزاعي عن شبه العمد: "الدية في ماله, فإن لم يكن تماما فعلى
العاقلة; وشبه العمد أن يضربه بعصا أو سوط ضربة واحدة فيموت, فإن ثنى
بالعصا فمات مكانه فهو عمد يقتل به, والخطأ على العاقلة". وقال الحسن
بن صالح: "إذا ضربه بعصا ثم علا فقتله مكانه من الضربة الثانية فعليه
القصاص, وإن علا الثانية فلم يمت منها ثم مات بعدها فهو شبه العمد لا
قصاص فيه وفيه الدية على العاقلة والخطأ على العاقلة". وقال الليث:
"العمد ما تعمده إنسان, فإن ضربه بأصبعه فمات من ذلك دفع إلى ولي
المقتول والخطأ فيه على العاقلة". وهذا يدل على أن الليث كان لا يرى
شبه العمد وإنما يكون خطأ أو عمدا. وقال المزني في مختصره عن الشافعي:
"إذا عمد رجل بسيف أو حجر أو سنان رمح أو ما يشق بحده فضرب به أو رمى
به الجلد أو اللحم فجرحه جرحا كبيرا أو صغيرا فمات فعليه القود, وإن
شدخه بحجر أو تابع عليه الخنق ووالى بالسوط عليه حتى مات أو طبق عليه
مطبقا بغير طعام ولا شراب أو ضربه بسوط في شدة حر أو برد مما
(2/287)
الأغلب
أنه يموت منه فمات فعليه القود, وإن ضربه بعمود أو بحجر لا يشدخ أو بحد
سيف ولم يجرح أو ألقاه في بحر قريب البر وهو يحسن العوم أو ما الأغلب
أنه لا يموت بمثله فمات فلا قود فيه وفيه الدية مغلظة على العاقلة".
والدليل على ثبوت شبه العمد ما روى هشيم عن خالد الحذاء عن القاسم بن
ربيعة بن جوشن عن عقبة بن أوس السدوسي عن رجل من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم: أنه صلى الله عليه وسلم خطب يوم فتح مكة, فقال في خطبته
:"ألا إن قتيل خطإ العمد بالسوط والعصا والحجر فيه الدية مغلظة مائة من
الإبل منها أربعون خلفة في بطونها أولادها" . وروى إبراهيم عن عبيد بن
نضلة الخزاعي عن المغيرة بن شعبة: أن امرأتين ضربت إحداهما الأخرى
بعمود الفسطاط فقتلتها, فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على
عصبة القاتلة وقضى فيما في بطنها بالغرة. وروى يونس عن ابن شهاب عن ابن
المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي هريرة قال: اقتتلت امرأتان من
هذيل فضربت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها, فاختصموا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها عبد أو وليدة, وقضى
بدية المرأة على عاقلتها ففي أحد هذين الحديثين أنها ضربتها بعمود
فسطاط وفي الآخر أنها ضربتها بحجر. وقد روى أبو عاصم عن ابن جريج قال:
أخبرني عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس: أن عمر بن الخطاب نشد الناس
قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين, فقام حمل بن مالك بن
النابغة فقال: إنني كنت بين امرأتين لي, وإن إحداهما ضربت الأخرى بمسطح
فقتلتها وجنينها, فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة
وأن تقتل مكانها. وروى الحجاج بن محمد عن ابن جريج عن عمرو بن دينار عن
طاوس عن ابن عباس عن عمر مثله; فذكر أبو عاصم والحجاج عن ابن جريج أنه
أمر بقتل المرأة. وروى هذا الحديث هشام بن سليمان المخزومي عن ابن جريج
عن ابن دينار وسفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار بإسناده, ولم يذكرا فيه
أنه أمر أن تقتل, وذكر أبو عاصم والحجاج أنه أمر أن تقتل المرأة,
فاضطرب حديث ابن عباس في هذه القصة. وروى سعيد عن قتادة عن أبي المليح
عن حمل بن مالك قال: كانت له امرأتان فرجمت إحداهما الأخرى بحجر فأصاب
قلبها وهي حامل فألقت جنينا فماتت, فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية على عاقلة القاتلة
وقضى في الجنين بغرة عبد أو أمة. فكان حديث حمل بن مالك في إيجاب القود
على المرأة مختلفا متضادا; وروي في بعض أخبار ابن عباس في هذه القصة
بعينها القصاص ولم يذكره في بعضها; قال حمل بن مالك وهو صاحب القصة:
"إن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الدية على عاقلة القاتلة" فتضادت
الأخبار في قصة حمل بن مالك وسقطت وبقي حديث المغيرة بن شعبة وأبي
هريرة في نفي القصاص من غير معارض.
(2/288)
وقد روى
أبو معاوية عن حجاج عن قتادة عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "قتيل السوط والعصا شبه العمد" . وإثبات شبه العمد ضرب من
القتل دون الخطإ فيه اتفاق السلف عندنا لا خلاف بينهم فيه, وإنما
الاختلاف بينهم في كيفية شبه العمد; فأما أن يقول مالك: "لا أعرف إلا
خطأ أو عمدا" فإن هذا قول خارج عن أقاويل السلف كلهم. وروى شريك عن أبي
إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي قال: "شبه العمد بالعصا والحجر الثقيل
وليس فيهما قود". وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: "يعمد أحدكم فيضرب
أخاه بمثل آكلة اللحم وهي العصا ثم يقول لا قود علي لا أوتى بأحد فعل
ذلك إلا أقدته", فكان هذا عنده من العمد; لأن مثله يقتل في الغالب على
ما قال أبو يوسف ومحمد.
ومما يبين إجماع الصحابة على شبه العمد وأنه قسم ثالث ليس بعمد محض ولا
خطأ محض اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسنان الإبل في
الخطإ, ثم اختلافهم في أسنان شبه العمد وأنها أغلظ من الخطإ; منهم علي
وعمر وعبد الله بن مسعود وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت وأبو موسى
والمغيرة بن شعبة, كل هؤلاء أثبت أسنان الإبل في شبه العمد أغلظ منها
في الخطإ على ما سنبينه فيما بعد إن شاء الله تعالى; فثبت بذلك شبه
العمد. ولما ثبت شبه العمد بما قدمنا من الآثار واتفاق السلف بعد
اختلاف منهم في كيفيته, احتجنا أن نعتبر شبه العمد, فوجدنا عليا قال:
"شبه العمد بالعصا والحجر العظيم" ومعلوم أن شبه العمد اسم شرعي لا
سبيل إلى إثباته إلا من جهة التوقيف; إذ ليس في اللغة هذا الاسم لضرب
من القتل; فعلمنا أن عليا لم يسم القتل بالحجر العظيم شبه العمد إلا
توقيفا, ولم يذكر الحجر العظيم إلا والصغير والكبير متساويان عنده في
سقوط القود به. ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا
المعمري قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله الرقي قال: حدثنا ابن
المبارك عن سليمان التيمي وخالد الحذاء عن القاسم بن ربيعة عن عقبة بن
أوس عن عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قتيل خطإ
العمد قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل منها أربعون خلفة في بطونها
أولادها" فقد حوى هذا الخبر معاني: منها إثباته قتيل خطإ العمد قسما
غير العمد وغير الخطإ وهو شبه العمد, ومنها إيجابه الدية في قتيل السوط
والعصا من غير فرق بين ما يقتل مثله وبين ما لا يقتل مثله وبين من
يوالي الضرب حتى يقتله وبين من يقتل بضربة واحدة, ومنها أنه جمع بين
السوط والعصا والسوط لا يقتل مثله في الغالب والعصا يقتل مثلها في
الأكثر, فدل على وجوب التسوية بين ما يقتل وبين ما لا يقتل. وحدثنا عبد
الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا عقبة
بن مكرم
(2/289)
قال:
حدثنا يونس بن بكير قال: حدثنا قيس بن الربيع عن أبي حصين عن إبراهيم
ابن بنت النعمان بن بشير عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "كل شيء سوى الحديدة خطأ ولكل خطأ أرش". وحدثنا عبد
الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن يحيى بن سهل بن محمد العسكري قال:
حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا يوسف بن يعقوب الضبعي قال: حدثنا
سفيان الثوري وشعبة عن جابر الجعفي عن أبي عازب عن النعمان بن بشير
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل شيء خطأ إلا السيف وفي كل
خطأ أرش". وأيضا لما اتفقوا على أنه لو جرحه بسكين صغيرة لم يختلف
حكمها وحكم الكبيرة في وجوب القصاص فوجب أن لا يختلف حكم الصغير
والكبير من الحجر والخشب في سقوطه; وهذا يدل على أن الحكم في إيجاب
القصاص متعلق بالآلة, وهي أن تكون سلاحا أو يعمل عمل السلاح.
فإن قيل: على ما روينا من قوله صلى الله عليه وسلم: "قتيل خطإ العمد"
أن العمد لا يكون خطأ ولا الخطأ عمدا, وهذا يدل على فساد الحديث. قيل:
ليس كذلك; لأنه سماه خطأ العمد لأنه خطأ في الحكم عمد في الفعل, وذلك
معنى صحيح لأنه دل به على التغليظ من حيث هو عمد وعلى سقوط القود من
حيث هو في حكم الخطإ.
فإن قيل: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى}
[البقرة: 178] وقوله: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وسائر
الآي التي فيها إيجاب القصاص يوجبه على القاتل بالحجر العظيم. قيل له:
لا خلاف أن هذه الآية إنما أوجبت القصاص في العمد, وهذا ليس بعمد; ومع
ذلك فإن الآية وردت في إيجاب القصاص في الأصل والآثار التي ذكرنا واردة
فيما يجب فيه القصاص, فكل واحد منهما مستعمل فيما ورد فيه لا يعترض
بأحدهما على الآخر. وأيضا قال الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً
خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى
أَهْلِهِ} وسمى النبي صلى الله عليه وسلم شبه العمد قتيل خطإ العمد,
فلما أطلق عليه اسم الخطإ وجب أن تكون فيه الدية.
فإن احتجوا بحديث ابن عباس في قصة المرأتين قتلت إحداهما الأخرى بمسطح
فأوجب النبي صلى الله عليه وسلم عليها القصاص. قيل له: قد بينا اضطراب
الحديث وما عارضه من رواية حمل بن مالك في إيجاب الدية دون القود, ولو
ثبت القود أيضا فإن ذلك إنما كان في شيء بعينه ليس بعموم في جميع من
قتل بمسطح, وجائز أن يكون كان فيه حديد وأصابها الحديد دون الخشب, فمن
أجله أوجب النبي صلى الله عليه وسلم فيه القود.
فإن احتجوا بما روي أن يهوديا رضخ رأس جارية بالحجارة فأمر النبي صلى
الله عليه وسلم بأن يرضخ رأسه. قيل له جائز أن يكون كان لها مروة, وهي
التي لها حد يعمل عمل
(2/290)
السكين,
فلذلك أوجب النبي صلى الله عليه وسلم قتله. وأيضا روى عبد الرزاق قال:
أخبرنا معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس: أن يهوديا قتل جارية من
الأنصار على حلي لها وألقاها في نهر ورضخ رأسها بالحجارة, فأتي به
النبي صلى الله عليه وسلم فأمر به أن يرجم حتى يموت, فرجم حتى مات. ولا
خلاف أن الرجم لا يجب على وجه القود, وجائز أن يكون اليهودي مستأمنا
فقتل الجارية ولحق بأرضه فأخذ وهو حربي لقرب منازلهم من المدينة فقتله
على أنه محارب حربي ورجمه, كما سمل أعين العرنيين الذين استاقوا الإبل
وقتلوا الراعي وقطع أيديهم وأرجلهم وتركهم حتى ماتوا, ثم نسخ القتل على
وجه المثلة.
(2/291)
فصل
وأما ما دون النفس فإنه ليس فيه شبه العمد من جهة الآلة, ويجب فيه
القصاص بحجر شجه أو بحديد, وفيه شبه العمد من جهة التغليظ إذا تعذر فيه
القصاص; وإنما لم يثبت فيما دون النفس شبه العمد لأن الله تعالى قال:
{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] وقال: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}
[المائدة: 45], ولم يفرق بين وقوعها بحديد أو غيره. والأثر إنما ورد في
إثبات خطإ العمد في القتل, وذلك اسم شرعي لا يجوز إثباته إلا من طريق
التوقيف, ولم يرد فيما دون النفس توقيف في شبه العمد فيه, وأثبتوا فيه
التغليظ إذا لم يمكن فيه القصاص; لأنه بمنزلة شبه العمد حين كان عمدا
في الفعل. وقد روي عن عمر نضر الله وجهه" أنه قضى على قتادة المدلجي
حين حذف ابنه بالسيف فقتله بمائة من الإبل مغلظة "; حين كان عمدا سقط
فيه القصاص, كذلك فيما دون النفس إذا كان عمدا قد سقط فيه القصاص إيجاب
قسطه من الدية مغلظا; ومع ذلك فلا نعلم خلافا بين الفقهاء في إيجاب
القصاص في الجراحات التي يمكن القصاص فيها بأي شيء جرح. قال أبو بكر:
قد ذكرنا الخطأ وشبه العمد وبينا العمد في سورة البقرة; والله أعلم.
(2/291)
باب مبلغ الدية من الإبل
قد تواترت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بمقدار الدية وأنها مائة
من الإبل, فمنها حديث سهل بن أبي حثمة في القتيل الموجود بخيبر وأن
النبي صلى الله عليه وسلم وداه بمائة من الإبل. وروى سفيان بن عيينة عن
علي بن زيد بن جدعان عن القاسم بن ربيعة عن ابن عمر قال: خطبنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم بمكة فقال: "ألا إن قتيل خطإ العمد بالسوط
والعصا فيه الدية مغلظة مائة من الإبل أربعون خلفة في بطونها أولادها"
. وفي كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"وفي النفس مائة من الإبل" . وروى عمرو بن دينار عن طاوس قال: فرض رسول
الله دية الخطإ مائة من الإبل وذكر علي بن موسى القمي قال: حدثنا
(2/291)
باب أسنان الإبل في دية الخطإ
قال أبو بكر: اختلف السلف في ذلك, فروى علقمة والأسود عن عبد الله بن
مسعود في دية الخطإ أخماسا: "عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنات مخاض
وعشرون بنو مخاض وعشرون بنات لبون". وعن عمر بن الخطاب أخماسا أيضا.
وروى عاصم بن ضمرة وإبراهيم عن علي في دية الخطإ أرباعا خمس وعشرون حقة
وخمس وعشرون جذعة وخمس وعشرون بنات مخاض وخمس وعشرون بنات لبون أربعة
أسنان مثل أسنان الزكاة". وقال عثمان وزيد بن ثابت: "في الخطإ ثلاثون
بنات لبون وثلاثون جذعة وعشرون بنو لبون وعشرون بنات مخاض" وروي عنهما
مكان الجذاع الحقاق.
قال أبو بكر: واتفق فقهاء الأمصار أصحابنا ومالك والشافعي أن دية الخطإ
أخماس, إلا أنهم اختلفوا في الأسنان من كل صنف, فقال أصحابنا جميعا:
عشرون بنات مخاض وعشرون بنو مخاض وعشرون بنات لبون وعشرون حقة وعشرون
جذعة" وقال مالك والشافعي: "عشرون بنات مخاض وعشرون بنو لبون وعشرون
بنات لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال:
حدثنا أحمد بن داود بن توبة التمار قال: حدثنا عمرو بن محمد الناقد
قال: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا حجاج بن أرطاة عن زيد بن جبير عن خشف
بن مالك عن عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الدية
في الخطإ أخماسا. واتفاق الفقهاء على استعمال هذا الخبر في الأخماس يدل
على صحته; ولم يبين فيه كيفية الأسنان, فروى منصور عن إبراهيم عن ابن
مسعود في دية الخطإ أخماسا وذكر الأسنان مثل قول أصحابنا, فهذا يدل على
أن الأخماس التي رواها عن النبي صلى الله عليه وسلم كانت على هذا
الوجه; لأنه غير جائز أن يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ثم
يخالفه إلى غيره.
فإن قيل: خشف بن مالك مجهول. قيل له استعمال الفقهاء لخبره في إثبات
(2/292)
الأخماس
يدل على صحته واستقامته. وأيضا فإن قول من جعل في الخطإ مكان بني لبون
بني مخاض أولى; لأن بني لبون بمنزلة بنات مخاض, لقوله صلى الله عليه
وسلم: "فإن لم توجد ابنة مخاض فابن لبون" فيصير بمنزلة من أوجب أربعين
بنات مخاض إذا أوجب عشرين بني لبون وعشرين بنات مخاض. وأيضا فإن بني
لبون فوق بني مخاض, ولا يجوز إثبات زيادة ما بين بني لبون وبنات مخاض
إلا بتوقيف. وأيضا فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الدية مائة من
الإبل" يقتضي جواز ما يقع عليه الاسم, فلا تثبت الزيادة إلا بدلالة,
ومذهب أصحابنا أقل ما قيل فيه فهو ثابت. وما زاد فلم تقم عليه دلالة
فلا يثبت. وأيضا قد ثبت مثل قول أصحابنا عن عبد الله بن مسعود في كيفية
الأسنان ولم يرو عن أحد من الصحابة ممن قال بالأخماس خلافة; وقول مالك
والشافعي لا يروى عن أحد من الصحابة وإنما يروى عن سليمان بن يسار,
فكان قول أصحابنا أولى لاتفاق الجميع من فقهاء الأمصار على إثبات
الأخماس وثبوت كيفيتها على الوجه الذي يذهب إليه أصحابنا عن عبد الله
بن مسعود.
فإن قيل إيجاب بني لبون أولى من بني مخاض لأنها تؤخذ في الزكاة ولا
تؤخذ بنو مخاض. قيل له: ابن اللبون يؤخذ في الزكاة على وجه البدل,
وكذلك ابن مخاض يؤخذ عندنا على وجه البدل, فلا فرق بينهما. وأيضا فإن
الديات غير معتبرة بالزكاة, ألا ترى أنه يجب عند المخالف أربعون خلفة
في شبه العمد ولا يجب مثلها في الزكاة؟ والله أعلم.
(2/293)
باب أسنان الإبل في شبه العمد
روي عن عبد الله بن مسعود في شبه العمد أرباعا خمس وعشرون بنات مخاض
وخمس وعشرون بنات لبون وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة, وهي مثل
أسنان الإبل في الزكاة". وروي عن علي وعمر وأبي موسى والمغيرة بن شعبة:
"في شبه العمد ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون ما بين ثنية إلى بازل
عامها كلها خلفة". وعن عثمان وزيد بن ثابت: "ثلاثون بنات لبون وثلاثون
حقة وأربعون جذعة خلفة". وروى أبو إسحاق عن عاصم بن ضمرة عن علي: "في
شبه العمد ثلاث وثلاثون حقة وثلاث وثلاثون جذعة وأربع وثلاثون ثنية إلى
بازل عامها, كلها خلفة".
واختلف فقهاء الأمصار في ذلك, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف: "دية شبه
العمد أرباع" على ما روي عن عبد الله بن مسعود. وقال محمد دية شبه
العمد أثلاث: ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون ما بين ثنية إلى بازل
عامها كلها خلفة, والخلفة هي الحوامل" وهو قول سفيان الثوري. وروي مثله
عن عمر وزيد بن ثابت ومن قدمنا ذكره
(2/293)
من السلف.
وروى ابن القاسم عن مالك: "أن الدية المغلظة في الرجل يحذف ابنه بالسيف
فيقتله فتكون عليه الدية مغلظة ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة
وهي حالة" قال: "والجد إذا قتل ولد ولده على هذا الوجه فهو مثل الأب,
فإن قطع يد الولد وعاش ففيه نصف الدية مغلظة "; وقال مالك: "تغلظ على
أهل الورق والذهب أيضا, وهو أن ينظر إلى قيمة الثلاثين من الحقة
والثلاثين من الجذعة والأربعين من الخلفة فيعرف كم قيمتهن, ثم ينظر إلى
دية الخطإ أخماسا من الأسنان عشرين بنت مخاض وعشرين ابن لبون وعشرين
بنات لبون وعشرين حقة وعشرين جذعة, ثم ينظر كم فضل ما بين دية الخطإ
والدية المغلظة فيزاد في الرقة على قدر ذلك" قال: "وهو على قدر الزيادة
والنقصان في سائر الأزمان, وإن صارت دية التغليظ ضعفي دية الخطإ زيد
عليه من الورق بقدر ذلك". وقال الثوري في دية شبه العمد من الورق:
"يزاد عليها بقدر ما بين دية الخطإ إلى دية شبه العمد في أسنان الإبل"
نحو ما قال مالك, وهو قول الحسن بن صالح.
قال أبو بكر: لما ثبت أن دية الخطإ أخماس بما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم وبما قدمنا من الحجاج, ثم اختلفوا في شبه العمد فجعله بعضهم
أرباعا وبعضهم أثلاثا, كان قول من قال بالأرباع أولى; لأن في الأثلاث
زيادة تغليظ لم تقم عليها دلالة, وقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"الدية مائة من الإبل" يوجب جواز الكل, والتغليظ بالأرباع متفق عليه,
والزيادة عليها غير ثابتة, فظاهر الخبر ينفيها فلم نثبتها. وأيضا فإن
في إثبات الخلفات وهي الحوامل إثبات زيادة عدد فلا يجوز; لأنها تصير
أكثر من مائة لأجل الأولاد. فإن قيل: في حديث القاسم بن ربيعة عن ابن
عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "في قتيل خطإ العمد مائة من الإبل
أربعون منها خلفة في بطونها أولادها" .
وقد احتججتم به في إثبات شبه العمد, فهلا أثبتم الأسنان قيل له: أثبتنا
به شبه العمد لاستعمال الصحابة إياه في إثبات شبه العمد, ولو كان ذلك
ثابتا لكان مشهورا, ولو كان كذلك لما اختلفوا فيه كما لم يختلفوا في
إثبات شبه العمد; وليس يمتنع أن يشتمل خبر على معاني فيثبت بعضها ولا
يثبت بعض إما لأنه غير ثابت في الأصل أو لأنه منسوخ, وأما التغليظ في
الورق والذهب فإنه لا يخلو أصل الدية من أن يكون واجبا من الإبل وأن
الورق والذهب مأخوذان عنها على أنهما قيمة لها, أو أن تكون الدية في
الأصل واجبة في أحد الأصناف الثلاثة من الدراهم والدنانير والإبل, لا
على أن بعضها بدل من بعض, فإن كانت الإبل هي الدية وإنما تؤخذ الدراهم
والدنانير بدلا منها; فلا اعتبار بما ذكره مالك من إيجاب فضل ما بين
دية الخطإ إلى الدية المغلظة, وإنما الواجب أن يقال إن عليه قيمة الإبل
على أسنان
(2/294)
التغليظ,
وكذلك دية الخطإ ينبغي أن تعتبر فيها قيمة الإبل على أسنان الخطإ وأن
لا تعتبر الدراهم والدنانير في الديات مقدارا محدودا, فلا يقال إن
الدية من الدراهم عشرة آلاف ولا اثنا عشر ألفا ولا من الذهب ألف دينار,
بل ينظر في سائر الأزمان إلى قيمة الإبل فإن كانت ستة آلاف أوجب ذلك من
الدراهم بغير زيادة, وإن كانت خمسة عشر ألفا أوجب ذلك, وكذلك قيمتها من
الدنانير. فلما قال السلف في الدية أحد قولين إما عشرة آلاف وإما اثنا
عشر ألفا وقالوا إنها من الدنانير ألف دينار, حصل الاتفاق من الجميع
على أن الزيادة على هذه المقادير والنقصان منها غير سائغ, وفي ذلك دليل
على أن الدراهم والدنانير هي ديات بأنفسها لا بدلا من غيرها; وإذا كان
كذلك لم يجز التغليظ فيها من وجهين: أحدهما: أن إثبات التغليظ طريقه
التوقيف أو الاتفاق, ولا توقيف في إثبات التغليظ في الدراهم والدنانير
ولا اتفاق. والثاني: أن التغليظ في الإبل إنما هو من جهة الأسنان لا من
جهة زيادة العدد; وفي إثبات التغليظ من جهة زيادة الوزن في الورق
والذهب خروج عن الأصول. ووجه آخر يدل على أن الدراهم والدنانير ليست
على وجه القيمة عن الإبل, وهو أنه معلوم أن القاضي يقضي على العاقلة
إذا كانت من أهل الورق بالورق, وإذا كانت من أهل الذهب بالدنانير; فلو
كانت الإبل هي الواجبة والدراهم والدنانير بدل منها لما جاز أن يقضي
القاضي فيها بالدراهم والدنانير على أن تؤديها في ثلاث سنين; لأنه دين
بدين, فلما جاز ذلك دل على أنها ديات بأنفسها ليست أبدالا عن غيرها.
ويدل على أن التغليظ غير جائز في الدراهم والدنانير أن عمر رضي الله
عنه جعل الدية من الذهب ألف دينار من الورق ما اختلف عنه فيه, فروى عنه
أهل المدينة: "اثنا عشر ألفا" وروى عنه أهل العراق" عشرة آلاف" ولم
يفرق في ذلك في دية شبه العمد والخطإ وذلك بمحضر من الصحابة من غير
خلاف من أحد منهم عليه; فدل على أن اعتبار التغليظ فيها ساقط, ويدل
عليه أيضا أن الصحابة قد اختلفت في كيفية التغليظ في أسنان الإبل لما
كان التغليظ فيها واجبا, ولو كان التغليظ في الورق والذهب واجبا
لاختلفوا فيه حسب اختلافهم في الإبل; فلما لم يذكر عنهم خلاف في ذلك
وإنما روي عنهم في الذهب ألف دينار وفي الدراهم عشرة آلاف أو اثنا عشر
ألفا من غير زيادة ولا نقصان, ثبت بإجماعهم على ذلك نفي التغليظ في غير
الإبل.
فإن قيل على ما ذكرنا من الأصول لو كان من الإبل لكان قضاء القاضي
عليهم بالدية من الدراهم يوجب أن يكون دينا بدين: إن هذا كما يقولون
فيمن تزوج امرأة على عبد وسط" إنه إن جاء بالقيمة دراهم قبلت منه" ولم
يكن ذلك بيع دين بدين. قيل له: القاضي عندنا لا يقضي عليه بالدراهم إذا
تزوجها على عبد ولكنه يقول له: "إن شئت
(2/295)
فأعطها
عبدا وسطا وإن شئت قيمته دراهم" فليس فيما قلنا بيع دين بدين, والدية
يقضي بها القاضي على العاقلة دراهم ولا يقبل منهم الإبل إذا قضى بذلك;
وعلى أنه إنما تعتبر قيمة العبد في وقت ما يعطي قيمته دراهم, والإبل لا
تعتبر قيمتها إذا أراد القضاء بالدراهم سواء نقصت قيمتها أو زادت.
(2/296)
مطلب: في دية المقتول في الحرم والشهر الحرام
واختلف السلف وفقهاء الأمصار في المقتول في الحرم والشهر الحرام, فقال
أبو حنيفة ومحمد وزفر وابن أبي ليلى ومالك: "القتل في الحرم والشهر
الحرام كهو في غيره فيما يجب من الدية والقود". وسئل الأوزاعي عن القتل
في الشهر الحرام والحرم هل تغلظ الدية فيه؟ قال: "بلغنا أنه إذا قتل في
الحرم أو الشهر الحرام زيد على العقل ثلثه ويزاد في شبه العمد في أسنان
الإبل". وذكر المزني عن الشافعي في مختصره, وذكر تغليظ الدية في شبه
العمد وقال: "الدية في هذا على العاقلة, وكذلك الجراح, وكذلك التغليظ
في النفس والجراح في الشهر الحرام والبلد الحرام وذوي الرحم" وروي عن
عثمان أنه قضى في دية امرأة قتلت بمكة بدية وثلث وروى إبراهيم عن
الأسود أن رجلا أصيب عند البيت, فسأل عمر عليا, فقال له علي: "ديته من
بيت المال" فلم ير فيه علي أكثر من الدية, ولم يخالفه عمر. وقال الله
تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} وهو عام في الحل
والحرم, ولما كانت الكفارة في الحرم كهي في الحل لا فرق بينهما وإن كان
ذلك كله حقا لله تعالى, وجب أن تكون الدية كذلك; إذ الدية حق لآدمي ولا
تعلق لها بالحرم ولا بالشهر الحرام; لأن حرمة الحرم والشهر الحرام إنما
هي حق لله تعالى, فلو كان لحرمة الحرم والأشهر تأثير في إلزام الغرم
لكان تأثيره في الكفارة التي هي حق الله تعالى أولى. ويدل عليه قول
النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إن قتيل خطإ العمد قتيل السوط والعصا
فيه مائة من الإبل" ولم يفرق بين الحل والحرم. وقد اختلف التابعون في
ذلك, فروي عن سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن
وخارجة بن زيد وعبيد الله بن عبد الله وسليمان بن يسار: "الدية في
الحرم كهي في غيره, وكذلك الشهر الحرام". وروي عن القاسم بن محمد وسالم
بن عبد الله: "أن من قتل في الحرم زيد على ديته مثل ثلثها" والله أعلم.
(2/296)
باب الدية من غير الإبل
قال أبو حنيفة: "الدية من الإبل والدراهم والدنانير, فمن الدراهم عشرة
آلاف درهم ومن الدنانير ألف دينار". وأبو حنيفة لا يرى الدية إلا من
الإبل والورق والذهب
(2/296)
باب ديات أهل الكفر
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر وعثمان البتي وسفيان الثوري والحسن
بن صالح دية الكافر مثل دية المسلم اليهودي والنصراني والمجوسي
والمعاهد والذمي سواء". وقال مالك بن أنس دية أهل الكتاب على النصف من
دية المسلم ودية المجوسي ثمانمائة درهم وديات نسائهم على النصف من
ذلك". وقال الشافعي دية اليهودي والنصراني ثلث الدية ودية المجوسي
ثمانمائة والمرأة على النصف"
قال أبو بكر: الدليل على مساواتهم المسلمين في الديات قوله عز وجل:
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} إلى
قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ
فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} والدية اسم لمقدار معلوم من
المال بدلا من نفس الحر; لأن الديات قد كانت متعالمة معروفة بينهم قبل
الإسلام وبعده, فرجع الكلام إليها في قوله في قتل المؤمن خطأ ثم لما
عطف عليه قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} كانت هذه
الدية هي الدية المذكورة بديا; إذ لو لم تكن كذلك لما كانت دية; لأن
الدية اسم لمقدار معلوم من بدل النفس لا يزيد ولا ينقص. وقد كانوا قبل
ذلك يعرفون مقادير الديات ولم يكونوا يعرفون الفرق بين دية المسلم
والكافر فوجب أن تكون الدية المذكورة للكافر هي التي ذكرت للمسلم, وأن
يكون قوله تعالى {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} راجعا إليها,
كما عقل من دية المسلم أنها المعتاد المتعارف عندهم, ولولا أن ذلك كذلك
لكان اللفظ مجملا مفتقرا إلى البيان, وليس الأمر كذلك.
فإن قيل: فقوله تعالى {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} لا يدل
على أنها مثل دية المسلم, كما أن دية المرأة على النصف من دية الرجل
ولا يخرجها ذلك من أن تكون دية كاملة لها. قيل له: هذا غلط من وجهين:
أحدهما: أن الله تعالى إنما ذكر الرجل في الآية فقال: {وَمَنْ قَتَلَ
مُؤْمِناً خَطَأً} ثم قال: { وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} , فكما
اقتضى فيما ذكره للمسلم كمال الدية كذلك دية المعاهد لتساويهما في
اللفظ مع وجود التعارف عندهم في مقدار الدية. والوجه الآخر: أن دية
(2/298)
المرأة لا
يطلق عليها اسم الدية وإنما يتناولها الاسم مقيدا ألا ترى أنه يقال دية
المرأة نصف الدية وإطلاق اسم الدية إنما يقع على المتعارف المعتاد وهو
كمالها؟.
فإن قيل: قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} يحتمل أن يريد به: وإن كان المقتول المؤمن من
قوم بينكم وبينهم ميثاق; فاكتفى بذكر الإيمان للقتيلين الأولين عن
إعادته في القتيل الثالث. قيل له: هذا غلط من وجوه: أحدها: أنه قد تقدم
في أول الخطاب ذكر القتيل المؤمن خطأ وحكمه, وذلك عموم يقتضي سائر
المؤمنين إلا ما خصه الدليل, فغير جائز إعادة ذكر المؤمن بذلك الحكم في
سياق الآية مع شمول أول الآية له ولغيره, فعلمنا أنه لم يرد المؤمن ممن
كان بيننا وبينهم ميثاق. والثاني: لما لم يقيده بذكر الإيمان وجب
إجراؤه في الجميع من المؤمنين والكفار من قوم بيننا وبينهم ميثاق, وغير
جائز تخصيصه بالمؤمنين دون الكافرين بغير دلالة. والثالث: أن إطلاق
القول بأنه من المعاهدين يقتضي أن يكون معاهدا مثلهم, ألا ترى أن قول
القائل: "إن هذا الرجل من أهل الذمة" يفيد أنه ذمي مثلهم؟ وظاهر قوله
تعالى: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}
يوجب أن يكون معاهدا مثلهم ألا ترى أنه لما أراد بيان حكم المؤمن إذا
كان من ذوي أنساب المشركين قال: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ
لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فقيده بذكر
الإيمان؟ لأنه لو أطلقه لكان المفهوم منه أنه كافر مثلهم. والرابع: أنه
لو كان كما قال هذا القائل لما كانت الدية مسلمة إلى أهله; لأن أهله
كفار لا يرثونه. فهذه الوجوه كلها تقتضي المساواة وفساد هذا التأويل.
ويدل على صحة قول أصحابنا أيضا ما رواه محمد بن إسحاق عن داود بن
الحصين عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما نزلت: {فَإِنْ جَاءُوكَ
فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 42] الآية, قال: "كان إذا قتل بنو
النضير من بني قريظة قتيلا أدوا نصف الدية, وإذا قتل بنو قريظة من بني
النضير أدوا الدية إليهم, قال: فسوى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بينهم في الدية". قال أبو بكر: لما قال: "أدوا الدية" ثم قال: "سوى
بينهم في الدية" دل ذلك على أنه راجع إلى الدية المعهودة المبدوء
بذكرها; لأنه لو كان رد بني النضير إلى نصفها لقال: سوى بينهم في نصف
الدية, ولم يقل: سوى بينهم في الدية. ويدل عليه أيضا قول النبي صلى
الله عليه وسلم: "في النفس مائة من الإبل" وهو عام في الكافر والمسلم.
وروى مقسم عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم ودى العامريين
وكانا مشركين دية الحرين المسلمين. وروى محمد بن عبدوس قال: حدثنا علي
بن الجعد قال: حدثنا أبو بكر قال: سمعت نافع عن ابن عمر عن النبي صلى
الله عليه وسلم: أنه "ودى ذميا دية مسلم". وهذان الخبران يوجبان مساواة
الكافر للمسلم في الدية; لأنه معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم
وداهما بما في الآية في قوله عز وجل: {وَإِنْ
(2/299)
كَانَ
مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ
إِلَى أَهْلِهِ} فدل على أن المراد من الآية دية المسلم. وأيضا لما لم
يكن مقدار الدية مبينا في الكتاب, كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم
واردا مورد البيان, وفعله صلى الله عليه وسلم إذا ورد مورد البيان فهو
على الوجوب. وروى أبو حنيفة عن الهيثم عن أبي الهيثم أن النبي صلى الله
عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان قالوا "دية المعاهد دية الحر المسلم" .
وروى إبراهيم بن سعد عن ابن شهاب قال: "كان أبو بكر وعمر وعثمان يجعلون
دية اليهودي والنصراني إذا كانوا معاهدين مثل دية المسلم". وروى سعيد
بن أبي أيوب قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب أن جعفر بن عبد الله بن الحكم
أخبره: أن رفاعة بن السموأل يهودي قتل بالشام, فجعل عمر ديته ألف
دينار". وروى محمد بن إسحاق عن أبان بن صالح عن مجاهد عن ابن مسعود قال
دية أهل الكتاب مثل دية المسلمين" وهو قول علقمة وإبراهيم ومجاهد وعطاء
والشعبي. وروى الزهري عن سالم عن أبيه: "أن مسلما قتل كافرا من أهل
العقد, فقضى عليه عثمان بن عفان بدية المسلم". فهذه الأخبار وما ذكرنا
من أقاويل السلف مع موافقتها لظاهر الآية توجب مساواة الكافر للمسلم في
الديات. وقد روي عن سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال دية اليهودي
والنصراني أربعة آلاف درهم ودية المجوسي ثمانمائة". قال سعيد: "وقضى
عثمان في دية المعاهد بأربعة آلاف". قال أبو بكر: وقد روي عنهما خلاف
ذلك وقد ذكرناه.
واحتج المخالف بما رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله
عليه وسلم لما دخل مكة عام الفتح قال في خطبته: ودية الكافر نصف دية
المسلم وبما روى عبد الله بن صالح قال: حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي
حبيب عن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم "دية المجوس ثمانمائة" . قيل له: قد علمنا حضور هؤلاء الصحابة
الذين ذكرنا عنهم مقدار الدية خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمكة, فلو
كان ذلك ثابتا لعرفه هؤلاء ولما عدلوا عنه إلى غيره. وأيضا قد روي عنه
صلى الله عليه وسلم أنه قال "دية المعاهد مثل دية المسلم" وأنه ودى
العامريين دية الحرين المسلمين; وهذا أولى لما فيه من الزيادة, ولو
تعارض الخبران لكان ما اقتضاه ظاهر الكتاب وما ورد به النقل المتواتر
عن الرسول صلى الله عليه وسلم في أن الدية مائة من الإبل من غير فصل
فيه بين المسلم والكافر أولى فوجب تساويهما في الديات. وأما حديث عقبة
بن عامر في دية المجوسي فإنه حديث واه لا يحتج بمثله; لأن ابن لهيعة
ضعيف لا سيما من رواية عبد الله بن صالح عنه.
فإن قيل: قوله تعالى {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} عطفا على
ما ذكر في دية المسلم لا يدل على تساوي الديتين, كما لو قال: من قتل
عبدا فعليه قيمته ومن استهلك ثوبا فعليه قيمته, لم يدل على تساوي
القيمتين. قيل له: الفرق بينهما أن الدية اسم لمقدار من
(2/300)
المال
بدلا من نفس الحر كانت معلومة المقدار عندهم وهي مائة من الإبل, فمتى
أطلقت كان من مفهوم اللفظ هذا القدر, فإطلاق لفظ الدية قد أنبأ عن هذا
المعنى, وعطفها على الدية المتقدمة مع تساوي اللفظ فيهما بأنها دية
مسلمة قد اقتضى ذلك أيضا; والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب.
(2/301)
باب المسلم يقيم في دار الحرب فيقتل قبل أن يهاجر إلينا
قال الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} روى إسرائيل عن سماك عن
عكرمة عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ
لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} قال: "يكون الرجل مؤمنا وقومه كفارا فلا دية
له ولكن عتق رقبة مؤمنة". قال أبو بكر: هذا محمول على الذي يسلم في دار
الحرب فيقتل قبل أن يهاجر إلينا; لأنه غير جائز أن يكون مراده في
المؤمن في دار الإسلام إذا قتل وله أقارب كفار لأنه لا خلاف بين
المسلمين أن على قاتله الدية لبيت المال, وأن كون أقربائه كفارا لا
يوجب سقوط ديته لأنهم بمنزلة الأموات حيث لا يرثونه.
وروى عطاء بن السائب عن أبي يحيى عن ابن عباس: {فَإِنْ كَانَ مِنْ
قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} الآية, قال: "كان الرجل يأتي النبي صلى الله
عليه وسلم فيسلم, ثم يرجع إلى قومه فيكون فيهم فيصيبه المسلمون خطأ في
سرية أو غزاة, فيعتق الذي يصيبه رقبة". قال أبو بكر: إذا أسلم في دار
الإسلام لم تسقط ديته برجوعه إلى دار الحرب كسائر المسلمين; لأن ما
بينه وبين المشركين من القرابة لا تأثير له في إسقاط قيمة دمه, كسائر
أهل دار الإسلام إذا دخلوا دار الحرب بأمان, على القاتل الدية. وروي عن
أبي عياض مثل ما روي عن ابن عباس. وقال قتادة: "هو المسلم يكون في
المشركين فيقتله المؤمن ولا يدري ففيه عتق رقبة وليس فيه دية". وهذا
على أن يقتل قبل الهجرة إلى دار الإسلام. وروى مغيرة عن إبراهيم:
{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} قال: "هو المؤمن يقتل وقومه
مشركون ليس بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد, فعليه تحرير
رقبة, وإن كان بينهم وبين النبي عليه السلام عهد أدى ديته إلى قرابته
الذين بينهم وبين النبي عليه السلام عهد". قال أبو بكر: وهذا لا معنى
له, من قبل أن أقرباءه لا يرثونه لأنهم كفار وهو مسلم فكيف يأخذون ديته
وإن كان قومه أهل حرب وهو من أهل دار الإسلام فالدية واجبة لبيت المال
كمسلم قتل في دار الإسلام ولا وارث له.
وقد اختلف فقهاء الأمصار فيمن قتل في دار الحرب وهو مؤمن قبل أن يهاجر,
فقال أبو حنيفة وأبو يوسف في الرواية المشهورة ومحمد في الحربي يسلم.
فيقتله مسلم
(2/301)
مستأمن
قبل أن يخرج فلا شيء عليه إلا الكفارة في الخطإ, وإن كانا مستأمنين
دخلا دار الحرب فقتل أحدهما صاحبه فعليه الدية في العمد والخطإ
والكفارة في الخطإ خاصة, وإن كانا أسيرين فلا شيء على القاتل إلا
الكفارة في الخطإ, في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: "عليه الدية
في العمد والخطإ". وروى بشر بن الوليد عن أبي يوسف في الحربي يسلم في
دار الحرب فيقتله رجل مسلم قبل أن يخرج إلينا أن عليه الدية استحسانا,
ولو وقع في بئر حفرها أو وقع عليه ميزاب عمله لم يضمن شيئا. وهذا خلاف
المشهور من قوله وخلاف القياس أيضا. وقال مالك: وإذا أسلم في دار الحرب
فقتل قبل أن يخرج إلينا فعلى قاتله الدية والكفارة إن كان خطأ قال:
وقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} إنما كان في صلح النبي صلى
الله عليه وسلم أهل مكة; لأن من لم يهاجر لم يورث; لأنهم كانوا
يتوارثون بالهجرة; قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ
يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى
يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] فلم يكن لمن لم يهاجر ورثة يستحقون ميراثه,
فلم تجب الدية; ثم نسخ ذلك بقوله: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ
أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75]. وقال الحسن بن
صالح: "من أقام في أرض العدو وإن انتحل الإسلام وهو يقدر على التحول
إلى المسلمين فأحكامه أحكام المشركين, وإذا أسلم الحربي فأقام ببلادهم
وهو يقدر على الخروج فليس بمسلم يحكم فيه بما يحكم على أهل الحرب في
ماله ونفسه". وقال الحسن: "إذا لحق الرجل بدار الحرب ولم يرتد عن
الإسلام فهو مرتد بتركه دار الإسلام". وقال الشافعي: "إذا قتل المسلم
مسلما في دار الحرب في الغارة أو الحرب وهو لا يعلمه مسلما فلا عقل فيه
ولا قود وعليه الكفارة, وسواء كان المسلم أسيرا أو مستأمنا أو رجلا
أسلم هناك; وإن علمه مسلما فقتله فعليه القود.
قال أبو بكر: لا يخلو قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ
لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} من أن يكون المراد به
الحربي الذي يسلم فيقتل قبل أن يهاجر على ما قاله أصحابنا, أو المسلم
الذي له قرابات من أهل الحرب; لأن قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ
قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} يحتمل المعنيين جميعا بأن يكون من أهل دار
الحرب وبأن يكون ذا نسب من أهل الحرب, فلو خلينا والظاهر لأسقطنا دية
من قتل في دار الإسلام من المسلمين إذا كان ذا قرابة من أهل الحرب
لاقتضاء الظاهر ذلك, فلما اتفق المسلمون على أن كونه ذا قرابة من أهل
الحرب لا يسقط حكم دمه في إيجاب الدية أو القود إذا قتل في دار الإسلام
دل ذلك على أن المراد: من كان مسلما من أهل دار الحرب لم يهاجر إلى دار
الإسلام, فيكون الواجب على قاتله خطأ الكفارة دون الدية; لأن الله
تعالى إنما أوجب
(2/302)
فيه
الكفارة ولم يوجب الدية; وغير جائز أن يزاد في النص إلا بنص مثله; إذ
كانت الزيادة في النص توجب النسخ.
فإن قيل: هلا أوجبت الدية بقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً
خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى
أَهْلِهِ} قيل له: غير جائز أن يكون هذا المؤمن مرادا بالمؤمن المذكور
في أول الآية; لأن فيها إيجاب الدية والرقبة, فيمتنع أن نعطفه عليه
ونشرط كونه من أهل دار الحرب ونوجب فيه الرقبة وهو قد أوجبها بديا مع
الدية في ابتداء الخطاب. وأيضا فإن قوله: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ
عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} استئناف كلام لم يتقدم له ذكر في
الخطاب; لأنه لا يجوز أن يقال: "أعط هذا رجلا وإن كان رجلا فأعطه" هذا
كلام فاسد لا يتكلم به حكيم, فثبت أن هذا المؤمن المعطوف على الأول غير
داخل في أول الخطاب.
ويدل عليه من جهة السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال:
حدثنا هناد بن السري قال: حدثنا أبو معاوية عن إسماعيل عن قيس عن جرير
بن عبد الله قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم,
فاعتصم ناس منهم بالسجود, فأسرع فيهم القتل, فبلغ ذلك النبي صلى الله
عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل, وقال: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين
أظهر المشركين" قالوا: يا رسول الله لم؟ قال: "لا تراءى ناراهما".
وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن علي بن شعيب قال: حدثنا
ابن عائشة قال: حدثنا حماد بن سلمة عن الحجاج عن إسماعيل عن قيس عن
جرير بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أقام مع
المشركين فقد برئت منه الذمة أو قال: لا ذمة له" ; قال ابن عائشة: هو
الرجل يسلم فيقيم معهم فيغزون, فإن أصيب فلا دية له لقوله عليه السلام
فقد برئت منه الذمة. وقوله: "أنا بريء منه" يدل على أن لا قيمة لدمه
كأهل الحرب الذين لا ذمة لهم, ولما أمر لهم بنصف العقل في الحديث الأول
كان ذلك على أحد وجهين: إما أن يكون الموضع الذي قتل فيه كان مشكوكا في
أنه من دار الحرب أو من دار الإسلام, أو أن يكون النبي عليه السلام
تبرع به; لأنه لو كان جميعه واجبا لما اقتصر على نصفه.
وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا
شيبان قال: حدثنا سليمان يعني ابن المغيرة قال: حدثنا حميد بن هلال
قال: أتاني أبو العالية وصاحب لي, فانطلقنا حتى أتينا بشر بن عاصم
الليثي, فقال أبو العالية حدث هذين فقال بشر: حدثني عقبة بن مالك
الليثي وكان من رهطه قال: بعث رسول الله سرية فأغارت على قوم, فشذ رجل
من القوم واتبعه رجل من السرية ومعه السيف
(2/303)
شاهره,
فقال الشاذ: إني مسلم, فضربه فقتله, فنما الحديث إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال فيه قولا شديدا, فقال القاتل: يا رسول الله ما قال
إلا تعوذا من القتل, فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارا
تعرف المساءة في وجهه, وقال: "إن الله أبى علي أن أقتل مؤمنا ثلاث
مرات" . قال أبو بكر: فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بإيمان المقتول
ولم يوجب على قاتله الدية; لأنه كان حربيا لم يهاجر بعد إسلامه. وحدثنا
محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا الحسن بن علي وعثمان بن
أبي شيبة قالا: حدثنا يعلى بن عبيد عن الأعمش عن أبي ظبيان قال: حدثنا
أسامة بن زيد قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى
الحرقات1 فنذروا بنا فهربوا, فأدركنا رجلا, فلما غشيناه قال: لا إله
إلا الله, فضربناه حتى قتلناه, فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:
"من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟" فقلت: يا رسول الله إنما قالها
مخافة السلاح, قال: "أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم من أجل ذلك قالها أم
لا؟ من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟ فما زال يقولها حتى أني وددت
أني لم أسلم إلا يومئذ". وهذا الحديث أيضا يدل على ما قلنا لأنه لم
يوجب عليه شيئا. وهو حجة على الشافعي في إيجابه القود على قاتل المسلم
في دار الحرب إذا علم أنه مسلم; لأن النبي عليه السلام قد أخبر بإسلام
هذا الرجل ولم يوجب على أسامة دية ولا قودا. وأما قول مالك إن قوله
تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} إنما كان حكما لمن
أسلم ولم يهاجر وهو منسوخ بقوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحَامِ
بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] فإنه
دعوى لنسخ حكم ثابت في القرآن بلا دلالة, وليس في نسخ التوارث بالهجرة
وإثباته بالرحم ما يوجب نسخ هذا الحكم, بل هو حكم ثابت بنفسه لا تعلق
له بالميراث. وعلى أنه في حال ما كان التوارث بالهجرة قد كان من لم
يهاجر من القرابات يرث بعضهم بعضا, وإنما كانت الهجرة قاطعة للميراث
بين المهاجر وبين من لم يهاجر, فأما من لم يهاجر فقد كانوا يتوارثون
بأسباب أخر, فلو كان الأمر على ما قاله مالك لوجب أن تكون دية واجبة
لمن لم يهاجر من أقربائه; لأنه معلوم أنه لم يكن ميراث من لم يهاجر
مهملا لا مستحق له, فلما لم يوجب الله تعالى له دية قبل الهجرة لا
للمهاجرين ولا لغيرهم علمنا أنه كان مبقى على حكم الحرب لا قيمة لدمه;
وقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} يفيد أنه ما
لم يهاجر فهو من أهل دار الحرب باق على حكمه الأول في أن لا قيمة لدمه
وإن كان دمه محظورا; إذ كانت النسبة إليهم قد تصح بأن يكون من بلدهم
وإن لم يكن بينه وبينهم رحم بعد أن يجمعهم في الوطن بلد أو قرية أو
صقع, فنسبه الله إليهم بعد
ـــــــ
1 قوله: "الحرقات" بضم الحاء المهملة وفتح الراء والقاف: موضع معروف من
بلاد جهينة, كذا في ابن رسلان "لمصححه".
(2/304)
الإسلام;
إذ كان من أهل ديارهم, ودل ذلك على أن لا قيمة لدمه.
وأما قول الحسن بن صالح في أن المسلم إذا لحق بدار الحرب فهو مرتد,
فإنه خلاف الكتاب والإجماع; لأن الله تعالى قال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى
يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] فجعلهم مؤمنين مع إقامتهم في دار الحرب بعد
إسلامهم, وأوجب علينا نصرتهم بقوله: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي
الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ} [لأنفال: 72] ولو كان ما قال صحيحا
لوجب أن لا يجوز للتجار دخول دار الحرب بأمان وأن يكونوا بذلك مرتدين,
وليس هذا قول أحد.
فإن احتج محتج بما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إسماعيل بن
الفضل وعبدان المروزي قالا: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا حميد بن
عبد الرحمن عن أبيه عن أبي إسحاق عن الشعبي عن جرير قال: سمعت النبي
صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا أبق العبد إلى المشركين فقد حل دمه" فإن
هذا محمول عندنا على أنه قد لحق بهم مرتدا عن الإسلام; لأن إباق العبد
لا يبيح دمه, واللحاق بدار الحرب كدخول التاجر إليها بأمان فلا يبيح
دمه.
(2/305)
مطلب: في حكم دم المسلم وماله إذا أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا
وأما قول الشافعي في أن من أصاب مسلما في دار الحرب وهو لا يعلمه مسلما
فلا شيء عليه, وإن علم بإسلامه أقيد به; فإنه متناقض من قبل أنه إذا
ثبت أن لدمه قيمة لم يختلف حكم العمد والخطإ في وجوب بدله في العمد
وديته في الخطإ, فإذا لم يجب في الخطإ شيء كذلك حكم العبد فيه. ولما
ثبت بما قدمنا أنه لا قيمة لدم المقيم في دار الحرب بعد إسلامه قبل
الهجرة إلينا وكان مبقى على حكم الحرب وإن كان محظور الدم أجروه
أصحابنا مجرى الحربي في إسقاط الضمان عن متلف ماله; لأن دمه أعظم حرمة
من ماله, ولا ضمان على متلف نفسه. فماله أحرى أن لا يجب فيه ضمان, وأن
يكون كمال الحربي من هذا الوجه; ولذلك أجاز أبو حنيفة مبايعته على سبيل
ما يجوز مبايعة الحربي من بيع الدرهم بالدرهمين في دار الحرب. وأما
الأسير في دار الحرب فإن أبا حنيفة أجراه مجرى الذي أسلم هناك قبل أن
يهاجر وذلك لأن إقامته هناك لا على وجه الأمان وهو مقهور مغلوب, فلما
استويا من هذا الوجه استوى حكمهما في سقوط الضمان عن قاتلهما; والله
أعلم.
(2/305)
ذكر أقسام القتل وأحكامه
قال أبو بكر: القتل ينقسم إلى أربعة أنحاء: واجب, ومباح, ومحظور, وما
ليس
(2/305)
باب القتل العمد هل فيه كفارة
قال الله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ} فنص على إيجاب الكفارة في قتل الخطإ; وذكر قتل العمد في
قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:
178], وقال: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45], وخصه بالعمد; فلما
كان كل واحد من القتيلين مذكورا بعينه ومنصوصا على حكمه لم يجز لنا أن
نتعدى ما نص الله تعالى علينا فيهما,; إذ غير جائز قياس المنصوصات
بعضها على بعض; وهذا قول أصحابنا جميعا. وقال الشافعي: "على قاتل العمد
الكفارة"; ومع ذلك ففي إثبات الكفارة في العمد زيادة في حكم النص, وغير
جائز الزيادة في النص إلا بمثل ما يجوز به النسخ; وأيضا فغير جائز
إثبات الكفارات قياسا وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق. وأيضا لما نص
الله على حكم كل واحد من القتيلين وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من
أدخل في أمرنا ما ليس منه فهو رد" فموجب الكفارة على العامد مدخل في
أمره ما ليس منه.
فإن قيل: لما وجبت الكفارة في الخطإ فهي في العمد أوجب; لأنه أغلظ. قيل
له: ليست هذه الكفارة مستحقة بالمأثم فيعتبر عظم المأثم فيها; لأن
المخطئ غير آثم, فاعتبار المأثم فيه ساقط; وأيضا قد أوجب النبي صلى
الله عليه وسلم سجود السهو على الساهي, ولا يجب على العامد وإن كان
العمد أغلظ.
فإن احتجوا بحديث ضمرة عن إبراهيم بن عبلة عن العريف بن الديلي عن
واثلة بن الأسقع قال: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا
قد أوجب يعني النار بالقتل, فقال: "أعتقوا عنه يعتق الله بكل عضو منه
عضوا من النار" . قيل له رواه ابن المبارك وهانئ بن عبد الرحمن بن أخي
إبراهيم بن أبي عبلة هذا الحديث عن أبي عبلة, فلم يذكر أنه أوجب
بالقتل; وهؤلاء أثبت من ضمرة بن ربيعة. ومع ذلك لو ثبت الحديث على ما
رواه ضمرة لم يدل على قول المخالف من وجوه: أحدها: أنه تأويل من الراوي
في قوله: "أوجب النار بالقتل" لأنه قال: يعني بالقتل. والثاني: أنه لو
أراد رقبة القتل لذكر رقبة مؤمنة, فلما لم يشرط لهم الإيمان فيها دل
على أنها ليست من كفارة القتل; وأيضا فإنما أمرهم بأن يعتقوا عنه, ولا
خلاف أنه ليس عليهم عتقها عنه; وأيضا فإن عتق الغير عن القاتل لا يجزيه
عن الكفارة.
قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} جعل الله من صفة رقبة
القتل الإيمان, ولا خلاف أنها لا تجزي إلا بهذه الصفة, وهذا يدل على
أنه عتق الرقبة المؤمنة أفضل من الكافرة; لأن هذه الصفة قد صارت شرطا
في الفرض, وكذلك من نذر أن يعتق رقبة
(2/307)
مؤمنة لم
تجزه الكافرة لأنه أوجبها مقرونة بصفة هي قربة وفي ذلك دليل على أن
الصدقة على المسلمين أفضل منها على الكفار الذميين وإن كانت تطوعا,
وكذلك جعل الله التتابع في صوم كفارة القتل صفة زائدة, ولا خلاف أنه لا
يجزي إلا بهذه الصفة مع الإمكان; وكذلك قال أصحابنا فيمن أوجب صوم شهر
متتابع أنه لا يجزيه التفريق لإيجابه إياه بصفة هي قربة, فوجبت حين
أوجبها كما وجب المنذور من الصوم.
قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ} . قال أبو بكر: لم يختلف الفقهاء أنه إذا صام بالأهلة
أنه لا يعتبر فيه النقصان, وأنها إن كانت ناقصة أو تامة أجزأته, وقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم
فعدوا ثلاثين", فأمر باعتبار الشهور بالأهلة وأمر عند عدم الرؤية
باعتبار الثلاثين; وإن ابتدأ صيام الشهرين من بعض الشهر اعتبر الشهر
الثاني بالهلال وبقية الشهر الأول بالعدد تمام ثلاثين, وهو قول أبي
حنيفة وأبي يوسف ومحمد. وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه لا يعتبر
الأهلة إلا أن يكون ابتداء صومه بالهلال, وروي نحوه عن الحسن البصري.
والأول أصح; لأنه قد روي في معنى قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ
أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2]. أنها بقية ذي الحجة والمحرم وصفر
وربيع الأول وبقية من ربيع الآخر, فاعتبر الكسر بالأيام على التمام
وسائر الشهور بالأهلة; وقوله: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}
معلوم أنه كلفنا التتابع على حسب الإمكان, وفي العادة أن المرأة لا
تخلو من حيض في كل شهر, ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت
جحش: "تحيضي1 في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء في كل شهر",
فأخبر أن عادة النساء حيضة في كل شهر; فإذا كان تكليف صوم التتابع على
حسب الإمكان وكانت المرأة إذا كان عليها صوم شهرين متتابعين لم يكن في
وسعها في العادة أن تصوم شهرين لا حيض فيهما سقط حكم أيام الحيض ولم
يقطع حكم التتابع وصارت أيام الحيض بمنزلة الليل الذي لا يقطع التتابع;
وهو قول الشافعي2, وروي عن إبراهيم أنها تستقبل. وقال أصحابنا: "إذا
مرض في الشهرين فأفطر استقبل" وقال مالك: "يصل ويجزيه" وفرقوا بين
الحيض والمرض لأنه يمكنه في العادة صيام شهرين متتابعين بلا مرض ولا
يمكنها ذلك بلا حيض. ووجه آخر, وهو
ـــــــ
1 قوله: "تحيضي" يقال تحيضت المراة إذا قعدت أيام حيضها تنتظر انقطاعه,
أراد عدي نفسك حائضا وافعلي ما تفعل الحائض. وإنما خص الست والسبع
لأنها الغالب على أيام الحيض. كذا في النهاية, "لمصححه".
2 قوله: "وهو قول الشافعي" في بعض النسخ "الشعبي" مكان "الشافعي"
"لمصححه".
(2/308)
أن حدوث
المرض لا يوجب الإفطار بل الإفطار بفعله, والحيض ينافي الصوم لا
بفعلها, فأشبه الليل ولم يقطع التتابع.
قوله تعالى {تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} قيل فيه: إن معناه اعملوا بما
أوجبه الله للتوبة من الله; أي ليقبل الله توبتكم فيما اقترفتموه من
ذنوبكم. وقيل إنه خاص في سبب القتل, فأمر بالتوبة منه. وقيل معناه
توسعة ورحمة من الله, كما قال: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ}
[البقرة: 187] والمعنى: وسع عليكم وسهل عليكم.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى
إِلَيْكُمُ السَّلامَ} الآية. روي أن سبب نزول هذه الآية أن سرية للنبي
صلى الله عليه وسلم لقيت رجلا ومعه غنيمات له, فقال: السلام عليكم لا
إله إلا الله محمد رسول الله, فقتله رجل من القوم; فلما رجعوا أخبروا.
النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: لم قتلته وقد أسلم؟ فقال: إنما
قالها متعوذا من القتل, فقال: "هلا شققت عن قلبه وحمل رسول الله صلى
الله عليه وسلم ديته إلى أهله ورد عليهم غنيماته". قال ابن عمر وعبد
الله بن أبي حدرد: القاتل محلم بن جثامة قتل عامر بن الأضبط الأشجعي.
وروي أن القاتل مات بعد أيام, فلما دفن لفظته الأرض ثلاث مرات, فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الأرض لتقبل من هو شر منه ولكن الله
أراد أن يريكم عظم الدم عنده" ثم أمر أن يلقى عليه الحجارة. وهذه القصة
مشهورة لمحلم بن جثامة, وقد ذكرنا حديث أسامة بن زيد أنه قتل في سرية
رجلا قال لا إله إلا الله, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " "قتلته
بعدما قال لا إله إلا الله فقال: إنما قالها تعوذا, فقال: هلا شققت عن
قلبه من لك بلا إله إلا الله؟ وذكرنا أيضا حديث عقبة بن مالك الليثي في
هذا المعنى وأن الرجل قال: إني مسلم, فقتله, فأنكره النبي صلى الله
عليه وسلم وقال: "إن الله أبى علي أن أقتل مؤمنا" . وحدثنا محمد بن بكر
قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا الليث عن ابن
شهاب عن عطاء بن يزيد الليثي عن عبيد الله بن عدي بن الخيار عن المقداد
بن الأسود, أنه أخبره أنه قال: يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلا من
الكفار فقاتلني فضرب إحدى يدي بالسيف ثم لاذ مني بشجرة فقال أسلمت لله
أفأقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لا تقتله" فقلت: يا رسول الله إنه قطع يدي, قال: "لا تقتله فإن قتلته
فإنه بمنزلتك قبل أن تقتله وأنت بمنزلته قبل أن يقول كلمته التي قال" .
وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال: حدثنا أبو
النضر هاشم بن القاسم قال: حدثنا المسعودي عن قتادة عن أبي مجلز عن أبي
عبيدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا شرع أحدكم الرمح
إلى الرجل فإن كان سنانه عند ثغرة نحره فقال لا إله إلا الله فليرجع
عنه الرمح" وقال أبو عبيدة: "جعل الله تعالى هذه الكلمة أمنة المسلم
وعصمة ماله ودمه, وجعل الجزية أمنة
(2/309)
الكافر
وعصمة ماله ودمه"; وهو نظير ما روي في آثار متواترة عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
وفي بعضها: وأن محمدا رسول الله صلي فإذا قالوها عصموا مني دماءهم
وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" رواه عمر وجرير بن عبد الله وابن
عمر وأنس بن مالك وأبو هريرة. وقالوا لأبي بكر الصديق حين أراد قتل
العرب لما امتنعوا من أداء الزكاة: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله, فإذا قالوها عصموا
مني دماءهم وأموالهم" فقال أبو بكر: إلا بحقها, وهذا من حقها"; فاتفقت
الصحابة على صحة هذا الخبر, وهو في معنى قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا
لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً}, فحكم الله
تعالى بصحة إيمان من أظهر الإسلام, وأمرنا بإجرائه على أحكام المسلمين
وإن كان في المغيب على خلافه.
وهذا مما يحتج به في قبول توبة الزنديق متى أظهر الإسلام; لأن الله
تعالى لم يفرق بين الزنديق وغيره إذا أظهر الإسلام; وهو يوجب أن من قال
لا إله إلا الله محمد رسول الله, أو قال إني مسلم, أنه يحكم له بحكم
الإسلام; لأن قوله تعالى: {لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ} إنما
معناه: لمن استسلم فأظهر الانقياد لما دعي إليه من الإسلام وإذا قرئ"
السلام" فهو إظهار تحية الإسلام, وقد كان ذلك علما لمن أظهر به الدخول
في الإسلام; وقال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قتل الرجل الذي
قال أسلمت والذي قال لا إله إلا الله: "قتلته بعدما أسلم؟" فحكم له
بالإسلام بإظهار هذا القول.
وقال محمد بن الحسن في كتاب السير الكبير: "لو أن يهوديا أونصرانيا قال
أنا مسلم لم يكن بهذا القول مسلما; لأن كلهم يقولون نحن مسلمون ونحن
مؤمنون يقولون إن ديننا هو الإيمان وهو الإسلام, فليس في هذا دليل على
الإسلام منهم". وقال محمد: "ولو أن رجلا من المسلمين حمل على رجل من
المشركين ليقتله فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله كان
هذا مسلما, وإن رجع عن هذا ضرب عنقه; لأن هذا هو الدليل على الإسلام".
(2/310)
مطلب: في بيان المراد من قوله عليه السلام: "أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا لا إلله إلا الله"
قال أبو بكر: لم يجعل اليهودي مسلما بقوله: "أنا مسلم أو مؤمن"; لأنهم
كذلك يقولون, ويقولون الإيمان والإسلام هو ما نحن عليه; فليس في هذا
القول دليل على إسلامه, وليس اليهودي والنصراني بمنزلة المشركين الذين
كانوا في زمان النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم
(2/310)
كانوا
عبدة أوثان, فكان إقرارهم بالتوحيد وقول القائل منهم إني مسلم وإني
مؤمن تركا لما كان عليه ودخولا في الإسلام, فكان يقتصر منه على هذا
القول لأنه كان لا يسمح به إلا وقد صدق النبي صلى الله عليه وسلم وآمن
به. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا لا إله إلا الله, فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" وإنما
أراد المشركين بهذا القول دون اليهود; لأن اليهود قد كانوا يقولون: "لا
إله إلا الله" وكذلك النصارى يطلقون ذلك وإن ناقضوا بعد ذلك في التفصيل
فيثبتونه ثلاثة; فعلمنا أن قول: "لا إله إلا الله" إنما كان علما
لإسلام مشركي العرب لأنهم كانوا لا يعترفون بذلك إلا استجابة لدعاء
النبي صلى الله عليه وسلم وتصديقا له فيما دعاهم إليه. ألا ترى إلى
قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا
اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35] واليهود والنصارى يوافقون
المسلمين على إطلاق هذه الكلمة وإنما يخالفون في نبوة النبي, فمتى أظهر
منهم مظهر الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم فهو مسلم.
وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة في اليهودي والنصراني إذا قال: "أشهد
أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله" ولم يقل إني داخل في الإسلام
ولا برئ من اليهودية ولا من النصرانية, لم يكن بذلك مسلما. وأحسب أني
قد رأيت عن محمد مثل هذا, إلا أن الذي ذكره محمد في السير الكبير خلاف
ما رواه الحسن بن زياد, ووجه ما رواه الحسن بن زياد أن من هؤلاء من
يقول إن محمدا رسول الله ولكنه رسول إليكم, ومنهم من يقول إن محمدا
رسول الله ولكنه لم يبعث بعد وسيبعث; فلما كان فيهم من يقول ذلك في حال
إقامته على اليهودية أو النصرانية لم يكن في إظهاره لذلك ما يدل على
إسلامه حتى يقول إني داخل في الإسلام أو يقول إني بريء من اليهودية أو
النصرانية; فقوله عز وجل: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ
السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} لو خلينا وظاهره لم يدل على أن فاعل ذلك
محكوم له بالإسلام; لأنه جائز أن يكون المراد أن لا تنفوا عنه الإسلام
ولا تثبتوه ولكن تثبتوا في ذلك حتى تعلموا منه معنى ما أراد بذلك. ألا
ترى أنه قال: { إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى
إليكم السلام لست مؤمنا} فالذي يقتضيه ظاهر اللفظ الأمر بالتثبت والنهي
عن نفي سمة الإيمان عنه, وليس في النهي عن نفي سمة الإيمان عنه إثبات
الإيمان والحكم به ألا ترى أنا متى شككنا في إيمان رجل لا نعرف لم يجز
لنا أن نحكم بإيمانه ولا بكفره ولكن نتثبت حتى نعلم؟ وكذلك لو أخبرنا
مخبر بخبر لا نعلم صدقه من كذبه لم يجز لنا أن نكذبه, ولا يكون تركنا
لتكذيبه تصديقا منا له; كذلك ما وصف من مقتضى الآية ليس فيه إثبات
إيمان ولا كفر وإنما فيه الأمر بالتثبت حتى نتبين إلا أن الآثار التي
قد ذكرنا قد
(2/311)
أوجبت له
الحكم بالإيمان لقوله صلى الله عليه وسلم: "أقتلت مسلما؟ و قتلته بعد
ما أسلم؟" وقوله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله
فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" فأثبت لهم حكم
الإسلام بإظهار كلمة التوحيد; وكذلك قوله في حديث عقبة بن مالك الليثي:
"إن الله تعالى أبى علي أن أقتل مؤمنا", فجعله مؤمنا بإظهار هذه
الكلمة; وروي أن الآية نزلت في مثل ذلك, فدل ذلك على أن مراد الآية
إثبات الإيمان له في الحكم بإظهار هذه الكلمة. وقد كان المنافقون
يعصمون دماءهم وأموالهم بإظهار هذه الكلمة مع علم الله تعالى باعتقادهم
الكفر وعلم النبي صلى الله عليه وسلم بنفاق كثير منهم, فدل ذلك على أن
قوله: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ
مُؤْمِناً} قد اقتضى الحكم لقائله بالإسلام.
قوله تعالى: {تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} يعني به
الغنيمة. وإنما سمى متاع الدنيا عرضا لقلة بقائه, على ما روي في الرجل
الذي قتل الذي أظهر الإسلام وأخذ ما معه.
قوله تعالى: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } يعني به السير
فيها وقوله تعالى: "فتثبتوا" قرئ بالياء والنون, وقيل إن الاختيار
التبين لأن التثبت إنما هو للتبين, والتثبت إنما هو سبب له.
وقوله تعالى: {كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ} قال الحسن: "كفارا
مثلهم" وقال سعيد بن جبير: "كنتم مستخفين بدينكم بين قومكم كما
استخفوا.
وقوله تعالى: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} يعني بإسلامكم, كقوله
تعالى: {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ}
[الحجرات: 17], وقيل: فمن الله عليكم بإعزازكم حتى أظهرتم دينكم.
قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ
أُولِي الضَّرَرِ} الآية; يعني به تفضيل المجاهدين على القاعدين والحض
على الجهاد ببيان ما للمجاهدين من منزلة الثواب التي ليست للقاعدين عن
الجهاد; ودل به على أن شرف الجزاء على قدر شرف العمل, فذكر بديا أنهما
غير متساويين, ثم بين التفضيل بقوله: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ
بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً} .
مطلب: في أن الأغلب على كلمة "غير" أن تكون صفة لا استثناء وفي الفرق
بين المعنيين
وقد قرئ "غير" بالرفع والنصب, فالرفع على أنها نعت للقاعدين, والنصب
على الحال; ويقال إن الاختيار فيها الرفع, لأن الصفة أغلب على "غير" من
معنى الاستثناء
(2/312)
وإن كان
كلاهما جائزا; والفرق بين" غير" إذا كانت صفة وبينها إذا كانت استثناء
كأنها في الاستثناء توجب إخراج بعض من كل, نحو" جاءني القوم غير زيد"
وليست كذلك في الصفة; لأنك تقول: "جاءني رجل غير زيد" و" غير" ههنا صفة
وفي الأول استثناء, وإن كانت في الحالين مخصصة على حد النفي.
وقوله تعالى: {وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} يعني والله أعلم
المجاهدين والقاعدين من المؤمنين. وهذا دليل على أن فرض الجهاد على
الكفاية وليس على كل أحد بعينه; لأنه وعد القاعدين الحسنى كما وعد
المجاهدين وإن كان ثواب المجاهدين أشرف وأجزل, ولو لم يكن القعود عن
الجهاد مباحا إذا قامت به طائفة لما وعد القاعدين الثواب, وفي ذلك دليل
على ما ذكرنا أن فرض الجهاد غير معين على كل أحد في نفسه.
وقوله تعالى: {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ
أَجْراً عَظِيماً} {دَرَجَاتٍ مِنْهُ} ذكر ههنا: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ}
وذكر في أول الآية: {دَرَجَةً}, فإنه روي عن ابن جريج أن الأول على أهل
الضرر فضلوا عليهم درجة واحدة, والثاني على غير أهل الضرر فضلهم عليهم
درجات كثيرة وأجرا عظيما. وقيل إن الأول على الجهاد بالنفس ففضلوا درجة
واحدة, والآخر الجهاد بالنفس والمال ففضلوا درجات كثيرة. وقيل إنه أراد
بالأول درجة المدح والتعظيم وشرف الدين, وأراد بالآخر درجات الجنة.
فإن قيل: هل في الآية دلالة على مساواة أولي الضرر للمجاهدين في سبيل
الله من أجل معنى الاستثناء فيها؟ قيل له: لا دلالة فيها على التساوي;
لأن الاستثناء ورد من حيث كان مخرج الآية تحريضا على الجهاد وحثا عليه,
فاستثنى أولي الضرر; إذ ليسوا مأمورين بالجهاد لا من حيث ألحقوا
بالمجاهدين.
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي
أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ} الآية. قيل فيه تقبض أرواحهم عند
الموت. وقال الحسن: تحشرهم إلى النار. وقيل: إنها نزلت في قوم من
المنافقين كانوا يظهرون الإيمان للمؤمنين خوفا وإذا رجعوا إلى قومهم
أظهروا لهم الكفر ولا يهاجرون إلى المدينة, فبين الله تعالى بما ذكر
أنهم ظالمون لأنفسهم بنفاقهم وكفرهم وبتركهم الهجرة. وهذا يدل على فرض
الهجرة في ذلك الوقت, لولا ذلك لما ذمهم على تركها; ويدل أيضا على أن
الكفار مكلفون بشرائع الإسلام معاقبون على تركها; لأن الله قد ذم هؤلاء
المنافقين على ترك الهجرة, وهذا نظير قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ
غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115]
فذمهم على ترك اتباع سبيل المؤمنين كما ذمهم على ترك الإيمان. ودل ذلك
على صحة حجة الإجماع لأنه لولا أن ذلك لازم لما ذمهم على
(2/313)
مطلب: فيمن قال: "أن خرجت من داري إلا إلى الصلاة فعبدي حر" فخرج إليها
ثم لم يصل وتوجه إلى حاجة اخرى لم يحنث
وفيه الدلالة على أن من قال: "إن خرجت من داري إلا إلى الصلاة أو إلى
الحج فعبدي حر" فخرج يريد الصلاة أو الحج ثم لم يصل ولم يحج وتوجه إلى
حاجة أخرى أنه لا يحنث في يمينه; لأن خروجه بديا كان للصلاة أوللحج
لمقارنة النية له, كما كان خروج من خرج مهاجرا قربة وهجرة لمقارنة
النية واقتطاع الموت له عن الوصول إلى دار الهجرة لم يبطل حكم الخروج
على الوجه الذي وجد بديا عليه, ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى, فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله
فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة
يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه" فأخبر أن أحكام الأفعال متعلقة
بالنيات, فإذا كان خروجه على نية الهجرة كان مهاجرا, وإذا كان على نية
الغزو كان غازيا.
واستدل قوم بهذه الآية على أن الغازي إذا مات في الطريق وجب سهمه من
الغنيمة لورثته. وهذه الآية لا تدل على ما قالوا; لأن كونها غنيمة
متعلق بحيازتها; إذ لا تكون غنيمة إلا بعد الحيازة; وقال الله تعالى:
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ} [الأنفال: 41], فمن مات قبل أن يغنم فهو لم يغنم شيئا فلا
سهم له; وقوله تعالى {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} لا دلالة
فيه على وجوب سهمه; لأنه لا خلاف أنه لو خرج غازيا من بيته فمات في دار
الإسلام قبل أن يدخل دار الحرب أنه لا سهم له, وقد وجب أجره على الله
كما وجب أجر الذي خرج مهاجرا ومات قبل بلوغه دار هجرته والله أعلم.
(2/315)
باب صلاة السفر
قال الله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ
يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} فأباح الله تعالى القصر المذكور في
هذه الآية بمعنيين: أحدهما: السفر وهو الضرب في الأرض, والآخر: الخوف.
واختلف السلف في معنى القصر المذكور فيها ما هو؟ فروي عن ابن عباس قال:
فرض الله تعالى صلاة الحضر أربعا وصلاة السفر ركعتين والخوف ركعة على
لسان نبيكم عليه السلام. وروى يزيد
(2/315)
فصل
قال أبو بكر: وجميع ما قدمنا في قصر الصلاة للمسافر يدل على أن صلاة
سائر المسافرين ركعتان في أي شيء كان سفرهم من تجارة أو غيرها وذلك;
لأن الآثار المروية فيه لم تفرق بين شيء من الأسفار. وقد روى الأعمش عن
إبراهيم أن رجلا كان يتجر إلى البحرين, فقال للنبي صلى الله عليه وسلم:
كم أصلي؟ فقال: "ركعتين" . وعن ابن عباس وابن عمر: "أنهما خرجا إلى
الطائف فقصرا الصلاة". وروي عن عبد الله بن مسعود قال: "لا تقصر الصلاة
إلا في حج أو جهاد". وعن عطاء قال: "لا أرى أن يقصر الصلاة إلا من كان
في سبيل الله".
فإن قيل: لم يقصر النبي صلى الله عليه وسلم إلا في حج أو جهاد. قيل له:
لأنه لم يسافر إلا في حج أو جهاد; وليس في ذلك دليل على أن القصر مخصوص
بالحج والجهاد, وقول عمر صلاة السفر ركعتان على لسان نبيكم عموم في
سائر الأسفار, وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "صدقة تصدق الله بها
عليكم فاقبلوا صدقته" عام أيضا في سائر الأسفار, وكذلك قوله لأهل مكة
"أتموا فإنا قوم سفر" ولم يقل" في حج" دليل على أن حكم القصر عام في
جميع المسافرين. ولما كان ذلك حكما متعلقا بالسفر وجب أن لا يختلف حكم
الأسفار فيه كالمسح على الخفين ثلاثا. ومن يتأول قوله تعالى: {وَإِذَا
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا
مِنَ الصَّلاةِ} على عدد الركعات يحتج بعمومه في جميع الأسفار إذا كان
خائفا من العدو, ثم إذا ثبت ذلك في صلاة الخوف إذا كان سفره في غير جهة
القربة وجب مثله في سائر الأسفار; لأن أحدا لم يفرق بينهما, وقد بينا
أن القصر ليس هو في عدد الركعات.
والذي ذكرناه في القصر في جميع الأسفار بعد أن يكون السفر ثلاثا هو قول
أصحابنا والثوري والأوزاعي. وقال مالك: "إن خرج إلى الصيد وهو معاشه
قصر, وإن خرج متلذذا لم أستحب له أن يقصر". وقال الشافعي: "إذا سافر في
معصية لم يقصر ولم يمسح مسح السفر". قال أبو بكر: قد بينا أن ذلك في
شأن المضطر في سورة البقرة.
(2/320)
مطلب: الملاح يقصر في السفينة إذا كان مسافرا
وقد اختلف في الملاح هل يقصر في السفينة؟ فقال أصحابنا: "يقصر إذا كان
في سفر حتى يصير إلى قريته فيتم" وهو قول مالك والشافعي. وقال
الأوزاعي: "إذا كان فيها أهله وقراره يقصر إذا أكراها حتى ينتهي إلى
حيث أكراها, فإذا انتهى أتم الصلاة". وقال الحسن بن صالح: "إذا كانت
السفينة بيته وليس له منزل غيرها فهو فيها بمنزلة المقيم يتم".
قال أبو بكر: كون الملاح مالكا للسفينة لا يخرجه من حكم السفر, كالجمال
مالك للجمال التي ينتقل بها من موضع إلى موضع فلا يخرجه ذلك من حكم
السفر.وقد بينا الكلام في مدة السفر في سورة البقرة عند أحكام الصوم.
وشرط أصحابنا فيه ثلاثة أيام ولياليها, وهو قول الثوري والحسن بن صالح.
وقال مالك: "ثمانية وأربعون ميلا فإن لم تكن فيها أميال فمسيرة يوم
وليلة للقفل" وهو قول الليث, وقال الأوزاعي: "يوم تام". وقال الشافعي:
"ستة وأربعون ميلا بالهاشمي". وروي عن ابن عمر: "ثلاثة أيام", وروي عن
ابن عباس: "يوم وليلة".
واختلفوا في المدة التي يتم فيها الصلاة, فقال أصحابنا والثوري: "إذا
نوى إقامة خمسة عشر يوما أتم, وإن كان أقل قصر". وقال مالك والليث
والشافعي: "إذا نوى إقامة أربع أتم". وقال الأوزاعي: "إذا نوى إقامة
ثلاثة عشر يوما أتم وإن نوى أقل قصر". وقال الحسن بن صالح: "إن مر
المسافر بمصره الذي فيه أهله وهو منطلق ماض في سفره قصر فيه الصلاة ما
لم يقم به عشرا, وإن أقام به عشرا أو بغيره أتم الصلاة". قال أبو بكر:
وروي عن ابن عباس وجابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم مكة صبيحة
الرابعة من ذي الحجة فكان مقامه إلى وقت خروجه أكثر من أربع وكان يقصر
الصلاة فدل على سقوط اعتبار الأربع. وأيضا روى أبو حنيفة عن عمر بن ذر
عن مجاهد عن ابن عباس وابن عمر قالا: "إذا قدمت بلدة وأنت مسافر وفي
نفسك أن تقيم بها خمس عشرة ليلة فأكمل الصلاة بها, وإن كنت لا تدري متى
تظعن فاقصرها "; ولم يرو عن أحد من السلف خلاف ذلك فثبتت حجته.
فإن قيل: روى عطاء الخراساني عن سعيد بن المسيب قال: "من أجمع على أربع
وهو مسافر أتم الصلاة". قيل له: روى هشيم عن داود بن أبي هند عن سعيد
بن المسيب قال: "إذا أقام المسافر خمسة عشر يوما أو ليلة أتم الصلاة
وما كان من دون ذلك فليقصر", وإن جعلنا الروايتين متعارضتين سقطتا وصار
كأنه لم يرو عنه شيء, ولو ثبتت الرواية عنه من غير معارضة لما جاز أن
يكون خلافا على ابن عباس وابن عمر; وأيضا
(2/321)
مدة
الإقامة والسفر لا سبيل إلى إثباتها من طريق المقاييس وإنما طريقها
التوقيف أو الاتفاق, وقد حصل الاتفاق في خمسة عشر يوما وما دونها مختلف
فيه, فيثبت الخمسة عشر أنها إقامة صحيحة ولم يثبت ما دونها; وكذلك
السلف قد اتفقوا على الثلاث أنها سفر صحيح يتعلق بها حكم القصر
والإفطار واختلفوا فيما دونها فلم يثبت, والله أعلم.
(2/322)
باب صلاة الخوف
قال الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ
فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} الآية. قال أبو بكر: قد روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف على ضروب مختلفة; واختلف فقهاء
الأمصار فيها, فقال أبو حنيفة ومحمد تقوم طائفة مع الإمام وطائفة بإزاء
العدو فيصلي بهم ركعة وسجدتين, ثم ينصرفون إلى مقام أصحابهم, ثم تأتي
الطائفة الأخرى التي بإزاء العدو فيصلي بهم ركعة وسجدتين ويسلم
وينصرفون إلى مقام أصحابهم, ثم تأتي الطائفة التي بإزاء العدو فيقضون
ركعة بغير قراءة ويتشهدون ويسلمون ويذهبون إلى وجه العدو, ثم تأتي
الطائفة الأخرى فيقضون ركعة وسجدتين بقراءة". وقال ابن أبي ليلى: "إذا
كان العدو بينهم وبين القبلة جعل الناس طائفتين, فيكبر ويكبرون ويركع
ويركعون جميعا معه, وسجد الإمام والصف الأول, ويقوم الصف الآخر في وجوه
العدو, فإذا قاموا من السجود سجد الصف المؤخر, فإذا فرغوا من سجودهم
قاموا وتقدم الصف المؤخر وتأخر الصف المقدم, فيصلي بهم الإمام الركعة
الأخرى كذلك, وإن كان العدو في دبر القبلة قام الإمام ومعه صف مستقبل
القبلة والصف الآخر مستقبل العدو, فيكبر ويكبرون جميعا ويركع ويركعون
جميعا, ثم يسجد الصف الذي مع الإمام سجدتين, ثم ينقلبون فيكونون
مستقبلي العدو, ثم يجيء الآخرون فيسجدون ويصلي بهم الإمام جميعا الركعة
الثانية, فيركعون جميعا ويسجد الصف الذي معه, ثم ينقلبون إلى وجه
العدو, ويجيء الآخرون فيسجدون معه ويفرغون, ثم يسلم الإمام وهم جميعا".
قال أبو بكر: وروي عن أبي يوسف في صلاة الخوف ثلاث روايات, إحداها مثل
قول أبي حنيفة ومحمد, والأخرى مثل قول ابن أبي ليلى إذا كان العدو في
القبلة, وإذا كان في غير القبلة فمثل قول أبي حنيفة. والثالثة أنه لا
تصلي بعد النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف بإمام واحد وإنما تصلى
بإمامين كسائر الصلوات. وروي عن سفيان الثوري مثل قول أبي حنيفة. وروي
أيضا مثل قول ابن أبي ليلى وقال: "إن فعلت كذلك جاز" وقال مالك: "يتقدم
الإمام بطائفة وطائفة بإزاء العدو فيصلي بهم ركعة وسجدتين ويقوم قائما
وتتم الطائفة التي معه لأنفسها ركعة أخرى, ثم يتشهدون ويسلمون, ثم
يذهبون إلى مكان
(2/322)
الطائفة
التي لم تصل فيقومون مكانهم, وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بهم ركعة
وسجدتين, ثم يتشهدون ويسلم ويقومون فيتمون لأنفسهم الركعة التي بقيت"
قال ابن القاسم: كان مالك يقول: "لا يسلم الإمام حتى تتم الطائفة
الثانية لأنفسها, ثم يسلم بهم" لحديث يزيد بن رومان; ثم رجع إلى حديث
القاسم1 وفيه أن الإمام يسلم, ثم تقوم الطائفة الثانية فيقضون. وقال
الشافعي مثل قول مالك, إلا أنه قال: "الإمام لا يسلم حتى تتم الطائفة
الثانية لأنفسها, ثم يسلم بهم". وقال الحسن بن صالح مثل قول أبي حنيفة,
إلا أنه قال: "الطائفة الثانية إذا صلت مع الإمام وسلم الإمام قضت
لأنفسها الركعة التي لم يصلوها مع الإمام, ثم تنصرف وتجيء الطائفة
الأولى فتقضي بقية صلاتها".
قال أبو بكر: أشد هذه الأقاويل موافقة لظاهر الآية قول أبي حنيفة ومحمد
وذلك لأنه تعالى قال: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ
الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} , وفي ضمن ذلك أن
طائفة منهم بإزاء العدو; لأنه قال: {وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} ,
وجائز أن يكون مراده الطائفة التي بإزاء العدو وجائز أن يريد به
الطائفة المصلية; والأولى أن يكون الطائفة التي بإزاء العدو; لأنها
تحرس هذه المصلية; وقد عقل من ذلك أنهم لا يكونون جميعا مع الإمام
لأنهم لو كانوا مع الإمام لما كانت طائفة منهم قائمة مع النبي صلى الله
عليه وسلم بل يكونون جميعا معه, وذلك خلاف الآية.
ثم قال تعالى: {فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ} وعلى
مذهب مالك يقضون لأنفسهم ولا يكونون من ورائهم إلا بعد القضاء. وفي
الآية الأمر لهم بأن يكونوا بعد السجود من ورائهم, وذلك موافق لقولنا.
ثم قال: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا
مَعَكَ} فدل ذلك على معنيين: أحدهما: أن الإمام يجعلهم طائفتين في
الأصل: طائفة معه, وطائفة بإزاء العدو على ما قال أبو حنيفة; لأنه قال:
{وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى} وعلى مذهب مخالفنا هي مع الإمام لا
تأتيه. والثاني: قوله: {لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} , وذلك
يقتضي نفي كل جزء من الصلاة, ومخالفنا يقول: يفتتح الجميع الصلاة مع
الإمام فيكونون حينئذ بعد الافتتاح فاعلين لشيء من الصلاة; وذلك خلاف
الآية فهذه الوجوه التي ذكرنا من معنى الآية موافقة لمذهب أبي حنيفة
ومحمد. وقولنا موافق للسنة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم
وللأصول, وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما جعل الإمام
ليؤتم به فإذا ركع فاركعوا وإذا سجد
ـــــــ
1 قوله: "رجع إلى حديث القاسم" يعني القاسم ين محمد بن أبي بكر الصديق,
قال ابن عبد البر: هذا الذي رجع إليه مالك بعد أن قال بحديث يزيد بن
رمان وغنا اختاره ورجع إليه للقياس على سائر الصلوات أن المأمون إنما
يقضي بعد سلام الإمام, كذا في الزرقاني على الموطأ, "لمصححه".
(2/323)
فاسجدوا"
وقال: "إني امرؤ قد بدنت1 فلا تبادروني بالركوع ولا بالسجود". ومن مذهب
المخالف أن الطائفة الأولى تقضي صلاتها وتخرج منها قبل الإمام. وفي
الأصول أن المأموم مأمور بمتابعة الإمام لا يجوز له الخروج منها قبله;
وأيضا جائز أن يلحق الإمام سهو يلزم المأموم ولا يمكن الخارجين من
صلاته قبل فراغه أن يسجدوا. ويخالف هذا القول الأصول من جهة أخرى, وهي
اشتغال المأموم بقضاء صلاته والإمام قائم أو جالس تارك لأفعال الصلاة,
فيحصل به مخالفة الإمام في الفعل وترك الإمام لأفعال الصلاة لأجل
المأموم, وذلك ينافي معنى الاقتداء والائتمام ومنع الإمام من الاشتغال
بالصلاة لأجل المأموم; فهذان وجهان أيضا خارجان من الأصول.
فإن قيل: جائز أن تكون صلاة الخوف مخصوصة بجواز انصراف الطائفة الأولى
قبل الإمام كما جاز المشي فيها. قيل له: المشي له نظير في الأصول, وهو
الراكب المنهزم. يصلي وهو سائر بالاتفاق; فكان لما ذكرنا أصل متفق
عليه, فجاز أن لا تفسد صلاة الخوف. وأيضا قد ثبت عندنا أن الذي سبقه
الحدث في الصلاة ينصرف ويتوضأ ويبني, قد وردت به السنة عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم; روى ابن عباس وعائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليبن على ما مضى من
صلاته" , والرجل يركع ويمشي إلى الصف فلا تبطل صلاته; وركع أبو بكر حين
دخل المسجد ومشى إلى الصف, فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم قال له:
"زادك الله حرصا ولا تعد" ولم يأمره باستئناف الصلاة, فكان للمشي في
الصلاة نظائر في الأصول وليس للخروج من الصلاة قبل فراغ الإمام نظير,
فلم يجز فعله. وأيضا فإن المشي فيها اتفاق بيننا وبين مالك والشافعي,
ولما قامت به الدلالة سلمناه لها, وما عدا ذلك فواجب حمله على موافقة
الأصول حتى تقوم الدلالة على جواز خروجه عنها.
ومما يدل من جهة السنة على ما وصف ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو
داود قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا يزيد بن زريع عن معمر عن الزهري عن
سالم عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بإحدى الطائفتين
ركعة والطائفة الأخرى مواجهة العدو, ثم انصرفوا وقاموا في مقام أولئك
وجاء أولئك فصلى بهم ركعة أخرى, ثم سلم عليهم, ثم قام هؤلاء فقضوا
ركعتهم وقام هؤلاء فقضوا ركعتهم; قال أبو داود: وكذلك رواه نافع وخالد
بن معدان عن ابن عمر عن النبي; وقال أبو داود: وكذلك قول مسروق
ـــــــ
1 قوله: "قد بدنت" قال أبو عبيد: روي بدنت بضم الدال مخقففة وإنما هي
بدنت بالتشديد أي كبرت وأسنتو والتخفيف من البدانة وهي كثرة اللحم, ولم
يكن عليه الضلاة والسلام سمينا, لكن تعقبه في النهاية فليراجع
"لمصححه".
(2/324)
ويوسف بن
مهران عن ابن عباس, وكذلك روى يونس عن الحسن عن أبي موسى أنه فعله.
وقول ابن عمر: "فقضى هؤلاء ركعة وهؤلاء ركعة" على أنهم قضوا على وجه
يجوز القضاء, وهو أن ترجع الثانية إلى مقام الأولى وجاءت الأولى فقضت
ركعة وسلمت ثم جاءت الثانية فقضت ركعة وسلمت. وقد بين ذلك في حديث خصيف
عن أبي عبيدة عن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في حرة
بني سليم صلاة الخوف, قام فاستقبل القبلة وكان العدو في غير القبلة,
فصف معه صفا وأخذ صف السلاح واستقبلوا العدو, فكبر رسول الله صلى الله
عليه وسلم والصف الذي معه, ثم ركع وركع الصف الذي معه, ثم تحول الصف
الذين صفوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح, وتحول الآخرون
فقاموا مع النبي صلى الله عليه وسلم, فركع النبي صلى الله عليه وسلم
وركعوا وسجد وسجدوا, ثم سلم النبي صلى الله عليه وسلم فذهب الذين صلوا
معه وجاء الآخرون فقضوا ركعة فلما فرغوا أخذوا السلاح, وتحول الآخرون
وصلوا ركعة; فكان للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتان وللقوم ركعة ركعة;
فبين في هذا الحديث انصراف الطائفة الثانية قبل قضاء الركعة الأولى,
وهو معنى ما أجمله ابن عمر في حديثه. وقد روي في حديث عبد الله بن
مسعود من رواية ابن فضيل عن خصيف عن أبي عبيدة عن عبد الله: أن الطائفة
الثانية قضت ركعة لأنفسها قبل قضاء الطائفة الأولى الركعة التي بقيت
عليها, والصحيح ما ذكرناه أولا; لأن الطائفة الأولى قد أدركت أول
الصلاة والثانية لم تدرك, فغير جائز للثانية الخروج من صلاتها قبل
الأولى; ولأنه لما كان من حكم الطائفة الأولى أن تصلي الركعتين في
مقامين فكذلك حكم الثانية أن تقضيهما في مقامين لا في مقام واحد لأن
سبيل صلاة الخوف أن تكون مقسومة بين الطائفتين على التعديل بينهما
فيها.
واحتج مالك بحديث رواه عن يزيد بن رومان عن صالح بن خوات مرسلا عن
النبي صلى الله عليه وسلم وذكر فيه أن الطائفة الأولى صلت الركعة
الثانية قبل أن يصليها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا لم يروه أحد
إلا يزيد بن رومان; وقد خولف فيه فروى شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم عن
أبيه عن صالح بن خوات عن سهل بن أبي حثمة: أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم صلى بهم صلاة الخوف فصف صفا خلفه وصف مصاف العدو, فصلى بهم ركعة,
ثم ذهب هؤلاء وجاء أولئك, فصلى بهم ركعة, ثم قاموا فقضوا ركعة ركعة.
ففي هذا الحديث أن الطائفة الأولى لم تقض الركعة الثانية إلا بعد خروج
رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته; وهذا أولى لما قدمناه من دلائل
الأصول عليه. وقد روى يحيى بن سعيد عن القاسم عن صالح مثل رواية يزيد
بن رومان. وفي حديث مالك عن يزيد بن رومان أن تلك الصلاة إنما كانت من
رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع; وقد روى يحيى بن كثير عن
أبي سلمة عن جابرقال:
(2/325)
كنا مع
رسول الله صلى الله عليه وسلم بذات الرقاع, فصلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم بطائفة منهم, ثم انصرفوا وجاء الآخرون فصلى بهم ركعتين; فصلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا وكل طائفة ركعتين; وهذا يدل على
اضطراب حديث يزيد بن رومان.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف على وجوه أخر, فاتفق
ابن مسعود وابن عباس وابن عمر وجابر وحذيفة وزيد بن ثابت أن النبي صلى
الله عليه وسلم صلى بإحدى الطائفتين ركعة والطائفة الأخرى مواجهون
العدو, ثم صلى بالطائفة الأخرى ركعة, وأن أحدا منهم لم يقض بقية صلاته
قبل فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى صالح بن خوات على ما قد
اختلف عنه فيه مما قدمنا ذكره. وروى أبو عياش الزرقي عن النبي صلى الله
عليه وسلم في صلاة الخوف نحو المذهب الذي حكيناه عن ابن أبي ليلى وأبي
يوسف إذا كان العدو في القبلة. وروى أيوب وهشام عن أبي الزبير عن جابر
هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم; وكذلك رواه داود بن حصين عن
عكرمة عن ابن عباس, وكذلك عبد الملك عن عطاء بن جابر, وكذلك قتادة عن
الحسن عن حطان عن أبي موسى من فعله. ورواه عكرمة بن خالد عن مجاهد عن
النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك هشام بن عروة عن النبي صلى الله عليه
وسلم. وقد روي عن ابن عباس وجابر ما قدمنا ذكره قبل هذا, واختلفت
الرواية عنهما فيها.
وروي فيها نوع آخر, وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال:
حدثنا الحسن بن علي قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقري قال: حدثنا حيوة
بن شريح وابن لهيعة قالا: أخبرنا أبو الأسود أنه سمع عروة بن الزبير
يحدث عن مروان بن الحكم أنه سأل أبا هريرة: هل صليت مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم صلاة الخوف؟ فقال أبو هريرة: نعم; قال مروان: متى؟ فقال
أبو هريرة عام غزوة نجد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى صلاة
العصر فقامت معه طائفة وطائفة أخرى مقابل العدو وظهورهم إلى القبلة,
فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبروا جميعا الذين معه والذين
مقابلي العدو, ثم ركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة واحدة وركعت
الطائفة التي معه, ثم سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسجدت الطائفة
التي تليه والآخرون قيام مقابلي العدو, ثم قام رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقامت الطائفة التي معه فذهبوا إلى العدو فقابلوهم وأقبلت الطائفة
التي كانت مقابلي العدو فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم
قائم كما هو, ثم قاموا فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة أخرى
وركعوا معه وسجد وسجدوا معه, ثم أقبلت الطائفة التي كانت مقابلي العدو
فركعوا وسجدوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد ومن معه, ثم كان
السلام فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا جميعا; فكان لرسول
الله صلى الله عليه وسلم ركعتان ولكل رجل من الطائفتين ركعة ركعة.
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم نوع آخر من صلاة الخوف, وهو ما حدثنا
محمد بن بكر قال:
(2/326)
حدثنا أبو
داود قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ قال: حدثنا أبي قال: حدثنا الأشعث
عن الحسن عن أبي بكرة قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في خوف
الظهر, فصف بعضهم خلفه وبعضهم بإزاء العدو, فصلى ركعتين, ثم سلم,
فانطلق الذين صلوا فوقفوا موقف أصحابهم, ثم جاء أولئك فصلوا خلفه فصلى
بهم ركعتين ثم سلم; فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا
ولأصحابه ركعتين ركعتين, وبذلك كان يفتي الحسن. قال أبو داود: وكذلك
رواه يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى
الله عليه وسلم وكذلك رواه سليمان اليشكري عن جابر بن عبد الله عن
النبي صلى الله عليه وسلم.
قال أبو بكر: وقد قدمنا قبل ذلك أن ابن عباس وجابرا رويا عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه صلى بكل طائفة ركعة ركعة فكان لرسول الله ركعتان
ولكل طائفة ركعة وأن هذا محمول عندنا على أنه كان ركعة في جماعة وفعلها
مع رسول الله صلى الله عليه وسلم; فذهب ابن أبي ليلى وأبو يوسف إذا كان
العدو في القبلة إلى حديث أبي عياش الزرقي الذي ذكرناه.
وجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى هذه الصلوات على الوجوه
التي وردت بها الروايات وذلك; لأنها لم تكن صلاة واحدة فتتضاد الروايات
فيها وتتنافى, بل كانت صلوات في مواضع مختلفة; بعسفان في حديث أبي عياش
الزرقي, وفي حديث جابر ببطن النخل; ومنها حديث أبي هريرة في غزوة نجد
وذكر فيه أن الصلاة كانت بذات الرقاع, وصلاها في حرة بني سليم. ويشبه
أن يكون قد صلى في بعض هذه المواضع عدة صلوات; لأن في بعض حديث جابر
الذي يقول فيه: "إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بكل طائفة ركعتين ذكر
أنه كان بذات الرقاع, وفي حديث صالح بن خوات أيضا أنه صلاها بذات
الرقاع; وهما مختلفان كل واحد منهما ذكر فيه من صفة صلاته خلاف صفة
الأخرى; وكذلك حديث أبي عياش الزرقي ذكر أنه صلاها بعسفان, وذكر ابن
عباس أيضا أنه صلاها بعسفان; فروي تارة نحو حديث أبي عياش وتارة على
خلافه. واختلاف هذه الآثار يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صلى
هذه الصلوات على اختلافها على حسب ورود الروايات بها وعلى ما رآه النبي
احتياطا في الوقت من كيد العدو وما هو أقرب إلى الحذر والتحرز على ما
أمر الله تعالى به من أخذ الحذر في قوله: {وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ
وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ
أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً
وَاحِدَةً} , ولذلك كان الاجتهاد سائغا في جميع أقاويل الفقهاء على
اختلافها; لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيها إلا أن الأولى
عندنا ما وافق ظاهر الكتاب والأصول. وجائز أن يكون الثابت الحكم منها
واحدا والباقي منسوخ, وجائز أن يكون الجميع ثابتا غير منسوخ توسعة
وترفيها لئلا يحرج من ذهب إلى بعضها, ويكون الكلام في الأفضل منها
كاختلاف الروايات في
(2/327)
الترجيع
في الأذان وفي تثنية الإقامة وتكبيرات العيدين والتشريق ونحو ذلك مما
الكلام فيه بين الفقهاء في الأفضل; فمن ذهب إلى وجه منها فغير معنف
عليه في اختياره, وكان الأولى عندنا ما وافق ظاهر الآية والأصول. وفي
حديث جابر وأبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بكل طائفة
ركعتين, فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قد كان مقيما حين
صلاها كذلك, ويكون قولهما" إنه سلم في الركعتين" المراد به تسليم
التشهد وذلك لأن ظاهر الكتاب ينفيه على الوجه الذي يقتضيه ظاهر الخبر;
لأن الله تعالى قال: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ
وَرَائِكُمْ} وظاهر الخبر يوجب أن يكونوا مصلين مع النبي صلى الله عليه
وسلم بعد السجود على الحال التي كانوا عليها قبله.
فإن قيل: كيف يكون مقيما في بادية وهي ذات الرقاع وليست موضع إقامة ولا
هي بالقرب من المدينة؟ قيل له جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم
خرج من المدينة لم ينو سفر ثلاث وإنما نوى في كل موضع يبلغ إليه سفر
يوم أو يومين, فيكون مقيما عندنا; إذ لم ينشئ سفر ثلاث وإن كان في
البادية; ويحتمل أن يكون فعلها في الوقت الذي يعاد الفرض فيه, وذلك
منسوخ عندنا; وعلى أنه لو كان كذلك لم تكن صلاة خوف وإنما هي صلاة على
هيئة سائر الصلوات, ولا خلاف أن صلاة الخوف مخالفة لسائر الصلوات
المفعولة في حال الأمن.
وأما القول الذي روي عن أبي يوسف في أنه لا تصلى بعد النبي صلى الله
عليه وسلم صلاة الخوف وأنه ينبغي أن تصلى عند الخوف بإمامين; فإنه ذهب
فيه إلى ظاهر قول الله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ
لَهُمُ الصَّلاةَ} فخص هذه الصلاة بكون النبي صلى الله عليه وسلم فيهم,
وأباح لهم فعلها معه على هذا الوجه ليدركوا فضيلة الصلاة خلفه التي
مثلها لا يوجد في الصلاة خلف غيره; فغير جائز بعده لأحد أن يصليها إلا
بإمامين; لأن فضيلة الصلاة خلف الثاني كهي خلف الأول, فلا يحتاج إلى
مشي واختلاف واستدبار القبلة مما هو مناف للصلاة. قال أبو بكر: فأما
تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالخطاب بها بقوله: {وَإِذَا كُنْتَ
فِيهِمْ} ليس بموجب بالاقتصار عليه بهذا الحكم دون غيره; لأن الذي قال:
{وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} هو الذي قال:
{وَاتَّبِعُوهُ} [سبأ:20], فإذا وجدنا النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل
فعلا فعلينا اتباعه فيه على الوجه الذي فعله, ألا ترى أن قوله: {خُذْ
مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] لم يوجب كون
النبي صلى الله عليه وسلم مخصوصا به دون غيره من الأئمة بعده؟ وكذلك
قوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12]
وكذلك قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}
[المائدة: 49] وقوله: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ}
(2/328)
[المائدة:
42] فيه تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم بالمخاطبة, والأئمة بعده
مرادون بالحكم معه. وأما إدراك فضيلة الصلاة خلف النبي صلى الله عليه
وسلم فليس يجوز أن يكون علة لإباحة المشي في الصلاة واستدبار القبلة
والأفعال التي تركها من فروض الصلاة; لأنه لما كان معلوما أن فعل
الصلاة خلف النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن فرضا, فغير جائز أن يكونوا
أمروا بترك الفرض لأجل إدراك الفضل, فلما كان هذا على ما وصفنا بطل
اعتلاله بذلك وصح أن فعل صلاة الخوف على, الوجه الذي روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم جائز بعده كما جاز معه.
وقد روى جماعة من الصحابة جواز فعل صلاة الخوف بعد النبي صلى الله عليه
وسلم منهم ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبو موسى وحذيفة وسعيد بن
العاص وعبد الرحمن بن سمرة في آخرين منهم, من غير خلاف يحكى عن أحد
منهم, ومثله يكون إجماعا لا يسع خلافه. والله أعلم.
(2/329)
باب الاختلاف في صلاة المغرب
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر ومالك والحسن بن صالح والأوزاعي
والشافعي: "يصلي بالطائفة الأولى ركعتين وبالطائفة الثانية ركعة" إلا
أن مالكا والشافعي يقولان: "يقوم الإمام قائما حتى يتموا لأنفسهم, ثم
يصلي بالطائفة الثانية ركعة أخرى, ثم يسلم الإمام وتقوم الطائفة
الثانية فيقضون ركعتين" وقال الشافعي: "إن شاء الإمام ثبت جالسا حتى
تتم الطائفة الأولى لأنفسهم, وإن شاء كان قائما, ويسلم الإمام بعد فراغ
الطائفة الثانية". وقال الثوري: "يقوم صف خلفه وصف موازي العدو, فيصلي
بهم ركعة, ثم يذهبون إلى مقام أولئك ويجيء هؤلاء, فيصلي بهم ركعة
ويجلسون, فإذا قام ذهب هؤلاء إلى مصاف أولئك وجاء أولئك فركعوا وسجدوا
والإمام قائم; لأن قراءة الإمام لهم قراءة, وجلسوا, ثم قاموا يصلون مع
الإمام الركعة الثالثة, فإذا جلسوا وسلم الإمام ذهبوا إلى مصاف أولئك
وجاء الآخرون فصلوا ركعتين", وذهب في ذلك إلى أن عليه التعديل بين
الطائفتين في الصلاة, فيصلي بكل واحدة ركعة; وقد ترك هذا المعنى حين
جعل للطائفة الأولى أن تصلي مع الإمام الركعة الأولى والثالثة والطائفة
الثانية إنما صلت الركعة الثانية معه. وقال الثوري: "إنه إذا كان مقيما
فصلى بهم الظهر, أنه يصلي بالطائفة الأولى ركعتين وبالثانية ركعتين"
فلم يقسم الصلاة بينهم على أن تصلي كل طائفة منهم معه ركعة على حيالها;
ومذهب الثوري هذا مخالف للأصول من وجه آخر, وذلك أنه أمر الإمام أن
يقوم قائما حتى تفرغ الطائفة الأولى من الركعة الثانية, وذلك خلاف
الأصول على ما بينا فيما سلف من مذهب مالك والشافعي; والله أعلم
بالصواب.
(2/329)
ذكر اختلاف الفقهاء في الصلاة في حال القتال
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: "لا يصلي في حال القتال, فإن قاتل
في الصلاة فسدت صلاته" وقال مالك والثوري: "يصلي إيماء إذا لم يقدر على
الركوع والسجود". وقال الحسن بن صالح: "إذا لم يقدر على الركوع من
القتال كبر بدل كل ركعة تكبيرة". وقال الشافعي: "لا بأس بأن يضرب في
الصلاة الضربة ويطعن الطعنة, فإن تابع الطعن والضرب أو عمل عملا يطول
بطلت صلاته".
قال أبو بكر: الدليل على أن القتال يبطل الصلاة أن النبي صلى الله عليه
وسلم قد صلى صلاة الخوف في مواضع على ما قدمنا ذكره, ولم يصل يوم
الخندق أربع صلوات حتى كان هوي1 من الليل, ثم قال: "ملأ الله بيوتهم
وقبورهم نارا كما شغلونا عن الصلاة الوسطى" , ثم قضاهن على الترتيب.
فأخبر أن القتال شغله عن الصلاة, ولو كانت الصلاة جائزة في حال القتال
لما تركها كما لم يتركها في حال الخوف في غير قتال. وقد كانت الصلاة
مفروضة في حال الخوف قبل الخندق; لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى
بذات الرقاع صلاة الخوف; وقد ذكر محمد بن إسحاق والواقدي أن غزوة ذات
الرقاع كانت قبل الخندق, فثبت بذلك أن القتال ينافي الصلاة وأن الصلاة
لا تصح معه. وأيضا فلما كان القتال فعلا ينافي الصلاة لا تصح معه في
غير الخوف, كان حكمه في الخوف كهو في غيره, مثل الحدث والكلام والأكل
والشرب وسائر الأفعال المنافية للصلاة; وإنما أبيح له المشي فيها; لأن
المشي لا ينافي الصلاة في كل حال على ما بيناه فيما سلف, ولأنهم متفقون
على أن المشي لا يفسدها, فسلمناه للإجماع, وما عداه من الأفعال
المنافية للصلاة فهو محمول على أصله.
وقوله تعالى: {فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
أَسْلِحَتَهُمْ} يحتمل أن يكون المأمورون بأخذ السلاح الطائفة التي مع
الإمام, ويحتمل أن تكون الطائفة التي بإزاء العدو; لأن في الآية ضميرا
للطائفة التي بإزاء العدو, وضميرها ظاهر في نسق الآية في قوله:
{وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} .
ومن وجه آخر يدل على ما ذكرنا, وهو أنه أمر الطائفة المصلية مع الإمام
بأخذ السلاح, ولم يقل فليأخذوا حذرهم; لأن في وجه العدو طائفة غير
مصلية حامية لها قد كفت هذه أخذ الحذر, ثم قال تعالى: {وَلْتَأْتِ
طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا
حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} وفي ذلك دليل من وجهين على أن قوله:
{فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ}
إنما أريد
ـــــــ
1 قوله: "هوي" بفتح الهاء وضمها كسر الواو وتشديد الياء: الحين الطويل
من الليل "لمصححه".
(2/330)
به
الطائفة التي مع الإمام: أحدهما: أنه لما ذكر الطائفة الثانية قال:
{وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} , ولو كانوا مأمورين
بأخذ السلاح بديا لاكتفى بذكرها بديا لهم. والوجه الثاني: قوله:
{وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} , فجمع لهم بين الأمرين
من أخذ الحذر والسلاح جميعا; لأن الطائفة الأولى قد صارت بإزاء العدو
وهي في الصلاة, وذلك أولى بطمع العدو فيهم; إذ قد صارت الطائفتان جميعا
في الصلاة, فدل ذلك على أن قوله: {وَلْيَأْخُذُوا وَأَسْلِحَتَهُمْ}
إنما أريد به الطائفة الأولى; وهذا أيضا يدل على أن الطائفة التي تقف
بإزاء العدو بديا غير داخلة في الصلاة, وأنها إنما تدخل في الصلاة بعد
مجيئها في الركعة الثانية ولذلك أمرت بأخذ الحذر والسلاح جميعا لأن
الطائفة التي في وجه العدو في الصلاة فيشتد طمع العدو فيها لعلمهم
باشتغالها بالصلاة. ألا ترى أن خالد بن الوليد قال لأصحابه بعسفان1
بعدما صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر: "دعوهم فإن لهم بعدها صلاة
هي أحب إليهم من أبنائهم, فإذا صلوها حملنا عليهم" فصلى النبي صلى الله
عليه وسلم الخوف; ولذلك أمرهم الله بأخذ الحذر والسلاح جميعا, والله
أعلم. ولما جاز أخذ السلاح في الصلاة وذلك عمل فيها دل على أن العمل
اليسير معفو عنه فيها.
قوله تعالى: {وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ
أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً
وَاحِدَةً} إخبار عما كان عزم عليه المشركون من الإيقاع بالمسلمين إذا
اشتغلوا بالصلاة, فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم عليه وأمر
المسلمين بأخذ الحذر منهم.
قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ
مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا
حِذْرَكُمْ} فيه إباحة وضع السلاح لما فيه من المشقة في حال المرض
والوحل والطين; وسوى الله تعالى بين أذى المطر والمرض ورخص فيهما جميعا
في وضع السلاح, وهذا يدل على أن من كان في وحل وطين فجائز له أن يصلي
بالإيماء كما يجوز ذلك له في حال المرض إذا لم يمكنه الركوع والسجود;
إذ كان الله تعالى قد سوى بين أذى المطر والمرض فيما وصفنا, وأمر مع
ذلك بأخذ الحذر من العدو وأن لا يغفلوا عنه فيكون سلاحهم بالقرب منهم
بحيث يمكنهم أخذه إن حمل عليهم العدو.
قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ
قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}. قال أبو بكر: أطلق الله
تعالى الذكر في غير هذا الموضع وأراد به الصلاة في قوله: {الَّذِينَ
يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل
عمران: 191] يروى أن عبد الله بن
ـــــــ
1 قوله: "ألا ترى أن خالد بن الوليد قال لأصحابه بعسفان إلى آخره" لأن
خالدا رضي الله عنه لم يكن إذ ذاك أسلم وكان قائدا للمشركين في تلك
الغزوة كما في صحيح أبي داود "لمصححه".
(2/331)
مسعود رأى
الناس يصيحون في المسجد فقال: ما هذا النكر؟ قالوا: أليس الله يقول:
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى
جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191] ؟ فقال: إنما يعني بهذه الصلاة المكتوبة
إن لم تستطع قائما فقاعدا, وإن لم تستطع فصل على جنبك. وروي عن الحسن:
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى
جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191]: هذه رخصة من الله للمريض أن يصلي قاعدا
وإن لم يستطع فعلى جنبه.
(2/332)
مطلب: الذكر على وجهين أفضلهما القلبي وهو الفكر في عظمة الله تعالى
وجلاله إلى آخره
فهذا الذكر المراد به نفس الصلاة; لأن الصلاة ذكر الله تعالى, وفيها
أيضا أذكار مسنونة ومفروضة. وأما الذكر الذي في قوله تعالى: {فَإِذَا
قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ} فليس هو الصلاة, ولكنه على أحد وجهين: إما الذكر
بالقلب, وهو الفكر في عظمة الله وجلاله وقدرته وفيما في خلقه وصنعه من
الدلائل عليه وعلى حكمه وجميل صنعه. والذكر الثاني: الذكر باللسان
بالتعظيم والتسبيح والتقديس; وروي عن ابن عباس قال: "لم يعذر أحد في
ترك الذكر إلا مغلوبا على عقله", والذكر الأول أشرفهما وأعلاهما منزلة.
والدليل على أنه لم يرد بهذا الذكر الصلاة أنه أمر به بعد الفراغ منها
بقوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ
قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} .
وقوله تعالى: {فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ
الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فإنه روي عن الحسن ومجاهد
وقتادة: "فإذا رجعتم إلى الوطن في دار الإقامة فأتموا الصلاة من غير
قصر". وقال السدي وغيره: "فعليكم أن تتموا ركوعها وسجودها غير مشاة ولا
ركبان". قال أبو بكر: من تأول القصر المذكور في قوله تعالى: {وَإِذَا
ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا
مِنَ الصَّلاةِ} على أعداد الركعات, جعل قوله: {فَإِذَا
اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} على إتمام الركعات عند زوال
الخوف والسفر. ومن تأوله على صفة الصلاة من فعلها بالإيماء أو على
إباحة المشي فيها, جعل قوله تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} أمرا بفعل
الصلاة المعهودة على الهيئة المفعولة قبل الخوف, والله أعلم.
(2/332)
باب مواقيت الصلاة
قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
كِتَاباً مَوْقُوتاً} . روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "إن للصلاة
وقتا كوقت الحج". وعن ابن عباس ومجاهد وعطية: "مفروضا". وروي عن ابن
مسعود أيضا أنه قال: "موقوتا منجما, كلما مضى نجم جاء نجم آخر". وعن
زيد بن أسلم مثل ذلك.
(2/332)
وقت الفجر
فأما أول وقت الفجر فلا خلاف فيه أنه من حين يطلع الفجر الثاني الذي
يعترض في الأفق; وروى سليمان التيمي عن أبي عثمان النهدي عن عبد الله
بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس الفجر أن يقول1
هكذا وجمع كفه حتى يقول هكذا ومد أصبعيه السبابتين" . وروى قيس بن طلق
عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلوا واشربوا ولا
يهيدنكم الساطع المصعد, فكلوا واشربوا حتى يعترض لكم الأحمر" . وروى
سفيان عن عطاء عن ابن عباس, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
"الفجر فجران فجر يحل فيه الطعام وتحرم فيه الصلاة, وفجر تحل فيه
الصلاة ويحرم فيه الطعام" . وروى نافع بن جبير في
__________
1 قوله: "أن يقول إلى آخره" ذكر ابن الأثير في النهاية وغيره من أئمة
اللغة أن العرب تجعل القول عبارة عن الفعل وتطلقه على غير الكلام يقول
قال بيده أي أخذ وقال برجله أي مشى وقال بثوبه أي رفعه وكل ذلك على
المجاز والاتساع "لمصححه".
(2/335)
حديث
المواقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن جبريل عليه السلام أمه عند
البيت, فصلى الفجر في اليوم الأول حين برق الفجر وحرم الطعام والشراب
على الصائم, فهذا أول وقت الفجر; وقد تواترت به الآثار واتفق عليه
فقهاء الأمصار.
وأما آخر وقتها فهو إلى طلوع الشمس عند سائر الفقهاء; وذكر ابن القاسم
عن مالك أنه قال: "وقت الصبح الإغلاس والنجوم بادية مشتبكة, وآخر وقتها
إذا أسفر" ويحتمل أن يكون مراده الوقت المستحب وكراهة التأخير إلى بعد
الإسفار, لا على معنى أنها تكون فائتة إذا أخرها إلى بعد الإسفار قبل
طلوع الشمس. وقد روى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "وقت الفجر ما لم تطلع الشمس" وقد روى الأعمش عن أبي صالح عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن للصلاة أولا وآخرا,
وإن أول وقت الفجر حين يطلع الفجر, وإن آخر وقتها حين تطلع الشمس" .
وروى أبو هريرة أيضا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أدرك
ركعة من صلاة الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك" , فألزم النبي صلى
الله عليه وسلم مدرك هذا القدر من الوقت جميع الصلاة, مثل الحائض تطهر
والصبي يبلغ والكافر يسلم; فثبت أن وقت الفجر إلى طلوع الشمس.
(2/336)
وقت الظهر
وأما أول وقت الظهر فهو من حين تزول الشمس; ولا خلاف بين أهل العلم
فيه. وقال الله تعالى: {وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18]
وقال: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الاسراء: 78], وقد بينا
أن دلوك الشمس تحتمل الزوال والغروب جميعا وهو عليهما, فتنتظم الآية
الأمر بصلاة الظهر والمغرب وبيان أول وقتيهما. ومن جهة السنة حديث ابن
عباس وأبي سعيد وجابر وعبد الله بن عمر وبريدة الأسلمي وأبي هريرة وأبي
موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر المواقيت حين أمه جبريل, وأنه
صلى الظهر حين زالت الشمس; وفي بعضها ابتداء اللفظ من النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "أول وقت الظهر إذا زالت الشمس" وهي أحاديث مشهورة
كرهت الإطالة بذكر أسانيدها وسياقة ألفاظها; فصار أول وقت الظهر معلوما
من جهة الكتاب والسنة واتفاق الأمة.
وأما آخر وقتها فقد اختلف فيه الفقهاء, فروي عن أبي حنيفة فيه ثلاث
روايات: إحداهن: أن يصير الظل أقل من قامتين. والأخرى, وهي رواية الحسن
بن زياد: أن يصير ظل كل شيء مثله. والثالثة: أن يصير الظل قامتين, وهي
رواية الأصل. وقال أبو يوسف ومحمد وزفر والحسن بن زياد والحسن بن صالح
والثوري والشافعي: "هو أن يصير ظل كل شيء مثله". وحكي عن مالك أن وقت
الظهر والعصر إلى غروب الشمس.
(2/336)
ويحتج
لقول من قال بالمثلين في آخر وقت الظهر بظاهر قوله: {طَرَفَيِ
النَّهَارِ} [هود: 114] وذلك يقتضي فعل العصر بعد المثلين; لأنه كلما
كان أقرب إلى وقت الغروب فهو أولى باسم الطرف, وإذا كان وقت العصر من
المثلين فما قبله من وقت الظهر, لحديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول وقت الظهر حين تزول
الشمس وآخر وقتها حين يدخل وقت العصر" . ويحتج أيضا لهذا القول بظاهر
قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ
اللَّيْلِ} [الاسراء: 78]. وقد بينا أن الدلوك يحتمل الزوال, فإذا أريد
به ذلك اقتضى ظاهره امتداد الوقت إلى الغروب, إلا أنه ثبت أن ما بعد
المثلين ليس بوقت للظهر, فوجب أن يثبت إلى المثلين بالظاهر. ويحتج فيه
من جهة السنة بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أجلكم في
أجل من مضى قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس, ومثلكم ومثل أهل
الكتابين قبلكم كرجل استأجر أجراء فقال من يعمل لي ما بين غدوة إلى نصف
النهار على قيراط؟ فعملت اليهود ثم قال من يعمل لما بين نصف النهار إلى
العصر على قيراط؟ فعملت النصارى, ثم قال من يعمل لما بين العصر إلى
المغرب على قيراطين؟ فعملتم أنتم فغضبت اليهود والنصارى فقالوا: كنا
أكثر عملا وأقل عطاء قال هل نقصتم من جعلكم شيئا؟ قالوا: لا, قال فإنما
هو فضلي أوتيه من أشاء" .
.
(2/337)
مطلب: في بيان قوله عليه السلام: "يبعثت أنا والساعة" وأن ذلك مقدر
بنصف السبع من مدة الدنيا
ودلالة هذا الخبر على ما ذكرنا من وجهين: أحدهما: قوله: "أجلكم في أجل
من مضى قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس" وإنما أراد بذلك
الإخبار عن قصر الوقت; وقال صلى الله عليه وسلم "بعثت أنا والساعة
كهاتين" وجمع بين السبابة والوسطى, وفي خبر آخر: كما بين هذه وهذه",
فأخبر فيه أن الذي بقي من مدة الدنيا كنقصان السبابة عن الوسطى, وقد
قدر ذلك بنصف السبع, فثبت بذلك حين شبه عليه السلام أجلنا في أجل من
مضى قبلنا بوقت العصر في قصر مدته أنه لا ينبغي أن يكون من المثل; لأنه
لو كان كذلك لكان أكثر من ذلك, فدل ذلك على أن وقت العصر بعد المثلين.
والوجه الآخر من دلالة الخبر: المثل الذي ضربه عليه السلام لنا ولأهل
الكتابين بالعمل في الأوقات المذكورة, وأنهم غضبوا فقالوا: كنا أكثر
عملا وأقل عطاء; فلو كان وقت العصر في المثل لما كانت النصارى أكثر
عملا من المسلمين, بل كان يكون المسلمون أكثر عملا; لأن ما بين المثل
إلى الغروب أكثر مما بين الزوال إلى المثل فثبت بذلك أن وقت العصر أقصر
من وقت الظهر
(2/337)
فإن قيل:
إنما أراد أن وقتي الفريقين جميعا أطول من وقت المسلمين. قيل له: هذا
غلط; لأنه أخبر عن كل واحد من الفريقين بذلك على حياله دون الإخبار
عنهما مجموعين ألا ترى أنهم قالوا: كنا أكثر عملا وأقل عطاء؟ وليسا
بمجموعهما أقل عطاء; لأن عطاءهما جميعا هو مثل عطاء المسلمين. ويدل
عليه حديث عروة عن بشير بن أبي مسعود عن أبيه عن النبي صلى الله عليه
وسلم: أن جبريل أتاه في اليوم الثاني حين صار ظل كل شيء مثله, فقال: قم
فصل الظهر فأخبر أن جبريل أتاه بعد المثل فأمره بفعل الظهر; فلو كان ما
بعد المثل من وقت العصر لكان قد أخر الظهر عن وقتها.
فإن قيل: في حديث ابن عباس وجابر وأبي سعيد عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه صلى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله, وهذا يوجب
أن يكون وقت العصر بعد المثل. قيل له: أما حديث ابن عباس فإنه أخبر فيه
عن إمامة جبريل عند باب البيت وذلك قبل الهجرة, وفيه أنه صلى الظهر من
اليوم الثاني لوقت العصر بالأمس, وذلك يوجب أن يكون وقت الظهر ووقت
العصر واحدا فيما صلاهما في اليومين.
فإن قيل: إنما أراد أنه ابتدأ العصر في وقت فراغه من الظهر من الأمس.
قيل له: في حديث ابن مسعود أن جبريل أتاه حين صار ظل كل شيء مثله في
اليوم الأول فقال: قم فصل العصر, وأنه أتاه في اليوم الثاني حين صار ظل
كل شيء مثله فقال: قم فصل الظهر; فأخبر أن مجيئه إليه وأمره إياه
بالصلاة كان بعد المثل, وهذا يسقط تأويل من تأوله. وإذا كان ذلك كذلك
وقد روى عبد الله بن عمر وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: "وقت الظهر ما لم يحضر وقت العصر" وفي حديث أبي قتادة عن النبي
صلى الله عليه وسلم: " التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت
الأخرى" , ثبت بذلك أن ما في حديث ابن عباس وابن مسعود على النحو الذي
ذكرنا منسوخ, وأنه كان قبل الهجرة, وعلى أنه لو كان ثابت الحكم لوجب أن
يكون الفعل الآخر ناسخا للأول, وأن يكون الآخر منهما ثابتا; والآخر من
الفعلين أنه فعل الظهر في اليوم الثاني بعد المثل وذلك يقتضي أن يكون
ما بعد المثل من وقت الظهر. وفي حديث أبي موسى عن النبي صلى الله عليه
وسلم حين سأله السائل عن مواقيت الصلاة: أنه صلى العصر في اليوم الأول
والشمس مرتفعة قبل أن تدخلها الصفرة, وكذلك في حديث سليمان بن بريدة عن
أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه صلى العصر في اليوم الأول
والشمس بيضاء مرتفعة; ولا يقال هذا فيمن صلاها حين يصير الظل مثله. وقد
ذكر أيضا في حديث ابن مسعود: أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس
بيضاء مرتفعة. رواه جماعة من كبار أصحاب الزهري عن عروة, منهم مالك
والليث وشعيب ومعمر وغيرهم, ورواه أيوب عن عتبة عن أبي بكر بن عمرو بن
حزم عن
(2/338)
عروة,
فذكر فيه مقادير الفيء على نحو ما قدمنا. فحديث ابن مسعود يروى على
هذين الوجهين, فذكر في أحدهما أنه جاءه جبريل عليه السلام حين صار ظل
كل شيء مثله فقال: قم فصل الظهر, وفي اليوم الثاني جاءه حين صار ظل كل
شيء مثله فقال: قم فصل العصر. وحديث الزهري عن عروة لم يذكر فيه مقدار
الفيء وذكر أنه صلى العصر في اليوم الأول والشمس بيضاء مرتفعة لم
تدخلها صفرة.
وقد رويت أخبار في تعجيل العصر قد يحتج بها من يقول بالمثل, وفيها
احتمال لما قالوه ولغيره, فلا تثبت بمثلها حجة في إثبات المثل دون
غيره, إذ لا حجة في المحتمل; منها حديث أنس: أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان يصلي العصر, ثم يذهب الذاهب إلى العوالي فيجدهم لم يصلوا
العصر, قال الزهري: والعوالي على الميلين والثلاثة. وروى أبو واقد
الليثي قال: حدثنا أبو أروى قال: كنت أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم
العصر بالمدينة, ثم أمشي إلى ذي الحليفة قبل أن تغرب الشمس. وفي حديث
أسامة بن زيد عن الزهري عن عروة عن بشير بن أبي مسعود عن أبيه قال: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العصر والشمس بيضاء مرتفعة يسير
الرجل حين ينصرف منها إلى ذي الحليفة ستة أميال قبل غروب الشمس. وروي
عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي العصر والشمس في
حجرتها قبل أن يظهر الفيء وفي لفظ آخر: لم يفئ الفيء بعد. ليس في هذه
الأخبار ذكر تحديد الوقت, وما ذكر من المضي إلى العوالي وذي الحليفة
فليس يمكن الوقوف منه على مقدار معلوم من الوقت; لأنه على قدر الإبطاء
والسرعة في المشي. وقد كان شيخنا أبو الحسن رحمه الله تعالى يستدل
بقوله صلى الله عليه وسلم: "أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم"
على أن ما بعد المثل وقت للظهر; لأن الإبراد لا يكون عند المثل بل أشد
ما يكون الحر في الصيف عندما يصير ظل كل شيء مثله. ومن قال بالمثل يجيب
عن ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالهجير عند الزوال
والفيء قليل في ذلك الوقت, فكان منهم من يصلي في الشمس أو بالقرب منها;
وكذلك قال خباب: شكونا إلى رسول الله حر الرمضاء فلم يشكنا, ثم قال:
"أبردوا بالظهر" فأمرهم أن يصلوها بعدما يفيء الفيء, فهذا هو الإبراد
المأمور به عند من قال بالمثل.
وأما ما حكي عن مالك أن وقت الظهر والعصر إلى غروب الشمس, فإنه قول
ترده الأخبار المروية في المواقيت; لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى
في اليومين في حديث ابن عباس وابن مسعود وجابر وأبي سعيد وأبي موسى
وغيرهم في أول الوقت وآخره, ثم قال: "ما بين هذين وقت" , وفي حديث عبد
الله بن عمر وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "وقت الظهر ما لم
يحضر وقت العصر" , وفي بعض ألفاظ حديث أبي هريرة: "وآخر وقت الظهر حين
يدخل
(2/339)
وقت
العصر" , فغير جائز لأحد أن يجعل وقت العصر وقتا للظهر مع إخبار النبي
صلى الله عليه وسلم أن آخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر. وقد نقل
الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأوقات عملا وقولا, كما نقلوا
وقت الفجر ووقت العشاء والمغرب, وعقلوا بتوقيفه صلى الله عليه وسلم أن
كل صلاة منها مخصوصة بوقت غير وقت الأخرى. وقال النبي صلى الله عليه
وسلم في حديث أبي قتادة: "التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت
الأخرى" . ولا خلاف أن تارك الظهر لغير عذر حتى يدخل وقت العصر مفرط;
فثبت أن للظهر وقتا مخصوصا, وكذلك العصر, وأن وقت كل واحدة منهما غير
وقت الأخرى, ولو كان الوقتان جميعا وقتا للصلاتين لجاز أن يصلى العصر
في وقت الظهر من غير عذر ولما كان للجمع بعرفة خصوصية; وفي امتناع جواز
ذلك لغير عذر عند الجميع دلالة على أن كل واحدة من الصلاتين منفردة
بوقتها.
فإن احتجوا بقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى
غَسَقِ اللَّيْلِ} [الاسراء: 78] وأن الدلوك هو الزوال, وجعل ذلك كله
وقتا للظهر إلى غروب الشمس; لأنه روي في غسق الليل عن جماعة من السلف
أنه الغروب. قيل له: ظاهره يقتضي إباحة فعل هذه الصلاة من وقت الزوال
إلى غسق الليل, وقد اتفق الجميع على أن ذلك ليس بمراد وأنه غير مخير في
فعل الظهر من وقت الزوال إلى الليل, فثبت أن المراد صلاة أخرى يفعلها
وهي إما العصر وإما المغرب, والمغرب أشبه بمعنى الآية لاتصال وقتها
بغسق الليل الذي هو اجتماع الظلمة; فيكون تقدير الآية: أقم الصلاة
لزوال الشمس, وأقمها أيضا إلى غسق الليل; وهي صلاة أخرى غير الأولى,
فلا دلالة في الآية على أن وقت الظهر إلى غروب الشمس وقد وافق الشافعي
مالكا في هذا المعنى أيضا من وجه, وذلك أنه يقول: "من أسلم قبل غروب
الشمس لزمته الظهر والعصر جميعا, وكذلك الحائض إذا طهرت والصبي إذا بلغ
"; وذهب إلى أنه وإن لم يكن وقت اختيار فهو وقت الضرورة والعذر; لأنه
يجوز على أصله الجمع بين الصلاتين في السفر والمرض ونحوه بأن يؤخر
الظهر إلى وقت العصر أو يعجل العصر فيصليها في وقت الظهر معها, فجعل من
أجل ذلك الوقت وقتا لهما في حال العذر والضرورة. فإن كان هذا اعتبارا
صحيحا فإنه يلزمه أن يقول في المرأة إذا حاضت في أول وقت الظهر أن
تلزمها صلاة الظهر والعصر جميعا, كما أنها إذا طهرت في آخر وقت العصر
لزمتها صلاة الظهر والعصر جميعا, وقد أدركت هذه التي حاضت في وقت الظهر
من الوقت ما يجوز لها فيه الجمع بين الصلاتين للعذر; وهذا لا يقوله
أحد, فثبت بذلك أن وقت العصر غير وقت الظهر في سائر الأحوال وأنه لا
تلزم أحدا صلاة الظهر بإدراكه وقت العصر دون وقت الظهر.
(2/340)
وقت العصر
قال أبو بكر: أما أول وقت العصر فهو على ما ذكرنا من خروج وقت الظهر
على اختلافهم فيه, والصحيح من قولهم أنه ليس بين وقت الظهر ووقت العصر
واسطة وقت من غيرهما; وما روي عن أبي حنيفة من أن آخر وقت الظهر أن
يصير الظل أقل من قامتين وأول وقت العصر إذا صار الظل قامتين, فهو
رواية شاذة, وهي أيضا مخالفة للآثار الواردة في أن وقت الظهر ما لم
يحضر وقت العصر; وفي بعض ألفاظ حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم: "وآخر وقت الظهر حين يدخل وقت العصر" وفي حديث أبي قتادة:
"التفريط في الصلاة أن يتركها حتى يدخل وقت الأخرى" . والصحيح من مذهب
أبي حنيفة أحد قولين: إما المثلان وإما المثل, وأن بخروج وقت الظهر
يدخل وقت العصر.
واتفق فقهاء الأمصار أن آخر وقت العصر غروب الشمس, ومن الناس من يقول:
إن آخر وقتها حين تصفر الشمس, ويحتج فيه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم
عن الصلاة عند غروب الشمس. قال أبو بكر: والدليل على أن آخر وقتها
الغروب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من فاته العصر حتى غابت الشمس
فكأنما وتر أهله وماله" , فجعل فواتها بالغروب وروى أبو هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس
فقد أدرك" , وهذا يدل على أن وقتها إلى الغروب.
فإن احتج محتج بحديث عبد الله بن عمر وأبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "آخر وقت العصر حين تصفر الشمس" , فإن هذا عندنا
على كراهة التأخير وبيان الوقت المستحب, كما روي في حديث الأعمش عن أبي
صالح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "آخر وقت
العشاء الآخرة نصف الليل" ومراده الوقت المستحب; لأنه لا خلاف أن ما
بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر من وقت العشاء الآخرة, وأن مدركه
بالاحتلام أو الإسلام يلزمه فرضها. وقد روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "إن الرجل ليصلي الصلاة ولما فاته من وقتها خير له من
أهله وماله" . فقد يكون وقت يلزم به مدركه الفرض ويكره له تأخيرها إليه
ألا ترى أنه يكره الإسفار بصلاة الفجر بمزدلفة ولم تخرجه كراهة التأخير
إليه من أن يكون وقتا لها؟ فكذلك الأخبار التي فيها تقدير آخر الوقت
باصفرار الشمس واردة على فوات فضيلة الوقت الذي جعلها النبي صلى الله
عليه وسلم خيرا له من أهله وماله.
(2/341)
وقت المغرب
أول وقت المغرب من حين تغرب الشمس لا اختلاف بين الفقهاء في ذلك, وقال
(2/341)
الله عز
وجل: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الاسراء: 78] وهو يقع
على الغروب لما بيناه فيما سلف وقال تعالى: {وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ}
[هود: 114] وهو ما قرب منه من النهار, وهو أول أوقاته والله أعلم. وقال
تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ} [الروم: 17] قيل فيه إنه
وقت المغرب. وفي أخبار المواقيت عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق
ابن عباس وجابر وأبي سعيد وغيرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى
المغرب في اليومين جميعا حين غابت الشمس. وقال سلمة بن الأكوع: كنا
نصلي المغرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توارت بالحجاب.
وقد ذهب شواذ من الناس إلى أن أول وقت المغرب حين يطلع النجم, واحتجوا
بما روى أبو تميم الجيشاني عن أبي بصرة الغفاري قال: صلى بنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم صلاة العصر فقال: "إن هذه الصلاة عرضت على من كان
قبلكم فضيعوها, فمن حافظ عليها منكم أوتي أجره مرتين, ولا صلاة بعدها
حتى يطلع الشاهد; والشاهد النجم" . وهذا حديث شاذ لا تعارض به الأخبار
المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أول وقت المغرب أنه حين تغيب
الشمس; وقد روى ذلك أيضا عن جماعة من الصحابة منهم عمر وعبد الله
وعثمان وأبو هريرة. ويحتمل أن يكون خبر أبي بصرة في ذكر طلوع الشاهد
غير مخالف لهذه الأخبار وذلك; لأن النجم قد يرى في بعض الأوقات بعد
غروب الشمس قبل اختلاط الظلام, فلما كان الغالب في ذلك أنه لا يكاد
يخلو من أن يرى بعض النجوم بعد غروب الشمس جعل ذلك عبارة عن غيبوبة
الشمس. وأيضا فلو كان الاعتبار برؤية النجم لوجب أن تصلى قبل الغروب
إذا رئي النجم; لأن بعض النجوم قد يرى في بعض الأوقات قبل الغروب, ولا
خلاف أنه غير جائز فعلها قبل الغروب مع رؤية الشاهد, فسقط بذلك اعتبار
طلوع الشاهد.
وأما آخر وقت المغرب فإن أهل العلم مختلفون فيه, فقال أبو حنيفة وأبو
يوسف ومحمد وزفر ومالك والثوري والحسن بن صالح: "لوقت المغرب أول وآخر
كسائر الصلوات". وقال الشافعي: "ليس للمغرب إلا وقت واحد". ثم اختلف من
قال بأن له أولا وآخرا في آخر وقتها, فقال أصحابنا والثوري والحسن بن
صالح: "آخر وقتها أن يغيب الشفق". ثم اختلفوا في الشفق, فقال أبو
حنيفة: "الشفق البياض". وقال أبو يوسف ومحمد وابن أبي ليلى ومالك
والثوري والحسن بن صالح والشافعي: "الشفق الحمرة". وقال مالك: "وقت
المغرب والعشاء إلى طلوع الفجر".
قال أبو بكر: وقد اختلف السلف أيضا في الشفق ما هو, فقال بعضهم: "هو
البياض" وقال بعضهم: "الحمرة". فممن قال إنه الحمرة ابن عباس وابن عمر
(2/342)
وعبادة بن
الصامت وشداد بن أوس. حدثنا أبو يعقوب يوسف بن شعيب المؤذن قال: حدثنا
أبو عمران موسى بن القاسم العصار والحسين بن الفرج البزاز قالا: حدثنا
هشام بن عبيد الله قال: حدثنا هياج عمن ذكر عن عطاء الخراساني عن ابن
عباس قال: "الشفق الحمرة". قال هشام: وحدثنا أبو سفيان عن العمري عن
نافع عن ابن عمر قال: "الشفق الحمرة". قال هشام: وحدثنا أبو سفيان عن
العمري عن نافع عن ابن عمر قال: "كان عبادة بن الصامت وشداد بن أوس
يصليان العشاء إذا غابت الحمرة ويريانها الشفق". فهؤلاء الذين روي عنهم
الحمرة. وممن روي عنه أن الشفق البياض عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعمر
بن عبد العزيز; حدثنا يوسف بن شعيب قال: حدثنا موسى بن القاسم والحسين
بن الفرج قالا: حدثنا هشام بن عبيد الله قال: حدثنا الوليد بن مسلم
قال: حدثنا عنبسة بن سعيد الكلاعي قال: حدثني قتادة عن سعيد بن المسيب
أن عمر بن الخطاب كتب: "إن أول وقت العشاء مغيب الشفق", ومغيبه إذا
اجتمع البياض من الأفق فينقطع, فذلك أول وقتها. قال هشام: حدثنا أبو
عثمان عن خالد بن يزيد عن إسماعيل بن عبيد الله عن عبد الرحمن بن غنم
عن معاذ بن جبل قال: "الشفق البياض".قال هشام: وحدثنا محمد بن الحسن
عمن ذكر عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول: "الشفق البياض".
(2/343)
فصل
وأما الدلالة على أن لوقت المغرب أولا وآخرا وأنه غير مقدر بفعل الصلاة
فحسب, قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ
اللَّيْلِ} [الاسراء: 78], وقد ذكرنا من قال من السلف إنه الغروب
واحتمال اللفظ له, فاقتضت الآية أن يكون لوقت المغرب أول وآخر; لأن
قوله تعالى: {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} [الاسراء: 78] غاية; وقد روي عن
ابن عباس أن غسق الليل اجتماع الظلمة, فثبت بدلالة الآية أن وقت المغرب
من حين الغروب إلى اجتماع الظلمة, وفي ذلك ما يقضي ببطلان قول من جعل
لها وقتا واحدا مقدرا بفعل الصلاة. وروى الأعمش عن أبي صالح عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أول وقت المغرب حين تسقط
الشمس وإن آخر وقتها حين يغيب الأفق" وفي حديث أبي بكرة عن أبي موسى عن
أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أن سائلا سأله عن مواقيت الصلاة,
فذكر الحديث وقال فيه: وصلى المغرب في اليوم الأول حين وقعت الشمس
وآخرها في اليوم الثاني حتى كان عند سقوط الشفق, ثم قال: الوقت فيما
بين هذين. وفي حديث علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي
صلى الله عليه وسلم أن رجلا سأله عن وقت الصلاة فقال: صل معنا فأقام
المغرب حين غابت الشمس, ثم صلى المغرب في اليوم
(2/343)
الثاني
قبل أن يغيب الشفق; وكذلك في حديث جابر. فثبت بذلك أن لوقت المغرب أولا
وآخرا.
وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا محمد
بن كثير قال: حدثنا همام عن قتادة عن أبي أيوب عن عبد الله بن عمرو أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وقت المغرب ما لم يغب الشفق" . وروى
عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقرأ في صلاة المغرب بأطول الطول1 وهي: المص. وهذا يدل على امتداد
الوقت, ولو كان الوقت مقدرا بفعل ثلاث ركعات لكان من قرأ: "المص" قد
أخرها عن وقتها.
فإن قيل: روي في حديث ابن عباس وأبي سعيد: أن النبي صلى الله عليه وسلم
صلى المغرب في اليومين جميعا في وقت واحد بعد غروب الشمس. قيل له: هذا
لا يعارض ما ذكرنا; لأنه جائز أن يكون فعله كذلك ليبين الوقت المستحب;
وفي الأخبار التي رويناها بيان أول الوقت وآخره, وإخبار منه بأن ما بين
هذين وقت, فهو أولى; لأن فيه استعمال الخبرين, ومع ذلك فإن فعله لها في
اليومين في وقت واحد لو انفرد عما يعارضه من الأخبار التي ذكرنا لم تكن
فيه دلالة على أن لا وقت لها غيره, كما لم يدل فعله للعصر في اليومين
قبل اصفرار الشمس على أنه لا وقت لها غيره, وكفعله للعشاء الآخرة في
اليومين قبل نصف الليل لم يدل على أن ما بعد نصف الليل ليس بوقت لها.
ومن جهة النظر أن سائر الصلوات المفروضات لما كان لأوقاتها أول وآخر
ولم تكن أوقاتها مقدرة بفعل الصلاة وجب أن يكون المغرب كذلك; فقول من
جعل الوقت مقدرا بفعل الصلاة خارج عن الأصول مخالف للأثر والنظر جميعا.
ومما يلزم الشافعي في هذا أنه يجيز الجمع بين المغرب والعشاء في وقت
واحد إما لمرض أو سفر كما يجيزه بين الظهر والعصر, فلو كان بينهما وقت
ليس منهما لما جاز الجمع بينهما, كما لا يجوز الجمع بين الفجر والظهر
إذا كان بينهما وقت ليس منهما.
فإن قيل: ليس علة الجمع تجاور الوقتين; لأنه لا يجمع المغرب إلى العصر
مع تجاور الوقتين. قيل له: لم نلزمه أن يجعل تجاور الوقتين علة للجمع,
وإنما ألزمناه
ـــــــ
1 قوله: "باطول الطول" الطول بالضم جمع الطولى مثل الكبر في الكبرى.
وفي الحديث: "أوتيت السبع الطول" أي البقر وآل عمران والنساء والمائدة
والأنعام والأعراف والتوبة" والمراد بالطول ههنا الطوليان كما هو في
حديث أم سلمة ولفظه: أنه كان يقرأ في المغرب بطولى الطوليين. قال في
النهايةى: أي انه كان يقرا فييها بأطول السورتين الطويلتين تعني
الأنعام والأعراف. "لمصححه".
(2/344)
المنع من
الجمع إذا لم يكن الوقتان متجاورين; لأن كل صلاتين بينهما وقت ليس
منهما لا يجوز الجمع بينهما والله أعلم بالصواب.
(2/345)
ذكر القول في الشفق والاحتجاج له
قال أبو بكر: لما اختلف الناس في الشفق, فقال منهم قائلون: "هو الحمرة"
وقال آخرون: "البياض". علمنا أن الاسم يتناولهما ويقع عليهما في اللغة
لولا ذلك لما تأولوه عليهما; إذ كانوا عالمين بمعاني الأسماء اللغوية
والشرعية ألا ترى أنهم لما اختلفوا في معنى القرء فتأوله بعضهم على
الحيض وبعضهم على الطهر ثبت بذلك أن الاسم يقع عليهما؟ وإنما نحتاج بعد
ذلك إلى أن نستدل على المراد منهما بالآية. وحدثنا أبو عمر غلام ثعلب
قال: سئل ثعلب عن الشفق ما هو؟ فقال: البياض; فقال له السائل: الشواهد
على الحمرة أكثر, فقال ثعلب: إنما يحتاج إلى الشاهد ما خفي فأما البياض
فهو أشهر في اللغة من أن يحتاج إلى الشاهد.
قال أبو بكر: ويقال إن أصل الشفق الرقة, ومنه يقال ثوب شفق, ومنه
الشفقة وهي رقة القلب. وإذا كان أصله كذلك فالبياض أخص به; لأنه عبارة
عن الأجزاء الرقيقة الباقية من ضياء الشمس, وهو في البياض أرق منه في
الحمرة; ويشهد لمن قال بالحمرة قول أبي النجم:
حتى إذا الشمس اجتلاها المجتلي ... بين سماطي شفق مهول1
فهي على الأفق كعين الأحول
ومعلوم أنه أراد الحمرة; لأنه وصفها عند الغروب.
ومما يحتج به للبياض قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ}
[الانشقاق:16], قال مجاهد: "هو النهار". ويدل عليه قوله: {وَاللَّيْلِ
وَمَا وَسَقَ} [الانشقاق:17] فأقسم بالليل والنهار, فهذا يوجب أن يكون
الشفق البياض; لأن أول النهار هو طلوع بياض الفجر, وهذا يدل على أن
الباقي من البياض بعد غروب الشمس هو الشفق ومما يستدل به على أن المراد
البياض قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى
غَسَقِ اللَّيْلِ} [الاسراء: 78], وقد بينا أن الدلوك اسم يقع على
الغروب, ثم جعل غسق الليل غايته. وروي عن ابن عباس في غسق الليل: "أنه
اجتماع الظلمة" وذلك لا يكون إلا مع غيبوبة البياض لأن البياض ما دام
باقيا فالظلمة متفرقة في الأفق فثبت بذلك أن وقت المغرب إلى غيبوبة
البياض, فثبت أن المراد البياض.
ـــــــ
1 قوله: "مهول" هوالذي فيه تهاويل وهي اللوان المختلفة م ىحمرة وصفرة
وغيرهما. "لمصححه".
(2/345)
فإن قيل:
روي عن ابن مسعود وأبي هريرة أن غسق الليل هو غروب الشمس. قيل له:
المشهور عن ابن مسعود أن دلوك الشمس هو غروبها, ومحال إذا كان الدلوك
عنده الغروب أن يكون غسق الليل غروب الشمس أيضا; لأن الله تعالى قال:
{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الاسراء: 78] فجعل الدلوك أول
الوقت وغسق الليل آخره, ويستحيل أن يكون ما جعله ابتداء هو الذي جعله
غاية وإذا كان ذلك كذلك فالراوي عن ابن مسعود أن غسق الليل هو غروب
الشمس غالط في روايته, ومع ذلك فقد روي عن ابن مسعود رواية مشهورة أن
دلوك الشمس غروبها وأن غسق الليل حين يغيب الشفق; وهذه الرواية مستقيمة
على ما ثبت عنه من تأويل الآية. وقد روى ليث عن مجاهد عن ابن عباس: "أن
دلوك الشمس حين تزول إلى غسق الليل حين تجب الشمس", وهذا غير بعيد على
ما ثبت عنه في تأويل الدلوك أنه الزوال; إلا أنه قد روى عنه مالك عن
داود بن الحصين قال: أخبرني مخبر عن ابن عباس أنه كان يقول: "غسق الليل
اجتماع الليل وظلمته", وهذا ينفي أن يكون غسق الليل وقت الغروب, من قبل
أن وقت الغروب لا يكون ظلمة مجتمعة. وقد روي عن أبي جعفر في غسق الليل
أنه انتصافه, وعن إبراهيم: غسق الليل العشاء الآخرة.
وأولى هذه المعاني بلفظ الآية اجتماع الظلمة وذهاب البياض وذلك; لأنه
لو كان غسق الليل هو غروب الشمس لكانت الغاية المذكورة للوقت هي وجود
الليل فحسب, فيصير تقدير الآية: أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى الليل;
وتسقط معه فائدة ذكر الغسق مع الليل. ولما وجب حمل كل لفظ منه على
فائدة مجددة وجب أن يكون غسق الليل قد أفاد ما لم يفدناه لو قال: إلى
الليل; فتكون الفائدة فيه اجتماع الظلمة دون وجود الليل عاريا من
اجتماعها.
ومما يستدل به على أن الشفق هو البياض حديث بشير بن أبي مسعود عن أبيه:
أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى العشاء اليوم الأول حين اسود الأفق
وربما أخرها حتى يجتمع الناس, فأخبر عن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم
في أوائل أوقاتها, وأخبر عنها في أواخرها, وذكر في أول وقت العشاء
الآخرة اسوداد الأفق; ومعلوم أن بقاء البياض يمنع إطلاق الاسم عليه
بذلك. فثبت أن أول وقت العشاء الآخرة غيبوبة البياض. ومن يأبى هذا
القول يقول: إن قوله: "حين اسود الأفق" لا ينفي بقاء البياض; لأنه إنما
أخبر عن اسوداد أفق من الآفاق لا عن جميعها, ولو أراد غيبوبة البياض
لقال: حين اسودت الآفاق; وليس يمتنع أن يبقى البياض وتكون سائر الآفاق
غير موضع البياض مسودة. ويحتج القائلون بالبياض أيضا
(2/346)
بحديث
الزهري عن عروة عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي
العشاء الآخرة حين يستوي الأفق, وربما أخرها حتى يجتمع الناس; وهذا
اللفظ يحتمل من المعنى ما احتمله قوله في الحديث الأول" حين اسود
الأفق".
ومما يحتج به القائلون بالحمرة ما روى ثور بن يزيد عن سليمان بن موسى
عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله قال: سأل رجل نبي الله صلى
الله عليه وسلم عن وقت الصلاة فقال: صل معي . فصلى في اليوم الأول
العشاء الآخرة قبل غيبوبة الشفق. قالوا: ومعلوم أنه لم يصلها قبل
غيبوبة الحمرة, فوجب أن يكون أراد البياض; ولا تكون رواية من روى أنه
صلاها بعدما غاب الشفق معارضة لحديث جابر هذا, من قبل أن معناه: بعدما
غاب الشفق الذي هو الحمرة; إذ كان الاسم يقع عليهما جميعا ليتفق
الحديثان ولا يتضادا, ومن يجعل الشفق البياض يجعل خبر جابر منسوخا على
نحو ما روي في خبر ابن عباس في المواقيت أنه صلى الظهر في اليوم الثاني
وقت العصر بالأمس. ومما يحتج به القائلون بالحمرة ما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "أول وقت المغرب إذا غربت الشمس وآخره غيبوبة
الشفق" . وفي بعض أخبار عبد الله بن عمر: "إذا غابت الشمس فهو وقت
المغرب إلى أن يغيب الشفق" وفي لفظ آخر: "وقت المغرب ما لم يسقط ثور
الشفق"1 قالوا: فالواجب حمله على أولهما وهو الحمرة; ومن يقول بالبياض
يجيب عن هذا بأن ظاهر ذلك يقتضي غيبوبة جميعه وهو بالبياض, فيدل ذلك
على اعتبار البياض دون الحمرة; لأنه غير جائز أن يقال قد غاب الشفق إلا
بعد غيبوبة جميعه, كما لا يقال غابت الشمس إلا بعد غيبوبة جميعها دون
بعضها. ولمن قال بالحمرة أن يقول: إن البياض والحمرة ليسا شفقا واحدا
بل هما شفقان فيتناول الاسم أولهما غيبوبة; كما أن الفجر الأول والثاني
هما فجران وليسا فجرا واحدا, فيتناولهما إطلاق الاسم معا كذلك الشفق.
ومما يحتج به للقائلين بالبياض, حديث النعمان بن بشير: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان يصلي العشاء لسقوط القمر الليلة الثالثة, وظاهر
ذلك يقتضي غيبوبة البياض. قال أبو بكر: وهذا لا يعتمد عليه; لأن ذلك
يختلف في الصيف والشتاء ولا يمتنع بقاء البياض بعد سقوط القمر في
الليلة الثالثة, وجائز أن يكون قد غاب قبل سقوطه.
ـــــــ
1 قوله: "ثور الشفق" بالثاء المثلثة أي وثوران حمرته, من ثار الشيء
يثور إذا انتشر واترتفع كما في النهاية. "لمصححه".
(2/347)
مطلب: فيما ذكره الخليل بن أحمد من تردد الشفق الأبيض في الآفاق وعدم
مغيبه
قال أبو بكر: وحكى1 ابن قتيبة عن الخليل بن أحمد قال: راعيت البياض
فرأيته لا يغيب ألبتة وإنما يستدير حتى يرجع إلى مطلع الفجر. قال أبو
بكر: وهذا غلط; والمحنة بيننا وبينهم; وقد راعيته في البوادي في ليالي
الصيف والجو نقي والسماء مصحية فإذا هو يغيب قبل أن يمضي من الليل ربعه
بالتقريب, ومن أراد أن يعرف ذلك فليجرب حتى يتبين له غلط هذا القول.
ومما يستدل به على أن المراد بالشفق البياض, أنا وجدنا قبل طلوع الشمس
حمرة وبياضا قبلها وكانا جميعا من وقت صلاة واحدة; إذ كانا جميعا من
ضياء الشمس دون ظهور جرمها; كذلك يجب أن تكون الحمرة والبياض جميعا بعد
غروبها من وقت صلاة واحدة, للعلة التي ذكرناها.
ـــــــ
1 قوله: "قال أبو بكر وحكى إلى آخره" ذكره القرطبي في تفسير سورة
الانشقاق عن الخليل بن أحمد ان قال: صعدت منارة الاسكندرية فرمقت
البياض فرأيته يتردد من أفق ولم أره يغيب. وقال ابن أبي اويس: رأيته
يتمادى إلى طلوع الفجر انتهى, وبهذا تعلم أن ما ذكره المصنف رآه في أرض
البوادي ولا يلزم من مغيب عن نظر الرامق له من ارض البادية مغيبه عن
نظر الرامق من تلك المنارة العالية لما بين المكانين من التباين الكلي
في الارتفاع والانحطاط. وقد نقل الزيلعي في كتاب تبين الخقائق أن الشمس
لا تغيب عن نظر الرامق لها من منارة الاسكندرية إلا بعد غيابها بزمن
طويل عن البلد. "لمصححه".
(2/348)
وقت العشاء الآخرة
وأول وقت العشاء الآخرة من حين يغيب الشفق على اختلافهم فيه إلى أن
يذهب نصف الليل في الوقت المختار, وفي رواية أخرى: حتى يذهب ثلث الليل;
ويكره تأخيرها إلى بعد نصف الليل, ولا تفوت إلا بطلوع الفجر الثاني.
وقال الثوري والحسن بن صالح: "وقت العشاء إذا سقط الشفق إلى ثلث الليل,
والنصف أبعده". قال أبو بكر: ويحتمل أن يكونا أرادا الوقت المستحب;
لأنه لا خلاف بين الفقهاء أنها لا تفوت إلا بطلوع الفجر وأن من أدرك أو
أسلم قبل طلوع الفجر أنه تلزمه العشاء الآخرة, وكذلك المرأة إذا طهرت
من الحيض.
قوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا
تَأْلَمُونَ} الآية هو حث على
(2/348)
الجهاد
وأمر به ونهي عن الضعف عن طلبهم ولقائهم; لأن الابتغاء هو الطلب, يقال:
بغيت وابتغيت إذا طلبت, والوهن ضعف القلب والجبن الذي يستشعره الإنسان
عند لقاء العدو. واستدعاهم إلى نفي ذلك واستشعار الجرأة والإقدام عليهم
بقوله: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ} , فأخبر
أنهم يساوونكم فيما يلحق من الألم بالقتال وأنكم تفضلونهم فإنكم ترجون
من الله ما لا يرجون, فأنتم أولى بالإقدام والصبر على ألم الجراح منهم;
إذ ليس لهم هذا الرجاء وهذه الفضيلة.
قوله تعالى: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} قيل: فيه
وجهان: أحدهما: ما وعدكم الله من النصر إذا نصرتم دينه, والآخر ثواب
الآخرة ونعيم الجنة; فدواعي المسلمين على التصبر على القتال واحتمال
ألم الجراح أكثر من دواعي الكفار. وقيل فيه: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ
مَا لا يَرْجُونَ} : تؤملون من ثواب الله ما لا يؤملون, روي ذلك عن
الحسن وقتادة وابن جريج. وقال آخرون: وتخافون من الله ما لا يخافون,
كما قال تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13]
يعني لا تخافون لله عظمة. وبعض أهل اللغة يقول: لا يكون الرجاء بمعنى
الخوف إلا مع النفي وذلك حكم لا يقبل إلا بدلالة.
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} الآية. فيه إخبار
أنه أنزل الكتاب ليحكم بين الناس بما عرفه الله من الأحكام والتعبد.
(2/349)
مطلب: في قصة اليهودي الذي اتهم بسرقة الدرع
قوله تعالى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} روي أنه نزل في رجل
سرق درعا, فلما خاف أن تظهر عليه رمى بها في دار يهودي, فلما وجدت
الدرع أنكر اليهودي أن يكون أخذها, وذكر السارق أن اليهودي أخذها,
فأعان قوم من المسلمين هذا الآخذ على اليهودي, فمال رسول الله صلى الله
عليه وسلم إلى قولهم, فأطلعه الله على الآخذ وبرأ اليهودي منه ونهاه عن
مخاصمة اليهودي وأمره بالاستغفار مما كان منه من معاونته الذين كانوا
يتكلمون عن السارق. وهذا يدل على أنه غير جائز لأحد أن يخاصم عن غيره
في إثبات حق أو نفيه وهو غير عالم بحقيقة أمره; لأن الله تعالى قد عاتب
نبيه على مثله وأمره بالاستغفار منه. وهذه الآية وما بعدها من النهي عن
المجادلة عن الخونة إلى آخر ما ذكر كله تأكيد للنهي عن معونة من لا
يعلمه محقا. وقوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ
اللَّهُ} ربما احتج به من يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن
يقول شيئا من طريق الاجتهاد, وإن أقواله وأفعاله كلها كانت تصدر عن
النصوص, وإنه كقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ
إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3, 4] وليس في الآيتين دليل على أن
النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول
(2/349)
شيئا من
طريق الاجتهاد وذلك; لأنا نقول: إن ما صدر عن اجتهاد فهو مما أراه الله
وعرفه إياه ومما أوحى به إليه أن يفعله, فليس في الآية دلالة على نفي
الاجتهاد من النبي صلى الله عليه وسلم في الأحكام. وقد قيل في قوله
تعالى: {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً} : إنه جائز أن يكون
النبي صلى الله عليه وسلم دفع عنهم, وجائز أن يكون هم بالدفع عنهم ميلا
منه إلى المسلمين دون اليهودي; إذ لم يكن عنده أنهم غير محقين; وإذا
كان ظاهر الحال وجود الدرع عند اليهودي فكان اليهودي أولى بالتهمة
والمسلم أولى ببراءة الساحة, فأمره الله تعالى بترك الميل إلى أحد
الخصمين والدفع عنه وإن كان مسلما والآخر يهوديا, فصار ذلك أصلا في أن
الحاكم لا يكون له ميل إلى أحد الخصمين على الآخر وإن كان أحدهما ذا
حرمة له والآخر على خلافه. وهذا يدل أيضا على أن وجود السرقة في يد
إنسان لا يوجب الحكم عليه بها; لأن الله تعالى نهاه عن الحكم على
اليهودي بوجود السرقة عنده; إذ كان جاحدا أن يكون هو الآخذ. وليس ذلك
مثل ما فعله يوسف عليه السلام حين جعل الصاع في رحل أخيه, ثم أخذه
بالصاع واحتبسه عنده; لأنه إنما حكم عليهم بما كان عندهم أنه جائز,
وكانوا يسترقون السارق, فاحتبسه عنده; وكان له أن يتوصل إلى ذلك ولم
يسترقه, ولا قال إنه سرق, وإنما قال ذلك رجل غيره ظنه سارقا. وقد نهى
الله عن الحكم بالظن والهوى بقوله: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ
الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12], وقال النبي صلى
الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإنه أكذب الحديث". وقوله: {وَلا تَكُنْ
لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً}, وقوله: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ
يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} جائز أن يكون صادف ميلا من النبي صلى الله
عليه وسلم على اليهودي بوجود الدرع المسروقة في داره, وجائز أن يكون هم
بذلك, فأعلمه الله براءة ساحة اليهودي ونهاه عن مجادلته عن المسلمين
الذين كانوا يجادلون عن السارق. وقد كانت هذه الطائفة شاهدة للخائن
بالبراءة سائلة للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقوم بعذره في أصحابه وأن
ينكر ذلك على من ادعى عليه, فجائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم
أظهر معاونته لما ظهر من هذه الطائفة من الشهادة ببراءته وأنه ليس ممن
يتهم بمثله, فأعلمه الله باطن أمورهم بقوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ
عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ}
بمسألتهم معونة هذا الخائن. وقد قيل إن هذه الطائفة التي سألت النبي
صلى الله عليه وسلم ذلك وأعانوا الخائن كانوا مسلمين ولم يكونوا أيضا
على يقين من أمر الخائن وسرقته, ولكنه لم يكن لهم الحكم جائزا على
اليهودي بالسرقة لأجل وجود الدرع في داره.
فإن قيل: كيف يكون الحكم على ظاهر الحال ضلالا إذا كان في الباطن
خلافه, وإنما على الحاكم الحكم بالظاهر دون الباطن؟ قيل له: لا يكون
الحكم بظاهر الحال ضلالا وإنما الضلال إبراء الخائن من غير حقيقة علم,
فإنما اجتهدوا أن يضلوه عن هذا المعنى.
(2/350)
قوله
تعالى: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً} فإنه قد قيل في الفرق
بين الخطيئة والإثم1: إن الخطيئة قد تكون من غير تعمد, والإثم ما كان
عن عمد; فذكرهما جميعا ليبين حكمهما, وأنه سواء كان عن تعمد أو غير
تعمد فإنه إذا رمى به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا, إذ غير جائز
له رمي غيره بما لا يعلمه منه.
قوله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ
أَمَرَ بِصَدَقَةٍ} الآية. قال أهل اللغة: النجوى هو الإسرار; فأبان
تعالى أنه لا خير في كثير مما يتسارون به إلا أن يكون ذلك أمرا بصدقة
أو أمرا بمعروف أو إصلاح بين الناس, وكل أعمال البر معروف لاعتراف
العقول بها; لأن العقول تعترف بالحق من جهة إقرارها به والتزامها له
وتنكر الباطل من جهة زجرها عنه وتبريها منه. ومن جهة أخرى سمى أعمال
البر معروفا, وهو أن أهل الفضل والدين يعرفون الخير لملابستهم إياه
وعلمهم به ولا يعرفون الشر بمثل معرفتهم بالخير; لأنهم لا يلابسونه ولا
يعلمون به, فسمى أعمال البر معروفا والشر منكرا. حدثنا عبد الباقي بن
قانع قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال: حدثنا سهل بن بكار قال:
حدثنا عبد السلام أبو الخليل عن عبيدة الهجيمي قال: قال أبو جري2 جابر
بن سليم: ركبت قعودي, ثم انطلقت إلى مكة فأنخت قعودي بباب المسجد, فإذا
النبي صلى الله عليه وسلم جالس عليه بردان من صوف فيهما طرائق حمر,
فقلت: السلام عليك يا رسول الله فقال: وعليك السلام قلت: إنا معشر أهل
البادية فينا الجفاء فعلمني كلمات ينفعني الله بها فقال: ادن ثلاثا
فدنوت فقال: أعد علي فأعدت عليه, فقال: "اتق الله ولا تحقرن من المعروف
شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه منبسط وأن تفرغ من فضل دلوك في إناء
المستسقي, وإن امرؤ سبك بما يعلم منك3 فلا تسبه بما تعلم منه فإن الله
جاعل لك أجرا وعليه وزرا, ولا تسبن شيئا مما خولك الله" قال أبو جري:
والذي ذهب بنفسه ما سببت بعده شيئا لا شاة ولا بعيرا. وحدثنا عبد
الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن محمد بن مسلم الدقاق قال: حدثنا
هارون بن معروف قال: حدثنا سعيد بن مسلمة عن جعفر عن أبيه عن جده قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اصنع المعروف إلى من هو أهله وإلى
من ليس أهله, فإن أصبت أهله فهو أهله وإن لم تصب أهله فأنت
ـــــــ
1 قوله: "في الفرق بين الخطيئة إلى آخره" ذكر في الكشاف غير هذا ففسر
الخطيئة بالصغيرة والإثم بالكبيرة. "لمصححه".
2 قوله: "أبو جري" بضم الجيم وفتح الراء ونشديد الياء مصغرا جابر بن
سليم. "لمصححه".
3 قوله: "بما يعلم منك" ذكره السيوطي في الجامع الصغير بلفظ: "هو فيك"
وفي نسخة شرح عليها المنوي: "بأمر ليس فيك" قال العزيزي: وهو أبلغ.
"لمصححه".
(2/351)
أهله".
وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أبو زكريا يحيى بن محمد الحماني
والحسين بن إسحاق قالا: حدثنا شيبان قال: حدثنا عيسى بن شعيب قال:
حدثنا حفص بن سليمان عن يزيد بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي أمامة قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ل معروف صدقة وأول أهل الجنة دخولا
أهل المعروف, صنائع المعروف تقي مصارع السوء" وحدثنا عبد الباقي قال:
حدثنا معاذ بن المثنى وسعيد بن محمد الأعرابي قالا: حدثنا محمد بن كثير
قال: حدثنا سفيان الثوري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري يعني عبد الله عن
أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نكم لا تسعون
الناس بأموالكم ولكن ليسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق" .
(2/352)
مطلب: وأما الصدقة على الوجوه
وأما الصدقة فعلى وجوه: منها: الصدقة بالمال على الفقراء فرضا تارة
ونفلا أخرى ومنها: معونة المسلم بالجاه والقول, كما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "كل معروف صدقة" وقال صلى الله عليه وسلم:
"على كل سلامى من ابن آدم صدقة" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يعجز
أحدكم أن يكون مثل أبي ضمضم؟" قالوا: ومن أبو ضمضم؟ قال "رجل ممن كان
قبلكم كان إذا خرج من بيته قال: اللهم إني قد تصدقت بعرضي على من شتمه,
فجعل احتماله أذى الناس صدقة بعرضه عليهم".
قوله عز وجل: {أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} هو نظير قوله تعالى:
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا} [لحجرات: 9]وقوله: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ} [لحجرات: 9]وقال: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ
يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] وقال
تعالى: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}
[النساء: 35]. حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا ابن
العلاء قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سالم عن أم
الدرداء عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا
أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟" قالوا: بلى يا رسول
الله قال "إصلاح ذات البين, وفساد ذات البين الحالقة" 1. وإنما قيد
الكلام بشرط فعله ابتغاء مرضاة الله لئلا يتوهم أن من فعله للترؤس على
الناس والتأمر عليهم يدخل في هذا الوعد.
قوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُ الْهُدَى} الآية. فإن مشاقة
ـــــــ
1 قوله: "الحالقة" وهي الخصلة التي من شأنها أن تخلق وتستأصل الذين كما
يستأصل الموسى الشعر, كذا في النهاية. "لمصححه".
(2/352)
رسول الله
صلى الله عليه وسلم مباينته ومعاداته بأن يصير في شق غير الشق الذي هو
فيه, وكذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 5] هو أن يصير في حد غير حد الرسول, وهو يعني
مباينته في الاعتقاد والديانة. وقال: {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ
الْهُدَى} تغليظا في الزجر عنه وتقبيحا لحاله وتبيينا للوعيد فيه; إذ
كان معاندا بعد ظهور الآيات والمعجزات الدالة على صدق الرسول صلى الله
عليه وسلم. وقرن اتباع غير سبيل المؤمنين إلى مباينة الرسول فيما ذكر
له من الوعيد, فدل على صحة إجماع الأمة لإلحاقه الوعيد بمن اتبع غير
سبيلهم.
وقوله: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} إخبار عن براءة الله منه وأنه يكله
إلى ما تولى من الأوثان واعتضد به, ولا يتولى الله نصره ومعونته.
قوله تعالى: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ}
التبتيك التقطيع, يقال: بتكه يبتكه تبتيكا, والمراد به في هذا الموضع
شق أذن البحيرة; روي ذلك عن قتادة وعكرمة والسدي.
وقوله: {وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} يعني والله أعلم: أنه يمنيهم طول البقاء
في الدنيا ونيل نعيمها ولذاتها ليركنوا إلى ذلك ويحرصوا عليه ويؤثروا
الدنيا على الآخرة, ويأمرهم أن يشقوا آذان الأنعام ويحرموا على أنفسهم
وعلى الناس بذلك أكلها, وهي البحيرة التي كانت العرب تحرم أكلها.
وقوله: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} فإنه روي
فيه ثلاثة أوجه: أحدها: عن ابن عباس رواية إبراهيم ومجاهد والحسن
والضحاك والسدي: دين الله بتحريم الحلال وتحليل الحرام. ويشهد له قوله
تعالى: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}
[الروم: 30]. والثاني: ما روي عن أنس وابن عباس رواية شهر بن حوشب
وعكرمة وأبي صالح: "أنه الخصاء". والثالث: ما روي عن عبد الله والحسن:
"أنه الوشم". وروى قتادة عن الحسن أنه كان لا يرى بأسا بإخصاء الدابة,
وعن طاوس وعروة مثله وروي عن ابن عمر أنه نهى عن الإخصاء, وقال: "ما
أنهى إلا في الذكور". وقال ابن عباس: "إخصاء البهيمة مثلة" ثم قرأ:
{وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} . وروى عبد الله
بن نافع عن أبيه عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن
إخصاء الجمل.
قوله تعالى: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ
اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} هو نظير قوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123],
وهذا يوجب أن كل ما ثبت من ملة إبراهيم عليه السلام فعلينا اتباعه.
فإن قيل: فواجب أن تكون شريعة النبي صلى الله عليه وسلم هي شريعة
إبراهيم عليه السلام. قيل
(2/353)
له: إن
ملة إبراهيم داخلة في ملة النبي صلى الله عليه وسلم وفي ملة نبينا صلى
الله عليه وسلم زيادة على ملة إبراهيم; فوجب من أجل ذلك اتباع ملة
إبراهيم, إذ كانت داخلة في ملة النبي صلى الله عليه وسلم. فكان متبع
ملة النبي صلى الله عليه وسلم متبعا لملة إبراهيم.
وقيل في الحنيف: إنه المستقيم, فمن سلك طريق الاستقامة فهو على
الحنيفية. وإنما قيل للمعوج الرجل" أحنف" تفاؤلا, كما قيل للمهلكة
مفازة وللديغ سليما.
وقوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} فإنه قد قيل فيه
وجهان: أحدهما: الاصطفاء بالمحبة والاختصاص بالأسرار دون من ليس له تلك
المنزلة. والثاني: أنه من الخلة, وهي الحاجة, فخليل الله المحتاج إليه
المنقطع إليه بحوائجه; فإذا أريد به الوجه الأول جاز أن يقال إن
إبراهيم خليل الله والله تعالى خليل إبراهيم, وإذا أريد به الوجه
الثاني لم يجز أن يوصف الله بأنه خليل إبراهيم وجاز أن يوصف إبراهيم
بأنه خليل الله.
وقوله تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ
يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} قال أبو بكر: روي أنها نزلت في اليتيمة تكون في
حجر وليها فيرغب في مالها وجمالها ولا يقسط لها في صداقها, فنهوا أن
ينكحوهن أو يبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق.
وقوله تعالى: {وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى
النِّسَاءِ} يعني به ما ذكره في أول السورة من قوله تعالى: {وَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ
لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وقد بيناه في موضعه, والله الموفق.
(2/354)
باب مصالحة المرأة وزوجها
قال الله تعالى: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً
أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا
صُلْحاً} . قيل في معنى النشوز إنه الترفع عليها لبغضه إياها, مأخوذ من
نشز الأرض وهي المرتفعة. وقوله: {أَوْ إِعْرَاضاً} يعني لموجدة أو
أثرة, فأباح الله لهما الصلح, فروي عن علي وابن عباس أنه أجاز لهما أن
يصطلحا على ترك بعض مهرها أو بعض أيامها بأن تجعله لغيرها. وقال عمر:
"ما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز". وروى سماك عن عكرمة عن ابن عباس
قال: "خشيت سودة أن يطلقها النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول
الله لا تطلقني وأمسكني واجعل يومي لعائشة ففعل فنزلت هذه الآية:
{وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً}
الآية; فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز" وقال هشام بن عروة عن أبيه عن
عائشة أنها نزلت في المرأة تكون عند الرجل ويريد طلاقها ويتزوج غيرها
فتقول: أمسكني ولا تطلقني, ثم تزوج وأنت في حل من النفقة والقسمة لي,
فذلك قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا} إلى قوله تعالى:
{وَالصُّلْحُ
(2/354)
خَيْرٌ} .
وعن عائشة من طرق كثيرة: أن سودة وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى
الله عليه وسلم يقسم به لها.
قال أبو بكر: فهذه الآية دالة على وجوب القسم بين النساء إذا كان تحته
جماعة, وعلى وجوب الكون عندها إذا لم تكن عنده إلا واحدة وقضى كعب بن
سور بأن لها يوما من أربعة أيام بحضرة عمر, فاستحسنه عمر وولاه قضاء
البصرة. وأباح الله أن تترك حقها من القسم وأن تجعله لغيرها من نسائه,
وعموم الآية يقتضي جواز اصطلاحهما على ترك المهر والنفقة والقسم وسائر
ما يجب لها بحق الزوجية, إلا أنه إنما يجوز لها إسقاط ما وجب من النفقة
للماضي, فأما المستقبل فلا تصح البراءة منه; وكذلك لو أبرأت من الوطء
لم يصح إبراؤها وكان لها المطالبة بحقها منه; وإنما يجوز بطيب نفسها
بترك المطالبة بالنفقة وبالكون عندها, فأما أن تسقط ذلك في المستقبل
بالبراءة منه فلا. ولا يجوز أيضا أن يعطيها عوضا على ترك حقها من القسم
أو الوطء; لأن ذلك أكل مال بالباطل, أو ذلك حق لا يجوز أخذ العوض عنه;
لأنه لا يسقط مع وجود السبب الموجب له وهو عقد النكاح, وهو مثل أن تبرئ
الرجل من تسليم العبد المهر فلا يصح لوجود ما يوجبه وهو العقد. فإن قيل
فقد أجاز أصحابنا أن يخلعها على نفقة عدتها فقد أجازوا البراءة من نفقة
لم تجب بعد مع وجود السبب الموجب لها وهي العدة.
قيل له: لم يجيزوا البراءة من النفقة, ولا فرق بين المختلعة والزوجة في
امتناع وقوع البراءة من نفقة لم تجب بعد; ولكنه إذا خالعها على نفقة
العدة فإنما جعل الجعل مقدار نفقة العدة, والجعل في الخلع يجوز فيه هذا
القدر من الجهالة, فصار ذلك في ضمانها بعقد الخلع, ثم ما يجب لها بعد
من نفقة العدة في المستقبل يصير قصاصا بماله عليها وقد دلت الآية على
جواز اصطلاحهما من المهر على ترك جميعه أو بعضه أو على الزيادة عليه;
لأن الآية لم تفرق بين شيء من ذلك وأجازت الصلح في سائر الوجوه.
وقوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} قال بعض أهل العلم: "يعني خير من
الإعراض والنشوز "; وقال آخرون: "من الفرقة". وجائز أن يكون عموما في
جواز الصلح في سائر الأشياء إلا ما خصه الدليل, ويدل على جواز الصلح عن
إنكار والصلح من المجهول.
وقوله تعالى: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} . قال ابن عباس
وسعيد بن جبير: "الشح على أنصبائهن من أزواجهن وأموالهن"; وقال الحسن:
"تشح نفس كل واحد من الرجل والمرأة بحقه قبل صاحبه". والشح البخل, وهو
الحرص على منع الخير.
(2/355)
قوله
تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ
وَلَوْ حَرَصْتُمْ} الآية; روي عن أبي عبيدة قال: "يعني المودة وميل
الطباع" وكذلك روي عن ابن عباس والحسن وقتادة.
وقوله تعالى: {فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ} يعني والله أعلم إظهاره
بالفعل حتى ينصرف عنها إلى غيرها, يدل عليه قوله: {فَتَذَرُوهَا
كَالْمُعَلَّقَةِ} , قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة:
"لا أيم ولا ذات زوج". وقد روى قتادة عن النضر بن أنس عن بشير بن نهيك
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من كانت له
امرأتان يميل مع إحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط" ;
وهذا الخبر يدل أيضا على وجوب القسم بينهما بالعدل وأنه إذا لم يعدل
فالفرقة أولى, لقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ
بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229], فقال تعالى بعد ذكره ما يجب لها من العدل
في القسم وترك إظهار الميل عنها إلى غيرها: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا
يُغْنِ اللَّهُ كُلّاً مِنْ سَعَتِهِ} تسلية لكل واحد منهما عن الآخر
وأن كل واحد منهما سيغنيه الله عن الآخر إذا قصدا الفرقة, تخوفا من ترك
حقوق الله التي أوجبها; وأخبر أن رزق العباد كلهم على الله وأن ما
يجريه منه على أيدي عباده فهو المسبب له والمستحق للحمد عليه; وبالله
التوفيق.
(2/356)
باب ما يجب على الحاكم من العدل بين الخصوم
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} الآية; روى
قابوس عن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس في قوله: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ}
قال: "هو الرجلان يجلسان إلى القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه عن
الآخر". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن
مهران الدينوري قال: حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا زهير قال: حدثنا
عباد بن كثير بن أبي عبد الله عن عطاء بن يسار عن أم سلمة, أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ابتلي بالقضاء بين المسلمين فليعدل
بينهم في لحظه وإشارته ومقعده ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لم
يرفع على الآخر" .
قال أبو بكر: قوله تعالى: { كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} قد أفاد
الأمر بالقيام بالحق والعدل, وذلك موجب على كل أحد إنصاف الناس من نفسه
فيما يلزمه لهم وإنصاف المظلوم من ظالمه ومنع الظالم من ظلمه; لأن جميع
ذلك من القيام بالقسط, ثم أكد ذلك بقوله: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ} يعني
والله أعلم: فيما إذا كان الوصول إلى القسط من طريق الشهادة; فتضمن ذلك
الأمر بإقامة الشهادة على الظالم المانع من الحق للمظلوم صاحب
(2/356)
الحق
لاستخراج حقه منه وإيصاله إليه, وهو مثل قوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا
الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة:
283], وتضمن أيضا الأمر بالاعتراف والإقرار لصاحب الحق بحقه, بقوله
تعالى: {ولو على أنفسكم} لأن شهادته على نفسه هو إقراره بما عليه
لخصمه, فدل ذلك على جواز إقرار المقر على نفسه لغيره وأنه واجب عليه أن
يقر إذا طالبه صاحب الحق.
وقوله تعالى: {أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} فيه أمر بإقامة
الشهادة على الوالدين والأقربين ودل على جواز شهادة الإنسان على والديه
وعلى سائر أقربائه; لأنهم والأجنبيين في هذا الموضع بمنزلة, وإن كان
الوالدان إذا شهد عليهما أولادهما ربما أوجب ذلك حبسهما, وأن ذلك ليس
بعقوق ولا يجب أن يمتنع من الشهادة عليهما لكراهتهما لذلك; لأن ذلك منع
لهما من الظلم وهو نصرة لهما كما قال صلى الله عليه وسلم: "انصر أخاك
ظالما أو مظلوما" فقيل: يا رسول الله هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره
ظالما؟ قال: ترده عن الظلم فذلك نصر منك إياه", وهو مثل قوله صلى الله
عليه وسلم: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" . وهذا يدل على أنه إنما
تجب عليه طاعة الأبوين فيما يحل ويجوز, وأنه لا يجوز له أن يطيعهما في
معصية الله تعالى; لأن الله قد أمره بإقامة الشهادة عليهما مع كراهتهما
لذلك.
وقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى
بِهِمَا} أمر لنا بأن لا ننظر إلى فقر المشهود عليه بذلك إشفاقا منا
عليه, فإن الله أولى بحسن النظر لكل أحد من الأغنياء والفقراء وأعلم
بمصالح الجميع, فعليكم إقامة الشهادة عليهم بما عندكم.
وقوله تعالى: { فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} يعني لا
تتركوا العدل اتباعا للهوى والميل إلى الأقرباء, وهو نظير قوله تعالى:
{إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ
النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [صّ: 26] وفي ذلك دليل
على أن على الشاهد إقامة الشهادة على الذي عليه الحق وإن كان عالما
بفقره, وأنه لا يجوز له الامتناع من إقامتها خوفا من أن يحبسه القاضي
لفقد علمه بعدمه.
وقوله تعالى: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} فإنه يحتمل ما روي عن
ابن عباس: "أنه في القاضي يتقدم إليه الخصمان فيكون ليه وإعراضه على
أحدهما". واللي هو الدفع ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لي الواجد يحل
عرضه وعقوبته" , يعني مطله ودفع الطالب عن حقه. فإذا أريد به القاضي
كان معناه دفعه الخصم عما يجب له من العدل والتسوية ويحتمل أن يريد به
الشاهد في أنه مأمور بإقامة الشهادة وأن لا يدفع صاحب الحق عنها ويمطله
بها ويعرض عنه إذا طالبه بإقامتها, وليس يمتنع أن يكون أمرا للحاكم
والشاهد جميعا
(2/357)
لاحتمال
اللفظ لهما, فيفيد ذلك الأمر بالتسوية بين الخصوم في المجلس والنظر
والكلام وترك إسرار أحدهما والخلوة به, كما روي عن علي كرم الله وجهه
قال: {نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نضيف أحد الخصمين دون
الآخر}.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ
وَرَسُولِهِ} قيل فيه: يا أيها الذين آمنوا بمن قبل محمد من الأنبياء
آمنوا بالله وبمحمد وما أتى به من عند الله; لأنهم من حيث آمنوا
بالمتقدمين من الأنبياء لما كان معهم من الآيات فقد ألزمهم الإيمان
بمحمد صلى الله عليه وسلم لهذه العلة بعينها. ومن جهة أخرى أن في كتب
الأنبياء المتقدمين البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فمن حيث آمنوا
بهم وصدقوا بما أخبروا به عن الله تعالى, وقد أخبروهم بنبوة محمد صلى
الله عليه وسلم فعليهم الإيمان به وهم محجوجون بذلك. وقيل: إنه خطاب
للمؤمنين بمحمد صلى الله عليه وسلم وأمر لهم بالمداومة على الإيمان
والثبات عليه; والله أعلم.
(2/358)
باب استتابة المرتد
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ
آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً} قال قتادة: "يعني به
أهل الكتابين من اليهود والنصارى; آمن اليهود بالتوراة, ثم كفروا
بمخالفتها وكذلك آمنوا بموسى عليه السلام ثم كفروا بمخالفته, وآمن
النصارى بالإنجيل, ثم كفروا بمخالفته وكذلك آمنوا بعيسى عليه السلام ثم
كفروا بمخالفته, ثم ازدادوا كفرا بمخالفة الفرقان ومحمد صلى الله عليه
وسلم. وقال مجاهد: "هي في المنافقين: آمنوا ثم ارتدوا, ثم آمنوا ثم
ارتدوا, ثم ماتوا على كفرهم". وقال آخرون هم طائفة من أهل الكتاب قصدت
تشكيك أهل الإسلام, وكانوا يظهرون الإيمان به والكفر به, وقد بين الله
أمرهم في قوله: { وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا
بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ
وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران:72].
(2/358)
مطلب: في الخلاف في قبول نوبة الزنديق
قال أبو بكر: هذا يدل على أن المرتد الذي تاب تقبل توبته وأن توبة
المرتد مقبولة; إذ لم تفرق بين الزنديق وغيره من الكفار وقبول توبته
بعد الكفر مرة بعد أخرى والحكم بإيمانه متى أظهر الإيمان. واختلف
الفقهاء في استتابة المرتد والزنديق, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد
وزفر: "في الأصل لا يقتل المرتد حتى يستتاب, ومن قتل مرتدا قبل أن
يستتاب فلا ضمان عليه". وذكر بشر بن الوليد عن أبي يوسف في الزنديق
الذي يظهر الإسلام قال أبو حنيفة: "أستتيبه كالمرتد, فإن أسلم خليت
سبيله وإن أبى قتلته", وقال أبو يوسف كذلك زمانا, فلما رأى ما يصنع
الزنادقة ويعودون قال: "أرى
(2/358)
مطلب: ينبغي التباعد عن المنكر إذا لم يكن في ذلك ترك حق عليه
فإن قيل: فهل يلزم من كان بحضرته منكر أن يتباعد عنه وأن يصير بحيث لا
يراه ولا يسمعه؟ قيل له: قد قيل في هذا أنه ينبغي له أن يفعل ذلك إذا
لم يكن في تباعده وترك سماعه ترك الحق عليه, من نحو ترك الصلاة في
الجماعة لأجل ما يسمع من صوت الغناء والملاهي, وترك حضور الجنازة لما
معه من النواح, وترك حضور الوليمة لما هناك من اللهو واللعب; فإذا لم
يكن هناك شيء من ذلك فالتباعد عنهم أولى, وإذا كان هناك حق يقوم به لم
يلتفت إلى ما هناك من المنكر وقام بما هو مندوب إليه من حق بعد إظهاره
لإنكاره وكراهته وقال قائلون: إنما نهى الله عن مجالسة هؤلاء المنافقين
ومن يظهر الكفر والاستهزاء بآيات الله; لأن في مجالستهم تأنيسا لهم
ومشاركتهم فيما يجري في مجلسهم. وقد قال أبو حنيفة في رجل يكون في
الوليمة فيحضر هناك اللهو واللعب: إنه لا ينبغي له أن يخرج, وقال: لقد
ابتليت به مرة. وروي عن الحسن أنه حضر هو وابن سيرين جنازة وهناك نواح,
فانصرف ابن سيرين, فذكر ذلك للحسن فقال: إنا كنا متى رأينا باطلا
وتركنا حقا أسرع ذلك في ديننا لم نرجع. وإنما لم ينصرف لأن شهود
الجنازة حق قد ندب إليه وأمر به فلا يتركه لأجل معصية غيره, وكذلك حضور
الوليمة قد ندب إليها النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجز أن يترك لأجل
المنكر الذي يفعله غيره إذا كان كارها له وقد حدثنا محمد بن بكر قال:
حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن عبد الله الغداني قال: حدثنا الوليد
بن مسلم قال: حدثنا سعيد بن عبد العزيز عن سليمان بن موسى عن نافع قال
سمع ابن عمر مزمارا فوضع أصبعيه في أذنيه ونأى عن الطريق وقال لي: يا
نافع هل تسمع شيئا؟ فقلت: لا, فرفع أصبعيه من أذنيه وقال: كنت مع النبي
صلى الله عليه وسلم فسمع مثل هذا فصنع مثل هذا. وهذا هو الاختيار لئلا
تساكنه نفسه ولا تعتاد سماعه فيهون عنده أمره, فأما أن يكون واجبا فلا.
قوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} روي عن علي وابن عباس قالا: "سبيلا في
الآخرة". وعن السدي: "ولن يجعل الله لهم عليهم حجة, يعني فيما فعلوا
بهم من قتلهم وإخراجهم من ديارهم فهم في ذلك ظالمون لا حجة لهم فيه".
ويحتج بظاهره في وقوع الفرقة بين الزوجين بردة الزوج; لأن عقد النكاح
يثبت عليها للزوج سبيلا في إمساكها في بيته وتأديبها ومنعها من الخروج,
وعليها طاعته فيما يقتضيه عقد النكاح كما قال تعالى: {الرِّجَالُ
قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34], فاقتضى قوله
(2/363)
تعالى:
{وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلاً} وقوع الفرقة بردة الزوج وزوال سبيله عليها; لأنه ما دام
النكاح باقيا فحقوقه ثابتة وسبيله باق عليها.
فإن قيل: إنما قال: {عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فلا تدخل النساء فيه. قيل
له إطلاق لفظ التذكير يشتمل على المؤنث والمذكر, كقوله: {إِنَّ
الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:
103] وقد أراد به الرجال والنساء, وكذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة: 278] ونحوه من الألفاظ.
ويحتج بظاهره أيضا في الكافر الذمي إذا أسلمت امرأته أنه يفرق بينهما
إن لم يسلم, وفي الحربي كذلك أيضا, فإنه لا يجوز إقرارها تحته أبدا.
ويحتج به أصحاب الشافعي في إبطال شري الذمي للعبد المسلم; لأنه بالملك
يستحق السبيل عليه. وليس ذلك كما قالوا; لأن الشرى ليس هو السبيل
المنفي بالآية; لأن الشرى ليس هو الملك, والملك إنما يتعقب الشرى,
وحينئذ يملك السبيل عليه; فإذا ليس في الآية نفي الشرى إنما فيها نفي
السبيل. فإن قيل: إذا كان الشرى هو المؤدي إلى حصول السبيل, وجب أن
يكون منتفيا كما كان السبيل منتفيا. قيل له: ليس الأمر كذلك; لأنه ليس
يمتنع أن يكون السبيل عليه منتفيا ويكون الشرى المؤدي إلى حصول السبيل
جائزا, وإنما أردت نفي الشرى بالآية نفسها, فإن ضممت إلى الآية معنى
آخر في نفي الشرى فقد عدلت عن الاحتجاج بها وثبت بذلك أن الآية غير
مانعة صحة الشرى; وأيضا فإنه لا يستحق بصحة الشرى السبيل عليه; لأنه
ممنوع من استخدامه والتصرف فيه إلا بالبيع وإخراجه عن ملكه, فلم يحصل
له ههنا سبيل عليه.
وقوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ
خَادِعُهُمْ} قيل فيه وجهان: أحدهما: يخادعون نبي الله والمؤمنين بما
يظهرون من الإيمان لحقن دمائهم ومشاركة المسلمين في غنائمهم والله
تعالى يخادعهم بالعقاب على خداعهم, فسمى الجزاء على الفعل باسمه على
مزاوجة الكلام, كقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا
عَلَيْهِ} [البقرة: 194]. والآخر: أنهم يعملون عمل المخادع لمالكه بما
يظهرون من الإيمان ويبطنون خلافه, وهو يعمل عمل المخادع بما أمر به من
قبول إيمانهم, مع علمهم بأن الله عليم بما يبطنون من كفرهم.
وقوله تعالى: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} قيل فيه:
إنما سماه قليلا; لأنه لغير وجهه, فهو قليل في المعنى وإن كثر الفعل
منهم. وقال قتادة: "إنما سماه قليلا لأنه على وجه الرياء, فهو حقير غير
متقبل منهم بل هو وبال عليهم". وقيل: إنه أراد إلا يسيرا من الذكر, نحو
ما يظهرونه للناس دون ما أمروا به من ذكر الله في كل حال أمر به
المؤمنين
(2/364)
في قوله
تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}
[النساء: 103], وأخبر أيضا أنهم يقومون إلى الصلاة كسالى مراءاة للناس,
والكسل هو التثاقل عن الشيء للمشقة فيه مع ضعف الدواعي إليه, فلما لم
يكونوا معتقدين للإيمان لم يكن لهم داع إلى الصلاة إلا مراءاة للناس
خوفا منهم.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا
الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ}
فإن الولي هو الذي يتولى صاحبه بما يجعل له من النصرة والمعونة على
أمره والمؤمن ولي الله بما يتولى من إخلاص طاعته, والله ولي المؤمنين
بما يتولى من جزائهم على طاعته. واقتضت الآية النهي عن الاستنصار
بالكفار والاستعانة بهم والركون إليهم والثقة بهم, وهو يدل على أن
الكافر لا يستحق الولاية على المسلم بوجه ولدا كان أو غيره. ويدل على
أنه لا تجوز الاستعانة بأهل الذمة في الأمور التي يتعلق بها التصرف
والولاية, وهو نظير قوله: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ}
[آل عمران: 118] وقد كره أصحابنا توكيل الذمي في الشرى والبيع ودفع
المال إليه مضاربة; وهذه الآية دالة على صحة هذا القول.
قوله تعالى: {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} يدل على أن كل ما كان من
أمر الدين على منهاج القرب, فسبيله أن يكون خالصا لله سالما من شوب
الرياء أو طلب عرض من الدنيا أو ما يحبطه من المعاصي; وهذا يدل على
امتناع جواز أخذ شيء من أعراض الدنيا على ما سبيله أن لا يفعل إلا على
وجه القربة من نحو الصلاة والأذان والحج.
قوله عز وجل: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ
إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} قال ابن عباس وقتادة: "إلا أن يدعو على ظالمه",
وعن مجاهد رواية: "إلا أن يخبر بظلم ظالمه له". وقال الحسن والسدي:
"إلا أن ينتصر من ظالمه". وذكر الفرات بن سليمان قال: سئل عبد الكريم
عن قول الله: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ
إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} قال: هو الرجل يشتمك فتشتمه, ولكن إن افترى عليك
فلا تفتر عليه. وهو مثل قوله: {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ}
[الشورى: 41]. وروى ابن عيينة عن ابن أبي نجيح عن إبراهيم بن أبي بكر
عن مجاهد في قوله: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ
الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ} قال: "ذاك في الضيافة, إذا جئت الرجل
فلم يضفك فقد رخص أن تقول فيه". قال أبو بكر: إن كان التأويل كما ذكر
فقد يجوز أن يكون ذلك في وقت كانت الضيافة واجبة, وقد روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم "الضيافة ثلاثة أيام1 فما زاد فهو صدقة" , وجائز أن
يكون فيمن لا
ـــــــ
1 قوله: "الضيافة ثلاثة أيام" أي في ثلاثة أيام, فهو منصوب على
الظرفية, وقد أخذ بظاهر الحديث الإمام احمد فاوجب الضيافة, وحمله
الجمهور على المضطر أو أهل الذمة المشروط عليهم
ضيافة................==
== المارة. وإنكا سمي الزائد على الثلاثة صدقة تنفيرا للضيف عن الإقامة
أكثر من ثلاثة, لأن نفس المروءة تأبى اسم الصدقة كما في شروح الجامع
الصغير. "لمصححه".
(2/365)
يجد ما
يأكل فيستضيف غيره فلا يضيفه, فهذا مذموم يجوز أن يشكى. وفي هذه الآية
دلالة على وجوب الإنكار على من تكلم بسوء فيمن كان ظاهره الستر
والصلاح; لأن الله تعالى قد أخبر أنه لا يحب ذلك, وما لا يحب فهو الذي
لا يريده, فعلينا أن نكرهه وننكره; وقال: {إلا من ظلم} فما لم يظهر لنا
ظلمه فعلينا إنكار سوء القول فيه.
قوله تعالى: { فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا
عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} قال قتادة: "عوقبوا على ظلمهم
وبغيهم بتحريم أشياء عليهم" وفي ذلك دليل على جواز تغليظ المحنة عليهم
بالتحريم الشرعي عقوبة لهم على ظلمهم; لأن الله تعالى قد أخبر في هذه
الآية أنه حرم عليهم طيبات بظلمهم وصدهم عن سبيل الله; والذي حرم عليهم
ما بينه تعالى في قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ
ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ
شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ
مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام:
146]. وقوله: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ
أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} يدل على أن الكفار مخاطبون بالشرائع
مكلفون بها مستحقون للعقاب على تركها; لأن الله تعالى قد ذمهم على أكل
الربا وأخبر أنه عاقبهم عليه.
قوله تعالى: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ} روي عن
قتادة أن" لكن" ههنا استثناء, وقيل: إن" إلا" و" لكن" قد تتفقان في
الإيجاب بعد النفي أو النفي بعد الإيجاب وتطلق" إلا" ويراد بها" لكن"
كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا
خَطَأً} [النساء: 92] ومعناه: لكن إن قتله خطأ فتحرير رقبة; فأقيمت"
إلا" في هذا الموضع مقام" لكن". وتنفصل" لكن" من" إلا" بأن" إلا"
لإخراج بعض من كل, ولكن قد تكون بعد الواحد نحو قولك: ما جاءني زيد لكن
عمرو, وحقيقة" لكن" الاستدراك و" إلا" للتخصيص.
قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} روي عن
الحسن أنه خطاب لليهود والنصارى; لأن النصارى غلت في المسيح فجاوزوا به
منزلة الأنبياء حتى اتخذوه إلها, واليهود غلت فيه فجعلوه لغير رشدة,
فغلا الفريقان جميعا في أمره. والغلو في الدين هو مجاوزة حد الحق فيه.
وروي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله أن يناوله حصيات
لرمي الجمار, قال: فناولته إياها مثل حصا الخذف1 فجعل يقلبهن بيده
ـــــــ
1 قوله: "الخذف" بالخاء والذال المعجمتين, هو أن تجعل حصاة أو نواة بين
السبابين وترمي بها كما ذكره في النهاية. "لمصححه".
(2/366)
ويقول
"بمثلهن بمثلهن إياكم والغلو في الدين, فإنما هلك من قبلكم بالغلو في
دينهم" ; ولذلك قيل دين الله بين المقصر والغالي.
قوله تعالى: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}
قيل في وصف المسيح بأنه كلمة الله ثلاثة أوجه: أحدها ما روي عن الحسن
وقتادة أنه كان عيسى بكلمة الله, وهو قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:
117] لا على سبيل ما أجرى العادة به من حدوثه من الذكر والأنثى جميعا.
والثاني: أنه يهتدى به كما يهتدى بكلمة الله. والثالث: ما تقدم من
البشارة به في الكتب المتقدمة التي أنزلها الله تعالى على أنبيائه.
وأما قوله تعالى: {وَرُوحٌ مِنْهُ} فلأنه كان بنفخة جبريل بإذن الله,
والنفخ يسمى روحا, كقول ذي الرمة1:
فقلت له ارفعها إليك وأحييها ...
بروحك واقتته لها قيتة قدرا
أي بنفخك. وقيل: إنما سماه روحا; لأنه يحيي الناس به كما يحيون
بالأرواح; ولهذا المعنى سمى القرآن روحا في قوله: {وَكَذَلِكَ
أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]. وقيل: لأنه
روح من الأرواح كسائر أرواح الناس, وأضافه الله تعالى إليه تشريفا له,
كما يقال: بيت الله, وسماء الله.
قوله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} قيل فيه: إنه
بمعنى: لئلا تضلوا, فحذف" لا" كما تحذف مع القسم في قولك: والله أبرح
قاعدا, أي لا أبرح; قال الشاعر:
تالله يبقى على الأيام ذو حيد2
معناه: لا يبقى. وقيل: يبين الله لكم كراهة أن تضلوا, كقوله تعالى:
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} يعني أهل القرية.
ـــــــ
1 قوله: "كقول ذبي الرمة" في نار اقتدحها وأمر صاحبه بالنفخ فيها,
ومعنى الببيت خذ النار إليك وأحيها بنفخ نفسك فيها نفخا رفيقا بحيث لا
تطير ولا تنطفي, فالهاء في "اقتته" راجع للروح وفي "لها" للنار والقيتة
فعله من القوت كميتة من الميت, يقال: نفخ في النار نفخا قوتا واقتاتا
لها أي رفق بها "لمصححه".
2 قوله: "ذو حيد" هو الثور الوحشي والحيد بكسر وفتح جمع حيد بفتح وسكون
وهو ما التوى من القرن. "لمصححه".
(2/367)
|