أحكام القرآن للجصاص ط العلمية

سورة المائدة
مطلب: في عقود الجاهلية وعقود الاسلام
...
سورة المائدة
بسم الله الرحمن الرحيم
مطلب: في عقود الجاهلية وعقود الاسلام
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} روي عن ابن عباس ومجاهد ومطرف والربيع والضحاك والسدي وابن جريج والثوري قالوا: "العقود في هذا الموضع أراد بها العهود". وروى معمر عن قتادة قال: "هي عقود الجاهلية الحلف". وروى جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا حلف في الإسلام وأما حلف الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة". وروى ابن عيينة عن عاصم الأحول قال: سمعت أنس بن مالك يقول: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا; فقيل له: قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا حلف في الإسلام وما كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة" فقال: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا. قال ابن عيينة: "إنما آخى بين المهاجرين والأنصار".
قال أبو بكر: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] فلم يختلف المفسرون أنهم في أول الإسلام قد كانوا يتوارثون بالحلف دون النسب وهو معنى قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] إلى أن جعل الله ذوي الأرحام أولى من الحليف بقوله: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} [الأنفال:75] فقد كان حلف الإسلام على التناصر والتوارث ثابتا صحيحا. وأما قوله: "لا حلف في الإسلام" فإنه جائز أن يريد به الحلف على الوجوه التي كان عليها الحلف في الجاهلية, وكان هذا القول منه بعد نسخ التوارث بالحلف. وقد كان حلف الجاهلية على وجوه: منها الحلف في التناصر, فيقول أحدهما لصاحبه إذا حالفه: "دمي دمك وهدمي هدمك وترثني وأرثك" فيتعاقدان الحلف على أن ينصر كل واحد منهما صاحبه فيدفع عنه ويحميه بحق كان ذلك أو بباطل; ومثله لا يجوز في الإسلام; لأنه لا يجوز أن يتعاقدا الحلف على أن ينصره على الباطل ولا أن يزوي

(2/368)


ميراثه عن ذوي أرحامه ويجعله لحليفه; فهذا أحد وجوه الحلف الذي لا يجوز مثله في الإسلام. وقد كانوا يتعاقدون الحلف للحماية والدفع, وكانوا يدفعون إلى ضرورة; لأنهم كانوا نشرا1 لا سلطان عليهم ينصف المظلوم من الظالم ويمنع القوي عن الضعيف, فكانت الضرورة تؤديهم إلى التحالف فيمتنع به بعضهم من بعض, وكان ذلك معظم ما يراد الحلف من أجله, ومن أجل ذلك كانوا يحتاجون إلى الجوار وهو أن يجير الرجل أو الجماعة أو العير على قبيلة ويؤمنهم فلا ينداه2 مكروه منهم; فجائز أن يكون أراد بقوله: "لا حلف في الإسلام" هذا الضرب من الحلف. وقد كانوا يحتاجون إلى الحلف في أول الإسلام لكثرة أعدائهم من سائر المشركين ومن يهود المدينة ومن المنافقين, فلما أعز الله الإسلام وكثر أهله وامتنعوا بأنفسهم وظهروا على أعدائهم, أخبر النبي صلى الله عليه وسلم باستغنائهم عن التحالف; لأنهم قد صاروا كلهم يدا واحدة على أعدائهم من الكفار بما أوجب الله عليهم من التناصر والموالاة بقوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71], وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "المؤمنون يد على من سواهم" وقال: "ثلاث لا يغل عليهن قلب مؤمن إخلاص العمل لله, والنصيحة لولاة الأمر, ولزوم جماعة المسلمين, فإن دعوتهم تحيط من وراءهم" . فزال التناصر بالحلف وزال الجوار, ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم: "ولعلك أن تعيش حتى ترى المرأة تخرج من القادسية إلى اليمن بغير جوار" ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حلف في الإسلام." وأما قوله: "وما كان من حلف في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة" فإنما يعني به الوفاء بالعهد مما هو مجوز في العقول مستحسن فيها, نحو الحلف الذي عقده الزبير بن عبد المطلب, قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أحب أن لي بحلف حضرته حمر النعم في دار ابن جدعان وأني أغدر به: هاشم وزهرة وتيم تحالفوا أن يكونوا مع المظلوم ما بل بحر صوفة, ولو دعيت إلى مثله في الإسلام لأجبت وهو حلف الفضول" . وقيل إن الحلف كان على منع المظلوم, وعلى التأسي في المعاش, فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه حضر هذا الحلف قبل النبوة وأنه لو دعي إلى مثله في الإسلام لأجاب; لأن الله تعالى قد أمر المؤمنين بذلك, وهو شيء مستحسن في العقول, بل واجب فيها قبل ورود الشرع; فعلمنا أن قوله: "لا حلف في الإسلام" إنما أراد به الذي لا تجوزه العقول ولا تبيحه الشريعة. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: حضرت حلف المطيبين وأنا غلام, وما أحب أن
ـــــــ
1 قوله: "نشرا" بالنون والشين المفتوحتين, أي منتشرين متفرقين, "لمصححه".
2 قوله: "فلا ينداه" مضارع ندي من باب تعب, ما ندني من فلان مكروه, أي ما أصابني, "لمصححه".

(2/369)


أنكثه وأن لي حمر النعم". وقد كان حلف المطيبين بين قريش على أن يدفعوا عن الحرم من أراد انتهاك حرمته بالقتال فيه. وأما قوله: "وما كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة" فهو نحو حلف المطيبين وحلف الفضول, وكل ما يلزم الوفاء به من المعاقدة دون ما كان منه معصية لا تجوزه الشريعة.
والعقد في اللغة هو الشد, تقول: عقدت الحبل, إذا شددته. واليمين على المستقبل تسمى عقدا, قال الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89] والحلف يسمى عقدا, قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33]. وقال أبو عبيدة في قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قال: "هي العهود والأيمان". وروي عن جابر في قوله: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} قال: "هي عقدة النكاح والبيع والحلف والعهد" وزاد زيد بن أسلم من قبله: "وعقد الشركة وعقد اليمين". وروى وكيع عن موسى بن عبيدة عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال: "العقود ستة عقد الإيمان, وعقد النكاح, وعقدة العهد, وعقدة الشرى والبيع, وعقدة الحلف".
وقال أبو بكر: العقد ما يعقده العاقد على أمر يفعله هو أو يعقد على غيره فعله على وجه إلزامه إياه; لأن العقد إذا كان في أصل اللغة الشد ثم نقل إلى الأيمان, والعقود عقود المبايعات ونحوها, فإنما أريد به إلزام الوفاء بما ذكره في إيجابه عليه, وهذا إنما يتناول منه ما كان منتظرا مراعى في المستقبل من الأوقات, فيسمى البيع والنكاح والإجارة وسائر عقود المعاوضات عقودا; لأن كل واحد منهما قد ألزم نفسه التمام عليه, والوفاء به, وسمي اليمين على المستقبل عقدا; لأن الحالف قد ألزم نفسه الوفاء بما حلف عليه من فعل أو ترك والشركة والمضاربة ونحوها تسمى أيضا عقودا لما وصفنا من اقتضائه الوفاء بما شرطه على كل واحد من الربح والعمل لصاحبه وألزمه نفسه, وكذلك العهد والأمان; لأن معطيها قد ألزم نفسه الوفاء بها, وكذلك كل شرط شرطه إنسان على نفسه في شيء يفعله في المستقبل فهو عقد, وكذلك النذور, وإيجاب القرب وما جرى مجرى ذلك. وما لا تعلق له بمعنى في المستقبل ينتظر وقوعه وإنما هو على شيء ماض قد وقع فإنه لا يسمى عقدا ألا ترى أن من طلق امرأته فإنه لا يسمى طلاقه عقدا؟ ولو قال لها: "إذا دخلت الدار فأنت طالق" كان ذلك عقدا ليمين؟ ولو قال: "والله لقد دخلت الدار أمس" لم يكن عاقدا لشيء؟ ولو قال: "لأدخلنها غدا" كان عاقدا؟ ويدلك على ذلك أنه لا يصح إيجابه في الماضي ويصح في المستقبل لو قال: "علي أن أدخل الدار أمس" كان لغوا من الكلام مستحيلا, ولو قال: "علي أن أدخلها غدا" كان إيجابا مفعولا.

(2/370)


فالعقد ما يلزم به حكم في المستقبل, واليمين على المستقبل إنما كانت عقدا; لأن الحالف قد أكد على نفسه أن يفعل ما حلف عليه بذلك, وذلك معدوم في الماضي; ألا ترى أن من قال: "والله لأكلمن زيدا" فهو مؤكد على نفسه بذلك كلامه؟ وكذلك لو قال: "والله لا كلمت زيدا" كان مؤكدا به نفي كلامه ملزما نفسه به ما حلف عليه من نفي أو إثبات; فسمي من أجل التأكيد الذي في اللفظ عقدا تشبيها بعقد الحبل الذي هو بيده والاستيثاق به, ومن أجله كان النذر عقدا ويمينا; لأن الناذر ملزم نفسه ما نذره ومؤكدا على نفسه أن يفعله أو يتركه. ومتى صرف الخبر إلى الماضي لم يكن ذلك عقدا كما لا يكون ذلك إيجابا وإلزاما ونذرا, وهذا يبين معنى ما ذكرنا من العقد على وجه التأكيد والإلزام. ومما يدل على أن العقد هو ما تعلق بمعنى المستقبل دون الماضي, أن ضد العقد هو الحل, ومعلوم أن ما قد وقع لا يتوهم له حل عما وقع عليه بل يستحيل ذلك فيه, فلما لم يكن الحل ضدا لما وقع في الماضي علم أنه ليس بعقد; لأنه لو كان عقدا لكان له ضد من الحل يوصف به كالعقد على المستقبل.

(2/371)


مطلب: شرط انعقاد البر إمكان البر إمكانا عقليا
فإن قيل: قوله "إن دخلت الدار فأنت طالق" و "أنت طالق إذا جاء غد" هو عقد ولا يلحقه الانتقاض والفسخ. قيل له جائز أن لا يقع ذلك بموتها قبل وجود الشرط فهو مما يوصف بضده. من الحل, ولذلك قال أبو حنيفة فيمن قال: "إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز فعبدي حر" وليس في الكوز ماء, إن يمينه لا تنعقد ولم يكن ذلك عقدا; لأنه ليس له نقيض من الحل, ولو قال: "إن لم أصعد السماء فعبدي حر حنث بعد انعقاد يمينه; لأن لهذا العقد نقيضا من الحل", وإن كنا قد علمنا أنه لا يبر فيه; لأنه عقد اليمين على معنى متوهم معقول, وإذا كان صعود السماء معنى متوهما معقولا, وكذلك تركه معقول جائز, وشرب ما ليس بموجود مستحيل توهمه فلم يكن ذلك عقدا.
وقد اشتمل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} على إلزام الوفاء بالعهود والذمم التي نعقدها لأهل الحرب وأهل الذمة والخوارج وغيرهم من سائر الناس, وعلى إلزام الوفاء بالنذور والأيمان; وهو نظير قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91] وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] وعهد الله تعالى أوامره ونواهيه. وقد روي عن ابن عباس في قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} أي بعقود الله فيما حرم وحلل; وعن الحسن قال: "يعني عقود الدين". واقتضى أيضا الوفاء بعقود البياعات والإجارات والنكاحات, وجميع

(2/371)


ما يتناوله اسم العقود, فمتى اختلفنا في جواز عقد أو فساده وفي صحة نذر ولزومه صح الاحتجاج بقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} لاقتضاء عمومه جواز جميعها من الكفالات والإجارات والبيوع وغيرها. ويجوز الاحتجاج به في جواز الكفالة بالنفس, وبالمال وجواز تعلقها على الأخطار; لأن الآية لم تفرق بين شيء منها. وقوله صلى الله عليه وسلم: "والمسلمون عند شروطهم" في معنى قول الله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} وهو عموم في إيجاب الوفاء بجميع ما يشرط الإنسان على نفسه ما لم تقم دلالة تخصصه.

(2/372)


مطلب: النذر على ثلاثة أنحاء
فإن قيل: هل يجب على كل من عقد على نفسه يمينا أو نذرا أو شرطا لغيره الوفاء بشرطه ويكون عقده لذلك على نفسه يلزمه ما شرطه وأوجبه؟ قيل له: أما النذور فهي على ثلاثة أنحاء: منها نذر قربة, فيصير واجبا بنذره بعد أن كان فعله قربة غير واجب, لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} , وقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91] وقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الانسان: 7], وقوله تعالى: {"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:3], وقوله تعالى: {"وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة: 75, 76] فذمهم على ترك الوفاء بالمنذور نفسه; وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب: "أوف بنذرك" حين نذر أن يعتكف يوما في الجاهلية, وقوله صلى الله عليه وسلم: "من نذر نذرا سماه فعليه أن يفي به, ومن نذر نذرا ولم يسمه1 فعليه كفارة يمين" ; فهذا حكم ما كان قربة من المنذور في لزوم الوفاء به بعينه وقسم آخر: وهو ما كان مباحا غير قربة, فمتى نذره لا يصير واجبا ولا يلزمه فعله, فإذا أراد به يمينا فعليه كفارة يمين إذا لم يفعله, مثل قوله: "لله علي أن أكلم زيدا وأدخل هذه الدار وأمشي إلى السوق" فهذه أمور مباحة لا تلزم بالنذر; لأن ما ليس له أصل في القرب لا يصير قربة بالإيجاب, كما أن ما ليس له أصل في الوجوب لا يصير واجبا بالنذر; فإن أراد به اليمين كان يمينا وعليه الكفارة إذا حنث. والقسم الثالث: نذر المعصية, نحو أن يقول: "لله علي أن أقتل فلانا أو أشرب الخمر أو أغصب فلانا ماله" فهذه أمور هي معاص لله تعالى لا يجوز له الإقدام عليها لأجل النذر وهي باقية على ما كانت عليه من الحظر, وهذا يدل على ما ذكرنا في إيجاب ما ليس بقربة من المباحات
ـــــــ
1 قوله: "ونذر نذرا لم يسمه" هو عند مالك وأكثرين على النذر المطلق كقوله على نذر كما ذكره العلقمي, "لمصححه".

(2/372)


أنها لا تصير واجبة بالنذر, كما أن ما كان محظورا لا يصير مباحا ولا واجبا بالنذر, وتجب فيه كفارة يمين إذا أراد يمينا وحنث, لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية الله" وكفارته كفارة يمين, فالنذر ينقسم إلى هذه الأنحاء.
وأما الأيمان فإنها تعقد على هذه الأمور من قربة أو مباح أو معصية, فإذا عقدها على قربة لم تصر واجبة باليمين, ولكنه يؤمر بالوفاء به فإن لم يف به وحنث لزمته الكفارة; وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعبد الله بن عمرو: "بلغني أنك قلت والله لأصومن الدهر؟" فقال: نعم, قال: "فلا تفعل ولكن صم من كل شهر ثلاثة أيام" فقال: إني أطيق أكثر من ذلك; إلى أن رده إلى أن يصوم يوما ويفطر يوما, فلم يلزمه صوم الدهر باليمين; فدل ذلك على أن اليمين لا يلزم بها المحلوف عليه; ولذلك قال أصحابنا فيمن قال: "والله لأصومن غدا" ثم لم يصمه: فلا قضاء عليه وعليه كفارة يمين. والقسم الآخر من الأيمان: هو أن يحلف على مباح أن يفعله فلا يلزمه فعله كما لا يلزمه فعل القربة المحلوف عليها, فإن شاء فعل المحلوف عليه وإن شاء ترك, فإن حنث لزمته الكفارة. والقسم الثالث: أن يحلف على معصية, فلا يجوز له أن يفعلها بل عليه أن يحنث في يمينه ويكفر عنها, لقوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" , وقال: "إني لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا فعلت الذي هو خير وكفرت عن يميني" وقال الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور: 22], روي أنها نزلت في أبي بكر الصديق حين حلف أن لا ينفق على مسطح بن أثاثة لما كان منه من الخوض في أمر عائشة رضي الله عنها فأمره الله تعالى بالرجوع إلى الإنفاق عليه.
قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} قيل في الأنعام إنها الإبل والبقر والغنم, وقال بعضهم: الإطلاق يتناول الإبل وإن كانت منفردة, ويتناول البقر والغنم إذا كانت مع الإبل, ولا تتناولهما منفردة عن الإبل; وقد روي عن الحسن القول الأول. وقيل: إن الأنعام تقع على هذه الأصناف الثلاثة وعلى الظباء وبقر الوحش ولا يدخل فيها الحافر; لأنه أخذ من نعومة الوطء; ويدل على هذا القول استثناؤه الصيد منها بقوله في نسق التلاوة: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} . ويدل على أن الحافر غير داخل في الأنعام قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل:5] ثم عطف عليه قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8] فلما استأنف ذكرها وعطفها على الأنعام دل على أنها ليست منها. وقد روي عن ابن عباس أنه قال في

(2/373)


جنين البقرة: "إنها بهيمة الأنعام" وهو كذلك; لأن البقرة من الأنعام. وإنما قال {بهيمة الأنعام} وإن كانت الأنعام كلها من البهائم; لأنه بمنزلة قوله: "أحل لكم البهيمة التي هي الأنعام" فأضاف البهيمة إلى الأنعام وإن كانت هي, كما تقول نفس الإنسان.

(2/374)


مطلب: كل ما أباحه الله تعالى للمؤمنين فهو مباح لغيرهم من سائر المكلفين إلا أن يخص بعضهم دليل
ومن الناس من يظن أن هذه الإباحة معقودة بشرط الوفاء بالعقود المذكورة في الآية; وليس كذلك; لأنه لم يجعل الوفاء بالعقود شرطا للإباحة ولا أخرجه مخرج المجازاة, ولكنه وجه الخطاب إلينا بلفظ الإيمان في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} . ولا يوجب ذلك الاقتصار بالإباحة على المؤمنين دون غيرهم, بل الإباحة عامة لجميع المكلفين كفارا كانوا أو مؤمنين, كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] وهو حكم عام في المؤمنين والكفار مع ورود اللفظ خاصا بخطاب المؤمنين. وكذلك كل ما أباحه الله تعالى للمؤمنين فهو مباح لسائر المكلفين, كما أن كل ما أوجبه وفرضه فهو فرض على جميع المكلفين إلا أن يخص بعضهم دليل; وكذلك قلنا: إن الكفار مستحقون للعقاب على ترك الشرائع كما يستحقون على ترك الإيمان.د
فإن قيل: إذا كان ذبح البهائم محظورا إلا بعد ورود السمع به, فمن لم يعتقد نبوة النبي صلى الله عليه وسلم واستباحته من طريق الشرع فحكمه في حظره عليه باق على الأصل, وقائل هذا القول يقول إن ذبح البهائم محظور على الكفار أهل الكتاب منهم وغيرهم وهم عصاة في ذبحها, وإن كان أكل ما ذبحه أهل الكتاب مباحا لنا. وزعم هذا القائل أن للملحد أن يأكل بعد الذبح وليس له أن يذبح. وليس هذا عند سائر أهل العلم كذلك; لأنه لو كان أهل الكتاب عصاة بذبحهم لأجل دياناتهم لوجب أن تكون ذبائحهم غير مذكاة, مثل المجوسي لما كان ممنوعا من الذبح لأجل اعتقاده لم يكن ذبحه ذكاة, وفي ذلك دليل على أن الكتابي غير عاص في ذبح البهائم وأنه مباح له كهو لنا. وأما قوله: "إنه إذا لم يعتقد صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم واستباحته من طريق الشرع فحكم حظر الذبح قائم عليه" فليس كذلك; لأن اليهود والنصارى قد قامت عليهم حجة السمع بكتب الأنبياء المتقدمين في إباحة ذبح البهائم. وأيضا فإن ذلك لا يمنع صحة ذكاته; لأن رجلا لو ترك التسمية على الذبيحة عامدا لكان عندنا عاصيا بذلك, وكان لمن يعتقد جواز ترك التسمية عليها أن يأكلها, ولم يكن كون الذابح عاصيا مانعا صحة ذكاته.

(2/374)


قوله عز وجل: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} : "يعني قوله: حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما حرم في القرآن". وقال آخرون: "إلا ما يتلى عليكم من أكل الصيد وأنتم حرم". فكأنه قال على هذا التأويل: إلا ما يتلى عليكم في نسق هذا الخطاب. قال أبو بكر: يحتمل قوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} مما قد حصل تحريمه, على نحو ما روي عن ابن عباس; فإذا أريد به ذلك لم يكن اللفظ مجملا; لأن ما قد حصل تحريمه قبل ذلك هو معلوم, فيكون قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} عموما في إباحة جميعها إلا ما خصه الآي التي فيها تحريم ما حرم منها, وجعل هذه الإباحة مرتبة على آي الحظر وهو قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} . ويحتمل أن يريد بقوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} : إلا ما يبين حرمته; فيكون مؤذنا بتحريم بعضها علينا في وقت ثان, فلا يسلب ذلك الآية حكم العموم أيضا. ويحتمل أن يريد أن بعض بهيمة الأنعام محرم عليكم الآن تحريما يرد بيانه في الثاني, فهذا يوجب إجمال قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} لاستثنائه بعضها, فهو مجهول المعنى عندنا, فيكون اللفظ مشتملا على إباحة وحظر على وجه الإجمال, ويكون حكمه موقوفا على البيان. وأولى الأشياء بنا إذا كان في اللفظ احتمال لما وصفنا من الإجمال والعموم حمله على معنى العموم لإمكان استعماله, فيكون المستثنى منه ما ذكر تحريمه في القرآن من الميتة ونحوها. فإن قيل: قوله تعالى: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} يقتضي تلاوة مستقبلة لا تلاوة ماضية, وما قد حصل تحريمه قبل ذلك فقد تلي علينا فوجب حمله على تلاوة ترد في الثاني قيل له: يجوز أن يريد به ما قد تلي علينا ويتلى في الثاني; لأن تلاوة القرآن غير مقصورة على حال ماضية دون مستقبلة, بل علينا تلاوته في المستقبل كما تلوناه في الماضي, فتلاوة ما قد نزل قبل ذلك من القرآن ممكنة في المستقبل; وتكون حينئذ فائدة هذا الاستثناء إبانة عن بقاء حكم المحرمات قبل ذلك من بهيمة الأنعام وأنه غير منسوخ, ولو أطلق اللفظ من غير استثناء مع تقدم نزول تحريم كثير من بهيمة الأنعام لأوجب ذلك نسخ التحريم وإباحة الجميع منها.
قوله تعالى: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} . قال أبو بكر: فمن الناس من يحمله على معنى: إلا ما يتلى عليكم من أكل الصيد وأنتم حرم; فيكون المستثنى بقوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} هو الصيد الذي حرمه على المحرمين. وهذا تأويل يؤدي إلى إسقاط حكم الاستثناء الثاني, وهو قوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ويجعله بمنزلة قوله: إلا ما يتلى عليكم, وهو تحريم الصيد على المحرم; وذلك تعسف في التأويل. ويوجب ذلك أيضا أن يكون الاستثناء من إباحة بهيمة الأنعام مقصورا على الصيد, وقد علمنا أن

(2/375)


الميتة من بهيمة الأنعام مستثناة من الإباحة; فهذا تأويل لا وجه له. ثم لا يخلو من أن يكون قوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} مستثنى مما يليه من الاستثناء, فيصير بمنزلة قوله: إلا ما يتلى عليكم إلا محلي الصيد وأنتم حرم; ولو كان كذلك لوجب أن يكون موجبا لإباحة الصيد في الإحرام; لأنه استثناء من المحظور; إذ كان مثل قوله: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} سوى الصيد مما قد بين وسيبين تحريمه في الثاني, أو أن يكون معناه: أوفوا بالعقود غير محلي الصيد وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} روي عن السلف فيه وجوه: فروي عن ابن عباس: "أن الشعائر مناسك الحج". وقال مجاهد الصفا والمروة والهدي والبدن كل ذلك من الشعائر" وقال عطاء فرائض الله التي حدها لعباده". وقال الحسن دين الله كله لقوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 32] أي دين الله". وقيل: إنها أعلام الحرم نهاهم أن يتجاوزوها غير محرمين إذا أرادوا دخول مكة. وهذه الوجوه كلها في احتمال الآية. والأصل في الشعائر أنها مأخوذة من الإشعار وهي الإعلام من جهة الإحساس, ومنه مشاعر البدن وهي الحواس. والمشاعر أيضا هي المواضع التي قد أشعرت بالعلامات; وتقول: قد شعرت به, أي علمته; وقال تعالى: {لا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] يعني: لا يعلمون. ومنه الشاعر لأنه يشعر بفطنته لما لا يشعر به غيره. وإذا كان الأصل على ما وصفنا فالشعائر العلامات واحدها شعيرة, وهي العلامة التي يشعر بها الشيء ويعلم; فقوله تعالى: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} قد انتظم جميع معالم دين الله, وهو ما أعلمناه الله تعالى وحده من فرائض دينه وعلاماتها بأن لا يتجاوزوا حدوده ولا يقصروا دونها ولا يضيعوها, فينتظم ذلك جميع المعاني التي رويت عن السلف من تأويلها; فاقتضى ذلك حظر دخول الحرم إلا محرما, وحظر استحلاله بالقتال فيه, وحظر قتل من لجأ إليه, ويدل أيضا على وجوب السعي بين الصفا والمروة; لأنهما من شعائر الله على ما روي عن مجاهد; لأن الطواف بهما كان من شريعة إبراهيم عليه السلام وقد طاف النبي صلى الله عليه وسلم بهما, فثبت أنهما من شعائر الله.
وقوله عز وجل: {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} , روي عن ابن عباس وقتادة أن إحلاله هو القتال فيه, قال الله تعالى في سورة البقرة: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217] وقد بينا أنه منسوخ, وذكرنا قول من روي عنه ذلك وأن قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] نسخه. وقال عطاء: "حكمه ثابت, والقتال في الشهر الحرام محظور". وقد اختلف في المراد بقوله: {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} فقال قتادة:

(2/376)


"معناه الأشهر الحرم". وقال عكرمة: "هو ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب". وجائز أن يكون المراد بقوله: {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} هذه الأشهر كلها, وجائز أن يكون الذي يقتضيه اللفظ واحدا منها. وبقية الشهور معلوم حكمها من جهة دلالة اللفظ إذ كان جميعها في حكم واحد منها, فإذا بين حكما واحدا منها فقد دل على حكم الجميع.
قوله تعالى: {وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} أما الهدي فإنه يقع على كل ما يتقرب به من الذبائح والصدقات قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المبكر إلى الجمعة كالمهدي بدنة, ثم الذي يليه كالمهدي بقرة, ثم الذي يليه كالمهدي شاة, ثم الذي يليه كالمهدي دجاجة, ثم الذي يليه كالمهدي بيضة" , فسمى الدجاجة والبيضة هديا, وأراد به الصدقة. وكذلك قال أصحابنا فيمن قال: "ثوبي هذا هدي" أن عليه أن يتصدق به. إلا أن الإطلاق إنما يتناول أحد هذه الأصناف الثلاثة من الإبل والبقر والغنم إلى الحرم وذبحه فيه, قال الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ولا خلاف بين السلف والخلف من أهل العلم أن أدناه شاة; وقال تعالى: {مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95], وقال: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] وأقله شاة عند جميع الفقهاء; فاسم الهدي إذا أطلق يتناول ذبح أحد هذه الأصناف الثلاثة في الحرم.
وقوله: {وَلا الْهَدْيَ} أراد به النهي عن إحلال الهدي الذي قد جعل للذبح في الحرم, وإحلال استباحته لغير ما سيق إليه من القربة; وفيه دلالة على حظر الانتفاع بالهدي إذا ساقه صاحبه إلى البيت أو أوجبه هديا من جهة نذر أو غيره, وفيه دلالة على حظر الأكل من الهدايا نذرا كان أو واجبا من إحصار أو جزاء صيد. وظاهره يمنع جواز الأكل من هدي المتعة والقران لشمول الاسم له, إلا أن الدلالة قد قامت عندنا على جواز الأكل منه.
وأما قوله عز وجل: {وَلا الْقَلائِدَ} فإن معناه: لا تحلوا القلائد. وقد روي في تأويل القلائد وجوه عن السلف, فقال ابن عباس: "أراد الهدي المقلد". قال أبو بكر: هذا يدل على أن من الهدي ما يقلد ومنه ما لا يقلد, والذي يقلد الإبل والبقر, والذي لا يقلد الغنم, فحظر تعالى إحلال الهدي مقلدا وغير مقلد. وقال مجاهد: "كانوا إذا أحرموا يقلدون أنفسهم والبهائم من لحاء شجر الحرم, فكان ذلك أمنا لهم, فحظر الله تعالى استباحة ما هذا وصفه وذلك منسوخ في الناس وفي البهائم غير الهدايا". وروي نحوه عن قتادة في تقليد الناس لحاء شجر الحرم. وقال بعض أهل العلم: "أراد به قلائد الهدي بأن يتصدقوا بها ولا ينتفعوا بها". وروي عن الحسن أنه قال: "يقلد الهدي

(2/377)


بالنعال, فإذا لم توجد فالجفاف1 تقور ثم يجعل في أعناقها ثم يتصدق بها". وقيل: هو صوف يفتل فيجعل في أعناق الهدي.
قال أبو بكر: قد دلت الآية على أن تقليد الهدي قربة, وأنه يتعلق به حكم كونه هديا وذلك بأن يقلده ويريد أن يهديه فيصير هديا بذلك, وإن لم يوجبه بالقول, فمتى وجد على هذه الصفة فقد صار هديا لا تجوز استباحته والانتفاع به إلا بأن يذبحه ويتصدق به. وقد دل أيضا على أن قلائد الهدي يجب أن يتصدق بها لاحتمال اللفظ لها, وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في البدن التي نحر بعضها بمكة وأمر عليا بنحر بعضها, وقال له: "تصدق بجلالها وخطمها ولا تعط الجزار منها شيئا, فإنا نعطيه من عندنا" . وذلك دليل على أنه لا يجوز ركوب الهدي ولا حلبه ولا الانتفاع بلبنه; لأن قوله: {وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} قد تضمن ذلك كله. وقد ذكر الله القلائد في غير هذا الموضع بما دل به على القربة فيها وتعلق الأحكام بها, وهو قوله تعالى: { جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} [المائدة: 97] فلولا ما تعلق بالهدي والقلائد من الحرمات والحقوق التي هي لله تعالى كتعلقها بالشهر الحرام وبالكعبة لما ضمها إليهما عند الإخبار عما فيها من المنافع وصلاح الناس وقوامهم. وروى الحكم عن مجاهد قال: لم تنسخ من المائدة إلا هاتان الآيتان: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} [المائدة: 2] نسختها: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} [المائدة: 42] الآية نسختها: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]. قال أبو بكر: يريد به نسخ تحريم القتال في الشهر الحرام ونسخ القلائد التي كانوا يقلدون بها أنفسهم وبهائمهم من لحاء شجر الحرم ليأمنوا به, ولا يجوز أن يريد نسخ قلائد الهدي; لأن ذلك حكم ثابت بالنقل المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين بعدهم.
وروى مالك بن مغول عن عطاء في قوله تعالى: {وَلا الْقَلائِدَ} قال: كانوا يقلدون لحاء شجر الحرم يأمنون به إذا خرجوا, فنزلت: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} قال أبو بكر: يجوز أن يكون حظر الله انتهاك حرمة من يفعل ذلك على ما كان عليه أهل الجاهلية; لأن الناس كانوا مقرين بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم على ما كانوا عليه من الأمور التي لا يحظرها العقل, إلى أن نسخ الله منها ما شاء فنهى الله عن استحلال حرمة من تقلد بلحاء شجر
ـــــــ
1 قوله: "فالجفاف" جمع جف بضم الجيم وتشديد الفاء, وهو وعاء الطلع, وةيقال للوطب الخلق جف أيضا. "لمصححه".

(2/378)


الحرم, ثم نسخ ذلك من قبل أن الله قد أمن المسلمين حيث كانوا بالإسلام. وأما المشركون فقد أمر الله بقتلهم حتى يسلموا بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5], فصار حظر قتل المشرك الذي تقلد بلحاء شجر الحرم منسوخا, والمسلمون قد استغنوا عن ذلك, فلم يبق له حكم, وبقي حكم قلائد الهدي ثابتا.
وقد حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي قال: حدثنا الحسين بن أبي الربيع الجرجاني قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري عن بيان عن الشعبي قال: لم تنسخ من سورة المائدة إلا هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ} . وحدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسين بن أبي الربيع قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن قتادة في قوله تعالى: {لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} الآية, قال: منسوخ; كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من السمر فلم يعرض له أحد, وإذا رجع تقلد قلادة شعر فلم يعرض له أحد, وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت, فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت, فنسخها قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5]. وروى يزيد بن زريع عن سعيد عن قتادة في قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} [المائدة: 97]: حواجز جعلها الله بين الناس في الجاهلية, وكان الرجل إذا لقي قاتل أبيه في الشهر الحرام لم يعرض له ولم يقربه, وكان الرجل لو جر كل جريرة ثم لجأ إلى الحرم لم يتناوله ولم يقربه, وكان الرجل إذا لقي الهدي مقلدا وهو يأكل العصب من الجوع لم يعرض له ولم يقربه, وكان الرجل إذا أراد البيت تقلد قلادة من شعر تمنعه من الناس, وكان إذا نفر تقلد قلادة من الإذخر أو من لحاء شجر الحرم فمنعت الناس عنه. وحدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد الله قال: حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ} [المائدة: 97] قال: كان المسلمون والمشركون يحجون البيت جميعا, فنهى الله تعالى المؤمنين أن يمنعوا أحدا أن يحج البيت أو يعرضوا له من مؤمن أو كافر, ثم أنزل الله بعد هذا: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28], وقال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17]. وقد روى إسحاق بن يوسف عن ابن عون قال: سألت الحسن هل نسخ من" المائدة شيء؟ فقال:

(2/379)


لا. وهذا يدل على أن قوله تعالى: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} إنما أريد به المؤمنون عند الحسن; لأنه إن كان قد أريد به الكفار فذلك منسوخ بقوله: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28]. وقوله أيضا: {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ} حظر القتال فيه منسوخ بما قدمنا إلا أن يكون عند الحسن هذا الحكم ثابتا على نحو ما روي عن عطاء.
قوله تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً} روي عن ابن عمر أنه قال: أريد به الربح في التجارة, وهو نحو قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198]. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن التجارة في الحج, فأنزل الله تعالى ذلك; وقد ذكرناه فيما تقدم. وقال مجاهد في قوله تعالى: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَاناً} : "الأجر والتجارة".
قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} . قال مجاهد وعطاء في آخرين: "هو تعليم, إن شاء صاد وإن شاء لم يصد". قال أبو بكر: هو إطلاق من حظر بمنزلة قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] لما حظر البيع بقوله: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] عقبه بالإطلاق بعد الصلاة بقوله: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10].
وقوله تعالى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} قد تضمن إحراما متقدما; لأن الإحلال لا يكون إلا بعد الإحرام, وهذا يدل على أن قوله: {وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} قد اقتضى كون من فعل ذلك محرما, فيدل على أن سوق الهدي وتقليده يوجب الإحرام. ويدل قوله: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} على أنه غير جائز لأحد دخول مكة إلا بالإحرام,; إذ كان قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} قد تضمن أن يكون من أم البيت الحرام فعليه إحرام يحل, منه ويحل له الاصطياد بعده. وقوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} قد أراد به الإحلال من الإحرام والخروج من الحرم أيضا; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حظر الاصطياد في الحرم بقوله: "ولا ينفر صيدها" , ولا خلاف بين السلف والخلف فيه, فعلمنا أنه قد أراد به الخروج من الحرم والإحرام جميعا. وهو يدل على جواز الاصطياد لمن حل من إحرامه بالحلق, وأن بقاء طواف الزيارة عليه لا يمنع الاصطياد, لقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وهذا قد حل; إذ كان هذا الحلق واقعا للإحلال.
وقوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} قال ابن عباس وقتادة: "لا يجرمنكم: لا يحملنكم". وقال أهل اللغة: يقال جرمني زيد على بغضك أي حملني عليه. وقال الفراء: لا يكسبنكم, يقال: جرمت على أهلي أي

(2/380)


كسبت لهم, وفلان جريمة أهله أي كاسبهم; قال الشاعر:
جريمة ناهض في رأس نيق ... ترى لعظام ما جمعت صليبا1
ويقال: جرم يجرم جرما, إذا قطع.
وقوله تعالى: {شَنَآنُ قَوْمٍ} قرئ بفتح النون وسكونها, فمن فتح النون جعله مصدرا من قولك: "شنئته أشنأه شنآنا" والشنآن البغض فكأنه قال ولا يجرمنكم بغض قوم; وكذلك روي عن ابن عباس وقتادة قالا عداوة قوم". ومن قرأ بسكون النون فمعناه بغيض قوم2, فنهاهم الله بهذه الآية أن يتجاوزوا الحق إلى الظلم والتعدي, لأجل تعدي الكفار بصدهم المسلمين عن المسجد الحرام; ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" .
وقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} يقتضي ظاهره إيجاب التعاون على كل ما كان طاعة لله تعالى; لأن البر هو طاعات الله. وقوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } نهي عن معاونة غيرنا على معاصي الله تعالى.
قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} الآية. الميتة ما فارقته الروح بغير تذكية مما شرط علينا الذكاة في إباحته. وأما الدم فالمحرم منه هو المسفوح لقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] وقد بينا ذلك في سورة البقرة. والدليل أيضا على أن المحرم منه هو المسفوح اتفاق المسلمين على إباحة الكبد والطحال وهما دمان, وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أحلت لي ميتتان ودمان" يعني بالدمين الكبد والطحال; فأباحهما وهما دمان; إذ ليسا بمسفوح, فدل على إباحة كل ما ليس بمسفوح من الدماء.
فإن قيل: لما حصر المباح منه بعدد دل على حظر ما عداه. قيل: هذا غلط; لأن الحصر بالعدد لا يدل على أن ما عداه حرمه بخلافه, ومع ذلك فلا خلاف أن مما عداه من الدماء ما هو المباح وهو الدم الذي يبقى في خلل اللحم بعد الذبح وما يبقى منه في العروق, فدل على أن حصره الدمين بالعدد وتخصيصهما بالذكر لم يقتض حظر جميع ما عداهما من الدماء. وأيضا أنه لما قال: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] ثم قال:
ـــــــ
1 قوله: "جريمة إلى آخره" البيت لأبي خراش الهذلي يصف عقابا لفرخها الناهض وتزقه ما تأكل من لحم طير أكلته وتبقي العظام يسيل منها الصليب وهو الودك كما في التهذيب للأزهري "لمصححه".
2 قوله: "بغيض قوم" فعلى هذا تكون الإضافة بيانية كما في حواشي البياضي "لمصححه".

(2/381)


{وَالدَّمَ} كانت الألف واللام للمعهود, وهو الدم المخصوص بالصفة, وهو أن يكون مسفوحا; وقوله صلى الله عليه وسلم: "أحلت لي ميتتان ودمان" إنما ورد مؤكدا لمقتضى قوله عز وجل {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] إذ ليسا بمسفوحين; ولو لم يرد لكانت دلالة الآية كافية في الاقتصار بالتحريم على المسفوح منه دون غيره وأن الكبد والطحال غير محرمين.
وقوله تعالى: {وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} فإنه قد تناول شحمه وعظمه وسائر أجزائه, ألا ترى أن الشحم المخالط للحم قد اقتضاه اللفظ; لأن اسم اللحم يتناوله؟ ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك, وإنما ذكر اللحم; لأنه معظم منافعه; وأيضا فإن تحريم الخنزير لما كان مبهما اقتضى ذلك تحريم سائر أجزائه كالميتة والدم, وقد ذكرنا حكم شعره وعظمه فيما تقدم.
قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} فإن ظاهره يقتضي تحريم ما سمي عليه غير الله; لأن الإهلال هو إظهار الذكر والتسمية, وأصله استهلال الصبي إذا صاح حين يولد, ومنه إهلال المحرم; فينتظم ذلك تحريم ما سمي عليه الأوثان على ما كانت العرب تفعله, وينتظم أيضا تحريم ما سمي عليه اسم غير الله أي اسم كان, فيوجب ذلك أنه لو قال عند الذبح: "باسم زيد أو عمرو" أن يكون غير مذكى, وهذا يوجب أن يكون ترك التسمية عليه موجبا تحريمها وذلك لأن أحدا لا يفرق بين تسمية زيد على الذبيحة وبين ترك التسمية رأسا.
قوله تعالى: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} فإنه روي عن الحسن وقتادة والسدي والضحاك أنها التي تختنق بحبل الصائد أو غيره حتى تموت, ومن نحوه حديث عباية بن رفاعة عن رافع بن خديج, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ذكوا بكل شيء إلا السن والظفر" ; وهذا عندنا على السن والظفر غير المنزوعين; لأنه يصير في معنى المخنوق.
وأما قوله تعالى: {وَالْمَوْقُوذَةُ} فإنه روي عن ابن عباس والحسن وقتادة والضحاك والسدي أنها المضروبة بالخشب ونحوه حتى تموت, يقال فيه: وقذه يقذه وقذا وهو وقيذ إذا ضربه حتى يشفي على الهلاك. ويدخل في الموقوذة كل ما قتل منها على غير وجه الذكاة, وقد روى أبو عامر العقدي عن زهير بن محمد عن زيد بن أسلم عن ابن عمر, أنه كان يقول في المقتولة بالبندقة: "تلك الموقوذة". وروى شعبة عن قتادة عن عقبة بن صهبان عن عبد الله بن المغفل, أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف وقال: "إنها لا تنكأ العدو ولا تصيد الصيد ولكنها تكسر السن وتفقأ العين" . ونظير ذلك ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن عيسى قال: حدثنا جرير عن منصور عن

(2/382)


إبراهيم عن همام عن عدي بن حاتم قال: قلت: يا رسول الله أرمي بالمعراض فأصيب أفآكل؟ قال: "إذا رميت بالمعراض وذكرت اسم الله فأصاب فخرق فكل, وإن أصاب بعرضه فلا تأكل" . حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عبد الله بن أحمد قال: حدثنا هشيم عن مجالد وزكريا وغيرهما, عن الشعبي, عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد المعراض, فقال: "ما أصاب بحده فخرق فكل, وما أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيذ فلا تأكل" , فجعل ما أصاب بعرضه من غير جراحة موقوذة وإن لم يكن مقدورا على ذكاته, وفي ذلك دليل على أن شرط ذكاة الصيد الجراحة وإسالة الدم وإن لم يكن مقدورا على ذبحه واستيفاء شروط الذكاة فيه; وعموم قوله: {وَالْمَوْقُوذَةُ} عام في المقدور على ذكاته وفي غيره مما لا يقدر على ذكاته. وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا أحمد بن محمد بن النضر قال: حدثنا معاوية بن عمر قال: حدثنا زائدة قال: حدثنا عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول: "يا أيها الناس هاجروا ولا تهجروا1, وإياكم والأرنب يحذفها أحدكم بالعصا أو الحجر يأكلها, ولكن ليذك لكم الأسل الرماح2 والنبل".
وأما قوله تعالى: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} فإنه روي عن ابن عباس والحسن والضحاك وقتادة قالوا: "هي الساقطة من رأس جبل أو في بئر فتموت". وروى مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: "إذا رميت صيدا من على جبل فمات فلا تأكله فإني أخشى أن يكون التردي هو الذي قتله, وإذا رميت طيرا فوقع في ماء فمات فلا تطعمه فإني أخشى أن يكون الغرق قتله". قال أبو بكر: لما وجد هناك سببا آخر وهو التردي وقد يحدث عنه الموت حظر أكله, وكذلك الوقوع في الماء. وقد روي نحو ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن محمد بن إسماعيل قال: حدثنا ابن عرفة قال: حدثنا ابن المبارك عن عاصم الأحول عن الشعبي عن عدي بن حاتم, أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيد فقال: "إذا رميت بسهمك وسميت فكل إن قتل إلا أن تصيبه في الماء فلا تدري أيهما قتله" . ونظيره ما روي عنه صلى الله عليه وسلم في صيد الكلب أنه قال: "إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فكل, وإن خالطه كلب آخر فلا تأكل" , فحظر صلى الله عليه وسلم أكله إذا وجد مع الرمي سبب آخر يجوز حدوث الموت منه مما لا يكون ذكاة, وهو الوقوع في الماء ومشاركة كلب آخر معه. وكذلك قول عبد الله في الذي يرمي الصيد وهو على الجبل فيتردى إنه لا يؤكل
ـــــــ
1 قوله "ولا تهجروا" يقال: تهجر وتمهجر إذا تشيه بالمهاجرين, والمعنى: أخلصوا الهجرة لله تعالى ولا تتشبهوا بالمهاجرين على غير صحة نية منكم ذكره ابن الأثير في النهاية. "لمصححه".
2 قوله: "الرماح" ببيان للأسل. "لمصححه".

(2/383)


لاجتماع سبب الحظر والإباحة في تلفه, فجعل الحكم للحظر دون الإباحة. وكذلك لو اشترك مجوسي ومسلم في قتل صيد أو ذبحه لم يؤكل. وجميع ما ذكرنا أصل في أنه متى اجتمع سبب الحظر وسبب الإباحة كان الحكم للحظر دون الإباحة.

(2/384)


مطلب: إذا اجتمع سبب الجظر والإباحو كان الحكم للحظر دون الإباحة
وأما قوله تعالى: {وَالنَّطِيحَةُ} فإنه روي عن الحسن والضحاك وقتادة والسدي أنها المنطوحة حتى تموت. وقال بعضهم: هي الناطحة حتى تموت. قال أبو بكر: هو عليهما جميعا, فلا فرق بين أن تموت من نطحها لغيرها وبين موتها من نطح غيرها لها. وأما قوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} فإن معناه: ما أكل منه السبع حتى يموت, فحذف; والعرب تسمي ما قتله السبع وأكل منه أكيلة السبع, ويسمون الباقي منه أيضا أكيلة السبع; قال أبو عبيدة: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} مما أكل السبع فيأكل منه ويبقى بعضه وإنما هو فريسته. وجميع ما تقدم ذكره في الآية بالنهي عنه قد أريد به الموت من ذلك. وقد كان أهل الجاهلية يأكلون جميع ذلك فحرمه الله تعالى, ودل بذلك على أن سائر الأسباب التي يحدث عنها الموت للأنعام محظور أكلها بعد أن لا يكون من فعل آدمي على وجه التذكية.
وأما قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} فإنه معلوم أن الاستثناء راجع إلى بعض المذكور دون جميعه; لأن قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} لا خلاف أن الاستثناء غير راجع إليه, وأن ذلك لا يجوز أن تلحقه الذكاة, وقد كان حكم الاستثناء أن يرجع إلى ما يليه, وقد ثبت أنه لم يعد إلى ما قبل المنخنقة; فكان حكم العموم فيه قائما وكان الاستثناء عائدا إلى المذكور من عند قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} , لما روي ذلك عن علي وابن عباس والحسن وقتادة وقالوا كلهم: "ما أدركت ذكاته بأن توجد له عين تطرف أو ذنب يتحرك فأكله جائز". وحكي عن بعضهم أنه قال: الاستثناء عائد إلى قوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} دون ما تقدم; لأنه يليه; وليس هذا بشيء, لاتفاق السلف على خلافه; ولأنه لا خلاف أن سبعا لو أخذ قطعة من لحم البهيمة فأكلها أو تردى شاة من جبل ولم يشف بها ذلك على الموت فذكاها صاحبها أن ذلك جائز مباح الأكل, وكذلك النطيحة وما ذكر معها, فثبت أن الاستثناء راجع إلى جميع المذكور من عند قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} وإنما قوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} فإنه استثناء منقطع بمنزلة قوله: "لكن ما ذكيتم" كقوله: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس:

(2/384)


98] ومعناه: لكن قوم يونس; وقوله: {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه: 1, 3] معناه: لكن تذكرة لمن يخشى; ونظائره في القرآن كثيرة.
وقد اختلف الفقهاء في ذكاة الموقوذة ونحوها, فذكر محمد في الأصل في المتردية: إذا أدركت ذكاتها قبل أن تموت أكلت, وكذلك الموقوذة والنطيحة وما أكل السبع. وعن أبي يوسف في الإملاء: أنه إذا بلغ به ذلك إلى حال لا يعيش في مثله لم يؤكل وإن ذكي قبل الموت. وذكر ابن سماعة عن محمد: أنه إن كان يعيش منه اليوم ونحوه أو دونه فذكاها حلت, وإن كان لا يبقى إلا كبقاء المذبوح لم يؤكل وإن ذبح; واحتج بأن عمر كانت به جراحة متلفة وصحت عهوده وأوامره, ولو قتله قاتل في ذلك الوقت كان عليه القود. وقال مالك: "إذا أدركت ذكاتها وهي حية تطرف أكلت". وقال الحسن بن صالح: "إذا صارت بحال لا تعيش أبدا لم تؤكل وإن ذبحت". وقال الأوزاعي: "إذا كان فيها حياة فذبحت أكلت, والمصيودة1 إذا ذبحت لم تؤكل". وقال الليث: "إذا كانت حية وقد أخرج السبع ما في جوفها أكلت إلا ما بان عنها". وقال الشافعي في السبع إذا شق بطن الشاة ونستيقن أنها تموت: إن لم تذك فذكيت فلا بأس بأكلها.
قال أبو بكر: قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} يقتضي ذكاتها ما دامت حية, فلا فرق في ذلك بين أن تعيش من مثله أو لا تعيش, وأن تبقى قصير المدة أو طويلها; وكذلك روي عن علي وابن عباس أنه إذا تحرك شيء منها صحت ذكاتها. ولم يختلفوا في الأنعام إذا أصابتها الأمراض المتلفة التي قد تعيش معها مدة قصيرة أو طويلة أن ذكاتها بالذبح, فكذلك المتردية ونحوها; والله أعلم.
ـــــــ
1 قوله: "والمصيودة" اسنم مفعول من صاد يصيد على لغة تميم فغنهم يجيزون تصحيح المفعول مما عينه ياء, وأما الحجازيون فإنهم يقولون مصيد, كما في شرح الخلاصة عند قوله: "وندر تصحيح ذي الواو وفي ذي الياء اشتهر". "لمصححه".

(2/385)


باب في شرط الذكاة
قال أبو بكر: قوله تعالى: {إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} اسم شرعي يعتوره معان: منها موضع الذكاة وما يقطع منه, ومنها الآلة, ومنها الدين, ومنها التسمية في حال الذكر وذلك فيما كانت ذكاته بالذبح عند القدرة عليه. فأما السمك فإن ذكاته بحدوث الموت فيه عن سبب من خارج, وما مات حتف أنفه فغير مذكى; وقد بينا ذلك فيما تقدم من الكلام في

(2/385)


الطافي في سورة البقرة. فأما موضع الذكاة في الحيوان المقدور على ذبحه فهو اللبة وما فوق ذلك إلى اللحيين. وقال أبو حنيفة في الجامع الصغير: "لا بأس بالذبح في الحلق كله أسفل الحلق وأوسطه وأعلاه". وأما ما يجب قطعه فهو الأوداج, وهي أربعة: الحلقوم, والمريء, والعرقان اللذان بينهما الحلقوم والمريء, فإذا فرى المذكي ذلك أجمع فقد أكمل الذكاة على تمامها وسنتها, فإن قصر عن ذلك ففرى من هذه الأربعة ثلاثة فإن بشر بن الوليد روى عن أبي يوسف أن أبا حنيفة قال: "إذا قطع أكثر الأوداج أكل, وإذا قطع ثلاثة منها أكل من أي جانب كان" وكذلك قال أبو يوسف ومحمد, ثم قال أبو يوسف بعد ذلك: "لا تأكل حتى تقطع الحلقوم والمريء وأحد العرقين". وقال مالك بن أنس والليث: "يحتاج أن يقطع الأوداج والحلقوم وإن ترك شيئا منها لم يجزه" ولم يذكر المريء. وقال الثوري: "لا بأس إذا قطع الأوداج وإن لم يقطع الحلقوم". وقال الشافعي: "أقل ما يجزي من الذكاة قطع الحلقوم والمريء, وينبغي أن يقطع الودجين وهما العرقان وقد يسلان من البهيمة والإنسان ثم يحييان, فإن لم يقطع العرقان وقطع الحلقوم والمريء جاز".
وإنما قلنا إن موضع الذكاة النحر واللبة لما روى أبو قتادة الحراني عن حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذكاة فقال: "في اللبة والحلق, ولو طعنت في فخذها أجزأ عنك" , وإنما يعني بقوله صلى الله عليه وسلم: "لو طعنت في فخذها أجزأ عنك" فيما لا تقدر على ذبحه.
قال أبو بكر: ولم يختلفوا أنه جائز له قطع هذه الأربعة, وهذا يدل على أن قطعها مشروط في الذكاة, ولولا أنه كذلك لما جاز له قطعها; إذ كان فيه زيادة ألم بما ليس هو شرطا في صحة الذكاة; فثبت بذلك أن عليه قطع هذه الأربع. إلا أن أبا حنيفة قال: "إذا قطع الأكثر جاز مع تقصيره عن الواجب فيه; لأنه قد قطع الأكثر والأكثر في مثلها يقوم مقام الكل, كما أن قطع الأكثر من الأذن والذنب بمنزلة قطع الكل في امتناع جوازه عن الأضحية" وأبو يوسف جعل شرط صحة الذكاة قطع الحلقوم والمريء وأحد العرقين, ولم يفرق أبو حنيفة بين قطع العرقين وأحد شيئين من الحلقوم والمريء وبين قطع هذين مع أحد العرقين; إذ كان قطع الجميع مأمورا به في صحة الذكاة. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا هناد بن السري والحسن بن عيسى مولى ابن المبارك عن ابن المبارك عن معمر عن عمرو بن عبد الله عن عكرمة عن ابن عباس زاد ابن عيسى: وأبي هريرة, قالا: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان زاد ابن عيسى في حديثه: وهي التي تذبح فيقطع الجلد ولا يفرى الأوداج ثم تترك حتى تموت; وهذا الحديث يدل

(2/386)


على أن عليه قطع الأوداج. وروى أبو حنيفة عن سعيد بن مسروق عن عباية بن رفاعة عن رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل ما أنهر الدم وأفرى الأوداج ما خلا السن والظفر" . وروى إبراهيم عن أبيه عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذبحوا بكل ما أفرى الأوداج وهراق الدم ما خلا السن والظفر" . فهذه الأخبار كلها توجب أن يكون فري الأوداج شرطا في الذكاة, والأوداج اسم يقع على الحلقوم والمريء والعرقين اللذين عن جنبيهما.

(2/387)


فصل
وأما الآلة فإن كل ما فرى الأوداج وأنهر الدم فلا بأس به والذكاة صحيحة, غير أن أصحابنا كرهوا الظفر المنزوع والعظم والقرن والسن لما روي فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم وأما غير ذلك فلا بأس به; ذكر ذلك في الجامع الصغير. وقال أبو يوسف في الإملاء: "لو أن رجلا ذبح بليطة ففرى الأوداج وأنهر الدم فلا بأس بذلك, وكذلك لو ذبح بعود, وكذلك لو نحر بوتد أو بشظاظ أو بمروة لم يكن بذلك بأس; فأما العظم والسن والظفر فقد نهي أن يذكى بها, وجاءت في ذلك أحاديث وآثار, وكذلك القرن عندنا والناب" قال: "ولو أن رجلا ذبح بسنه أو بظفره فهي ميتة لا تؤكل" وقال في الأصل: "إذا ذبح بسن نفسه أو بظفر نفسه فإنه قاتل وليس بذابح". وقال مالك بن أنس: "كل ما بضع من عظم أو غيره ففرى الأوداج فلا بأس به". وقال الثوري: "كل ما فرى الأوداج فهو ذكاة إلا السن والظفر". وقال الأوزاعي: "لا يذبح بصدف البحر". وكان الحسن بن صالح يكره الذبح بالقرن والسن والظفر والعظم. وقال الليث: "لا بأس بأن يذبح بكل ما أنهر الدم إلا العظم والسن والظفر". واستثنى الشافعي الظفر والسن.
قال أبو بكر: الظفر والسن المنهي عن الذبيحة بهما, إذا كانتا قائمتين في صاحبهما وذلك; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الظفر: "إنها مدى الحبشة" وهم إنما يذبحون بالظفر القائم في موضعه غير المنزوع. وقال ابن عباس: "ذلك الخنق". وعن أبي بشر قال: سألت عكرمة عن الذبيحة بالمروة, قال: "إذا كانت حديدة لا تثرد الأوداج فكل" فشرط في ذلك أن لا تثرد1 الأوداج, وهو أن لا تفريها, ولكنه يقطعها قطعة قطعة, والذبح بالظفر والسن غير المنزوع يثرد ولا يفري فلذلك لم تصح الذكاة بهما, وأما إذا كانا منزوعين ففريا الأوداج فلا بأس; وإنما كره أصحابنا منها ما كان بمنزلة السكين الكالة,
ـــــــ
1 قوله: "لا تثرد" من التثريد وهو القتل بغير ذكاة, او هو أن يذبح بشيء لا يسيل الدم كما فسره في النهاية. مصححه".

(2/387)


ولهذا المعنى كرهوا الذبح بالقرن والعظم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا شعبة عن خالد الحذاء عن أبي قلابة عن أبي الأشعث عن شداد بن أوس قال: "خصلتان سمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا" قال غير مسلم: "فأحسنوا القتلة, وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح, وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته" فكانت كراهتهم للذبح بسن منزوع أو عظم أو قرن أو نحو ذلك من جهة كلالة لما يلحق البهيمة من الألم الذي لا يحتاج إليه في صحة الذكاة. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد بن سلمة عن سماك بن حرب عن مري بن قطري عن عدي بن حاتم أنه قال: قلت يا رسول الله أرأيت إن أحدنا أصاب صيدا وليس معه سكين أيذبح بالمروة وشقة العصا؟ قال: "أمرر الدم1 بما شئت واذكر اسم الله" . وفي حديث نافع عن كعب بن مالك عن أبيه: أن جارية سوداء ذكت شاة بمروة, فذكر ذلك كعب للنبي, فأمرهم بأكلها. وروى سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وفي حديث رافع بن خديج عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا إلا ما كان من سن أو ظفر" .
ـــــــ
1 قوله: "امرر الدم" بفتح الهمزة ورائين, معناه: اجعل الدم يمرز ويروى أمر الدم من مار يمور إذا جرى, وأماره غيره إذا أجراه, كما في شرح رسلان على سنن أبي داود. "لمصححه".

(2/388)


فصل
وهذا الذي ذكرناه فيما كان من الحيوان مقدورا على ذبحه, فيعتبر في ذكاته ما وصفنا من موضع الذكاة ومن الآلة على النحو الذي بينا. وأما الذي لا نقدر منه على ذبحه, فإن ذكاته إنما تكون بإصابته بما يجرح ويسيل الدم أو بإرسال كلب أو طير فيجرحه دون ما يصدم أو يهشم مما لا حد له يجرحه; ولا يختلف في ذلك عندنا حكم ما يكون أصله ممتنعا مثل الصيد وما ليس بممتنع في الأصل من الأنعام ثم يتوحش ويمتنع أو يتردى في موضع لا نقدر فيه على ذكاته. وقد اختلف الفقهاء في ذلك في موضعين, أحدهما: في الصيد إذا أصيب بما لا يجرحه من الآلة, فقال أصحابنا ومالك والثوري: "إذا أصابه بعرض المعراض لم يؤكل إلا أن يدرك ذكاته". وقال الثوري: "وإن رميته بحجر أو بندقة كرهته إلا أن تذكيه, ولا فرق عند أصحابنا بين المعراض والحجر والبندقة". وقال الأوزاعي في صيد المعراض: "يؤكل خزق أو لم يخزق" قال: "وكان أبو الدرداء وفضالة بن عبيد وعبد الله بن عمر ومكحول لا يرون به بأسا". وقال

(2/388)


الحسن بن صالح: "إذا خزق الحجر فكل والبندقة لا تخزق". وقال الشافعي: "إن خزق المرمي برميه أو قطع بحده أكل, وما جرح بثقله فهو وقيذ; وفيما نالته الجوارح فقتلته فيه قولان: أحدهما: أنه لا يؤكل حتى يجرح لقوله تعالى: {مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} . والآخر أنه حل". قال أبو بكر: ولم يختلف أصحابنا ومالك والشافعي في الكلب إذا قتل الصيد بصدمته لم يؤكل. وأما الموضع الآخر: فما ليس بممتنع في الأصل, مثل البعير والبقر إذا توحش أو تردى في بئر, فقال أصحابنا: "إذا لم يقدر على ذبحه فإنه يقتل كالصيد ويكون مذكى" وهو قول الثوري والشافعي. وقال مالك والليث: "لا يؤكل إلا أن يذبح على شرائط الذكاة". وروي عن علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعلقمة والأسود ومسروق مثل قول أصحابنا, وقد تقدم ذكر الآثار المؤيدة لقول أصحابنا في الصيد أن شرط ذكاته أن يجرحه بما له حد, ومنه ما ذكر في المعراض أنه إن أصاب بحده أكل وإن أصاب بعرضه لم يؤكل فإنه وقيذ, لقوله تعالى: {وَالْمَوْقُوذَةُ} , فكل ما لا يجرح من ذلك فهو وقيذ محرم بظاهر الكتاب والسنة. وفي حديث قتادة عن عقبة بن صهبان عن عبد الله بن مغفل عن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن الخذف وقال: "إنها لا تنكأ العدو ولا تصيد الصيد ولكنها تكسر السن وتفقأ العين" فدل ذلك على أن الجراحة في مثله لا تذكى; إذ ليس له حد, وإنما الجراحة التي لها حكم في الذكاة هي ما يقع بما له حد, ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المعراض: "إن أصابه بحده فخزق فكل وإن أصابه بعرضه فلا تأكل" ولم يفرق بين ما يجرح ولا يجرح؟ فدل ذلك على اعتبار الآلة, وأن سبيلها أن يكون لها حد في صحة الذكاة بها. وكذلك قوله في الخذف: "إنها لا تصيد الصيد" يدل على سقوط اعتبار جراحته في صحة الذكاة إذا لم يكن له حد.
وأما البعير ونحوه إذا توحش أو تردى في بئر, فإن الذي يدل على أنه بمنزلة الصيد في ذكاته ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا سفيان عن عمرو بن سعيد بن مسروق عن أبيه عن عباية بن رفاعة عن رافع بن خديج قال: ند علينا بعير فرميناه بالنبل, ثم سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش فإذا ند منها شيء فاصنعوا به ذلك وكلوه" ; وقال سفيان: وزاد إسماعيل بن مسلم: فرميناه بالنبل حتى رهصناه1. فهذا يدل على إباحة أكله إذا قتله النبل لإباحة النبي صلى الله عليه وسلم من غير شرط ذكاة غيره. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا حماد بن سلمة عن أبي العشراء عن أبيه أنه قال: يا رسول الله
ـــــــ
1 قوله: "رهضناه" أي أوهناه. "لمصححه".

(2/389)


أما تكون الذكاة إلا في اللبة والنحر؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك" وهذا على الحال التي لا يقدر فيها على ذبحها; إذ لا خلاف أن المقدور على ذبحه لا يكون ذلك ذكاته. ويدل على صحة قولنا من طريق النظر اتفاق الجميع على أن رمي الصيد يكون ذكاة له إذا قتله, ثم لا يخلو المعنى الموجب لكون ذلك ذكاة من أحد وجهين: إما أن يكون ذلك الجنس الصيد; أو لأنه غير مقدور على ذبحه, فلما اتفقوا على أن الصيد إذا صار في يده حيا لم تكن ذكاته إلا بالذبح كذكاة ما ليس من جنس الصيد, دل ذلك على أن هذا الحكم لم يتعلق بجنسه وإنما تعلق بأنه غير مقدور على ذبحه في حال امتناعه, فوجب مثله في غيره إذا صار بهذه الحال لوجود العلة التي من أجلها كان ذلك ذكاة للصيد.

(2/390)


مطلب: في حكم الصيد إذا انقطع قطعتين
واختلف الفقهاء في الصيد يقطع بعضه, فقال أصحابنا والثوري وهو قول إبراهيم ومجاهد: "إذا قطعه بنصفين أكلا جميعا, وإن قطع الثلث مما يلي الرأس أكل, فإن قطع الثلث الذي يلحق العجز أكل الثلثان الذي يلي الرأس ولا يؤكل الثلث الذي يلي العجز". وقال ابن أبي ليلى والليث: "إذا قطع منه قطعة فمات الصيد مع الضربة أكلهما جميعا". وقال مالك: "إذا قطع وسطه أو ضرب عنقه أكل, وإن قطع فخذه لم يأكل الفخذ وأكل الباقي". وقال الأوزاعي: "إذا أبان عجزه لم يأكل ما انقطع منه ويأكل سائره, وإن قطعه بنصفين أكله كله". وقال الشافعي: "إن قطعه قطعتين أكله وإن كانت إحداهما أقل من الأخرى, وإن قطع يدا أو رجلا أو شيئا يمكن أن يعيش بعده ساعة أو أكثر ثم قتله بعد رميته أكل ما لم يبن منه ولم يؤكل ما بان وفيه الحياة, ولو مات من القطع الأول أكلهما جميعا".
قال أبو بكر: حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا هاشم بن القاسم قال: حدثنا عبد الرحمن بن دينار عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي واقد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة" , وهذا إنما يتناول قطع القليل منه من غير موضع الذكاة وذلك; لأنه لا خلاف أنه لو ضرب عنق الصيد فأبان رأسه كان الجميع مذكى, فثبت بذلك أن المراد ما بان منها من غير موضع الذكاة, وذلك إنما يتناول الأقل منه; لأنه إذا قطع النصف أو الثلث الذي يلي الرأس فإنه يقطع العروق التي يحتاج إلى قطعها للذكاة, وهي الأوداج والحلقوم والمريء فيكون الجميع مذكى, وإذا قطع الثلث مما يلي الذنب فإنه لا يصادف قطع العروق التي يحتاج إليها في شرط الذكاة فيكون ما بان منه ميتة لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما بان من البهيمة وهي

(2/390)


حية فهو ميتة" وذلك لأنه لا محالة إنما يحدث الموت بعد القطع فقد بان ذلك العضو منها وهي حية فهو ميتة, وما يلي الرأس كله مذكى كما لو قطع رجلها أو جرحها في غير موضع الذكاة ولم يبن منها شيئا, فيكون ذلك ذكاة لها لتعذر قطع موضع الذكاة.

(2/391)


فصل
وأما الدين فأن يكون الرامي أو المصطاد مسلما أو كتابيا, وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى. وأما التسمية فهي أن يذكر اسم الله تعالى عند الذبح أو عند الرمي أو إرسال الجوارح والكلب إذا كان ذاكرا, فإن كان ناسيا لم يضره ترك التسمية; وسيأتي الكلام فيه في موضعه إن شاء الله تعالى.

(2/391)


مطلب: في الفرق بين الصنم والنصب
وأما قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} فإنه روي عن مجاهد وقتادة وابن جريج أن النصب أحجار منصوبة كانوا يعبدونها ويقربون الذبائح لها فنهى الله عن أكل ما ذبح على النصب; لأنه مما أهل به لغير الله. والفرق بين النصب والصنم أن الصنم يصور وينقش, وليس كذلك النصب; لأن النصب حجارة منصوبة والوثن كالنصب سواء. ويدل على أن الوثن اسم يقع على ما ليس بمصور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم حين جاءه وفي عنقه صليب: "ألق هذا الوثن من عنقك" فسمى الصليب وثنا, فدل ذلك على أن النصب والوثن اسم لما نصب للعبادة وإن لم يكن مصورا ولا منقوشا. وهذه ذبائح قد كان أهل الجاهلية يأكلونها, فحرمها الله تعالى مع ما حرم من الميتة ولحم الخنزير وما ذكر في الآية مما كان المشركون يستبيحونه. وقد قيل إنها المرادة بالاستثناء المذكور في قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} .
قوله تعالى: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ} قيل في الاستقسام وجهان: أحدهما: طلب علم ما قسم له بالأزلام, والثاني: إلزام أنفسهم بما تأمرهم به القداح كقسم اليمين. والاستقسام بالأزلام أن أهل الجاهلية كانوا إذا أراد أحدهم سفرا أو غزوا أو تجارة أو غير ذلك من الحاجات أجال القداح وهي الأزلام, وهي على ثلاثة أضرب: منها ما كتب عليه: أمرني ربي" ومنها ما كتب عليه: "نهاني ربي" ومنها غفل لا كتابة عليه يسمى: "المنيح". فإذا خرج" أمرني ربي" مضى في الحاجة, وإذا خرج: "نهاني ربي" قعد عنها, وإذا خرج الغفل أجالها ثانية. قال الحسن: كانوا يعمدون إلى ثلاثة قداح; نحو ما وصفنا. وكذلك قال سائر أهل العلم بالتأويل. وواحد الأزلام" زلم" وهي القداح فحظر الله تعالى ذلك, وكان من فعل أهل الجاهلية, وجعله فسقا بقوله: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} وهذا

(2/391)


مطلب: اسم الطيبات يطلق على الجلال وعلى المستلذ
وقوله عز وجل {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} اسم الطيبات يتناول معنيين: أحدهما: الطيب المستلذ, والآخر: الحلال وذلك لأن ضد الطيب هو الخبيث, والخبيث حرام, فإذا الطيب حلال; والأصل فيه الاستلذاذ, فشبه الحلال به في انتفاء المضرة منهما جميعا; وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [المؤمنون: 51] يعني الحلال, وقال: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] فجعل الطيبات في مقابلة الخبائث, والخبائث هي المحرمات; وقال تعالى: { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وهو يحتمل: ما حل لكم, ويحتمل: ما استطبتموه.

(2/393)


مطلب: يحتج بظاهر هذه الآية في إباحة جميع المستلذات إلا ما خصه الدليل
فقوله: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} جائز أن يريد به ما استطبتموه واستلذذتموه مما لا ضرر عليكم في تناوله من طريق الدين, فيرجع ذلك إلى معنى الحلال الذي لا تبعة على متناوله, وجائز أن يحتج بظاهره في إباحة جميع الأشياء المستلذة إلا ما خصه الدليل.

(2/393)


مطلب: في أمره عليه السلام إبا رافع بقتل الكلاب
{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا يعقوب بن غيلان العماني قال: حدثنا هناد بن السري قال: حدثنا يحيى بن زكريا قال: حدثنا إبراهيم بن عبيد قال: حدثني أبان بن صالح عن القعقاع بن حكيم عن سلمى عن أبي رافع قال: {أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أقتل الكلاب, فقال الناس: يا رسول الله ما أحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فأنزل الله: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} الآية. حدثنا عبد الباقي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل وابن عبدوس بن كامل قالا: حدثنا عبيد الله بن عمر الجشمي قال: حدثنا أبو معشر النواء قال: حدثنا عمرو بن بشير قال: حدثنا عامر الشعبي عن عدي بن حاتم قال: لما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد الكلاب لم يدر ما يقول لي حتى نزلت: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} .

(2/393)


مطلب: لا يؤكل صيد الكلب المعلم إذا أكل منه ويؤكل صيد البازي وإن أكل منه ذكر اختلاف الفقهاء في ذلك
...
ذكر اختلاف الفقهاء في ذلك
مطلب: لا يؤكل صيد الكلب المعلم إذا أكل منه ويؤكل صيد البازي وإن أكل منه
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: "إذا أكل الكلب من الصيد فهو غير معلم لا يؤكل صيده, ويؤكل صيد البازي وإن أكل" وهو قول الثوري. وقال مالك والأوزاعي والليث: "يؤكل وإن أكل الكلب منه". وقال الشافعي: "لا يؤكل إذا أكل الكلب منه والبازي مثله في القياس". قال أبو بكر: اتفق السلف المجيزون لصيد الجوارح من سباع الطير أن صيدها يؤكل وإن أكلت منه, منهم سعد وابن عباس وسلمان وابن عمر وأبو هريرة وسعيد بن المسيب; وإنما اختلفوا في صيد الكلب, فقال علي بن أبي طالب وابن عباس وعدي بن حاتم وأبو هريرة وسعيد بن جبير وإبراهيم: "لا يؤكل صيد الكلب إذا أكل منه". وقال سلمان وسعد وابن عمر: "يؤكل صيده وإن لم يبق منه إلا ثلثه". وهو قول الحسن وعبيد بن عمير, وإحدى الروايتين عن أبي هريرة وعطاء وسليمان بن يسار وابن شهاب. قال أبو بكر: معلوم من حال الكلب قبوله للتأديب في ترك الأكل, فجائز أن يعلم تركه ويكون تركه للأكل علما للتعليم ودلالة عليه, فيكون تركه للأكل من شرائط صحة ذكاته ووجود الأكل مانع من صحة ذكاته. وأما البازي فإنه معلوم أنه لا يمكن تعليمه بترك الأكل وأنه لا يقبل التعليم من هذه الجهة, فإذا كان الله قد أباح صيد جميع الجوارح على شرط التعليم فغير جائز أن يكون من شرط التعليم للبازي تركه الأكل; إذ لا سبيل إلى تعليمه ذلك, ولا يجوز أن يكلفه الله تعليم ما لا يصح منه التعليم وقبول التأديب; فثبت أن ترك الأكل ليس من شرائط تعلم البازي وجوارح الطير, وكان ذلك من شرائط تعلم الكلب; لأنه يقبله ويمكن تأديبه به. ويشبه أن يكون ما روي عن علي بن أبي طالب وغيره في حظر ما قتله البازي, من حيث كان عندهم أن من شرط التعليم ترك

(2/396)


الأكل, وذلك غير ممكن في الطير فلم يكن معلما فلا يكون ما قتله مذكى. إلا أن ذلك يؤدي إلى أن لا تكون لذكر التعليم في الجوارح من الطير فائدة; إذ كان صيدها غير مذكى, وأن يكون المعلم وغير المعلم فيه سواء, وذلك غير جائز; لأن الله تعالى قد عمم الجوارح كلها وشرط تعليمها ولم يفرق بين الكلب وبين الطير فوجب استعمال عموم اللفظ فيها كلها, فيكون من جوارح الطير ما يكون معلما, وكذلك من الكلاب, وإن اختلفت وجوه تعليمها, فيكون من تعليم الكلاب ونحوها ترك الأكل, ومن تعليم جوارح الطير أن يجيبه إذا دعاه ويألفه ولا ينفر عنه, حتى يكون التعليم عاما في جميع ما ذكر في الآية.
ومن الدليل على أن من شرائط ذكاة صيد الكلب ونحوه ترك الأكل قول الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ولا يظهر الفرق بين إمساكه على نفسه وبين إمساكه علينا إلا بترك الأكل, ولو لم يكن ترك الأكل مشروطا لزالت فائدة قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} , فلما كان ترك الأكل علما لإمساكه علينا وكان الله إنما أباح لنا أكل صيدها بهذه الشريطة, وجب أن يكون ما أمسكه على نفسه محظورا.
فإن قيل فقد يأكل البازي منه ويكون مع الأكل ممسكا علينا. قيل له: الإمساك علينا إنما هو مشروط في الكلب ونحوه, فأما الطير فلم يشرط فيه أن يمسكه علينا لما قدمناه بديا. ويدل على أن إمساك الكلب علينا أن لا يأكل منه وأنه متى أكل منه كان ممسكا على نفسه ما روي عن ابن عباس أنه قال: "إذا أكل منه الكلب فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه" , فأخبر أن الإمساك علينا تركه للأكل; فإذا كان اسم الإمساك يتناول ما ذكره ولو لم يتناوله لم يتأوله عليه, وجب حمل الآية عليه من حيث صار ذلك اسما له. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أيضا, فثبتت حجته من وجهين: أحدهما: بيان معنى الآية والمراد بها. والثاني: نص السنة في تحريم ذلك. حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا الحميدي قال: حدثنا سفيان قال: حدثنا مجالد عن الشعبي عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد الكلب المعلم, فقال: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل مما أمسك عليك فإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه" . وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن كثير قال: حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي قال: قال عدي بن حاتم: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعراض, فقال: "إذا أصاب بحده فكل وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ" . قلت: أرسل كلبي؟ قال: "إذا سميت فكل وإلا فلا تأكل, وإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه" ; وقال: أرسل كلبي فأجد عليه كلبا آخر؟ قال: "لا

(2/397)


تأكل لأنك إنما سميت على كلبك". فثبت بهذا الخبر مراد الله تعالى بقوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ونص النبي صلى الله عليه وسلم على النهي عن أكل ما أكل منه الكلب.
فإن قيل: قد روى حبيب المعلم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ثعلبة الخشني: "فكل مما أمسك عليك الكلب" قال: فإن أكل منه؟ قال: "وإن أكل منه". قيل له: هذا اللفظ غلط في حديث أبي ثعلبة; وذلك لأن حديث أبي ثعلبة قد رواه عنه أبو إدريس الخولاني وأبو أسماء وغيرهما فلم يذكرا فيه هذا اللفظ; وعلى أنه لو ثبت ذلك في حديث أبي ثعلبة كان حديث عدي بن حاتم أولى من وجهين: أحدهما: من موافقته لظاهر الآية في قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} . والثاني: ما فيه من حظر ما أكل منه الكلب; ومتى ورد خبران في أحدهما حظر شيء وفي الآخر إباحته فخبر الحظر أولاهما بالاستعمال.

(2/398)


مطلب: متى ورد خبران في جظر شيء وفي إباحته فالحاظر أولى
فإن قيل: معنى قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} أن يحبسه علينا بعد قتله له, فهذا هو إمساكه علينا. فيقال له: هذا غلط; لأنه قد صار محبوسا بالقتل فلا يحتاج الكلب إلى أن يحبسه علينا بعد قتله, فهذا لا معنى له. فإن قيل: قتله هو حبسه علينا. قيل له: هذا أيضا لا معنى له; لأنه يصير تقدير الآية على هذا: فكلوا مما قتلن عليكم; وهذا يسقط فائدة الآية; لأن إباحة ما قتلته قد تضمنته الآية قبل ذلك في قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} , وهو يعني صيد ما علمنا من الجوارح جوابا لسؤال من سأل عن المباح منه. وعلى أن الإمساك ليس بعبارة عن القتل; لأنه قد يمسكه علينا وهو حي غير مقتول, فليس إمساكه علينا إذا إلا أن يحبسه حتى يجيء صاحبه. ولا يخلو الإمساك علينا من أن يكون حبسه إياه علينا من غير قتل, أو حبسه علينا بعد قتله, أو تركه للأكل منه بعد قتله; ومعلوم أنه لم يرد به حبسه علينا وهو حي غير مقتول لاتفاق الجميع على أن ذلك غير مراد, وأن حبسه علينا حيا ليس بشرط في إباحة أكله; لأنه لو كان كذلك لكان لا يحل أكل ما قتله, ولا يجوز أيضا أن يكون المراد حبسه علينا بعد قتله, وإن أكل منه; لأن ذلك لا معنى له; لأن الله تعالى جعل إمساكه علينا شرطا في الإباحة, ولا خلاف أنه لو قتله ثم تركه وانصرف عنه ولم يحبسه علينا أنه يجوز أكله; فعلمنا أن ذلك غير مراد, فثبت أن المراد تركه الأكل.
فإن قيل: قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} يقتضي إباحة ما بقي من الصيد بعد أكله; لأنه قد أمسكه علينا إذا لم يأكله, وإنما لم يمسك علينا المأكول منه دون ما بقي

(2/398)


منه فقد اقتضى ظاهر الآية إباحة أكل الباقي مما هو ممسك علينا. قيل له: هذا غلط من وجوه: أحدها: أن من روي عنه معنى الإمساك من السلف قالوا فيه قولين: أحدهما: أن لا يأكل منه, وهو قول ابن عباس وقول من قال حبسه علينا بعد القتل, ولم يقل أحد منهم إن ترك أكل الباقي منه بعد ما أكل هو إمساك, فبطل هذا القول. والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه" فلم يجعله ممسكا علينا ما بقي منه إذا كان قد أكل منه شيئا. والثالث: أنه يصير في معنى قوله: فكلوا مما قتله, من غير ذكر إمساك;; إذ معلوم أن ما قد أكله لا يجوز أن يتناوله الحظر, فيؤدي ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر إمساكه علينا. وأيضا فإنه إذا أكل منه فقد علمنا أنه إنما اصطاد لنفسه وأمسكه عليها ولم يمسكه علينا باصطياده, وتركه أكل بعضه بعد ما أكل منه ما أكل لا يكسبه في الباقي حكم الإمساك علينا; لأنه يجوز أن يترك أكل الباقي; لأنه قد شبع ولم يحتج إليه لا; لأنه أمسكه علينا, وفي أكله منه بديا دلالة على أنه لم يمسكه علينا باصطياده; وهذا الذي يجب علينا اعتباره في صحة التعليم, وهو أن يعلم أنه ينبغي أن يصطاده لنا ويمسكه علينا, فإذا أكل منه علمنا أنه لم يبلغ حد التعليم.
فإن قيل: الكلب إنما يصطاد ويمسك لنفسه لا لصاحبه, ألا ترى أنه لو كان شبعان حين أرسل لم يصطد؟ وهو إنما يضرى على الصيد بأن يطعم منه, فليس إذا في أكله منه نفي التعليم والإمساك علينا. ولو اعتبر ما ذكرتم فيه لاحتجنا إلى اعتبار نية الكلب وضميره, وذلك مما لا نعلمه ولا نقف عليه بل لا نشك أن نيته وقصده لنفسه. قيل له: أما قولك: "إنه يصطاد ويمسك لنفسه" فليس كذلك; لأنه لو كان كذلك لما ضرب حتى يترك الأكل, ولما تعلم ذلك إذا علم, فلما كان إذا علم ترك الأكل تعلم ذلك ولم يأكل منه علمنا أنه متى ترك الأكل فهو ممسك له علينا معلم لما شرط الله تعالى من تعليمه فهو حينئذ مصطاد لصاحبه ممسك عليه; وقوله: "إنه لو كان يصطاد لصاحبه لكان يصطاد في حال الشبع" فهو يصطاد في حال الشبع لصاحبه ويمسكه عليه إذا أرسله صاحبه, وهو إذا كان معلما لم يمتنع من الاصطياد إذا أرسله. وأما قولك: "إنه يضرى على الصيد بأنه يطعم منه" فإنه إنما يطعم منه بعد إمساكه على صاحبه; وأما ضمير الكلب ونيته فإن الكلب يعلم ما يراد منه بالتعليم فينتهي إليه, كما يعرف الفرس ما يراد منه بالزجر ورفع السوط ونحوه, والذي يعلم به ذلك من الكلب تركه للأكل ومتى أكل منه فقد علم منه أنه قصد بذلك إمساكه على نفسه دون صاحبه. ومما يدل على ما ذكرنا وأن تعليم الكلب إنما يكون بتركه الأكل أنه معلوم أنه ألوف غير مستوحش, فلا يجوز أن يكون تعليمه ليتألف ولا يستوحش, فوجب أن يكون بتركه الأكل. والبازي من جوارح الطير هو

(2/399)


مستوحش في الأصل, ولا يجوز أن يكون تعليمه بأن يضرب ليترك الأكل, فثبت أن تعليمه بإلفه لصاحبه وزوال الوحشة منه بأن يدعوه فيجيبه, فيزول بذلك عن طبعه الأول ويكون ذلك علما لتعليمه.
وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} قيل فيه: إن "من" دخلت للتبعيض, ويكون معنى التبعيض فيه أن بعض ما يمسكه علينا مباح دون جميعه, وهو الذي يجرحه فيقتله دون ما يقتله بصدمه من غير جراحة. وقال بعضهم: إن "من" ههنا زائدة للتأكيد, كقوله تعالى: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271]. وقال بعض النحويين: هذا خطأ; لأنها لا تزاد في الموجب وإنما تزاد في النفي والاستفهام, وقوله تعالى: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} [البقرة: 271] ابتداء الغاية, أي: يكفر عنكم أعمالكم التي تحبون سترها عليكم من سيئاتكم; قال: ويجوز أن يكون بمعنى يكفر عنكم من السيئات ما يجوز تكفيره في الحكمة دون ما لا يجوز; لأنه خطاب عام لسائر المكلفين.

(2/400)


مطلب: لا حظ للإجتهاد نع اليقين
وقال أبو حنيفة في الكلب إذا أكل من الصيد وقد صاد قبل ذلك صيدا كثيرا ولم يأكل منه: "إن جميع ما تقدم حرام; لأنه قد تبين حين أكل أنه لم يكن معلما, وقد كان الحكم بتعليمه بديا حين ترك الأكل من طريق الاجتهاد وغالب الظن, والحكم بنفي التعليم عند الأكل من طريق اليقين, ولا حظ للاجتهاد مع اليقين, وقد يترك الأكل بديا وهو غير معلم كما يترك سائر السباع فرائسها عند الاصطياد ولا يأكلها ساعة الاصطياد, فإنما يحكم إذا كثر منه ترك الأكل بحكم التعليم من جهة غالب الظن, فإذا أكل منه بعد ذلك حصل اليقين بنفي التعليم فيحرم ما قد اصطاده قبل ذلك". وقال أبو يوسف ومحمد: "إذا ترك الأكل ثلاث مرات فهو معلم, فإن أكل بعد ذلك لم يحرم ما تقدم من صيده; لأنه جائز أن يكون قد نسي التعليم فلم يحرم ما قد حكم بإباحته بالاحتمال".
وينبغي أن يكون مذهب أبي حنيفة محمولا على أنه أكل في مدة لا يكاد ينسى فيها, فإن تطاولت المدة في الاصطياد ثم اصطاد فأكل منه وفي مثل تلك المدة يجوز أن ينسى فإنه ينبغي أن لا يحرم ما تقدم, ويكون موضع الخلاف بينه وبين أبي يوسف ومحمد أنهما يعتبران في شرط التعليم ترك الأكل ثلاث مرات, وأبو حنيفة لا يحده, وإنما يعتبر ما يغلب في الظن من حصول التعليم, فإذا غلب في الظن أنه معلم بترك الأكل ثم أرسل مع قرب المدة فأكل منه, فهو محكوم بأنه غير معلم فيما ترك أكله; مما تطاولت المدة بإرساله بعد ترك الأكل حتى يظن في مثلها نسيان التعليم, لم يحرم ما

(2/400)


تقدم; وأبو يوسف ومحمد يقولان: إنه إذا ترك الأكل ثلاث مرات ثم اصطاد فأكل في مدة قريبة أو بعيدة لم يحرم ما تقدم من صيده, فيظهر موضع الخلاف بينهم ههنا.
قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} . قال ابن عباس والحسن والسدي: "يعني على إرسال الجوارح". قال أبو بكر: قوله: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} أمر يقتضي الإيجاب, ويحتمل أن يرجع إلى الأكل المذكور في قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}, ويحتمل أن يعود إلى الإرسال; لأن قوله: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} قد تضمن إرسال الجوارح المعلمة على الصيد, فجائز عود الأمر بالتسمية إليه, ولولا احتمال ذلك لما تأوله السلف عليه. وإذا كان ذلك كذلك وقد تضمن الأمر بالذكر إيجابه واتفقوا أن الذكر غير واجب على الأكل, فوجب استعمال حكمه على الإرسال; إذ كان مختلفا فيه; وإذا كانت التسمية واجبة على الإرسال صارت من شرائط الذكاة, كتعليم الجوارح وكون المرسل ممن تصح ذكاته وإسالة دم الصيد بما يجرح وله حد, فإذا تركها لم تصح ذكاته كما لا تصح ذكاته مع ترك ما ذكرنا من شرائط الذكاة. والذي تقتضيه الآية فساد الذكاة عند ترك التسمية عامدا وذلك; لأن الأمر لا يتناول الناسي; إذ لا يصح خطابه; فلذلك قال أصحابنا: إن ترك التسمية ناسيا لا يمنع صحة الذكاة; إذ هو غير مكلف بها في حال النسيان. وسنذكر إيجاب التسمية على الذبيحة عند قوله: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] إذا انتهينا إليه إن شاء الله.
وقد روي في التسمية على إرسال الكلب ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن كثير قال: حدثنا شعبة عن عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي قال: قال عدي بن حاتم: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أرسل كلبي؟ قال: "إذا سميت فكل وإلا فلا تأكل, وإن أكل منه فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه" وقال: أرسل كلبي فأجد عليه كلبا آخر؟ قال: "لا تأكل; لأنك إنما سميت على كلبك" فنهاه عن أكل ما لم يسم عليه وما شاركه كلب آخر لم يسم عليه, فدل على أن من شرائط ذكاة الصيد التسمية على الإرسال. وهذا يدل أيضا على أن حال الإرسال بمنزلة حال الذبح في وجوب التسمية عليه.
وقد اختلف الفقهاء في أشياء من أمر الصيد, منها الاصطياد بكلب المجوسي, فقال أصحابنا ومالك والأوزاعي والشافعي: "لا بأس بالاصطياد بكلب المجوسي إذا كان معلما وإن كان الذي علمه مجوسيا بعد أن يكون الذي أرسله مسلما". وقال الثوري: "أكره الاصطياد بكلب المجوسي إلا أن يأخذه من تعليم المسلم". قال أبو بكر: ظاهر

(2/401)


قوله تعالى {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} يقتضي جواز صيده وإباحة أكله, ولم يفرق بين أن يكون مالكه مسلما أو مجوسيا. وأيضا فإن الكلب آلة كالسكين يذبح بها والقوس يرمى عنها, فواجب أن لا يختلف حكم الكلب لمن كان كسائر الآلات التي يصطاد بها. وأيضا فلا اعتبار بالكلب وإنما الاعتبار بالمرسل, ألا ترى أن مجوسيا لو اصطاد بكلب مسلم لم يجز أكله؟ وكذلك اصطياد المسلم بكلب المجوسي ينبغي أن يحل أكله.
فإن قيل: قال الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} ومعلوم أن ذلك خطاب للمؤمنين, فواجب أن يكون تعليم المسلم شرطا في الإباحة. قيل له: لا يخلو تعليم المجوسي من أن يكون مثل تعليم المسلم المشروط في إباحة الذكاة أو مقصرا عنه, فإن كان مثله فلا اعتبار بالمعلم وإنما الاعتبار بحصول التعليم, ألا ترى أنه لو ملكه مسلم وهو معلم كتعليم المسلم جاز أكل ما صاده؟ فإذا لا اعتبار بالملك وإنما الاعتبار بالتعليم. وإن كان تعليم المجوسي مقصرا عن تعليم المسلم حتى يخل عند الاصطياد ببعض شرائط الذكاة فهذا كلب غير معلم, ولا يختلف حينئذ حكم ملك المجوسي والمسلم في حظر ما يصطاده. وأما قوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} فإنه, وإن كان خطابا للمسلمين فالمقصد فيه حصول التعليم للكلب, فإذا علمه المجوسي كتعليم المسلم فقد وجد المعنى المشروط, فلا اعتبار بعد ذلك بملك المجوسي.
واختلفوا في الصيد يدركه حيا, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد فيمن يدرك صيد الكلب أو السهم فيحصل في يده حيا ثم يموت: "فإنه لا يؤكل, وإن لم يقدر على ذبحه حتى مات". وقال مالك والشافعي: "إن لم يقدر على ذبحه حتى مات أكل, وإن مات في يده, وإن قدر على ذبحه فلم يذبحه لم يؤكل, وإن لم يحصل في يده". وقال الثوري: إن قدر أن يأخذه من الكلب فيذبحه فلم يفعله لم يؤكل". وقال الأوزاعي: "إذا أمكنه أن يذكيه ولم يفعل لم يؤكل, وإن لم يمكنه حتى مات بعد ما صار في يده أكل". وقال الليث: "إن أدركه في في الكلب فأخرج سكينه من خفه أو منطقته ليذبحه فمات أكله, وإن ذهب ليخرج السكين من خرجه فمات قبل أن يذبحه لم يأكله".
قال أبو بكر: إذا حصل في يده حيا فلا اعتبار بإمكان ذبحه أو تعذره في أن شرط ذكاته الذبح وذلك; لأن الكلب إنما حل صيده لامتناع الصيد وتعذر الوصول إليه إلا من هذه الجهة, فإذا حصل في يده حيا فقد زال المعنى الذي من أجله أبيح صيده وصار بمنزلة سائر البهائم التي يخاف عليها الموت, فلا تكون ذكاته إلا بالذبح سواء مات في وقت لا يقدر على ذبحه أو قدر عليه, والمعني فيه كونه في يده حيا.

(2/402)


فإن قيل: إنما لم تكن ذكاة سائر البهائم إلا بالذبح; لأن ذبحها قد كان مقدورا عليه, ولو ماتت حتف أنفها لم يكن ذكاة; وجراحة الكلب والسهم قد كانت تكون ذكاة للصيد لو لم يحصل في يده حتى مات, فإذا صار في يده ولم يبق من حياته بمقدار ما يدرك ذكاته فهو مذكى بجراحة الكلب, وهو بمنزلة ما لو صار في يده بعد الموت. قيل له: هذا على وجهين: أحدهما: أن يكون الكلب قد جرحه جراحة لا يعاش من مثلها إلا مثل حياة المذبوح, وذلك بأن يكون قد قطع أوداجه أو شق جوفه فأخرج حشوته, فإذا كان ذلك كذلك كانت جراحته ذكاة له سواء أمكن بعد ذلك ذبحه أو لم يمكن, فهذا الذي تكون جراحة الكلب ذكاة له; وأما الوجه الآخر: فهو أن يعيش من مثلها, إلا أنه اتفق موته بعد وقوعه في يده في وقت لم يكن يقدر على ذبحه; فهذا لا يكون مذكى; لأن تلك الجراحة قد كانت مراعاة على حدوث الموت قبل حصوله في يده وإمكان ذكاته, فإذا صار في يده حيا بطل حكم الجراحة, وصار بمنزلة سائر البهائم التي يصيبها جراحات غير مذكية لها مثل المتردية والنطيحة وغيرهما, فلا يكون ذكاته إلا بالذبح.
واختلفوا في الصيد يغيب عن صاحبه, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: "إذا توارى عنه الصيد والكلب وهو في طلبه فوجده قد قتله جاز أكله, وإن ترك الطلب واشتغل بعمل غيره ثم ذهب في طلبه فوجده مقتولا والكلب عنده كرهنا أكله" وكذلك قالوا في السهم إذا رماه به فغاب عنه. وقال مالك: "إذا أدركه من يومه أكله في الكلب والسهم جميعا, وإن كان ميتا إذا كان فيه أثر جراحة, وإن بات عنه لم يأكله". وقال الثوري: "إذا رماه فغاب عنه يوما أو ليلة كرهت أكله". وقال الأوزاعي: "إن وجده من الغد ميتا ووجد فيه سهمه أو أثرا فليأكله". وقال الشافعي القياس أن لا يأكله إذا غاب عنه". قال أبو بكر: روي عن ابن عباس أنه قال: "كل ما أصميت ودع ما أنميت" وفي خبر آخر عنه: "وما غاب عنك ليلة فلا تأكله". والإصماء ما أدركه من ساعته والإنماء ما غاب عنه. وروى الثوري عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن أبي رزين عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصيد: "إذا غاب عنك مصرعه كرهه" وذكر هوام الأرض. وأبو رزين هذا ليس بأبي رزين العقيلي صاحب النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو أبو رزين مولى أبي وائل.
ويدل على أنه إذا تراخى عن طلبه لم يأكله أنه لا خلاف أنه لو لم يغب عنه وأمكنه أن يدرك ذكاته فلم يفعل حتى مات أنه لا يؤكل, فإذا لم يترك الطلب وأدركه ميتا فقد علمنا أنه لم يكن يدرك ذكاته فكان قتل الكلب أو السهم له ذكاة له, وإذا تراخى عن الطلب فجائز أن يكون لو طلبه في فوره أدرك ذكاته ثم لم يفعل حتى مات فإنه لا يؤكل, فإذا لم يترك الطلب وأدرك حياته تيقن أن قتل الكلب ليس بذكاة له فلا يجوز أكله, ألا

(2/403)


ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم: "وإن شاركه كلب آخر فلا تأكله فلعله أن يكون الثاني قتله" ؟ فحظر الشارع صلى الله عليه وسلم أكله حين جوز أن يكون قتله كلب آخر, فكذلك إذا جاز أن يكون مما كان يدرك ذكاته لو طلبه فلم يفعل وجب أن لا يؤكل, لتجويز هذا المعنى فيه.
فإن قيل: روى معاوية بن صالح عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير الحضرمي عن أبيه عن أبي ثعلبة عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يدرك صيده بعد ثلاث: " يأكله إلا أن ينتن" وروي في بعض الألفاظ: "إذا أدركت بعد ثلاث وسهمك فيه فكله ما لم ينتن" . قيل له: قد اتفق الجميع على رفض هذا الخبر, وترك استعماله من وجوه: أحدها: أن أحدا من الفقهاء لا يقول إنه إذا وجده بعد ثلاث يأكله. والثاني: أنه أباح له أكله ما لم ينتن, ولا اعتبار عند أحد بتغير الرائحة. والثالث: أن تغير الرائحة لا حكم له في سائر الأشياء وإنما الحكم يتعلق بالذكاة أو فقدها, فإن كان الصيد مذكى مع تراخي المدة فلا حكم للرائحة, وإن كان غير مذكى فلا حكم أيضا لعدم تغيره. وقد روى محمد بن إبراهيم التيمي عن عيسى بن طلحة عن عمير بن سلمة عن رجل من نهد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "مر بالروحاء, فإذا هو بحمار وحش عقير فيه سهم قد مات, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دعوه حتى يجيء صاحبه" فجاء النهدي فقال: يا رسول الله هي رميتي فكلوه فأمر أبا بكر أن يقسم بين الرفاق وهم محرمون". فمن الناس من يحتج بذلك في إباحة أكله إن تراخى عن طلبه لترك النبي صلى الله عليه وسلم مسألته عن ذلك, ولو كان ذلك يختلف حكمه لسأله; وليس في هذا دليل على ما ذكر, من قبل أنه جائز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم شاهد هذا الحمار على حال استدل بها على قرب وقت الجراحة من سيلان الدم وطراوته ومجيء الرامي عقبه, فعلم أنه لم يتراخ عن طلبه, فلذلك لم يسأله.
فإن قيل: روى هشيم عن أبي هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير عن عدي بن حاتم قال: قلت يا رسول الله إنا أهل صيد يرمي أحدنا الصيد فيغيب عنه الليلة والليلتين ثم يتبع أثره بعدما يصبح فيجد سهمه فيه؟ قال: "إذا وجدت سهمك فيه ولم تجد به أثر سبع وعلمت أن سهمك قتله فكله" . قيل له: هذا يوجب أن يكون لو أصابه بعد ليالي كثيرة أن يأكله إذا علم أن سهمه قتله, ولا نعلم ذلك قول أحد من أهل العلم; لأنه اعتبر العلم بأن سهمه قتله. وأيضا فإنه لا يحصل له العلم بأن سهمه قتله بعدما تراخى عن طلبه, وقد شرط صلى الله عليه وسلم حصول العلم بذلك, فإذا لم يعلم بذلك فواجب أن لا يأكله وهو لا يعلم إذا تراخى عن طلبه وطالت المدة أن سهمه قتله. ويدل على صحة قول أصحابنا ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا محمد بن عباد

(2/404)


قال: حدثنا محمد بن سليمان عن مشمول عن عمرو بن تميم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله إنا أهل بدو ونصيد بالكلاب المعلمة ونرمي الصيد, فما يحل لنا من ذلك وما يحرم علينا؟ قال: "إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فكل مما أمسك عليك أكل أو لم يأكل قتل أو لم يقتل, وإذا رميت الصيد فكل مما أصميت ولا تأكل مما أنميت" ; فحظر ما أنمى, وهو ما غاب عنه. وهو محمول على ما غاب عنه وتراخى عن طلبه; لأنه لا خلاف أنه إذا كان في طلبه أكل. فإن قيل: فقد أباح في هذا الحديث أكل ما أكل منه الكلب, وهو خلاف قولكم قيل له: قد عارضه حديث عدي بن حاتم, وقد تقدم الكلام فيه.
قوله تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} فإنه جائز أن يريد به اليوم الذي نزلت فيه الآية, ويجوز أن يريد به اليوم الذي تقدم ذكره في موضعين: أحدهما: قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ} والآخر قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} قيل: إنه يوم عرفة في عام حجة الوداع, وقيل: زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كله, على ما قدمنا من اختلاف السلف فيه. والطيبات ههنا يجوز أن يريد بها ما استطبناه واستلذذناه ما عدا ما بين تحريمه في هذه الآيات وفي غيرها, فيكون عموما في إباحة جميع المتلذذات إلا ما قام دليل حظره. ويحتمل أن يريد بالطيبات ما أباحه لنا من سائر الأشياء التي ذكر إباحتها في غير هذا الموضع.
وقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} . روي عن ابن عباس وأبي الدرداء والحسن ومجاهد وإبراهيم وقتادة والسدي: أنه ذبائحهم. وظاهره يقتضي ذلك; لأن ذبائحهم من طعامهم, ولو استعملنا اللفظ على عمومه لانتظم جميع طعامهم من الذبائح وغيرها. والأظهر أن يكون المراد الذبائح خاصة; لأن سائر طعامهم من الخبز والزيت وسائر الأدهان لا يختلف حكمها بمن يتولاه, ولا شبهة في ذلك على أحد, سواء كان المتولي لصنعه واتخاذه مجوسيا أو كتابيا, ولا خلاف فيه بين المسلمين. وما كان منه غير مذكى لا يختلف حكمه في إيجاب حظره بمن تولى إماتته من مسلم أو كتابي أو مجوسي; فلما خص الله تعالى طعام أهل الكتاب بالإباحة وجب أن يكون محمولا على الذبائح التي يختلف حكمها باختلاف الأديان.

(2/405)


مطلب: في أكله عليه السلام مكن الشاة التي أهدها إليه اليهودية من دون أن يسألها أهي ذبيحة مسلم أم يهودي وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أكل من الشاة المسمومة المشوية التي أهدتها إليه اليهودية ولم يسألها عن ذبيحتها أهي من ذبيحة المسلم أم اليهودي.

(2/405)


واختلف الفقهاء فيمن انتحل دين أهل الكتاب من العرب, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: من كان يهوديا أو نصرانيا من العرب والعجم فذبيحته مذكاة إذا سمى الله عليها. وإن سمى النصراني عليها باسم المسيح لم تؤكل, ولا فرق بين العرب والعجم في ذلك". وقال مالك: "ما ذبحوه لكنائسهم أكره أكله, وما سمي عليه باسم المسيح لا يؤكل والعرب والعجم فيه سواء". وقال الثوري: "إذا ذبح وأهل به لغير الله كرهته", وهو قول إبراهيم. وقال الثوري: وبلغني عن عطاء1 أنه قال: "قد أحل الله ما أهل به لغير الله; لأنه قد علم أنهم سيقولون هذا القول". وقال الأوزاعي: "إذا سمعته يرسل كلبه باسم المسيح أكل". وقال فيما ذبح أهل الكتابين لكنائسهم وأعيادهم: كان مكحول لا يرى به بأسا, ويقول: هذه كانت ذبائحهم قبل نزول القرآن ثم أحلها الله تعالى في كتابه; وهو قول الليث بن سعد. وقال الربيع عن الشافعي: "لا خير في ذبائح نصارى العرب من بني تغلب" قال: "ومن دان دين أهل الكتاب قبل نزول القرآن وخالف دين أهل الأوثان قبل نزول القرآن فهو خارج من أهل الأوثان وتقبل منه الجزية عربيا كان أو عجميا, ومن دخل عليه الإسلام ولم يدن بدين أهل الكتاب فلا يقبل منه إلا الإسلام أو السيف". قال أبو بكر: وقد روي عن جماعة من السلف القول في أهل الكتاب من العرب, لم يفرق أحد منهم فيه بين من دان بذلك قبل نزول القرآن أو بعده, ولا نعلم أحدا من السلف والخلف اعتبر فيهم ما اعتبره الشافعي في ذلك, فهو منفرد بهذه المقالة خارج بها عن أقاويل أهل العلم.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] قال: "كانت المرأة من الأنصار لا يعيش لها ولد فتحلف لئن عاش لها ولد لتهودنه, فلما أجليت بنو النضير إذا فيهم ناس من أبناء الأنصار فقالت الأنصار: يا رسول الله أبناؤنا فأنزل الله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ } ". قال سعيد: فمن شاء لحق بهم ومن شاء دخل الإسلام فلم يفرق فيما ذكر بين من دان باليهودية قبل نزول القرآن وبعده وروى عبادة بن نسي2 عن غضيف بن الحارث: أن عاملا لعمر بن الخطاب كتب إليه أن ناسا من السامرة يقرءون التوراة ويسبتون السبت ولا يؤمنون بالبعث, فما ترى؟ فكتب إليه عمر: "إنهم طائفة من أهل الكتاب". وروى محمد بن سيرين عن عبيدة قال: سألت عليا عن ذبائح نصارى العرب, فقال: "لا تحل ذبائحهم
ـــــــ
1 قوله: "بلغني عن عطاء إلى آخره" أخذ ذلك من عموم قوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} حيث لم يستثن. "لمصححه".
2 قوله: "نسي" بضم النون وفتح السين وتشديد الياء, "لمصححه".

(2/406)


فإنهم لم يتعلقوا من دينهم بشيء إلا بشرب الخمر". وروى عطاء بن السائب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كلوا من ذبائح بني تغلب وتزوجوا من نسائهم, فإن الله تعالى قال في كتابه: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51] فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية كانوا منهم ولم يفرق أحد من هؤلاء بين من دان بذلك قبل نزول القرآن وبعده, فهو إجماع منهم. ويدل على بطلان هذه المقالة من التفرقة بين من دان بدين أهل الكتاب قبل نزول القرآن أو بعده قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} [المائدة: 51], وذلك إنما يقع على المستقبل, فأخبر تعالى بعد نزول القرآن أن من يتولاهم من العرب فهو منهم, وذلك يقتضي أن يكون كتابيا; لأنهم أهل الكتاب, وأن تحل ذبائحهم, لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} .
ومن الناس من يزعم أن أهل الكتاب هم بنو إسرائيل الذين ينتحلون اليهودية والنصرانية دون من سواهم من العرب والعجم الذين دانوا بدينهم, ولم يفرقوا في ذلك بين من دان بذلك قبل نزول القرآن وبعده, ويحتجون في ذلك بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرائيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ} [الجاثية: 16], فأخبر أن الذين آتاهم الكتاب هم بنو إسرائيل; وبحديث عبيدة السلماني عن علي أنه قال: "لا تحل ذبائح نصارى العرب لأنهم لم يتعلقوا من دينهم بشيء إلا بشرب الخمر" أما الآية فلا دلالة فيها على قولهم; لأنه إنما أخبر أنه آتى بني إسرائيل الكتاب ولم ينف بذلك أن يكون من انتحل دينهم في حكمهم. وقد قال ابن عباس: تحل ذبائحهم, لقوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51], فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم وقول علي رضي الله عنه في ذلك وحظر ذبائح نصارى العرب ليس من جهة أنهم من غير بني إسرائيل, لكن من قبل أنهم غير متمسكين بأحكام تلك الشريعة; لأنه قال: إنهم لا يتعلقون من دينهم إلا بشرب الخمر, ولم يقل: لأنهم ليسوا من بني إسرائيل; فقول من قال إن أهل الكتاب لا يكونون إلا من بني إسرائيل وإن دانوا بدينهم قول ساقط مردود.
وروى هشام بن حسان عن محمد بن سيرين عن أبي عبيدة عن حذيفة عن عدي بن حاتم قال: أتينا النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا عدي بن حاتم أسلم تسلم" فقلت له: إن لي دينا, فقال: "أنا أعلم بدينك منك" قلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال: "نعم ألست ركوسيا؟" قال: قلت بلى قال: "ألست ترأس قومك؟" قال: قلت: بلى قال: " ألست تأخذ المرباع" ؟ قال: قلت: بلى قال: "فإن ذلك لا يحل لك في دينك" .

(2/407)


قال: فكأني رأيت أن علي بها غضاضة, وكأني تواضعت بها. وروى عبد السلام بن حرب عن غطيف بن أعين عن مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب ذهب فقال: "ألق هذا الوثن عنك" ثم قرأ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة: من الآية31] قال: قلت: يا رسول الله ما كنا نعبدهم قال: "أليس كانوا يحلون لكم ما حرم الله عز وجل فتحلونه ويحرمون عليكم ما أحل الله فتحرمونه؟" قال: "فتلك عبادتهم" وفي هذين الخبرين ضروب من الدلالة على ما ذكرنا, أحدها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نسب إلى متخذي الأحبار والرهبان أربابا وهم اليهود والنصارى, ولم ينف ذلك عنه من حيث كان عربيا, وقال في الحديث الأول: "ألست ركوسيا" وهم صنف من النصارى, فلم يخرجه عنهم بأخذهم المرباع, وهو ربع الغنيمة; وليس ذلك من دين النصارى; لأن في دينهم أن الغنائم لا تحل; فهذا يدل على أن ترك التمسك بما ينتحله المنتحلون للأديان لا يخرجهم من أن يكونوا من أهل تلك الشريعة وذلك الدين, ويدل على أن العرب وبني إسرائيل سواء فيما ينتحلون من دين أهل الكتاب وأنهم غير مختلفي الأحكام; ولما لم يسأله النبي صلى الله عليه وسلم عما انتحله من دين النصارى أكان قبل نزول القرآن أو بعده ونسبه إلى فرقة منهم من غير مسألة دل على أنه لا فرق بين من انتحل ذلك قبل نزول القرآن أو بعده; والله أعلم.

(2/408)


باب تزوج الكتابيات
قال الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} . قال أبو بكر: اختلف في المراد بالمحصنات ههنا, فروي عن الحسن والشعبي وإبراهيم والسدي: أنهم العفائف. وروي عن عمر ما يدل على أن المعنى عنده ذلك, وهو ما حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا محمد بن يزيد عن الصلت بن بهرام عن شقيق بن سلمة قال: تزوج حذيفة بيهودية, فكتب إليه عمر أن خل سبيلها, فكتب إليه حذيفة: أحرام هي؟ فكتب إليه عمر: لا, ولكني أخاف أن تواقعوا المومسات منهن; قال أبو عبيد: يعني العواهر. فهذا يدل على أن معنى الإحصان عنده ههنا كان على العفة. وقال مطرف عن الشعبي في قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} قال" إحصان اليهودية والنصرانية أن تغتسل من الجنابة وأن تحصن فرجها". وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: { والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} قال: "الحرائر".
قال أبو بكر: الاختلاف في نكاح الكتابية على أنحاء مختلفة, منها إباحة نكاح الحرائر منهن إذا كن ذميات, فهذا لا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار فيه إلا شيئا

(2/408)


يروى عن ابن عمر أنه كرهه; حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن نافع عن ابن عمر: أنه كان لا يرى بأسا بطعام أهل الكتاب ويكره نكاح نسائهم. قال جعفر: وحدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الله بن صالح عن الليث قال: حدثني نافع عن ابن عمر: أنه كان إذا سئل عن نكاح اليهودية والنصرانية قال: "إن الله حرم المشركات على المسلمين ولا أعلم من الشرك شيئا أعظم من أن تقول ربها عيسى ابن مريم وهو عبد من عبيد الله". قال أبو عبيد: وحدثني علي بن معبد عن أبي المليح عن ميمون بن مهران قال: قلت لابن عمر: إنا بأرض يخالطنا فيها أهل الكتاب, أفننكح نساءهم ونأكل من طعامهم؟ قال: فقرأ علي آية التحليل وآية التحريم, قال: قلت: إني أقرأ ما تقرأ أفننكح نساءهم ونأكل طعامهم؟ قال: فأعاد علي آية التحليل وآية التحريم. قال أبو بكر: يعني بآية التحليل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} , وبآية التحريم: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221], فلما رأى ابن عمر الآيتين في نظامهما تقتضي إحداهما التحليل والأخرى التحريم وقف فيه ولم يقطع بإباحته.
".

(2/409)


مطلب: واتفق جماعة من الصحابة على إباحة أهل الكتاب الذميات, مخالف في ذلك ابن عمر رضي الله تعالى عنه
واتفق جماعة من الصحابة على إباحة أهل الكتاب الذميات سوى ابن عمر, وجعلوا قوله: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] خاصا في غير أهل الكتاب. حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن حماد قال: سألت سعيد بن جبير عن نكاح اليهودية والنصرانية, قال: لا بأس, قال: قلت: فإن الله تعالى قال: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] قال: أهل الأوثان والمجوس. وقد روي عن عمر ما قدمنا ذكره. وروي أن عثمان بن عفان تزوج نائلة بنت الفرافصة1 الكلبية وهي نصرانية وتزوجها على نسائه; وروي عن طلحة بن عبيد الله أنه تزوج يهودية من أهل الشام. وتروى إباحة ذلك عن عامة التابعين; منهم الحسن وإبراهيم والشعبي في آخرين منهم.
ولا يخلو قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] من أحد معنيين:
ـــــــ
1 قوله: "الفرافصة" بفتح الفاء الأولى وكسر الفاء الثانية. قال ابن الأنباري: كل ما في العرب فرافضة بضم اللاقاء الأولى إلا فرافضة أبا نائلة امراو عثمان رضي الله عنه. "لمصححه

(2/409)


إما أن يكون إطلاقه مقتضيا لدخول الكتابيات فيه, أو مقصورا على عبدة الأوثان غير الكتابيات. فإن كان إطلاق اللفظ يتناول الجميع, فإن قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} يخصه, ويكون قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] مرتبا عليه; لأنه متى أمكننا استعمال الآيتين على معنى ترتيب العام على الخاص وجب استعمالهما ولم يجز لنا نسخ الخاص بالعام إلا بيقين, وإن كان قوله: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] إنما يتناول إطلاقه عبدة الأوثان على ما بيناه في غير هذا الموضع; فقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} ثابت الحكم; إذ ليس في القرآن ما يوجب نسخه.
فإن قيل: قوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} إنما المراد به اللاتي كن كتابيات فأسلمن, كما قال تعالى في آية أخرى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ} [آل عمران: 199], وقوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [آل عمران:113] والمراد من كان من أهل الكتاب فأسلم; كذلك قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} المراد به من كان من أهل الكتاب فأسلم. قيل له: هذا غلط من وجوه: أحدها: أن إطلاق لفظ أهل الكتاب ينصرف إلى الطائفتين من اليهود والنصارى دون المسلمين ودون سائر الكفار, ولا يطلق أحد على المسلمين أنهم أهل الكتاب كما لا يطلق عليهم أنهم يهود أو نصارى, والله تعالى حين قال: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ} [آل عمران: 199] فإنه لم يطلق الاسم عليهم إلا مقيدا بذكر الإيمان عقيبه, وكذلك قال: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113] فذكر إيمانهم بعد وصفهم أنهم أهل الكتاب; ولست واجدا في شيء من القرآن إطلاق أهل الكتاب من غير تقييد إلا وهو يريد به اليهود والنصارى. والثاني: أنه قد ذكر المؤمنات في قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ} فانتظم ذلك سائر المؤمنات ممن كن مشركات أوكتابيات فأسلمن وممن نشأ منهن على الإسلام, فغير جائز أن يعطف عليه مؤمنات كن كتابيات, فوجب أن يكون قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} على الكتابيات اللاتي لم يسلمن. وأيضا فإن ساغ التأويل الذي ادعاه من خالف في ذلك, فغير جائز لنا الانصراف عن الظاهر إلى غيره إلا بدلالة, وليس معنا دلالة توجب صرفه عن الظاهر. وأيضا فلو حمل على ذلك لزالت فائدته; إذ كانت مؤمنة وقد تقدم في الآية ذكر المومنات. وأيضا لما كان معلوما أنه لم يرد بقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ

(2/410)


حِلٌّ لَكُمْ} طعام المؤمنين الذين كانوا من أهل الكتاب, وأن المراد به اليهود والنصارى, كذلك قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} هو على الكتابيات دون المؤمنات.
ويحتج للقائلين بتحريمهن بقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] قيل له: إنما ذلك في الحربية إذا خرج زوجها مسلما أو الحربي تخرج امرأته مسلمة, ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] وأيضا فلو كان عموما لخصه قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} .
وقد اختلف في نكاح الكتابيات من وجه آخر, فقال ابن عباس: "لا تحل نساء أهل الكتاب إذا كانوا حربا" وتلا هذه الآية: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29] إلى قوله {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] قال الحكم: حدثت بذلك إبراهيم فأعجبه. ولم يفرق غيره ممن ذكرنا قوله من الصحابة بين الحربيات والذميات, وظاهر الآية يقتضي جواز نكاح الجميع لشمول الاسم لهن. قال أبو بكر: ومما يحتج به لقول ابن عباس قوله تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] والنكاح يوجب المودة بقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21], فينبغي أن يكون نكاح الحربيات محظورا; لأن قوله تعالى: {يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] إنما يقع على أهل الحرب; لأنهم في حد غير حدنا; وهذا عندنا إنما يدل على الكراهة, وأصحابنا يكرهون مناكحات أهل الحرب من أهل الكتاب.
وقد اختلف السلف في نكاح المرأة من بني تغلب, فروي عن علي أنه لا يجوز; لأنهم لم يتعلقوا من النصرانية إلا بشرب الخمر; وهو قول إبراهيم وجابر بن زيد. وقال ابن عباس: "لا بأس بذلك; لأنهم لو لم يكونوا منهم إلا بالولاية لكانوا منهم". واختلف أيضا في نكاح الأمة الكتابية, وقد ذكرنا اختلاف الفقهاء فيه في سورة النساء. ومن تأول قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} على الحرائر جعل الإباحة مقصورة على نكاح الحرائر من الكتابيات, ومن تأوله على العفة أباح نكاح الإماء الكتابيات.
واختلف في المجوس فقال جل السلف وأكثر الفقهاء: "ليسوا أهل الكتاب". وقال آخرون: "هم أهل الكتاب". والقائلون بذلك شواذ; والدليل على أنهم ليسوا أهل الكتاب قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَنْ تَقُولُوا

(2/411)


إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام:155] فأخبر تعالى أن أهل الكتاب طائفتان, فلو كان المجوس أهل الكتاب لكانوا ثلاث طوائف, ألا ترى أن من قال: إنما لي على فلان جبتان, لم يكن له أن يدعي أكثر منه؟ وقول القائل: إنما لقيت اليوم رجلين, ينفي أن يكون قد لقي أكثر منهما؟ فإن قيل: إنما حكى الله ذلك عن المشركين, وجائز أن يكونوا قد غلطوا. قيل له: إن الله لم يحك هذا القول عن المشركين, ولكنه قطع بذلك عذرهم لئلا يقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإنا كنا عن دراستهم لغافلين; فهذا إنما هو قول الله واحتجاج منه على المشركين في قطع عذرهم بالقرآن. وأيضا فإن المجوس لا ينتحلون شيئا من كتب الله المنزلة على أنبيائه, وإنما يقرءون كتاب زرادشت وكان متنبيا كذابا, فليسوا إذا أهل كتاب.
ويدل على أنهم ليسوا أهل كتاب حديث يحيى بن سعيد عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال عمر: ما أدري كيف أصنع بالمجوس وليسوا أهل كتاب فقال عبد الرحمن بن عوف: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" . فصرح عمر بأنهم ليسوا أهل كتاب, ولم يخالفه عبد الرحمن ولا غيره من الصحابة. وروى عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" ; فلو كانوا أهل الكتاب لما قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" ولقال هم من أهل الكتاب. وفي حديث آخر أنه أخذ الجزية من مجوس هجر وقال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب".
فإن قيل: إن لم يكونوا أهل كتاب فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حكمهم حكم أهل الكتاب بقوله: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" . قيل له: إنما قال ذلك في الجزية خاصة, وقد روي ذلك في غير هذا الخبر. وروى سفيان عن قيس بن مسلم عن الحسن بن محمد قال: كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى مجوس هجر يدعوهم إلى الإسلام, قال: "فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا, ومن أبى فعليه الجزية غير أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم" . وقد روي النهي عن صيد المجوس عن علي وعبد الله وجابر بن عبد الله والحسن وسعيد بن المسيب وأبي رافع وعكرمة, وهذا يوجب أن لا يكونوا عندهم أهل كتاب. ويدل على أنهم ليسوا أهل كتاب أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحب الروم: "يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم" , وكتب إلى كسرى ولم ينسبه إلى كتاب. وروي في قوله تعالى: {الم غُلِبَتِ الرُّومُ} [الروم:2] أن المسلمين أحبوا غلبة الروم لأنهم أهل كتاب وأحبت قريش غلبة فارس لأنهم جميعا ليسوا بأهل كتاب, فخاطرهم أبو بكر رضي الله عنه والقصة في ذلك مشهورة. وأما من قال: إنهم كانوا أهل كتاب ثم ذهب منهم بعد ذلك ويجعلهم من أجل ذلك من أهل الكتاب, فإن هذا لا يصح ولا يعلم ثبوته, وإن ثبت أوجب أن لا

(2/412)


يكونوا من أهل الكتاب لأن الكتاب قد ذهب منهم وهم الآن غير منتحلين لشيء من كتب الله تعالى.

(2/413)


مطلب: في الكلام على الصائبة وبيان نحلتهم
وقد اختلف في الصابئين هم من أهل الكتاب أم لا؟ فروي عن أبي حنيفة أنهم أهل كتاب. وقال أبو يوسف ومحمد: ليسوا أهل كتاب. وكان أبو الحسن الكرخي يقول: الصابئون الذين هم عندهم من أهل الكتاب قوم ينتحلون دين المسيح ويقرءون الإنجيل, فأما الصابئون الذين يعبدون الكواكب وهم الذين بناحية حران فإنهم ليسوا بأهل كتاب عندهم جميعا. قال أبو بكر: الصابئون الذين يعرفون بهذا الاسم في هذا الوقت ليس فيهم أهل كتاب وانتحالهم في الأصل واحد, أعني الذين بناحية حران والذين بناحية البطائح في سواد واسط; وأصل اعتقادهم تعظيم الكواكب السبعة وعبادتها واتخاذها آلهة وهم عبدة الأوثان في الأصل إلا أنهم منذ ظهر الفرس على إقليم العراق وأزالوا مملكة الصابئين وكانوا نبطا لم يجسروا على عبادة الأوثان ظاهرا لأنهم منعوهم من ذلك. وكذلك الروم وأهل الشام والجزيرة كانوا صابئين, فلما تنصر قسطنطين حملهم بالسيف على الدخول في النصرانية, فبطلت عبادة الأوثان من ذلك الوقت ودخلوا في غمار النصارى في الظاهر وبقي كثير منهم على تلك النحلة مستخفين بعبادة الأوثان, فلما ظهر الإسلام دخلوا في جملة النصارى ولم يميز المسلمون بينهم وبين النصارى; إذ كانوا مستخفين بعبادة الأوثان كاتمين لأصل الاعتقاد وهم أكتم الناس لاعتقادهم, ولهم أمور وحيل في صبيانهم إذا عقلوا في كتمان دينهم, وعنهم أخذت الإسماعيلية كتمان المذهب, وإلى مذهبهم انتهت دعوتهم. وأصل الجميع اتخاذ الكواكب السبعة آلهة وعبادتها واتخاذها أصناما على أسمائها لا خلاف بينهم في ذلك, وإنما الخلاف بين الذين بناحية حران وبين الذين بناحية البطائح في شيء من شرائعهم; وليس فيهم أهل كتاب. فالذي يغلب في ظني في قول أبي حنيفة في الصابئين أنه شاهد قوما منهم أنهم يظهرون أنهم من النصارى وأنهم يقرءون الإنجيل ولا ينتحلون دين المسيح تقية; لأن كثيرا من الفقهاء لا يرون إقرار معتقدي مقالهم بالجزية ولا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف; ومن كان اعتقاده من الصابئين ما وصفنا فلا خلاف بين الفقهاء أنهم ليسوا أهل كتاب وأنه لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم.

(2/413)


باب الطهارة للصلاة
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية.

(2/413)


مطلب: كان عليه السلام مأمورا بالوضوء عند كل صلا ثم وضع عنه الوضوء إلا من حدث
وقد حدثنا من لا أتهم قال: حدثنا أبو مسلم الكرخي قال: حدثنا أبو عاصم عن سفيان عن علقمة بن مرثد عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة خمس صلوات بوضوء واحد ومسح على خفيه, فقال له عمر: يا رسول الله صنعت شيئا لم تكن تصنعه قال: "عمدا فعلته" . وحدثنا من لا أتهم قال: حدثنا محمد بن يحيى الذهلي قال: حدثنا أحمد بن خالد الوهبي قال: حدثنا محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن عبد الله بن عبد الله بن عمر قال: قلت له:

(2/414)


أرأيت وضوء عبد الله بن عمر لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر عمن هو؟ قال حدثتنيه أسماء بنت زيد بن الخطاب: أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيل حدثها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أمر بالوضوء عند كل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر, فلما شق ذلك على رسول الله أمر بالسواك عند كل صلاة ووضع عنه الوضوء إلا من حدث, فكان عبد الله يرى أن به قوة على ذلك ففعله حتى مات.
فقد دل الحديث الأول على أن القيام إلى الصلاة غير موجب للطهارة; إذ لم يجدد النبي صلى الله عليه وسلم لكل صلاة طهارة, فثبت بذلك أن فيه ضميرا به يتعلق بإيجاب الطهارة. وبين في الحديث الثاني أن الضمير هو الحدث لقوله: ووضع عنه الوضوء إلا من حدث. ويدل على أن الضمير فيه هو الحدث ما روى سفيان الثوري عن جابر عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن علقمة عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراق ماء نكلمه فلا يكلمنا ونسلم عليه فلا يكلمنا حتى يأتي أهله فيتوضأ وضوءه للصلاة, فقلنا له في ذلك حين نزلت آية الرخصة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية, فأخبر أن الآية نزلت في إيجاب الوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة. وحدثنا من لا أتهم في الرواية قال: أخبرنا محمد بن علي بن زيد أن سعيد بن منصور حدثهم قال: حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال: أخبرنا أيوب عن عبد الله بن أبي مليكة عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء, فقدم إليه الطعام, فقالوا: ألا نأتيك بوضوء؟ قال: "إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة" . قال أبو بكر: سألوه عن الوضوء من الحدث عند الطعام فأخبر أنه أمر بالوضوء من الحدث عند القيام إلى الصلاة. وروى أبو معشر المدني عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرت في كل صلاة بوضوء ومع كل وضوء بسواك" ; وهذا يدل على أن الآية لم تقتض إيجاب الوضوء لكل صلاة من وجهين: أحدهما: أن الآية لو أوجبت ذلك لما قال: "لأمرت في كل صلاة بوضوء" والثاني: إخباره بأنه لو أمر به لكان واجبا بأمره دون الآية. وروى مالك بن أنس عن زيد بن أسلم: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} قال: إذا قمتم من المضجع يعني النوم وقد كان رد السلام محظورا إلا بطهارة. وروى قتادة عن الحسن عن حصين أبي ساسان عن المهاجر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ, فسلمت عليه, فلما فرغ من وضوئه قال: "ما منعني أن أرد عليك السلام إلا أني كنت على غير وضوء". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن شاذان قال: حدثنا معلى بن منصور قال: أخبرني محمد بن ثابت العبدي قال: حدثنا نافع قال: انطلقت مع ابن عمر في

(2/415)


حاجة إلى ابن عباس, فلما قضى حاجته من ابن عباس كان من حديثه يومئذ قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في سكة من سكك المدينة وقد خرج من غائط أو بول, فخرج عليه رجل فسلم عليه, فلم يرد عليه, ثم إن النبي ضرب بكفيه على الحائط ثم مسح وجهه ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه إلى المرفقين, ثم رد على الرجل السلام وقال: "لم يمنعني أن أرد عليك إلا أني لم أكن على وضوء أو قال: على طهارة" . فهذا يدل على أن رد السلام كان مشروطا فيه الطهارة, وجائز أن يكون ذلك كان خاصا للنبي صلى الله عليه وسلم; لأنه لم يرو أنه نهى عن رد السلام إلا على طهارة. ويدل على أن ذلك كان على الوجوب أنه تيمم حين خاف فوت الرد; لأن رد السلام إنما يكون على الحال, فإذا تراخى فات, فكان بمنزلة من خاف فوت صلاة العيد أو صلاة الجنازة إن توضأ فيجوز له التيمم. وجائز أن يكون قد نسخ ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم, ويجوز أن يكون هذا الحكم قد كان باقيا إلى أن قبضه الله تعالى. وقد روي عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أنهم كانوا يتوضئون لكل صلاة; وهذا محمول على أنهم فعلوه استحبابا وقال سعد: إذا توضأت فصل بوضوئك ما لم تحدث. وقد روى ابن أبي ذئب عن شعبة مولى ابن عباس أن عبيد بن عمير كان يتوضأ لكل صلاة ويتأول قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} فأنكر ذلك عليه ابن عباس.
وقد روي نفي إيجاب الوضوء لكل صلاة من غير حدث عن ابن عمر وأبي موسى وجابر بن عبد الله وعبيدة السلماني وأبي العالية وسعيد بن المسيب وإبراهيم والحسن; ولا خلاف بين الفقهاء في ذلك.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار في فضيلة تجديد الوضوء, منها ما حدثنا من لا أتهم قال: حدثنا محمد بن زيد قال: حدثنا سعيد قال: حدثنا سلام الطويل عن زيد العمي عن معاوية بن قرة عن ابن عمر قال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فتوضأ مرة مرة وقال: "هذا وظيفة الوضوء وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به " ثم تحدث ساعة, ثم دعا بماء فتوضأ مرتين مرتين فقال: " هذا وضوء من توضأ به ضاعف الله له الأجر مرتين" , ثم تحدث ساعة, ثم دعا بماء فتوضأ ثلاثا ثلاثا فقال: "هذا وضوئي ووضوء النبيين من قبلي" . وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الوضوء على الوضوء نور على نور" . وقال صلى الله عليه وسلم: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالوضوء عند كل صلاة". فهذا كله يدل على استحباب الوضوء عند كل صلاة وإن لم يكن محدثا; وعلى هذا يحمل ما روي عن السلف من تجديد الوضوء عند كل صلاة; وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه توضأ ومسح على نعليه وقال: هذا وضوء من لم يحدث ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم فثبت بما قدمنا أن قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} غير موجب للوضوء لكل صلاة, وثبت أنه غير مستعمل على

(2/416)


حقيقته وأن فيه ضميرا به تعلق إيجاب الطهارة وأنه بمنزلة المجمل المفتقر إلى البيان لا يصح الاحتجاج بعمومه إلا فيما قام دليل مراده.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار متواترة في إيجاب الوضوء من النوم, وهذا يدل على أن القيام إلى الصلاة غير موجب للوضوء لأنه إذا وجب من النوم لم يكن القيام إلى الصلاة بعد ذلك موجبا, ألا ترى أنه إذا وجب من النوم لم يجب عليه بعد ذلك من حدث آخر وضوء آخر إذا لم يكن توضأ من النوم؟ فلو كان القيام إلى الصلاة موجبا للوضوء لما وجب من النوم عند إرادة القيام إليها, كالسببين إذا كان كل واحد منهما موجبا للوضوء ثم وجب من الأول لم يجب من الثاني; وهذا يدل على أن من النوم هو الضمير الذي في الآية, فكان تقديره: إذا قمتم من النوم على ما روي عن زيد بن أسلم. ويدل على أن النوم الموجب للوضوء هو النوم المعتاد الذي يجوز أن يقال فيه إنه قام من النوم, ومن نام قاعدا أو ساجدا أو راكعا لا يقال: إنه قام من النوم وإنما يطلق ذلك في نوم المضطجع, ومن قال: إن النوم ليس بحدث وإنما وجب به الطهارة لغلبة الحال في وجود الحدث فيه فإن الآية دالة على وجوب الطهارة من الريح, وإذا كان المعنى على ما وصفنا فيكون حينئذ في مضمون الآية إيجاب الوضوء من النوم ومن الريح, وقد أريد به أيضا إيجاب الوضوء من الغائط والبول وذلك من ضمير الآية; لأنه مذكور في قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} والغائط هو المطمئن من الأرض, وكانوا يأتونه لقضاء حوائجهم فيه, وذلك يشتمل على وجوب الوضوء من الغائط والبول وسلس البول والمذي ودم الاستحاضة وسائر ما يستتر الإنسان عند وجوده عن الناس; لأنهم كانوا يأتون الغائط للاستتار عن الناس وإخفاء ما يكون منهم, وذلك لا يختلف باختلاف الأشياء الخارجة من البدن التي في العادة يسترها عن الناس من سلس البول والمذي ودم الاستحاضة; فدل ذلك على أن هذه الأشياء كلها أحداث يشتمل عليها ضمير الآية.
وقد اتفق السلف وسائر فقهاء الأمصار على نفي إيجاب الوضوء على من نام قاعدا غير مستند إلى شيء; روى عطاء عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر صلاة العشاء ذات ليلة حتى نام الناس ثم استيقظوا, فجاءه عمر فقال: الصلاة يا رسول الله فخرج وصلى; ولم يذكر أنهم توضئوا. وروي عن أنس قال: كنا نجيء إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ننتظر الصلاة فمنا من نعس ومنا من نام ولا نعيد وضوءا. وروى نافع عن ابن عمر قال: لا يجب عليه الوضوء حتى يضع جنبه وينام. وقد ذكرنا اختلاف الفقهاء في غير هذا الموضع. وروى أبو يوسف عن محمد بن عبد الله عن عطاء عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي ولا يتوضأ, فسئل عن ذلك فقال: "إني لست كأحدكم

(2/417)


إنه تنام عيناي ولا ينام قلبي لو أحدثت لعلمته" وهذا الحديث يدل على أن النوم في نفسه ليس بحدث, وأن إيجاب الوضوء فيه إنما هو لما عسى أن يكون فيه من الحدث الذي لا يشعر به وهو الغالب من حال النائم. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العين وكاء السه فإذا نامت العين استطلق الوكاء" ; فلما كان الأغلب في النوم الذي يستثقل فيه النائم وجود الحدث فيه, حكم له بحكم الحدث, وهذا إنما هو في النوم المعتاد الذي يضع النائم جنبه على الأرض ويكون في المضطجع من غير علم منه بما يكون منه, فإذا كان جالسا أو على حال من أحوال الصلاة لغير ضرورة مثل القيام والركوع والسجود لم تنتقض طهارته; لأن هذه أحوال يكون الإنسان فيها متحفظا, وإن كان منه حدث علم به. وقد روى يزيد بن عبد الرحمن عن قتادة عن أبي العالية عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس على من نام ساجدا وضوء حتى يضطجع فإذا اضطجع استرخت مفاصله" .

(2/418)


فصل
قال أبو بكر: قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} لما كان ضميره ما وصفنا من القيام من النوم أو إرادة القيام إليها في حال الحدث, فأوجب ذلك تقديم الطهارة من الإحداث للصلاة, وكانت الصلاة اسما للجنس يتناول سائرها من المفروضات والنوافل, اقتضى ذلك أن تكون من شرائط صحة الصلاة الطهارة أي صلاة كانت; إذ لم تفرق الآية بين شيء منها, وقد أكد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: " لا يقبل الله صلاة بغير طهور" .
قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} يقتضي إيجاب الغسل والغسل اسم لإمرار الماء على الموضع إذا لم تكن هناك نجاسة, وإذا كان هناك نجاسة فغسلها إزالتها بإمرار الماء أو ما يقوم مقامه فقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إنما المقصد فيه إمرار الماء على الموضع; إذ ليس هناك نجاسة مشروط إزالتها, فإذا ليس عليه دلك الموضع بيده وإنما عليه إمرار الماء حتى يجري على الموضع. وقد اختلف في ذلك على ثلاثة أوجه: فقال مالك بن أنس: عليه إمرار الماء ودلك الموضع بيده وإلا لم يكن غسلا. وقال آخرون وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء: عليه إجراء الماء عليه وليس عليه دلكه بيده. وروى هشام عن أبي يوسف: أنه إن مسح الموضع بالماء كما يمسح بالدهن أجزأه. والدليل على بطلان قول موجب دلك الموضع أن اسم الغسل يقع على إجراء الماء على الموضع من غير دلك, والدليل على ذلك أنه لو كان على بدنه نجاسة فوالى بين صب الماء عليه حتى أزالها بذلك غاسلا وإن لم يدلكه بيده, فلما كان الاسم يقع عليه مع عدم الدلك لأجل إمرار الماء عليه, وقال الله تعالى: {فَاغْسِلُوا} فهو متى أجرى الماء على الموضع فقد فعل مقتضى الآية وموجبها; فمن شرط فيه دلك الموضع

(2/418)


بيده فقد زاد فيه ما ليس منه, وغير جائز الزيادة في النص إلا بمثل ما يجوز به النسخ. وأيضا فإنه لما لم يكن هناك شيء يزال بالدلك لم يكن لدلك الموضع وإمساسه بيده فائدة ولا حكم, فلم يختلف حكمه إذا دلكه بيده أو أمر الماء عليه من غير دلك. وأيضا فليس لدلك الموضع بيده حكم في الطهارة في سائر الأصول فوجب أن لا يتعلق به فيما اختلف فيه.
فإن قال قائل: إذا لم يكن الغسل مأمورا به لإزالة شيء هناك علمنا أنه عبادة فمن حيث شرط فيه إمرار الماء وجب أن يكون دلكه بيده شرطا وإلا فلا معنى لإمرار الماء وإجرائه عليه. قيل له: قد ثبت في الأصول لإمرار الماء على الموضع حكم في غسل النجاسات ولم يثبت لدلك الموضع حكم بل حكمه ساقط في إزالة الأنجاس; لأنه لو كان له حكم لكان اعتبار الدلك فيها أولى, فوجب أن يكون كذلك حكمه في طهارة الحدث.
وأما من أجاز مسح هذه الأعضاء المأمور بغسلها فإن قوله مخالف لظاهر الآية; لأن الله تعالى شرط في بعض الأعضاء الغسل وفي بعضها المسح, فما أمر بغسله لا يجزي فيه المسح لأن الغسل يقتضي إمرار الماء على الموضع وإجراءه عليه, ومتى لم يفعل ذلك لم يسم غاسلا, والمسح لا يقتضي ذلك وإنما يقتضي مباشرته بالماء دون إمراره عليه, فغير جائز ترك الغسل إلى المسح. ولو كان المراد بالغسل هو المسح لبطلت فائدة التفرقة بينهما في الآية, وفي وجوب إثبات التفرقة بينهما ما يوجب أن يكون المسح غير الغسل, فمتى مسح ولم يغسل فلا يجزيه لأنه لم يفعل المأمور به. ويدل على ذلك أنه ليس عليه في مسح الرأس في الوضوء إبلاغ الماء إلى أصول الشعر وإنما عليه مسح الظاهر منه, وعليه في غسل الجنابة إبلاغ الماء أصول الشعر; فلو كان المسح والغسل واحدا لأجزى في غسل الجنابة مسحه كما يجزي في الوضوء, وفي ذلك دليل على أن ما شرط فيه الغسل لا ينوب عنه المسح. فإن قيل: إذا لم تكن هناك نجاسة تزال بالغسل فالمقصد فيه مباشرة الموضع بالماء فلا فرق بين الغسل والمسح فيه. قيل له: هذا يدل على صحة ما ذكرنا وذلك لأنه لما لم تكن هناك نجاسة من أجلها يجب الغسل فكان وجوب الغسل عبادة, ثم فرق الله تعالى في الآية بين الغسل والمسح, فعلينا اتباع الأمر على حسب مقتضاه وموجبه وغير جائز لنا ترك الغسل إلى غيره, والعبادة علينا في الغسل في الأعضاء المأمور بها كهي علينا في مسح العضو المأمور به, فلم يجز استعمال النظر في ترك حكم اللفظ إلى غيره. فإن قيل: لو بقيت لمعة في ذراعه فمسحها جاز, وهذا يدل على جواز مسح الجميع كما جاز مسح البعض. قيل له: هذا غلط; لأن اللمعة

(2/419)


إذا اتصلت صارت في حكم المغسول وأما إذا لم تتصل فلا يجوز بالإجماع, ففي ذلك دلالة على أن المسح لا ينوب مناب الغسل. وقيل له: لو لزمنا هذا الوضوء للزمك في غسل الجنابة مثله. والله أعلم.

(2/420)


باب الوضوء بغير نية
قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} يقتضي جواز الصلاة بوجود الغسل سواء قارنته النية أو لم تقارنه وذلك لأن الغسل اسم شرعي مفهوم المعنى في اللغة, وهو إمرار الماء على الموضع, وليس هو عبارة عن النية. فمن شرط فيه النية فهو زائد في النص, وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه يوجب نسخ الآية; لأن الآية قد أباحت فعل الصلاة بوجود الغسل للطهارة من غير شرط النية, فمن حظر الصلاة ومنعها إلا مع وجود نية الغسل فقد أوجب نسخها, وذلك لا يجوز إلا بنص مثله. والوجه الآخر: أن النص له حكمه ولا يجوز أن يلحق به ما ليس منه, كما لا يجوز أن يسقط منه ما هو منه. فإن قيل: فقد شرطت في صحة الصلاة النية مع عدم ذكرها في اللفظ قيل له: إنما جاز ذلك فيها من وجهين: أحدهما: أن الصلاة اسم مجمل مفتقر إلى البيان غير موجب للحكم بنفسه إلا ببيان يرد فيه, وقد ورد فيه البيان بإيجاب النية فلذلك أوجبناها; وليس كذلك الوضوء لأنه اسم شرعي ظاهر المعنى بين المراد, فمهما ألحقنا به ما ليس في اللفظ عبارة عنه فهو زيادة في النص ولا يجوز ذلك إلا بنص مثله. والوجه الآخر: اتفاق الجميع على إيجاب النية فيها, فلو كان اسم الصلاة عموما ليس بمجمل لجاز إلحاق النية بها بالاتفاق, فهي إذا كانت مجملا أجري بإثبات النية فيها من جهة الإجماع.

(2/420)


ذكر اختلاف الفقهاء في فرض النية
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: "كل طهارة بماء تجوز بغير نية ولا يجزي التيمم إلا بنية", وهو قول الثوري. وقال الأوزاعي: "يجزي الوضوء بغير نية" ولم تحفظ عنه في التيمم. وقال مالك والليث والشافعي: "لا يجزي الوضوء ولا الغسل إلا بالنية, وكذلك التيمم". وقال الحسن بن صالح: "يجزي الوضوء والتيمم جميعا بغير نية", قال أبو جعفر الطحاوي: ولم نجد هذا القول في التيمم عن غيره. قال أبو بكر: قد قدمنا ذكر دلالة الآية على جواز الوضوء بغير نية, وقوله تعالى: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] دال على جواز الاغتسال من الجنابة بغير نية, كذلك قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} على النحو الذي بينا. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً}

(2/420)


مطلب: الإخلاص ضد الإشراك
وأيضا فإن كل من اعتقد الإسلام فهو مخلص لله تعالى فيما يفعله من العبادات; إذ لم يشرك في النية بين الله وبين غيره; لأن ضد الإخلاص هو الإشراك, فمتى لم يشرك فهو مخلص بنفس اعتقاد الإيمان في جميع ما يفعله من العبادات ما لم يشرك غيره فيه.
واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الأعمال بالنيات" وهذا لا يصح الاحتجاج به في موضع الخلاف, من قبل أن حقيقة اللفظ تقتضي كون العمل موقوفا على النية والعمل موجود مع فقد النية, فعلمنا أنه لم يرد به حقيقة اللفظ وإنما أراد معنى مضمرا فيه غير مذكور; فالمحتج بعموم الخبر في ذلك مغفل. فإن قيل: مراده حكم العمل. قيل له: الحكم غير مذكور, فالاحتجاج بعمومه ساقط. فإن ترك الاحتجاج بظاهر اللفظ وقال: لما لم يجز أن يخلو كلام النبي صلى الله عليه وسلم من فائدة, وقد علمنا أنه لم يرد نفس العمل, وجب أن يكون مراده حكم العمل. قيل له: يحتمل أن يريد به فضيلة العمل لا حكمه, وإذا احتمل الأمرين احتيج إلى دلالة من غيره في إثبات المراد وسقط الاحتجاج به. فإن قيل: هو على الأمرين. قيل له: هذا خطأ; لأن الضمير المحتمل للمعنيين غير ملفوظ به فيقال هو عليهما, وإنما يقال ذلك فيما هو ملفوظ به وفيه احتمال للمعاني فيقال عمومه شامل للجميع, فأما ما ليس بمذكور وهو ضمير ليس اللفظ عبارة عنه فقول القائل أحمله على العموم خطأ. وأيضا فغير جائز إرادة الأمرين; لأنه إن أريد به فضيلة العمل صار بمنزلة قوله لا فضيلة للعمل إلا بالنية, وذلك يقتضي إثبات حكم العمل حتى يصح نفي فضيلته لأجل عدم النية, ومتى أراد به حكم العمل لم يجز أن يريد به الفضيلة والأصل منتف, فغير جائز أن يزادا جميعا بلفظ واحد; إذ غير جائز أن يكون لفظ واحد لنفي الأصل ونفي الكمال; وأيضا غير جائز أن يزاد في حكم القرآن بخبر الآحاد على ما بينا, وهذا من أخبار الآحاد.

(2/424)


فصل
قوله عز وجل: {وُجُوهَكُمْ} قال أبو بكر: قد قيل فيه: إن حد الوجه من قصاص الشعر إلى أصل الذقن إلى شحمة الأذن, حكى ذلك أبو الحسن الكرخي عن أبي سعيد البردعي; ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في هذا المعنى. وكذلك يقتضي ظاهر الاسم; إذ كان إنما سمي وجها لظهوره ولأنه يواجه الشيء ويقابل به; وهذا الذي ذكرناه من تحديد الوجه هو الذي يواجه الإنسان ويقابله من غيره. فإن قيل: فينبغي أن يكون الأذنان من الوجه لهذا المعنى. قيل له: لا يجب ذلك; لأن الأذنين تستران بالعمامة والقلنسوة

(2/424)


ونحوهما كما يستر صدره, وإن كان متى ظهر كان مواجها لمن يقابله. وهذا الذي ذكرنا من معنى الوجه يدل على أن المضمضة والاستنشاق غير واجبين بالآية; إذ ليس داخل الأنف والفم من الوجه; إذ هما غير مواجهين لمن قابلهما. وإذا لم تقتض الآية إيجاب غسلهما وإنما اقتضت غسل ما واجهنا وقابلنا منه فمن قال بإيجاب المضمضة والاستنشاق فهو زائد في حكم الفرض ما ليس منه, وهذا غير جائز لأنه يوجب نسخه.
فإن قيل: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما" وقوله صلى الله عليه وسلم حين توضأ مرة مرة: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" يوجب فرض المضمضة والاستنشاق. قيل له: أما الحديث الذي فيه أنه توضأ مرة مرة ثم قال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به", فإنه لم يذكر فيه أنه تمضمض فيه واستنشق, وإنما ذكر فيه الوضوء فحسب, والوضوء هو غسل الأعضاء المذكورة في كتاب الله تعالى, وجائز أن لا يكون تمضمض واستنشق في ذلك الوضوء لأنه قصد به توقيفهم على المفروض الذي لا يجزي غيره; فإذا لا دلالة في هذا الخبر على ما قال هذا القائل, ولو ثبت أنه تمضمض واستنشق لم يجز أن يزاد في حكم الآية. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "بالغ في المضمضة والاستنشاق إلا أن تكون صائما" لا يجوز الاعتراض به على الآية في إثبات الزيادة; لأنه غير جائز أن يزاد في حكم القرآن بخبر الواحد. وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أبو ميسرة محمد بن الحسن بن العلاء قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا يحيى بن ميمون بن عطاء قال: حدثنا ابن جريج عن عطاء قال: سئلت عائشة عن وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء فيه ماء فتوضأ وكفأ على يديه مرة وغسل وجهه مرة وغسل ذراعيه مرة ومسح برأسه مرة وغسل قدميه مرة, وقال: "هذا الوضوء الذي افترض الله علينا" , ثم أعاد ذلك فقال: "من ضاعف ضاعف الله له" , ثم أعاد الثالثة فقال: " هذا وضوءنا معشر الأنبياء, فمن زاد فقد أساء" . فأخبرت بوضوئه من غير مضمضة ولا استنشاق; لأنه قصد بيان المفروض منه, ولو كان فرضا فيه لفعله.

(2/425)


باب غسل اللحية وتخليلها
قال الله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وقد بينا أن الوجه ما واجهك من الإنسان, فاحتمل أن تكون اللحية من الوجه لأنها تواجه المقابل له غير مغطاة في الأكثر كسائر الوجه; وقد يقال أيضا: خرج وجهه, إذا خرجت لحيته; فليس يمتنع أن تكون اللحية من الوجه فيقتضي ظاهر ذلك وجوب غسلها; ويحتمل أن يقال: ليست من الوجه وإنما الوجه ما واجهك من بشرته دون الشعر النابت عليه بعدما كانت البشرة ظاهرة دونه.

(2/425)


ولمن قال بالقول الأول أن يقول: نبات الشعر عليه بعد ظهور البشرة لا يخرجه من أن يكون من الوجه, كما أن شعر الرأس من الرأس, وقد قال الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} فلو مسح على شعر رأسه من غير إبلاغ الماء بشرته كان ماسحا على الرأس وفاعلا لمقتضى الآية عند جميع المسلمين, فكذلك نبات الشعر على الوجه لا يخرجه من أن يكون منه. ولمن يأبى أن يكون من الوجه أن يفرق بينه وبين شعر الرأس أن شعر الرأس يوجد مع الصبي حين يولد فهو بمنزلة الحاجب في كون كل واحد منهما من العضو الذي هو فيه, وشعر اللحية غير موجود معه في حال الولادة وإنما نبت بعدها; فلذلك لم يكن من الوجه.
وقد ذكر عن السلف اختلاف في غسل اللحية وتخليلها ومسحها, فروى إسرائيل عن جابر قال: "رأيت القاسم ومجاهدا وعطاء والشعبي يمسحون لحاهم" وكذلك روي عن طاوس. وروى حريز عن زيد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: "رأيته توضأ ولم أره خلل لحيته وقال هكذا رأيت عليا رضي الله عنه توضأ". وقال يونس: "رأيت أبا جعفر لا يخلل لحيته". فلم ير أحد من هؤلاء غسل اللحية واجبا. وروى ابن جريج عن نافع: "أن ابن عمر كان يبل أصول شعر لحيته ويغلغل بيديه في أصول شعرها حتى يكثر القطر منها", وكذلك روي عن عبيد بن عمير وابن سيرين وسعيد بن جبير. فهؤلاء كلهم روي عنهم غسل اللحية, ولكنه لم يثبت عنهم أنهم رأوا ذلك واجبا كغسل الوجه. وقد كان ابن عمر متقصيا في أمر الطهارة, كان يدخل الماء عينيه ويتوضأ لكل صلاة, وكان ذلك منه استحبابا لا إيجابا. ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن تخليل اللحية ليس بواجب; وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه خلل لحيته, وروي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم خلل لحيته وقال: "بهذا أمرني ربي" وروى عثمان وعمار عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه خلل لحيته في الوضوء. وروى الحسن عن جابر قال: وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم لا مرة ولا مرتين ولا ثلاثا, فرأيته يخلل لحيته بأصابعه كأنها أسنان مشط. قال أبو بكر: وروي أخبار أخر في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس فيها ذكر تخليل اللحية; منها حديث عبد خير عن علي, وحديث عبد الله بن زيد وحديث الربيع بنت معوذ وغيرهم, كلهم ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل وجهه ثلاثا ولم يذكروا تخليل اللحية فيه. وغير جائز إيجاب تخليل اللحية ولا غسلها بالآية; وذلك لأن الآية إنما أوجبت غسل الوجه, والوجه ما واجهك منه, وباطن اللحية ليس من الوجه كداخل الفم والأنف لما لم يكونا من الوجه لم يلزم تطهيرهما في الوضوء على جهة الوجوب; فإن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم تخليلها أو غسلها كان ذلك منه استحبابا لا إيجابا كالمضمضة والاستنشاق وذلك لأنه لما لم تكن في الآية دلالة على

(2/426)


وجوب غسلها أو تخليلها لم يجز لنا أن نزيد في الآية بخبر الواحد, وجميع ما روي من أخبار التخليل إنما هي أخبار آحاد لا يجوز إثبات الزيادة بها في نص القرآن. وأيضا فإن التخليل ليس بغسل فلا يجوز أن يكون موجبا بالآية, ولما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم التخليل ثبت أن غسلها غير واجب لأنه لو كان واجبا لما تركه إلى التخليل.
وقد اختلف أصحابنا في تخليل اللحية ومسحها, فروى المعلى عن أبي يوسف عن أبي حنيفة قال: سألته عن تخليل اللحية في الوضوء فقال: "لا يخللها ويجزيه أن يمر بيده على ظاهرها" قال: فإنما مواضع الوضوء منها الظاهر وليس تخليل الشعر من مواضع الوضوء; وبه قال ابن أبي ليلى. قال أبو يوسف: "وأنا أخلل". وقال بشر بن الوليد عن أبي يوسف في نوادره: "يمسح ما ظهر من اللحية وإن كانت عريضة, فإن لم يفعل فعليه الإعادة إن صلى". وذكر ابن شجاع عن الحسن عن زفر في الرجل يتوضأ: "أنه ينبغي له إذا غسل وجهه أن يمر الماء على لحيته, فإن أصاب لحيته من الماء قدر ثلث أو ربع أجزأه ذلك, وإن كان أقل من ذلك لم يجزه", وهو قول أبي حنيفة, وبه أخذ الحسن. وقال أبو يوسف: "يجزيه إذا غسل وجهه أن لا يمس لحيته بشيء من الماء". وقال ابن شجاع: "لما لم يلزمه غسلها صار الموضع الذي ينبت عليه الشعر من الوجه بمنزلة الرأس; إذ لم يجب غسله, فكان الواجب مسحها كمسح الرأس فيجزي منه الربع كما قالوا في مسح الرأس".
قال أبو بكر: لا تخلو اللحية من أن تكون من الوجه فيلزمه غسلها كغسل بشرة الوجه مما ليس عليه شعر, وأن لا تكون من الوجه فلا يلزمه غسلها ولا مسحها بالآية; فلما اتفق الجميع على سقوط غسلها دل ذلك على أنها ليست من الوجه; لأنها لو كانت منه لوجب غسلها, ولما سقط غسلها لم يجز إيجاب مسحها; لأن فيه إثبات زيادة في الآية, كما لم يجز إيجاب المضمضة والاستنشاق لما فيه من الزيادة في نص الكتاب. وأيضا لو وجب مسحها كان فيه إثبات فرض المسح والغسل في عضو واحد وهو الوجه من غير ضرورة, وذلك خلاف الأصول.. فإن قيل: قد يجتمع فرض المسح والغسل في عضو واحد بأن يكون على يده جبائر فيمسح عليها ويغسل باقي العضو. قيل له: إنما يجب ذلك للضرورة والعذر, وليس في نبات اللحية ضرورة في ترك الغسل, والوجه بمنزلة سائر الأعضاء التي أوجب الله تعالى طهارتها, فلا يجوز اجتماع الغسل والمسح فيه من غير ضرورة, ويقتضي ما قال أبو يوسف من سقوط فرض غسلها ومسحها جميعا وإن كان المستحب إمرار الماء عليها.
قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} قال أبو بكر: اليد اسم يقع على هذا العضو

(2/427)


إلى المنكب, والدليل على ذلك أن عمارا تيمم إلى المنكب وقال: تيممنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المناكب وكان ذلك لعموم قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} , ولم ينكره عليه أحد من جهة اللغة بل هو كان من أهل اللغة, فكان عنده أن الاسم للعضو إلى المنكب; فثبت بذلك أن الاسم يتناولها إلى المنكب. وإذا كان الإطلاق يقتضي ذلك ثم ذكر التحديد فجعل المرافق غاية, كان ذكره لها لإسقاط ما وراءها من وجهين: أحدهما: أن عموم اللفظ ينتظم المرافق فيجب استعماله فيها; إذ لم تقم الدلالة على سقوطها. والثاني: أن الغاية لما كانت قد تدخل تارة ولا تدخل أخرى, والموضع الذي دخلت الغاية فيه قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ووجود الطهر شرط في الإباحة, وقال: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ووجوده شرط فيه, و "إلى" و "حتى" جميعا للغاية والموضع الذي لا تدخل فيه نحو قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] والليل خارج منه; فلما كان هذا هكذا وكان الحدث فيه يقينا لم يرتفع إلا بيقين مثله وهو وجود غسل المرفقين; إذ كانت الغاية مشكوكا فيها. وأيضا روى جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا بلغ المرفقين في الوضوء أدار الماء عليهما وفعله ذلك عندنا على الوجوب لوروده مورد البيان; لأن قوله تعالى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} لما احتمل دخول المرافق فيه واحتمل خروجها صار مجملا مفتقرا إلى البيان, وفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب. والذي ذكرنا من دخول المرافق في الوضوء هو قول أصحابنا جميعا, إلا زفر فإنه يقول: إن المرافق غير داخلة في الوضوء; وكذلك الكعبان على هذا الخلاف.
وقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} , قال أبو بكر: اختلف الفقهاء في المفروض من مسح الرأس, فروي عن أصحابنا فيه روايتان: إحداهما: ربع الرأس, والأخرى: مقدار ثلاثة أصابع, ويبدأ بمقدم الرأس. وقال الحسن بن صالح: "يبدأ بمؤخر الرأس". وقال الأوزاعي والليث: "يمسح مقدم الرأس". وقال مالك: "الفرض مسح جميع الرأس وإن ترك القليل منه جاز". وقال الشافعي: "الفرض مسح بعض رأسه". ولم يحد شيئا. وقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} يقتضي مسح بعضه وذلك لأنه معلوم أن هذه الأدوات موضوعة لإفادة المعاني, فمتى أمكننا استعمالها على فوائد مضمنة بها وجب استعمالها على ذلك, وإن كان قد يجوز دخولها في بعض المواضع صلة للكلام وتكون ملغاة, نحو "من" هي مستعملة على معان منها التبعيض, ثم قد تدخل في الكلام وتكون ملغاة وجودها وعدمها سواء. ومتى أمكننا استعمالها على وجه الفائدة وما هي موضوعة له لم يجز لنا إلغاؤها, فقلنا من أجل ذلك إن الباء للتبعيض وإن جاز وجودها في الكلام

(2/428)


على أنها ملغاة. ويدل على أنها للتبعيض أنك إذا قلت: "مسحت يدي بالحائط" كان معقولا مسحها ببعضه دون جميعه, ولو قلت: "مسحت الحائط" كان المعقول مسحه جميعه دون بعضه, فقد وضح الفرق بين إدخال الباء وبين إسقاطها في العرف واللغة; فوجب; إذ كان ذلك كذلك أن نحمل قوله: { وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} على البعض حتى نكون قد وفينا الحرف حظه من الفائدة وأن لا نسقطه فتكون ملغاة يستوي دخولها وعدمها. والباء وإن كانت تدخل للإلصاق كقولك: "كتبت بالقلم" و "مررت بزيد" فإن دخولها للإلصاق لا ينافي كونها مع ذلك للتبعيض فنستعمل الأمرين فيكون مستعملا للإلصاق في البعض المفروض طهارته. ويدل على أنها للتبعيض ما روى عمر بن علي بن مقدم عن إسماعيل بن حماد عن أبيه حماد عن إبراهيم في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} قال: إذا مسح ببعض الرأس أجزأه, قال: ولو كانت "امسحوا رءوسكم" كان مسح الرأس كله. فأخبر إبراهيم أن الباء للتبعيض وقد كان من أهل اللغة مقبول القول فيها. ويدل على أنه قد أريد بها التبعيض في الآية اتفاق الجميع على جواز ترك القليل من الرأس في المسح والاقتصار على البعض, وهذا هو استعمال اللفظ على التبعيض, وقول مخالفنا بإيجاب مسح الأكثر لا يعصمه من أن يكون مستعملا للفظ على التبعيض, إلا أنه زعم أن ذلك البعض ينبغي أن يكون المقدار الذي ادعاه, وإذا ثبت أن المراد البعض باتفاق الجميع احتاج إلى دلالة في إثبات المقدار الذي حده.
فإن قيل: لو كانت الباء للتبعيض لما جاز أن تقول: "مسحت برأسي كله" كما لا تقول: "مسحت ببعض رأسي كله". قيل له: قد بينا أن حقيقتها ومقتضاها إذا أطلقت التبعيض مع احتمال كونها ملغاة, فإذا قال: "مسحت برأسي كله" علمنا أنه أراد أن تكون الباء ملغاة, وإذا لم يقل ذلك فهي محمولة على حقيقتها, كما أن "من" حقيقتها التبعيض وقد توجد صلة للكلام فتكون ملغاة في نحو قوله تعالى: { مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59] و {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الاحقاف: 31] ولا يجب من أجل ذلك أن نجعلها ملغاة في كل موضع إلا بدلالة.
وقد روي نحو قولنا في جواز مسح بعض الرأس عن جماعة من السلف, منهم ابن عمر, روى عنه نافع أنه مسح مقدم رأسه; وعن عائشة مثل ذلك. وقال الشعبي: "أي جانب رأسك مسحت أجزأك" وكذلك قال إبراهيم. ويدل على صحة قول القائلين بفرض البعض ما حدثنا أبو الحسن عبيد الله بن الحسين الكرخي قال: حدثنا إبراهيم الحربي قال: حدثنا محمد بن الصباح قال: حدثنا هشيم قال: حدثنا يونس عن ابن سيرين قال: أخبرني عمرو بن وهب قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: خصلتان لا أسأل عنهما

(2/429)


أحدا بعدما شهدت من رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا كنا معه في سفر, فنزل لحاجته ثم جاء فتوضأ ومسح على ناصيته وجانبي عمامته. وروى سليمان التيمي عن بكر بن عبد الله المزني عن ابن المغيرة عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين ومسح على ناصيته ووضع يده على العمامة أو مسح على العمامة. وحدثنا عبيد الله بن الحسين قال: حدثنا محمد بن سليمان الحضرمي قال: حدثنا كردوس بن أبي عبد الله قال: حدثنا المعلى بن عبد الرحمن قال: حدثنا عبد الحميد بن جعفر عن عطاء عن ابن عباس قال: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح رأسه مسحة واحدة بين ناصيته وقرنه1 فثبت بما ذكرنا من ظاهر الكتاب والسنة أن المفروض مسح بعض الرأس.
فإن قيل: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما اقتصر على مسح الناصية لضرورة, أو كان وضوء من لم يحدث. قيل له: إنه لو كان هناك ضرورة لنقلت كما نقل غيره, وأما كونه وضوء من لم يحدث فإنه تأويل ساقط; لأن في حديث المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى حاجته ثم توضأ ومسح على ناصيته ولو ساغ هذا التأويل في مسح الناصية لساغ في المسح على الخفين حتى يقال: إنه مسح لضرورة أو كان وضوء من لم يحدث.
واحتج من قال بمسح الجميع بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه مسح مقدم رأسه ومؤخره قال: فلو كان المفروض بعضه لما مسح النبي صلى الله عليه وسلم جميعه, ولوجب أن يكون من مسح جميع رأسه متعديا; وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ ثلاثا ثلاثا وقال: "من زاد فقد اعتدى وظلم" . فيقال له: لا يمتنع أن يكون المفروض البعض والمسنون الجميع, كما أن المفروض في الأعضاء المغسولة مرة والمسنون ثلاث, فلا يكون الزائد على المفروض متعديا; إذ أصاب السنة, وكما أن المفروض من المسح على الخفين هو بعض ظاهرهما ولو مسح ظاهرهما وباطنهما لم يكن متعديا, وكما أن فرض القراءة على قولنا آية وعلى قول مخالفينا فاتحة الكتاب, والمسنون عند الجميع قراءة فاتحة الكتاب وشيء معها. والمفروض من غسل الوجه ظاهره والمسنون غسل ذلك والمضمضة والاستنشاق, والمفروض مسح الرأس والمسنون مسح الأذنين معه; وكما يقول مخالفنا: إن المفروض من مسح الرأس هو الأكثر وإن ترك القليل جائز ولو مسح الجميع لم يكن متعديا بل كان مصيبا, كذلك نقول: إن المفروض مسح البعض والمسنون مسح الجميع. وإنما قال أصحابنا: إن المفروض مقدار ثلاثة أصابع في إحدى الروايتين وهي رواية الأصل, وفي
ـــــــ
1 قوله: "وقرنة" أي جانب رأسه. "لمصححه".

(2/430)


رواية الحسن بن زياد: الربع; فإن وجه تقدير ثلاث أصابع أنه لما ثبت أن المفروض مسح البعض بما قدمنا وكان ذلك البعض غير مذكور المقدار في الآية احتجنا فيه إلى بيان الرسول صلى الله عليه وسلم فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على ناصيته كان فعله ذلك واردا مورد البيان. وفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب كفعله لأعداد ركعات الصلاة وأفعالها, فقدروا الناصية بثلاث أصابع; وقد روي عن ابن عباس أنه مسح بين ناصيته وقرنه.
فإن قيل: فقد روي أنه مسح رأسه بيديه أقبل بهما وأدبر فينبغي أن يكون ذلك واجبا. قيل له: معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يترك المفروض. وجائز أن يفعل غير المفروض على أنه مسنون, فلما روي عنه الاقتصار على مقدار الناصية في حال وروي عنه استيعاب الرأس في أخرى استعملنا الخبرين وجعلنا المفروض مقدار الناصية; إذ لم يرو عنه أنه مسح أقل منها وما زاد عليها فهو مسنون. وأيضا لو كان المفروض أقل من مقدار الناصية لاقتصر النبي صلى الله عليه وسلم في حال بيانا للمقدار المفروض كما اقتصر على مسح الناصية في بعض الأحوال, فلما لم يثبت عنه أقل من ذلك دل على أنه هو المفروض.
فإن قيل: لو كان فعله ذلك على وجه البيان لوجب أن يكون المفروض موضع الناصية دون غيره من الرأس كما جعلتها بيانا للمقدار ولم تجز أقل منها, فلما جاز عند الجميع من القائلين بجواز مسح بعض الرأس ترك مسح الناصية إلى غيرها من الرأس دل ذلك على أن فعله ذلك غير موجب للاقتصار على مقدار. قيل له: قد كان ظاهر فعله يقتضي ذلك لولا قيام الدلالة على أن مسح غير الناصية من الرأس يقوم مقام الناصية, فلم يوجب تعيين الفرض فيها وبقي حكم فعله في المقدار على ما اقتضاه ظاهر بيانه بفعله.

(2/431)


مطلب: في أن فعله عليه السلام يبين المجمل من أحكام القرآن
فإن قيل: لما كان قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} مقتضيا مسح بعضه, فأي بعض مسحه منه وجب أن يجزيه بحكم الظاهر. قيل له: إذا كان ذلك البعض مجهولا صار مجملا ولم يخرجه ما ذكرت من حكم الإجمال, ألا ترى أن قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وقوله: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وقوله: {يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] كلها مجملة لجهالة مقاديرها في حال ورودها, وأنه غير جائز لأحد اعتبار ما يقع عليه الاسم منها؟ فكذلك قوله تعالى: {بِرُؤُوسِكُمْ} وإن اقتضى البعض فإن ذلك البعض لما كان مجهولا عندنا وجب أن يكون مجملا موقوف الحكم على البيان. فما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعل فيه فهو بيان مراد الله

(2/431)


به. ودليل آخر: وهو أن سائر أعضاء الوضوء لما كان المفروض منها مقدرا وجب أن يكون كذلك حكم مسح الرأس لأنه من أعضاء الوضوء; وهذا يحتج به على مالك والشافعي جميعا; لأن مالكا يوجب مسح الأكثر ويجيز ترك القليل منه فيحصل المفروض مجهول المقدار, والشافعي يقول: "كل ما وقع عليه اسم المسح جاز" وذلك مجهول القدر, وما قلنا من مقدار ثلاثة أصابع فهو معلوم; وكذلك الربع في الرواية الأخرى فهو موافق لحكم أعضاء الوضوء من كون المفروض منها معلوم القدر. وقول مخالفينا على خلاف المفروض من أعضاء الوضوء; ويجوز أن نجعل ذلك ابتداء دليل في المسألة من غير اعتبار له بمقدار الناصية, وذلك بأن نقول: لما وجب أن يكون المفروض في مقدار المسح مقدرا اعتبارا بسائر أعضاء الوضوء ثم لم يقدره أحد بغير ما ذكرنا من مقدار ثلاثة أصابع أو مقدار ربع الرأس, وجب أن يكون هذا هو المفروض من المقدار.
فإن قيل: ما أنكرت أن يكون مقدرا بثلاث شعرات؟ قيل له: هذا محال; لأن مقدار ثلاث شعرات لا يمكن المسح عليه دون غيره, وغير جائز أن يكون المفروض ما لا يمكن الاقتصار عليه; وأيضا فهو قياس على المسح على الخفين لما كان مقدرا بالأصابع, وبه وردت السنة وهو مسح بالماء, وجب أن يكون مسح الرأس مثله. وأما وجه رواية من روى الربع, فهو أنه لما ثبت أن المفروض البعض وأن مسح شعرة لا يجزي وجب اعتبار المقدار الذي يتناوله الاسم عند الإطلاق إذا أجري على الشخص وهو الربع; لأنك تقول: "رأيت فلانا" والذي يليك منه الربع, فيطلق عليه الاسم; فلذلك اعتبروا الربع واعتبروا أيضا في حلق الرأس الربع لا خلاف بينهم فيه أنه يحل به المحرم إذا حلقه, ولا يحل عند أصحابنا بأقل منه; فلذلك يوجبون به دما إذا حلقه في الإحرام.
واختلف الفقهاء في مسح الرأس بأصبع واحدة, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: "لا يجوز مسحه بأقل من ثلاث أصابع, وإن مسحه بأصبع أو أصبعين ومدها حتى يكون الممسوح مقدار ثلاثة أصابع لم يجز". وقال الثوري وزفر والشافعي: "يجزيه" إلا أن زفر يعتبر الربع, والأصل في ذلك أنه لا يجزي في مفروض المسح نقل الماء من موضع إلى موضع وذلك لأن المقصد فيه إمساس الماء الموضع لا إجراؤه عليه, فإذا وضع أصبعا فقد حصل ذلك الماء ممسوحا به, فغير جائز مسح موضع غيره به, وليس كذلك الأعضاء المغسولة لأنه لو مسحها بالماء ولم يجره عليها لم يجزه, فلا يحصل معنى الغسل إلا بجريان الماء على العضو وانتقاله من موضع إلى موضع, فلذلك لم يكن مستعملا بحصوله من موضع وانتقاله إلى غيره من ذلك العضو. وأما المسح فلو

(2/432)


اقتصر فيه على إمساس الماء الموضع من غير جري لجاز, فلما استغنى عن إجرائه على العضو في صحة أداء الفرض لم يجز نقله إلى غيره.
فإن قيل: فلو صب على رأسه ماء وجرى عليه حتى استوفى منه مقدار ثلاثة أصابع أجزى عن المسح مع انتقاله من موضع إلى غيره, فهلا أجزته أيضا إذا مسح بأصبع واحدة ونقله إلى غيره قيل له: من قبل أن صب الماء غسل وليس بمسح, والغسل يجوز نقل الماء فيه من موضع إلى غيره; وأما إذا وضع أصبعه عليه فهذا مسح فلا يجوز أن يمسح بها موضعا غيره. وأيضا فإن الماء الذي يجرى عليه بالصب والغسل يتسع للمقدار المفروض كله, وما على أصبع واحدة من الماء لا يتسع للمقدار المفروض, وإنما يكفي لمقدار الأصبع, فإذا جره إلى غيره فإنما نقل إليه ماء مستعملا في غيره, فلا يجوز له ذلك.

(2/433)


باب غسل الرجلين
قال الله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قال أبو بكر: قرأ ابن عباس والحسن وعكرمة وحمزة وابن كثير: "وأرجلكم" بالخفض, وتأولوها على المسح. وقرأ علي وعبد الله بن مسعود وابن عباس في رواية وإبراهيم والضحاك ونافع وابن عامر والكسائي وحفص عن عاصم بالنصب, وكانوا يرون غسلها واجبا. والمحفوظ عن الحسن البصري استيعاب الرجل كلها بالمسح, ولست أحفظ عن غيره ممن أجاز المسح من السلف هو على الاستيعاب أو على البعض; وقال قوم: "يجوز مسح البعض". ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في أن المراد الغسل. وهاتان القراءتان قد نزل بهما القرآن جميعا ونقلتهما الأمة تلقيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يختلف أهل اللغة أن كل واحدة من القراءتين محتملة للمسح بعطفها على الرأس ويحتمل أن يراد بها الغسل بعطفها على المغسول من الأعضاء وذلك لأن قوله: { وأرجلكم} بالنصب يجوز أن يكون مراده: فاغسلوا أرجلكم, ويحتمل أن يكون معطوفا على الرأس فيراد بها المسح وإن كانت منصوبة فيكون معطوفا على المعنى لا على اللفظ; لأن الممسوح به مفعول به كقول الشاعر:
معاوية إننا بشر فأسجح
...
فلسنا بالجبال ولا الحديدا
فنصب الحديد وهو معطوف على الجبال بالمعنى. ويحتمل قراءة الخفض أن تكون معطوفة على الرأس فيراد به المسح, ويحتمل عطفه على الغسل ويكون مخفوضا بالمجاورة كقوله تعالى: { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة:17] ثم قال:

(2/433)


"وحور عين" فخفضهن1 بالمجاورة وهن معطوفات في المعنى على الولدان; لأنهن يطفن ولا يطاف بهن; وكما قال الشاعر:
فهل أنت إن ماتت أتانك راكب ... إلى آل بسطام بن قيس فخاطب
فخفض "خاطبا" بالمجاورة, وهو معطوف على المرفوع من قوله: "راكب" والقوافي مجرورة; ألا ترى إلى قوله:
فنل مثلها في مثلهم أو فلمهم ... على دار مي بين ليلى وغالب
فثبت بما وصفنا احتمال كل واحدة من القراءتين للمسح والغسل, فلا يخلو حينئذ القول من أحد معان ثلاثة: إما أن يقال: إن المراد هما جميعا مجموعان, فيكون عليه أن يمسح ويغسل فيجمعهما. أو أن يكون أحدهما على وجه التخيير يفعل المتوضئ أيهما شاء, ويكون ما يفعله هو المفروض. أو يكون المراد أحدهما بعينه لا على وجه التخيير. وغير جائز أن يكونا هما جميعا على وجه الجمع لاتفاق الجميع على خلافه; ولا جائز أيضا أن يكون المراد أحدهما على وجه التخيير; إذ ليس في الآية ذكر التخيير ولا دلالة عليه ولو جاز إثبات التخيير مع عدم لفظ التخيير في الآية لجاز إثبات الجمع مع عدم لفظ الجمع, فبطل التخيير بما وصفنا. وإذا انتفى التخيير والجمع لم يبق إلا أن يكون المراد أحدهما لا على وجه التخيير, فاحتجنا إلى طلب الدليل على المراد منهما; فالدليل على أن المراد الغسل دون المسح اتفاق الجميع على أنه إذا غسل فقد أدى فرضه وأتى بالمراد وأنه غير ملوم على ترك المسح, فثبت أن المراد الغسل. وأيضا فإن اللفظ لما وقف الموقف الذي ذكرنا من احتماله لكل واحد من المعنيين مع اتفاق الجميع على أن المراد أحدهما, صار في حكم المجمل المفتقر إلى البيان, فمهما ورد فيه من البيان عن الرسول من فعل أو قول علمنا أنه مراد الله تعالى; وقد ورد البيان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغسل قولا وفعلا, فأما وروده من جهة الفعل فهو ما ثبت بالنقل المستفيض المتواتر: أن النبي صلى الله عليه وسلم غسل رجليه في الوضوء. ولم تختلف الأمة فيه, فصار فعله ذلك واردا مورد البيان, وفعله إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب, فثبت أن ذلك هو مراد الله تعالى بالآية. وأما من جهة القول فما روى جابر وأبو هريرة وعائشة وعبد الله بن عمر وغيرهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما تلوح أعقابهم لم يصبها الماء, فقال: "ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء" وتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم مرة مرة, فغسل رجليه وقال: "هذا وضوء من لا
ـــــــ
1 قوله: "فخفضهم" قال في النشر: قرأ جعفر وحمزة والكسائي "وحور عين" بخفض الاسمين والباقون بالرفع. "لمصححه".

(2/434)


يقبل الله له صلاة إلا به" . فقوله: "ويل للأعقاب من النار" وعيد لا يجوز أن يستحق إلا بترك الفرض; فهذا يوجب استيعاب الرجل بالطهارة ويبطل قول من يجيز الاقتصار على البعض. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أسبغوا الوضوء" وقوله بعد غسل الرجلين: "هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به" يوجب استيعابها بالغسل; لأن الوضوء اسم للغسل يقتضي إجراء الماء على الموضع, والمسح لا يقتضي ذلك; وفي الخبر الآخر إخبار أن الله تعالى لا يقبل الصلاة إلا بغسلهما. وأيضا فلو كان المسح جائزا لما أخلاه النبي صلى الله عليه وسلم من بيانه; إذ كان مراد الله في المسح كهو في الغسل, فكان يجب أن يكون مسحه في وزن غسله, فلما لم يرد عنه المسح حسب وروده في الغسل ثبت أن المسح غير مراد. وأيضا فإن القراءتين كالآيتين في إحداهما الغسل وفي الأخرى المسح لاحتمالهما للمعنيين, فلو وردت آيتان إحداهما توجب الغسل والأخرى المسح لما جاز ترك الغسل إلى المسح; لأن في الغسل زيادة فعل, وقد اقتضاه الأمر بالغسل, فكان يكون حينئذ يجب استعمالهما على أعمهما حكما وأكثرهما فائدة وهو الغسل لأنه يأتي على المسح والمسح لا ينتظم الغسل. وأيضا لما حدد الرجلين بقوله تعالى: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} كما قال: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} دل على است يعاب الجميع, كما دل ذكر الأيدي على المرافق على استيعابهما بالغسل.
فإن قيل: قد روى علي وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه توضأ ومسح على قدميه ونعليه. قيل له: لا يجوز قبول أخبار الآحاد فيه من وجهين: أحدهما: لما فيه من الاعتراض به على موجب الآية من الغسل على ما قد دللنا عليه. والثاني: أن أخبار الآحاد غير مقبولة في مثله لعموم الحاجة إليه; وقد روي عن علي أنه قرأ: {وَأَرْجُلَكُمْ} بالنصب وقال: "المراد الغسل" فلو كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم جواز المسح والاقتصار عليه دون الغسل لما قال: إن مراد الله الغسل. وأيضا فإن الحديث الذي روي عن علي في ذلك, قال فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا وضوء من لم يحدث" وهو حديث شعبة عن عبد الملك بن ميسرة عن النزال بن سبرة: أن عليا صلى الظهر ثم قعد في الرحبة, فلما حضرت العصر دعا بكوز من ماء فغسل يديه ووجهه وذراعيه ومسح برأسه ورجليه, وقال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل وقال: "هذا وضوء من لم يحدث" ولا خلاف في جواز مسح الرجلين في وضوء من لم يحدث. وأيضا لما احتملت الآية الغسل والمسح, استعملناها على الوجوب في الحالين: الغسل في حال ظهور الرجلين, والمسح في حال لبس الخفين.
فإن قيل: لما سقط فرض الرجل في حال التيمم كما سقط الرأس, دل على أنها

(2/435)


ممسوحة غير مغسولة. قيل له: فهذا يوجب أن لا يكون الغسل مرادا, ولا خلاف أنه إذا غسل فقد فعل المفروض; ولم تختلف الأمة أيضا في نقل الغسل عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأيضا فإن غسل البدن كله يسقط في الجنابة إلى التيمم عند عدم الماء, وقام التيمم في هذين العضوين مقام غسل سائر الأعضاء, كذلك جائز أن يقوم مقام غسل الرجلين وإن لم يجب التيمم فيها.

(2/436)


فصل
وقد اختلف في الكعبين ما هما, فقال جمهور أصحابنا وسائر أهل العلم: "هما الناتئان بين مفصل القدم والساق". وحكى هشام عن محمد: "أنه مفصل القدم الذي يقع عليه عقد الشراك على ظهر القدم". والصحيح هو الأول; لأن الله تعالى قال: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} فدل ذلك على أن في كل رجل كعبين, ولو كان في كل رجل كعب واحد لقال: إلى الكعاب, كما قال تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] لما كان لكل واحد قلب واحد أضافهما إليهما بلفظ الجمع, فلما أضافهما إلى الأرجل بلفظ التثنية دل على أن في كل رجل كعبين.

(2/436)


مطلب: فيما استدل به المصنف من الحديث على المراد بالكعبين
ويدل عليه أيضا ما حدثنا من لا أتهم قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه قال: حدثنا إسحاق بن راهويه قال: حدثنا الفضل بن موسى عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد عن جامع بن شداد عن طارق بن عبد الله المحاربي قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سوق ذي المجاز وعليه جبة حمراء وهو يقول: "يا أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا" ورجل يتبعه ويرميه بالحجارة وقد أدمى عرقوبيه وكعبيه, وهو يقول: يا أيها الناس لا تطيعوه فإنه كذاب, فقلت: من هذا؟ فقالوا: ابن عبد المطلب, قلت: فمن هذا الذي يتبعه ويرميه بالحجارة؟ قالوا: هذا عبد العزى أبو لهب". وهذا يدل على أن الكعب هو العظم الناتئ في جانب القدم; لأن الرمية إذا كانت من وراء الماشي لا يضرب ظهر القدم. قال: وحدثنا عبد الله بن محمد بن شيرويه قال: حدثنا إسحاق قال: أخبرنا وكيع قال: حدثنا زكريا بن أبي زائدة عن القاسم الجدلي قال: سمعت النعمان بن بشير يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكم أو وجوهكم" قال: فلقد رأيت الرجل منا يلزق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكب صاحبه. وهذا يدل على أن الكعب ما وصفنا; والله أعلم.

(2/436)


ذكر الخلاف في المسح على الخفين
ذكر الخلاف في المسح على الخفين قال أصحابنا جميعا والثوري والحسن بن صالح والأوزاعي والشافعي: "يمسح المقيم على الخفين يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها". وروي عن مالك والليث: "أنه لا وقت للمسح على الخفين, إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان يمسح ما بدا له", قال مالك: "والمقيم والمسافر في ذلك سواء", وأصحابه يقولون: هذا هو الصحيح من مذهبه; وروى عنه ابن القاسم: "أن المسافر يمسح ولا يمسح المقيم", وروى ابن القاسم أيضا عن مالك أنه ضعف المسح على الخفين. قال أبو بكر: قد ثبت المسح على الخفين عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريق التواتر والاستفاضة من حيث يوجب العلم; ولذلك قال أبو يوسف: إنما يجوز نسخ القرآن بالسنة إذا وردت كورود المسح على الخفين في الاستفاضة. وما دفع أحد من الصحابة من حيث نعلم المسح على الخفين, ولم يشك أحد منهم في أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مسح, وإنما اختلف في وقت مسحه أكان قبل نزول المائدة أو بعدها؟ فروى المسح موقتا للمقيم يوما وليلة وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها عن النبي صلى الله عليه وسلم عمر وعلي وصفوان بن عسال وخزيمة بن ثابت وعوف بن مالك وابن عباس وعائشة, ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم غير موقت سعد بن أبي وقاص وجرير بن عبد الله البجلي وحذيفة بن اليمان والمغيرة بن شعبة وأبو أيوب الأنصاري وسهل بن سعد وأنس بن مالك وثوبان وعمرو بن أمية عن أبيه وسليمان بن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم. وروى الأعمش عن إبراهيم عن همام عن جرير بن عبد الله قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على خفيه. قال الأعمش: قال إبراهيم: كانوا معجبين بحديث جرير لأنه أسلم بعد نزول المائدة. ولما كان ورود هذه الأخبار على الوجه الذي ذكرنا من الاستفاضة مع كثرة عدد ناقليها وامتناع التواطؤ والسهو الغفلة عليهم فيها, وجب استعمالها مع حكم الآية. وقد بينا أن في الآية احتمالا للمسح, فاستعملناه في حال لبس الخفين واستعملنا الغسل في حال ظهور الرجلين, فلا فرق بين أن يكون مسح النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول المائدة أو بعدها, من قبل أنه إن كان مسح قبل نزول الآية فالآية مرتبة عليه غير ناسخة له لاحتمالها ما يوجب موافقته من المسح في حال لبس الخفين ولأنه لو لم يكن فيها احتمال لموافقة الخبر لجاز أن تكون مخصوصة به فيكون الأمر بالغسل خاصا في حال ظهور الرجلين دون حال لبس الخفين, وإن كانت الآية متقدمة للمسح فإنما جاز المسح لموافقة ما احتملته الآية, ولا يكون ذلك نسخا ولكنه بيان للمراد بها, وإن كان جائزا نسخ الآية بمثله لتواتره وشيوعه. ومن حيث ثبت المسح على الخفين ثبت التوقيت فيه للمقيم والمسافر على ما بينا; لأن بمثل الأخبار الواردة في المسح مطلقا ثبت التوقيت أيضا, فإن بطل التوقيت بطل المسح وإن ثبت المسح ثبت التوقيت.

(2/437)


فإن احتج المخالف في ذلك بما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال لعقبة بن عامر حين قدم عليه وقد مسح على خفيه جمعة: "أصبت السنة", وبما روى حماد بن زيد عن كثير بن شنظير عن الحسن, أنه سئل عن المسح على الخفين في السفر فقال: كنا نسافر مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يوقتون. قيل له: قد روى سعيد بن المسيب عن عمر أنه قال لابنه عبد الله حين أنكر على سعد المسح على الخفين: "يا بني عمك أفقه منك, للمسافر ثلاثة أيام ولياليها وللمقيم يوم وليلة" سويد بن غفلة عن عمر أنه قال: "ثلاثة أيام ولياليها للمسافر ويوم وليلة للمقيم" وقد ثبت عن عمر التوقيت على الحد الذي بيناه, فاحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم لعقبة حين مسح على خفيه جمعة: "أصبت السنة" يعني: أنك أصبت السنة في المسح, وقوله: "إنه مسح جمعة" إنما عنى به أنه مسح جمعة على الوجه الذي يجوز عليه المسح, كما يقول القائل: "مسحت شهرا على الخفين" وهو يعني على الوجه الذي يجوز فيه المسح; لأنه معلوم أنه لم يرد به أنه مسح جمعة دائما لا يفتر, وإنما أراد به المسح في الوقت الذي يحتاج فيه إلى المسح, كذلك إنما أراد الوقت الذي يجوز فيه المسح. وكما تقول: "صليت الجمعة شهرا بمكة" والمعنى: في الأوقات التي يجوز فيها فعل الجمعة. وأما قول الحسن: "إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين سافر معهم كانوا لا يوقتون" فإنه إنما عنى به والله أعلم أنهم ربما خلعوا الخفاف فيما بين يومين أو ثلاثة, وأنهم لم يكونوا يداومون على مسح الثلاث حسبما قد جرت به العادة من الناس أنهم ليسوا يكادون يتركون خفافهم لا ينزعونها ثلاثا; فلا دلالة فيه على أنهم كانوا يمسحون أكثر من ثلاث.
فإن قيل: في حديث خزيمة بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام ولياليها وللمقيم يوم وليلة" ولو استزدناه لزادنا. وفي حديث أبي بن عمارة أنه قال: يا رسول الله أمسح على الخفين؟ قال: "نعم" قال: يوما؟ قال: "ويومين" قال: وثلاثة؟ قال: "نعم, وما شئت" . وفي حديث آخر قال: حتى بلغ سبعا. قيل له: أما حديث خزيمة وما قيل فيه "ولو استزدناه لزادنا" فإنما هو ظن من الراوي, والظن لا يغني من الحق شيئا. وأما حديث أبي بن عمارة, فقد قيل: إنه ليس بالقوي, وقد اختلف في سنده, ولو ثبت كان قوله: "وما شئت" على أنه يمسح بالثلاث ما شاء, وغير جائز الاعتراض على أخبار التوقيت بمثل هذه الأخبار الشاذة المحتملة للمعاني مع استفاضة الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم بالتوقيت.

(2/438)


مطلب: لا حظ للنظر مع الأثر
فإن قيل: لما جاز المسح وجب أن يكون غير موقت كمسح الرأس. قيل له: لا

(2/438)


حظ للنظر مع الأثر, فإن كانت أخبار التوقيت ثابتة فالنظر معها ساقط, وإن كانت غير ثابتة فالكلام حينئذ ينبغي أن يكون في إثباتها, وقد ثبت التوقيت بالأخبار المستفيضة من حيث لا يمكن دفعها. وأيضا فإن الفرق بينهما ظاهر من طريق النظر, وهو أن مسح الرأس هو المفروض في نفسه وليس ببدل عن غيره, والمسح على الخفين بدل عن الغسل مع إمكانه من غير ضرورة, فلم يجز إثباته بدلا إلا في المقدار الذي ورد به التوقيت.

(2/439)


مطلب: المسح على الجبيرة مستحب عند أبي حنيفة
فإن قيل: قد جاز المسح على الجبائر بغير توقيت وهو بدل عن الغسل. قيل له: أما على مذهب أبي حنيفة فهذا السؤال ساقط; لأنه لا يوجب المسح على الجبائر, وهو عنده مستحب تركه لا يضر. وعلى قول أبي يوسف ومحمد أيضا لا يلزم لأنه إنما يفعله عند الضرورة كالتيمم والمسح على الخفين جائز بغير ضرورة; فلذلك اختلفا.
فإن قيل: ما أنكرت أن يكون جواز المسح مقصورا على السفر لأن الأخبار وردت فيه, وأن لا يجوز في الحضر لما روي أن عائشة سئلت عن ذلك فقالت: "سلوا عليا فإنه كان معه في أسفاره"; وهذا يدل على أنه لم يمسح في الحضر; لأن مثله لا يخفى على عائشة؟ قيل له: يحتمل أن تكون سئلت عن توقيت المسح للمسافر فأحالت به على علي رضي الله عنه. وأيضا فإن عائشة أحد من روى توقيت المسح للمسافر والمقيم جميعا. وأيضا فإن الأخبار التي فيها توقيت مسح المسافر فيها توقيته للمقيم, فإن ثبت للمسافر ثبت للمقيم.
فإن قيل: قد تواترت الأخبار بغسله في الحضر وقوله: "ويل للعراقيب من النار". قيل له: إنما ذلك في حال ظهور الرجلين. فإن قيل: جائز أن يختص حال السفر بالتخفيف دون حال الحضر كالقصر والتيمم والإفطار. قيل له: لم نبح المسح للمقيم ولا للمسافر قياسا, وإنما أبحناه بالآثار, وهي متساوية فيما يقتضيه من المسح في السفر والحضر, فلا معنى للمقايسة.
واختلف الفقهاء أيضا في المسح من وجه آخر, فقال أصحابنا: "إذا غسل رجليه ولبس خفيه ثم أكمل الطهارة قبل الحدث أجزأه أن يمسح إذا أحدث", وهو قول الثوري; وروي عن مالك مثله. وذكر الطحاوي عن مالك والشافعي: "أنه لا يجزيه إلا أن يلبس خفيه بعد إكمال الطهارة" ودليل أصحابنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "يمسح المقيم يوما وليلة والمسافر ثلاثة أيام ولياليها" ولم يفرق بين لبسه قبل إكمال الطهارة وبعدها. وروى

(2/439)


الشعبي عن المغيرة بن شعبة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ, فأهويت إلى خفيه لأنزعهما, فقال: "مه فإني أدخلت القدمين الخفين وهما طاهرتان" فمسح عليهما. وروي عن عمر بن الخطاب قال: "إذا أدخلت قدميك الخفين وهما طاهرتان فامسح عليهما". ومن غسل رجليه فقد طهرتا قبل إكمال طهارة سائر الأعضاء, كما يقال: غسل رجليه, وكما يقال: صلى ركعة; وإن لم يتم صلاته. وأيضا فإن من لا يجيز ذلك فإنما يأمره بنزع الخفين ثم لبسهما كذلك بقاؤهما في رجليه لحين المسح; لأن استدامة اللبس بمنزلة ابتدائه.
واختلف في المسح على الجوربين, فلم يجزه أبو حنيفة والشافعي إلا أن يكونا مجلدين. وحكى الطحاوي عن مالك أنه لا يمسح وإن كانا مجلدين. وحكى بعض أصحاب مالك عنه أنه لا يمسح إلا أن يكونا مجلدين كالخفين. وقال الثوري وأبو يوسف ومحمد والحسن بن صالح: "يمسح إذا كانا ثخينين وإن لم يكونا مجلدين". والأصل فيه أنه قد ثبت أن مراد الآية الغسل على ما قدمنا, فلو لم ترد الآثار المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسح على الخفين لما أجزنا المسح, فلما وردت الآثار الصحاح واحتجنا إلى استعمالها مع الآية استعملناها معها على موافقة الآية في احتمالها للمسح وتركنا الباقي على مقتضى الآية ومرادها; ولما لم ترد الآثار في جواز المسح على الجوربين في وزن ورودها في المسح على الخفين بقينا حكم الغسل على مراد الآية ولم ننقله عنه.
فإن قيل: روى المغيرة بن شعبة وأبو موسى: أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على جوربيه ونعليه. قيل له: يحتمل أنهما كانا مجلدين, فلا دلالة فيه على موضع الخلاف; إذ ليس بعموم لفظ وإنما هو حكاية فعل لا نعلم. وأيضا يحتمل أن يكون وضوء من لم يحدث, كما مسح على رجليه وقال: "هذا وضوء من لم يحدث" . ومن جهة النظر اتفاق الجمع على امتناع جواز المسح على اللفافة; إذ ليس في العادة المشي فيها, كذلك الجوربان. وأما إذا كانا مجلدين فهما بمنزلة الخفين ويمشي فيهما وبمنزلة الجرموقين, ألا ترى أنهم قد اتفقوا على أنه إذا كان كله مجلدا جاز المسح؟ ولا فرق بين أن يكون جميعه مجلدا أو بعضه بعد أن يكون بمنزلة الخفين في المشي والتصرف.
واختلف في المسح على العمامة, فقال أصحابنا ومالك والحسن بن صالح والشافعي: "لا يجوز المسح على العمامة ولا على الخمار". وقال الثوري والأوزاعي: "يمسح على العمامة". والدليل على صحة القول الأول قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} وحقيقته تقتضي إمساسه الماء ومباشرته, وماسح العمامة غير ماسح برأسه فلا تجزيه صلاته إذا صلى به. وأيضا فإن الآثار متواترة في مسح الرأس, فلو كان المسح على العمامة جائزا لورد النقل به متواترا في وزن وروده في المسح على الخفين; فلما لم

(2/440)


يثبت عنه مسح العمامة من جهة التواتر لم يجز المسح عليها من وجهين: أحدهما: أن الآية تقتضي مسح الرأس, فغير جائز العدول عنه إلا بخبر يوجب العلم. والثاني: عموم الحاجة إليه, فلا يقبل في مثله إلا المتواتر من الأخبار. وأيضا حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ مرة مرة وقال: "هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به" ومعلوم أنه مسح برأسه لأن مسح العمامة لا يسمى وضوءا, ثم نفى جواز الصلاة إلا به.
وحديث عائشة الذي قدمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ومسح برأسه ثم قال: هذا الوضوء الذي افترض الله علينا, فأخبر أن مسح الرأس بالماء هو المفروض علينا فلا تجزي الصلاة إلا به. وإن احتجوا بما روى بلال والمغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين والعمامة وما روى راشد بن سعد عن ثوبان قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فأصابهم البرد, فلما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يمسحوا على العصائب والتساخين. قيل لهم: هذه أخبار مضطربة الأسانيد وفيها رجال مجهولون, ولو استقامت أسانيدها لما جاز الاعتراض بمثلها على الآية; وقد بينا في حديث المغيرة بن شعبة أنه مسح على ناصيته وعمامته, وفي بعضها: على جانب عمامته, وفي بعضها: وضع يده على عمامته; فأخبر أنه فعل المفروض في مسح الناصية ومسح على العمامة وذلك جائز عندنا ويحتمل ما رواه بلال ما بين في حديث المغيرة. وأما حديث ثوبان فمحمول على معنى حديث المغيرة أيضا بأن مسحوا على بعض الرأس وعلى العمامة. والله أعلم.

(2/441)


باب الوضوء مرة مرة
قال الله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية. الذي يقتضيه ظاهر اللفظ غسلها مرة واحدة; إذ ليس فيها ذكر العدد فلا يوجب تكرار الفعل, فمن غسل مرة فقد أدى الفرض. وبه وردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم منها حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وقال: "هذا الوضوء الذي افترض الله علينا" . وروى ابن عباس وجابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة, وقال أبو رافع: توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا ومرة مرة. قال أبو بكر: فما نص الله تعالى عليه في هذه الآية هو فرض الوضوء على ما بيناه; وفيه أشياء مسنونة سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهو ما حدثنا عبد الله بن الحسن قال: حدثنا أبو مسلم قال: حدثنا أبو الوليد قال: حدثنا زائدة قال: حدثنا خالد بن علقمة عن عبد الخير قال: دخل علي الرحبة بعدما صلى الفجر, فجلس في الرحبة ثم قال لغلامه: ايتني بطهور فأتاه الغلام بإناء وطست قال عبد الخير: ونحن جلوس ننظر إليه فأخذ بيده اليمنى الإناء فأكفأه على يده اليسرى ثم غسل كفيه, ثم أخذ بيده اليمنى الإناء

(2/441)


فأفرغ على يده اليسرى فغسل كفيه ثلاث مرات, ثم أدخل يده اليمنى الإناء فلما ملأ كفه تمضمض واستنشق ونثر بيده اليسرى فغسل ثلاث مرات, ثم غسل وجهه ثلاث مرات, ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاث مرات, ثم غسل يده اليسرى إلى المرفق ثلاث مرات, ثم أدخل يديه الإناء حتى غمرهما بالماء ثم رفعهما بما حملتا, ثم مسح رأسه بيده كلتيهما, ثم صب بيده اليمنى على قدمه اليمنى, ثم غسلها بيده اليسرى ثلاث مرات, ثم صب بيده اليمنى على قدمه اليسرى, ثم غسلها بيده اليسرى ثلاث مرات, ثم أخذ غرفة بكفه فشرب منه ثم قال: من سره أن ينظر إلى طهور رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا طهوره. وهذا الذي رواه علي في صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم هو مذهب أصحابنا وذكر فيه أنه بدأ فأكفأ الإناء على يديه فغسلهما ثلاثا; وهو عند أصحابنا وسائر الفقهاء مستحب غير واجب, وإن أدخلهما الإناء قبل أن يغسلهما لم يفسد الماء إذا لم تكن فيهما نجاسة. ويروى عن الحسن البصري أنه قال: "من غمس يده في إناء قبل الغسل أهراق الماء", وتابعه على ذلك من لا يعتد به. ويحكى عن بعض أصحاب الحديث أنه فصل بين نوم الليل ونوم النهار; لأنه ينكشف في نوم الليل فلا يأمن أن تقع يده على موضع الاستنجاء, ولا ينكشف في نوم النهار. قال أبو بكر: والذي في حديث علي من صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم يسقط هذا الاعتبار ويقتضي أن يكون ذلك سنة الوضوء; لأن عليا كرم الله وجهه صلى الفجر ثم توضأ ليعلمهم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسل يديه قبل إدخالهما في الإناء. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا استيقظ أحدكم من منامه فليغسل يديه قبل أن يدخلهما الإناء ثلاثا, فإنه لا يدري أين باتت يده" . قال محمد بن الحسن: كانوا يستنجون بالأحجار, فكان الواحد منهم لا يأمن وقوع يده في حال النوم على موضع الاستنجاء وهناك بلة من عرق أو غيره فتصيبها, فأمر بالاحتياط من تلك النجاسة التي عسى أن تكون قد أصابت يده من موضع الاستنجاء. وقد اتفق الفقهاء على الندب, ومن ذكرنا قوله آنفا فهو شاذ, وظاهر الآية ينفي إيجابه, وهو قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} فاقتضى الظاهر وجوب غسلهما بعد إدخالهما الإناء; ومن أوجب غسلهما قبل ذلك فهو زائد في الآية ما ليس فيها, وذلك لا يجوز إلا بنص مثله أو باتفاق, والآية على عمومها فيمن قام من النوم وغيره; وعلى أنه قد روي أن الآية نزلت فيمن قام من النوم, وقد أطلقت جواز الغسل على سائر الوجوه. وقد روى عطاء بن يسار عن ابن عباس أنه قال لهم: أتحبون أن أريكم كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ؟ فدعا بإناء فيه ماء فاغترف غرفة بيده اليمنى فتمضمض واستنشق, ثم أخذ أخرى فغسل بها يده اليمنى, ثم أخذ أخرى فغسل بها يده اليسرى; وذكر الحديث. فأخبر في هذا الحديث أنه أدخل يده

(2/442)


الإناء قبل أن يغسلها, وهذا يدل على أن غسل اليد قبل إدخالها الإناء استحباب ليس بإيجاب وأن ما في حديث علي وحديث أبي هريرة في غسل اليد قبل إدخالها الإناء ندب, وحديث أبي هريرة في ذلك ظاهر الدلالة على أنه لم يرد به الإيجاب وأنه أراد الاحتياط مما عسى أن يكون قد أصابت يده موضع الاستنجاء, وهو قوله: "فإنه لا يدري أين باتت يده" فأخبر أن كون النجاسة على يده ليس بيقين, ومعلوم أن يده قد كانت طاهرة قبل النوم, فهي على أصل طهارتها, كمن كان على يقين من الطهارة فأمره النبي صلى الله عليه وسلم عند الشك أن يبني على يقين من الطهارة ويلغي الشك; فدل ذلك على أن أمره إذا استيقظ من نومه بغسل يديه قبل إدخالهما الإناء استحباب ليس بإيجاب.
وقد ذكر إبراهيم النخعي أن أصحاب عبد الله كانوا إذا ذكر لهم حديث أبي هريرة في أمر المستيقظ من نومه بغسل يديه قبل إدخالهما الإناء قالوا: إن أبا هريرة كان مهذارا فما يصنع بالمهراس1 وقال الأشجعي لأبي هريرة: فما تصنع بالمهراس؟ فقال: أعوذ بالله من شرك. والذي أنكره أصحاب عبد الله من قول أبي هريرة اعتقاده الإيجاب فيه; لأنه كان معلوما أن المهراس الذي كان بالمدينة قد كان يتوضأ منه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعده فلم ينكره أحد, ولم يكن الوضوء منه إلا بإدخال اليد فيه, فاستنكر أصحاب عبد الله اعتقاد الوجوب فيه مع ظهور الاغتراف منه باليد من غير نكير من أحد منهم عليه, ولم يدفعوا عندنا روايته وإنما أنكروا اعتقاد الوجوب.
. واختلف الفقهاء في مسح الأذنين مع الرأس, فقال أصحابنا: "هما من الرأس تمسحان معه", وهو قول مالك والثوري والأوزاعي; ورواه أشهب عن مالك, وكذلك رواه ابن القاسم عنه وزاد: "وإنما تمسحهما بماء جديد". وقال الحسن بن صالح: "يغسل باطن أذنيه مع وجهه ويمسح ظاهرهما مع رأسه". وقال الشافعي: "يمسحهما بماء جديد وهما سنة على حيالهما لا من الوجه ولا من الرأس". والدليل على أنهما من الرأس ويمسحان معه ما حدثنا عبيد الله بن الحسين قال: حدثنا أبو مسلم قال: حدثنا أبو عمر عن حماد بن زيد عن سنان بن ربيعة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل كفيه ثلاثا وطهر وجهه ثلاثا وذراعيه ثلاثا ومسح برأسه وأذنيه وقال: الأذنان من الرأس. وأخبرنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن النضر بن بحر قال: حدثنا عامر بن سنان قال: حدثنا زياد بن علاقة عن عبد الحكم عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأذنان من الرأس ما أقبل منهما وما أدبر" . وروى ابن عباس وأبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله أيضا.
ـــــــ
1 قوله: "بالمهراس" هو صخرة منقرة تسع كثيرا من الماء كما في النهاية. "لمصححه".

(2/443)


أما الحديث الأول فإنه يدل على صحة قولنا من وجهين: أحدهما: قوله إنه مسح برأسه وأذنيه, وهذا يقتضي أن يكون مسح الجميع بماء واحد ولا يجوز إثبات تجديد ماء لهما بغير رواية. والثاني: قوله: "الأذنان من الرأس" لأنه لا يخلو من أن يكون مراده تعريفنا موضع الأذنين من الرأس أو أنهما تابعتان له ممسوحتان معه, وغير جائز أن يكون مراده تعريفنا موضع الأذنين; لأن ذلك بين معلوم بالمشاهدة, وكلام النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو من الفائدة, فثبت أن المراد الوجه الثاني.
فإن قيل: يجوز أن يكون مراده أنهما ممسوحتان كالرأس. قيل له: لا يجوز ذلك; لأن اجتماعهما في الحكم لا يوجب إطلاق الحكم بأنهما منه, ألا ترى أنه غير جائز أن يقال الرجلان من الوجه من حيث كانتا مغسولتين كالوجه؟ فثبت أن قوله: "الأذنان من الرأس" إنما مراده أنهما كبعض الرأس وتابعتان له. ووجه آخر, وهو أن "من" بابها التبعيض إلا أن تقوم الدلالة على غيره, فقوله: "الأذنان من الرأس" حقيقته أنهما بعض الرأس, فواجب إذا كان كذلك أن تمسحا معه بماء واحد كما يمسح سائر أبعاض الرأس; وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا مسح المتوضئ برأسه خرجت خطاياه من رأسه حتى تخرج من تحت أذنيه, وإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من تحت أشفار عينيه" فأضاف الأذنين إلى الرأس كما جعل العينين من الوجه.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عشر من الفطرة: خمس في الرأس" فذكر منها المضمضة والاستنشاق, ولم يدل ذلك على دخولهما في حكم الرأس, كذلك قوله: "الأذنان من الرأس". قيل له: لم يقل الفم والأنف من الرأس, وإنما قال: "خمس في الرأس" فوصف ما يفعل من الخمس في الرأس; ونحن نقول: إن هذه الجملة هو الرأس, ونقول: العينان في الرأس, وكذلك الفم والأنف, قال الله تعالى : {لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ} [المنافقون: 5] والمراد هذه الجملة. على أن ما ذكرته هو لنا; لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمى ما تشتمل عليه هذه الجملة رأسا فوجب أن تكون الأذنان من الرأس لاشتمال هذه الجملة عليهما وأن لا يخرج شيء منها إلا بدلالة, ولما قال تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} وكان معلوما أنه لم يرد به الوجه وإن كان في الرأس وإنما أراد ما علا منه مما فوق الأذنين, ثم قال صلى الله عليه وسلم: "الأذنان من الرأس" كان ذلك إخبارا منه بأنهما من الرأس الممسوح.
فإن قيل: روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ لهما ماء جديدا, وروت الربيع بنت معوذ أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح برأسه وصدغيه ثم مسح أذنيه وهذا يقتضي تجديد الماء لهما. قيل له: أما قولك "إنه أخذ لهما ماء جديدا" فلا نعلمه روي من جهة يعتمد عليها, ولو صح لم

(2/444)


يدل على قولك; لأنهما إذا كانتا من الرأس فالماء الجديد الذي أخذه لهما هو الذي أخذه لجميع الرأس, ولا فرق بين قول القائلين: "أخذ للأذنين ماء جديدا" وبين قوله: "أخذ للرأس ماء جديدا" إذا كانتا من الرأس, والماء المأخوذ للرأس هو للأذنين; وقول الربيع بنت معوذ: "مسح برأسه ثم مسح أذنيه" لا دلالة فيه على تجديد الماء للأذنين; لأن ذكر المسح لا يقتضي تجديد الماء لهما; لأن اسم المسح يقع على هذا الفعل مع عدم الماء; وهو مثل ما روي أنه مسح رأسه مرتين بماء واحد أقبل بهما وأدبر وقد علمنا أنه أقبل بهما وأدبر ولم يوجب ذلك تجديد الماء; كذلك الأذنان; إذ غير ممكن مسح الرأس مع الأذنين في وقت واحد كما لا يمكن مسح مقدم الرأس ومؤخره في حال واحدة, فلا دلالة في ذكر مسح الأذنين بعد مسح الرأس على تجديد الماء لهما دون الرأس.

(2/445)


مطلب: في معنى قوله عليه السلام: "سجد وخهي للذي خلقه"
فإن احتجوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: "سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره" فجعل السمع من الوجه. قيل له: لم يرد بالوجه في هذا الموضع العضو المسمى بذلك, وإنما أراد به أن جملة الإنسان هو الساجد لله لا الوجه, وهو كقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88] يعني به ذاته. وأيضا فإنه ذكر السمع, وليس الأذنان هما السمع, فلا دلالة فيه على حكم الأذنين; وقد قال الشاعر:
إلى هامة قد وقر الضرب سمعها ... وليست كأخرى سمعها لم يوقر
فأضاف السمع إلى الهامة. ويدل على أنهما تمسحان مع الرأس على وجه التبع أنه ليس في الأصول مسح مسنون إلا على وجه التبع للمفروض منه, ألا ترى أن من سنة المسح على الخفين أن يمسح من أطراف الأصابع إلى أصل الساق والمفروض منه بعضه أما على قولنا فمقدار ثلاثة أصابع وعلى قول المخالف مقدار ما يسمى مسحا؟ وقد روي في حديث عبد خير عن علي أنه مسح رأسه مقدمه ومؤخره ثم قال: هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم; وروى عبد الله بن زيد المازني والمقدام بن معدي كرب: أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه بيديه أقبل بهما وأدبر, بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه1 ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه, ومعلوم أن القفا ليس بموضع مفروض المسح; لأن مسح ما تحت الأذنين لا يجزي من المفروض, وإنما مسح ذلك الموضع على جهة التبع للمفروض.
ـــــــ
1 قوله: إلى "قفاه" القفا مؤخر العنق كما في لسان العرب والمصباح. "لمصححه".

(2/445)


فإن قيل: لما لم تكن الأذنان موضع فرض المسح أشبهتا داخل الفم والأنف, فيجدد لهما ماء جديدا كالمضمضة والاستنشاق فيكون سنة على حيالها. قيل له: هذا غلط; لأن القفا ليس بموضع لفرض المسح, والنبي صلى الله عليه وسلم قد مسحه مع الرأس على وجه التبع, فكذلك الأذنان. وأما المضمضة والاستنشاق فكانا سنة على حيالهما من قبل أن داخل الفم والأنف ليسا من الوجه بحال فلم يكونا تابعين له فأخذ لهما ماء جديدا, والأذنان والقفا جميعا من الرأس وإن لم يكونا موضع الفرض فصارا تابعين له.
فإن قيل: لو كانت الأذنان من الرأس لحل بحلقهما من الإحرام ولكان حلقهما مسنونا مع الرأس إذا أراد الإحلال من إحرامه. قيل له: لم يسن حلقهما ولا حل بحلقهما; لأن في العادة أن لا شعر عليهما, وإنما الحلق مسنون في الرأس في الموضع الذي يكون عليه الشعر في العادة, فلما كان وجود الشعر على الأذنين شاذا نادرا أسقط حكمهما في الحلق ولم يسقط في المسح. وأيضا فإنا قلنا: إن الأذنين تابعتان للرأس على ما بينا لا على أنهما الأصل, ألا ترى أنا لا نجيز المسح عليهما دون الرأس؟ فكيف يلزمنا أن نجعلهما أصلا في الحلق وأما قول الحسن بن صالح في غسل باطن الأذنين ومسح ظاهرهما فلا وجه له لأنه لو كان باطنهما مغسولا لكانتا من الوجه فكان يجب غسلهما, ولما وافقنا على أن ظاهرهما ممسوح من الرأس دل ذلك على أنهما من الرأس, ولأنا لم نجد عضوا بعضه من الرأس وبعضه من الوجه. وقال أصحابنا: لو مسح ما تحت أذنيه من الرأس لم يجزه من الفرض لأن ذلك من القفا وليس هو من مواضع فرض المسح فلا يجزيه, ألا ترى أنه لو كان شعره قد بلغ منكبه فمسح ذلك الموضع من شعره لم يجزه عن مسح رأسه؟
واختلف الفقهاء في تفريق الوضوء, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والأوزاعي والشافعي: "هو جائز". وقال ابن أبي ليلى ومالك والليث: "إن تطاول أو تشاغل بعمل غيره ابتدأ الوضوء من أوله". والدليل على صحة ما قلناه قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} الآية فإذا أتى بالغسل على أي وجه فعله فقد قضى عهدة الآية, ولو شرطنا فيه الموالاة وترك التفريق كان فيه إثبات زيادة في النص, والزيادة في النص توجب نسخه ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} والحرج الضيق فأخبر تعالى أن المقصد حصول الطهارة ونفي الحرج, وفي قول مخالفينا إثبات الحرج مع وقوع الطهارة المذكورة في الآية. ويدل عليه قوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] الآية, فأخبر بوقوع التطهير بالماء من غير شرط الموالاة, فحيثما وجد كان مطهرا

(2/446)


بحكم الظاهر ويدل عليه قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان: 48] ومعناه مطهرا, فحيثما وجد فواجب أن يكون هذا حكمه; ولو منعنا الطهارة مع وجود الغسل لأجل التفريق كنا قد سلبناه الصفة التي وصفه الله تعالى بها من كونه طهورا ويدل عليه ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا علي بن محمد بن أبي الشوارب قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا أبو الأحوص قال: حدثنا محمد بن عبيد الله عن الحسين بن سعيد عن أبيه عن علي قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني اغتسلت من الجنابة وصليت الفجر فلما أصبحت رأيت بذراعي قدر موضع الظفر لم يصبه الماء؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو مسحت عليه بيدك أجزأك" فأجاز له أن يمسح عليه بعد تراخي الوقت ولم يأمره باستئناف الطهارة. وروى عبد الله بن عمر وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما وأعقابهم تلوح, فقال: "ويل للأعقاب من النار أسبغوا الوضوء" . ويدل عليه حديث رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يضع الوضوء مواضعه" . والتفريق لا يخرجه من أن يكون وضعه مواضعه لأن مواضعه هذه الأعضاء المذكورة في القرآن, ولم يشرط فيه الموالاة وترك التفريق. ويدل عليه من وجه آخر قوله في لفظ آخر: "حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه" ولم يذكر فيه التتابع, فهو على الأمرين من تفريق أو موالاة.
فإن قيل: لما كان قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} أمرا يقتضي الفور وجب أن يكون مفعولا على الفور, فإذا لم يفعل استقبل; إذ لم يفعل المأمور به. قيل له: الأمر على الفور لا يمنع صحة فعله على المهلة, ألا ترى أن تارك الوضوء رأسا لا تفسد طهارته إذا فعله بعد ذلك على التراخي؟ وكذلك سائر الأوامر التي ليست موقتة فإن تركها في وقت الأمر بها لا يفسدها إذا فعلها ولا يمنع صحتها; وعلى أن هذا المعنى لأن يكون دليلا على صحة قولنا أولى وذلك لأن غسل العضو المفعول على الفور قد صح عندنا جميعا وتركه لغسل باقي الأعضاء ينبغي أن لا يغير حكم الأول ولا تلزمه إعادته, لأن في إيجاب إعادته إبطاله عن الفور وإيجاب فعله على التراخي, فواجب أن يكون مقرا على حكمه في صحة فعله بديا على الفور.
واحتج أيضا القائلون بذلك بحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة وقال: "هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به" قالوا: ومعلوم أن فعله كان على وجه المتابعة. قيل له: هذا دعوى, ومن أين لك أنه فعله متتابعا؟ وجائز أن يكون غسل وجهه في وقت ثم غسل يديه بعد ساعات وكذلك سائر أعضائه ليفيد الحاضرين حكم جواز فعله متفرقا, وعلى أنه لو تابع لم يدل قوله ذلك على وجوب التتابع; لأن قوله: "هذا وضوء" إنما إشارة إلى الغسل لا إلى الزمان.

(2/447)


فإن قيل: لما كان بعضه منوطا ببعض حتى لا يصح لبعضه حكم إلا بجميعه أشبه أفعال الصلاة. قيل له: هذا منتقض بالحج; لأن بعضه منوط ببعض, ألا ترى أنه لو لم يقف بعرفة بطل إحرامه وطوافه الذي قدمه ولم يجب من أجل ذلك متابعة أفعاله؟ وأيضا فإنه قد ثبت لغسل بعض الأعضاء حكم دون بعض, ألا ترى أنه لو كان بذراعه عذر لسقط فرض طهارته عنه؟ وليس كذلك الصلاة لأن أفعالها كلها منوطة بعضها ببعض, فإما أن يسقط جميعها أو يثبت جميعها على الحال التي يمكن فعلها, فمن حيث جاز سقوط بعض أعضاء الطهارة وبقي البعض أشبه الصلاة والزكاة وسائر العبادات إذا اجتمع وجوبها عليه فيجوز تفريقها عليه. وأيضا فإن الصلاة إنما لزم فيها الموالاة من غير فصل لأنه يدخل فيها بتحريمة ولا يصح بناء أفعالها إلا على التحريمة التي دخل بها في الصلاة, فمتى أبطل التحريمة بكلام أو فعل لم يصح له بناء باقي أفعالها بغير تحريمة, والطهارة لا تحتاج إلى تحريمة, ألا ترى أنه يصح في أضعافها الكلام وسائر الأفعال ولا يبطلها ذلك؟ وإنما شرط فيه من قال ذلك عدم جفاف العضو قبل إتمام الطهارة وجفاف العضو لا تأثير له في حكم رفع الطهارة, ألا ترى أن جفاف جميع الأعضاء لا يؤثر في رفعها؟ كذلك جفاف بعضها. وأيضا فلو كان هذا تشبيها صحيحا وقياسا مستقيما لما صح في هذا الموضع; إذ غير جائز الزيادة في النص بالقياس فلا مدخل للقياس ههنا. وأيضا فإنه لا خلاف أنه لو كان في الشمس ووالى بين الوضوء إلا أنه كان يجف العضو منه قبل أن يغسل الآخر أنه لا يوجب ذلك بطلان الطهارة, كذلك إذا جف بتركه إلى أن يغسل الآخر.

(2/448)


فصل مطلب: فيما تمسك به القائلون بفرض التسمية على الوضوء وجواب المصنف عن ذلك
وقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية, يدل على أن التسمية على الوضوء ليست بفرض لأنه أباح الصلاة بغسل هذه الأعضاء من غير شرط التسمية, وهو قول أصحابنا وسائر فقهاء الأمصار. وحكي عن بعض أصحاب الحديث أنه رآها فرضا في الوضوء, فإن تركها عامدا لم يجزه وإن تركها ناسيا أجزأه. ويدل على جوازه قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان: 48] فعلق صحة الطهارة بالفعل من غير ذكر التسمية شرطا فيه, فمن شرطها فهو زائد في حكم هذه الآيات ما ليس منها وناف لما أباحته من جواز الصلاة بوجود الغسل. ويدل عليه من جهة السنة

(2/448)


حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه توضأ مرة مرة وقال: "هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به" ولم يذكر فيه التسمية; وقد علم الأعرابي الطهارة في الصلاة في حديث رفاعة بن رافع وقال: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه ويديه" . إلى آخره, ولم يذكر التسمية; وحديث علي وعثمان وعبد الله بن زيد وغيرهم في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر أحد منهم التسمية فرضا فيه, وقالوا: هذا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو كانت التسمية فرضا فيه لذكروها ولورد النقل به متواترا في وزن ورود النقل في سائر الأعضاء المفروض طهارتها, لعموم الحاجة إليه.
فإن احتجوا بحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه" . قيل له: لا تجوز الزيادة في نص القرآن إلا بمثل ما يجوز به النسخ, فهذا سؤال ساقط من وجهين: أحدهما: ما ذكرنا, والآخر أن أخبار الآحاد غير مقبولة فيما عمت البلوى به, وإن صح احتمل أنه يريد به نفي الكمال لا نفي الأصل, كقوله: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" و "من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له" ونحو ذلك.
فإن قيل: لما كان الحدث يبطله صار كالصلاة في الحاجة إلى ذكر اسم الله تعالى في ابتدائه. قيل له: قولك إن الحدث يبطل الصلاة غلط عندنا لأنه جائز بقاء الصلاة مع الحدث إذا سبقه ويتوضأ ويبني; وأيضا فليست العلة في حاجة الصلاة إلى الذكر أن الحدث يبطلها وإنما المعنى أن القراءة مفروضة فيها, وأيضا نقيسه على غسل النجاسة بمعنى أنه طهارة, وأيضا فقد وافقونا على إن تركها ناسيا لا يمنع صحة الطهارة; فبطل بذلك قولهم من وجهين: أحدهما: أن الصلاة يستوي في بطلانها ترك ذكر التحريمة ناسيا أو عامدا, والثاني: أنها لو كانت فرضا لما أسقطها النسيان; إذ كانت شرطا في صحة الطهارة كسائر شرائطها المذكورة.

(2/449)


فصل مطلب: اختلف الفقهاء في فرضية الاستنجاء
قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية, يدل على أن الاستنجاء ليس بفرض وأن الصلاة جائزة مع تركه إذا لم يتعد الموضع وقد اختلف الفقهاء في ذلك, فأجاز أصحابنا صلاته وإن كان مسيئا في تركه. وقال الشافعي: "لا يجزيه إذا تركه رأسا". وظاهر الآية يدل على صحة القول الأول. وروي في التفسير أن معناه: إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم محدثون; وقال في نسق الآية: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ

(2/449)


الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فحوت هذه الآية الدلالة من وجهين على ما قلنا: أحدهما: إيجابه على المحدث غسل هذه الأعضاء, وإباحة الصلاة به; وموجب الاستنجاء فرضا مانع ما أباحته الآية وذلك يوجب النسخ, وغير جائز نسخ الآية إلا بما يوجب العلم من النقل المتواتر وذلك غير معلوم في إيجاب الاستنجاء. ومع ذلك فإنهم متفقون على أن هذه الآية غير منسوخة وأنها ثابتة الحكم, وفي اتفاقهم على ذلك ما يبطل قول موجبي الاستنجاء فرضا. والوجه الآخر من دلالة الآية: قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} إلى آخرها; فأوجب التيمم على من جاء من الغائط, وذلك كناية عن قضاء الحاجة, فأباح صلاته بالتيمم من غير استنجاء, فدل ذلك على أنه غير فرض ويدل عليه من جهة السنة حديث علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تتم صلاة أحدكم حتى يغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل رجليه" فأباح صلاته بعد غسل هذه الأعضاء مع ترك الاستنجاء. ويدل عليه أيضا حديث الحصين الحراني عن أبي سعيد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج, ومن اكتحل فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج" فنفى الحرج عن تارك الاستجمار, فدل على أنه ليس بفرض.
فإن قيل: إنما نفى الحرج عن تاركه إلى الماء. قيل له: هذا خطأ من وجهين: أحدهما: أنه أجاز تركه من غير استعمال الماء, ومن ادعى تركه إلى الاستنجاء بالماء فإنما خصه بغير دلالة. والثاني: أنه تسقط فائدته; لأنه معلوم أن الاستنجاء بالماء أفضل من الاستجمار بالأحجار, فغير جائز أن ينفي الحرج عن فاعل الأفضل, هذا ممتنع مستحيل لا يقوله النبي صلى الله عليه وسلم; إذ كان وضعا للكلام في غير موضعه.
فإن قيل: في حديث سلمان: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نجتزئ بدون ثلاثة أحجار, وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "فليستنج بثلاثة أحجار" وأمره على الوجوب, فيحمل قوله: "فلا حرج" على ما لا يسقط إيجاب الأمر, وهو أن يكون إنما نفى الحرج عمن لم يستجمر وترا ويفعله شفعا, لا بأن يتركه أصلا, أو على أن يتركه إلى الماء ليسلم لنا مقتضى الأمر من الإيجاب. قيل له: بل نجمع بينهما ونستعملهما ولا نسقط أحدهما بالآخر, فنجعل أمره بالاستنجاء ونهيه عن تركه على الندب, ونستعمل معه قوله صلى الله عليه وسلم: "ومن لا فلا حرج" في نفي الإيجاب; ولو استعمل على ما ذكرت كان فيه إسقاط أحدهما أصلا, لا سيما إذا كان خبرنا موافقا لما تضمنه نص الآية من دلالتها على جواز الصلاة مع تركه. ويدل على أنه غير فرض وعلى جواز

(2/450)


الصلاة مع تركه اتفاق الجميع على جواز صلاة المستنجي بالأحجار مع وجود الماء وعدم الضرورة في العدول عنه إلى الأحجار, ولو كان الاستنجاء فرضا لكان الواجب أن يكون بالماء دون الأحجار, كسائر البدن إذا أصابته نجاسة كثيرة لا تجوز الصلاة بإزالتها بالأحجار دون غسلها بالماء إذا كان موجودا; وفي ذلك دليل على أن هذا القدر من النجاسة معفو عنه.
فإن قيل: أنت تجيز فرك المني من الثوب إذا كان يابسا ولم يدل ذلك على جواز الصلاة مع تركه إذا كان كثيرا, فكذلك موضع الاستنجاء مخصوص بجواز الصلاة مع إزالته بالأحجار. قيل له: إنما أجزنا ذلك في المني وإن كان نجسا لخفة حكمه في نفسه, ألا ترى أنه لا يختلف حكمه في أي موضع أصابه من ثوبه في جواز فركه؟ فأما بدن الإنسان فلا يختلف حكم شيء منه في عدم جواز إزالة النجاسة عنه بغير ما يزيله من الماء وسائر المائعات, وكذلك حكم النجاسة التي على موضع الاستنجاء لا يختلف في تغليظ حكمها, فواجب أن لا يختلف حكمها في ذلك الموضع وفي سائر البدن. وكذلك إن سألونا عن حكم النجاسة التي لها جرم قائم في الخف أنه يطهر بالدلك بعد الجفاف ولو أصابت البدن لم يزلها إلا الغسل. فيقال لهم: إنما اختلفنا لاختلاف حال جرم الخف وبدن الإنسان في كون جرم الخف مستخصفا غير ناشف لما يحصل فيه من الرطوبة إلى نفسه, وجرم النجاسة سخيف متخلخل ينشف الرطوبة الحاصلة في الخف إلى نفسها, فإذا حكت لم يبق منها إلا اليسير الذي لا حكم له, فصار اختلاف أحكامها في الحك والفرك والغسل متعلقا إما بنفس النجاسة لخفتها وإما بما تحله النجاسة في إمكان إزالتها عنه بغير الماء, كما نقول في السيف إذا أصابه دم فمسحه إنه يجزي لأن جرم السيف لا يقبل النجاسة فينشفها إلى نفسه, فإذا أزيل ما على ظاهره لم يبق هناك إلا ما لا حكم له.

(2/451)


فصل
ويستدل بقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية, على بطلان قول القائلين بإيجاب الترتيب في الوضوء, وعلى أنه جائز تقديم بعضها على بعض على ما يرى المتوضئ; وهو قول أصحابنا ومالك والثوري والليث والأوزاعي وقال الشافعي: "لا يجزيه غسل الذراعين قبل الوجه ولا غسل الرجلين قبل الذراعين". وهذا القول مما خرج به الشافعي عن إجماع السلف والفقهاء وذلك لأنه روي عن علي وعبد الله وأبي هريرة: "ما أبالي بأي أعضائي بدأت إذا أتممت وضوئي", ولا يروى عن أحد من السلف والخلف فيما نعلم مثل قول الشافعي. وقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية, يدل من ثلاثة أوجه على سقوط فرض الترتيب: أحدها مقتضى ظاهرها جواز الصلاة بحصول الغسل من غير شرط الترتيب; إذ كانت "الواو" ههنا عند

(2/451)


أهل اللغة لا توجب الترتيب; قاله المبرد وثعلب جميعا, وقالوا: إن قول القائل: "رأيت زيدا وعمرا" بمنزلة قوله: "رأيت الزيدين ورأيتهما" وكذلك هو في عادة أهل اللفظ, ألا ترى أن من سمع قائلا يقول: "رأيت زيدا وعمرا" لم يعتقد في خبره أنه رأى زيدا قبل عمرو, بل يجوز أن يكون رآهما معا, وجائز أن يكون رأى عمرا قبل زيد؟ فثبت بذلك أن "الواو" لا توجب الترتيب. وقد أجمعوا جميعا أيضا في رجل لو قال: "إذا دخلت الدار فامرأتي طالق وعبدي حر وعلي صدقة" أنه إذا دخل الدار لزمه ذلك كله في وقت واحد, لا يلزمه أحدها قبل الآخر; كذلك هذا. ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا ما شاء الله وشئت ولكن قولوا ما شاء الله ثم شئت" فلو كانت "الواو" توجب الترتيب لجرت مجرى "ثم" ولما فرق النبي صلى الله عليه وسلم بينهما. وإذا ثبت أنه ليس في الآية إيجاب الترتيب فموجبه في الطهارة مخالف لها وزائد فيها ما ليس منها, وذلك يوجب نسخ الآية عندنا لحظره ما أباحته; ولم يختلفوا أنه ليس في هذه الآية نسخ, فثبت جواز فعله غير مرتب. والوجه الثاني من دلالة الآية: قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} ولا خلاف بين فقهاء الأمصار أن الرجل مغسولة معطوفة في المعنى على الأيدي, وأن تقديرها: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلكم وامسحوا برءوسكم; فثبت بذلك أن ترتيب اللفظ على هذا النظام غير مراد به ترتيب المعنى. والوجه الثالث: قوله في نسقها: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} وهذا الفصل يدل من وجهين على سقوط الترتيب: أحدهما: نفيه الحرج, وهو الضيق فيما تعبدنا به من الطهارة, وفي إيجاب الترتيب إثبات للحرج ونفي التوسعة. والثاني: قوله: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} فأخبر أن مراده حصول الطهارة بغسل هذه الأعضاء, ووجود ذلك مع عدم الترتيب كهو مع وجوده; إذ كان مراد الله تعالى الغسل.
فإن قيل على الفصل الأول: نحن نسلم لك أن "الواو" لا توجب الترتيب, ولكن الآية قد اقتضت إيجابه من حيث كانت الفاء للتعقيب, ولا خلاف بين أهل اللغة فيه, فلما قال تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} لزم بحكم اللفظ أن يكون الذي يلي حال القيام إليها غسل الوجه; لأنه معطوف عليه بالفاء, فلزم به تقديم غسله على سائر الأعضاء, وإذا لزم الترتيب في غسل الوجه لزم في سائر الأعضاء لأن أحدا لم يفرق بينهما. قيل له: هذا غير واجب من وجهين: أحدهما: أن قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} متفق على أنه ليس المراد به حقيقة اللفظ لأن الحقيقة تقتضي إيجاب الوضوء بعد القيام إلى الصلاة; لأنه جعله شرطا فيه فأطلق ذكر القيام وأراد به غيره, ففيه ضمير على ما بينا فيما تقدم; وما كان هذا سبيله فغير جائز استعماله إلا بقيام الدلالة عليه; إذ كان مجازا; فإذا لا يصح إيجاب غسل الوجه مرتبا على المذكور في الآية لأجل إدخال الفاء عليه; إذ

(2/452)


كان المعنى الذي ترتب عليه الغسل موقوفا على الدلالة; فهذا وجه يسقط به سؤال هذا السائل. والوجه الآخر: أن نسلم لهم جواز اعتبار هذا اللفظ فيما يقتضيه من الترتيب, فنقول لهم: إذا ثبت أن "الواو" لا توجب الترتيب صار تقدير الآية: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا هذه الأعضاء فيصير الجميع مرتبا على القيام وليس يختص به الوجه دون سائرها; إذ كانت "الواو" للجميع, فيصير كأنه عطف الأعضاء كلها مجموعة بالفاء على حال القيام, فلا دلالة فيه على الترتيب, بل تقتضي إسقاط الترتيب.
ويدل على سقوط الترتيب قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً} [الفرقان: 48] ومعناه: مطهرا; فحيثما وجد ينبغي أن يكون مطهرا مستوفيا لهذه الصفة التي وصفه الله بها; وموجب الترتيب قد سلبه هذه الصفة إلا مع وجود معنى آخر غيره, وهذا غير جائز. ويدل عليه من جهة السنة حديث رفاعة بن رافع عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الأعرابي حين علمه الصلاة وقال له: "إنه لا تتم صلاة أحد من الناس حتى يضع الوضوء مواضعه ثم يكبر ويحمد الله" ذكر الحديث; فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا وضع الوضوء مواضعه أجزأه, ومواضع الوضوء الأعضاء المذكورة في الآية, فأجاز الصلاة بغسلها من غير ذكر الترتيب, فدل على أن غسل هذه الأعضاء يوجب كمال طهارته لوضعه الوضوء مواضعه.
فإن قيل: إذا لم يرتب فلم يضع الوضوء مواضعه. قيل له: هذا غلط; لأن مواضع الوضوء معلومة مذكورة في الكتاب, فعلى أي وجه حصل الغسل فقد وضع الوضوء مواضعه فيجزيه بحكم النبي صلى الله عليه وسلم بإكمال طهارته إذا فعل ذلك. ويدل عليه من جهة النظر اتفاق الجميع على جواز طهارته لو بدأ من المرفق إلى الزند, وقال تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} فلما لم يجب الترتيب فيما هو مرتب في مقتضى حقيقة اللفظ فما لم يقتض اللفظ ترتيبه أحرى أن يجوز, وهذه دلالة ظاهرة لا يحتاج معها إلى ذكر علة يجمعها; لأنه قد ثبت بما وصفنا أن المقصد فيه ليس الترتيب; إذ لو كان كذلك لكان ما اقتضى اللفظ ترتيبه أولى أن يكون مرتبا. وأيضا يجوز أن يقاس عليهما بأنهما جميعا من أعضاء الطهارة, فلما سقط الترتيب في أحدهما وجب سقوطه في الآخر. وأيضا لما لم يجب الترتيب بين الصلاة والزكاة, إذ كل واحدة منهما يجوز سقوطها مع ثبوت فرض الأخرى, كان كذلك الترتيب في الوضوء لجواز سقوط فرض غسل الرجلين لعلة بهما مع لزوم فرض غسل الوجه. وأيضا لما لم يستحل جمع هذه الأعضاء في الغسل وجب أن لا يجب فيها الترتيب كالصلاة والزكاة, وقد روي عن عثمان أنه توضأ فغسل وجهه ثم يديه ثم غسل رجليه ثم مسح ثم قال: هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ.

(2/453)


فإن احتجوا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة وقال: "هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به". قيل له: ليس في هذا الخبر ذكر الترتيب وإنما هو حديث زيد العمي عن معاوية بن قرة عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة ثم قال: "هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به" ثم توضأ مرتين مرتين, وذكر الحديث, فلم يذكر فيه أنه فعله مرتبا; وليس يمتنع أن يكون قد بدأ بالذراعين قبل الوجه أو بمسح الرأس قبله, ومن ادعى أنه فعله مرتبا لم يمكنه إثباته إلا برواية.
فإن قيل: كيف يجوز أن يتأول عليه ترك الترتيب مع قولك إن المستحب فعله مرتبا؟ قيل له جائز أن يترك المستحب إلى غيره مما هو مباح, ومع ذلك فيجوز أن يكون فعله غير مرتب على وجه التعليم, كما أنه أخر المغرب في حال على وجه التعليم والمستحب تقديمها في سائر الأوقات.
فإن قيل: فإن لم يكن فعله مرتبا فواجب أن يكون فعله غير مرتب واجبا, لقوله: "هذا وضوء من لا يقبل الله له صلاة إلا به" . قيل له: لو قبلنا ذلك وقلنا مع ذلك إن اللفظ يقتضي وجوب فعله على ما أشار به إليه من عدم ترتيب الفعل لكنا أجزناه مرتبا بدلالة تسقط سؤالك, ولكنا نقول إن قوله: "هذا وضوء" إنما هو إشارة إلى الغسل دون الترتيب, فلذلك لم يكن للترتيب فيه مدخل.
فإن احتجوا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد الصفا وقال: "نبدأ بما بدأ الله به" وذلك عموم في ترتيب الحكم به واللفظ جميعا. قيل له: هذا يدل على أن "الواو" لا توجب الترتيب; لأنها لو كانت توجبه لما احتاج إلى تعريفه الحاضرين وهم أهل اللسان, ولا دلالة فيه مع ذلك على وجوب الترتيب في الصفا والمروة فكيف به في غيره لأن أكثر ما فيه أنه إخبار عما يريد فعله من التبدئة بالصفا, وإخباره عما يريد فعله لا يقتضي وجوبا, كما أن فعله لا يقتضي الإيجاب; وعلى أنه لو اقتضى الإيجاب لكان حكمه مقصورا على ما أخبر به وفعله دون غيره.
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وسلم: "نبدأ بما بدأ الله به" إخبار بأن ما بدأ الله به في اللفظ فهو مبدو به في المعنى, لولا ذلك لم يقل: "نبدأ بما بدأ الله به" إنما أراد التبدئة به في الفعل, فتضمن ذلك إخبارا بأن الله قد بدأ به في الحكم من حيث بدأ به في اللفظ. قيل له: ليس هذا كما ظننت, من قبل أنه يجوز أن يقول: نبدأ بالفعل فيما بدأ الله به في اللفظ, فيكون كلاما صحيحا مفيدا. وأيضا لا يمتنع عندنا أن يريد بترتيب اللفظ ترتيب الفعل, إلا أنه لا يجوز إيجابه إلا بدلالة, ألا ترى أن "ثم" حقيقتها التراخي, وقد ترد وتكون في معنى "الواو" كقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17] ومعناه: وكان من الذين

(2/454)


آمنوا; وقوله تعالى: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} [يونس:46] ومعناه: والله شهيد; وكما تجيء "أو" بمعنى "الواو" كقوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: 135] ومعناه: إن يكن غنيا وفقيرا; فكذلك لا يمتنع أن يريد بالواو الترتيب فتكون مجازا ولا يجوز حملها عليه إلا بدلالة.

(2/455)


مطلب: في جواب ابن عباس السائل عن تقديم العمرة على الحج
فإن قيل: سئل ابن عباس وقيل له: كيف تأمر بالعمرة قبل الحج والله سبحانه يقول: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] فقال: كيف تقرءون الدين قبل الوصية أو الوصية قبل الدين؟ قالوا: الوصية, قال: فبأيهما تبدءون؟ قالوا: بالدين, قال: فهو ذاك. فلولا أن في لسانهم الترتيب في الفعل على حسب وجوده في اللفظ لما سألوه عن ذلك. قيل له: كيف يحتج بقول هذا السائل وهو قد جهل ما فيه الترتيب بلا خلاف بين أهل اللغة فيه, وهو قوله {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196] وهذا اللفظ لا محالة يوجب ترتيب فعل الحج على العمرة وتقديمها عليه, فمن جهل هذا لم ينكر منه الجهل بحكم اللفظ في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وما يدري هذا القائل أن هذا السائل كان من أهل اللغة, وعسى أن يكون ممن أسلم من العجم ولم يكن من أهل المعرفة باللسان; وأيهما أولى قول ابن عباس في أن ترتيب اللفظ لا يوجب ترتيب الفعل, أو قول هذا السائل؟ فلو لم يكن في إسقاط قول القائلين بالترتيب إلا قول ابن عباس لكان كافيا مغنيا.
فإن قيل: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ابدءوا بما بدأ الله به" , وقال تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 17, 18] فقوله: "ابدءوا بما بدأ الله به" أمر يقتضي التبدئة بما بدأ الله به في اللفظ والحكم, وقوله عز وجل: {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] لزوم في عموم اتباعه مرتبا إذا ورد اللفظ كذلك. قيل له: أما قوله: "ابدءوا بما بدأ الله به" فإنما ورد في شأن الصفا والمروة, فذكر بعضهم القصة على وجهها, وحفظ بعضهم ذكر السبب واقتصر على قوله صلى الله عليه وسلم: "ابدءوا بما بدأ الله به" , وغير جائز لنا أن نجعلهما حديثين ونثبت من النبي صلى الله عليه وسلم القول في حالين إلا بدلالة توجب ذلك. وأيضا فنحن نبدأ بما بدأ الله به, وإنما الكلام بيننا وبين مخالفينا في مراد الله من التبدئة بالفعل إذا بدأ به في اللفظ, فالواجب أن نثبت أن الله قد أراد ترتيب الحكم حتى نبدأ به. وكذلك الجواب في قوله: {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] لأن اتباع قرآنه أن نبدأ به على ترتيبه ونظامه, وواجب أن نبدأ بحكم القرآن على حسب مراده من ترتيب أو

(2/455)


جمع وغيره; وأنت متى أوجبت الترتيب فيما لا يقتضي المراد ترتيبه فلم تتبع قرآنه, وترتيب اللفظ لا يوجب ترتيب الفعل.
فإن قيل: إذا كان القرآن اسما للتأليف والحكم جميعا فواجب علينا اتباعه في الأمرين. قيل له: القرآن اسم للمتلو حكما كان أو خبرا, فعلينا اتباعه في تلاوته; فأما مراد ترتيب الفعل على ترتيب اللفظ فإن المرجع فيه إلى مقتضى اللغة وليس في اللغة إيجاب ترتيب الفعل على ترتيب اللفظ في المأمور به, ألا ترى أن كثيرا من القرآن قد نزل بأحكام ثم نزلت بعده أحكام أخر ولم يوجب تقديم تلاوته تقديم فعله على ما نزل بعده؟ وقد علمنا أنه غير جائز تغيير نظم القرآن والسور والآي عما هي عليه, وليس يوجب ذلك ترتيب الأحكام المذكورة فيها حسب ترتيب التلاوة, فبان بذلك سقوط هذا السؤال.
فإن قيل: قد أثبت الترتيب بالواو في قول الرجل لامرأته: "أنت طالق وطالق وطالق" قبل الدخول بها, فأثبتها بالأولى ولم توقع الثانية والثالثة, فجعلت" الواو" مرتبة بحكم اللفظ, فكذلك قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} يلزمك إيجاب الترتيب في غسل هذه الأعضاء حسب ما في نظام التلاوة من الترتيب. قيل له: لم نوقع الأولى قبل الثانية في مسألة الطلاق لما ذكرت من كون "الواو" مقتضية للترتيب, وإنما أوقعنا الأولى قبل الثانية لأنه أوقعها غير معلقة بشرط ولا مضافة إلى وقت, وحكم الطلاق إذا حصل هكذا أن يقع غير منتظر به حال أخرى, فلما وقعت الأولى لأنه قد بدأ بها في اللفظ ثم أوقع الثانية صادفتها الثانية وليست هي بزوجة فلم تلحقها; وأما قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} فلم يقع به غسل الوجه قبل اليد ولا اليد قبل المسح; لأن غسل بعض هذه الأعضاء لا يغني ولا يتعلق به حكم إلا بغسل الجميع, فصار غسل الجميع موجبا معا بحكم اللفظ, فلم يقتض اللفظ الترتيب, ألا ترى أنه لو علق الطلاق الأول والثاني والثالث بشرط فقال: "أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار" لم يقع منه شيء إلا بالدخول؟ لأنه شرط في كل واحدة ما شرطه في الأخرى من الدخول, كما شرط في غسل كل واحد من الأعضاء غسل الأعضاء الأخر; ولا يختلف أهل العلم في رجل قال لامرأته: "إن دخلت هذه الدار وهذه الدار فأنت طالق" فدخلت الثانية ثم الأولى أنها تطلق, ولم يكن قوله: "هذه وهذه" موجبا لتقديم الأولى في الشرط الذي علق به وقوع الطلاق.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يسبغ الوضوء فيغسل وجهه ثم يديه ثم يمسح برأسه ثم يغسل رجليه" و "ثم" تقتضي الترتيب بلا خلاف. قيل له: لا يخلو قائل ذلك من أن يكون متكذبا أو جاهلا, وأكثر ظني أن قائله

(2/456)


فيه متكذب وقد تعمد ذلك; لأن هذا إنما هو حديث علي بن يحيى بن خلاد عن أبيه عن عمه رفاعة بن رافع, وقد روي من طرق كثيرة وليس في شيء منها ما ذكر من الترتيب وعطف الأعضاء بعضها على بعض ب "ثم" وإنما أكثر ما فيه: "يغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين" وقال في بعضها: "حتى يضع الطهور مواضعه" وذلك يقتضي جواز ترك الترتيب, وأما عطفه ب "ثم" فما رواه أحد ولا ذكره بإسناد ضعيف ولا قوي. وعلى أنه لو روي ذلك في الحديث لم يجز الاعتراض به على القرآن في إثبات الزيادة فيه وإيجاب نسخه, فإذ قد ثبت أنه ليس في القرآن إيجاب الترتيب فغير جائز إثباته بخبر الواحد لما وصفنا

(2/457)


باب الغسل من الجنابة
قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا } قال أبو بكر: الجنابة اسم شرعي يفيد لزوم اجتناب الصلاة وقراءة القرآن ومس المصحف ودخول المسجد إلا بعد الاغتسال فمن كان مأمورا باجتناب ما ذكرنا من الأمور موقوف الحكم على الاغتسال فهو جنب, وذلك إنما يكون بالإنزال على وجه الدفق والشهوة أو الإيلاج في أحد السبيلين من الإنسان, ويستوي فيه الفاعل والمفعول به. وينفصل حكم الجنابة من حكم الحيض والنفاس وإن كان الحيض والنفاس يحظران ما تحظره الجنابة مما قدمنا, بأن الحيض والنفاس يحظران الوطء أيضا, ووجود الغسل لا يطهرهما أيضا ما دامت حائضا أو نفساء, والغسل يطهر الجنب ولا تحظر عليه الجنابة الوطء. وإنما سمي جنبا لما لزم من اجتناب ما وصفنا إلى أن يغتسل فيطهره الغسل. والجنب اسم يطلق على الواحد وعلى الجماعة, وذلك لأنه مصدر, كما قالوا" رجل عدل وقوم عدل" و" رجل زور وقول زور" من الزيارة, وتقول منه: "أجنب الرجل وتجنب واجتنب" والمصدر الجنابة والاجتناب; فالجنابة المذكورة في هذا الموضع هي البعد والاجتناب لما وصفنا. وقال الله تعالى: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36] يعني: البعيد منه نسبا; فصارت الجنابة في الشرح اسما للزوم اجتناب ما وصفنا من الأمور, وأصله التباعد عن الشيء, وهو مثل الصوم قد صار اسما في الشرع للإمساك عن أشياء معلومة وقد كان أصله في اللغة الإمساك فقط واختص في الشرع بما قد علم وقوعه عليه, ونظائره من الأسماء الشرعية المنقولة من اللغة إليها, فكان المعقول بها ما استقرت عليه أحكامها في الشرع; فأوجب الله تعالى على من حصلت له هذه السمة الطهارة بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} وقوله في آية أخرى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} . وقال: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ

(2/457)


السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال: 11] روي أنهم أصابتهم جنابة, فأنزل الله مطرا فأزالوا به أثر الاحتلام. والمفروض من غسل الجنابة إيصال الماء بالغسل إلى كل موضع يلحقه حكم التطهير من بدنه, لعموم قوله: {فَاطَّهَّرُوا} .
وبين النبي صلى الله عليه وسلم مسنون الغسل, فيما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا علي بن محمد بن عبد الملك قال: حدثنا محمد بن مسدد قال: حدثنا عبد الله بن داود عن الأعمش عن سالم عن كريب قال: حدثنا ابن عباس عن خالته ميمونة قالت: وضعت للنبي صلى الله عليه وسلم غسلا1 يغتسل من الجنابة, فأكفأ الإناء على يده اليمنى فغسلها مرتين أو ثلاثا, ثم صب على فرجه بشماله, ثم ضرب بيده الأرض فغسلها, ثم تمضمض واستنشق وغسل وجهه ويديه, ثم صب على رأسه وجسده, ثم تنحى ناحية فغسل رجليه, فناولته المنديل فلم يأخذه وجعل ينفض الماء عن جسده وكذلك الغسل من الجنابة عند أصحابنا. والوضوء ليس بفرض في الجنابة, لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} وإذا اغتسل فقد تطهر وقضى عهدة الآية. وقال تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] إلى قوله: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] فأباح الصلاة بالاغتسال من غير وضوء; فمن شرط في صحته مع وجود الغسل وضوءا فقد زاد في الآية ما ليس فيها, وذلك غير جائز لما بينا فيما سلف.
فإن قيل: قال الله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية, وذلك عموم في سائر من قام إليها. قيل له: فالجنب حين غسل سائر جسده فهو غاسل لهذه الأعضاء فقد قضى عهدة الآية لأنه متوضئ مغتسل, فهو إن لم يفرد الوضوء قبل الاغتسال فقد أتى بالغسل على الوضوء لأنه أعم منه.
فإن قيل: توضأ النبي صلى الله عليه وسلم قبل الغسل. قيل له: هذا يدل على أنه مستحب مندوب إليه; لأن ظاهر فعله لا يقتضي الإيجاب.
واختلف الفقهاء في وجوب المضمضة والاستنشاق في غسل الجنابة, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والليث والثوري: "هما فرض فيه". وقال مالك والشافعي: "ليسا بفرض فيه". وقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} عموم في إيجاب تطهير سائر ما يلحقه حكم التطهير من البدن, فلا يجوز ترك شيء منه. فإن قيل: من اغتسل ولم يتمضمض ولم يستنشق يسمى متطهرا فقد فعل ما أوجبته الآية. قيل له: إنما يكون مطهرا لبعض جسده, وعموم الآية يقتضي تطهير
ـــــــ
1 قوله: "غسلا" بالضم هو الماء الذي يتطهر به وبالكسر ما يغسل به الرأس من سدر ونحوه. "لمصححه".

(2/458)


الجميع, فلا يكون بتطهير البعض فاعلا لموجب عموم اللفظ, ألا ترى أن قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] عموم في سائرهم وإن كان الاسم قد يتناول ثلاثة منهم؟ كذلك ما وصفنا ولما لم يجز لأحد أن يقتصر من حكم آية قتال المشركين على ثلاثة منهم; لأن الاسم يتناولهم; إذ كان العموم شاملا للجميع, فكذلك قوله تعالى: {فَاطَّهَّرُوا} عموم في سائر البدن فلا يجوز الاقتصار على بعضه.

(2/459)


مطلب: يجب استعمال الآيتين على أعمهما حكما وأكثرهما فائدة
فإن قيل: قوله: {وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] يقتضي جوازه مع تركها لوقوع اسم المغتسل عليه. قيل له: إذا كان قوله: {فَاطَّهَّرُوا} يقتضي تطهير داخل الفم والأنف فالواجب علينا استعمال الآيتين على أعمهما حكما وأكثرهما فائدة, وغير جائز الاقتصار بهما على أخصهما حكما; إذ فيه تخصيص بغير دلالة; ألا ترى أن من تمضمض واستنشق يسمى مغتسلا أيضا؟ فليس في ذكره الاغتسال نفي لمقتضى قوله عز وجل: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} . ويدل عليه من جهة السنة حديث الحارث بن وجيه عن مالك بن دينار عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة". وروى حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن زاذان عن علي, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك موضع شعرة من جنابة لم يغسلها فعل بها كذا وكذا من النار" قال علي: فمن ثم عاديت شعري. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن النضر بن بحر وأحمد بن عبد الله بن سابور والعمري قالوا: حدثنا بركة بن محمد الحلبي قال: حدثنا يوسف بن أسباط عن سفيان الثوري عن خالد الحذاء عن ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل المضمضة والاستنشاق للجنب ثلاثا فريضة. وأما قوله: "تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة" ففيه الدلالة من وجهين على ما ذكرنا, أحدهما: أن الأنف فيه شعر وبشرة والفم فيه بشرة فاقتضى الخبر وجوب غسلهما, وحديث علي أيضا يوجب غسل داخل الأنف لأن فيه شعرا.
فإن قيل: إن العين قد يكون فيها شعر. قيل له: هو شاذ نادر, والأحكام إنما تتعلق بالأعم الأكثر, ولا حكم للشاذ النادر فيها; وعلى أنا خصصناه بالإجماع, ومع ذلك فإن الكلام في وجه دلالة التخصيص خروج عن المسألة, والعموم سالم لنا فيما لم تقم دلالة خصوصه.
فإن قيل: إن ابن عمر كان يدخل الماء عينيه في الجنابة. قيل له: لم يكن يفعله على وجه الوجوب, وقد كان مصعبا على نفسه في أمر الطهارة يفعل فيها ما لا يراه

(2/459)


واجبا, قد كان يتوضأ لكل صلاة ويفعل أشياء على وجه الاحتياط لا على وجه الوجوب; وحديث يوسف بن أسباط الذي ذكرنا فيه نص على إيجابها فرضا.
فإن قيل: ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الثلاث فرضا, وأنت لا تقول به. قيل: ظاهره يقتضي كون الثلاث فرضا, وقد قامت الدلالة على سقوط فرض الاثنين وبقي حكم اللفظ فيما وراءه; ويدل عليه من جهة النظر أن المفروض في غسل الجنابة غسل الظاهر والباطن مما يلحقه حكم التطهير, بدلالة أن عليه إبلاغ الماء أصول الشعر لأنها يلحقها حكم التطهير لو أصابتها نجاسة, فكذلك يلزمه تطهير داخل الفم والأنف لهذه العلة فإن قيل فيجب على هذا غسل داخل العينين لهذه العلة.
قيل له: لو أصاب داخل عينيه نجاسة لم يلزمه تطهيرها, هكذا كان يقول أبو الحسن; وأيضا فليس في داخل العينين بشرة, وإنما يلزم في الجنابة تطهير البشرة.
فإن قيل: لما كان داخل العينين باطنا ولم يلزم تطهيره وجب أن يكون كذلك حكم داخل الأنف والفم. قيل له: وكيف صار1 داخل العينين باطنا؟ فإن أردت به أنه ينطبق عليهما الجفن, فذلك موجود في الإبطين لأنهما ينطبق عليهما العضد ولا خلاف في لزوم تطهيرهما في الجنابة. ولا يلزمنا إيجاب المضمضة والاستنشاق في الوضوء لأجل إيجابنا لهما في الجنابة وذلك لأن الآية في إيجاب الوضوء إنما اقتضت غسل الوجه, والوجه هو ما واجهك, فلم يتناول داخل الأنف والفم, والآية في غسل الجنابة قد أوجبت تطهير سائر البدن من غير خصوص, فاستعملنا الآيتين على ما وردتا. والفرق أيضا بينهما من جهة النظر أن الواجب في الوضوء غسل الظاهر دون الباطن, بدلالة أنه لا يلزمنا فيه إبلاغ الماء أصول الشعر; فلذلك لم يلزم تطهير الفم وداخل الأنف, وفي الجنابة عليه غسل الباطن من البشرة بدلالة أن عليه إبلاغ الماء أصول الشعر; وبهذا نجيب عن قوله صلى الله عليه وسلم "عشر من الفطرة خمس في الرأس, وخمس في البدن" فذكر في الرأس المضمضة والاستنشاق, فنحمله على أنه مسنون في الطهارة الصغرى ونفرق بينه وبين الجنابة بما ذكرنا; والله أعلم
ـــــــ
1 قوله: "وكيف صار" إلى آخره. مراد الص من هذا الجواب أن داخل العينين ليس من الباطن وغنما سقط غسله لأنه لا يلحقه حكم التطهير لما فيه من الحرج. "لمصححه".

(2/460)


باب التيمم
قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ

(2/460)


لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} فتضمنت الآية بيان حكم المريض الذي يخاف ضرر استعمال الماء, وحكم المسافر الذي لا يجد الماء إذا كان جنبا أو محدثا; لأن قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} فيه بيان حكم الحدث; لأن الغائط هو اسم للمنخفض من الأرض, وكانوا يقضون الحاجة هناك, فجعل ذلك كناية عن الحدث. وقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} مفيد لحكم الجنابة في حال عدم الماء لما يستدل عليه إن شاء الله تعالى.
وقد دل ظاهر قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} على إباحة التيمم لسائر المرضى بحق العموم, لولا قيام الدلالة على أن المراد بعض المرضى; فروي عن ابن عباس وجماعة من التابعين: "أنه المجدور ومن يضره الماء" ولا خلاف مع ذلك أن المريض الذي لا يضره استعمال الماء لا يباح له التيمم مع وجود الماء. وإباحة التيمم للمريض غير مضمنة بعدم الماء بل هي مضمنة بخوف ضرر الماء على ما بينا, وذلك لأنه تعالى قال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فأباح التيمم للمريض من غير شرط عدم الماء, وعدم الماء إنما هو مشروط للمسافر دون المريض, من قبل أنه لو جعل عدم الماء شرطا في إباحة التيمم للمريض لأدى ذلك إلى إسقاط فائدة ذكر المريض; لأن العلة المبيحة للتيمم وجواز الصلاة به في المريض والمسافر لو كانت عدم الماء لما كان لذكر المريض مع ذكر عدم الماء فائدة; إذ لا تأثير للمرض في إباحة التيمم ولا منعه; إذ كان الحكم متعلقا بعدم الماء..
فإن قيل: إذا جاز أن يذكر حال السفر مع عدم الماء وإن كان جواز التيمم متعلقا بعدم الماء دون السفر; إذ لو كان واجدا للماء لما أجزأه التيمم, لم يمتنع أن تكون إباحة التيمم للمريض موقوفة على حال عدم الماء. قيل له: إنما ذكر المسافر لأن الماء إنما يعدم في السفر في الأعم الأكثر, فإنما ذكر السفر إبانة عن الحال التي يعدم الماء فيها في الأعم الأكثر, كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا قطع في ثمر حتى يأويه الجرين" وليس المقصد فيه أن يأويه الجرين فحسب لأنه لو آواه بيت أو دار كان ذلك كذلك, وإنما مراده بلوغ حال الاستحكام وامتناع إسراع الفساد إليه وإيواء الحرز, لأن الجرين الذي يأويه حرز وكما قال: "في خمس وعشرين بنت مخاض" ولم يرد به وجود المخاض بأمها, وإنما أراد به أنه قد أتى عليها حول وصارت في الثاني; لأنها إذا كانت كذلك كان بأمها مخاض في الأعم الأكثر, فكان فائدة ذكر المسافر مع شرط عدم الماء ما وصفنا. وليس كذلك المريض لأن المريض لا تعلق له بعدم الماء, فعلمنا أن مراده ما يلحق من الضرر باستعمال الماء. وعموم اللفظ يقتضي جواز التيمم للمريض في كل حال لولا ما روي عن السلف واتفاق الفقهاء عليه من أن المرض الذي لا يضر معه استعمال الماء لا يبيح له

(2/461)


التيمم, ومن أجل ذلك قال أبو حنيفة ومحمد: "ومن خاف برد الماء إن اغتسل جاز له التيمم لما يخاف من الضرر". وقد روي في حديث عمرو بن العاص أنه تيمم مع وجود الماء لخوف البرد, فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكره. وقد اتفقوا على جوازه في السفر مع وجود الماء لخوف البرد, فوجب أن يكون الحضر مثله لوجود العلة المبيحة له; وكما لم يختلف حكم المرض في السفر والحضر كذلك حكم خوف ضرر الماء لأجل البرد.
وقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} فإن "أو" ههنا بمعنى "الواو", تقديره: وإن كنتم مرضى أو على سفر وجاء أحد منكم من الغائط وذلك راجع إلى المريض والمسافر إذا كانا محدثين ولزمهما فرض الصلاة, وإنما قلنا إن قوله {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} بمعنى "الواو" لأنه لو لم يكن كذلك لكان الجائي من الغائط ثالثا لهما غير المريض والمسافر, فلا يكون حينئذ وجوب الطهارة على المريض والمسافر متعلقا بالحدث; ومعلوم أن المريض والمسافر لا يلزمهما التيمم إلا أن يكونا محدثين, فوجب أن يكون قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} بمعنى: وجاء أحدكم, كقوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147] معناه: ويزيدون, وكقوله: {إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا} [النساء: 135] ومعناه: غنيا وفقيرا.
وأما قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً} فإن السلف قد تنازعوا في معنى الملامسة المذكورة في هذه الآية, فقال علي وابن عباس وأبو موسى والحسن وعبيدة والشعبي: "هي كناية عن الجماع" وكانوا لا يوجبون الوضوء لمن مس امرأته. وقال عمر وعبد الله بن مسعود: "المراد اللمس باليد" وكانا يوجبان الوضوء بمس المرأة ولا يريان للجنب أن يتيمم. فمن تأوله من الصحابة على الجماع لم يوجب الوضوء من مس المرأة, ومن حمله على اللمس باليد أوجب الوضوء من مس المرأة ولم يجز التيمم للجنب. واختلف الفقهاء في ذلك أيضا, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والثوري والأوزاعي: "لا وضوء على من مس امرأة لشهوة مسها أو لغير شهوة". وقال مالك: "إن مسها لشهوة تلذذا فعليه الوضوء وكذلك إن مسته تلذذا فعليها الوضوء", وقال: "إن مس شعرها تلذذا فعليه الوضوء وإذا قال لها شعرك طالق طلقت". وقال الحسن بن صالح: "إن قبل لشهوة فعليه الوضوء وإن كان لغير شهوة فلا وضوء عليه". وقال الليث: "إن مسها فوق الثياب تلذذا فعليه الوضوء". وقال الشافعي: "إذا مس جسدها فعليه الوضوء لشهوة أو لغير شهوة".
والدليل على أن لمسها ليس بحدث على أي وجه كان, ما روي عن عائشة من طرق مختلفة بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل بعض نسائه ثم يصلي ولا يتوضأ, كما روي: أنه

(2/462)


كان يقبل بعض نسائه وهو صائم. وقد روي الأمران جميعا في حديث واحد. ولا يجوز حمله على أنه قبل خمارها وثوبها لوجهين: أحدهما: أنه لا يجوز أن يحمل اللفظ على المجاز بغير دلالة; إذ حقيقته أن يكون قد باشر جلدها حيث قبلها, وما ذكره الخصم يكون قبلة لخمارها. والثاني: أنه لا فائدة في نقله. وأيضا فإنه لم يكن بين النبي صلى الله عليه وسلم من الوحشة وبين أزواجه ما يوجب أن يكن مستورات عنه لا يصيب منها إلا الخمار. ومن حديث عائشة أنها طلبت النبي صلى الله عليه وسلم ليلة, قالت: فوقعت يدي على أخمص قدمه وهو ساجد يقول: "أعوذ بعفوك من عقوبتك وبرضاك من سخطك" . فلو كان مس المرأة حدثا لما مضى في سجوده لأن المحدث لا يجوز له أن يبقى على حال السجود. وحديث أبي قتادة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص, فإذا سجد وضعها, وإذا رفع رأسه حملها; ومعلوم أن من فعل ذلك لا يخلو من وقوع يده على شيء من بدنها, فثبت بذلك أن مس المرأة ليس بحدث. وهذه الأخبار حجة على من يجعل اللمس حدثا لشهوة أو لغير شهوة, ولا يحتج بها على من اعتبر اللمس لشهوة; لأنه حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم لم يخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان لشهوة, ومسه أمامة قد علم يقينا أنه لم يكن لشهوة.
والذي يحتج به على الفريقين أنه معلوم عموم البلوى بمس النساء لشهوة, والبلوى بذلك أعم منها بالبول والغائط ونحوهما, فلو كان حدثا لما أخلى النبي صلى الله عليه وسلم الأمة من التوقيف عليه لعموم البلوى به وحاجتهم إلى معرفة حكمه, ولا جائز في مثله الاقتصار بالتبليغ إلى بعضهم دون بعض; فلو كان منه توقيف لعرفه عامة الصحابة; فلما روي عن الجماعة الذين ذكرناهم من الصحابة أنه لا وضوء فيه, دل على أنه لم يكن منه صلى الله عليه وسلم توقيف لهم عليه, وعلم أنه لا وضوء فيه.
فإن قيل: يلزمك مثله لخصمك لأنه يقول: لو لم يكن فيه وضوء لكان من النبي صلى الله عليه وسلم توقيف للكافة عليه; لأنه لا وضوء فيه لعموم البلوى به. قيل له: لا يجب ذلك في نفي الوضوء منه كما يجب في إثباته; وذلك لأنه معلوم أن الوضوء منه لم يكن واجبا في الأصل, فجائز أن يتركهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما كان معلوما عندهم من نفي وجوب الطهارة, ومتى شرع الله تعالى فيه إيجاب الوضوء فغير جائز أن يتركهم بغير توقيف عليه مع علمه بما كانوا عليه من نفي إيجابه; لأن ذلك يوجب إقرارهم على خلاف ما تعبدوا به, فلما وجدنا قوما من جلة الصحابة لم يعرفوا الوضوء من مس المرأة علمنا أنه لم يكن منه توقيف على ذلك.
فإن قيل جائز أن لا يكون منه توقيف في حال ذلك اكتفاء بما في ظاهر

(2/463)


الكتاب من قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} وحقيقته هو اللمس باليد وبغيرها من الجسد. قيل له: ليس في الآية نص على أحد المعنيين, بل فيهما احتمال لكل واحد منهما; ولأجل ذلك اختلفوا في معناها وسوغوا الاجتهاد في طلب المراد بها; فليس إذا فيها توقيف في إيجاب الوضوء مع عموم الحاجة إليه. وأيضا اللمس يحتمل الجماع على ما تأوله علي وابن عباس وأبو موسى, ويحتمل اللمس باليد على ما روي عن عمر وابن مسعود; فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ, أبان ذلك عن مراد الله تعالى. ووجه آخر يدل على أن المراد منه الجماع وهو أن اللمس وإن كان حقيقة للمس باليد فإنه لما كان مضافا إلى النساء وجب أن يكون المراد منه الوطء, كما أن الوطء حقيقته المشي بالأقدام فإذا أضيف إلى النساء لم يعقل منه غير الجماع, كذلك هذا; ونظيره قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] يعني: من قبل أن تجامعوهن. وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الجنب بالتيمم في أخبار مستفيضة, ومتى ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم حكم ينتظمه لفظ الآية وجب أن يكون فعله إنما صدر عن الكتاب, كما أنه لما قطع السارق وكان في الكتاب لفظ يقتضيه كان قطعه معقولا بالآية, وكسائر الشرائع التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم مما ينطوي عليه ظاهر الكتاب. وإذا ثبت أن المراد باللمس الجماع انتفى منه مس اليد من وجوه: أحدها: اتفاق السلف من الصدر الأول أن المراد أحدهما لأن عليا وابن عباس وأبا موسى لما تأولوه على الجماع لم يوجبوا نقض الطهارة بلمس اليد, وعمر وابن مسعود لما تأولاه على اللمس لم يجيزا للجنب التيمم, فاتفق الجميع منهم على أن المراد أحدهما. ومن قال إن المراد هما جميعا فقد خرج عن اتفاقهم وخالف إجماعهم في أن المراد أحدهما. وما روي عن ابن عمر أن قبلة الرجل لامرأته من الملامسة, فلا دلالة فيه على أنه كان يرى المعنيين جميعا مرادين بالآية, بل كان مذهبه في ذلك مذهب عمر وابن مسعود; فبين في هذا الخبر بأن اللمس ليس بمقصور على اليد وإنما يكون أيضا بالقبلة وبغيره من المعانقة والمضاجعة ونحوها. ووجه آخر يدل على أنه لا يجوز أن يرادا جميعا بالآية, وهو أن اللمس باليد إنما يوجب الوضوء عند مخالفينا, والجماع يوجب الغسل, وغير جائز أن يتعلق بعموم واحد حكمان مختلفان فيما انتظمه; ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] لما كان لفظ عموم لم يجز أن ينتظم السارقين لا يقطع أحدهما إلا في عشرة ويقطع الآخر في خمسة؟ وإذا ثبت أن الجماع مراد بما وصفنا وهو يوجب الغسل انتفى دخول اللمس باليد فيه.
فإن قيل: لم يختلف حكم موجب اللفظ في إرادته الجماع واللمس باليد لأن الواجب فيهما التيمم المذكور في الآية. قيل له: التيمم بدل والأصل هو الطهارة بالماء,

(2/464)


ومحال إيجاب التيمم إلا وقد وجب قبل ذلك الطهارة بالماء وهو بدل فيها, فغير جائز أن يكون اللمس المذكور موجبا للوضوء في إحدى الحالتين وموجبا للغسل في أخرى. وأيضا فإن التيمم وإن كان بصورة واحدة فإن حكمه مختلف; لأن أحدهما ينوب عن غسل جميع الأعضاء والآخر عن غسل بعضها, فغير جائز أن ينتظمهما لفظ واحد, فمتى وجب لأحد المعنيين فكأنه قد نص عليه وذكره بأن قال هو الجماع فلا يدخل فيه اللمس باليد. ويدل على انتفاء إرادتهما أن اللمس متى أريد به الجماع كان اللفظ كناية, وإذا أريد منه اللمس باليد كان صريحا; وكذلك روي عن علي وابن عباس أنهما قالا: "اللمس هو الجماع ولكنه كني" وغير جائز أن يكون لفظ واحد كناية صريحا في حال واحدة.
ومن جهة أخرى يمتنع ذلك, وهو أن الجماع مجاز والحقيقة هي اللمس باليد, ولا يجوز أن يكون لفظ واحد حقيقة مجازا في حال واحدة. فإن قيل: لم لا يكون عموما في اللمس من حيث كان الجماع أيضا مسا ويكون حقيقة فيهما جميعا؟ قيل له: يمتنع ذلك من وجوه: أحدها: أنه قد روي عن علي وابن عباس أنه كناية عن الجماع, وهما أعلم باللغة من هذا القائل, فبطل قول القائل إن اللمس صريح فيهما جميعا. والآخر: ما بينا من امتناع عموم واحد مقتضيا لحكمين مختلفين فيما دخلا فيه ولأن اللمس إذا أريد به مماسة في الجسد فقد حصل نقض الطهارة ووجب التيمم المذكور في الآية بمسه إياها قبل حصول الجماع لاستحالة أن يحصل جماع إلا ويحصل قبله لمس لجسدها, فلا يكون الجماع حينئذ موجبا للتيمم المذكور في الآية لوجوبه قبل ذلك بمس جسدها. ويدل على أن المراد الجماع دون لمس اليد أن الله تعالى قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} أبان به عن حكم الحدث في حال وجود الماء, ثم عطف عليه قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} فأعاد ذكر حكم الحدث في حال عدم الماء, فوجب أن يكون قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} على الجنابة لتكون الآية منتظمة لهما مبينة لحكمهما في حال وجود الماء وعدمه, ولو كان المراد اللمس باليد لكان ذكر التيمم مقصورا على حال الحدث دون الجنابة غير مفيد لحكم الجنابة في حال عدم الماء, وحمل الآية على فائدتين أولى من الاقتصار بها على فائدة واحدة; وإذا ثبت أن المراد الجماع انتفى اللمس باليد, لما بينا من امتناع إرادتهما بلفظ واحد.
فإن قيل: إذا حمل على اللمس باليد كان مفيدا لكون اللمس حدثا, وإذا جعل

(2/465)


مقصورا على الجماع لم يفد ذلك; فالواجب على قضيتك في اعتبار الفائدتين حمله عليهما جميعا, ويفيد كون اللمس حدثا ويفيد أيضا جواز التيمم للجنب فإن لم يجز حمله على الأمرين لما ذكرت من اتفاق السلف على أنهما لم يرادا ولامتناع كون اللفظ مجازا حقيقة أو كناية وصريحا فقد ساويناك في إثبات فائدة مجددة بحمله على اللمس باليد مع استعمالنا حقيقة اللفظ فيه, فما جعلك إثبات فائدة من جهة إباحة التيمم للجنب أولى ممن أثبت فائدته من جهة كون اللمس باليد حدثا؟ قيل له: لأن قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} مفيد لحكم الأحداث في حال وجود الماء, ونص مع ذلك على حكم الجنابة فالأولى أن يكون ما في نسق الآية من قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} إلى قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} بيانا لحكم الحدث والجنابة في حال عدم الماء كما كان في أول الآية بيانا لحكمهما في حال وجوده, وليس موضوع الآية في بيان تفصيل الأحداث وإنما هي في بيان حكمها, وأنت متى حملت اللمس على بيان الحدث فقد أزلتها عن مقتضاها وظاهرها; فلذلك كان ما ذكرناه أولى. ووجه آخر: وهو أن حمله على الجماع يفيد معنيين: أحدهما: إباحة التيمم للجنب في حال عوز الماء, والآخر: أن التقاء الختانين دون الإنزال يوجب الغسل, فكان حمله على الجماع أولى من الاقتصار به على فائدة واحدة وهو كون اللمس حدثا.

(2/466)


مطلب: المفاعلة لا تكون من اثنين إلا في أشياء نادرة
ودليل آخر على ما ذكرنا من معنى الآية: وهو أنها قد قرئت على وجهين: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} و "لمستم", فمن قرأ: "أو لامستم" فظاهره الجماع لا غيره لأن المفاعلة لا تكون إلا من اثنين إلا في أشياء نادرة, كقولهم: "قاتله الله" و" جازاه وعافاه الله" ونحو ذلك, وهي أحرف معدودة لا يقاس عليها أغيارها; والأصل في المفاعلة أنها بين اثنين, كقولهم: "قاتله وضاربه وسالمه وصالحه" ونحو ذلك, وإذا كان ذلك حقيقة اللفظ فالواجب حمله على الجماع الذي يكون منهما جميعا; ويدل على ذلك أنك لا تقول "لامست الرجل ولامست الثوب" إذا مسسته بيدك لانفرادك بالفعل, فدل على أن قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ} بمعنى: أو جامعتم النساء, فيكون حقيقته الجماع; وإذا صح ذلك وكانت قراءة من قرأ: "أو لمستم" يحتمل اللمس باليد ويحتمل الجماع, وجب أن يكون ذلك محمولا على ما لا يحتمل إلا معنى واحدا; لأن ما لا يحتمل إلا معنى واحدا فهو المحكم, وما يحتمل معنيين فهو المتشابه, وقد أمرنا الله تعالى بحمل المتشابه على المحكم ورده إليه بقوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } [آل عمران: 7] الآية, فلما جعل المحكم أما للمتشابه فقد أمرنا بحمله عليه,

(2/466)


وذم متبع المتشابه باقتصاره على حكمه بنفسه دون رده إلى غيره بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران: 7], فثبت بذلك أن قوله: "أو لمستم" لما كان محتملا للمعنيين كان متشابها, وقوله: {أَوْ لامَسْتُمُ} لما كان مقصورا في مفهوم اللسان على معنى واحد كان محكما, فوجب أن يكون معنى المتشابه مبنيا عليه.
فإن قيل: لما قرئت الآية على الوجهين اللذين ذكرت وكان أحد الوجهين لا يحتمل إلا معنى واحدا وهو قراءة من قرأ: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} والوجه الآخر يحتمل اللمس باليد ويحتمل الجماع, وجب أن نجعل القراءتين كالآيتين لو وردتا, إحداهما كناية عن الجماع فنستعملها فيه, والأخرى صريحة في اللمس باليد خاصة فنستعملها فيه دون الجماع, ويكون كل واحد من اللفظين مستعملا على مقتضاه من كناية أو صريح; إذ لا يكون لفظ واحد حقيقة مجازا ولا كناية صريحا في حال واحدة, ونكون مع ذلك قد استعملنا حكم القراءتين على فائدتين دون الاقتصار بهما على فائدة واحدة. قيل له: لا يجوز ذلك; لأن السلف من الصدر الأول المختلفين في مراد الآية قد عرفوا القراءتين جميعا; لأن القراءتين لا تكونان إلا توقيفا من الرسول للصحابة عليهما, وإذا كانوا قد عرفوا القراءتين ثم لم يعتبروا هذا الاعتبار ولم يحتج بهما موجبو الوضوء من اللمس علمنا بذلك بطلان هذا القول. وعلى أنهم مع ذلك لم يحملوهما على المعنيين بل اتفقوا على أن المراد أحدهما, وحمله كل واحد من المختلفين على معنى غير ما تأوله عليه صاحبه من جماع أو لمس بيد دون الجماع; فثبت بذلك أن القراءتين على أي وجه حصلتا لم تقتضيا بمجموعهما ولا بانفراد كل واحدة منهما الأمرين جميعا, ولم يجعلوهما بمنزلة الآيتين إذا وردتا, فيجب استعمال كل واحدة منهما على حيالها وحملها على مقتضاها وموجبها. وكان أبو الحسن الكرخي يجيب على ذلك بجواب آخر, وهو أن سبيل القراءتين غير سبيل الآيتين وذلك لأن حكم القراءتين لا يلزم معا في حال واحدة بل بقيام إحداهما مقام الأخرى, ولو جعلناهما كالآيتين لوجب الجمع بينهما في القراءة وفي المصحف والتعليم; لأن القراءة الأخرى بعض القرآن ولا يجوز إسقاط شيء منه, ولكان من اقتصر على إحدى القراءتين مقتصرا على بعض القرآن لا على كله, وللزم من ذلك أن المصاحف لم يثبت فيها جميع القرآن, وهذا خلاف ما عليه جميع المسلمين; فثبت بذلك أن القراءتين ليستا كالآيتين في الحكم بل تقرآن على أن تقام إحداهما مقام الأخرى لا على أن يجمع بين أحكامهما كما لا يجمع بين قراءتيه وإثباتهما في المصحف معا.
ويدل على أن اللمس ليس بحدث إنما كان حدثا لا يختلف فيه الرجال والنساء,

(2/467)


ولو مست امرأة امرأة لم يكن حدثا كذلك مس الرجل إياها وكذلك مس الرجل الرجل ليس بحدث فكذلك مس المرأة. ودلالة ذلك على ما وصفنا من وجهين: أحدهما: أنا وجدنا الأحداث لا تختلف فيها الرجال والنساء, فكل ما كان حدثا من الرجل فهو من المرأة حدث, وكذلك ما كان حدثا من المرأة فهو حدث من الرجل, فمن فرق بين الرجل والمرأة فقوله خارج عن الأصول. ومن جهة أخرى أن العلة في مس المرأة المرأة والرجل الرجل أنه مباشرة من غير جماع فلم يكن حدثا, كذلك الرجل والمرأة. فإن قيل: قد أوجب أبو حنيفة الوضوء على من باشر امرأته وانتشرت آلته وليس بينهما ثوب, ولا فرق بين مسها بيده وبين مسها ببدنه. قيل له: لم يوجب أبو حنيفة ههنا الوضوء بالمباشرة وإنما أوجبه إذا التقى الفرجان من غير إيلاج, كذلك رواه محمد عنه وذلك لأن الإنسان لا يكاد يبلغ هذه الحال إلا ويخرج منه شيء وإن لم يشعر به, فلما كان الغالب في هذه الحال خروج شيء منه وإن لم يشعر به أوجب الوضوء له احتياطا فحكم له بحكم الحدث, كما أنه لما كان الغالب من حال النوم وجود الحدث فيه حكم له بحكم الحدث; فليس إذا في ذلك إيجاب الوضوء من اللمس, والله أعلم بالصواب.

(2/468)


باب وجوب التيمم عند عدم الماء
قال الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} قال أبو بكر: شرط الوجود مختلف فيه, والجملة التي اتفق أصحابنا عليها أن الوجود إمكان استعمال الماء الذي يكفيه لطهارته من غير ضرر فلو كان معه ماء وهو يخاف العطش أو لم يجده إلا بثمن كثير تيمم, وليس عليه أن يغالي فيه إلا أن يجده بثمن كما يباع بغير ضرورة فيشتريه, وإن كان أكثر من ذلك فلا يشتريه. وجعل أصحابنا جميعا شرط الوجود أن يكفيه لجميع طهارته, وأما العلم بكونه في رحله فمختلف فيه أنه من شرط الوجود, وسنذكره إن شاء الله. واختلف أيضا في وجوب الطلب وهل يكون غير واجد قبل الطلب; وإنما قلنا إنه إذا خاف العطش باستعماله للطهارة فهو غير واجد للماء المفروض به الطهارة لأنه متى خاف الضرر في استعماله كان معذورا في تركه إلى التيمم كالمريض, قال الله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} فنفى الحرج عنا, وهو الضيق, وفي الأمر باستعمال الماء الذي يخاف فيه العطش أعظم الضيق, وقد نفاه الله تعالى نفيا مطلقا; وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] ومن العسر استعمال الماء الذي يؤديه إلى الضرر وتلف النفس, ألا ترى أنه لو اضطر إلى شرب الماء وحضرته الصلاة ولا ماء معه غيره أنه مأمور بشربه وترك استعماله للطهارة, فكذلك إذا خاف العطش في المستأنف باستعماله؟ وروي نحو هذا القول فيمن خاف

(2/468)


العطش عن علي وابن عباس والحسن وعطاء. وإنما شرطنا أن يجده بثمن مثل قيمته في غير الضرورة من قبل أن المقدار الفاضل عن قيمته غير مستحق عليه إتلافه لأجل الطهارة; إذ لا يحصل بإزائه بدل, فكان إضاعة للمال; لأن من اشترى ما يساوي درهما بعشرة دراهم فهو مضيع للتسعة, وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال. وأيضا لو كان على ثوبه نجاسة ولم يجد الماء لم يكن عليه قطع موضع النجاسة لأجل الصلاة, بل عليه أن يصلي فيه لأجل ما يلحقه من الضرر بقطعه, فكذلك شرى الماء بثمن غال, وأما إذا وجده بثمن مثله فعليه أن يشتريه ويتوضأ ولا يجزيه التيمم, من قبل أنه ليس فيه تضييع المال; إذ كان يملك بإزاء ما أخرج من ماله مثله وهو الماء الذي أخذه فكان عليه شراؤه والوضوء به.
وقد اختلف الفقهاء فيمن وجد من الماء ما لا يكفيه لطهارته, فقال أصحابنا جميعا: "يتيمم وليس عليه استعماله, وكذلك لو كان جنبا فوجد ما يكفيه لوضوئه ولا يكفيه لغسله يتيمم". وقال مالك والأوزاعي: "لا يستعمل الجنب هذا الماء في الابتداء ويتيمم, فإن أحدث بعد ذلك وعنده ما يكفيه لوضوئه يتيمم أيضا". وقال أصحابنا في هذه المسألة الأخيرة: "يتوضأ بهذا الماء ما لم يجد ما يكفيه لغسله". وقال الشافعي: "عليه غسل ما قدر على غسله ويتيمم, لا يجزيه غير ذلك".
قال أبو بكر: قال الله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إلى قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً} فاقتضى ذلك وجوب أحد شيئين: إما الماء عند وجوده أو التراب عند عدمه; لأنه أوجبه بهذه الشريطة. ولا خلاف أن من فرض هذا الرجل التيمم وأن صلاته غير مجزية إلا به, فعلمنا أن هذا الماء ليس هو الماء المفروض به الطهارة; إذ لو كان الماء المفروض به الطهارة موجودا لم تكن صحة صلاته موقوفة على فعل التيمم منه. فإن قيل: قال الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} فأباح التيمم عند عدم ماء منكور, وذلك يتناول كل جزء منه سواء كان كافيا لطهارته أو غير كاف, فلا يجوز التيمم مع وجوده. قيل له: الدليل على فساد هذا التأويل اتفاق الجميع على أن من فرضه التيمم وإن استعمل الماء, فلو كان هذا القدر من الماء مأمورا باستعماله بالآية لما لزمه التيمم معه, لأن الله تعالى إنما أوجب عليه التيمم عند عدم الماء الذي تصح به صلاته.
فإن قيل: فنحن لا نجيز تيممه إلا بعد عدم هذا الماء باستعماله إياه فحينئذ يتيمم. قيل له: لو كان هذا على ما ذكرت لاستغنى عن التيمم باستعمال الماء الذي معه, فلما اتفقوا على أن عليه التيمم بعد استعماله ثبت أن هذا الماء ليس هو المفروض به الطهارة ولا ما أبيح التيمم بعدمه. وأيضا لما كان وجود هذا الماء بمنزلة عدمه في باب استباحة الصلاة به صار بمنزلة ما ليس بموجود, فجاز له التيمم. وأيضا لما لم يجز الجمع بين

(2/469)


غسل إحدى الرجلين والمسح على الخف في الرجل الأخرى, لكون المسح بدلا من الغسل فلم يجز الجمع بينهما, وجب أن لا يلزمه الجمع بين غسل الأعضاء والتيمم لهذه العلة. وأيضا فإن التيمم لا يرفع الحدث كالمسح لا يرفع الحدث عن الرجل, فلم يجز الجمع بين ما يرفع الحدث وبين ما لا يرفعه في المسح; كذلك لا يجوز الجمع بين التيمم والغسل في بعض الأعضاء على أن يكونا من فرضه. وأيضا فإن التيمم بدل من غسل جميع الأعضاء وغير جائز وقوعه عن بعض الأعضاء دون بعض, ألا ترى أنه ينوب عن الغسل تارة وعن الوضوء أخرى على أنه قام مقام جميع الأعضاء التي أوجب الحدث غسلها؟ فلو أوجبنا عليه غسل ما يمكنه غسله مع التيمم لم يخل التيمم من أن يقوم مقام غسل بعض أعضائه أو جميعه, فإن قام مقام ما لم يغسل منه فقد صار التيمم إنما يقع طهارة عن بعض الأعضاء, وذلك مستحيل لأنه لا يتبعض, فلما بطل ذلك لم يبق إلا أن يقوم مقام جميعها فيصير حينئذ متوضئا متيمما في الأعضاء المغسولة, وذلك محال لأن الحدث زائل عن العضو المغسول فلا ينوب عنه التيمم; فثبت أنه لا يجوز اجتماعهما في الوجوب. وعلى أن الشافعي يوجب عليه غسل الوجه والذراعين بذلك الماء ويتيمم مع ذلك لهذين العضوين, فيكون تيممه في هذين العضوين قائما مقامهما ومقام العضوين الآخرين, فيكون قد ألزمه طهارتين في هذين العضوين, فكيف يجوز أن يكون طهارة في العضوين المغسولين وهو إذا حصل طهارة لم يرفع الحدث ويكون حكم الحدث باقيا مع وجوده؟ فكيف يجوز وقوعه مع عدم رفع الحدث عما وقع فيه؟.
فإن قيل: يلزمك مثله إذا قلت مثله فيما إذا غسل بعض أعضائه لأنه يلزمه التيمم ويكون ذلك طهارة لجميعه. قيل له: لا يلزمنا ذلك لأنا لا نوجب عليه استعماله فسقط حكمه إن استعمله, وأنت توجب استعماله كما نوجبه لو وجد ما يكفيه لجميع أعضائه فكان بمنزلة من توضأ وأكمل وضوءه, فلا يجوز أن يقوم التيمم مقام شيء منه. فإن قال فقد يجوز عندكم الجمع بين التيمم والوضوء ولا ينافي أحدهما الآخر, وهو الذي يجد سؤر الحمار ولا يجد غيره. قيل له: إن طهارته أحد هذين لا جميعهما, ولذلك أجزنا له أن يبدأ بأيهما شاء لأنه مشكوك فيه عندنا فلم يسقط عنه فرض الطهارة بالشك, فإذا جمع بينهما فالمفروض أحدهما, كما قالوا جميعا فيمن نسي إحدى الصلوات الخمس ولا يدري أيها هي يصلي خمس صلوات حتى يصلي على اليقين, وإنما الذي عليه واحدة لا جميعها, كذلك ههنا, وأنت تزعم أن المفروض هما جميعا في مسألتنا. وأيضا لما كان التيمم بدلا من الماء كالصوم بدلا من الرقبة ولم يجز اجتماع بعض الرقبة والصوم, وجب مثله في التيمم والماء.

(2/470)


فإن قيل: الصغيرة قد تجب عدتها بالشهور فإن حاضت قبل انقضائها وجب الحيض, وكذلك ذات الحيض لو اعتدت بحيضة ثم يئست وجبت الشهور مع الحيضة المتقدمة. قيل له: إذا طرأ عليها ما ذكرت قبل انقضاء العدة خرج ما تقدم من أن يكون عدة معتدا به, وأنت لا تخرج ما غسل من أن يكون طهارة, وكذلك التيمم ودليل آخر في المسألة, وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء", والدلالة من هذا قوله: "ما لم يجد الماء" فأدخل عليها الألف واللام, وذلك لأحد وجهين: إما أن تكون لاستغراق الجنس أو المعهود, فإن كان أراد به استغراق الجنس صار في التقدير كأنه قال: التراب طهور ما لم يجد مياه الدنيا, وإن كان أراد به المعهود فهو قولنا أيضا; لأنه ليس ههنا ماء معهود يجوز أن ينصرف الكلام إليه غير الماء الذي يقع به كمال الطهارة, وذلك لم يوجد في مسألتنا, فجاز تيممه بظاهر الخبر.

(2/471)


مطلب: في حكم من صلى ونسي الماء في رحله
واختلفوا في العلم بكون الماء في رحله هل هو شرط في الوجود أم لا; فقال أبو حنيفة ومحمد: "إذا نسي الماء في رحله وهو مسافر فتيمم وصلى أجزأه ولا يعيد في الوقت ولا بعده". وقال مالك: "يعيد في الوقت ولا يعيد بعده". وقال أبو يوسف والشافعي: "يعيد في الأحوال كلها". والأصل فيه قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} والناسي غير واجد لما هو ناس له; إذ لا سبيل له إلى الوصول إلى استعماله, فهو بمنزلة من لا ماء في رحله ولا بحضرته; وقال الله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة: 286] فاقتضى ذلك سقوط حكم المنسي. أيضا قال الله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ومعلوم أن هذا الخطاب لم يتوجه إلى الناسي لأن تكليف الناسي لا يصح, وإذا لم يكن مأمورا مكلفا بالغسل فهو مأمور بالتيمم لا محالة لأنه لا يجوز سقوطهما جميعا عنه مع الإمكان, فثبت جواز تيممه. وأيضا لا يختلفون أنه لو كان في مفازة وطلب الماء فلم يجده فتيمم وصلى ثم علم أنه كان هناك بئر مغطى الرأس لم تجب عليه الإعادة, ووجود الماء لا يختلف حكمه بأن يكون مالكه أو في نهر أو في بئر, فلما كان جهله بماء البئر مخرجه من حكم الوجود كذلك جهله بالماء الذي في رحله.
فإن قيل: لو نسي الطهارة أو الصلاة لم يسقطهما النسيان, فكذلك نسيان الماء. قيل له: ظاهر قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" يقتضي سقوطه, وكذلك نقول; والذي ألزمناه عند الذكر هو فرض آخر غير الأول, وأما الأول فقد سقط, وإنما ألزمنا الناسي فعل الصلاة وألزمناه الطهارة المنسية بدلالة أخرى, وإلا فالنسيان يسقط عنه

(2/471)


القضاء لولا الدلالة. وأيضا فلا تأثير للنسيان بانفراده في سقوط الفرض إلا بانضمام معنى آخر إليه فيصيران عذرا في سقوطه, نحو السفر الذي هو حال عدم الماء فإذا انضم إليه النسيان صارا جميعا عذرا في سقوطه, وأما نسيان الطهارة والقراءة والصلاة ونحو ذلك فلم ينضم إلى النسيان في ذلك معنى آخر حتى يصير عذرا في سقوط هذه الفروض. ومن جهة أخرى أنا جعلنا النسيان عذرا في الانتقال إلى بدل لا في سقوط أصل الفرض, وفي المسائل التي ذكرتها فيها إسقاط الفروض لا نقلها إلى أبدال, فلذلك اختلفا. فإن قيل: الناسي للماء في رحله هو واجد له. قيل له: ليس الوجود هو كون الماء في رحله دون إمكان الوصول إلى استعماله من غير ضرر يلحقه, ألا ترى أن من معه ماء وهو يخاف على نفسه العطش يجوز له التيمم وهو واجد للماء؟ فالناسي أبعد من الوجود لتعذر وصوله إلى استعماله ألا ترى أن من ليس في رحله ماء وهو قائم على شفير نهر أنه واجد للماء وإن لم يكن له مالكا لإمكان الوصول إلى استعماله؟ فعلمنا أن الوجود هو إمكان التوصل إلى استعماله من غير ضرر ألا ترى أن الماء لو كان في رحله ومنعه منه مانع جاز له التيمم؟ فعلمنا أن الوجود شرطه ما ذكرنا دون الملك. فإن قيل: ما تقول لو كان على ثوبه نجاسة فنسي الماء في رحله ولم يغسله وصلى فيه, هل يجزيه؟ قيل له: لا نعرفها محفوظة عن أصحابنا, وقياس قول أبي حنيفة أنه يجزي, وكذلك كان يقول أبو الحسن الكرخي فيمن نسي في رحله ثوبا وصلى عريانا أنه يجزيه.

(2/472)


مطلب: في أن الوجود لا يقتضي سبق طلب
واختلفوا في تارك الطلب إذا لم يكن بحضرته ماء, هل هو غير واجد؟ فقال أصحابنا: "إذا لم يطمع في الماء ولم يخبره مخبر فليس عليه الطلب ويجزيه التيمم". وقال الشافعي: "عليه الطلب, وإن تيمم قبل الطلب لم يجزه". وقال أصحابنا: "إن طمع فيه أو أخبره مخبر بموضعه فإن كان بينه وبينه ميل أو أكثر فليس عليه إتيانه لما يلحقه من المشقة والضرر بتخلفه عن أصحابه وانقطاعه عن أهل رفقته, وإن كان أقل من ميل أتاه, وهذا إذا لم يخف على نفسه وما معه من لصوص أو سبع ونحوه ولم ينقطع عن أصحابه". وإنما قالوا فيمن كانت حاله ما قدمنا أنه يجزيه التيمم وليس عليه الطلب, من قبل أنه غير واجد للماء, وقال الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وهذا غير واجد. فإن قالوا: لا يكون غير واجد إلا بعد الطلب قيل له: هذا خطأ; لأن الوجود لا يقتضي طلبا, قال الله تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] فأطلق اسم الوجود على ما لم يطلبوه; وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من وجد لقطة فليشهد ذوي

(2/472)


الذي في المفازة وليس بحضرته ماء ولم يطمع فيه من أن يكون واجدا أو غير واجد, فإن كان واجدا فالطلب ساقط لأنه غير جائز تكليفه طلب ما هو واجده, وإن كان غير واجد جاز تيممه بقوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: "التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء" .
فإن قيل: إذا كان شرط جواز التيمم عدم الماء فواجب أن لا يجزي حتى يتيقن وجود شرطه, كما أنه لما كان شرط جواز الصلاة حضور الوقت لم يجزه فعلها إلا بعد حصول اليقين بدخول الوقت. قيل له: الفصل بينهما أن الأصل هو عدم الماء في مثل ذلك الموضع, وذلك يقين عنده; وإنما لا يعلم هل هو موجود في غيره, وهل يكون موجودا إن طلب أم لا, فليس عليه أن يزول عن اليقين الأول بما لا يعلمه ويشك فيه. ووقت الصلاة أيضا كان غير موجود, فغير جائز له فعلها بالشك حتى يتيقن وجوده فهما سواء في هذا الوجه في باب البناء على اليقين الذي كان الأصل.
فإن قيل: قال الله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فالغسل أبدا واجب وعليه التوصل إليه كيف أمكن, فإذا كان قد يمكنه التوصل إليه بالطلب فذلك فرضه. قيل له: الذي قال: {فَاغْسِلُوا} هو الذي قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فوجوب الغسل مضمن بوجود الماء, وجواز التيمم مضمن بعدمه, وهو عادم له في الحال لا محالة; وإنما يزعم المخالف أنه جائز أن يكون واجدا عند الطلب, فغير جائز ترك ما حصل من شرط إباحة التيمم لما عسى يجوز أن يكون ويجوز أن لا يكون. والذي قاله المخالف كان يلزم لو طمع في الماء وغلب على ظنه وجوده وأخبره به مخبر, فأما مع فقد ذلك فقد حصل شرط الآية على الوجه الذي يبيح التيمم, فغير جائز لأحد إسقاطه وإيجاب اعتبار معنى غيره, وإنما قدر أصحابنا أقل من ميل من قبل لزوم استعماله إذا علم بموضعه وغلب في ظنه, ولم يوجبوه ذلك في ميل فصاعدا اجتهادا ولأن الميل هو الحد الذي تقدر به المسافات ولا تقدر بأقل منه في العادة, فاعتبروه في ذلك دون ما هو أقل منه, كما قلنا في اعتبار أبي يوسف الكثير الفاحش أنه شبر في شبر لأنه أقل المقادير التي تقدر بها المساحات ولا تقدر في العادة بأقل منه. وروى نافع عن ابن عمر أنه كان يكون في السفر من الماء على غلوتين أو ثلاث فيتيمم ويصلي ولا يميل إليه. وعن سعيد بن المسيب في الراعي يكون بينه وبين الماء ميلان أو ثلاثة وتحضره الصلاة, أنه يتيمم ويصلي. وقال الحسن وابن سيرين: "لا يتيمم من رجا أن يقدر على الماء في الوقت".

(2/474)


مطلب: فيمن ووجد الماء في آخر الوقت يجب عليه الوضوء وإن خاف فوات الوقت خلافا لمالك
واختلف فيمن وجد الماء وخاف ذهاب الوقت إن لم يتيمم, فقال أصحابنا والثوري والأوزاعي والشافعي: "من وجد الماء من مسافر أو مقيم وهو في مصر وهو في آخر الوقت فخاف إن توضأ أن يفوته الوقت لم يجزه إلا الوضوء". وقال مالك: "يجزيه التيمم إذا خاف فوات الوقت". وقال الليث بن سعد: "إذا خاف فوات الوقت إن توضأ يصلي بتيمم ثم أعاد بالوضوء بعد الوقت". والأصل فيه قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فأوجب استعمال الماء في حال وجوده ونقله عنه إلى التراب عند عدمه, فغير جائز نقله إليه مع وجوده لأنه خلاف الآية; وحين أمره الله تعالى بغسل هذه الأعضاء لم يقيده بشرط بقاء الوقت وإدراك فعل الصلاة فيه, فهو مطلق في الوقت وبعده, وقال الله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] فمنعه من فعل الصلاة إذا كان جنبا إلا بعد تقديم الغسل, ولم يذكر فيه بقاء الوقت ولا غيره. ويدل عليه من جهة السنة قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر: "التراب كافيك ولو إلى عشر حجج فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك" , فمتى كان واجدا فعليه استعمال الماء سواء خاف فوت الوقت أو لم يخف, لعموم قوله: {فَاغْسِلُوا} , ولقوله صلى الله عليه وسلم: "التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء" فمتى كان واجدا للماء فليس التراب طهورا له فلا تجزيه صلاته. ومن جهة النظر أن فرض الطهارة آكد من فرض الوقت, بدلالة أنه لا يجزي صلاة بغير طهارة وهي جائزة مع فوات الوقت.
فإن قيل: إذا خاف فوت الوقت صلى بتيمم ليدرك فضيلة الوقت. قيل له: كيف يكون مدركا لفضيلة الوقت وهو غير مصل لأنه صلى بغير طهارة فإن قال: التيمم طهور قيل له: إنما هو طهور مع عدم الماء كما قال الله تعالى وكما شرطه النبي صلى الله عليه وسلم وأما مع وجوده فليس بطهور, فالواجب عليك أن تدل أولا على أنه طهور مع وجود الماء وإمكان استعماله من غير ضرر حتى تبني عليه بعد ذلك مذهبك في أنه مدرك لفضيلة الوقت.
فإن قال قائل: المسافر إنما أبيح له التيمم ليدرك الوقت لا لأجل عدم الماء. قيل له: لو كان كذلك لما جاز له التيمم في أول الوقت في حال عدم الماء لأنه غير خائف فوت الوقت وفي اتفاق الجميع على جواز تيممه في أول الوقت دلالة على أن شرط جواز التيمم ليس هو لأجل فوات الوقت.
فإن قال: لو كان شرط التيمم عدم الماء لما جاز للمريض ولمن يخاف العطش أن

(2/475)


يتيمم مع وجود الماء. قيل له: إنما قلنا بجوازه لأن الوجود هو إمكان استعماله بلا ضرر ولا مشقة, لأن الله قد ذكر المريض والمسافر, فعدم الماء على الإطلاق شرط وخوف الضرر باستعماله أيضا شرط, وأنت فلم تلجأ في اعتبارك الوقت لا إلى آية ولا إلى أثر, بل الكتاب والأثر يقضيان ببطلان قولك.
فإن قيل: لما جازت الصلاة في حال الخوف مع الاختلاف والمشي إلى غير القبلة وراكبا لأجل إدراك الوقت, دل على وجوب اعتبار الوقت في جوازها بالتيمم إذا خاف فوته. قيل له: إنما أبيحت صلاة الخائف على هذه الوجوه لأجل الخوف لا للوقت ولا لغيره والخوف موجود والدليل على ذلك جواز صلاة الخوف في أول الوقت مع غلبة الظن بانصراف العدو قبل خروج الوقت, فدل على أنها إنما أبيحت للخوف لا ليدرك الوقت, والتيمم إنما أبيح له لعدم الماء. فنظير صلاة الخوف من التيمم أن يكون الماء معدوما فيجوز له التيمم, فأما حال وجود الماء فهو بمنزلة زوال الخوف فلا يجوز له فعل الصلاة إلا على هيئتها في حال الأمن. وإنما جعل صلاة الخوف بمنزلة الإفطار للمسافر وبمنزلة المسح على الخفين في أنها رخصة مخصوصة بحال لا لخوف فوات الوقت. وأيضا فإنه إن فات وقته باشتغاله بالوضوء فإنه يصير إلى وقت آخر لها; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها" فأخبر أن وقت الذكر مع فواتها وقت لها كما كان الوقت الذي كان قبله وقتا لها, فإذا كان وقت الصلاة باقيا مع فواتها عن الوقت الأول لم يجز لنا ترك الطهارة بالماء لخوف فواتها من وقت إلى وقت. وقد وافقنا مالك على وجوب الترتيب بين الفائتة وبين صلاة الوقت وأن الفائتة أخص بالوقت من التي هي في وقتها, حتى إنه لو بدأ بصلاة لوقت قبلها لم تجزه, فلو كان خوف فوت الوقت مبيحا له التيمم لوجب أن يباح له التيمم بعد الفوات أيضا; لأن كل وقت يأتي بعد الفوات هو وقت لها لا يسعه تأخيرها عنه, فيلزم مالكا أن يجيز لمن فاتته صلاة أن يصليها بتيمم في أي وقت كان لأن اشتغاله بالوضوء يوجب تأخيرها عن الوقت المأمور بفعلها فيه والمنهي عن تأخيرها عنه. ولما اتفق الجميع على أنه غير جائز له فعلها بالتيمم مع خوف فوات وقتها الذي هو مأمور بفعلها فيه إذا اشتغل باستعمال الماء, صح أن الوقت لا تأثير له في ترك الطهارة بالماء إلى التيمم. وأما قول الليث بن سعد "إنه يتيمم ويصلي في الوقت ثم يتوضأ ويعيد بعد الوقت" فلا معنى له لأنه معلوم أنه لا يعتد بتلك الصلاة, فلا معنى لأمره بها وتأخير الفرض الذي عليه تقديمه.

(2/476)


مطلب: في حكم المجوس الفاقد للطهورين
واختلف فيمن حبس في موضع قذر لا يقدر على ماء ولا تراب نظيف, فقال أبو

(2/476)


حنيفة ومحمد وزفر: "لا يصلي حتى يقدر على الماء إذا كان في المصر" وهو قول الثوري والأوزاعي. وقال أبو يوسف والشافعي: "يصلي ويعيد". والحجة لأبي حنيفة ومن قال بقوله قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} , وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" ومن صلى بغير وضوء ولا تيمم فقد صلى بغير طهور, فلا يكون ذلك صلاة, فلا معنى لأمرنا إياه بأن يفعل ما ليس بصلاة لأجل أن عليه فرض الصلاة. وقد قال أبو يوسف: "إنه يصلي بالإيماء ثم يعيد" فلم يعتد به وأمره بالإعادة, فلو كانت هذه صلاة لما كان مأمورا بالإعادة, ألا ترى أنه من لم يقدر على الركوع والسجود صلى بالإيماء ولا يؤمر بالإعادة؟ فإن قيل: قد يأمره إذا كان محبوسا في بيت نظيف أن يتيمم ويعيد, ووجوب الإعادة لم يسقط عنه فعلها بالتيمم. قيل له: قد روى الحسن بن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة "أنه لا يتيمم ولا يصلي حتى يخرج" فهذا مستمر على هذا الأصل, وذكر في الأصل أنه يتيمم ويصلي ويعيد, ولم يذكر خلافا. وجائز أن يكون هذا قول أبي يوسف وحده, فإن كان قولهم جميعا فوجه هذه الرواية على قول أبي حنيفة أن الصلاة بالتيمم قد تكون صلاة صحيحة بحال وهو حال عدم الماء أو خوف الضرر, فلما كان عادما للماء في هذه الحال جاز له التيمم; وكان القياس أن يكون كالمسافر إذا كان الماء منه قريبا وخاف السبع أو اللصوص فيجوز له التيمم ولا يعيد, فهذا هو القياس, إلا أنه ترك القياس وأمره بالإعادة وفرق بين حال السفر والحضر لأن الماء موجود في الحضر, وإنما وقع المنع بفعل آدمي وفعل الآدمي في مثله لا يسقط الفرض, ألا ترى أنه لو منعه رجل مكرها من فعل الصلاة أصلا أو من فعلها بركوع وسجود وصلى بالإيماء أنه يعيد؟ ولو كان المنع من فعل الله تعالى بإغماء ونحوه سقط عنه الفرض, ولو كان مريضا سقط عنه فعل الركوع إلى الإيماء; فاختلف حكم المنع إذا كان بفعل الله أو بفعل الآدمي. فكذلك حال الحضر, لما كانت حال وجود الماء لم يسقط فرض استعماله بمنع الآدمي منه, فأمره بالتيمم وإعادتها بالماء; وعلى الرواية الأولى لم يأمره بفعلها لأنه لا يعتد بها فلا معنى للأمر بها.
فإن قيل: فأنت تأمر المحرم الذي لا شعر على رأسه وأراد الإحلال أن يمر الموسى على رأسه متشبها بالحالقين وإن لم يحلق, فهلا أمرت المحبوس الذي لا يقدر على الماء والتراب أن يصلي متشبها بالمصلين وإن لم يكن مصليا وكما تأمر الأخرس بتحريك لسانه بالتلبية استحبابا وإن لم يكن ملبيا قيل له: الفصل بينهما أن أفعال المناسك قد ينوب

(2/477)


عنه الغير فيها في حال فيصير حكم فعله كفعله, فجاز أن ينوب عن الحلق إمرار الموسى على رأسه كما يفعله الغير عنه فيجزي, وكذلك تلبية الغير قد تنوب عنه عند أبي حنيفة في حال الإغماء, فلذلك استحب له تحريك لسانه بها وإن لم يكن ملبيا إذا كان أخرس. وأما الصلاة فلا ينوب عنه فيها غيره, ولا يجوز أن يفعل ما ليس بصلاة متشبها بالمصلين فيصير هذا الفعل وتركه سواء لا معنى له, فلذلك لم يستحبه.
فإن احتجوا بما روي في قصة قلادة عائشة حين ضلت وأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم لطلب القلادة صلوا بغير تيمم ولا وضوء وأخبروه بذلك ثم نزلت آية التيمم ولم ينكر عليهم فعلها بغير وضوء ولا تيمم. قيل له: إن آية التيمم لم تكن نزلت وقت ما صلوا ولم يكن التيمم واجبا, وأيضا فإنهم لم يؤمروا بالإعادة, فينبغي أن يدل على أن لا إعادة على من صلى بغير وضوء ولا تيمم إذا لم يجدهما; فلما قال مخالفونا "إنه يعيد" علمنا أن حكم من ذكر مخالف لأولئك. وأيضا فإن أولئك كانوا واجدين للتراب غير واجدين للماء, وأنت لا تقول ذلك فيمن كان في مثل حالهم.
واختلف في جواز التيمم قبل دخول الوقت, فقال أصحابنا" جائز قبل دخول وقت الصلاة لمن لا يجد الماء, ويصلي به الفرض إذا دخل الوقت". وقال مالك بن أنس والشافعي: "لا يجوز إلا بعد دخوله". ودليلنا قوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} فأمر بالتيمم بعد الحدث إذا عدم الماء ولم يفرق فيه بين حاله قبل دخول الوقت أو بعده. وأيضا قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وقد دللنا في أول الكتاب أن معناه: إذا أردتم القيام وأنتم محدثون, ثم عطف عليه التيمم وأباحه في الحال التي أمر فيها بالوضوء لو كان واجدا للماء. وأيضا لما قال تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الاسراء: 78] وأمر بتقديم الطهارة لها في غير هذه الآية وكانت الطهارة شيئين: الماء عند وجوده والتراب عند عدمه, اقتضى ذلك جواز تقديم التيمم على الوقت ليصلي في أوله على شرط الآية; ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء" وقوله لأبي ذر: "التراب كافيك ولو إلى عشر حجج" ولم يفرق بينه قبل الوقت أو بعده, وإنما علق جوازه بعدم الماء لا بالوقت.
فإن قيل على استدلالنا بقوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} : إن ذلك معطوف على قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} وهو مضمر فيه, فكان تقديره: إذا قمتم إلى الصلاة وجاء أحد منكم من الغائط وذلك يكون بعد دخول الوقت. قيل له: هذا غلط, من قبل أن قوله: {إِذَا قُمْتُمْ} معناه: إذا أردتم القيام وأنتم محدثون; فهذه جملة مكتفية بنفسها في إيجاب الوضوء للحدث, ثم استأنف حكم عادم الماء فقال: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا} وهذه أيضا جملة مفيدة مستقلة بنفسها غير

(2/478)


مفتقرة إلى تضمينها بغيرها, وما كان هذا وصفه من الكلام ففي تضمينه بغيره تخصيص له, وذلك غير جائز إلا بدلالة, فوجب أن يكون شرط المجيء من الغائط في إباحة التيمم مقرا على بابه وأن لا يضمن بغيره. وأيضا فإن حكم كل جواب علق بشرط أن يرجع إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدم إلا بدلالة, والذي يلي ذلك هو شرط المجيء من الغائط. وأيضا كما جاز الوضوء قبل الوقت وجب أن يجوز التيمم كذلك لأنه طهارة لم يوجد بعدها حدث.
فإن قيل: المستحاضة لا تصلي بوضوء فعلته قبل الوقت. قيل له: يجوز ذلك عندنا لأنها لو توضأت قبل الزوال كان لها أن تصلي به إلى خروج وقت الظهر, وأما إذا توضأت في وقت الظهر فإنها لا تصلي به في وقت العصر للسيلان الموجود بعد الطهارة والوقت كان رخصة لها في فعل الصلاة مع الحدث, فلما ارتفعت الرخصة بخروجه وجب الوضوء للحدث المتقدم.
واختلف في فعل صلاتي فرض بتيمم واحد, فقيل: "يصلي بتيممه ما شاء من الصلوات ما لم يحدث أو يجد الماء" وهو مذهب الثوري والحسن بن صالح والليث بن سعد, وهو مذهب إبراهيم وحماد والحسن. وقال مالك: "لا يصلي صلاتي فرض بتيمم واحد, ولا يصلي الفرض بتيمم النافلة, ويصلي النافلة بعد الفرض بتيمم الفرض". وقال شريك بن عبد الله: "يتيمم لكل صلاة". وقال الشافعي: "يتيمم لكل صلاة فرض ويصلي الفرض والنفل وصلاة الجنازة بتيمم واحد". والدليل على صحة قولنا قوله صلى الله عليه وسلم: "التراب كافيك ولو إلى عشر حجج فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك" وقال: "التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء" فجعل التراب طهورا ما لم يجد الماء ولم يوقته بفعل الصلاة. وقوله: "ولو إلى عشر حجج" على وجه التأكيد, وليس المراد حقيقة الوقت, وهو كقوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80] ليس المراد به توقيت العدد المذكور, وإنما المراد تأكيد نفي الغفران.
فإن قيل: لم يذكر الحدث وهو ينقض التيمم, كذلك فعل الصلاة. قيل له: لأن بطلانه بالحدث كان معلوما عند المخاطبين فلم يحتج إلى ذكره, وإنما ذكر ما لم يكن معلوما عندهم وأكده ببقائه إلى وجود الماء. وأيضا فإن المعنى المبيح للصلاة بالتيمم بديا كان عدم الماء وهو قائم بعد فعل الصلاة, فينبغي أن يبقى تيممه, ولا فرق فيه بين الابتداء والبقاء, إذا كان المعنى فيهما واحدا وهو عدم الماء. وأيضا لما كان المسح على الخفين بدلا من الغسل كما أن التيمم بدل منه, ثم جاز عند الجميع فعل صلاتين بمسح واحد, جاز فعلهما أيضا بتيمم واحد. وأيضا فلا يخلو المتيمم بعد فعل صلاته من أن

(2/479)


تكون طهارته باقية أو زائلة, فإن كانت زائلة فالواجب أن لا يصلي بها نفلا لأن النفل والفرض لا يختلفان في باب الطهارة, وإن كانت باقية فجائز أن يصلي به فرضا آخر.
فإن قيل: قد خفف أمر النفل عن الفرض حتى جاز على الراحلة وإلى غير القبلة من غير ضرورة, ولا يجوز فعل الفرض على هذا الوجه إلا لضرورة. قيل له: إنهما وإن اختلفا من هذا الوجه فلم يختلفا في أن شرط كل واحد منهما الطهارة, فمن حيث جاز النفل بالتيمم الذي أدى به الفرض فواجب أن يجوز فعل فرض آخر به, وإنما خفف أمر النفل في جواز فعله على الراحلة وإلى غير القبلة لأن فعل الفرض جائز على هذه الصفة في حال الضرورة, وأما الطهارة فلا يختلف فيها حكم النفل والفرض في الأصول.
واستدل من خالف في ذلك بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} وذلك يقتضي وجوب تجديد الطهارة على كل قائم إليها, فوجب بحق العموم إيجاب تجديد التيمم لكل صلاة. قيل له: هذا غلط; لأن قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ} لا يقتضي التكرار في اللغة, وقد بيناه فيما سلف, ألا ترى أنه لم يقتضه في استعمال الماء؟ فكذلك في التيمم. وعلى أنه أوجب التيمم في الحال التي لو كان الماء موجودا لكان مأمورا باستعماله, فجعل التيمم بدلا منه, فإنما يجب التيمم على الوجه الذي يجب فيه الأصل, فأما حال أخرى غير هذه فليس في الآية ذكر إيجابه فيها, فإذا كان الماء لو كان موجودا لم يلزمه تجديد الطهارة به للصلاة الثانية بعدما صلى بها الصلاة الأولى كان كذلك حكم التيمم.
فإن قيل: التيمم لا يرفع الحدث, فليس هو بمنزلة الماء الذي يرفعه; فلما كان الحدث باقيا مع التيمم وجب عليه تجديده. قيل له: ليس بقاء الحدث علة لإيجاب تكرار التيمم, لأنه لو كان كذلك لوجب عليه تكراره أبدا قبل الدخول في الصلاة لهذه العلة, فلما جاز أن يفعل الصلاة الأولى بالتيمم مع بقاء الحدث كانت الثانية مثلها إذا كان التيمم مفعولا لأجل ذلك الحدث بعينه الذي يريد إيجاب التيمم من أجله, وقد وقع له مرة فلا يجب ثانية. وأيضا فإن هذه العلة منتقضة بالمسح على الخفين لبقاء الحدث في الرجل مع المسح ويجوز فعل صلوات كثيرة به, وينتقض أيضا بتجويز مخالفينا صلاة نافلة بعد الفرض لوجود الحدث.
فإن قيل: هلا جعلته كالمستحاضة عند خروج وقتها قيل له: قد ثبت عندنا أن رخصة المستحاضة مقدرة بوقت الصلاة, ولا نعلم أحدا يجعل رخصة التيمم مقدرة بالوقت, فهو قياس فاسد منتقض وعلى أن المستحاضة مخالفة للمتيمم من قبل أنه قد وجد منها حدث بعد وضوئها, والوقت رخصة في فعل الصلاة مع الحدث, فإذا خرج

(2/480)


الوقت توضأت لحدث وجد بعد طهارتها; ولم يوجد في التيمم حدث بعد تيممه, فطهارته باقية.
واختلف في المتيمم إذا وجد الماء في الصلاة, فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: "إذا وجد الماء في الصلاة بطلت صلاته وتوضأ واستقبل". وقال مالك والشافعي: "يمضي فيها وتجزيه". وروي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن: "أنه إذا وجد الماء قبل دخوله في الصلاة لم يلزمه الوضوء وصلى بتيممه", وهو قول شاذ مخالف للسنة والإجماع, والدليل على صحة قولنا قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً} فأوجب غسل هذه الأعضاء عند وجود الماء, ثم نقله إلى التراب عند عدمه, فمتى وجد الماء فهو مخاطب باستعماله بظاهر الآية. وعلى أن حقيقة اللفظ تقتضي وجوب الغسل بعد القيام إلى الصلاة, فغير جائز أن يكون دخوله فيها مانعا من لزوم استعماله. وأيضا لا يختلفون أن حكم الآية في فرض الغسل عند وجود الماء قائم عليه بعد دخوله في الصلاة; لأنه لو أفسد صلاته قبل إتمامها لزمه استعمال الماء بالآية, فثبت بذلك أن دخوله في الصلاة لم يسقط عنه فرض الغسل, والخطاب بحكم الآية, فوجب عليه بحكم الآية استعماله لبقاء فرض استعماله عليه. وأيضا لا يخلو قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} من أن يكون المراد به حال وجود الصلاة بعد فعل جزء منها أو إرادة القيام إليها في حال الحدث, فإن كان المراد وجود جزء من الصلاة فقد اقتضى لزوم استعماله إذا وجده بعد فعل جزء منها لاقتضاء الآية, وإن كان المراد إرادة القيام إليها محدثا وجعل ذلك شرطا للزوم استعماله فقد وجد, فعليه استعماله, ولا يسقط عنه ذلك بالتيمم والدخول فيها مع وجود سبب تكليفه; إذ كان المسقط لفرضه هو عدم الماء فمتى وجد فقد عاد شرط لزومه فلزمته الطهارة به. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] فإذا كان جنبا ودخل في الصلاة بالتيمم ثم وجد الماء لزمه بقوله: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ} إلى قوله: حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43].
فإن قيل: في نسق الخطاب: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} . قيل له: هما مستعملان جميعا كل واحد على شريطته, فالتيمم عند عدم الماء والغسل عند وجوده; وغير جائز إسقاط الغسل عند وجوده; إذ كان الظاهر يوجبه, ولم تفرق الآية بين حاله بعد الدخول في الصلاة أو قبله; ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء" فجعله طهورا بشريطة عدم الماء, فإذا

(2/481)


وجد الماء خرج من أن يكون طهارة; ولم يفرق بين أن يكون في الصلاة أو في غيرها, فإذا بطلت طهارته برؤية الماء لم يجز له أن يمضي فيها. وأيضا فقال صلى الله عليه وسلم: "الماء طهور المسلم" وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا وجدت الماء فأمسسه جلدك" وفي بعض الألفاظ: "وأمسسه بشرتك" ودلالته على ما وصفنا من وجهين: أحدهما: ما ذكرنا من قوله: "التراب طهور المسلم ما لم يجد الماء" فأخبر بالحال التي يكون التراب فيها طهورا, وهو أن لا يجد الماء, ولم يفرق بين حاله قبل الدخول في الصلاة وبعده. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم خص كونه طهورا بهذه الحال دون غيرها, فمتى صلى به والماء موجود فهو مصل بغير طهور. والثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك" ولم يفرق بينه قبل الدخول وبعده, فهو على الحالين يلزمه استعماله متى وجده بظاهر قوله. ويدل عليه اتفاق الجميع على أن وجود الماء بعد التيمم قبل الدخول يمنع الابتداء, فوجب أن يمنع البناء; كما أن الحدث لما منع ابتداء الصلاة منع البناء عليها, إذ كان من شرط صحتهما جميعا الطهارة. وأيضا فإن كونه في الصلاة لا يمنع لزوم الطهارة; لأنه لو أحدث فيها لزمته الطهارة, وكذلك لا يمنع لزوم سائر الفروض التي هي من شروط الصلاة مثل وجود الثوب للعريان, وعتق الأمة في لزومها تغطية الرأس, وخروج وقت المسح; فوجب أن لا يمنع كونه في الصلاة من لزوم الطهارة بالماء عند وجوده. وأيضا لما لم يجز التحريمة بالتيمم مع وجود الماء لأنه يكون فاعلا لجزء من الصلاة بالتيمم مع وجود الماء وكان هذا المعنى موجودا بعد الدخول, وجب أن يمنع المضي فيها.
فإن قيل: لو أحدث جاز البناء عندك إذا توضأ, ولا تجوز التحريمة بعد الحدث. قيل له: لا فرق بينهما لأنه لو فعل جزءا من الصلاة بعد الحدث قبل الطهارة بطلت صلاته, وإنما نجيز له البناء إذا توضأ, وأنت تجيزه قبل الطهارة بالماء. فإن قيل: إنما اختلف حال الصلاة وقبلها في التيمم لسقوط فرض الطلب عنه بدخوله في الصلاة; لأن كونه فيها ينافي فرض الطلب, وأما قبل الدخول فيها ففرض الطلب قائم عليه, فلذلك لزمته الطهارة إذا وجده قبل الدخول. قيل له: أما قولك في لزوم فرض الطلب قبل الدخول فيها, ففاسد على ما قدمناه فيما سلف. ومع ذلك فلو سلمناه لك لانتقض على أصلك, وذلك أن بقاء فرض الطلب ينافي صحة الدخول في الصلاة عندك, فلا يخلو إذا طلب ولم يجد فتيمم أن يكون فرض الطلب قائما عليه أو ساقطا عنه, فإذا كان فرض الطلب قائما عليه فواجب أن لا يصح دخوله; إذ كان بقاء فرض الطلب ينافي صحة الصلاة ويمنع صحة التيمم أيضا على أصلك. وإن كان فرض الطلب ساقطا عنه, فالواجب على قضيتك أن لا يلزمه استعمال الماء إذا وجده بعد التيمم قبل الدخول في الصلاة, كما حكي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن فلما ألزمته استعمال الماء عند وجوده بعد التيمم قبل الدخول في

(2/482)


مطلبء: المجمل لا يصح لإيجاب به
فإن قيل: ما تقول لو تيمم ودخل في صلاة العيد أو صلاة الجنازة ثم وجد الماء؟ قيل له: ينتقض تيممه ولا يجوز له المضي عليها, وتبطل صلاته إذا أمكنه استعمال الماء والدخول في الصلاة, لا فرق بينهما وبين الصلاة المكتوبة. وجواب آخر عما أورده من الخبر أنه مجمل لا يصح الإيجاب به لأنه مفهوم أنه لم يرد به كل صوت أو ريح يوجد

(2/483)


فصل مطلب: في الوضوء بنبيذ
ويستدل بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} الآية, على جواز الوضوء بنبيذ التمر من وجهين: أحدهما قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} وذلك عموم في جميع المائعات لأنه يسمى غاسلا بها, إلا ما قام الدليل فيه, ونبيذ التمر مما قد شمله العموم. والثاني: قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فإنما أباح التيمم عند عدم كل جزء من الماء; لأنه لفظ منكر يتناول كل جزء منه سواء كان مخالطا لغيره أو منفردا بنفسه, ولا يمتنع أحد أن يقول في نبيذ التمر ماء, فلما كان كذلك وجب أن لا يجوز التيمم مع وجوده بالظاهر, ويدل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ به بمكة قبل نزول آية التيمم. وقيل إن نقل من الماء إلى بدل فدل ذلك على أنه بقي فيه حكم الماء الذي فيه, لا على وجه البدل عن الماء; إذ قد توضأ به في وقت كانت الطهارة مقصورة على الماء دون غيره; وقد تكلمنا في هذه المسألة في مواضع من كتبنا. وروى يحيى بن كثير عن عكرمة عن ابن عباس قال: "الوضوء بالنبيذ الذي لا يسكر وضوء لمن لم يجد الماء". وقال عكرمة: "النبيذ وضوء إذا لم يجد غيره". وروى أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: "ركبت مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم البحر, ففني ماؤهم فتوضئوا بالنبيذ وكرهوا ماء البحر". وروى المبارك بن فضالة عن أنس: "أنه كان لا يرى بأسا بالوضوء بالنبيذ" فهؤلاء الصحابة والتابعون قد روي عنهم جواز الوضوء بالنبيذ من غير خلاف ظهر من أحد من نظائرهم عليهم. وروي عن أبي حنيفة في الوضوء بنبيذ التمر ثلاث روايات: إحداها وهي المشهورة: "أنه يتوضأ به ولا يتيمم" وهو قول زفر; وروي عنه: "أنه يتوضأ به ويتيمم" وهو قول محمد; وروى نوح أن أبا حنيفة رجع عن الوضوء بالنبيذ وقال: "يتيمم ولا يتوضأ به". وقال مالك والثوري وأبو يوسف والشافعي: "يتيمم ولا يتوضأ به". وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف: "أنه يتوضأ به ويتيمم" وكذلك روى عنه المعلى. وقال حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي صاحب الحسن بن صالح: "يتوضأ بنبيذ التمر مع وجود الماء إن شاء". وروى الوضوء بنبيذ التمر عن النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود وأبو أمامة, روي عن عبد الله من طرق عدة قد بيناها في مواضع.

(2/484)


باب صفة التيمم
قال الله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} فاختلف الفقهاء في صفته, فقال أصحابنا: "التيمم ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين" فقالوا: "يضرب بيديه على الصعيد ثم يحركهما فيقبل بهما ويدبر على الصعيد ثم ينفضهما ثم يمسح بهما وجهه, ثم يعيد إلى الصعيد كفيه جميعا فيقبل بهما ويدبر ويرفعهما فينفضهما ثم يمسح بكل كف ظهر ذراعه الأخرى وباطنها إلى المرفقين". واتفق مالك والثوري والليث والشافعي أنه ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين; وروي مثله عن جابر وابن عمر. وحكى بعض أصحاب مالك أنه إن تيمم بضربة واحدة أجزأه, وحكي عن مالك أيضا أنه يتيمم إلى المرفقين فإن تيمم إلى الكوعين لم يعد. وقال الأوزاعي: "تجزي ضربة واحدة للوجه والكوعين", وروي نحوه عن عطاء. وقال الزهري: "يمسح يديه إلى الإبط". وقال ابن أبي ليلى والحسن بن صالح: "يتيمم بضربتين يمسح بكل واحدة منهما وجهه وذراعيه ومرفقيه".
وقال أبو جعفر الطحاوي: "لم نجد عن غيرهما أنه يمسح بكل واحدة من الضربتين وجهه وذراعيه ومرفقيه". والحجة لقول أصحابنا ما روى ابن عمر وابن عباس والأسلع عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة التيمم: "ضربتان ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين" . واختلفت الرواية عن عمار, فروى عنه عبد الرحمن بن أبزى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ضربة واحدة للوجه واليدين" . وروى عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ضربتين" وهذا أولى; لأنه زائد وخبر الزائد أولى. وأيضا فكما أنه لا يجوز في الوضوء الاكتفاء بماء واحد لعضوين بل عليه تجديد الماء لكل عضو, كذلك الحكم في التيمم لأنهما طهارتان وإن كانت إحداهما مسحا والأخرى غسلا, ألا ترى أنه يحتاج إلى تجديد الماء لكل رجل في المسح على الخفين وإن لم يكن غسلا؟ وإنما قلنا إن التيمم إلى المرفقين بحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم وحديث الأسلع, ذكرا فيه جميعا أن التيمم إلى المرفقين. واختلف عن عمار فيما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة التيمم, فروى الشعبي عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمار, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أوفوا التيمم إلى المرفقين" , وروى غيره عن سعيد بن عبد الرحمن عن أبيه عن عمار قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن التيمم فأمرني بضربة واحدة للوجه والكفين. ورواه شعبة عن سلمة بن كهيل عن زر عن ابن عبد الرحمن بن أبزى عن أبيه عن عمار, وقال فيهما: "ونفخ فيهما ومسح بهما وجهه وكفيه إلى المرفقين". وروى سلمة عن أبي مالك عن عبد الرحمن بن أبزى عن عمار: أنه تمعك في التراب في

(2/485)


الجنابة, فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فقال له: "إنما كان يكفيك أن تقول هكذا" وضرب بيديه إلى الأرض ثم نفخهما ثم مسح بهما وجهه ويديه إلى نصف الذراع. وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عمار: أنهم مسحوا وهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصعيد ضربة واحدة للوجه وضربة لليدين إلى المناكب والآباط. فلما اختلفت أحاديث عمار هذا الاختلاف واتفقوا أن التيمم إلى المناكب غير ثابت الحكم, ومع ذلك لم يعزه عمار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما حكى فعل نفسه, لم يثبت التيمم إلى المناكب; وإن كان له وجه في الاحتمال وهو أنه جائز أن يكون عمار ذهب في ذلك مذهب أبي هريرة في غسله ذراعيه في الوضوء إلى إبطيه على وجه المبالغة فيه, لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم الغر المحجلون من آثار الوضوء, فمن أراد أن يطول غرته فليفعل" فقال أبو هريرة: إني أحب أن أطيل غرتي. ثم بقي من أخبار عمار مما عزاه إلى النبي صلى الله عليه وسلم الوجه والكفان ونصف الذراع إلى المرفقين, فكانت رواية من روى" إلى المرفقين" أولى لوجوه: أحدها أنه زائد على روايات الآخرين, وخبر الزائد أولى. والثاني: أن الآية تقتضي اليدين إلى المنكبين لدخولهما تحت الاسم, فلا يخرج شيء منه إلا بدليل, وقد قامت الدلالة على خروج ما فوق المرفقين فبقي حكمه إلى المرفقين. والثالث: أن في حديث ابن عمر والأسلع التيمم إلى المرفقين من غير اختلاف عنهما في روايته ما, وقول الزهري: "يمسح يديه إلى الإبط" قول شاذ, ومع ذلك لم يروه أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم. وأما قول ابن أبي ليلى والحسن بن صالح: "أنه يمسح بكل واحدة من الضربتين وجهه ويديه" فخلاف ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في سائر الأخبار التي ذكر فيها صفة التيمم; لأن الذي روي في بعضها: ضربتان: ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين" فلم يجعل ما للوجه لليدين وما لليدين للوجه, وفي بعضها: "ضربة واحدة لهما" فقولهما خارج عن حكم الخبرين جميعا; وهو مع ذلك خلاف الأصول; لأن التيمم مسح, فليس تكراره بمسنون كالمسح على الخفين ومسح الرأس, ولو كان التكرار مسنونا فيه لكان ثلاثا كالأعضاء المغسولة. وإنما قال أصحابنا في صفة التيمم "إنه يضع يديه على الصعيد يقبل بهما ويدبر" ليتخلل أصابعه ويصيب جميعها, وإنما قالوا: "ينفضهما" لما روى الأعمش عن سفيان عن أبي موسى أن عمارا قال, وذكر قصة التيمم, فقال: إنه صلى الله عليه وسلم قال: "إنما كان يكفيك أن تصنع هكذا" وضرب بيده على الأرض; وفي حديث عبد الرحمن بن أبزى عن عمار عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه ضرب بيديه إلى الأرض ثم نفخهما, وفي حديث الأسلع: أنه نفضهما في كل مرة والنفخ والنفض جميعا إنما هو لإزالة التراب عن يده, وهذا يدل على أنه ليس المقصد فيه وصول التراب إلى وجهه ولا حصوله فيه لأنه لو كان المقصد حصول التراب في العضو لما نفضه

(2/486)


باب ما يتيمم به
قال الله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} اختلف الفقهاء فيما يجوز به التيمم, فقال أبو حنيفة: "يجزي التيمم بكل ما كان من الأرض: التراب والرمل والحجارة والزرنيخ والنورة والطين الأحمر والمرداسنج1 وما أشبهه", وهو قول محمد وزفر, وكذلك يجزي بالكحل والآجر المدقوق في قوله ما رواه محمد; ورواه أيضا الحسن بن زياد عن أبي حنيفة. وإن تيمم ببورق2 أو رماد أو ملح أو نحوه لم يجز عندهم, وكذلك الذهب والفضة في قولهم. وقال أبو يوسف: "لا يجزي إلا أن يكون ترابا أو رملا". وإن ضرب يده على صخرة أو حائط لا صعيد عليه ما أجزأه في قول أبي حنيفة, وقال أبو يوسف: "لا يجزيه". وروى المعلى عن أبي يوسف أنه إن تيمم بأرض لا صعيد عليها لم يجزه وهو بمنزلة الحائط, وهو قوله الآخر. وقال الثوري: "يجوز بالزرنيخ والنورة ونحوهما وكل ما كان من تراب الأرض, ولا يتيمم بالآجر". وقال مالك: "يتيمم بالحصى والجبل" وكذلك حكى عنه أصحابه في الزرنيخ والنورة ونحوهما, قال: "وإن تيمم بالثلج ولم يصل إلى الأرض أجزأه, وكذلك الحشيش إذا كان ممتدا". وروى أشهب عن مالك أنه لا يتيمم بالثلج. وقال الشافعي: "يتيمم بالتراب مما تعلق باليد".
قال أبو بكر: لما قال الله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} وكان الصعيد اسما للأرض, اقتضى ذلك جواز التيمم بكل ما كان من الأرض; وأخبرنا أبو عمر غلام ثعلب عنه عن ابن الأعرابي قال: الصعيد الأرض, والصعيد التراب, والصعيد القبر, والصعيد الطريق. فكل ما كان من الأرض فهو صعيد فيجوز التيمم به بظاهر الآية. فإن قيل: إنما أباح التيمم بالصعيد الطيب, والأرض الطيبة هي التي تنبت, والجص والزرنيخ لا ينبت شيئا, فليس إذا بطيب, قال الله تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58]. قيل له: إنما أراد بالطيب الطاهر المباح, كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57] فأفاد بذلك إيجاب التيمم بالصعيد الطاهر دون النجس. وأما قوله: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ} فإنما يريد به ما ليس بسبخة لأنه قال: {وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً} [الأعراف: 58] ولا خلاف في جواز التيمم بالسبخة التي لا تخرج
ـــــــ
1 قوله: "المرداسنج" معرب مرداسنك بضم أوله وتسكين الراءو وهو جوهر مركب من القصدير والرصاص, كذا ذكره عاصم أفندي في ترجمة البرهان القاطع. وفي الفتاوى الهندية أنه يجوز التيمم بالمرداسنج العدني دون المتخذ من شيء آخر, هكذا في محيط السرخسي. "لمصححه".
2 قوله: "ببورق" هو نوع من الأملاح ويقال له النطرون. "لمصححه".

(2/487)


مثل ما يخرج غيرها, فعلمنا أنه لم يرد بالطيب ما ذكرت. وقد روى أبو ظبيان عن ابن عباس قال: "الطيب الصعيد الجرز" أو قال: "الأرض الجرز". وقال ابن جريج, قال: قلت لعطاء: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} قال: أطيب ما حولك. ويدل عليه أيضا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" , وهو يدل من وجهين على ما ذكرنا, أحدهما: إخباره أن الأرض طهور, فكل ما كان من الأرض فهو طهور بمقتضى الخبر. والآخر: أن ما جعله من الأرض مسجدا هو الذي جعله طهورا, وسائر ما ذكر هو من الأرض وهي مسجد, فيجوز التيمم به بحق العموم. وروى عمرو بن دينار عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: أن أعرابا أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنا نكون في هذه الرمال لا نقدر على الماء ثلاثة أشهر أو أربعة أشهر وفينا النفساء والحائض والجنب؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بأرضكم" فأفاد بذلك جوازه بكل ما كان من الأرض. ولما ذكرنا من عموم الآية والخبر أجزنا التيمم بالحجر والحائط لأنه من الأرض; لأنها تشتمل على أنواع مختلفة ولا يخرجها اختلاف أنواعها من كون جميعها صعيدا; وقال تعالى: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} [الكهف: 40] يعني الأرض الملساء التي لا شيء عليها. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يحشر الناس عراة حفاة في صعيد واحد" يعني الأرض المستوية التي ليس عليها شيء, كقوله تعالى: {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً} [طه: 106, 107] فلا فرق بين ما عليه منها تراب أو لا تراب عليه, لوقوع الاسم عليه على الإطلاق.
فإن قيل: إن الآجر وإن كان أصله من الأرض فقد انتقل عن طبع الأرض بالطبخ وحال عن حد التراب, فهو كالماء المنتقل عن حاله بما يدخل عليه من الرياحين والأصباغ حتى يحول إلى جنس آخر ويزول عنه الاسم الأول, وكالزجاج; فلا يجوز الوضوء به. قيل له: إنما لم يجز الوضوء بالماء الذي ذكرت لغلبة غيره عليه حتى أزال عنه اسم الماء, وأما الآجر فلا يخالطه ما يخرجه عن حد الأرض, وإنما حدثت فيه صلابة بالإحراق فهو كالحجر, فلا يمنع ذلك التيمم به; وقد روى ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده على الحائط فتيمم به; وروي: أنه نفض يديه حين وضعهما على التراب وأنه نفخهما فعلمنا أن المقصد فيه وضع اليد على ما كان من الأرض لا على أن يحصل في يده أو وجهه شيء منه, ولو كان المقصد أن يحصل في يده منه شيء لأمر بحمل التراب على يده ومسح الوجه به كما أمر بأخذ الماء للغسل أو للمسح حتى يحصل في وجهه, فلما لم يأمر بأخذ التراب ونفض النبي صلى الله عليه وسلم يديه ونفخهما علمنا أنه ليس المقصد حصول التراب في وجهه.

(2/488)


فإن قيل: قوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} يقتضي حصول شيء منه في الأعضاء الممسوحة به. قيل له: إنما أفاد بذلك تأكيد وجوب النية فيه; لأن "من" قد تكون لبدء الغاية كقولك: خرجت من الكوفة, وهذا كتاب من فلان إلى فلان; فيكون معناه على هذا: ليكن ابتداء الأخذ من الأرض حتى يتصل بالوجه واليد بلا فاصل يفصل بين الأخذ وبين المسح فينقطع حكم النية ويحتاج إلى تجديدها, وهو كقولك: توضأ من النهر; يعني أن ابتداء أخذه من النهر إلى أن اتصل بأعضاء الوضوء من غير قطع, ألا ترى أنه لو أخذه من النهر في إناء وتوضأ منه لم يقل إنه توضأ من النهر؟ ويحتمل أن يكون قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} يعني من بعضه, وأفاد به أن أي بعض منه مسحتم به على جهة الإطلاق والتوسعة.
وأما الذهب والفضة واللؤلؤ ونحوها فلا يجوز التيمم بها لأنها ليست من طبع الأرض وإنما هي جواهر مودوعة فيها, قال النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل عن الركاز: "هو الذهب والفضة اللذان خلقهما الله تعالى في الأرض يوم خلقت". واللؤلؤ من الصدف, والصدف من حيوان الماء; وأما الرماد فهو من الخشب ونحوه, ومع ذلك فليس هو من طبع الأرض ولا من جوهرها. وأما الثلج والحشيش فهما كالدقيق والحبوب ونحوها, فلا يجوز التيمم بها لأنها ليست من الصعيد, ولا يجوز نقل الأبدال إلى غيرها إلا بتوقيف, فلما جعل الله الصعيد بدلا من الماء لم يجز لنا إثبات بدل منه إلا بتوقيف, ولو جاز ذلك لجاز أن يضرب يده على ثوب لا غبار عليه فيتيمم به, ولجاز التيمم بالقطن والحبوب; وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا قال: وترابها لنا طهور" وقد اتفقوا على امتناع جوازه بالثلج والحشيش إذا وصل إلى الأرض, فلو كان مما يجوز التيمم به لجاز مع وجود التراب; لأن التيمم بالصعيد بدل فلا ينتقل إلى بدل غيره.
فإن قيل: إذا لم يصل إلى الأرض فهو كالزرنيخ والنورة والمغرة إذا كان بينه وبين الأرض. قيل له: الزرنيخ ونحوه من الأرض, ويجوز التيمم به مع وجود التراب وعدمه, وليس هو مع ذلك حائلا بيننا وبين الأرض وإنما الأرض في الأغلب حائلة بيننا وبينه, فكيف يشبهه الثلج والحشيش وإن تيمم بغبار ثوب أو لبد وقد نفضه جاز عند أبي حنيفة ولا يجوز عند أبي يوسف, وإنما جاز عند أبي حنيفة لأن الغبار الذي فيه من الأرض, ولا يختلف حكمه في كونه في الثياب أو على الأرض, كما أن الماء لا يختلف حكمه في كونه في إناء أو نهر أو ما عصر من ثوب مبلول. وذهب أبو يوسف في ذلك كله إلى أن هذا لا يسمى ترابا على الإطلاق فلا يجوز التيمم به, ومن أجل ذلك لم يجز التيمم بأرض لا تراب عليها, وجعلها بمنزلة الحجر على أصله. وروى قتادة عن نافع عن ابن

(2/489)


عمر, أن عمر صلى على مسح من ثلج أصابه وأرادوا أن يتيمموا فلم يجدوا ترابا, فقال: "لينفض أحدكم ثوبه أو صفة سرجه1 فيتيمم به". وروى هشام بن حسان عن الحسن قال: "إذا لم يجد الماء ولم يصل إلى الأرض ضرب بيده على لبده وسرجه ثم يتيمم به".
قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} قال أبو بكر الذي يقتضيه الظاهر مسح البعض على ما بينا في قوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} وأن الباء تقتضي التبعيض, إلا أن الفقهاء متفقون على أنه لا يجوز له الاقتصار على القليل منه وأن عليه مسح الكثير. وذكر أبو الحسن الكرخي عن أصحابنا أنه إن ترك المتيمم من مواضع التيمم شيئا قليلا أو كثيرا لم يجزه. وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه يجزيه إذا ترك اليسير منه; وهذا أولى بمذهبه; لأن من أصله جواز التيمم بالحجارة التي لا غبار عليها وليس عليه تخليل أصابعه بالحجارة, وهذا يدل على أن ترك اليسير منه لا يضره; وقال الله تعالى2: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ولا خلاف في وجوب استيعاب البيت كله, وغير جائز له ترك شيء منه.
قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: 6] قال أبو بكر: لما كان الحرج الضيق ونفى الله عن نفسه إرادة الحرج بنا, ساغ الاستدلال بظاهره في نفي الضيق وإثبات التوسعة في كل ما اختلف فيه من أحكام السمعيات, فيكون القائل بما يوجب الحرج والضيق محجوجا بظاهر هذه الآية, وهو نظير قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. وقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} يحتمل معنيين: الطهارة من الذنوب كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا توضأ العبد فغسل وجهه خرجت ذنوبه من وجهه, وإذا غسل يديه خرجت ذنوبه من يده" إلى آخره, كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] يحتمل التطهير من الذنوب ويحتمل التطهير من الأحداث والجنابة والنجاسة, كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال: 11] فانتظم لطهارة الجنابة والطهارة من النجاسة, وقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] فلما احتمل المعنيين فالواجب حمله عليهما, فيكون المراد التطهير من الأحداث والتطهير به أيضا من الذنوب; وهذا
ـــــــ
1 قوله: "أو صفة سرجه" الصفة بضم الصاد وتشديد الفاء, هو موضع الراكب من السرج. "لمصححه".
2 قوله: "وقال الله تعالى: {وليطوفوا} هذا دليل لما ذكر أبو الحسن الكرخي من وجوب استيعاب المتيمم مواضع التيمم كلها فكان المناسب تقديمه على قوله: "وروى الحسن بن زياد إلى آخره". "لمصححه".

(2/490)


يدل إذا كان المراد حصول الطهارة على سقوط اعتبار الترتيب وإيجاب النية في الوضوء. فإن قيل: لما ذكر ذلك عقيب التيمم فينبغي أن يدل على سقوط اعتبار النية في التيمم كما دل على سقوطها في الوضوء. قيل له: لما كان التيمم يقتضي إحضار النية في فحواه ومقتضاه علمنا أنه لم يرد به إسقاط ما انتظمه, وأما الوضوء والغسل فلا يقتضيان النية فوجب اعتبار عمومه فيهما. وعلى أن قوله: { ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم} كلام مكتف بنفسه غير مفتقر إلى تضمينه بغيره, فصح اعتبار عمومه في جميع ما انتظمه لفظه إلا ما قام دليل خصوصه.

(2/491)


فصل
قال أبو بكر: قد ذكرنا ما حضرنا من علم أحكام هذه الآية, وما في ضمنها من الدلائل على المعاني, وما يشتمل عليه من وجوه الاحتمال على ما ذهب إليه المختلفون فيها, وذكرناه عن قائليها من السلف وفقهاء الأمصار وإنزال الله إياها بهذه الألفاظ المحتملة للمعاني, ووجوه الدلالات على الأحكام مع أمره إيانا باعتبارها والاستدلال بها في قوله تعالى: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83] وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] فحث على التفكر فيه, وحرضنا على الاستنباط والتدبر, وأمرنا بالاعتبار لنتسابق إلى إدراك أحكامه وننال درجة المستنبطين والعلماء الناظرين. ودل بما أنزل من الآي المحتملة للوجوه من الأحكام التي طريق استدراك معانيها السمع على تسويغ الاجتهاد في طلبها, وأن كلا منهم مكلف بالقول بما أداه إليه اجتهاده واستقر عليه رأيه ونظره, وأن مراد الله من كل واحد من المجتهدين اعتقاد ما أداه إليه نظره; إذ لم يكن لنا سبيل إلى استدراكه إلا من طريق السمع وكان جائزا تعبد كل واحد منهم من طريق النظر بمثل ما حصل عليه اجتهاده, فوجب من أجل ذلك أن يكون من حيث جعل لفظ الكتاب محتملا للمعاني أن يكون مشرعا لكل واحد من المجتهدين ما دل عليه عنده فحوى الآية وما في مضمون الخطاب ومقتضاه من وجوه الاحتمال. فانظر على كم اشتملت هذه الآية بفحواها ومقتضاها من لطيف المعاني وكثرة الفوائد وضروب ما أدت إليه من وجوه الاستنباط وهذه إحدى دلائل إعجاز القرآن; إذ غير جائز وجود مثله في كلام البشر. وأنا ذاكر مجملا ما تقدم ذكره مفصلا ليكون أقرب إلى فهم قارئه إذا كان مجموعا محصورا, والله تعالى نسأل التوفيق.
فأول ما ذكرنا من حكم قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} ما احتمله اللفظ من

(2/491)


إرادة القيام. والثاني: ما اقتضته حقيقة اللفظ من إيجاب الغسل بعد القيام. والثالث: ما احتمله من القيام من النوم; لأن الآية على هذه الحال نزلت. والرابع: اقتضاؤها إيجاب الوضوء من النوم المعتاد الذي يصح إطلاق القول فيه بأنه قائم من النوم. والخامس: احتمالها لإيجاب الوضوء لكل صلاة, واحتمالها لطهارة واحدة لصلوات كثيرة ما لم يحدث. والسادس: احتمالها إذا أردتم القيام وأنتم محدثون وإيجاب الطهارة من الإحداث. والسابع: دلالتها على جواز الوضوء بإمرار الماء على الموضع من غير دلك واحتمالها لقول من أوجب الدلك. والثامن: إيجابها بظاهرها إجراء الماء على الأعضاء وأن مسحها غير جائز على ما بينا, وبطلان قول من أجاز المسح في جميع الأعضاء. والتاسع: دلالتها على جواز الوضوء بغير نية. والعاشر: دلالتها على وجوب الاقتصار بالفرض على ما واجهنا من المتوضئ بقوله تعالى: {وُجُوهَكُمْ} إذ كان الوجه ما واجهك, وأن المضمضة والاستنشاق غير واجبين في الوضوء. والحادي عشر: دلالتها على أن تخليل اللحية غير واجب; إذ لم يكن باطنها من الوجه. والثاني عشر: دلالتها على نفي إيجاب التسمية في الوضوء. والثالث عشر: دلالتها على دخول المرافق في الغسل. والرابع عشر: احتمالها أن تكون المرافق غير داخلة فيه. والخامس عشر: دلالتها على جواز مسح بعض الرأس. والسادس عشر: احتمالها لوجوب مسح الجميع. والسابع عشر: احتمالها لجواز مسح البعض, أي بعض كان منه. والثامن عشر: دلالتها على أنه غير جائز أن يكون المفروض ثلاث شعرات; إذ غير جائز تكليفه ما لا يمكن الاقتصار عليه. والتاسع عشر: احتمالها لوجوب غسل الرجلين. والعشرون: احتمالها لجواز المسح على قول موجبي استيعابها بالمسح. والحادي والعشرون: دلالتها على بطلان قول مجيزي مسح البعض بقوله: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} . والثاني والعشرون: دلالتها على عدم إيجاب الجمع بين الغسل والمسح وأن الواجب إنما كان أحدهما باتفاق الفقهاء. والثالث والعشرون: دلالتها على جواز المسح في حال لبس الخفين ووجوب الغسل في حال ظهور الرجلين. والرابع والعشرون: دلالتها على جواز المسح على الخفين إذا أدخل رجليه وهما طاهرتان ثم أكمل الطهارة قبل الحدث; لأنها من حيث دلت على المسح دلت على جوازه في جميع الأحوال إلا ما قام دليله. والخامس والعشرون: دلالتها على قول من أجاز المسح على الجرموقين من حيث دلت على المسح على الخفين لأن الماسح على الخفين والجرموقين جائز أن يقال قد مسح على رجليه, كما تقول: "قد ضربت رجليه" وإن كان عليهما خفان. والسادس والعشرون: دلالتها على جواز المسح على الجوربين وأنه يحتاج إلى دليل في أن المسح على الجوربين غير مراد. والسابع والعشرون: دلالتها على لزوم مباشرة الرأس بالمسح وامتناع

(2/492)


جوازه على العمامة والخمار. فإن قيل: فإن كان ذلك دليلا على بطلان المسح على العمامة, فقوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} يدل على بطلان المسح على الخفين. قيل له: لما كان قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ} محتملا للمسح والغسل وأمكننا استعمالهما استعملناه ما في حالين, وإن كان في أحدهما مجازا, لئلا نسقط واحدا منهما, ولم تكن بنا حاجة إلى استعمال قوله: {وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} على المجاز, فاستعملناه على حقيقته. والثامن والعشرون: دلالتها على جواز الوضوء مرة مرة وأن ما زاد فهو تطوع. والتاسع والعشرون: دلالتها على نفي فرض الاستنجاء, وعلى جواز الصلاة مع تركه, وعلى بطلان قول من أوجب الاستنجاء من الريح. والثلاثون: دلالتها على بطلان قول من أوجب غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء, وأنه إن أدخلهما قبل أن يغسلهما لم يجزه الوضوء. والحادي والثلاثون: دلالتها على أن مسح الأذنين ليس بفرض, وبطلان قول من أجاز المسح عليهما ما دون الرأس. والثاني والثلاثون: دلالتها على جواز تفريق الوضوء بإباحة الصلاة بالغسل على أي وجه حصل. والثالث والثلاثون: دلالتها على بطلان قول موجبي الترتيب في الوضوء. والرابع والثلاثون: اقتضاؤها لإيجاب الغسل من الجنابة. والخامس والثلاثون: دلالتها على اقتضاء هذا اللفظ لمن سمي به اجتناب أشياء, إذا كانت الجنابة من مجانبة ما يقتضي ذلك اجتنابه, وهو ما قد بين حكمه في غيرها. والسادس والثلاثون: دلالتها على استيعاب البدن كله بالغسل ووجوب المضمضة والاستنشاق فيه بقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا} . والسابع والثلاثون: دلالتها على أنه متى طهر بدنه استباح الصلاة وأن الوضوء ليس بفرض فيه. والثامن والثلاثون إيجاب التيمم للحدث عند عدم الماء والتاسع والثلاثون: جوازه للمريض إذا خاف ضرر الماء. والأربعون جواز التيمم لغير المريض إذا خاف ضرر البرد; إذ كان المعنى في المرض مفهوما وهو أنه خوف الضرر. والحادي والأربعون: دلالتها على جواز التيمم للجنب; إذ كان قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} يحتمل الجماع. والثاني والأربعون: احتمالها إيجاب الوضوء من مس المرأة; إذ كان قوله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ} يحتمل الأمرين. والثالث والأربعون: دلالتها على أن من خاف العطش جاز له التيمم; إذ كان في معنى الخائف لضرر الماء باستعماله, وهو المريض والمجروح. والرابع والأربعون: دلالتها على أن الناسي للماء في رحله يجوز له التيمم,; إذ هو غير واجد للماء, والله تعالى شرط استعمال الماء عند وجوده. والخامس والأربعون: دلالتها على أن من معه ماء لا يكفيه لوضوئه فليس عليه استعماله, لأنه أمر بغسل أعضاء الوضوء, ثم قال تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} يعني ما يكفي لغسلها; ولأنه لا خلاف أن من فرضه التيمم, فدل على أن هذا القدر من الماء غير مراد. والسادس والأربعون: احتمالها لاستدلال من استدل بقوله تعالى: {فَلَمْ

(2/493)


تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فذكر عدم كل جزء منه, إذ كان نكرة في جواز التيمم, فإذا وجد قليلا لم يجز الاقتصار على التيمم. والسابع والأربعون: دلالتها على سقوط فرض الطلب وبطلان قول موجبه,; إذ كان الوجود أو العدم لا يقتضيان طلبا, فموجب الطلب زائد فيها ما ليس منها. والثامن والأربعون: دلالتها على أن من خاف ذهاب الوقت إن توضأ لم يجز له التيمم,; إذ كان واجدا للماء, لأمره تعالى إيانا بالغسل عند وجود الماء بقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا} من غير ذكر الوقت. والتاسع والأربعون: دلالتها على أن المحبوس الذي لا يجد الماء ولا ترابا نظيفا أنه لا يصلي, لأن الله أمر بفعل الصلاة بأحد ما ذكره في الآية من ماء أو تراب. والخمسون: احتمالها لجواز التيمم للمحبوس إذا وجد ترابا نظيفا. والحادي والخمسون جواز التيمم قبل دخول الوقت,; إذ لم يحصره بوقت وإنما علقه بعدم الماء بقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} . والثاني والخمسون: دلالتها على جواز الصلوات المكتوبات بتيمم واحد ما لم يحدث أو يجد الماء, بقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} ثم قوله في سياقه: {فَتَيَمَّمُوا} فأمر بالصلاة بالتيمم على الوجه الذي أمر بها بالوضوء, فلما لم تقتض الآية تكرار الوضوء لكل صلاة لم تقتض تكرار التيمم. والثالث والخمسون: دلالتها على أن على المتيمم إذا وجد الماء في الصلاة الوضوء, لقوله تعالى: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا} على ما بينا من دلالتها على ذلك فيما سلف. والرابع والخمسون مسح الوجه واليدين في التيمم واستيعابهما به. والخامس والخمسون مسح اليدين إلى المرفقين لاقتضاء قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} إياها, وأن ما فوق المرفقين إنما خرج بدليل. والسادس والخمسون: جوازه بكل ما كان من الأرض لقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} والصعيد الأرض. والسابع والخمسون بطلان التيمم بالتراب النجس لقوله تعالى {طَيِّباً} والنجس ليس بطيب. والثامن والخمسون: وجوب النية في التيمم من وجهين: أحدهما: أن التيمم القصد والثاني: قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} على ما بينا من دلالته على أن ابتداءه يكون من الأرض حتى يتصل بالوجه من غير قطع, وأن استعماله لشيء آخر يقطع حكم النية ويوجب الاستئناف. والتاسع والخمسون: احتمالها لإصابة بعض التراب وجهه ويديه, لقوله: {مِنْهُ} وهو للتبعيض. والستون: دلالتها على بطلان قول من أجاز التيمم بالثلج والحشيش; إذ ليسا من الصعيد. والواحد والستون: دلالة قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} على إيجاب الطهارة من الخارج من السبيلين وأن دم الاستحاضة وسلس البول والمذي ونحوها توجب الوضوء; إذ كان الغائط وهو المطمئن من الأرض يؤتى لكل ذلك. والثاني والستون: دلالة قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} على جواز الغسل بسائر المائعات إلا ما خصه الدليل, فيستدل به على جواز

(2/494)


الوضوء بنبيذ التمر ويستدل به أيضا الحسن بن صالح على جوازه بالخل وما جرى مجراه ويستدل به أيضا على جواز الطهارة بالماء الذي خالطه شيء من الطاهرات ولم يغلب على الماء مثل ماء الورد واللبن والخل ونحو ذلك. والثالث والستون: دلالة قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} على جوازه بالنبيذ; إذ كان في النبيذ ماء, وإنما أطلق لنا التيمم عند عدم كل جزء من الماء لذكره إياه بلفظ منكور, ويستدل به أيضا من يجيز الوضوء بالماء المضاف كالمرق وخل التمر ونحوه; إذ كان فيه ماء. والرابع والستون: دلالتها لمن يمنع المستحاضة صلاتي فرض بوضوء واحد على لزوم إعادة الوضوء لفرض ثان, لقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} فقد روي: "إذا قمتم وأنتم محدثون" وهي محدثة, لوجود الحدث بعد الطهارة. والخامس والستون: دلالتها على امتناع جواز فرضين بتيمم واحد كدلالتها في الاستحاضة; إذ كان التيمم غير رافع للحدث, فهو متى أراد القيام إلى الصلاة قام إليها وهو محدث. والسادس والستون: دلالتها على جواز التيمم في أول الوقت عند عدم الماء لقوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} فأمر بالصلاة عند دلوكها, وأمر بتقديم الطهارة لها بالماء إن كان موجودا أو التراب إذا كان معدوما; فاقتضى ذلك جواز التيمم في أول الوقت وقبل الوقت, كما اقتضى جواز الطهارة بالماء قبل الوقت وفي أوله. والسابع والستون: دلالتها على امتناع جواز التيمم في الحضر للمحبوس وجواز الصلاة به, لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} إلى قوله: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً} فشرط في إباحة التيمم شيئين: أحدهما المرض, والآخر: السفر مع عدم الماء; فإذا لم يكن مسافرا وكان مقيما إلا أنه ممنوع منه بحبس, فغير جائز صلاته بالتيمم. فإن قيل: فهو غير واجد للماء وإن كان مقيما. قيل له: هو كذلك, إلا أنه قد شرط في جوازه شيئين: أحدهما: السفر الذي الأغلب فيه عدم الماء, والثاني: عدمه; وإنما أبيح له التيمم وجواز الصلاة بتعذر وجود الماء للحال الموجبة لذلك وهو السفر لا في الحضر الذي الماء فيه موجود في الأغلب, وإنما حصل المنع بفعل آدمي من غير حال العادة فيها, والغالب منها عدمه. والثامن والستون: دلالة قوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} على نفي كل ما أوجب الحرج, والاحتجاج به عند وقوع الخلاف على منتحلي مذهب التضييق; فيدل على جواز التيمم, وإن كان معه ما إذا خاف على نفسه من العطش فيحبسه لشربه; إذ كان فيه نفي الضيق والحرج, وعلى نفي إيجاب الترتيب والموالاة في الطهارة, وعلى نفي إيجاب النية فيها, وما جرى مجرى ذلك. والتاسع والستون: دلالة قوله: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} على أن المقصد حصول الطهارة على أي وجه حصلت من ترتيب أو غيره,

(2/495)


ومن موالاة أو تفريق, ومن وجوب نية أو عدمها, وما جرى مجرى ذلك.

(2/496)


مطلب: اغتساله عليه السلام بالصاع غير موجب اعتباره
والسبعون: دلالة قوله: {فَاطَّهَّرُوا} على سقوط اعتبار تقدير الماء; إذ كان المراد التطهير, وعلى أن اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم بالصاع غير موجب اعتباره. والواحد والسبعون: أن قوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ} فيه دلالة على أن المراد المسح بالماء; إذ المسح لا يقتضي ماء1, فلما قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} دل على أن المراد مسحه بالماء.
فهذه وجوه دلالات هذه الآية الواحدة على المعاني وضروب الأحكام, منها نصوص ومنها احتمال في الطهارة التي يجب تقديمها أمام الصلاة وشروطها التي تصح بها. وعسى أن يكون كثير من دلائلها وضروب احتمالها مما لم يبلغه علمنا متى بحث عنها واستقصي النظر فيها أدركها من وفق لفهمها; والله الموفق.
ـــــــ
1 قوله: "لا يقتضي ماء" أي من حيث هو إذا أطلق "لمصححه".

(2/496)


باب القيام بالشهادة والعدل
القيام بالشهادة والعدل قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} ومعناه: كونوا قوامين لله بالحق في كل ما يلزمكم القيام به من الأمر بالمعروف والعمل به والنهي عن المنكر واجتنابه, فهذا هو القيام لله بالحق. وقوله: {شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} يعني بالعدل; قد قيل في الشهادة إنها الشهادات في حقوق الناس, روي ذلك عن الحسن; وهو مثل قوله: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135] وقيل: إنه أراد الشهادة على الناس بمعاصيهم, كقوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] فكان معناه: أن كونوا من أهل العدالة الذين حكم الله بأن مثلهم يكونون شهداء على الناس يوم القيامة. وقيل: أراد به الشهادة لأمر الله بأنه الحق. وجائز أن تكون هذه المعاني كلها مرادة لاحتمال اللفظ لها.
قوله تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا} [المائدة: 8] روي أنها نزلت في شأن اليهود حين ذهب إليهم النبي صلى الله عليه وسلم ليستعينهم في دية, فهموا أن يقتلوه. وقال الحسن: "نزلت في قريش لما صدوا المسلمين عن المسجد الحرام". قال أبو بكر: قد ذكر الله تعالى هذا المعنى في هذه السورة في قوله: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} [المائدة: 2] فحمله الحسن على معنى الآية الأولى, والأولى أن تكون نزلت في غيرهم وأن لا تكون تكرارا.

(2/496)


مطلب: فيما تضمنته الآية من الأمر بالعدل مع المحق والمبطل
وقد تضمن ذلك الأمر بالعدل على المحق والمبطل, وحكم بأن كفر الكافرين وظلمهم لا يمنع من العدل عليهم, وأن لا يتجاوز في قتالهم وقتلهم ما يستحقون, وأن يقتصر بهم على المستحق من القتال والأسر والاسترقاق دون المثلة بهم وتعذيبهم وقتل أولادهم ونسائهم قصدا لإيصال الغم والألم إليهم. وكذلك قال عبد الله بن رواحة حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر خارصا, فجمعوا له شيئا من حليهم وأرادوا دفعه إليه ليخفف في الخرص: إن هذا سحت وإنكم لأبغض إلي من عدتكم قردة وخنازير, وما يمنعني ذلك من أن أعدل عليكم فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض.
فإن قيل: لما قال: {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ومعلوم أن العدل نفسه هو التقوى, فكيف يكون الشيء هو أقرب إلى نفسه؟ قيل: معناه: هو أقرب إلى أن تكونوا متقين باجتناب جميع السيئات, فيكون العدل فيما ذكر داعيا إلى العدل في جميع الأشياء واجتناب جميع المعاصي; ويحتمل: هو أقرب لاتقاء النار. وقوله: {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} فقوله: "هو" راجع إلى المصدر الذي دل عليه الفعل, كأنه قال: العدل أقرب للتقوى, كقول القائل: من كذب كان شرا له; يعني كان الكذب شرا له.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً} قد اختلف في المراد بالنقيب ههنا, فقال الحسن: "الضمين". وقال الربيع بن أنس: "الأمين". وقال قتادة: "الشهيد على قومه". وقيل إن أصل النقيب مأخوذ من النقب وهو الثقب الواسع, فقيل نقيب القوم لأنه ينقب على أحوالهم وعن مكنون ضمائرهم وأسرارهم, فسمي رئيس العرفاء نقيبا لهذا المعنى. وأما قول الحسن إنه الضمين, فإنما أراد به أنه الضمين لتعرف أحوالهم وأمورهم وصلاحهم وفسادهم واستقامتهم وعدولهم ليرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم على الأنصار اثني عشر نقيبا على هذا المعنى. وقول الربيع بن أنس إنه الأمين, وقول قتادة إنه الشهيد, يقارب ما قال الحسن أيضا; لأنه أمين عليهم وشهيد بما يعملون به ويجري عليهم أمورهم. وإنما نقب النبي صلى الله عليه وسلم النقباء لشيئين: أحدهما: لمراعاة أحوالهم وأمورهم وإعلامها النبي صلى الله عليه وسلم ليدبر فيهم بما يرى. والثاني: أنهم إذا علموا أن عليهم نقيبا كانوا أقرب إلى الاستقامة; إذ علموا أن أخبارهم تنتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولأن كل واحد منهم يحتشم مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم فيما ينوبه ويعرض له من الحوائج قبله, فيقوم عنه النقيب فيه وليس يجوز أن يكون النقيب ضامنا عنهم الوفاء بالعهد والميثاق; لأن ذلك معنى لا يصح ضمانه ولا يمكن الضمين فعله ولا القيام به, فعلمنا أنه على المعنى الأول.

(2/497)


وفي هذه الآية دلالة على قبول خبر الواحد; لأن نقيب كل قوم إنما نصب ليعرف أحوالهم النبي صلى الله عليه وسلم أو الإمام, فلولا أن خبره مقبول لما كان لنصبه وجه. فإن قيل: إنما يدل ذلك على قبول خبر الاثني عشر دون الواحد. قيل له: إن الاثني عشر لم يكونوا نقباء على جميع بني إسرائيل بجملتهم, وإنما كان كل واحد منهم نقيبا على قومه خاصة دون الآخرين.
قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} قال ابن عباس: "هذا قول جماعة من اليهود حين حذرهم النبي صلى الله عليه وسلم نقمات الله, فقالوا: لا تخوفنا فإنا أبناء الله وأحباؤه". وقال السدي: "تزعم اليهود أن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل أن ولدك بكري من الولد". وقال الحسن: "إنما قالوا ذلك على معنى قرب الولد من الوالد" وأما النصارى فقيل إنهم تأولوا ما في الإنجيل من قول المسيح عليه السلام: "إني ذاهب إلى أبي وأبيكم" وقيل: إنهم لما قالوا المسيح ابن الله وكان منهم, جرى ذلك على قول العرب هذيل شعراء" أي منهم شعراء, وعلى قولهم في رهط مسيلمة; قالوا: نحن أبناء الله, أي قال قائل منهم وتابعوه عليهم, فكان معنى قولهم على هذا الوجه" نحن أبناء الله" أي منا ابن الله.
وقال تعالى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} فيه إبطال دعواهم ذلك وتكذيبهم بها على لسانهم, لأنهم كانوا مقرين بأنهم يعذبون بالذنوب, ومعلوم أن الأب المشفق لا يعذب ولده.

(2/498)


مطلب: في معنى قوله تعالى: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً}
قوله تعالى: {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} قال عبد الله بن عمر وزيد بن أسلم والحسن: "الملك من له دار وامرأة وخادم". وقال غيرهم: "هو الذي له ما يستغني به عن تكلف الأعمال وتحمل المشاق للمعاش". وقال ابن عباس ومجاهد: جعلوا ملوكا بالمن والسلوى والحجر والغمام. وقال غيرهم: "بالأموال أيضا". وقال الحسن: "إنما سماهم ملوكا لأنهم ملكوا أنفسهم بالتخلص من القبط الذين كانوا يستعبدونهم". وقال السدي: "ملك كل واحد منهم نفسه وأهله وماله". وقال قتادة: "كانوا أول من ملك الخدم".

(2/498)


مطلب: في معنى التحريف
قوله: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} تحريفهم إياه يكون بوجهين: أحدهما: بسوء التأويل, والآخر: بالتغيير والتبديل. وأما ما قد استفاض وانتشر في أيدي الكافة فغير ممكن تغيير ألفاظه إلى غيرها لامتناع التواطؤ على مثلهم, وما لم يستفض في الكافة

(2/498)


مطلب: يجب على من قصده إنسان بالقتل قتله إذا أمكنه
مطلب: يجب على من قصده إنسان بالقتل قتله إذا أمكنه
...
مطلب: يجب على من قصده إنسان بالقتل قتله إذا أمكنه
والذي يدل على أن هذا الحكم غير ثابت في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم وأن الواجب على من قصده إنسان بالقتل أن عليه قتله إذا أمكنه وأنه لا يسعه ترك قتله مع الإمكان, قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] فأمر الله بقتال الفئة الباغية, ولا بغي أشد من قصد إنسان بالقتل بغير استحقاق, فاقتضت الآية قتل من قصد قتل غيره بغير حق; وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فأخبر أن في إيجابه القصاص حياة لنا, لأن القاصد لغيره بالقتل متى علم أنه يقتص منه كف عن قتله. وهذا المعنى موجود في حال قصده لقتل غيره; لأن في قتله إحياء لمن لا يستحق القتل. وقال الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] فأمر بالقتال لنفي الفتنة, ومن الفتنة قصده قتل الناس بغير حق. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إسماعيل بن الفضل قال: حدثنا حسين بن حريث قال: حدثنا الفضل بن موسى عن معمر عن عبد الله بن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من شهر سيفه ثم وضعه1 فدمه هدر" . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في أخبار مستفيضة: "من قتل دون نفسه
ـــــــ
1 قوله: "ثم وضعه" أي ألقاه في المضروب به, كما في تلخيص النهاية للسيوطي. "لمصححه".

(2/502)


فهو شهيد, ومن قتل دون أهله فهو شهيد ومن قتل دون ماله فهو شهيد" . وروى عبد الله بن الحسين عن عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أريد ماله فقاتل فقتل فهو شهيد" فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الدافع عن نفسه وأهله وماله شهيد, ولا يكون مقتولا دون ماله إلا وقد قاتل دونه; ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده, فإن لم يستطع فبلسانه, فإن لم يستطع فبقلبه, وذاك أضعف الإيمان" فأمر بتغيير المنكر باليد, وإذا لم يمكن تغييره إلا بقتله فعليه أن يقتله بمقتضى ظاهر قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا نعلم خلافا أن رجلا لو شهر سيفه على رجل ليقتله بغير حق أن على المسلمين قتله, فكذلك جائز للمقصود بالقتل قتله; وقد قتل علي بن أبي طالب الخوارج حين قصدوا قتل الناس وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معه موافقون له عليه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم آثار في وجوب قتلهم, منها حديث أبي سعيد الخدري وأنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون في أمتي اختلاف وفرقة فيهم قوم يحسنون القول ويسيئون العمل يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية طوبى لمن قتلهم أو قتلوه" في آثار كثيرة مشهورة, وقد تلقتها السلف بالقبول واستعملتها في وجوب قتلهم وقتالهم. وروى أبو بكر بن عياش قال: حدثنا أبو الأحوص عن سماك عن قابوس بن أبي المخارق عن أبيه قال: قال رجل: يا رسول الله الرجل يأتيني يريد مالي؟ قال: ذكره الله قال: فإن لم يذكر؟ قال: استعن عليه من حولك من المسلمين" قال: فإن لم يكن حولي منهم؟ قال: فاستعن عليه السلطان قال: فإن نأى عني السلطان؟ قال: "قاتل دون مالك حتى تمنع مالك أو تكون شهيدا في الآخرة".
وذهب قوم من الحشوية إلى أن على من قصده إنسان بالقتل أن لا يقاتله ولا يدفعه عن نفسه حتى يقتله, وتأولوا فيه هذه الآية. وقد بينا أنه ليس في الآية دلالة على أنه كف يده عن قتله حين قصده بالقتل, وإنما الآية تدل على أنه لا يبدأ بالقتل على ما روي عن ابن عباس, ولو ثبت حكم الآية على ما ادعوه لكان منسوخا بما ذكرنا من القرآن والسنة واتفاق المسلمين على أن على سائر الناس دفعهم عنه وإن أتى على نفسه. وتأولت هذه الطائفة التي ذكرنا قولها أحاديث رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم منها حديث أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فقتل أحدهما صاحبه فالقاتل والمقتول في النار" فقيل: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه أراد قتل صاحبه" . وروى علي بن زيد بن جدعان عن الحسن عن سعد بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فافعل ولا تقتل أحدا من أهل القبلة" . وروى الحسن عن الأحنف بن قيس قال: سمعت أبا بكر يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:

(2/503)


"إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" قلت: يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه كان حريصا على قتل صاحبه" . وروى معمر عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ابني آدم ضربا لهذه الأمة مثلا فخذوا بالخير منهما" . وروى معمر عن أبي عمران الجوني عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف بك يا أبا ذر إذا كان بالمدينة قتل؟" قال: قلت: ألبس سلاحي, قال: "شاركت القوم إذا" قال قلت: فكيف أصنع يا رسول الله؟ قال: "إن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فألق ناحية ثوبك على وجهك يبوء بإثمك وإثمه" . فاحتجوا بهذه الآثار, ولا دلالة لهم فيها. فأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار" فإنما أراد بذلك إذا قصد كل واحد منهما صاحبه ظلما على نحو ما يفعله أصحاب العصبية والفتنة. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن استطعت أن تكون عبد الله المقتول فافعل ولا تقتل أحدا من أهل القبلة" فإنما عنى به ترك القتال في الفتنة وكف اليد عن الشبهة, فأما قتل من استحق القتل فمعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينفه بذلك. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "كن كخير ابني آدم" فإنما عنى به أن لا يبدأ بالقتل, وأما دفع القاتل عن نفسه فلم يمنعه.
فإن احتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان, وزنا بعد إحصان, وقتل نفس بغير نفس" فلا يجوز قتله قبل أن يقتل, بقضية نفي النبي صلى الله عليه وسلم قتل المسلم إلا بإحدى ما ذكر, وهذا لم يقتل بعد فلا يستحق القتل. قيل له: هذا القاصد لقتل غيره ظلما داخل في هذا الخبر لأنه أراد قتل غيره, فإنما قتلناه بنفس من قصد لقتله لئلا يقتله فأحيينا نفس المقصود بقتلنا إياه, ولو كان الأمر في ذلك على ما ذهبت إليه هذه الطائفة من حظر قتل من قصد قتل غيره ظلما والإمساك عنه حتى يقتل من يريد قتله, لوجب مثله في سائر المحظورات إذا أراد الفاجر ارتكابها من الزنا وأخذ المال أن نمسك عنه حتى يفعلها, فيكون في ذلك ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واستيلاء الفجار وغلبة الفساق والظلمة ومحو آثار الشريعة; وما أعلم مقالة أعظم ضررا على الإسلام والمسلمين من هذه المقالة, ولعمري إنها أدت إلى غلبة الفساق على أمور المسلمين واستيلائهم على بلدانهم حتى تحكموا فحكموا فيها بغير حكم الله, وقد جر ذلك ذهاب الثغور وغلبة العدو حين ركن الناس إلى هذه المقالة في ترك قتال الفئة الباغية والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإنكار على الولاة والجوار والله المستعان.
ويدل على صحة قول الجمهور في ذلك وأن القاصد لقتل غيره ظلما يستحق القتل وأن على الناس كلهم أن يقتلوه, قوله تعالى: "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه

(2/504)


من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا" فكان في مضمون الآية إباحة قتل المفسد في الأرض, ومن أعظم الفساد قصد قتل النفس المحرمة, فثبت بذلك أن القاصد لقتل غيره ظلما مستحق للقتل مبيح لدمه.

(2/505)


مطلب: من أراد قلع سنك فلك قتله إلى آخره
قال أبو بكر ذكر ابن رستم عن محمد عن أبي حنيفة أنه قال في اللص ينقب البيوت: يسعك قتله, لقوله صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد" ولا يكون شهيدا إلا هو مأمور بالقتال إن أمكنه فقد تضمن ذلك إيجاب قتله إذا قدر عليه. وقال أيضا في رجل يريد قلع سنك, قال فلك أن تقتله إذا كنت في موضع لا يعينك الناس عليه". قال أبو بكر: وذلك لأن قلع السن أعظم من أخذ المال, فإذا جاز قتله لحفظ ماله فهو أولى بجواز القتل من أجلها.
قوله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بإِثْمِي وَإِثْمِكَ} فإنه روي عن ابن عباس وابن مسعود والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك: "إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي". وقال غيرهم: "إثمك الذي من أجله لم يتقبل قربانك". والمراد: إني أريد أن تبوء بعقاب إثمي وإثمك; لأنه لا يجوز أن يكون مراده حقيقة الإثم; إذ غير جائز لأحد إرادة معصية الله من نفسه ولا من غيره كما لا يجوز أن يأمره بها. ومعنى" تبوء" ترجع, يقال: باء, إذا رجع إلى المباءة وهي المنزل, وباءوا بغضب الله: رجعوا, والبواء: الرجوع بالقود وهم في هذه الأمر بواء أي سواء; لأنهم يرجعون فيه إلى معنى واحد.
قوله تعالى: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} . قال مجاهد: "شجعته نفسه على قتل أخيه". وقال قتادة: "زينت له نفسه قتل أخيه". وقيل: "ساعدته نفسه على قتل أخيه". والمعنى في جميع ذلك أنه فعله طوعا من نفسه غير متكره له, ويقال إن العرب تقول: طاع لهذه الظبية أصول الشجر, وطاع لفلان كذا, أي أتاه طوعا. ويقال: انطاع بمعنى انقاد; ويقال: طوعت له نفسه, ولا يقال أطاعته نفسه, على هذا المعنى; لأن قولهم: "أطاع" يقتضي قصدا منه لموافقة معنى الأمر, وذلك غير موجود في نفسه; وليس كذلك الطوع لأنه لا يقتضي أمرا ولا يجوز أن يكون آمرا لنفسه ولا ناهيا لها; إذ كان موضوع الأمر والنهي ممن هو أعلى لمن دونه; وقد يجوز أن يكون أن يوصف بفعل يتناوله ولا يتعدى إلى غيره كقوله: "حرك نفسه" و" قتل نفسه" كما يقال: "حرك غيره" و" قتل غيره".
قوله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} يعني خسر نفسه بإهلاكه إياها, لقوله تعالى: {إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 15] ولا

(2/505)


دلالة في قوله: {فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} على أن القتل كان ليلا, وإنما المراد به وقت مبهم جائز أن يكون ليلا وجائز أن يكون نهارا, وهو كقول الشاعر:
أصبحت عاذلتي معتله
وليس المراد النهار دون الليل; وكقول الآخر:
بكرت علي عواذلي ... يلحينني وألومهمنه
ولم يرد بذلك أول النهار دون آخره. وهذا عادة العرب في إطلاق مثله والمراد به الوقت المبهم.

(2/506)


باب دفن الموتى
قال الله تعالى: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} . قال ابن عباس وابن مسعود ومجاهد والسدي وقتادة والضحاك: "لم يدر كيف يصنع به حتى رأى غرابا جاء يدفن غرابا ميتا" وفي هذا دليل على فساد ما روي عن الحسن أنهما رجلان من بني إسرائيل; لأنه لو كان كذلك لكان قد عرف الدفن بجريان العادة فيه قبل ذلك, وهو الأصل في سنة دفن الموتى; وقال تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس:21] وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتاً أَحْيَاءً وَأَمْوَاتاً} [المرسلات:26]. وقيل في معنى: {سَوْءَةَ أَخِيهِ} وجهان: أحدهما: جيفة أخيه; لأنه لو تركه حتى ينتن لقيل لجيفته سوأة. والثاني عورة أخيه; وجائز أن يريد الأمرين جميعا لاحتمالهما. وأصل السوأة التكره, ومنه: ساءه يسوءه سوءا; إذا أتاه بما يتكرهه وقص الله علينا قصته لنعتبر بها ونتجنب قبح ما فعله القاتل منهما. وروي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهما ودعوا شرهما" .
وقال الله تعالى: {فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} قيل إنه ندم على القتل على غير جهة القربة إلى الله تعالى منه وخوف عقابه, وإنما كان ندمه من حيث لم ينتفع بما فعل وناله ضرر بسببه من قبل أبيه وأمه, ولو ندم على الوجه المأمور به لقبل الله توبته وغفر ذنبه.
قوله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ} الآية. فيه إبانة عن المعنى الذي من أجله كتب على بني إسرائيل ما ذكر في الآية, وهو لئلا يقتل بعضهم بعضا; فدل ذلك على أن النصوص قد ترد مضمنة بمعان يجب اعتبارها في أغيارها في إثبات الأحكام. وفيه دليل على إثبات القياس ووجوب اعتبار المعاني التي علق بها الأحكام وجعلت عللا وأعلاما لها
وقوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} يدل على أن من قتل

(2/506)


نفسا بنفس فلا لوم عليه, وعلى أن من قتل نفسا بغير نفس فهو مستحق للقتل. ويدل أيضا على أن الفساد في الأرض معنى يستحق به القتل.
وقوله تعالى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} قد قيل فيه وجوه: أحدها تعظيم الوزر. والثاني: أن عليه مثل مأثم كل قاتل من الناس لأنه سن القتل وسهله لغيره فكان كالمشارك له فيه; وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من قاتل ظلما إلا وعلى ابن آدم كفل من الإثم لأنه سن القتل" وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة" . والثالث: أن على الناس كلهم معونة ولي المقتول حتى يقيدوه منه, فيكون كلهم خصومه في ذلك حتى يقاد منه, كأنه قتل أولياءهم جميعا. وهذا يدل على وجوب القود على الجماعة إذا قتلت واحدا; إذ كانوا بمنزلة من قتل الناس جميعا.
وقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} قال مجاهد: "من أحياها نجاها من الهلاك". وقال الحسن: "إذا عفا عن دمها وقد وجب القود". وقال غيرهم من أهل العلم: "زجر عن قتلها بما فيه حياتها". قال أبو بكر: يحتمل أن يريد بإحيائها معونة الولي على قتل القاتل واستيفاء القصاص منه لأن في القصاص حياة كما قال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ويحتمل أن يريد بإحيائها أن يقتل القاصد لقتل غيره ظلما فيكون مجيبا لهذا المقصود بالقتل ويكون كمن أحيا الناس جميعا; لأن ذلك يردع القاصدين إلى قتل غيرهم عن مثله فيكون في ذلك حياة لسائر الناس من القاصدين للقتل والمقصودين به. فتضمنت هذه الآية ضروبا من الدلائل على الأحكام, منها: دلالتها على ورود الأحكام مضمنة بمعان يجب اعتبارها بوجودها, وهذا يدل على صحة القول بالقياس. والثاني إباحة قتل النفس بالنفس. والثالث: أن من قتل نفسا فهو مستحق للقتل. والرابع: من قصد قتل مسلم ظلما فهو مستحق القتل; لأن قوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ} كما دل على وجوب قتل النفس بالنفس فهو يدل على وجوب قتله إذا قصد قتل غيره; إذ هو مقتول بنفس إرادة إتلافها. والخامس: الفساد في الأرض يستحق به القتل. والسادس احتمال قوله تعالى: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} أن عليه مأثم كل قاتل بعده لأنه سن القتل وسهله لغيره. والسابع: أن على الناس كلهم معونة ولي المقتول حتى يقيدوه منه. والثامن: دلالتها على وجوب القود على الجماعة إذا قتلوا واحدا. والتاسع: دلالة قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} على معونة الولي على قتل القاتل. والعاشر: دلالته أيضا على قتل من قصد قتل غيره ظلما; والله أعلم بالصواب.

(2/507)


باب حد المحاربين
حد المحاربين قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} الآية. قال أبو بكر: قوله تعالى: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ} هو مجاز ليس بحقيقة; لأن الله يستحيل أن يحارب; وهو يحتمل وجهين: أحدهما: أنه سمى الذين يخرجون ممتنعين مجاهرين بإظهار السلاح وقطع الطريق محاربين لما كانوا بمنزلة من حارب غيره من الناس ومانعه, فسموا محاربين تشبيها لهم بالمحاربين من الناس, كما قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: 13] وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 5و 20] ومعنى المشاقة أن يصير كل واحد منهما في شق يباين صاحبه ومعنى المحادة أن يصير كل واحد منهما في حد على وجه المفارقة وذلك يستحيل على الله تعالى; إذ ليس بذي مكان فيشاق أو يحاد أو تجوز عليه المباينة والمفارقة, ولكنه تشبيه بالمعاديين إذا صار كل واحد منهما في شق وناحية على وجه المباينة. وذلك منه على وجه المبالغة في إظهار المخالفة والمباينة, فكذلك قوله تعالى: {يُحَارِبُونَ اللَّهَ} يحتمل أن يكونوا سموا بذلك تشبيها بمظهري الخلاف على غيرهم ومحاربتهم إياهم من الناس. وخصت هذه الفرقة بهذه السمة لخروجها ممتنعة بأنفسها لمخالفة أمر الله تعالى وانتهاك الحريم وإظهار السلاح, ولم يسم بذلك كل عاص لله تعالى; إذ ليس بهذه المنزلة في الامتناع وإظهار المغالبة في أخذ الأموال وقطع الطريق. ويحتمل أن يريد الذين يحاربون أولياء الله ورسوله, كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} [الأحزاب: 57] والمعنى: يؤذون أولياء الله. ويدل على ذلك أنهم لو حاربوا رسول الله لكانوا مرتدين بإظهار محاربة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد يصح إطلاق لفظ المحاربة لله ولرسوله على من عظمت جريرته بالمجاهرة بالمعصية وإن كان من أهل الملة, والدليل عليه ما روى زيد بن أسلم عن أبيه, أن عمر بن الخطاب رأى معاذا يبكي فقال: ما يبكيك؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " اليسير من الرياء شرك من عادى أولياء الله فقد بارز الله بالمحاربة" فأطلق عليه اسم المحاربة, ولم يذكر الردة; ومن حارب مسلما على أخذ ماله فهو معاد لأولياء الله تعالى محارب لله تعالى بذلك. وروى أسباط عن السدي عن صبيح مولى أم سلمة عن زيد بن أرقم, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي وفاطمة والحسن والحسين: "أنا حرب لمن حاربتم سلم لمن سالمتم" فاستحق من حاربهم اسم المحارب لله ورسوله. وإن لم يكن مشركا, فثبت بما ذكرنا أن قاطع الطريق يقع عليه اسم المحارب لله عز وجل ولرسوله. ويدل عليه أيضا ما روى أشعث عن الشعبي عن سعد بن قيس: أن حارثة بن بدر حارب الله ورسوله

(2/508)


وسعى في الأرض فسادا وتاب من قبل أن يقدر عليه, فكتب علي رضي الله عنه إلى عامله بالبصرة: "إن حارثة بن بدر حارب الله ورسوله وتاب من قبل أن نقدر عليه, فلا تعرضن له إلا بخير" فأطلق عليه اسم المحارب لله ورسوله ولم يرتد وإنما قطع الطريق.
فهذه الأخبار وما ذكرنا من معنى الآية دليل على أن هذا الاسم يلحق قطاع الطريق وإن لم يكونوا كفارا ولا مشركين, مع أنه لا خلاف بين السلف والخلف من فقهاء الأمصار أن هذا الحكم غير مخصوص بأهل الردة وأنه فيمن قطع الطريق وإن كان من أهل الملة. وحكي عن بعض المتأخرين ممن لا يعتد به أن ذلك مخصوص بالمرتدين; وهو قول ساقط مردود مخالف للآية وإجماع السلف والخلف. ويدل على أن المراد به قطاع الطريق من أهل الملة قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . ومعلوم أن المرتدين لا يختلف حكمهم في زوال العقوبة عنهم بالتوبة بعد القدرة كما تسقطها عنهم قبل القدرة, وقد فرق الله بين توبتهم قبل القدرة أو بعدها. وأيضا فإن الإسلام لا يسقط الحد عمن وجب عليه, فعلمنا أن المراد قطاع الطريق من أهل الملة وأن توبتهم من الفعل قبل القدرة عليهم هي المسقطة للحد عنهم. وأيضا فإن المرتد يستحق القتل بنفس الردة دون المحاربة, والمذكور في الآية من استحق القتل بالمحاربة, فعلمنا أنه لم يرد المرتد. وأيضا ذكر فيه نفي من لم يتب قبل القدرة عليه, والمرتد لا ينفى, فعلمنا أن حكم الآية جار في أهل الملة. وأيضا فإنه لا خلاف أن أحدا لا يستحق قطع اليد والرجل بالكفر, وإن الأسير من أهل الردة متى حصل في أيدينا عرض عليه الإسلام فإن أسلم وإلا قتل ولا تقطع يده ولا رجله. وأيضا فإن الآية أوجبت قطع يد المحارب ورجله ولم توجب معه شيئا آخر, ومعلوم أن المرتد لا يجوز أن تقطع يده ورجله ويخلى سبيله بل يقتل إن لم يسلم, والله تعالى قد أوجب الاقتصار بهم في حال على قطع اليد والرجل دون غيره. وأيضا ليس من حكم المرتدين الصلب, فعلمنا أن الآية في غير أهل الردة. ويدل عليه قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وقال في المحاربين: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فشرط في زوال الحد عن المحاربين وجود التوبة منهم قبل القدرة عليهم, وأسقط عقوبة الكفر بالتوبة قبل القدرة وبعدها. فلما علم أنه لم يرد بالمحاربين أهل الردة, فهذه الوجوه التي ذكرناها كلها دالة على بطلان قول من ادعى خصوص الآية في المرتدين.
فإن قال قائل: قد روى قتادة وعبد العزيز بن صهيب وغيرهما عن أنس قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم أناس من عرينة فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو خرجتم إلى ذودنا فشربتم

(2/509)


من ألبانها وأبوالها" ففعلوا, فلما صحوا قاموا إلى راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوه ورجعوا كفارا واستاقوا ذود رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل في طلبهم, فأتي بهم, فقطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا. قيل له: إن خبر العرنيين مختلف فيه, فذكر بعضهم عن أنس نحو ما ذكرنا, وزاد فيه: أنه كان سبب نزول الآية. وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أنها نزلت في أصحاب أبي برزة الأسلمي وكان موادعا للنبي صلى الله عليه وسلم فقطعوا الطريق على قوم جاءوا يريدون الإسلام, فنزلت فيهم. وروى عكرمة عن ابن عباس أنها نزلت في المشركين, فلم يذكر مثل قصة العرنيين وروي عن ابن عمر أنها نزلت في العرنيين ولم يذكر.

(2/510)


مطلب: الحكم لعموم اللفظ إلا أن تقوم الدلالة على الاقتصار به على السبب
ردة ولا يخلو نزول الآية من أن يكون في شأن العرنيين أو الموادعين, فإن كان نزولها في العرنيين وأنهم ارتدوا, فإن نزولها في شأنهم لا يوجب الاقتصار بها عليهم; لأنه لا حكم للسبب عندنا وإنما الحكم عندنا لعموم اللفظ إلا أن تقوم الدلالة على الاقتصار به على السبب. وأيضا فإن من ذكر نزولها في شأن العرنيين فإنه ما ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية شيئا, وإنما تركهم في الحرة حتى ماتوا; ويستحيل نزول الآية في الأمر بقطع من قد قطع وقتل من قتل لأن ذلك غير ممكن, فعلمنا أنهم غير مرادين بحكم الآية ولأن الآية عامة في سائر من يتناوله الاسم غير متصور الحكم على المرتدين وقد روى همام عن قتادة عن ابن سيرين قال: "كان أمر العرنيين قبل أن تنزل الحدود" فأخبر أنه كان قبل نزول الآية. ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم سمل أعينهم, وذلك منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة. وأيضا لما كان نزول الآية بعد قصة العرنيين واقتصر فيها على ما ذكر ولم يذكر سمل الأعين, فصار سمل الأعين منسوخا بالآية لأنه لو كان حدا معه لذكره; وهو مثل ما روي في خبر عبادة: "في البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام. والثيب بالثيب الجلد والرجم" ثم أنزل الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فصار الحد هو ما في الآية دون غيره, وصار النفي منسوخا بها. ومما يدل على أن الآية لم تنزل في العرنيين وأنها نزلت بعدهم أن فيها ذكر القتل والصلب وليس فيها ذكر سمل الأعين, وغير جائز أن تكون الآية نزلت قبل إجراء الحكم عليهم وأن يكونوا مرادين بها; لأنه لو كان كذلك لأجرى النبي صلى الله عليه وسلم حكمها عليهم, فلما لم يصلبوا وسملهم دل على أن حكم الآية لم يكن ثابتا حينئذ, فثبت بذلك أن حكم الآية غير مقصور على المرتدين وأنه عام في سائر المحاربين

(2/510)


ذكر الاختلاف في ذلك
واختلف السلف وفقهاء الأمصار في حكم الآية من وجوه أنا ذاكرها, بعد اتفاقهم على أن حكم الآية جار في أهل الملة إذا قطعوا الطريق; فروى الحجاج بن أرطاة عن عطية العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} الآية, قال: "إذا حارب الرجل فقتل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف وقتل وصلب, فإن قتل ولم يأخذ المال قتل, وإن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف, وإذا لم يقتل ولم يأخذ المال نفي". وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم في الرجل يقطع الطريق ويأخذ المال ويقتل أن الإمام فيه بالخيار, إن شاء قطع يده ورجله من خلاف وقتله وصلبه, وإن شاء صلبه ولم يقطع يده ولا رجله, وإن شاء قتله ولم يصلبه; فإن أخذ مالا ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف, وإن لم يأخذ مالا ولم يقتل عزر ونفي من الأرض, ونفيه حبسه; وفي رواية أخرى: أوجع عقوبة وحبس حتى يحدث خيرا; وهو قول الحسن رواية وسعيد بن جبير وحماد وقتادة وعطاء الخراساني. فهذا قول السلف الذين جعلوا حكم الآية على الترتيب. وقال آخرون: الإمام مخير فيهم إذا خرجوا يجري عليهم أي هذه الأحكام شاء وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا. وممن قال ذلك سعيد بن المسيب ومجاهد والحسن رواية وعطاء بن أبي رباح. وقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد: إذا قتل المحاربون ولم يعدوا ذلك قتلوا, وإن أخذوا المال ولم يعدوا ذلك قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف, لا خلاف بين أصحابنا في ذلك, فإن قتلوا وأخذوا المال فإن أبا حنيفة قال: "للإمام أربع خيارات: إن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وقتلهم, وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم, وإن شاء صلبهم, وإن شاء قتلهم وترك القطع". وقال أبو يوسف ومحمد: "إذا قتلوا وأخذوا المال فإنهم يصلبون ويقتلون ولا يقطعون". وروي عن أبي يوسف في" الإملاء" أنه قال: "إن شاء قطع يده ورجله وصلبه, فأما الصلب فلا أعفيه منه". وقال الشافعي في قطاع الطريق: "إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا, وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا, وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف, وإذا أخافوا السبيل نفوا, وإذا هربوا طلبوا حتى يؤخذوا فيقام عليهم الحدود, إلا من تاب قبل أن نقدر عليه سقط عنه الحد, ولا يسقط حقوق الآدميين, ويحتمل أن يسقط كل حق لله تعالى بالتوبة; ويقطع من أخذ ربع دينار فصاعدا". وقال مالك: "إذا أخذ المحارب المخيف للسبيل فإن الإمام مخير في إقامة أي الحدود التي أمر الله تعالى بها قتل المحارب أو لم يقتل, أخذ مالا أو لم يأخذ, الإمام مخير في ذلك: إن شاء قتله, وإن شاء قطعه خلافا, وإن شاء

(2/511)


نفاه ونفيه حبسه حتى يظهر توبة, فإن لم يقدر على المحارب حتى يأتيه تائبا وضع عنه حد المحاربة القتل والقطع والنفي وأخذ بحقوق الناس". وقال الليث بن سعد: "الذي يقتل ويأخذ المال يصلب فيطعن بالحربة حتى يموت, والذي يقتل فإنه يقتل بالسيف". وقال أبو الزناد في المحاربين: "ما يصنع الوالي فيهم فهو صواب, من قتل أو صلب أو قطع أو نفي.
قال أبو بكر: الدليل على أن حكم الآية على الترتيب الذي ذكرنا, قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان, وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير نفس" فنفى صلى الله عليه وسلم قتل من خرج عن هذه الوجوه الثلاثة ولم يخصص فيه قاطع الطريق, فانتفى بذلك قتل من لم يقتل من قطاع الطريق وإذا انتفى قتل من لم يقطع وجب قطع يده ورجله, إذا أخذ المال, وهذا لا خلاف فيه.
فإن قيل: روى إبراهيم بن طهمان عن عبد العزيز بن رفيع عن عبيد بن عمير عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان ورجل قتل رجلا فقتل به, ورجل خرج محاربا لله ولرسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض" . قيل له: قد روي هذا الحديث من وجوه صحاح ولم يذكر فيه قتل المحارب رواه عثمان وعبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يذكر فيه قتل المحارب. والصحيح منها ما لم يذكر ذلك فيه لأن المرتد لا محالة مستحق للقتل بالاتفاق, وهو أحد الثلاثة المذكورين في خبر هؤلاء, فلم يبق من الثلاثة غيرهم, ويكون المحارب إذا لم يقتل خارجا منهم. وإن صح ذكر المحارب فيه, فالمعنى فيه: إذا قتل, حتى يكون موافقا للأخبار الأخر وتكون فائدته جواز قتله على وجه الصلب.
فإن قيل فقد ذكر فيه:أو ينفى من الأرض. قيل له: لا يمتنع أن يكون مبتدأ قد أضمر فيه: إن لم يقتل.
فإن قيل فقد يقتل الباغي وإن لم يقتل, وهو خارج عن الثلاثة المذكورين في الخبر. قيل له ظاهر الخبر ينفي قتله, وإنما قتلناه بدلالة الاتفاق وبقي حكم الخبر في نفي قتل المحارب إلا أن يقتل على العموم. وأيضا فإن الخبر إنما ورد فيمن استحق القتل بفعل سبق منه واستقر حكمه عليه, كالزاني المحصن والمرتد والقاتل, والباغي لا يستحق القتل على هذا الوجه, وإنما يقتل على وجه الدفع, ألا ترى أنه لو قعد في بيته ولم يقاتل لم يقتل وإن كان معتقدا لمقالة أهل البغي؟ فثبت بما وصفنا أن حكم الآية على الترتيب على الوجه الذي بينا لا على التخيير. ويدل على أن في الآية ضميرا ولا تخيير فيها اتفاق الجميع على أنهم لو أخذوا المال ولم يقتلوا لم يجز للإمام أن ينفيه ويترك قطع

(2/512)


يده ورجله, وكذلك لو قتلوا وأخذوا المال لم يجز للإمام أن يعفيه من القتل أو الصلب. ولو كان الأمر على ما قال القائلون بالتخيير لكان التخير ثابتا فيما إذا أخذوا المال وقتلوا أو أخذوا المال ولم يقتلوا, فلما كان ذلك على ما وصفنا ثبت أن في الآية ضميرا وهو أن يقتلوا إن قتلوا, أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال, أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال ولم يقتلوا, أو ينفوا من الأرض إن خرجوا ولم يفعلوا شيئا من ذلك حتى ظفر بهم.
واحتج القائلون بالتخيير بظاهر الآية وبقوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً} فدل على أن الفساد في الأرض بمنزلة قتل النفس في باب وجوب قتله, والمحاربون مفسدون في الأرض بخروجهم وامتناعهم وإخافتهم السبيل وإن لم يقتلوا ولم يأخذوا مالا. وليس ما ذكروه بموجب للتخيير مع قيام الدلالة على ضمير الآية وتعلق الحكم به دون مقتضى ظاهرها, وهو ما قدمنا من أنها لو كانت موجبة للتخيير ولم يكن فيها ضمير لكان الخيار باقيا إذا قتلوا وأخذوا المال في العدول عن قتلهم وقطعهم إلى نفيهم, فلما ثبت أنه غير جائز العدول عن القتل والقطع في هذه الحال صح أن معناها أن يقتلوا إن قتلوا أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف إن أخذوا المال.
فإن قال قائل: إنما وجب قتلهم إذا قتلوا وقطعهم إذا أخذوا المال ولم يجز العدول عنه إلى النفي; لأن القتل على الانفراد يستحق به القتل, وإن لم يكن محاربا وأخذ المال يستحق به القطع إذا كان سارقا; فلذلك لم يجز في هذه الحال العدول إلى النفي وترك القتل أو القطع. قيل له قتل المحارب في هذه الحال وقطعه حد ليس على وجه القود, ألا ترى أن عفو الأولياء غير جائز فيه؟ فثبت أنه إنما يستحق ذلك على وجه الحد; لأنه قتل على وجه المحاربة, ووجب قطعه لأخذه المال على وجه المحاربة, فإذا لم يقتل ولم يأخذ مالا لم يجز أن يقتل ولا يقطع لأنه لو كان القتل واجبا حدا لما جاز العدول عنه إلى النفي وكذلك القطع, كما أنهم إذا قتلوا وأخذوا المال لم يجز العدول عن القتل أو القطع إلى النفي; إذ كان وجوب ذلك على وجه الحد; وفي ذلك دليل على أن المحارب لا يستحق القتل إلا إذا قتل ولا القطع إلا إذا أخذ المال. ويصلح أن يكون ذلك دليلا مبتدأ لأن القتل إذا وجب حدا لم يجز العدول عنه إلى غيره, وكذلك القطع كالزاني والسارق; فلما جاز للإمام أن يعدل عن قتل المحارب الذي لم يقتل إلى النفي علمنا أنه غير مستحق للقتل بنفس الخروج, وكما لو قتل لم يجز أن يعفى عن قتله, فلو كان يستحق القتل بنفس المحاربة لما جاز أن يعدل عنه كما لم يجز أن يعدل عنه إذا قتل.

(2/513)


وأما قوله تعالى: {مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} وتسويته بين قتل النفس بغير النفس وبين الفساد في الأرض, فإنما المراد الفساد في الأرض الذي يكون معه قتل أو قتله في حال إظهار الفساد, فيقتل على وجه الدفع; ونحن قد نقتل المحارب الذي لم يقتل على وجه الدفع, وإنما الكلام فيمن صار في يد الإمام قبل أن يتوب هل يجوز أن يقتله إذا لم يقتل؟ فأما على وجه الدفع فلا خلاف فيه; فجائز أن يكون المراد من قوله تعالى: {أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} على هذا الوجه; لأن الفساد في الأرض لو كان يستحق به القتل لما جاز العدول عنه إلى النفي, فلما جاز عند الجميع نفيه على أنه غير مستحق للقتل, فصح بما وصفنا قول من قال بإيجاب ترتيب حكم الآية على الوجه الذي ذكرنا. وأيضا فإن الوصول إلى القتل لا يستحق بأخذ المال ولا القصد له, ومعلوم أن المحاربين إنما خرجوا لأخذ المال, فإن كان القتل غير مستحق لأخذ المال في الأصول فالقصد لأخذه أولى أن لا يستحق به القتل على وجه الحد, فإذا خرج المحاربون وقتلوا قتلوا حدا لأجل القتل. وليس قتلهم هذا قودا لأن القتل يستحق به القتل في الأصول, إلا أنه لما قتله على جهة إظهار الفساد في الأرض تأكد حكمه بأن أوجب قتله حدا على أنه حق لله تعالى لا يجوز فيه عفو الأولياء; فإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف لما في الآية من ذكر ذلك.
وقطع اليد والرجل يستحق بأخذ المال في الأصول, ألا ترى أن السارق تقطع يده فإن عاد فسرق قطعت رجله؟ إلا أنه غلظت عقوبته حين كان أخذه للمال على وجه الفساد في الأرض, فإن قتل وأخذ فالإمام فيه بالخيار على ما ذكرنا من اختلاف أصحابنا فيه, فكان عند أبي حنيفة: له أن يجمع عليه قطع اليد والرجل والصلب والقتل, وكان جميع ذلك عنده حدا واحدا; وكذلك لما استحق القتل والقطع بالقتل وأخذ المال على وجه المحاربة صار جميع ذلك حدا واحدا, ألا ترى أن القتل في هذا الموضع مستحق على وجه الحد كالقطع وأن عفو الأولياء فيه لا يجوز؟ فدل ذلك على أنهما جميعا حد واحد; فلذلك كان للإمام أن يجمعهما جميعا وله أن يقتلهم, فيدخل فيه قطع اليد والرجل; وذلك لأنه لم يؤخذ على الإمام الترتيب في التبدئة ببعض ذلك دون بعض فله أن يبدأ بالقتل أو بالقطع.
فإن قال قائل: هلا قتلته وأسقطت القطع كمن سرق وقتل أنه يقتل ولا يقطع.
قيل له: لما بينا من أن جميع ذلك حد واحد مستحق بسبب واحد وهو القتل وأخذ المال على وجه المحاربة, وأما السرقة والقتل فكل واحد منهما مستحق بسبب غير السبب الذي به استحق الآخر, وقد أمرنا بدرء الحدود ما استطعنا; فلذلك بدأنا بالقتل لندرأ أحد الحدين, وليس في مسألتنا درء أحد الحدين وإنما هو حد واحد, فلم يلزمنا إسقاط بعضه

(2/514)


وإيجاب بعض. وهو مخير أيضا بين أن يقتله صلبا وبين الاقتصار على القتل دون الصلب, لقوله تعالى: {أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا}. وذكر أبو جعفر الطحاوي أن الصلب المذكور في آية المحارب هو الصلب بعد القتل في قول أبي حنيفة. وكان أبو الحسن الكرخي يحكي عن أبي يوسف أنه يصلب ثم يقتل يبعج بطنه برمح أو غيره فيقتل. وقال أبو الحسن: هذا هو الصحيح, وصلبه بعد القتل لا معنى له; لأن الصلب عقوبة وذلك يستحيل في الميت, فقيل له: لم لا يجوز أن يصلب بعد القتل ردعا لغيره؟ فقال: لأن الصلب إذا كان موضوعه للتعذيب والعقوبة لم يجز إيقاعه إلا على الوجه الموضوع في الشريعة.
فإن قال قائل: إذا كان الله تعالى إنما أوجب القتل أو الصلب على وجه التخيير, فكيف يجوز جمعهما عليه؟.
قيل له: أراد قتلا على غير وجه الصلب إذا قتل ولم يأخذ المال, وأراد قتلا على وجه الصلب إذا قتل وأخذ المال, فغلظت العقوبة عليه في صفة القتل لجمعه بين القتل وأخذ المال. وروى مغيرة عن إبراهيم قال: "يترك المصلوب من المحاربين على الخشبة يوما" وقال يحيى بن آدم: ثلاثة أيام".
واختلف في النفي, فقال أصحابنا: "هو حبسه حيث يرى الإمام" وروي مثله عن إبراهيم; وروي عن إبراهيم رواية أخرى, وهو أن نفيه طلبه. وقال مالك: "ينفى إلى بلد آخر غير البلد الذي يستحق فيه العقوبة فيحبس هناك". وقال مجاهد وغيره: "هو أن يطلب الإمام الحد عليه حتى يخرج عن دار الإسلام".
قال أبو بكر: فأما من قال إنه ينفى عن كل بلد يدخله; فهو إنما ينفيه عن البلد الذي هو فيه والإقامة فيه, وهو حينئذ غير منفي من التصرف في غيره, فلا معنى لذلك ولا معنى أيضا لحبسه في بلد غير بلده; إذ الحبس يستوي في البلد الذي أصاب فيه وفي غيره, فالصحيح إذا حبسه في بلده. وأيضا فلا يخلو قوله تعالى: {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} من أن يكون المراد به نفيه من جميع الأرض, وذلك محال لأنه لا يمكن نفيه من جميع الأرض إلا بأن يقتل, ومعلوم أنه لم يرد بالنفي القتل لأنه قد ذكر في الآية القتل مع النفي, أو يكون مراده نفيه من الأرض التي خرج منها محاربا من غير حبسه; لأنه معلوم أن المراد بما ذكره زجره عن إخافة السبيل وكف أذاه عن المسلمين, وهو إذا صار إلى بلد آخر فكان هناك مخلى كانت معرته قائمة على المسلمين إذا كان تصرفه هناك كتصرفه في غيره أو أن يكون المراد نفيه عن دار الإسلام, وذلك ممتنع أيضا; لأنه لا يجوز نفي المسلم إلى دار الحرب لما فيه من تعريضه للردة ومصيره إلى أن يكون حربيا. فثبت أن معنى النفي هو نفيه عن سائر الأرض إلا موضع حبسه الذي لا يمكنه فيه العبث والفساد.

(2/515)


مطلب: إقامة الحد على قاطع الطريق لا تكون كفارة لذنوبه
وقوله تعالى: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} يدل على أن إقامة الحد عليه لا تكون كفارة لذنوبه, لإخبار الله تعالى بوعيده في الآخرة بعد إقامة الحد عليهم.
قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} استثناء لمن تاب منهم من قبل القدرة عليهم وإخراج لهم من جملة من أوجب الله عليه الحد; لأن الاستثناء إنما هو إخراج بعض ما انتظمته الجملة منها, كقوله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ} فأخرج آل لوط من جملة المهلكين, وأخرج المرأة بالاستثناء من جملة المنجين. وكقوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ} فكان إبليس خارجا من جملة الساجدين. فكذلك لما استثناهم من جملة من أوجب عليهم الحد إذا تابوا قبل القدرة عليهم فقد نفى إيجاب الحد عليهم, وقد أكد ذلك بقوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} كقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} عقل بذلك سقوط عقوبات الدنيا والآخرة عنهم.
فإن قال قائل: قد قال في السرقة: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ومع ذلك فليست توبة السارق مسقطة للحد عنه.
قيل له: لأنه لم يستثنهم من جملة من أوجب عليهم الحد, وإنما أخبر أن الله غفور رحيم لمن تاب منهم, وفي آية المحاربين استثناء يوجب إخراجهم من الجملة. وأيضا فإن قوله تعالى: {فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ} يصح أن يكون كلاما مبتدأ مستغنيا بنفسه عن تضمينه بغيره, وكل كلام اكتفى بنفسه لم نجعله مضمنا بغيره إلا بدلالة, وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} مفتقر في صحته إلى ما قبله, فمن أجل ذلك كان مضمنا به.

(2/516)


مطلب: إذا سقط الحد وجب ضمان المال
ومتى سقط الحد المذكور في الآية وجبت حقوق الآدميين من القتل والجراحات وضمان الأموال. وإذا وجب الحد سقط ضمان حقوق الآدميين في المال والنفس والجراحات; وذلك لأن وجوب الحد بهذا الفعل يسقط ما تعلق به من حق الآدمي, كالسارق إذا سرق وقطع لم يضمن السرقة, وكالزاني إذا وجب عليه الحد لم يلزمه المهر, وكالقاتل إذا وجب عليه القود لم يلزمه ضمان المال; كذلك المحاربون إذا وجب عليهم الحد سقطت حقوق الآدميين, فإذا سقط الحد عن المحارب وجب ضمان ما تناوله من مال أو نفس, كالسارق إذا درئ عنه الحد وجب عليه ضمان المال, وكالزاني إذا سقط عنه الحد لزمه المهر.

(2/516)


واختلف في الموضع الذي يكون به محاربا, فقال أبو حنيفة: "من قطع الطريق في المصر ليلا أو نهارا أو بين الحيرة والكوفة ليلا أو نهارا فلا يكون قاطعا للطريق, ولا يكون قاطعا للطريق إلا في الصحاري". وحكى أصحاب" الإملاء" عن أبي يوسف: "أن الأمصار وغيرها سواء وهم المحاربون, يقام حدهم". وروي عن أبي يوسف في اللصوص الذين يكبسون الناس ليلا في دورهم في المصر أنهم بمنزلة قطاع الطريق يجرى عليهم أحكامهم. وحكي عن مالك أنه لا يكون محاربا حتى يقطع على ثلاثة أميال من القرية; وذكر عنه أيضا قال: "المحاربة أن يقاتلوا على طلب المال من غير نائرة" ولم يفرق ههنا بين المصر وغيره. وقال الشافعي: "قطاع الطريق الذين يعرضون بالسلاح للقوم حتى يغصبوهم المال, والصحاري والمصر واحد". وقال الثوري: "لا يكون محاربا بالكوفة حتى يكون خارجا منها". قال أبو بكر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا قطع على خائن ولا مختلس" فنفى عليه السلام القطع عن المختلس, والمختلس هو الذي يختلس الشيء وهو غير ممتنع فوجب بذلك اعتبار المنعة من المحاربين وأنهم متى كانوا في موضع لا يمكنهم أن يمتنعوا وقد يلحق من قصدوه الغوث من قبل المسلمين أن لا يكونوا محاربين وأن يكونوا بمنزلة المختلس والمنتهب كالرجل الواحد إذا فعل ذلك في المصر فيكون مختلسا غاصبا لا يجري عليه أحكام قطاع الطريق, وإذا كانت جماعة ممتنعة في الصحراء فهؤلاء يمكنهم أخذ أموال السابلة قبل أن يلحقهم الغوث, فباينوا بذلك المختلس ومن ليس له امتناع في أحكامهم. ولو وجب أن يستوي حكم المصر وغيره لوجب استواء حكم الرجل الواحد والجماعة; ومعلوم أن الرجل الواحد لا يكون محاربا في المصر لعدم الامتناع منه, فكذلك ينبغي أن يكون حكم الجماعة في المصر لفقد الامتناع منهم على أهل المصر. وأما إذا كانوا في الصحراء فهم ممتنعون غير مقدور عليهم إلا بالطلب والقتال, فلذلك اختلف حكمهم وحكم من في المصر.
فإن قال قائل: إن كان الاعتبار بما ذكرت فواجب أن يكون العشرة من اللصوص إذا اعترضوا قافلة فيها ألف رجل غير محاربين; إذ قد يمكنهم الامتناع عليهم.
قيل له: صاروا محاربين بالامتناع والخروج, سواء قصدوا القافلة أو لم يقصدوها, فلا يزول عنهم هذا الحكم بعد ذلك بكون القافلة ممتنعة منهم كما لا يزول بكون أهل الأمصار ممتنعين منهم. وأجرى أبو يوسف على اللصوص في المصر حكم المحاربين لامتناعهم والخروج على وجه المحاربة لأخذ المال فلا يختلف حكمهم بالمصر وغيره, كما أن سائر ما يوجب الحد من الزنا والسرقة والقذف والقتل لا يختلف أحكام فاعليها بالمصر وغيره.

(2/517)


فصل
واعتبر أصحابنا في إيجاب قطع المحارب مقدار المال المأخوذ, بأن يصيب كل واحد منهم عشرة دراهم. واعتبر الشافعي ربع دينار كما اعتبره في قطع السارق, ولم يعتبره مالك; لأنه يرى إجراء الحكم عليهم بالخروج قبل أخذ المال.

(2/518)


فصل
وقال أصحابنا: إذا كان الذي ولي القتل وأخذ المال بعضهم كان حكم جميعهم حكم المحاربين يجري الحكم عليهم وذلك لأن حكم المحاربة والمنعة لم يحصل إلا باجتماعهم جميعا, فلما كان السبب الذي تعلق به حكم المحاربة وهو المنعة حصل باجتماعهم جميعا وجب أن لا يختلف حكم من ولي القتل منهم ومن كان عونا أو ظهيرا; والدليل عليه أن الجيش إذا غنموا من أهل الحرب لم يختلف فيه حكم من ولي القتال منهم ومن كان منهم ردءا وظهيرا, ولذلك لم يختلف حكم من قتل بعصا أو بسيف; إذ كان من لم يل القتال يجري عليه الحكم.

(2/518)


باب قطع السارق
قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} . روى سفيان عن جابر عن عامر قال قراءة عبد الله {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وروى ابن عوف عن إبراهيم: في قراءتنا: "فاقطعوا أيمانهما".
قال أبو بكر: لم تختلف الأمة في أن اليد المقطوعة بأول سرقة هي اليمين, فعلمنا أن مراد الله تعالى بقوله: {أَيْدِيَهُمَا} أيمانهما, فظاهر اللفظ في جمعه الأيدي من الاثنين يدل على أن المراد اليد الواحدة من كل واحد منهما كقوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} لما كان لكل واحد منهما قلب واحد أضافه إليهما بلفظ الجمع, كذلك لما أضاف الأيدي إليهما بلفظ الجمع دل على أن المراد إحدى اليدين من كل واحد منهما وهي اليمنى.
وقد اختلف في قطع اليسرى في المرة الثالثة وفي قطع الرجل اليمنى في الرابعة, وسنذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى.
ولم تختلف الأمة في خصوص هذه الآية; لأن اسم السارق يقع على سارق الصلاة, قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أسوأ الناس سرقة هو الذي يسرق صلاته" قيل: يا رسول الله وكيف يسرق صلاته؟ قال: "لا يتم ركوعها وسجودها" . ويقع على سارق اللسان; روى ليث بن سعد قال: حدثنا يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله عن أبي رهم, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أسرق السارق الذي يسرق لسان الأمير" فثبت بذلك أنه لم يرد كل سارق.

(2/518)


مطلب: خبر الحظر أولى من خبر الإباحة
ثم لو ثبت هذا الحديث لعارضه ما قدمناه من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه مختلفة في نفي القطع عن سارق ما دون العشرة, وكان يكون حينئذ خبرنا أولى لما فيه من حظر القطع عما دونها وخبرهم مبيح له, وخبر الحظر أولى من خبر الإباحة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله السارق يسرق الحبل فيقطع فيه, ويسرق البيضة فيقطع فيها" فربما ظن بعض من لا روية له أنه يدل على أن ما دون العشرة يقطع فيه لذكر البيضة والحبل وهما في العادة أقل قيمة من عشرة دراهم, وليس ذلك على ما يظنه; لأن المراد بيضة الحديد, وقد روي عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في بيضة من حديد قيمتها أحد وعشرون درهما; ولأنه لا خلاف بين الفقهاء أن سارق بيضة الدجاج لا قطع عليه, وأما الحبل فقد يكون مما يساوي العشرة والعشرين وأكثر من ذلك.

(2/522)


فصل مطلب: في معنى قوله عليه السلام: "لا قطع على الخائن"
وأما اعتبار الحرز فالأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا قطع على خائن" رواه ابن عباس وجابر. وهو مشتمل على نفي القطع في جميع ما ائتمن الإنسان فيه, فمنها أن الرجل إذا ائتمن غيره على دخول بيته ولم يحرز منه ماله لم يجب عليه القطع إذا خانه لعموم لفظ الخبر ويصير حينئذ بمنزلة المودع والمضارب وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "لا قطع على خائن" وجوب القطع على جاحد الوديعة والمضاربة وسائر الأمانات ويدل أيضا على نفي القطع عن المستعير إذا جحد العارية.

(2/522)


مطلب: في تأويل ما ورد عنه عليه السلام من أنه فطع يد المرأة التي كانت تستعير المتاع وتجحده
وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قطع المرأة التي كانت تستعير المتاع وتجحده فلا دلالة فيه على وجوب القطع على المستعير إذا خان; إذ ليس فيه أنه قطعها لأجل جحودها للعارية وإنما ذكر جحود العارية تعريفا لها إذا كان ذلك معتادا منها حتى عرفت به فذكر ذلك على وجه التعريف وهذا مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال للرجلين أحدهما

(2/522)


باب من أين يقطع السارق
قال الله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} واسم اليد يقع على هذا العضو إلى المنكب والدليل عليه أن عمارا تيمم إلى المنكب بقوله تعالى: {فَامْسَحُوا

(2/525)


بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] ولم يخطئ من طريق اللغة; وإنما لم يثبت ذلك لورود السنة بخلافه. ويقع على اليد إلى مفصل الكف أيضا, قال الله تعالى: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] وقد عقل به ما دون المرفق. وقال تعالى لموسى: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} [النمل: 12] ويمتنع أن يدخل يده إلى المرفق. ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] فلو لم يقع الاسم على ما دون المرفق لما ذكرها إلى المرافق; وفي ذلك دليل على وقوع الاسم إلى الكوع, فلما كان الاسم يتناول هذا العضو إلى المفصل وإلى المرفق تارة وإلى المنكب اقتضى عموم اللفظ القطع من المنكب إلا أن تقوم الدلالة على أن المراد ما دونه. وجائز أن يقال إن الاسم لما تناولها إلى الكوع ولم يجز أن يقال إن ذلك بعض اليد بل يطلق عليه اسم اليد من غير تقييد وإن كان قد يطلق أيضا على ما فوقه إلى المرفق تارة وإلى المنكب أخرى ثم قال تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وكانت اليد محظورة في الأصل فمتى قطعناها من المفصل فقد قضينا عهدة الآية, لم يجز لنا قطع ما فوقه إلا بدلالة, كما لو قال: "أعط هذا رجالا" فأعطاه ثلاثة منهم فقد فعل المأمور به; إذ كان الاسم يتناولهم, وإن كان اسم الرجال يتناول ما فوقهم.
فإن قال قائل: يلزمكم في التيمم مثله بقوله تعالى: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] قلتم فيه أن الاسم لما تناول العضو إلى المرفق اقتضاه العموم ولم ينزل عنه إلا بدليل قيل له هما مختلفان من قبل أن اليد لما كانت محظورة في الأصل ثم كان الاسم يقع على العضو إلى المفصل وإلى المرفق لم يجز لنا قطع الزيادة بالشك ولما كان الأصل الحدث واحتاج إلى استباحة الصلاة لم يزل أيضا إلا بيقين وهو التيمم إلى المرفق ولا خلاف بين السلف من الصدر الأول وفقهاء الأمصار أن القطع من المفصل وإنما خالف فيه الخوارج وقطعوا من المنكب لوقوع الاسم عليه وهم شذوذ لا يعدون خلافا وقد روى محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع يد سارق من الكوع وعن عمر وعلي أنهما قطعا اليد من المفصل ويدل على أن ما دون الرسغ لا يقع عليه اسم اليد على الإطلاق قوله تعالى {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ} [المائدة: 6] ولم يقل أحد أنه يقتصر بالتيمم على ما دون المفصل وإنما اختلفوا فيما فوقه.
واختلفوا في قطع الرجل من أي موضع هو فروي عن علي أنه قطع سارقا من خصر القدم وروى صالح السمان قال رأيت الذي قطعه علي رضي الله عنه مقطوعا من أطراف الأصابع فقيل له من قطعك فقال خير الناس قال أبو رزين سمعت ابن

(2/526)


عباس يقول أيعجز من رأى هؤلاء أن يقطع كما قطع هذا الأعرابي يعني نحوه فلقد قطع فما أخطأ يقطع الرجل ويذر عقبها, وروي مثله عن عطاء وأبي جعفر من قولهما وعن عمر رضي الله عنه في آخرين يقطع الرجل من المفصل وهو قول فقهاء الأمصار والنظر يدل على هذا القول لاتفاقهم على قطع اليد من المفصل الظاهر وهو الذي يلي الزند. وكذلك الواجب قطع الرجل من المفصل الظاهر الذي يلي الكعب الناتئ وأيضا لما اتفقوا على أنه لا يترك له من اليد ما ينتفع به للبطش ولم يقطع من أصول الأصابع حتى يبقى له الكف كذلك ينبغي أن لا يترك له من الرجل العقب فيمشي عليه لأن الله تعالى إنما أوجب قطع اليد ليمنعه الأخذ والبطش بها وأمر بقطع الرجل ليمنعه المشي بها فغير جائز ترك العقب للمشي عليه ومن قطع من المفصل الذي هو على ظهر القدم فإنه ذهب في ذلك أن هذا المفصل من الرجل بمنزلة مفصل الزند من اليد لأنه ليس بين مفصل ظهر القدم وبين مفصل أصابع الرجل مفصل غيره كما أنه ليس بين مفصل الزند ومفصل أصابع اليد مفصل غيره فلما وجب في اليد قطع أقرب المفاصل إلى مفصل الأصابع كذلك وجب أن يقطع في الرجل من أقرب المفاصل إلى مفصل الأصابع, والقول الأول أظهر لأن مفصل ظهر القدم غير ظاهر كظهور مفصل الكعب من الرجل ومفصل الزند من اليد فلما وجب قطع مفصل اليد الظاهر منه كذلك يجب أن يكون في الرجل ولما استوعبت اليد بالقطع وجب استيعاب الرجل أيضا والرجل كلها إلى مفصل الكعب بمنزلة الكف إلى مفصل الزند. وأما القطع من أصول أصابع الرجل فإنه لم يثبت عن علي من جهة صحيحة وهو قول شاذ خارج عن الاتفاق والنظر جميعا.
واختلف في قطع اليد اليسرى والرجل اليمنى فقال أبو بكر الصديق وعلي بن أبي طالب وعمر بن الخطاب حين رجع إلى قول علي لما استشاره وابن عباس إذا سرق قطعت يده اليمنى فإن سرق بعد ذلك قطعت رجله اليسرى فإن سرق لم يقطع وحبس وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف وزفر ومحمد وروي عن عمر أنه تقطع يده اليسرى بعد الرجل اليمنى فإن سرق قطعت رجله اليمنى فإن سرق حبس حتى يحدث توبة وعن أبي بكر مثل ذلك إلا أن عمر قد روي عنه الرجوع إلى قول علي كرم الله وجهه. وقال مالك والشافعي تقطع اليد اليسرى بعد الرجل اليسرى والرجل اليمنى بعد ذلك ولا يقتل إن سرق بعد ذلك وروي عن عثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وعمر بن عبد العزيز أنهم قتلوا سارقا بعدما قطعت أطرافه وروى سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر أراد أن يقطع الرجل بعد اليد والرجل فقال له

(2/527)


عمر السنة اليد. وروى عبد الرحمن بن يزيد عن جابر عن مكحول أن عمر قال لا تقطعوا يده بعد اليد والرجل ولكن احبسوه عن المسلمين وقال الزهري انتهى أبو بكر إلى اليد والرجل وروى أبو خالد الأحمر عن حجاج عن سماك عن بعض أصحابه أن عمر استشارهم في السارق فأجمعوا على أنه تقطع يده اليمنى فإن عاد فرجله اليسرى ثم لا يقطع أكثر من ذلك وهذا يقتضي أن يكون ذلك إجماعا لا يسع خلافه لأن الذين يستشيرهم عمر هم الذين ينعقد بهم الإجماع وقد روى سفيان عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن أبا بكر الصديق قطع اليد بعد قطع اليد والرجل في قصة الأسود الذي نزل بأبي بكر ثم سرق حلي أسماء وهو مرسل وأصله حديث ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن رجلا خدم أبا بكر فبعثه مع مصدق وأوصاه به فلبث قريبا من شهر ثم جاءه وقد قطعه المصدق فلما رآه أبو بكر قال له ما لك قال وجدني خنت فريضة فقطع يدي فقال أبو بكر إني لأراه يخون أكثر من ثلاثين فريضة والذي نفسي بيده لئن كنت صادقا لأقيدنك منه ثم سرق حلي أسماء بنت عميس فقطعه أبو بكر فأخبرت عائشة أن أبا بكر قطعه بعد قطع المصدق يده وذلك لا يكون إلا قطع الرجل اليسرى وهو حديث صحيح لا يعارض بحديث القاسم لو تعارضا لسقطا جميعا ولم يثبت بهذا الحديث عن أبي بكر شيء ويبقى لنا الأخبار الأخر التي ذكرناها عن أبي بكر والاقتصار على الرجل اليسرى.
فإن قيل روى خالد الحذاء عن محمد بن حاطب أن أبا بكر قطع يدا بعد يد ورجل قيل له لم يقل في السرقة ويجوز أن يكون في قصاص وقد روي عن عمر بن الخطاب مثل ذلك وتأويله ما ذكرناه فحصل من اتفاق السلف وجوب الاقتصار على اليد والرجل وما روي عنهم من مخالفة ذلك فإنما هو على وجهين إما أن يكون الحكاية في قطع اليد بعد الرجل أو قطع الأربع من غير ذكر السرقة فلا دلالة فيه على القطع في السرقة أو يكون مرجوعا عنه كما روي عن عمر ثم روي عنه الرجوع عنه. وقد روي عن عثمان أنه ضرب عنق رجل بعدما قطع أربعته وليس فيه دلالة على قول المخالف لأنه لم يذكر قطعه في السرقة ويجوز أن يكون قطعه من قصاص ويدل على صحة قول أصحابنا قوله تعالى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وقد بينا أن المراد أيمانهما وكذلك هو في قراءة ابن مسعود وابن عباس والحسن وإبراهيم وإذا كان الذي تتناوله الآية يدا واحدة لم تجز الزيادة عليها إلا من جهة التوقيف أو الاتفاق وقد ثبت الاتفاق في الرجل اليسرى واختلفوا بعد ذلك في اليد اليسرى فلم يجز قطعها مع عدم الاتفاق والتوقيف; إذ غير جائز إثبات الحدود إلا من أحد هذين الوجهين ودليل آخر وهو

(2/528)


اتفاق الأمة على قطع الرجل بعد اليد وفي ذلك دليل على أن اليد اليسرى غير مقطوعة أصلا لأن العلة في العدول عن اليد اليسرى بعد اليمنى إلى الرجل في قطعها على هذا الوجه إبطال منفعة الجنس وهذه العلة موجودة بعد قطع الرجل اليسرى. ومن جهة أخرى أنه إنما لم تقطع رجله اليمنى بعد رجله اليسرى لما فيه من بطلان منفعة المشي رأسا كذلك لا تقطع اليد اليسرى بعد اليمنى لما فيه من بطلان منفعة البطش وهو منافع اليد كالمشي من منافع الرجل ودليل آخر وهو اتفاق الجميع على أن المحارب وإن عظم جرمه في أخذ المال لا يزاد على قطع اليد والرجل لئلا تبطل منفعة جنس الأطراف كذلك السارق وإن كثر الفعل منه بأن عظم جرمه فلا يوجب الزيادة على قطع اليد والرجل.
فإن قال قائل قوله عز وجل { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} يقتضي قطع اليدين جميعا ولولا الاتفاق لما عدلنا عن اليد اليسرى في السرقة الثانية إلى الرجل اليسرى قيل له. أما قولك إن الآية مقتضية لقطع اليد اليسرى فليس كذلك عندنا لأنها إنما اقتضت يدا واحدة لما ثبت من إضافتها إلى الاثنين بلفظ الجمع دون التثنية وإن ما كان هذا وصفه فإنه يقتضي يدا واحدة من كل واحد منهما ثم قد اتفقوا أن اليد اليمنى مرادة فصار كقوله تعالى فاقطعوا أيمانهما فانتفى بذلك أن تكون اليسرى مرادة باللفظ فيسقط الاحتجاج بالآية في إيجاب قطع اليسرى وعلى أنه لو كان لفظ الآية محتملا لما وصفت لكان اتفاق الأمة على قطع الرجل بعد اليمنى دلالة على أن اليسرى غير مرادة; إذ غير جائز ترك المنصوص والعدول عنه إلى غيره.
واحتج موجبو قطع الأطراف بما رواه عبد الله بن رافع قال أخبرني حماد بن أبي حميد عن محمد بن المنكدر عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بسارق قد سرق فأمر به أن تقطع يده ثم أتي به مرة أخرى قد سرق فأمر به أن تقطع رجله ثم أتي به مرة أخرى قد سرق فأمر به أن تقطع يده ثم سرق فأمر به أن تقطع رجله حتى قطعت أطرافه كلها وحماد بن أبي حميد ممن يضعف وهو مختصر وأصله ما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل الهلالي حدثنا جدي عن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال جيء بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق فقال اقطعوه قال فقطع ثم جيء به الثانية فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه قال فقطع ثم جيء به الثالثة فقال اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق قال اقطعوه ثم أتي به الرابعة فقال "اقتلوه " فقالوا

(2/529)


يا رسول الله إنما سرق قال "اقطعوه" ثم أتي به الخامسة فقال "اقتلوه" قال جابر فانطلقنا به فقتلناه. ورواه أبو معشر عن مصعب بن ثابت بإسناد مثله وزاد خرجنا به إلى مربد النعم فحملنا عليه النعم فأشار بيده ورجليه فنفرت الإبل عنه فلقيناه بالحجارة حتى قتلناه ورواه يزيد بن سنان حدثني هشام بن عروة عن محمد بن المنكدر عن جابر قال أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بسارق فقطع يده ثم أتي به قد سرق فقطع رجله ثم أتي به قد سرق فأمر بقتله. ورواه حماد بن سلمة عن يوسف بن سعد عن الحارث بن حاطب أن رجلا سرق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتلوه فقال القوم إنما سرق فقال اقطعوه فقطعوه ثم سرق على عهد أبي بكر الصديق فقطعه ثم سرق فقطعه حتى قطعت قوائمه كلها ثم سرق الخامسة فقال أبو بكر كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم به حين أمر بقتله فأمر به فقتل. والذي ذكرناه من حديث مصعب بن ثابت هو أصل الحديث الذي رواه حماد بن أبي حميد وفيه الأمر بقتله بديا ومعلوم أن السرقة لا يستحق بها القتل فثبت أن قطع هذه الأعضاء لم يكن على وجه الحد المستحق بالسرقة وإنما كان على جهة تغليظ العقوبة والمثلة كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة العرنيين أنه قطع أيديهم وأرجلهم وسملهم وليس السمل حدا في قطاع الطريق فلما نسخت المثلة نسخ بها هذا الضرب من العقوبة فوجب الاقتصار على اليد والرجل لا غير ويدل على أن قطع الأربع كان على وجه المثلة لا على جهة الحد أن في حديث جابر أنهم حملوا عليه النعم ثم قتلوه بالحجارة وذلك لا يكون حدا في السرقة بوجه.

(2/530)


باب ما لا يقطع فيه
ما لا يقطع فيه قال أبو بكر عموم قوله {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} يوجب قطع كل من تناول الاسم في سائر الأشياء لأنه عموم في هذا الوجه وإن كان مجملا في المقدار إلا أنه قد قامت الدلالة من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وقول السلف واتفاق فقهاء الأمصار على أنه لم يرد به العموم وأن كثيرا مما يسمى آخذه سارقا لا قطع فيه واختلف الفقهاء في أشياء منه.

(2/530)


ذكر الاختلاف في ذلك
قال أبو حنيفة ومحمد: لا قطع في كل ما يسرع إليه الفساد نحو الرطب والعنب والفواكه الرطبة واللحم والطعام الذي لا يبقى ولا في الثمر المعلق والحنطة في سنبلها سواء كان لها حافظ أو لم يكن ولا قطع في شيء من الخشب إلا الساج والقنا ولا قطع في الطين والنورة والجص والزرنيخ ونحوه ولا قطع في شيء من الطير ويقطع في

(2/530)


باب السرقة من ذوي الأرحام
قال أبو بكر قوله {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} عموم في إيجاب قطع كل سارق إلا ما خصه الدليل, على النحو الذي قدمنا, وعلى ما حكينا عن أبي الحسن, ليس بعموم وهو مجمل محتاج فيه إلى دلالة من غيره في إثبات حكمه. ومن جهة أخرى على أصله أن ما ثبت خصوصه بالاتفاق لا يصح الاحتجاج بعمومه, وقد بيناه في أصول الفقه; وهو مذهب محمد بن شجاع. إلا أنه وإن كان عموما عندنا لو خلينا ومقتضاه فقد قامت دلالة خصوصه في ذي الرحم المحرم. وقد اختلف الفقهاء فيه.

(2/536)


ذكر الاختلاف في ذلك
قال أصحابنا: "لا يقطع من سرق من ذي الرحم" وهو الذي لو كان أحدهما رجلا والآخر امرأة لم يجز له أن يتزوجها من أجل الرحم الذي بينهما. ولا تقطع أيضا عندهم

(2/536)


باب فيمن سرق ما قد قطع فيه
قال أصحابنا فيمن سرق ثوبا فقطع فيه ثم سرقه مرة أخرى وهو بعينه: "لم يقطع فيه". والأصل فيه أنه لا يجوز عندنا إثبات الحدود بالقياس, وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق, فلما عدمناهما فيما وصفنا لم يبق في إثباته إلا القياس, ولا يجوز ذلك عندنا.

(2/537)


فإن قيل: هلا قطعته بعموم قوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} قبل السرقة قيل له: السرقة الثانية لم يتناولها العموم لأنها توجب قطع الرجل لو وجب القطع, والذي في الآية قطع اليد. وأيضا فإن وجوب قطع السرقة متعلق بالفعل والعين جميعا, والدليل عليه أنه متى سقط القطع وجب ضمان العين, كما أن حد الزنا لما تعلق بالوطء كان سقوط الحد موجبا ضمان الوطء, ولما تعلق وجوب القصاص بقتل النفس كان سقوط القود موجبا ضمان النفس; فكذلك وجوب ضمان العين في السرقة عند سقوط القطع يوجب اعتبار العين في ذلك. فلما كان فعل واحد في عينين لا يوجب إلا قطعا واحدا, كان كذلك حكم الفعلين في عين واحدة ينبغي أن لا يوجب إلا قطعا واحدا; إذ كان لكل واحد من العينين أعني الفعل والعين تأثير في إيجاب القطع.
فإن قيل: فلو زنى بامرأة فحد ثم زنى بها مرة أخرى حد ثانيا مع وقوع الفعلين في عين واحدة. قيل له: لأنه لا تأثير لعين المرأة في تعلق وجوب الحد بها, وإنما يتعلق وجوب حد الزنا بالوطء لا غير; والدليل على ذلك أنه متى سقط الحد ضمن الوطء ولم يضمن عين المرأة, وفي السرقة متى سقط القطع ضمن عين السرقة. وأيضا فلما صارت السرقة في يده بعد القطع في حكم المباح التافه, بدلالة أن استهلاكها لا يوجب عليه ضمانها, وجب أن لا يقطع فيها بعد ذلك كما لا يقطع في سائر المباحات التافهة في الأصل وإن حصلت ملكا للناس كالطين والخشب والحشيش والماء; ومن أجل ذلك قالوا: إنه لو كان غزلا فنسجه ثوبا بعدما قطع فيه ثم سرقه مرة أخرى قطع لأن حدوث هذا الفعل فيه يرفع حكم الإباحة المانعة كانت من وجوب القطع, كما لو سرق خشبا لم يقطع فيه, ولو كان بابا منجورا فسرق قطع لخروجه بالصنعة عن الحال الأولى. وأيضا لما كان وقوع القطع فيه يوجب البراءة من استهلاكه قام القطع فيه مقام دفع قيمته, فصار كأنه عوضه منه, وأشبه من هذا الوجه وقوع الملك له في المسروق, لأن استحقاق البدل عليه يوجب له الملك, فلما أشبه ملكه من هذا الوجه سقط القطع لأنه يسقط بالشبهة أن يشبه المباح من وجه ويشبه الملك من وجه.

(2/538)


باب السرق يوجد قبل إخراج السرقة
قال أبو بكر رحمه الله: اتفق فقهاء الأمصار على أن القطع غير واجب إلا أن يفرق بين المتاع وبين حرزه, والدار كلها حرز واحد, فكما لم يخرجه من الدار لم يجب القطع; وروي ذلك عن علي بن أبي طالب وابن عمر, وهو قول إبراهيم. وروى يحيى بن سعيد عن عبد الرحمن بن القاسم قال: بلغ عائشة أنهم كانوا يقولون: إذا لم

(2/538)


يخرج بالمتاع لم يقطع, فقالت عائشة: "لو لم أجد إلا سكينا لقطعته". وروى سعيد عن قتادة عن الحسن قال: "إذا وجد في بيت فعليه القطع" قال أبو بكر: دخوله البيت لا يستحق به اسم السارق, فلا يجوز إيجاب القطع به, وأخذه في الحرز أيضا لا يوجب القطع لأنه باق في الحرز, ومتى لم يخرجه من الحرز فهو بمنزلة من لم يأخذه فلا يجب عليه القطع; ولو جاز إيجاب القطع في مثله لما كان لاعتبار الحرز معنى; والله أعلم.

(2/539)


باب غرم السارق بعد القطع
قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري وابن شبرمة: "إذا قطع السارق فإن كانت السرقة قائمة بعينها أخذها المسروق منه, وإن كانت مستهلكة فلا ضمان عليه", وهو قول مكحول وعطاء والشعبي وابن شبرمة وأحد قولي إبراهيم النخعي. وقال مالك: "يضمنها إن كان موسرا ولا شيء عليه إن كان معسرا". وقال عثمان البتي والليث والشافعي: "يغرم السرقة وإن كانت هالكة" وهو قول الحسن والزهري وحماد وأحد قولي إبراهيم. قال أبو بكر: أما إذا كانت قائمة بعينها فلا خلاف أن صاحبها يأخذها; وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع سارق رداء صفوان ورد الرداء على صفوان. والذي يدل على نفي الضمان بعد القطع قوله تعالى: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} والجزاء اسم لما يستحق بالفعل; فإذا كان الله تعالى جعل جميع ما يستحق بالفعل هو القطع, لم يجز إيجاب الضمان معه لما فيه من الزيادة في حكم المنصوص, ولا يجوز ذلك إلا بمثل ما يجوز به النسخ, وكذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} , فأخبر أن جميع الجزاء هو المذكور في الآية; لأن قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ينفي أن يكون هناك جزاء غيره. ومن جهة السنة حديث عبد الله بن صالح قال: حدثني المفضل بن فضالة عن يونس بن يزيد قال: سمعت سعد بن إبراهيم يحدث عن أخيه المسور بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن عوف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أقمتم على السارق الحد فلا غرم عليه" . وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن نصر بن صهيب قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شجاع الآدمي قال: حدثني خالد بن خداش قال: حدثني إسحاق بن الفرات قال: حدثنا الفضل بن فضالة عن يونس عن الزهري عن سعد بن إبراهيم عن المسور بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن عوف: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بسارق, فأمر بقطعه وقال: "لا غرم عليه" . وقال عبد الباقي: هذا هو الصحيح; وأخطأ فيه خالد بن خداش, فقال المسور بن مخرمة.
ويدل عليه من جهة النظر امتناع وجوب الحد والمال بفعل واحد, كما لا يجتمع

(2/539)


الحد والمهر والقود والمال, فوجب أن يكون وجوب القطع نافيا لضمان المال; إذ كان المال في الحدود لا يجب إلا مع الشبهة, وحصول الشبهة ينفي وجوب القطع. ووجه آخر: وهو أن من أصلنا أن الضمان سبب لإيجاب الملك فلو ضمناه لملكه بالأخذ الموجب للضمان فيكون حينئذ مقطوعا في ملك نفسه وذلك ممتنع, فلما لم يكن لنا سبيل إلى رفع القطع وكان في إيجاب الضمان إسقاط القطع, امتنع وجوب الضمان

(2/540)


باب الرشوة
قال الله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} قيل إن أصل السحت الاستئصال, يقال: أسحته إسحاتا: إذا استأصله وأذهبه, قال الله عز وجل: {فَيُسْحِتَكُمْ} [طه: 61] أي يستأصلكم به. ويقال: أسحت ماله, إذا أفسده وأذهبه. فسمي الحرام سحتا لأنه لا بركة فيه لأهله ويهلك به صاحبه هلاك الاستئصال. وروى ابن عيينة عن عمار الدهني عن سالم بن أبي الجعد عن مسروق قال: سألت عبد الله بن مسعود عن السحت أهو الرشوة في الحكم؟ فقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} ولكن السحت أن يستشفع بك على إمام فتكلمه فيهدي لك هدية فتقبلها. وروى شعبة عن منصور عن سالم بن أبي الجعد عن مسروق قال: سألت عبد الله عن الجور في الحكم, فقال: "ذلك كفر "; وسألته عن السحت, فقال: "الرشا". وروى عبد الأعلى بن حماد: حدثنا حماد عن أبان عن ابن أبي عياش عن مسلم, أن مسروقا قال: قلت لعمر: يا أمير المؤمنين أرأيت الرشوة في الحكم من السحت؟ قال: "لا, ولكن كفر, إنما السحت أن يكون لرجل عند سلطان جاه ومنزلة ويكون للآخر إلى السلطان حاجة, فلا يقضي حاجته حتى يهدي إليه". وروي عن علي بن أبي طالب قال: "السحت الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسب الفحل وكسب الحجام وثمن الكلب وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستجعال في القضية". فكأنه جعل السحت اسما لأخذ ما لا يطيب أخذه. وقال إبراهيم والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك: "السحت الرشا". وروى منصور عن الحكم عن أبي وائل عن مسروق قال: "إن القاضي إذا أخذ الهدية فقد أكل السحت, وإذا أكل الرشوة بلغت به الكفر". وقال الأعمش عن خيثمة عن عمر قال: "بابان من السحت يأكلهما الناس: الرشا ومهر الزانية". وروى إسماعيل بن زكريا عن إسماعيل بن مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هدايا الأمراء من السحت" . وروى أبو إدريس الخولاني عن ثوبان قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش الذي يمشي بينهما". وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمر قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي". وروى أبو عوانة عن عمر بن أبي سلمة عن أبي

(2/540)


هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم" .
قال أبو بكر: اتفق جميع المتأولين لهذه الآية على أن قبول الرشا محرم, واتفقوا على أنه من السحت الذي حرمه الله تعالى.

(2/541)


مطلب: في وجوه الرشوة
والرشوة تنقسم إلى وجوه: منها الرشوة في الحكم, وذلك محرم على الراشي والمرتشي جميعا, وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "لعن الله الراشي والمرتشي" والرائش وهو الذي يمشي بينهما فذلك لا يخلو من أن يرشوه ليقضي له بحقه أو بما ليس بحق له, فإن رشاه ليقضي له بحقه فقد فسق الحاكم بقبول الرشوة على أن يقضي له بما هو فرض عليه, واستحق الراشي الذم حين حاكم إليه وليس بحاكم, ولا ينفذ حكمه; لأنه قد انعزل عن الحكم بأخذه الرشوة, كمن أخذ الأجرة على أداء الفروض من الصلاة والزكاة والصوم. ولا خلاف في تحريم الرشا على الأحكام وأنها من السحت الذي حرمه الله في كتابه. وفي هذا دليل على أن كل ما كان مفعولا على وجه الفرض والقربة إلى الله تعالى أنه لا يجوز أخذ الأجرة عليه, كالحج وتعليم القرآن والإسلام; ولو كان أخذ الأبدال على هذه الأمور جائزا لجاز أخذ الرشا على إمضاء الأحكام, فلما حرم الله أخذ الرشا على الأحكام واتفقت الأمة عليه دل ذلك على فساد قول القائلين بجواز أخذ الأبدال على الفروض والقرب. وإن أعطاه الرشوة على أن يقضي له بباطل فقد فسق الحاكم من وجهين: أحدهما: أخذ الرشوة, والآخر: الحكم بغير حق; وكذلك الراشي. وقد تأول ابن مسعود ومسروق السحت على الهدية في الشفاعة إلى السلطان, وقال: "إن أخذ الرشا على الأحكام كفر". وقال علي رضي الله عنه وزيد بن ثابت ومن قدمنا قوله: "الرشا من السحت". وأما الرشوة في غير الحكم, فهو ما ذكره ابن مسعود ومسروق في الهدية إلى الرجل ليعينه بجاهه عند السلطان, وذلك منهي عنه أيضا لأن عليه معونته في دفع الظلم عنه, قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة: 2] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الله في عون المرء ما دام المرء في عون أخيه" . ووجه آخر من الرشوة, وهو الذي يرشو السلطان لدفع ظلمه عنه, فهذه الرشوة محرمة على آخذها غير محظورة على معطيها. وروي عن جابر بن زيد والشعبي قالا: "لا بأس بأن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم" وعن عطاء وإبراهيم مثله. وروى هشام عن الحسن قال: "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي" قال الحسن: "ليحق باطلا أو يبطل حقا, فأما أن تدفع عن مالك فلا بأس". وقال يونس عن الحسن: "لا بأس أن يعطي الرجل من ماله ما يصون به عرضه". وروى عثمان بن الأسود عن مجاهد قال: "اجعل مالك جنة

(2/541)


دون دينك ولا تجعل دينك جنة دون مالك". وروى سفيان عن عمرو عن أبي الشعثاء قال: "لم نجد زمن زياد شيئا أنفع لنا من الرشا". فهذا الذي رخص فيه السلف إنما هو في دفع الظلم عن نفسه بما يدفعه إلى من يريد ظلمه أو انتهاك عرضه; وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم غنائم خيبر وأعطى تلك العطايا الجزيلة, أعطى العباس بن مرداس السلمي شيئا, فسخطه فقال شعرا, فقال النبي: "اقطعوا عنا لسانه فزادوه حتى رضي" .
وأما الهدايا للأمراء والقضاة, فإن محمد بن الحسن كرهها وإن لم يكن للمهدي خصم ولا حكومة عند الحاكم ذهب في ذلك إلى حديث أبي حميد الساعدي في قصة ابن اللتبية1 حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة, فلما جاء قال: هذا لكم وهذا أهدي لي, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما بال أقوام نستعملهم على ما ولانا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدي لي فهلا جلس في بيت أبيه فنظر أيهدى له أم لا" . وما روي عنه عليه السلام أنه قال: "هدايا الأمراء غلول وهدايا الأمراء سحت" . وكره عمر بن عبد العزيز قبول الهدية, فقيل له: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل الهدية ويثيب عليها, فقال: كانت حينئذ هدية وهي اليوم سحت. ولم يكره محمد للقاضي قبول الهدية ممن كان يهاديه قبل القضاء; فكأنه إنما كره منها ما أهدي له لأجل أنه قاض ولولا ذلك لم يهد له. وقد دل على هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: " هلا جلس في بيت أبيه وأمه فنظر أيهدى له أم لا" فأخبر أنه إنما أهدي له لأنه عامل, ولولا أنه عامل لم يهد له, وأنه لا يحل له; وأما من كان يهاديه قبل القضاء وقد علم أنه لم يهده إليه لأجل القضاء, فجائز له قبوله على حسب ما كان يقبله قبل ذلك. وقد روي أن بنت ملك الروم أهدت لأم كلثوم بنت علي امرأة عمر, فردها عمر ومنع قبولها.
ـــــــ
1 قوله: ابن اللتبية" بضم اللام وسكون التاء وفتحها وكسر الباء الموحدة. ويقال له "ابن الأتبية" كذا في شرح صحيح البخاري للعيني. "لمصححه".

(2/542)


باب الحكم بين أهل الكتاب
قال الله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} ظاهر ذلك يقتضي معنيين: أحدهما: تخليتهم وأحكامهم من غير اعتراض عليهم, والثاني: التخيير بين الحكم والإعراض إذا ارتفعوا إلينا. وقد اختلف السلف في بقاء هذا الحكم, فقال قائلون منهم: "إذا ارتفعوا إلينا فإن شاء الحاكم حكم بينهم وإن شاء أعرض عنهم وردهم إلى دينهم". وقال آخرون: "التخيير منسوخ, فمتى ارتفعوا إلينا حكمنا بينهم من غير تخيير".

(2/542)


فممن أخذ بالتخيير عند مجيئهم إلينا الحسن والشعبي وإبراهيم رواية; وروي عن الحسن: "خلوا بين أهل الكتاب وبين حاكمهم, وإذا ارتفعوا إليكم فأقيموا عليهم ما في كتابكم". وروى سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد عن ابن عباس قال: "آيتان نسختا من سورة المائدة: آية القلائد, وقوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخيرا إن شاء حكم بينهم أو أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم, حتى نزلت: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما أنزل الله في كتابه". وروى عثمان بن عطاء الخراساني عن ابن عباس في قوله: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} قال: نسخها قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وروى سعيد بن جبير عن الحكم عن مجاهد: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} قال: نسختها: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وروى سفيان عن السدي عن عكرمة مثله.
قال أبو بكر: فذكر هؤلاء أن قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ناسخ للتخيير المذكور في قوله: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} ومعلوم أن ذلك لا يقال من طريق الرأي لأن العلم بتواريخ نزول الآي لا يدرك من طريق الرأي والاجتهاد, وإنما طريقه التوقيف ولم يقل من أثبت التخيير إن آية التخيير نزلت بعد قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} وإن التخيير نسخه. وإنما حكي عنهم مذاهبهم في التخيير من غير ذكر النسخ, فثبت نسخ التخيير بقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} كرواية من ذكر نسخ التخيير. ويدل على نسخ التخيير قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44] الآيات, ومن أعرض عنهم فلم يحكم في تلك الحادثة التي اختصموا فيها بما أنزل الله. ولا نعلم أحدا قال إن في هذه الآيات: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 44] منسوخا إلا ما يروى عن مجاهد رواه منصور عن الحكم عن مجاهد أن قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 44] نسخها ما قبلها: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} وقد روى سفيان بن حسين عن الحكم عن مجاهد أن قوله: { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} منسوخ بقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ويحتمل أن يكون قوله تعالى: { فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} قبل أن تعقد لهم الذمة يدخلوا تحت أحكام الإسلام بالجزية فلما أمر الله بأخذ الجزية منهم وجرت عليهم أحكام الإسلام أمر بالحكم بينهم بما أنزل الله فيكون حكم الآيتين جميعا ثابتا: التخيير في أهل العهد الذين لا ذمة لهم ولم يجر عليهم أحكام المسلمين كأهل الحرب إذا هادناهم وإيجاب الحكم بما أنزل الله في أهل الذمة

(2/543)


الذين يجري عليهم أحكام المسلمين. وقد روي عن ابن عباس ما يدل على ذلك; روى محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس أن الآية التي في المائدة قول الله تعالى: { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} إنما نزلت في الدية بين بني قريظة وبين بني النضير, وذلك أن بني النضير كان لهم شرف يدون دية كاملة, وأن بني قريظة يودون نصف الدية; فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ذلك فيهم, فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك فجعل الدية سواء. ومعلوم أن بني قريظة والنضير لم تكن لهم ذمة قط, وقد أجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير وقتل بني قريظة, ولو كان لهم ذمة لما أجلاهم ولا قتلهم, وإنما كان بينه وبينهم عهد وهدنة فنقضوها. فأخبر ابن عباس أن آية التخيير نزلت فيهم, فجائز أن يكون حكمها باقيا في أهل الحرب من أهل العهد, وحكم الآية الأخرى في وجوب الحكم بينهم بما أنزل الله تعالى ثابتا في أهل الذمة فلا يكون فيها نسخ. وهذا تأويل سائغ لولا ما روي عن السلف من نسخ التخيير بالآية الأخرى. وروي عن ابن عباس رواية أخرى وعن الحسن ومجاهد والزهري: أنها نزلت في شأن الرجم حين تحاكموا إليه وهؤلاء أيضا لم يكونوا أهل ذمة, وإنما تحاكموا إليه طلبا للرخصة وزوال الرجم, فصار النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت مدراسهم ووقفهم على آية الرجم وعلى كذبهم وتحريفهم كتاب الله, ثم رجم اليهوديين وقال: "اللهم إني أول من أحيا سنة أماتوها" .
وقال أصحابنا أهل الذمة محمولون في البيوع والمواريث وسائر العقود على أحكام الإسلام كالمسلمين, إلا في بيع الخمر والخنزير, فإن ذلك جائز فيما بينهم لأنهم مقرون على أن تكون مالا لهم, ولو لم يجز مبايعتهم وتصرفهم فيها والانتفاع بها لخرجت من أن تكون مالا لهم ولما وجب على مستهلكها عليهم ضمان". ولا نعلم خلافا بين الفقهاء فيمن استهلك لذمي خمرا أن عليه قيمتها. وقد روي أنهم كانوا يأخذون الخمر من أهل الذمة في العشور, فكتب إليهم عمر" أن ولوهم بيعها وخذوا العشر من أثمانها" فهذان مال لهم يجوز تصرفهم فيهما, وما عدا ذلك فهو محمول على أحكامنا لقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب إلى أهل نجران: "إما أن تذروا الربا وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله" فجعلهم النبي صلى الله عليه وسلم في حظر الربا ومنعهم منه كالمسلمين, قال الله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الرِّبا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 161] فأخبر أنهم منهيون عن الربا وأكل المال بالباطل, كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] فسوى بينهم وبين المسلمين في المنع

(2/544)


من الربا والعقود الفاسدة المحظورة, وقال تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} فهذا الذي ذكرناه مذهب أصحابنا في عقود المعاملات والتجارات والحدود أهل الذمة والمسلمون فيها سواء, إلا أنهم لا يرجمون لأنهم غير محصنين. وقال مالك: "الحاكم مخير إذا اختصموا إليه بين أن يحكم بينهم بحكم الإسلام أو يعرض عنهم فلا يحكم بينهم" وكذلك قوله في العقود والمواريث وغيرها.
واختلف أصحابنا في مناكحتهم فيما بينهم, فقال أبو حنيفة هم مقرون على أحكامهم لا يعترض عليهم فيها إلا أن يرضوا بأحكامنا, فإن رضي بها الزوجان حملا على أحكامنا, وإن أبى أحدهما لم يعترض عليهم, فإذا تراضيا جميعا حملهما على أحكام الإسلام إلا في النكاح بغير شهود والنكاح في العدة فإنه لا يفرق بينهم, وكذلك إن أسلموا". وقال محمد: "إذا رضي أحدهما حملا جميعا على أحكامنا وإن أبى الآخر, إلا في النكاح بغير شهود خاصة". وقال أبو يوسف: "يحملون على أحكامنا وإن أبوا إلا في النكاح بغير شهود نجيزه إذا تراضوا بها". فأما أبو حنيفة فإنه يذهب في إقرارهم على مناكحاتهم, إلى أنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر مع علمه بأنهم يستحلون نكاح ذوات المحرم ومع علمه بذلك لم يأمر بالتفرقة بينهما; وكذلك اليهود والنصارى يستحلون كثيرا من عقود المناكحات المحرمة ولم يأمر بالتفرقة بينهم حين عقد لهم الذمة من أهل نجران ووادي القرى وسائر اليهود والنصارى الذين دخلوا في الذمة ورضوا بإعطاء الجزية. وفي ذلك دليل على أنه أقرهم على مناكحاتهم كما أقرهم على مذاهبهم الفاسدة واعتقاداتهم التي هي ضلال وباطل, ألا ترى أنه لما علم استحلالهم للربا كتب إلى أهل نجران: "إما أن تذروا الربا, وإما أن تأذنوا بحرب من الله ورسوله" . فلم يقرهم عليه حين علم تبايعهم به. وأيضا قد علمنا أن عمر بن الخطاب لما فتح السواد أقر أهلها عليها وكانوا مجوسا, ولم يثبت أنه أمر بالتفريق بين ذوي المحارم منهم مع علمه بمناكحاتهم. وكذلك سائر الأمة بعده جروا على منهاجه في ترك الاعتراض عليهم; وفي ذلك دليل على صحة ما ذكرنا.
فإن قيل فقد روي عن عمر أنه كتب إلى سعد يأمره بالتفريق بين ذوي المحارم منهم وأن يمنعهم من المذهب فيه. قيل له: لو كان هذا ثابتا لورد النقل به متواترا كوروده في سيرته فيهم في أخذ الجزية ووضع الخراج وسائر ما عاملهم به, فلما لم يرد ذلك من جهة التواتر علمنا أنه غير ثابت. ويحتمل أن يكون كتابه إلى سعد بذلك إنما كان فيمن رضي منهم بأحكامنا; وكذلك نقول إذا تراضوا بأحكامنا. وأيضا قد بينا أن قوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ناسخ للتخيير المذكور في قوله: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ

(2/545)


أَعْرِضْ عَنْهُمْ} والذي ثبت نسخه من ذلك هو التخيير, فأما شرط المجيء منهم فلم تقم الدلالة على نسخه, فينبغي أن يكون حكم الشرط باقيا والتخيير منسوخا, فيكون تقديره مع الآية الأخرى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} وإنما قال: "إنهم يحملون على أحكامنا إذا رضوا بها إلا في النكاح بغير شهود والنكاح في العدة" من قبل أنه لما ثبت أنه ليس لنا اعتراض عليهم قبل التراضي منهم بأحكامنا, فمتى تراضوا بها وارتفعوا إلينا فإنما الواجب إجراؤهم على أحكامنا في المستقبل, ومعلوم أن العدة لا تمنع بقاء النكاح في المستقبل وإنما تمنع الابتداء لأن امرأة تحت زوج لو طرأت عليها عدة من وطء بشبهة لم يمنع ما وجب من العدة بقاء الحكم, فثبت أن العدة إنما تمنع ابتداء العقد ولا تمنع البقاء; فمن أجل ذلك لم يفرق بينهما. ومن جهة أخرى أن العدة حق الله تعالى وهم غير مؤاخذين بحقوق الله تعالى في أحكام الشريعة, فإذا لم تكن عندهم عدة واجبة لم تكن عليها عدة, فجاز نكاحها الثاني. وليس كذلك نكاح ذوات المحارم; إذ لا يختلف فيها حكم الابتداء والبقاء في باب بطلانه, وأما النكاح بغير شهود فإن الذي هو شرط في صحة العقد وجود الشهود في حال العقد, ولا يحتاج في بقائه إلى استصحاب الشهود; لأن الشهود لو ارتدوا بعد ذلك أو ماتوا لم يؤثر ذلك في العقد; فإذا كان إنما يحتاج إلى الشهود للابتداء لا للبقاء لم يجز أن يمنع البقاء في المستقبل لأجل عدم الشهود. ومن جهة أخرى أن النكاح بغير شهود مختلف فيه بين الفقهاء, فمنهم من يجيزه, والاجتهاد سائغ في جوازه, ولا يعترض على المسلمين إذا عقدوه ما لم يختصموا فيه, فغير جائز فسخه إذا عقدوه في حال الكفر; إذ كان ذلك سائغا جائزا في وقت وقوعه, لو أمضاه حاكم ما بين المسلمين جاز ولم يجز بعد ذلك فسخه وإنما اعتبر أبو حنيفة تراضيهما جميعا بأحكامنا من قبل قول الله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} فشرط مجيئهم, فلم يجز الحكم على أحدهما بمجيء الآخر.
فإن قال قائل: إذا رضي أحدهما بأحكامنا فقد لزمه حكم الإسلام فيصير بمنزلته لو أسلم فيحمل الآخر معه على حكم الإسلام. قيل له: هذا غلط, لأن رضاه بأحكامنا لا يلزمه ذلك إيجابا, ألا ترى أنه لو رجع عن الرضا قبل الحكم عليه لم يلزمه إياه وبعد الإسلام يمكنه الرضا بأحكامنا؟ وأيضا إذا لم يجز أن يعترض عليهم إلا بعد الرضا بحكمنا فمن لم يرض به مبقى على حكمه لا يجوز إلزامه حكما لأجل رضا غيره. وذهب محمد إلى أن رضا أحدهما يلزم الآخر حكم الإسلام كما لو أسلم. وذهب أبو يوسف إلى ظاهر قوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} .
قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} يعني: الله أعلم

(2/546)


فيما تحاكموا إليك فيه; فقيل: إنهم تحاكموا إليه في حد الزانيين, وقيل: في الدية بين بني قريظة وبني النضير; فأخبر تعالى أنهم لم يتحاكموا إليه تصديقا منهم بنبوته, وإنما طلبوا الرخصة; ولذلك قال: {وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ} يعني هم غير مؤمنين بحكمك أنه من عند الله مع جحدهم بنبوتك وعدولهم عما يعتقدونه حكما لله مما في التوراة. ويحتمل أنهم حين طلبوا غير حكم الله ولم يرضوا به فهم كافرون غير مؤمنين.
وقوله تعالى: {وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} يدل على أن حكم التوراة فيما اختصموا فيه لم يكن منسوخا, وأنه صار بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم شريعة لنا لم ينسخ; لأنه لو نسخ لم يطلق عليه بعد النسخ أنه حكم الله, كما لا يطلق أن حكم الله تحليل الخمر أو تحريم السبت. وهذا يدل على أن شرائع من قبلنا من الأنبياء لازمة لنا ما لم تنسخ, وأنها حكم الله بعد مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن الحسن في قوله تعالى: {فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ} بالرجم; لأنهم اختصموا إليه في حد الزنا. وقال قتادة: فيها حكم الله بالقود لأنهم اختصموا في ذلك. وجائز أن يكونوا تحاكموا إليه فيهما جميعا من الرجم والقود. قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} روي عن الحسن وقتادة وعكرمة والزهري والسدي, أن النبي صلى الله عليه وسلم مراد بقوله: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} قال أبو بكر: وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم على الزانيين منهم بالرجم وقال: "اللهم إني أول من أحيا سنة أماتوها" وكان ذلك في حكم التوراة; وحكم فيه بتساوي الديات وكان ذلك أيضا حكم التوراة; وهذا يدل على أنه حكم عليهم بحكم التوراة لا بحكم مبتدأ شريعة.
وقوله تعالى: {وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} قال ابن عباس: "شهداء على حكم النبي صلى الله عليه وسلم أنه في التوراة". وقال غيره: "شهداء على ذلك الحكم أنه من عند الله".
وقال عز وجل: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} قال فيه السدي: لا تخشوهم في كتمان ما أنزلت". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة: حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن قال: "إن الله تعالى أخذ على الحكام ثلاثا: أن لا يتبعوا الهوى, وأن يخشوه ولا يخشوا الناس, وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا". ثم قال: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [صّ: 26] الآية, وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} إلى قوله: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} فتضمنت هذه

(2/547)


الآية معاني: منها الإخبار بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم على اليهود بحكم التوراة. ومنها: أن حكم التوراة كان باقيا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن مبعث النبي صلى الله عليه وسلم لم يوجب نسخه; ودل ذلك على أن ذلك الحكم كان ثابتا لم ينسخ بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم. ومنها إيجاب الحكم بما أنزل الله تعالى وأن لا يعدل عنه ولا يحابي فيه مخافة الناس. ومنها: تحريم أخذ الرشا في الأحكام, وهو قوله تعالى: {وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} .
وقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} قال ابن عباس: "هو في الجاحد لحكم الله". وقيل: "هي في اليهود خاصة". وقال ابن مسعود والحسن وإبراهيم: "هي عامة" يعني فيمن لم يحكم بما أنزل الله وحكم بغيره مخبرا أنه حكم الله تعالى, ومن فعل هذا فقد كفر فمن جعلها في قوم خاصة وهم اليهود, لم يجعل" من" بمعنى الشرط, وجعلها بمعنى الذي لم يحكم بما أنزل الله, والمراد قوم بأعيانهم. وقال البراء بن عازب, وذكر قصة رجم اليهود فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} الآيات, إلى قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: "في اليهود خاصة" وقوله: {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} و {فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} " في الكفار كلهم". وقال الحسن: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} نزلت في اليهود وهي علينا واجبة. وقال أبو مجلز: "نزلت في اليهود". وقال أبو جعفر: نزلت في اليهود ثم جرت فينا". وروى سفيان عن حبيب بن أبي ثابت عن أبي البختري قال: قيل لحذيفة: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} نزلت في بني إسرائيل؟ قال: "نعم, الإخوة لكم بنو إسرائيل, إن كانت لكم كل حلوة ولهم كل مرة, ولتسلكن طريقهم قد الشراك". قال إبراهيم النخعي: "نزلت في بني إسرائيل ورضي لكم بها". وروى الثوري عن زكريا عن الشعبي قال الأولى للمسلمين والثانية لليهود والثالثة للنصارى". وقال طاوس: "ليس بكفر ينقل عن الملة" وروى طاوس عن ابن عباس قال: "ليس الكفر الذي يذهبون إليه في قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} "وقال ابن جريج عن عطاء كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق". وقال علي بن حسين رضي الله عنهما: "ليس بكفر شرك ولا ظلم شرك ولا فسق شرك".
قال أبو بكر: قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} لا يخلو من أن يكون مراده كفر الشرك والجحود أو كفر النعمة من غير جحود; فإن كان المراد جحود حكم الله أو الحكم بغيره مع الإخبار بأنه حكم الله, فهذا كفر يخرج عن الملة وفاعله مرتد إن كان قبل ذلك مسلما; وعلى هذا تأوله من قال: "إنها نزلت في بني

(2/548)


إسرائيل وجرت فينا" يعنون أن من جحد منا حكم الله أو حكم بغير حكم الله ثم قال إن هذا حكم الله, فهو كافر كما كفرت بنو إسرائيل حين فعلوا ذلك, وإن كان المراد به كفر النعمة فإن كفران النعمة قد يكون بترك الشكر عليها من غير جحود, فلا يكون فاعله خارجا من الملة; والأظهر هو المعنى الأول لإطلاقه اسم الكفر على من لم يحكم بما أنزل الله. وقد تأولت الخوارج هذه الآية على تكفير من ترك الحكم بما أنزل الله من غير جحود لها, وأكفروا بذلك كل من عصى الله بكبيرة أو صغيرة, فأداهم ذلك إلى الكفر والضلال بتكفيرهم الأنبياء بصغائر ذنوبهم.
قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} الآية فيه إخبار عما كتب الله على بني إسرائيل في التوراة لأن القصاص في النفس وفي الأعضاء المذكورة. وقد استدل أبو يوسف بظاهر هذه الآية على إيجاب القصاص بين الرجل والمرأة في النفس, لقوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} , وهذا يدل على أنه كان من مذهبه أن شرائع من كان قبلنا حكمها ثابت إلى أن يرد نسخها على لسان النبي صلى الله عليه وسلم أو بنص القرآن.
وقوله في نسق الآية: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} دليل على ثبوت هذا الحكم في وقت نزول هذه الآية من وجهين: أحدهما: أنه قد ثبت أن ذلك مما أنزل الله ولم يفرق بين شيء من الأزمان, فهو ثابت في كل الأزمان إلى أن يرد نسخه. والثاني: معلوم أنهم استحقوا سمة الظلم والفسق في وقت نزول الآية لتركهم الحكم بما أنزل الله تعالى من ذلك وقت نزول الآية, إما جحودا له أو تركا لفعل ما أوجب الله من ذلك, وهذا يقتضي وجوب القصاص في سائر النفوس ما لم تقم دلالة نسخه أو تخصيصه.
وقوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} معناه عند أصحابنا في العين إذا ضربت فذهب ضوءها, وليس هو على أن تقلع عينه; هذا عندهم لا قصاص فيه لتعذر استيفاء القصاص في مثله, ألا ترى أنا لا نقف على الحد الذي يجب قلعه منها؟ فهو كمن قطع قطعة لحم من فخذ رجل أو ذراعه أو قطع بعض فخذه, فلا يجب فيه القصاص; وإنما القصاص عندهم فيما قد ذهب ضوءها وهي قائمة أن تشد عينه الأخرى وتحمى له مرآة فتقدم إلى العين التي فيها القصاص حتى يذهب ضوءها.
وأما قوله تعالى: {وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} فإن أصحابنا قالوا: إذا قطعه من أصله فلا قصاص فيه; لأنه عظم لا يمكن استيفاء القصاص فيه, كما لو قطع يده من نصف الساعد وكما لو قطع رجله من نصف الفخذ لا خلاف في سقوط القصاص فيه لتعذر استيفاء

(2/549)


المثل; والقصاص هو أخذ المثل, فمتى لم يكن كذلك لم يكن قصاصا. وقالوا: إنما يجب القصاص في الأنف إذا قطع المارن, وهو ما لان منه ونزل عن قصبة الأنف. وروي عن أبي يوسف أن في الأنف إذا استوعب القصاص, وكذلك الذكر واللسان. وقال محمد: "لا قصاص في الأنف واللسان والذكر إذا استوعب".
وقوله تعالى: {وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ} فإنه يقتضي وجوب القصاص فيها إذا استوعبت لإمكان استيفائه, وإذا قطع بعضها فإن أصحابنا قالوا: "فيه القصاص إذا كان يستطاع ويعرف قدره".
وقوله عز وجل: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} فإن أصحابنا قالوا: لا قصاص في عظم إلا السن, فإن قلعت أو كسر بعضها ففيها القصاص, لإمكان استيفائه, إن كان الجميع فبالقلع كما يقتص من اليد من المفصل, وإن كان البعض فإنه يبرد بمقداره بالمبرد, فيمكن استيفاء القصاص فيه. وأما سائر العظام فغير ممكن استيفاء القصاص فيها لأنه لا يوقف على حده; وقد اقتضى ما نص الله تعالى في هذه الأعضاء أن يؤخذ الكبير من هذه الأعضاء بصغيرها, والصغير بالكبير, بعد أن يكون المأخوذ منه مقابلا لما جني عليه لا غيره.
وقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} يعني إيجاب القصاص في سائر الجراحات التي يمكن استيفاء المثل فيها. ودل به على نفي القصاص فيما لا يمكن استيفاء المثل فيه لأن قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} يقتضي أخذ المثل سواء, ومتى لم يكن مثله فليس بقصاص.
وقد اختلف الفقهاء في أشياء من ذلك, منها القصاص بين الرجال والنساء فيما دون النفس, وقد بيناه في سورة البقرة, وكذلك بين العبيد والأحرار

(2/550)


ذكر الخلاف في ذلك
قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والشافعي: "لا تؤخذ اليمنى باليسرى لا في العين ولا في اليد, ولا تؤخذ السن إلا بمثلها من الجاني". وقال ابن شبرمة" تفقأ العين اليمنى باليسرى واليسرى باليمنى وكذلك اليدان, وتؤخذ الثنية بالضرس والضرس بالثنية". وقال الحسن بن صالح: "إذا قطع أصبعا من كف فلم يكن للقاطع من تلك الكف أصبع مثلها قطع مما يلي تلك الأصبع, ولا يقطع أصبع كف بأصبع كف أخرى, وكذلك تقلع السن التي تليها إذا لم تكن للقاطع سن مثلها وإن بلغ ذلك الأضراس, وتفقأ العين اليمنى باليسرى إذا لم تكن له يمنى, ولا تقطع اليد اليمنى باليسرى ولا اليسرى باليمنى".

(2/550)


قال أبو بكر: لا خلاف أنه إذا كان ذلك العضو من الجاني باقيا, لم يكن للمجني عليه استيفاء القصاص من غيره ولا يعدو ما قابله من عضو الجاني إلى غيره مما بإزائه وإن تراضيا به, فدل ذلك على أن المراد بقوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} إلى آخر الآية استيفاء مثله مما يقابله من الجاني, فغير جائز إذا كان كذلك أن يتعدى إلى غيره, سواء كان مثله موجودا من الجاني أو معدوما, ألا ترى أنه إذا لم يكن له أن يعدو اليد إلى الرجل لم يختلف حكمه أن تكون يد الجاني موجودة أو معدومة في امتناع تعديه إلى الرجل؟ وأيضا فإن القصاص استيفاء المثل, وليست هذه الأعضاء مماثلة, فغير جائز أن يستوعبها ولم يختلفوا أن اليد الصحيحة لا تؤخذ بالشلاء وأن الشلاء تؤخذ بالصحيحة, وذلك لقوله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وفي أخذ الصحيحة بالشلاء استيفاء أكثر مما قطع; وأما أخذ الشلاء بالصحيحة فهو جائز لأنه رضي بدون حقه.
واختلف في القصاص في العظم, فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد: "لا قصاص في عظم ما خلا السن". وقال الليث والشافعي مثل ذلك, ولم يستثنيا السن. وقال ابن القاسم عن مالك: عظام الجسد كلها فيها القود إلا ما كان منها مجوفا مثل الفخذ وما أشبهه فلا قود فيه, وليس في الهاشمة قود وكذلك المنقلة, وفي الذراعين والعضد والساقين والقدمين والكعبين والأصابع إذا كسرت ففيها القصاص". وقال الأوزاعي: "ليس في المأمومة قصاص".
قال أبو بكر: لما اتفقوا على نفي القصاص في عظم الرأس كذلك سائر العظام, وقال الله تعالى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وذلك غير ممكن في العظام. وروى حماد بن سلمة عن عمرو بن دينار عن ابن الزبير: أنه اقتص من مأمومة, فأنكر ذلك عليه; ومعلوم أن المنكرين كانوا الصحابة ولا خلاف أيضا أنه لو ضرب أذنه فيبست أنه لا يضرب أذنه حتى تيبس; لأنه لا يوقف على مقدار جنايته; فكذلك العظام. وقد بينا وجوب القصاص في السن فيما تقدم.
قوله تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} روي عن عبد الله بن عمر والحسن وقتادة وإبراهيم رواية والشعبي رواية: "أنها كفارة لولي القتيل وللمجروح إذا عفوا". وقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم رواية والشعبي رواية: "هو كفارة للجاني" كأنهم جعلوه بمنزلة المستوفي لحقه, ويكون الجاني كأنه لم يجن. وهذا محمول على أن الجاني تاب من جنايته لأنه لو كان مصرا عليه فعقوبته عند الله فيما ارتكب من نهيه قائمة. والقول الأول هو الصحيح; لأن قوله تعالى راجع إلى المذكور, وهو قوله: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} فالكفارة واقعة لمن تصدق, ومعناه كفارة لذنوبه.

(2/551)


قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} قال أبو بكر: فيه دلالة على أن ما لم ينسخ من شرائع الأنبياء المتقدمين فهو ثابت, على معنى أنه صار شريعة للنبي صلى الله عليه وسلم لقوله: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْأِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ} ومعلوم أنه لم يرد أمرهم باتباع ما أنزل الله في الإنجيل إلا على أنهم يتبعون النبي صلى الله عليه وسلم لأنه صار شريعة له; لأنهم لو استعملوا ما في الإنجيل مخالفين للنبي صلى الله عليه وسلم غير متبعين له لكانوا كفارا, فثبت بذلك أنهم مأمورون باستعمال أحكام تلك الشريعة على معنى أنها قد صارت شريعة للنبي عليه السلام.
قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: "مهيمنا يعني أمينا" وقيل: شاهدا, وقيل: حفيظا, وقيل: مؤتمنا والمعنى فيه أنه أمين عليه, ينقل إلينا ما في الكتب المتقدمة على حقيقته من غير تحريف ولا زيادة ولا نقصان; لأن الأمين على الشيء مصدق عليه, وكذلك الشاهد. وفي ذلك دليل على أن كل من كان مؤتمنا على شيء فهو مقبول القول فيه, من نحو الودائع والعواري والمضاربات ونحوها; لأنه حين أنبأ عن وجوب التصديق بما أخبر به القرآن عن الكتب المتقدمة سماه أمينا عليها, وقد بين الله تعالى في سورة البقرة أن الأمين مقبول القول فيما اؤتمن فيه, وهو قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ} [البقرة: 283] وقال: {وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} [البقرة: 282] فلما جعله أمينا فيه وعظه بترك البخس.
وقد اختلف في المراد بقوله: {وَمُهَيْمِناً} فقال ابن عباس: "هو الكتاب, وفيه إخبار بأن القرآن مهيمن على الكتب المتقدمة شاهد عليها". وقال مجاهد: "أراد به النبي" صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} يدل على نسخ التخيير على ما تقدم من بيانه.
قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} يدل على بطلان قول من يردهم إلى الكنيسة أو البيعة للاستحلاف, لما فيه من تعظيم الموضع وهم يهوون ذلك; وقد نهى الله تعالى عن اتباع أهوائهم. ويدل على بطلان قول من يردهم إلى دينهم لما فيه من اتباع أهوائهم والاعتداد بأحكامهم, ولأن ردهم إلى أهل دينهم إنما هو رد لهم ليحكموا فيهم بما هو كفر بالله عز وجل; إذ كان حكمهم بما يحكمون به كفرا بالله وإن كان موافقا لما أنزل في التوراة والإنجيل لأنهم مأمورون بتركه واتباع شريعة النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} الشرعة والشريعة واحد, ومعناها

(2/552)


الطريق إلى الماء الذي فيه الحياة, فسمى الأمور التي تعبد الله بها من جهة السمع شريعة وشرعة لإيصالها العاملين بها إلى الحياة الدائمة في النعيم الباقي.
قوله تعالى: {وَمِنْهَاجاً} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: "سنة وسبيلا". ويقال طريق نهج إذا كان واضحا. قال مجاهد: "وأراد بقوله: شرعة القرآن, لأنه لجميع الناس" وقال قتادة وغيره شريعة التوراة وشريعة الإنجيل وشريعة القرآن". وهذا يحتج به من نفى لزوم شرائع من قبلنا إيانا وإن لم يثبت نسخها لإخباره بأنه جعل لكل نبي من الأنبياء شرعة ومنهاجا. وليس فيه دليل على ما قالوا; لأن ما كان شريعة لموسى عليه السلام فلم ينسخ إلى أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم فقد صارت شريعة للنبي عليه السلام وكان فيما سلف شريعة لغيره; فلا دلالة في الآية على اختلاف أحكام الشرائع. وأيضا فلا يختلف أحد في تجويز أن يتعبد الله رسوله بشريعة موافقة لشرائع من كان قبله من الأنبياء, فلم ينف قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} أن تكون شريعة النبي عليه السلام موافقة لكثير من شرائع الأنبياء المتقدمين. وإذا كان كذلك, فالمراد فيما نسخ من شرائع المتقدمين من الأنبياء وتعبد النبي صلى الله عليه وسلم بغيرها, فكان لكل منكم شرعة غير شرعة الآخر.
قوله عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} قال الحسن: "لجعلكم على الحق", وهذه مشيئة القدرة على إجبارهم على القول بالحق, ولكنه لو فعل لم يستحقوا ثوابا, وهو كقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [السجدة: 13] وقال قائلون: "معناه: ولو شاء الله لجمعهم على شريعة واحدة في دعوة جميع الأنبياء".
قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} معناه الأمر بالمبادرة بالخيرات التي تعبدنا بها قبل الفوات بالموت وهذا يدل على أن تقديم الواجبات أفضل من تأخيرها, نحو قضاء رمضان والحج والزكاة وسائر الواجبات لأنها من الخيرات.

(2/553)


مطلب: الصوم في السفر أفضل من الإفطار
فإن قيل: فهو يدل على أن فعل الصلاة في أول الوقت أفضل من تأخيرها, لأنها من الواجبات في أول الوقت. قيل له: ليست من الواجبات في أول الوقت, والآية مقتضية للوجوب, فهي فيما قد وجب وألزم; وفي ذلك دليل على أن الصوم في السفر أفضل من الإفطار لأنه من الخيرات.
وقد أمر الله بالمبادرة بالخيرات. وقوله تعالى في هذا الموضع: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} ليس بتكرار لما تقدم من مثله لأنهما نزلا في شيئين مختلفين: أحدهما: في شأن الرجم, والآخر: في

(2/553)


التسوية بين الديات حين تحاكموا إليه في الأمرين.
قوله تعالى: {وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} قال ابن عباس: "أراد أنهم يفتنونه بإضلالهم إياه عما أنزل الله إلى ما يهوون من الأحكام, إطماعا منهم له في الدخول في الإسلام". وقال غيره: "إضلالهم بالكذب على التوراة بما ليس فيها فقد بين الله تعالى حكمه".
قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ} ذكر البعض والمراد الجميع, كما يذكر لفظ العموم والمراد الخصوص, وكما قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} والمراد جميع المسلمين بقوله: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} وفيه أن المراد الإخبار عن تغليظ العقاب في أن بعض ما يستحقونه به يهلكهم. وقيل: "أراد تعجيل البعض بتمردهم وعتوهم". وقال الحسن: "أراد ما عجله من إجلاء بني النضير وقتل بني قريظة".
قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} فيه وجهان: أحدهما: أنه خطاب لليهود لأنهم كانوا إذا وجب الحكم على ضعفائهم ألزموهم إياه, وإذا وجب على أغنيائهم لم يأخذوهم به; فقيل لهم: أفحكم عبدة الأوثان تبغون وأنتم أهل الكتاب وقيل: إنه أريد به كل من خرج عن حكم الله إلى حكم الجاهلية, وهو ما يقدم عليه فاعله بجهالة من غير علم.
قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً} إخبار عن حكمه بالعدل والحق من غير محاباة; وجائز أن يقال إن حكما أحسن من حكم كما لو خير بين حكمين نصا وعرف أن أحدهما أفضل من الآخر كان الأفضل أحسن. وكذلك قد يحكمه المجتهد بما غيره أولى منه, لتقصير منه في النظر أو لتقليده من قصر فيه.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} روي عن عكرمة أنها نزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر لما تنصح إلى بني قريظة وأشار إليهم بأنه الذبح. وقال السدي: لما كان بعد أحد خاف قوم من المشركين, حتى قال رجل: أو إلى اليهود, وقال آخر: أو إلى النصارى; فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال عطية بن سعد: "نزلت في عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي ابن سلول, لما تبرأ عبادة من موالاة اليهود وتمسك بها عبد الله بن أبي وقال أخاف الدوائر". والولي هو الناصر; لأنه يلي صاحبه بالنصرة, وولي الصغير لأنه يتولى التصرف عليه بالحياطة, وولي المرأة عصبتها لأنهم يتولون عليها عقد النكاح.

(2/554)


مطلب: الكافر لا يكون وليل للمسلم
وفي هذه الآية دلالة على أن الكافر لا يكون وليا للمسلم لا في التصرف ولا في النصرة; ويدل على وجوب البراءة من الكفار والعداوة لهم; لأن الولاية ضد العداوة, فإذا أمرنا بمعاداة اليهود والنصارى لكفرهم فغيرهم من الكفار بمنزلتهم. ويدل على أن الكفر كله ملة واحدة, لقوله تعالى: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} على أن اليهودي يستحق الولاية على النصراني في الحال التي كان يستحقها لو كان المولى عليه يهوديا, وهو أن يكون صغيرا أو مجنونا وكذلك الولاية بينهما في النكاح هو على هذا السبيل. ومن حيث دلت على كون بعضهم أولياء بعض فهو يدل على إيجاب التوارث بينهما, وعلى ما ذكرنا من كون الكفر كله ملة واحدة وإن اختلفت مذاهبه وطرقه. وقد دل على جواز مناكحة بعضهم لبعض, اليهودي للنصرانية والنصراني لليهودية. وهذا الذي ذكرنا إنما هو في أحكامهم فيما بينهم, وأما فيما بينهم وبين المسلمين فيختلف حكم الكتابي وغير الكتابي في جواز المناكحة وأكل الذبيحة.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} يدل على أن حكم نصارى بني تغلب حكم نصارى بني إسرائيل في أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم وروي ذلك عن ابن عباس والحسن وقوله: {مِنْكُمْ} يجوز أن يريد به العرب لأنه لو أراد المسلمين لكانوا إذا تولوا الكفار صاروا مرتدين, والمرتد إلى النصرانية واليهودية لا يكون منهم في شيء من أحكامهم, ألا ترى أنه لا تؤكل ذبيحته وإن كانت امرأة لم يجز نكاحها ولا يرثهم ولا يرثونه ولا يثبت بينهما شيء من حقوق الولاية؟ وزعم بعضهم أن قوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} يدل على أن المسلم لا يرث المرتد لإخبار الله أنه ممن تولاه من اليهود والنصارى ومعلوم أن المسلم لا يرث اليهودي ولا النصراني, فكذلك لا يرث المرتد قال أبو بكر: وليس فيه دلالة على ما ذكرنا; لأنه لا خلاف أن المرتد إلى اليهودية لا يكون يهوديا والمرتد إلى النصرانية لا يكون نصرانيا, ألا ترى أنه لا تؤكل ذبيحته ولا يجوز تزويجها إن كانت امرأة وأنه لا يرث اليهودي ولا يرثه؟ فكما لم يدل ذلك على إيجاب التوارث بينه وبين اليهودي والنصراني, كذلك لا يدل على أن المسلم لا يرثه, وإنما المراد أحد وجهين: إن كان الخطاب لكفار العرب فهو دال على أن عبدة الأوثان من العرب إذا تهودوا أو تنصروا كان حكمهم حكمهم في جواز المناكحة وأكل الذبيحة والإقرار على الكفر بالجزية, وإن كان الخطاب للمسلمين فهو إخبار بأنه كافر مثلهم بموالاته إياهم, فلا دلالة فيه على حكم الميراث.
فإن قال قائل: لما كان ابتداء الخطاب في المؤمنين; لأنه قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا

(2/555)


لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} لم يحتمل أن يريد بقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} مشركي العرب. قيل له: لما كان المخاطبون بأول الآية في ذلك الوقت هم العرب, جاز أن يريد بقوله: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ} العرب, فيفيد أن مشركي العرب إذا تولوا اليهود أو النصارى بالديانة والانتساب إلى الملة يكونون في حكمهم وإن لم يتمسكوا بجميع شرائع دينهم. ومن الناس من يقول فيمن اعتقد من أهل ملتنا بعض المذاهب الموجبة لإكفار معتقديها: إن الحكم بإكفاره لا يمنع أكل ذبيحته ومناكحة المرأة منهم إذا كانوا منتسبين إلى ملة الإسلام, وإن كفروا باعتقادهم لما يعتقدونه من المقالة الفاسدة; إذ كانوا في الجملة متولين لأهل الإسلام منتسبين إلى حكم القرآن, كما أن من انتحل النصرانية أو اليهودية كان حكمه حكمهم وإن لم يكن متمسكا بجميع شرائعهم, ولقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} وكان أبو الحسن الكرخي ممن يذهب إلى ذلك.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} قال الحسن وقتادة والضحاك وابن جريج: "نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومن قاتل معه أهل الردة". وقال السدي: "هي في الأنصار". وقال مجاهد: "في أهل اليمن". وروى شعبة عن سماك بن حرب عن عياض الأشعري قال: "لما نزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ} أومأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء معه إلى أبي موسى, فقال هم قوم هذا".

(2/556)


مطلب: الدليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعلي رضي الله عنهم
في الآية دلالة على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وذلك لأن الذين ارتدوا من العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إنما قاتلهم أبو بكر وهؤلاء الصحابة, وقد أخبر الله أنه يحبهم ويحبونه وأنهم يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم, ومعلوم أن من كانت هذه صفته فهو ولي الله. ولم يقاتل المرتدين بعد النبي صلى الله عليه وسلم غير هؤلاء المذكورين وأتباعهم; ولا يتهيأ لأحد أن يجعل الآية في غير المرتدين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم من العرب ولا في غير هؤلاء الأئمة; لأن الله تعالى لم يأت بقوم يقاتلون المرتدين المذكورين في الآية غير هؤلاء الذين قاتلوا مع أبي بكر.

(2/556)


مطلب: الدليل على صحة إمامة إبي بكر رضي الله عنه
ونظير ذلك أيضا في دلالته على صحة إمامة أبي بكر قوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً} [الفتح: 16] لأنه كان الداعي لهم إلى قتال أهل الردة, وأخبر تعالى

(2/556)


باب العمل اليسير في الصلاة
قال الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} روي عن مجاهد والسدي وأبي جعفر وعتبة بن أبي حكيم: أنها نزلت في علي بن أبي طالب حين تصدق بخاتمه وهو راكع وروي عن الحسن أنه قال: "هذه الآية صفة جميع المسلمين; لأن قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} صفة للجماعة وليست للواحد". وقد اختلف في معنى قوله {وَهُمْ رَاكِعُونَ} فقيل فيه: إنهم كانوا على هذه الصفة في وقت نزول الآية, منهم من قد أتم الصلاة ومنهم من هو راكع في الصلاة. وقال آخرون: "معنى {وَهُمْ رَاكِعُونَ} أن ذلك من شأنهم, وأفرد الركوع بالذكر تشريفا له". وقال آخرون: "معناه أنهم يصلون بالنوافل كما يقال فلان يركع أي يتنفل". فإن كان المراد فعل الصدقة في حال الركوع فإنه يدل على إباحة العمل اليسير في الصلاة, وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار في إباحة العمل اليسير فيها, فمنها أنه خلع نعليه في الصلاة, ومنها أنه مس لحيته وأنه أشار بيده, ومنها حديث ابن عباس أنه قام على يسار النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بذؤابته وأداره إلى يمينه, ومنها أنه كان يصلي وهو حامل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع, فإذا سجد وضعها وإذا رفع رأسه حملها. فدلالة الآية ظاهرة في إباحة الصدقة في الصلاة لأنه إن كان المراد الركوع فكان تقديره: "الذين يتصدقون في حال الركوع فقد دلت على إباحة الصدقة في هذه الحال, وإن كان المراد وهم يصلون فقد دلت على إباحتها في سائر أحوال الصلاة; فكيفما تصرفت الحال فالآية دالة على إباحة الصدقة في الصلاة.

(2/557)


فإن قال قائل: فالمراد أنهم يتصدقون ويصلون, ولم يرد به فعل الصدقة في الصلاة. قيل له: هذا تأويل ساقط, من قبل أن قوله تعالى {وَهُمْ رَاكِعُونَ} إخبار عن الحال التي تقع فيها الصدقة, كقولك: تكلم فلان وهو قائم, وأعطى فلانا وهو قاعد, إنما هو إخبار عن حال الفعل وأيضا لو كان المراد ما ذكرت, كان تكرارا لما تقدم ذكره في أول الخطاب. قوله تعالى: {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ} ويكون تقديره: "الذين يقيمون الصلاة ويصلون" وهذا لا يجوز في كلام الله تعالى فثبت أن المعنى ما ذكرنا من مدح الصدقة في حال الركوع أو في حال الصلاة وقوله تعالى: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} يدل على أن صدقة التطوع تسمى زكاة لأن عليا تصدق بخاتمه تطوعا وهو نظير قوله تعالى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] انتظم صدقة الفرض والنفل فصار اسم الزكاة يتناول الفرض والنفل كاسم الصدقة وكاسم الصلاة ينتظم الأمرين.

(2/558)


باب الاذان
قال الله تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً} قد دلت هذه الآية على أن للصلاة أذانا يدعى به الناس إليها; ونحوه قوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]. وقد روى عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن معاذ قال: كانوا يجتمعون للصلاة لوقت يعرفونه ويؤذن بعضهم بعضا, حتى نقسوا1 أو كادوا أن ينقسوا, فجاء عبد الله بن زيد الأنصاري وذكر الأذان, فقال عمر: قد طاف بي الذي طاف به ولكنه سبقني. وروى الزهري عن سالم عن أبيه قال: استشار النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين على ما يجمعهم في الصلاة, فقالوا البوق; فكرهه من أجل اليهود وذكر قصة عبد الله بن زيد وأن عمر رأى مثل ذلك. فلم يختلفوا أن الأذان لم يكن مسنونا قبل الهجرة, وأنه إنما سن بعدها. وقد روى أبو يوسف عن محمد بن بشر الهمداني قال: سألت محمد بن علي عن الأذان كيف كان أوله وما كان؟ فقال: شأن الأذان أعظم من ذلك, ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أسري به جمع النبيون ثم نزل ملك من السماء لم ينزل قبل ليلته فأذن كأذانكم وأقام كإقامتكم ثم صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنبيين. قال أبو بكر ليلة أسري به كان بمكة, وقد صلى بالمدينة بغير أذان واستشار أصحابه فيما يجمعهم به للصلاة, ولو كانت تبدئة الأذان قد تقدمت قبل الهجرة لما استشار فيه وقد ذكر معاذ وابن عمر في قصة الأذان ما ذكرنا.
ـــــــ
1 قوله: "نقسوا" مض من النقس بفتح النون وسكون القاف, ومعناه الضرب بالناقوس. "لمصححه".

(2/558)


والأذان مسنون لكل صلاة مفروضة منفردا كان المصلي أو في جماعة, إلا أن أصحابنا قالوا جائز للمقيم المنفرد أن يصلي بغير أذان; لأن أذان الناس دعاء له, فيكتفي به; والمسافر يؤذن ويقيم, وإن اقتصر على الإقامة دون الأذان أجزأه, ويكره له أن يصلي بغير أذان ولا إقامة; لأنه لم يكن هناك أذان يكون دعاء له. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من صلى في أرض بأذان وإقامة صلى خلفه صف من الملائكة لا يرى طرفاه" وهذا يدل على أن من سنة صلاة المنفرد الأذان. وقال في خبر آخر: " إذا سافرتما فأذنا وأقيما" وقد ذكرنا الأذان والإقامة والاختلاف فيهما في غير هذا الكتاب.

(2/559)


مطلب: في الاستعانة بالمشركين
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً} فيه نهي عن الاستنصار بالمشركين; لأن الأولياء هم الأنصار. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حين أراد الخروج إلى أحد جاء قوم من اليهود وقالوا: نحن نخرج معك, فقال: "إنا لا نستعين بمشرك" , وقد كان كثير من المنافقين يقاتلون مع النبي صلى الله عليه وسلم المشركين. وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أبو مسلم: حدثنا حجاج: حدثنا حماد عن محمد بن إسحاق عن الزهري: أن ناسا من اليهود غزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقسم لهم كما قسم للمسلمين. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أيضا ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسدد ويحيى بن معين قالا: حدثنا يحيى عن مالك عن الفضل عن عبد الله بن نيار عن عروة عن عائشة قال يحيى: إن رجلا من المشركين لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقاتل معه فقال: ارجع ثم اتفقا فقال: "إنا لا نستعين بمشرك" .
وقال أصحابنا: لا بأس بالاستعانة بالمشركين على قتال غيرهم من المشركين إذا كانوا متى ظهروا كان حكم الإسلام هو الظاهر, فأما إذا كانوا لو ظهروا كان حكم الشرك هو الغالب فلا ينبغي للمسلمين أن يقاتلوا معهم. ومستفيض في أخبار أهل السير ونقلة المغازي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يغزو ومعه قوم من اليهود في بعض الأوقات وفي بعضها قوم من المشركين. وأما وجه الحديث الذي قال فيه: "إنا لا نستعين بمشرك" فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يثق بالرجل وظن أنه عين للمشركين, فرده وقال: "إنا لا نستعين بمشرك" يعني به من كان في مثل حاله.
قوله تعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ} قيل فيه: إن معناه" هلا" وهي تدخل للماضي والمستقبل, فإذا كانت للمستقبل فهي في معنى الأمر, كقوله: "لم لا تفعل" وهي ههنا للمستقبل, يقول: هلا ينهاهم ولم لا ينهاهم وإذا كانت

(2/559)


للماضي فهو للتوبيخ, كقوله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً} [النور: 12]. وقيل في الرباني: إنه العالم بدين الرب, فنسب إلى الرب, كقولهم: "روحاني" في النسبة إلى الروح, "وبحراني" في النسبة إلى البحر. وقال الحسن: "الربانيون علماء أهل الإنجيل, والأحبار علماء أهل التوراة". وقال غيره: "هو كله في اليهود; لأنه متصل بذكرهم". وذكر لنا أبو عمر غلام ثعلب عن ثعلب قال: "الرباني العالم العامل". وقد اقتضت الآية وجوب إنكار المنكر بالنهي عنه والاجتهاد في إزالته, لذمه من ترك ذلك.
قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} . روي عن ابن عباس وقتادة والضحاك أنهم وصفوه بالبخل وقالوا: هو مقبوض العطاء, كقوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الاسراء: 29]. وقال الحسن: "قالوا هي مقبوضة عن عقابنا".

(2/560)


مطلب: في معاني اليد
واليد في اللغة تنصرف على وجوه: منها الجارحة وهي معروفة. ومنها النعمة, تقول: لفلان عندي يد أشكره عليها, أي نعمة ومنها القوة. فقوله أُولِي الْأَيْدِي فسروه بأولي القوى; ونحوه قول الشاعر:
تحملت من ذلفاء ما ليس لي به ... ولا للجبال الراسيات يدان
ومنها الملك, ومنه قوله: {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] يعني يملكها. ومنها الاختصاص بالفعل, كقوله تعالى: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [صّ: 75] أي توليت خلقه. ومنها التصرف, كقولك: "هذه الدار في يد فلان" يعني التصرف فيها بالسكنى أو الإسكان ونحو ذلك. وقيل: إنه قال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ} على وجه التثنية; لأنه أراد نعمتين: إحداهما نعمة الدنيا, والأخرى نعمة الدين. والثاني: قوتاه بالثواب والعقاب, على خلاف قول اليهود, لأنه لا يقدر على عقابنا. وقيل: إن التثنية للمبالغة في صفة النعمة, كقولك: "لبيك وسعديك". وقيل في قوله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} يعني في جهنم; روي عن الحسن.
قوله تعالى: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} فيه إخبار بغلبة المسلمين لليهود الذين تقدم ذكرهم في قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} , وفيه دلالة على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر به عن الغيب مع كثرة اليهود وشدة شوكتهم; وقد كان من

(2/560)


حول المدينة منهم تقاوم العرب في الحروب التي كانت تكون بينهم في الجاهلية, فأخبر الله تعالى في هذه الآية بظهور المسلمين عليهم, فكان مخبره على ما أخبر به, فأجلى النبي صلى الله عليه وسلم بني قينقاع وبني النضير وقتل بني قريظة وفتح خيبر عنوة وانقادت له سائر اليهود صاغرين حتى لم تبق منهم فئة تقاتل المسلمين. وإنما ذكر النار ههنا عبارة عن الاستعداد للحرب والتأهب لها, على مذهب العرب في إطلاق اسم النار في هذا الموضع; ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك" قيل: لم يا رسول الله؟ قال: "لا ترايا ناراهما" ; وإنما عنى بها نار الحرب, يعني أن حرب المشركين للشيطان وحرب المسلمين لله تعالى فلا يتفقان. وقيل: إن الأصل في العبارة باسم النار عن الحرب, أن القبيلة الكبيرة من العرب كانت إذا أرادت حرب أخرى منها أوقدت النيران على رءوس الجبال والمواضع المرتفعة التي تعم القبيلة رؤيتها, فيعلمون أنهم قد ندبوا إلى الاستعداد للحرب والتأهب لها فاستعدوا وتأهبوا, فصار اسم النار في هذا الموضع مفيدا للتأهب للحرب. وقد قيل فيه وجه آخر, وهو أن القبائل كانت إذا رأت التحالف على التناصر على غيرهم والجد في حربهم وقتالهم, أوقدوا نارا عظيمة ثم قربوا منها وتحالفوا بحرمان منافعها إن هم غدروا أو نكلوا عن الحرب; وقال الأعشى:
وأوقدت للحرب نارا.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} فيه أمر للنبي صلى الله عليه وسلم بتبليغ الناس جميعا ما أرسله به إليهم من كتابه وأحكامه, وأن لا يكتم منه شيئا خوفا من أحد ولا مداراة له, وأخبر أنه إن ترك تبليغ شيء منه فهو كمن لم يبلغ شيئا, بقوله تعالى: {وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} فلا يستحق منزلة الأنبياء القائمين بأداء الرسالة وتبليغ الأحكام. وأخبر تعالى أنه يعصمه من الناس حتى لا يصلوا إلى قتله ولا قهره ولا أسره, بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وفي ذلك إخبار أنه لم يكن تقية من إبلاغ جميع ما أرسل به إلى جميع من أرسل إليهم وفيه الدلالة على بطلان قول الرافضة في دعواهم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم بعض المبعوثين إليهم على سبيل الخوف والتقية; لأنه تعالى قد أمره بالتبليغ, وأخبر أنه ليس عليه تقية بقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} . وفيه دلالة على أن كل ما كان من الأحكام بالناس إليه حاجة عامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلغه الكافة وأن وروده ينبغي أن يكون من طريق التواتر, نحو الوضوء من مس الذكر ومن مس المرأة ومما مسته النار ونحوها, لعموم البلوى بها; فإذا لم نجد ما كان منها بهذه المنزلة واردا من طريق التواتر علمنا أن الخبر غير ثابت في الأصل, أو تأويله ومعناه غير ما اقتضاه ظاهره من نحو الوضوء الذي هو غسل اليد دون وضوء الحدث.

(2/561)


مطلب: في الدليل على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم
وقد دل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} على صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم; إذ كان من أخبار الغيوب التي وجد مخبرها على ما أخبر به; لأنه لم يصل إليه أحد بقتل ولا قهر ولا أسر مع كثرة أعدائه المحاربين له مصالتة والقصد لاغتياله مخادعة, نحو ما فعله عامر بن الطفيل وأربد فلم يصلا إليه; ونحو ما قصده به عمير بن وهب الجمحي بمواطأة من صفوان بن أمية, فأعلمه الله إياه, فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عمير بن وهب بما تواطأ هو وصفوان بن أمية عليه وهما في الحجر من اغتياله, فأسلم عمير وعلم أن مثله لا يكون إلا من عند الله تعالى عالم الغيب والشهادة, ولو لم يكن ذلك من عند الله لما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم الناس ولا ادعى أنه معصوم من القتل والقهر من أعدائه وهو لا يأمن أن يوجد ذلك على خلاف ما أخبر به فيظهر كذبه مع غناه عن الإخبار بمثله. وأيضا لو كانت هذه الأخبار من عند غير الله لما اتفق في جميعها وجود مخبراتها على ما أخبر به, إذ لا يتفق مثلها في أخبار الناس إذا أخبروا عما يكون على جهة الحدس والتخمين وتعاطي علم النجوم والرزق والفأل ونحوها, فلما اتفق جميع ما أخبر به عنه من الكائنات في المستأنف على ما أخبر به ولا تخلف شيء منها, علمنا أنها من عند الله العالم بما كان وما يكون قبل أن يكون.
قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْأِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} فيه أمر لأهل الكتاب بالعمل بما في التوراة والإنجيل; لأن إقامتهما هو العمل بهما وبما في القرآن أيضا; لأن قوله تعالى: {وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} حقيقته تقتضي أن يكون المراد ما أنزل الله على رسوله, فكان خطابا لهم, وإن كان محتملا لأن يكون المراد ما أنزل الله على آبائهم في زمان الأنبياء المتقدمين. وقوله تعالى: {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ} مقتضاه: لستم على شيء من الدين الحق حتى تعملوا بما في التوراة والإنجيل والقرآن. وفي هذا دلالة على أن شرائع الأنبياء المتقدمين ما لم ينسخ منها قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم فهو ثابت الحكم مأمور به وأنه قد صار شريعة لنبينا عليه السلام لولا ذلك لما أمروا بالثبات عليه والعمل به.
فإن قال قائل: معلوم نسخ كثير من شرائع الأنبياء المتقدمين على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم فجائز إذا كان هذا هكذا أن تكون هذه الآية نزلت بعد نسخ كثير منها, ويكون معناها الأمر بالإيمان على ما في التوراة والإنجيل من صفة النبي صلى الله عليه وسلم ومبعثه وبما في القرآن من الدلالة المعجزة الموجبة لصدقه, وإذا احتملت الآية ذلك لم تدل على بقاء شرائع الأنبياء المتقدمين. قيل له: لا تخلو هذه الآية من أن تكون نزلت قبل نسخ شرائع الأنبياء

(2/562)


المتقدمين فيكون فيها أمر باستعمالها وإخبار ببقاء حكمها, أو أن تكون نزلت بعد نسخ كثير منها; فإن كان كذلك فإن حكمها ثابت فيما لم ينسخ منها, كاستعمال حكم العموم فيما لم تقم دلالة خصوصه واستعمالها فيما لا يجوز فيه النسخ من وصف النبي صلى الله عليه وسلم وموجبات أحكام العقول فلم تخل الآية من الدلالة على بقاء حكم ما لم ينسخ من شرائع من قبلنا وأنه قد صار شريعة لنبينا عليه السلام.

(2/563)


مطلب: في الدليل على بطلان قول النصارى في أن المسيح إله
قوله تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} فيه أوضح الدلالة على بطلان قول النصارى في أن المسيح إله; لأن من احتاج إلى الطعام فسبيله سبيل سائر العباد في الحاجة إلى الصانع المدبر; إذ كان من فيه سمة الحدث لا يكون قديما, ومن يحتاج إلى غيره لا يكون قادرا لا يعجزه شيء. وقد قيل في معنى قوله: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} إنه كناية عن الحدث; لأن كل من يأكل الطعام فهو محتاج إلى الحدث لا محالة. وهذا وإن كان كذلك في العادة فإن الحاجة إلى الطعام والشراب وما يحتاج المحتاج إليهما من الجوع والعطش ظاهر الدلالة على حدث المحتاج إليهما وعلى أن الحوادث تتعاقب عليه, وأن ذلك ينفي كونه إلها وقديما.
قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} , قال الحسن ومجاهد والسدي وقتادة: "لعنوا على لسان داود فصاروا قردة وعلى لسان عيسى فصاروا خنازير". وقيل: إن فائدة لعنهم على لسان الأنبياء إعلامهم الإياس من المغفرة مع الإقامة على الكفر والمعاصي; لأن دعاء الأنبياء عليهم السلام باللعن والعقوبة مستجاب. وقيل: إنما ظهر لعنهم على لسان الأنبياء لئلا يوهموا الناس أن لهم منزلة بولادة الأنبياء تنجيهم من عقاب المعاصي.
قوله تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ} معناه لا ينهى بعضهم بعضا عن المنكر; وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي: حدثنا يونس بن راشد عن علي بن بذيمة عن أبي عبيدة عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك, ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده, فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض, ثم لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم" إلى قوله فاسقون ثم قال: "كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يدي الظالم

(2/563)


ولتأطرنه على الحق أطرا ولتقصرنه على الحق قصرا". وقال أبو داود: وحدثنا خلف بن هشام: حدثنا أبو شهاب الحناط, عن العلاء بن المسيب عن عمرو بن مرة, عن سالم, عن أبي عبيدة, عن ابن مسعود, عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه, زاد: "وليضربن الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعننكم كما لعنهم" .
قال أبو بكر: في هذه الآية مع ما ذكرنا من الخبر في تأويلها دلالة على النهي عن مجالسة المظهرين للمنكر, وأنه لا يكتفى منهم بالنهي دون الهجران.
قوله تعالى: {تَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} , روي عن الحسن وغيره أن الضمير في" منهم" راجع إلى اليهود; وقال آخرون: هو راجع إلى أهل الكتاب, والذين كفروا هم عبدة الأوثان تولاهم أهل الكتاب على معاداة النبي صلى الله عليه وسلم ومحاربته.
قوله تعالى: {وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ} , روي عن الحسن ومجاهد أنه في المنافقين من اليهود, أخبر أنهم غير مؤمنين بالله وبالنبي وإن كانوا يظهرون الإيمان. وقيل: إنه أراد بالنبي موسى عليه السلام أنهم غير مؤمنين به; إذ كانوا يتولون المشركين.
قوله تعالى {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى} الآية. قال ابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء والسدي: "نزلت في النجاشي وأصحابه لما أسلموا". وقال قتادة: "قوم من أهل الكتاب كانوا على الحق متمسكين بشريعة عيسى عليه السلام فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم آمنوا به". ومن الجهال من يظن أن في هذه الآية مدحا للنصارى وإخبارا بأنهم خير من اليهود, وليس كذلك; وذلك لأن ما في الآية من ذلك إنما هو صفة قوم قد آمنوا بالله وبالرسول يدل عليه ما ذكر في نسق التلاوة من إخبارهم عن أنفسهم بالإيمان بالله وبالرسول. ومعلوم عند كل ذي فطنة صحيحة أمعن النظر في مقالتي هاتين الطائفتين أن مقالة النصارى أقبح وأشد استحالة وأظهر فسادا من مقالة اليهود; لأن اليهود تقر بالتوحيد في الجملة وإن كان فيها مشبهة تنقص ما أعطته في الجملة من التوحيد بالتشبيه.

(2/564)


باب تحريم ما أحل الله عز وجل
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} . والطيبات اسم يقع على ما يستلذ ويشتهى ويميل إليه القلب, ويقع على الحلال وجائز أن يكون مراد الآية الأمرين جميعا لوقوع الاسم عليهما, فيكون تحريم الحلال على أحد وجهين: أحدهما: أن يقول: "قد حرمت هذا الطعام على نفسي" فلا يحرم عليه وعليه الكفارة إن

(2/564)


أكل منه. والثاني: أن يغصب طعام غيره فيخلطه بطعامه فيحرمه على نفسه حتى يغرم لصاحبه مثله. روى عكرمة عن ابن عباس أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني إذا أكلت اللحم انتشرت فحرمته على نفسي فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الآية. وروى سعيد عن قتادة قال: كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هموا بترك اللحم والنساء والاختصاء, فأنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} الآية, فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ليس في ديني ترك النساء ولا اللحم ولا اتخاذ الصوامع". وروى مسروق قال: كنا عند عبد الله, فأتي بضرع, فتنحى رجل, فقال عبد الله: ادن فكل فقال: إني كنت حرمت الضرع; فتلا عبد الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} كل وكفر وقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2]. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حرم مارية; وروي أنه حرم العسل على نفسه, فأنزل الله تعالى هذه الآية وأمره بالكفارة. وكذلك قال أكثر أهل العلم فيمن حرم طعاما أو جارية على نفسه أنه إن أكل من الطعام حنث, وكذلك إن وطئ الجارية لزمته كفارة يمين.
وفرق أصحابنا بين من قال: "والله لا آكل هذا الطعام" وبين قوله: "حرمته على نفسي" فقالوا في التحريم: إن أكل الجزء منه حنث, وفي اليمين لا يحنث إلا بأكل الجميع; وجعلوا تحريمه إياه على نفسه بمنزلة قوله: "والله لا أكلت منه شيئا "; إذ كان ذلك مقتضى لفظ التحريم في سائر ما حرم الله تعالى, مثل قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] اقتضى اللفظ تحريم كل جزء منه, فكذلك تحريم الإنسان طعاما يقتضي إيجاب اليمين في أكل الجزء منه. وأما اليمين بالله في نفي أكل هذا الطعام فإنها محمولة على الأيمان المنتظمة للشروط والجواب, كقول القائل: "إن أكلت هذا الطعام فعبدي حر" فلا يحنث بأكل البعض منه حتى يستوفي أكل الجميع. فإن قال قائل: قال الله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93] فروي أن إسرائيل أخذه عرق النسا, فحرم أحب الأشياء إليه وهو لحوم الإبل إن عافاه الله, فكان ذلك تحريما صحيحا حاظرا لما حرم على نفسه. قيل له: هو منسوخ بشريعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

(2/565)


مطلب: في الدليل على بطلان قول الممتنعين عن اكل اللحوم والأطعمة اللذيذة تزهدا
وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول الممتنعين من أكل اللحوم والأطعمة اللذيذة

(2/565)


تزهدا; لأن الله تعالى قد نهى عن تحريمها وأخبر بإباحتها في قوله: {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً} , ويدل على أنه لا فضيلة في الامتناع من أكلها. وقد روى أبو موسى الأشعري أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يأكل لحم الدجاج. وروي أنه كان يأكل الرطب والبطيخ. وروى غالب بن عبد الله عن نافع عن ابن عمر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يأكل الدجاجة حبسها ثلاثة أيام فعلفها ثم أكلها. وروى إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال: سمعت ابن عباس يقول: "كل ما شئت واكتس ما أخطأت اثنتين سرفا أو مخيلة". وقد روي أن عثمان وعبد الرحمن بن عوف والحسن بن علي وعبد الله بن أبي أوفى وعمران بن حصين وأنس بن مالك وأبا هريرة وشريحا كانوا يلبسون الخز. ويدل على نحو دلالة الآية التي ذكرنا في أكل إباحة الطيبات قوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32], وقوله عقيب ذكره لما خلق من الفواكه: {مَتَاعاً لَكُمْ} [المائدة: 96].

(2/566)


مطلب: في تحريم إيقاع الطلاق الثلاث
ويحتج بقوله: {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} في تحريم إيقاع الطلاق الثلاث لما فيه من تحريم المباح من المرأة.

(2/566)


باب الأيمان مطلب: في اليمين اللغو
قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} عقيب نهيه عن تحريم ما أحل الله. قال ابن عباس: "لما حرموا الطيبات من المآكل والمناكح والملابس حلفوا على ذلك, فأنزل الله تعالى هذه الآية" وأما اللغو فقد قيل فيه إنه ما لا يعتد به, ومنه قول الشاعر:
أو مائة تجعل أولادها ... لغوا وعرض المائة الجلمد
يعني نوقا لا تعتد بأولادها. فعلى هذا لغو اليمين ما لا يعتد به ولا حكم له. وروى إبراهيم الصائغ عن عطاء عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عز وجل: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا محمد بن أحمد بن سفيان الترمذي وابن عبدوس قالا: حدثنا محمد بن بكار: حدثنا حسان بن إبراهيم عن إبراهيم الصائغ عن عطاء, وسئل عن اللغو في اليمين فقال: قالت عائشة: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هو كلام الرجل في بيته لا والله وبلى والله" . وروى إبراهيم عن الأسود وهشام بن

(2/566)


مطلب: في أقسام اليمين
والأيمان على ضربين: ماض ومستقبل; والماضي ينقسم قسمين لغو وغموس, ولا كفارة في واحد منهما. والمستقبل ضرب واحد, وهو اليمين المعقودة, وفيها الكفارة إذا حنث. وقال مالك والليث مثل قولنا في الغموس أنه لا كفارة فيها. وقال الحسن بن صالح والأوزاعي والشافعي: "في الغموس الكفارة". وقد ذكر الله تعالى هذه الأيمان الثلاث في الكتاب, فذكر في هذه الآية اليمين اللغو والمعقودة جميعا بقوله: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} , وقال في سورة البقرة: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}

(2/567)


[البقرة: 225] والمراد به والله أعلم الغموس لأنها هي التي تتعلق المؤاخذة فيها بكسب القلب وهو المأثم وعقاب الآخرة دون الكفارة; إذ لم تكن الكفارة متعلقة بكسب القلب, ألا ترى أن من حلف على معصية كان عليه أن يحنث فيها وتلزمه الكفارة مع ذلك؟ فدل على أن قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] المراد به اليمين الغموس التي يقصد بها إلى الكذب, وأن المؤاخذة بها هي عقاب الآخرة وذكره للمؤاخذة بكسب القلب في هذه الآية عقيب ذكره اللغو في اليمين, يدل على أن اللغو هو الذي لم يقصد فيه إلى الكذب وأنه ينفصل من الغموس بهذا المعنى.

(2/568)


مطلب: لا كفارة في اليمين الغموس
ومما يدل على أن الغموس لا كفارة فيها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} [آل عمران: 77] فذكر الوعيد فيها ولم يذكر الكفارة, فلو أوجبنا فيها الكفارة كان زيادة في النص وذلك غير جائز إلا بنص مثله. وروى عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف على يمين وهو فيها آثم فاجر ليقطع بها مالا لقي الله تعالى وهو عليه غضبان" وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف على منبري هذا بيمين آثمة. تبوأ مقعده من النار" . فذكر النبي صلى الله عليه وسلم المأثم ولم يذكر الكفارة, فدل على أن الكفارة غير واجبة من وجهين: أحدهما: أنه لا تجوز الزيادة في النص إلا بمثله, والثاني: أنها لو كانت واجبة لذكرها كما ذكرها في اليمين المعقودة في قوله عليه السلام: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير منها وليكفر عن يمينه" رواه عبد الرحمن بن سمرة وأبو هريرة وغيرهما. ومما يدل على نفي الكفارة في اليمين على الماضي قوله تعالى في نسق التلاوة: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} وحفظها مراعاتها لأداء كفارتها عند الحنث فيها, ومعلوم امتناع حفظ اليمين على الماضي لوقوعها على وجه واحد لا يصح فيها المراعاة والحفظ.
فإن قال قائل: قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} يقتضي عمومه إيجاب الكفارة في سائر الأيمان إلا ما خصه الدليل. قيل له: ليس كذلك; لأنه معلوم أنه قد أراد به اليمين المعقودة على المستقبل, فلا محالة أن فيه ضميرا يتعلق به وجوب الكفارة وهو الحنث; وإذا ثبت أن في الآية ضميرا سقط الاحتجاج بظاهرها لأنه لا خلاف أن اليمين المعقودة لا تجب بها كفارة قبل الحنث, فثبت أن في الآية ضميرا فلم يجز اعتبار عمومها; إذ كان حكمها متعلقا بضمير غير مذكور فيها وأيضا قوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} يقتضي أن يكون جميع ما تجب فيه الكفارة من الأيمان هي التي

(2/568)


ألزمنا حفظها, وذلك إنما هو في اليمين المعقودة التي تمكن مراعاتها وحفظها لأداء كفارتها, واليمين على الماضي لا يقع فيها حنث فينتظمها اللفظ, ألا ترى أنه لا يصح دخول الاستثناء عليها فتقول: "كان أمس الجمعة إن شاء الله" و" والله لقد كان أمس الجمعة" إذا كان الحنث وجود معنى بعد اليمين بخلاف ما عقد عليه ويدل على أن الكفارة إنما تتعلق بالحنث في اليمين بعد العقد أنه لو قال: "والله" كان ذلك قسما ولم تلزمه كفارة بوجود هذا القول لأنه لم يتعلق به حنث.
وقد قرئ قوله تعالى: {بِمَا عَقَّدْتُمُ} على ثلاثة أوجه1: {عَقَّدْتُمُ} بالتشديد قرأه جماعة, و" عقدتم" خفيفة, و" عاقدتم" فقوله تعالى: {عَقَّدْتُمُ} بالتشديد كان أبو الحسن يقول: لا يحتمل إلا عقد قول, و" عقدتم" بالتخفيف يحتمل عقد القلب وهو العزيمة والقصد إلى القول, ويحتمل عقد اليمين قولا; ومتى احتمل إحدى القراءتين القول واعتقاد القلب ولم يحتمل الأخرى إلا عقد اليمين قولا, وجب حمل ما يحتمل وجهين على ما لا يحتمل إلا وجها واحدا, فيحصل المعنى من القراءتين عقد اليمين قولا, ويكون حكم إيجاب الكفارة مقصورا على هذا الضرب من الأيمان وهو أن تكون معقودة ولا تجب في اليمين على الماضي لأنها غير معقودة وإنما هو خبر عن ماض والخبر عن الماضي ليس بعقد سواء كان صدقا أو كذبا.
فإن قال قائل: إذا كان قوله تعالى: "عقدتم" بالتخفيف يحتمل اعتقاد القلب ويحتمل عقد اليمين, فهلا حملته على المعنيين; إذ ليسا متنافيين وكذلك قوله تعالى: {بِمَا عَقَّدْتُمُ} بالتشديد محمول على عقد اليمين فلا ينفي ذلك استعمال اللفظ في القصد إلى اليمين فيكون عموما في سائر الأيمان قيل له: لو سلم لك ما ادعيت من الاحتمال لما جاز استعماله فيما ذكرت ولكانت دلالة الإجماع مانعة من حمله على ما وصفت وذلك أنه لا خلاف أن القصد إلى اليمين لا يتعلق به وجوب الكفارة وأن حكم إيجابها متعلق باللفظ دون القصد في الأيمان التي يتعلق به وجوب الكفارة, فبطل بذلك تأويل من تأول اللفظ على قصد القلب في حكم الكفارة. وثبت أن المراد بالقراءتين جميعا في إيجاب الكفارة هو اليمين المعقودة على المستقبل
فإن قال قائل: قوله: {عَقَّدْتُمُ} بالتشديد يقتضي التكرار, والمؤاخذة تلزم من غير تكرار, فما وجه اللفظ المقتضي للتكرار مع وجوب الكفارة في وجودها على غير وجه
ـــــــ
1 قوله: "على الثلاثة أوجه" قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم "عقدتم" بتخفيف القاف دون ألف بين العين والقاف, وابن ذكوان عن عامر: "عاقدتم" على وزن فاعلتم, والباقون: "عقدتم" بتشديد القاف. كذا في حاشية شيخ زاده على البيضاوي. "لمصححه".

(2/569)


التكرار؟ قيل له: قد يكون تعقيد اليمين بأن يعقدها في قلبه ولفظه, ولو عقد عليها في أحدهما دون الآخر لم يكن تعقيدا; إذ هو كالتعظيم الذي يكون تارة بتكرير الفعل والتضعيف وتارة بعظم المنزلة; وأيضا فإن في قراءة التشديد إفادة حكم ليس في غيره, وهو أنه متى أعاد اليمين على وجه التكرار أنه لا تلزمه إلا كفارة واحدة, وكذلك قال أصحابنا فيمن حلف على شيء ثم حلف عليه في ذلك المجلس أو غيره وأراد به التكرار: لا يلزمه إلا كفارة واحدة. فإن قيل: قوله: "بما عقدتم" بالتخفيف يفيد أيضا إيجاب الكفارة باليمين الواحدة. قيل له: القراءتان والتكرار جميعا مستعملتان على ما وصفنا, ولكل واحدة منهما فائدة مجددة.

(2/570)


فصل
ومن يجيز الكفارة قبل الحنث يحتج بهذه الآية من وجهين: أحدهما: قوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} فجعل ذلك كفارة عقيب عقد اليمين من غير ذكر الحنث; لأن الفاء للتعقيب. والثاني: قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} . فأما قوله: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} فإنه لا خلاف أن فيه ضميرا متى أراد إيجابها, وقد علمنا لا محالة أن الآية قد تضمنت إيجاب الكفارة عند الحنث وأنها غير واجبة قبل الحنث, فثبت أن المراد: بما عقدتم الأيمان وحنثتم فيها فكفارته, وهو كقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] والمعنى: فأفطر فعدة من أيام أخر; وقوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ} [البقرة: 196] فمعناه: فحلق ففدية من صيام; كذلك قوله: {بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} معناه: فحنثتم فكفارته; لاتفاق الجميع أنها غير واجبة قبل الحنث, وقد اقتضت الآية لا محالة إيجاب الكفارة وذلك لا يكون إلا بعد الحنث, فثبت أن المراد ضمير الحنث فيه. وأيضا لما سماه كفارة علمنا أنه أراد التكفير بها في حال وجوبها; لأن ما ليس بواجب فليس بكفارة على الحقيقة ولا يسمى بهذا الاسم, فعلمنا أن المراد: إذا حنثتم فكفارته إطعام عشرة مساكين. وكذلك قوله في نسق التلاوة: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} معناه: إذا حلفتم وحنثتم; لما بيناه آنفا.
فإن قيل: يجوز أن تسمى كفارة قبل وجوبها كما يسمى ما يعجله من الزكاة قبل الحول زكاة لوجوب السبب الذي هو النصاب, وكما يسمى ما يعجله بعد الجراحة كفارة قبل وجود القتل وإن لم تكن واجبة في هذه الحال, فكذلك يجوز أن يكون ما يعجله الحالف كفارة قبل الحنث ولا يحتاج إلى إثبات إضمار الحنث في جوازها قيل له: قد

(2/570)


بينا أن الكفارة الواجبة بعد الحنث مرادة بالآية, وإذا أريد بها الكفارة الواجبة امتنع أن ينتظم ما ليس منها لاستحالة كون لفظ واحد مقتضيا للإيجاب ولما ليس بواجب, فمن حيث أريد بها الواجب انتفى ما ليس منها بواجب. وأيضا فقد ثبت أن المتبرع بالطعام ونحوه لا يكون مكفرا بما يتبرع به إذا لم يحلف, فلما كان المكفر قبل الحنث متبرعا بما أعطى, ثبت أن ما أخرج ليس بكفارة ومتى فعله لم يكن فاعلا للمأمور به, وأما إعطاء كفارة القتل قبل الموت بعد الجراحة وتعجيل الزكاة قبل الحول, فإن جميع ما أخرج هؤلاء تطوع وليس بكفارة ولا زكاة, وإنما أجزناه لما قامت الدلالة أن إخراج هذا التطوع يمنع لزوم الفرض بوجود الموت وحئول الحول.

(2/571)


فصل
ويحتج من يوجب على من عقد نذره بشرط كفارة يمين دون المنذور, مثل قوله: "إن دخلت الدار فلله علي حجة أو عتق رقبة" أو نحو ذلك, فحنث بظاهر قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} وبقوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} قال: فلما كان هذا حالفا وجب أن يكون الواجب عليه بالحنث كفارة اليمين دون المنذور بعينه. وليس هذا كما ظن هذا القائل; وذلك لأن النذر يوجب الوفاء بالمنذور بعينه وله أصل غير اليمين, لقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [النحل: 91], وقال تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الانسان: 7], وقال تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1], وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [التوبة:76], فذمهم تعالى على ترك الوفاء بنفس المنذور. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر نذرا لم يسمه فعليه كفارة يمين ومن نذر نذرا سماه فعليه الوفاء به" وكان قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} في اليمين المعقودة بالله عز وجل, وكانت النذور محمولة على الأصول الأخر التي ذكرنا في لزوم الوفاء بها.
قوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} فقال قائلون: معناه احفظوا أنفسكم من الحنث فيها واحذروا الحنث فيها وإن لم يكن الحنث معصية. وقال آخرون: أقلوا من الأيمان, على نحو قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 224], واستشهد من قال ذلك بقول الشاعر:
قليل الألايا حافظ ليمينه ... إذا بدرت منه الألية برت
وقال آخرون: معناه راعوها لكي تؤدوا الكفارة عند الحنث فيها لأن حفظ الشيء

(2/571)


هو مراعاته; وهذا هو الصحيح, فأما الأول فلا معنى له لأنه غير منهي عن الحنث إذا لم يكن ذلك الفعل معصية, وقد قال عليه السلام: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" فأمره بالحنث فيها; وقد قال الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} [النور: 22] الآية; روي أنها نزلت في شأن مسطح بن أثاثة حين حلف أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن لا ينفق عليه لما كان منه من الخوض في أمر عائشة, وقد كان ينفق عليه وكان ذا قرابة منه, فأمره الله تعالى بالحنث في يمينه والرجوع إلى الإنفاق عليه, ففعل ذلك أبو بكر. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] بالكفارة والرجوع عما حرم على نفسه. فثبت بذلك أنه غير منهي عن الحنث في اليمين إذا لم يكن الفعل معصية, فغير جائز أن يكون معنى قوله: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} نهيا عن الحنث. وأما من قال: إن معناه النهي عن الحلف واستشهد بالبيت; فقوله مرذول ساقط, لأنه غير جائز أن يكون الأمر بحفظ اليمين نهيا عن اليمين, كما لا يجوز أن يقال: "احفظ مالك" بمعنى أن لا تكسبه; ومعنى البيت هو على ما نقوله مراعاة الحنث لأداء الكفارة; لأنه قال" قليل الألايا حافظ ليمينه" فأخبر بديا بقلة أيمانه, ثم قال: "حافظ ليمينه" ومعناه أنه مراع لها ليؤدي كفارتها عند الحنث; ولو كان على ما قال المخالف لكان تكرارا لما قد ذكر, فصح أن معناه الأمر بمراعاتها لأداء كفارتها عند الحنث.
قوله تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} روي عن علي وعمر وعائشة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد والحسن في كفارة اليمين: "كل مسكين نصف صاع من بر"; وقال عمر وعائشة: "أو صاعا من تمر" وهو قول أصحابنا إذا أعطاهم الطعام تمليكا. وقال ابن عباس وابن عمر وزيد بن ثابت وعطاء في آخرين: "مد من بر لكل مسكين" وهو قول مالك والشافعي.

(2/572)


مطلب: في الإطعام من غير تمليك
في الإطعام من غير تمليك واختلف في الإطعام من غير تمليك, فروي عن علي ومحمد بن كعب والقاسم وسالم والشعبي وإبراهيم وقتادة: "يغديهم ويعشيهم" وهو قول أصحابنا ومالك بن أنس والثوري والأوزاعي. وقال الحسن البصري: وحبة واحدة تجزي". وقال الحكم: "لا يجزي الإطعام حتى يعطيهم". وقال سعيد بن جبير: "مدين من طعام ومد لإدامه, ولا يجمعهم فيطعمهم ولكن يعطيهم". وروي عن ابن سيرين وجابر بن زيد ومكحول

(2/572)


وطاوس والشعبي: "يطعمهم أكلة واحدة", وروي عن أنس مثل ذلك. وقال الشافعي: "لا يعطيهم جملة ولكن يعطي كل مسكين مدا".
قال أبو بكر: قال الله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} فاقتضى ظاهره جواز الإطعام بالأكل من غير إعطاء ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً} [الانسان: 8] قد عقل منه إطعامهم بالإباحة لهم من غير تمليك؟ ويقال: فلان يطعم الطعام, وإنما مرادهم دعاؤه إياهم إلى أكل طعامه, فلما كان الاسم يتناول الإباحة وجب جوازه, وإذا جاز إطعامهم على وجه الإباحة من غير تمليك, فالتمليك أحرى بالجواز لأنه أكثر من الإباحة; ولا خلاف في جواز التمليك, وإنما قالوا: "يغديهم ويعشيهم" لقوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} وهو مرتان في اليوم غداء وعشاء لأن الأكثر في العادة ثلاث مرات والأقل واحدة والأوسط مرتان. وقد روى ليث عن ابن بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كان خبزا يابسا فهو غداؤه وعشاؤه" . وإنما قال أصحابنا: إذا أعطاهم كان من البر نصف صاع ومن الشعير والتمر صاعا, لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث كعب بن عجرة في فدية الأذى: "أو أطعم ثلاثة آصع من طعام ستة مساكين" وفي حديث آخر: "أطعم ستة آصع من تمر ستة مساكين" فجعل لكل مسكين صاعا من تمر أو نصف صاع من بر, ولم يفرق بين تقدير الطعام في فدية الأذى وكفارة اليمين, فثبت أن كفارة اليمين مثلها. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في كفارة الظهار: "وسقا1 من تمر لستين مسكينا" والوسق ستون صاعا. ولما ثبت في كفارة الظهار لكل مسكين صاع من تمر كانت كفارة اليمين مثلها لاتفاق الجميع على تساويهما في مقدار ما يجب فيهما من الطعام, وإذا ثبت من التمر صاع وجب أن يكون من البر نصف صاع; لأن كل من أوجب فيها صاعا من التمر أوجب من البر نصف صاع.
قوله تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} روي عن ابن عباس قال: "كان لأهل المدينة قوت وكان للكبير أكثر مما للصغير وللحر أكثر مما للمملوك, فنزلت: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} ليس بأفضله ولا بأخسه" وروي عن سعيد بن جبير مثله. قال أبو بكر: بين ابن عباس أن المراد الأوسط في المقدار, لا بأن يكون مأدوما. وروي عن ابن عمر قال: "أوسطه الخبز والتمر والخبز والزيت, وخير ما نطعم أهلنا الخبز واللحم" وعن عبيدة: "الخبز والسمن". وقال أبو رزين: "الخبز والتمر والخل".
ـــــــ
1 قوله: "وسقا" أي فأطعم وسقا كما في سنن أبي داود في باب الظهار. "لمصححه".

(2/573)


وقال ابن سيرين: "أفضله اللحم وأوسطه السمن وأحسنه التمر مع الخبز" وروي عن عبد الله بن مسعود مثله.
في الاحتجاج في جواز إعطاء مسكين واحد جميع الطعام في عشرة أيام كل يوم نصف صاع قال أبو بكر أمر النبي صلى الله عليه وسلم سلمة بن صخر أن يكفر عن الظهار بإعطاء كل مسكين صاعا من تمر, ولم يأمره معه بشيء آخر غيره من الإدام; وأمر كعب بن عجرة أن يتصدق بثلاثة آصع من طعام على ستة مساكين, ولم يأمره بالإدام ولا فرق عند أحد بين كفارة الظهار وكفارة اليمين في مقدار الطعام فثبت بذلك أن الإدام غير واجب مع الطعام وأن الأوسط المراد بالآية الأوسط في مقدار الطعام لا في ضم الإدام إليه.

(2/574)


مطلب: في الاحتجاج في جواز إعطاء مسكين واحد جميع الطعام في عشرة أيام كل يوم نصف صاع
وقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} عموم في جميع من يقع عليه الاسم منهم, فيصح الاحتجاج به في جواز إعطاء مسكين واحد جميع الطعام في عشرة أيام كل يوم نصف صاع; لأنا لو منعناه في اليوم الثاني كنا قد خصصنا الحكم في بعض ما انتظمه الاسم دون بعض, لا سيما فيمن قد دخل في حكم الآية بالاتفاق, وهو قول أصحابنا. وقال مالك والشافعي: لا يجزي.
فإن قال قائل: لما ذكر عشرة مساكين لم يجز الاقتصار على من دونهم, كقوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] وقوله تعالى: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] وسائر الأعداد المذكورة لا يجوز الاقتصار على ما دونها, كذلك غير جائز الاقتصار على الأقل من العدد المذكور. قيل له: لما كان القصد في ذلك سد جوعة المساكين لم يختلف فيه حكم الواحد والجماعة بعد أن يتكرر عليهم الإطعام أو على واحد منهم في عشرة أيام على حسب ما يحصل به سد الجوعة, فكان المعنى المقصود بإعطاء العشرة موجودا في الواحد عند تكرار الدفع والإطعام في عدد الأيام. وليس يمتنع إطلاق اسم إطعام العشرة على واحد بتكرار الدفع; إذ كان المقصد فيه تكرار الدفع لا تكرار المساكين, كما قال تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} [البقرة: 189] وهو هلال واحد, فأطلق عليه اسم الجمع لتكرار الرؤية في الشهور. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاستنجاء بثلاثة أحجار, ولو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف أجزأه. وكذلك أمر برمي الجمار بسبع حصيات, ولو رمى بحصاة واحدة سبع مرات أجزأه; لأن المقصد فيه حصول الرمي سبع مرات, والمقصد في الاستنجاء حصول المسحات دون عدد الأحجار. فكذلك لما كان المقصد في إخراج الكفارة سد جوعة المساكين لم يختلف حكم الواحد إذا تكرر ذلك

(2/574)


عليه في الأيام وبين الجماعة. ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} ومعلوم أن كسوتهم عشرة أثواب, فصار تقديره: "أو عشرة أثواب" ثم لم يخصصها بمسكين واحد ولا بجماعة, فوجب أن يجزي إعطاؤها لواحد منهم, ألا ترى أنه يجوز أن تقول أعطيت كسوة عشرة مساكين مسكينا واحدا؟ فقوله تعالى: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} يدل من هذا الوجه على أنه غير مقصور على أعداد المساكين عشرة, ويدل أيضا من الوجه الذي دل عليه ذكر الطعام على الوجه الذي ذكرنا, ولا تجزي الكسوة عندهم إذا أعطاها مسكينا واحدا إلا أن يعطيه كل يوم ثوبا; لأنه لما ثبت ما وصفنا في الطعام من تفريقه في الأيام, وجب مثله في الكسوة; إذ لم يفرق واحد بينهما.

(2/575)


مطلب: أجاز اصحابنا غعطاء قيمة الطعام والكسوة
وأجاز أصحابنا إعطاء قيمة الطعام والكسوة لما ثبت أن المقصد فيه حصول النفع للمساكين بهذا القدر من المال ويحصل لهم من النفع بالقيمة مثل حصوله بالطعام والكسوة. ولما صح إعطاء القيمة في الزكوات من جهة الآثار والنظر, وجب مثله في الكفارة; لأن أحدا لم يفرق بينهما, ومع ذلك فليس يمتنع إطلاق الاسم على من أعطى غيره دراهم يشتري بها ما يأكله ويلبسه بأن يقال: قد أطعمه وكساه; وإذا كان إطلاق ذلك سائغا انتظمه لفظ الآية, ألا ترى أن حقيقة الإطعام أن يطعمه إياه بأن يبيحه له فيأكله؟ ومع ذلك فلو ملكه إياه ولم يأكله المسكين وباعه أجزأه, وإن لم يتناوله حقيقة اللفظ بحصول المقصد في وصول هذا القدر من المال إليه, وإن لم يطعمه ولم ينتفع به من جهة الأكل. وكذلك لو أعطاه كسوة فلم يكتس بها وباعها, وإن لم يكن له كاسيا بإعطائه; إذ كان موصلا إليه هذا القدر من المال بإعطائه إياه فثبت بذلك أنه ليس المقصد حصول المطعم والاكتساء, وأن المقصد وصوله إلى هذا القدر من المال, فلا يختلف حينئذ حكم الدراهم والثياب والطعام, ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قدر في صدقة الفطر نصف صاع من بر أو صاعا من تمر أو شعير ثم قال: "أغنوهم عن المسألة في هذا اليوم" ؟ فأخبر أن المقصود حصول الغنى لهم عن المسألة لا مقدار الطعام بعينه; إذ كان الغنى عن المسألة يحصل بالقيمة كحصوله بالطعام.
فإن قال قائل: لو جازت القيمة وكان المقصد فيه حصول هذا القدر من المال للمساكين لما كان لذكر الإطعام والكسوة فائدة مع تفاوت قيمتها في أكثر الأحوال, وفي ذكره الطعام أو الكسوة دلالة على أنه غير جائز أن يتعداهما إلى القيمة, وأنه ليس المقصد حصول النفع بهذا القدر من المال دون عين الطعام والكسوة. قيل له: ليس الأمر على ما ظننت; وفي ذكره الطعام والكسوة أعظم الفوائد, وذلك أنه ذكرهما ودللنا بما ذكر على

(2/575)


جواز إعطاء قيمتهما ليكون مخيرا بين أن يعطي حنطة أو يطعم أو يكسو أو يعطي دراهم قيمة عن الحنطة أو عن الثياب, فيكون موسعا في العدول عن الأرفع إلى الأوكس إن تفاوتت القيمتان, أو عن الأوكس إلى الأرفع, أو يعطى أي المذكورين بأعيانهما كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن وجبت في إبله بنت لبون فلم توجد أخذ منه بنت مخاض وشاتان أو عشرون درهما" فخيره في ذلك, وهو يقدر على أن يشتري بنت لبون وهي الفرض المذكور; وكما جعل الدية مائة من الإبل واتفقت الأمة على أنها من الدراهم والدنانير أيضا قيمة للإبل على اختلافهم فيها, وكمن تزوج امرأة على عبد وسط فإن جاء به بعينه قبل منه وإن جاء بقيمته قبلت منه أيضا. ولم يبطل جواز أخذ القيمة في هذه المواضع حكم التسمية لغيرها, فكذلك ما وصفنا. ألا ترى أنه خيره بين الكسوة والطعام والعتق؟ فالقيمة مثل أحد هذه الأشياء وهو مخير بينها وبين المذكور وإن كانت قد تختلف في الطعام والكسوة لأن في عدوله إلى الأرفع زيادة فضيلة وفي اقتصاره على الأوكس رخصة وأيهما فعل فهو المفروض, وهذا مثل ما نقول في القراءة في الصلاة إن المفروض منها مقدار آية, فإن أطال القراءة كان الجميع هو المفروض والمفروض من الركوع هو الجزء الذي يسمى به راكعا, فإن أطال كان الفرض جميع المفعول منه, ألا ترى أنه لو أطال الركوع كان مدركه في آخر الركوع مدركا لركعته؟ وكذلك لا يمتنع أن يكون المفروض من الكفارة قيمة الأوكس من الطعام أو الكسوة, فإن عدل إلى قيمة الأرفع كان هو المفروض أيضا.

(2/576)


مطلب: في مقدار الكسوة في الكفارة
وقد اختلف في مقدار الكسوة, فقال أصحابنا: "الكسوة في كفارة اليمين لكل مسكين ثوب إزار أو رداء أو قميص أو قباء أو كساء". وروى ابن سماعة عن محمد أن السراويل تجزي, وأنه لو حلف لا يشتري ثوبا فاشترى سراويل حنث إذا كان سراويل الرجال. وروى هشام عن محمد أنه لا يجزي السراويل ولا العمامة; وكذلك روى بشر عن أبي يوسف. وقال مالك والليث: "إن كسا الرجل كسا ثوبا وللمرأة ثوبين درعا وخمارا, وذلك أدنى ما تجزي فيه الصلاة, ولا يجزي ثوب واحد للمرأة ولا تجزي العمامة". وقال الثوري: "تجزي العمامة". وقال الشافعي: "تجزي العمامة والسراويل والمقنعة". قال أبو بكر: روي عن عمران بن حصين وإبراهيم والحسن ومجاهد وطاوس والزهري ثوب لكل مسكين". قال أبو بكر: ظاهره يقتضي ما يسمى به الإنسان مكتسيا إذا لبسه, ولابس السراويل ليس عليه غيره أو العمامة ليس عليه غيرها لا يسمى مكتسيا كلابس القلنسوة, فالواجب أن لا يجزي السراويل والعمامة ولا الخمار لأنه مع لبسه

(2/576)


لأحد هذه الأشياء يكون عريانا غير مكتس, وأما الإزار والقميص ونحوه فإن كل واحد من ذلك يعم بدنه حتى يطلق عليه اسم المكتسي, فلذلك أجزأه.
قوله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يعني عتق رقبة, وتحريرها إيقاع الحرية عليها. وذكر الرقبة وأراد به جملة الشخص تشبيها له بالأسير الذي تفك رقبته ويطلق, فصارت الرقبة عبارة عن الشخص; وكذلك قال أصحابنا إذا قال: "رقبتك حرة" إنه يعتق, كقوله" أنت حر". واقتضى اللفظ رقبة سليمة من العاهات لأنه اسم للشخص بكماله, إلا أن الفقهاء اتفقوا على أن النقص اليسير لا يمنع جوازها, فاعتبر أصحابنا بقاء منفعة الجنس في جوازها وجعلوا فوات منفعة الجنس من تلك الأعضاء مانعا لجوازها.
قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} روى مجاهد عن عبد الله بن مسعود وأبو العالية عن أبي: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات". وقال إبراهيم النخعي: في قراءتنا: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" وقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وطاوس: "هن متتابعات لا يجزي فيها التفريق". فثبت التتابع بقول هؤلاء. ولم تثبت التلاوة لجواز كون التلاوة منسوخة والحكم ثابتا, وهو قول أصحابنا. وقال مالك والشافعي: "يجزي فيه التفريق". وقد بينا ذلك في أصول الفقه.
وقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} يقتضي إيجاب التكفير مع القدرة مع بقاء الخطاب بالكفارة, وإنما يجوز الصوم مع عدم المذكور بديا لأنه قال: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} فنقله عن أحد الأشياء الثلاثة إلى الصوم عند عدمها, فما دام الخطاب بالكفارة قائما عليه لم يجزه الصوم مع وجود الأصل, ودخوله في الصوم لم يسقط عنه الخطاب بأحد الأشياء الثلاثة. والدليل عليه أنه لو دخل في صوم اليوم الأول ثم أفسده وهو واجد للرقبة لم يجز الصوم مع وجودها, فثبت بذلك أن دخوله في الصوم لم يسقط عنه فرض الأصل, فلا فرق بين وجود الرقبة قبل الدخول في الصوم وبعده; إذ كان الخطاب بالتكفير قائما عليه في الحالين.

(2/577)


باب تحريم الخمر
قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} اقتضت هذه الآية تحريم الخمر من وجهين: أحدهما: قوله: {رِجْسٌ} لأن الرجس اسم في الشرع لما يلزم اجتنابه; ويقع اسم الرجس على الشيء المستقذر النجس, وهذا أيضا يلزم اجتنابه فأوجب وصفه إياها بأنها رجس لزوم اجتنابها. والوجه

(2/577)


الآخر: قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوهُ} وذلك أمر والأمر يقتضي الإيجاب, فانتظمت الآية تحريم الخمر من هذين الوجهين.
والخمر هي عصير العنب الني المشتد, وذلك متفق عليه أنه خمر. وقد سمي بعض الأشربة المحرمة باسم الخمر تشبيها بها مثل الفضيخ وهو نقيع البسر ونقيع التمر وإن لم يتناولهما اسم الإطلاق. وقد روي في معنى الخمر آثار مختلفة, منها ما روى مالك بن مغول عن نافع عن ابن عمر قال: "لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء" وقد علمنا أنه كان بالمدينة نقيع التمر والبسر وسائر ما يتخذ منهما من الأشربة, ولم يكن ابن عمر ممن يخفى عليه الأسماء اللغوية, فهذا يدل على أن أشربة النخل لم تكن عنده تسمى خمرا. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: "نزل تحريم الخمر وهو الفضيخ", فأخبر ابن عباس أن الفضيخ خمر, وجائز أن يكون سماه خمرا من حيث كان شرابا محرما. وروى حميد الطويل عن أنس قال: "كنت أسقي أبا عبيدة وأبي بن كعب وسهيل ابن بيضاء في نفر في بيت أبي طلحة, فمر بنا رجل فقال: إن الخمر قد حرمت, فوالله ما قالوا حتى نتبين حتى قالوا: أهرق ما في إنائك يا أنس ثم ما عادوا فيها حتى لقوا الله عز وجل, وإنه البسر والتمر وهو خمرنا يومئذ". فأخبر أنس أن الخمر يوم حرمت البسر والتمر, وهذا جائز أن يكون لما كان محرما سماه خمرا, وأن يكون المراد أنهم كانوا يجرونه مجرى الخمر ويقيمونه مقامها, لا أن ذلك اسم له على الحقيقة. ويدل عليه أن قتادة روى عن أنس هذا الحديث, وقال: "إنما نعدها يومئذ خمرا" فأخبر أنهم كانوا يعدونها خمرا على معنى أنهم يجرونها مجرى الخمر. وروى ثابت عن أنس قال: "حرمت علينا الخمر يوم حرمت وما نجد خمور الأعناب إلا القليل وعامة خمورنا البسر والتمر" ومع هذا أيضا معناه أنهم كانوا يجرونه مجرى الخمر في الشرب وطلب الإسكار وطيبة النفس, وإنما كان شراب البسر والتمر. وروى المختار بن فلفل قال: سألت أنس بن مالك عن الأشربة فقال: "حرمت الخمر وهي من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير والذرة, وما خمرت من ذلك فهو خمر" فذكر في الحديث الأول أنه من البسر والتمر, وذكر في هذا الحديث أنها من ستة أشياء; فكان عنده أن ما أسكر من هذه الأشربة فهو خمر, ثم قال: "وما خمرت من ذلك فهو خمر" وهذا يدل على أنه إنما سمى ذلك خمرا في حال الإسكار, وأن ما لا يسكر منه فليس بخمر. وقد روي عن عمر أنه قال: "إن الخمر حرمت وهي من خمسة أشياء: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير, والخمر ما خامر العقل" وهذا أيضا يدل على أنه إنما سماه خمرا في حال ما أسكر إذا أكثر منه, لقوله: "والخمر ما خامر العقل". وقد روي عن السري بن إسماعيل

(2/578)


عن الشعبي أنه حدثه أنه سمع النعمان بن بشير يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من الحنطة خمرا, وإن من الشعير خمرا وإن من الزبيب خمرا وإن من التمر خمرا وإن من العسل خمرا" ولم يقل إن جميع ما يكون من هذه الأصناف خمر, وإنما أخبر أن منها خمرا. ويحتمل أن يريد به ما يسكر منه فيكون محرما في تلك الحال, لم يرد بذلك أن ذلك اسم لهذه الأشربة المتخذة من هذه الأصناف; لأنه قد روي عنه بأسانيد أصح من إسناد هذا الحديث ما ينفي أن يكون الخمر من هذه الأصناف, وهو ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا أبان قال: حدثني يحيى بن أبي كثير عن أبي كثير العنبري وهو يزيد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنب" . وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عبيد بن حاتم قال: حدثنا ابن عمار الموصلي قال: حدثنا عبدة بن سليمان عن سعيد بن أبي عروبة عن عكرمة بن عمار عن أبي كثير عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الخمر من هاتين الشجرتين: النخل والعنب" . وهذا الخبر يقضي على جميع ما تقدم ذكره في هذا الكتاب بصحة سنده, وقد تضمن نفي اسم الخمر عن الخارج من غير هاتين الشجرتين; لأن قوله: "الخمر" اسم للجنس, فاستوعب بذلك جميع ما يسمى خمرا, فانتفى بذلك أن يكون الخارج من غيرهما مسمى باسم الخمر. واقتضى هذا الخبر أيضا أن يكون المسمى بهذا الاسم من الخارج من هاتين الشجرتين, وهو على أول الخارج منهما مما يسكر منه, وذلك هو العصير الني المشتد ونقيع التمر والبسر قبل أن تغيره النار لأن قوله: "منهما" يقتضي أول خارج منهما مما يسكر.
والذي حصل عليه الاتفاق من الخمر هو ما قدمنا ذكره من عصير العنب الني المشتد إذا غلا وقذف بالزبد, فيحتمل على هذا إذا كان الخمر ما وصفنا أن يكون معنى حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الخمر من هاتين الشجرتين" أن مراده أنها من إحداهما, كما قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] وإنما الرسل من الإنس, وقال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن:22] وإنما يخرج من أحدهما.
ويدل على أن الخمر هو ما ذكرنا وأن ما عداها ليس بخمر على الحقيقة اتفاق المسلمين على تكفير مستحل الخمر في غير حال الضرورة واتفاقهم على أن مستحل ما سواها من هذه الأشربة غير مستحق لسمة الكفر, فلو كانت خمرا لكان مستحلها كافرا خارجا عن الملة كمستحل الني المشتد من عصير العنب, وفي ذلك دليل على أن اسم الخمر في الحقيقة إنما يتناول ما وصفنا. وزعم بعض من ليس معه من الورع إلا تشدده

(2/579)


في تحريم النبيذ دون التورع عن أموال الأيتام وأكل السحت أن كتاب الله عز وجل والأحاديث الصحاح عن رسول الله وما جاء في الحديث من تفسير الخمر ما هي واللغة القائمة المشهورة والنظر وما يعرفه ذوو الألباب بعقولهم يدل على أن كل شيء أسكر فهو خمر فأما كتاب الله فقوله: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} [النحل: 67] فعلم أن السكر من العنب مثل السكر من النخل. فادعى هذا القائل أن كتاب الله يدل على أن ما أسكر فهو خمر, ثم تلا الآية, وليس في الآية أن السكر ما هو ولا أن السكر خمر; فإن كان السكر خمرا على الحقيقة فإنما هو الخمر المستحيلة من عصير العنب; لأنه قال: "ومن ثمرات النخيل والأعناب", ومع ذلك فإن الآية مقتضية لإباحة السكر المذكور فيها لأنه تعالى اعتد علينا فيها بمنافع النخيل والأعناب كما اعتد بمنافع الأنعام وما خلق فيها من اللبن, فلا دلالة في الآية إذا على تحريم السكر ولا على أن السكر خمر, ولو دلت على أن السكر خمر لما دلت على أن الخمر تكون من كل ما يسكر; إذ فيها ذكر الأعناب التي منها تكون الخمر المستحيلة من عصيرها, فكانت دعواه على الكتاب غير صحيحة. وذكر من الأحاديث في ذلك ما قدمنا ذكره عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن السلف, وقد بينا وجهه, وذكرنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مسكر خمر" و "كل شراب أسكر فهو حرام" و "ما أسكر كثيره فقليله حرام" ونحوها من الأخبار. والمعنى في هذه الأخبار حال وجود الإسكار دون غيرها الموافق لما ذكرنا من الأخبار النافية لكونها خمرا وما ذكرنا من دلالة الإجماع. وقد تواترت الآثار عن جماعة من السلف شرب النبيذ الشديد, منهم عمر وعبد الله وأبو الدرداء وبريدة, في آخرين قد ذكرناهم في كتابنا في الأشربة; وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرب من النبيذ الشديد, في أخبار أخر, فينبغي على قول هذا القائل أن يكونوا قد شربوا خمرا.
وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا مطين قال: حدثنا أحمد بن يونس قال: حدثنا أبو بكر بن عياش عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر حرام" فقلنا: يا ابن عباس إن هذا النبيذ الذي نشرب يسكرنا قال: ليس هكذا, إن شرب أحدكم تسعة أقداح لم يسكر فهو حلال, فإن شرب العاشر فأسكره فهو حرام. حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا هوذة قال: حدثنا عوف بن سنان عن أبي الحكم عن بعض الأشعريين عن الأشعري قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذا إلى اليمن, فقلت: يا رسول الله إنك تبعثنا إلى أرض بها أشربة منها البتع من العسل والمزر من الشعير والذرة يشتد حتى يسكر; قال: وأعطي رسول الله جوامع الكلم فقال: "إنما حرم المسكر الذي يسكر عن الصلاة" . فأخبر عليه

(2/580)


السلام في هذا الحديث أن المحرم منه ما يوجب السكر دون غيره. وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا محمد بن زكريا العلائي قال: حدثنا العباس بن بكار قال: حدثنا عبد الرحمن بن بشير الغطفاني عن أبي إسحاق عن الحارث عن علي قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأشربة عام حجة الوداع, فقال "حرم الخمر بعينها والسكر من كل شراب" . وفي هذا الحديث أيضا بيان ما حرم من الأشربة سوى الخمر وهو ما يوجب السكر. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا أبو الأحوص قال: حدثنا سماك بن حرب عن القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي بردة بن نيار قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اشربوا في الظروف ولا تسكروا" , فقوله: "اشربوا في الظروف" منصرف إلى ما كان حظره من الشرب في الأوعية, فأباح الشرب منها بهذا الخبر. ومعلوم أن مراده ما يسكر كثيره, ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال: "اشربوا الماء ولا تسكروا"; إذ كان الماء لا يسكر بوجه ما؟ فثبت أن مراده إباحة شرب قليل ما يسكر كثيره.
وأما ما روي عن الصحابة من شرب النبيذ الشديد فقد ذكرنا منه طرفا في كتاب الأشربة, ونذكر ههنا بعض ما روي فيه, حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا حسين بن جعفر القتات قال: حدثنا يزيد بن مهران الخباز قال: حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي حصين والأعمش عن إبراهيم عن علقمة والأسود قال: "كنا ندخل على عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيسقينا النبيذ الشديد". وحدثنا عبد الله بن الحسين الكرخي قال: حدثنا أبو عون الفرضي قال: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال: حدثنا نعيم بن حماد قال: كنا عند يحيى بن سعيد القطان بالكوفة وهو يحدثنا في تحريم النبيذ, فجاء أبو بكر بن عياش حتى وقف عليه, فقال أبو بكر: اسكت يا صبي حدثنا الأعمش بن إبراهيم عن علقمة قال: شربنا عند عبد الله بن مسعود نبيذا صلبا آخره يسكر; وحدثنا أبو إسحاق عن عمرو بن ميمون قال: شهدت عمر بن الخطاب حين طعن وقد أتي بالنبيذ فشربه, قال: عجبنا من قول أبي بكر ليحيى: "اسكت يا صبي". وروى إسرائيل عن أبي إسحاق عن الشعبي عن سعيد وعلقمة أن أعرابيا شرب من شراب عمر, فجلده عمر الحد, فقال الأعرابي: إنما شربت من شرابك فدعا عمر شرابه فكسره بالماء ثم شرب منه وقال: "من رابه من شرابه شيء فليكسره بالماء", ورواه إبراهيم النخعي عن عمر نحوه, وقال فيه: إنه شرب منه بعدما ضرب الأعرابي وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا المعمري قال: حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال: حدثنا معمر قال: حدثني عطاء بن أبي ميمونة عن أنس بن مالك عن أم سليم وأبي طلحة: أنهما كانا

(2/581)


يشربان نبيذ الزبيب والتمر يخلطانه, فقيل له: يا أبا طلحة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا فقال: "إنما نهى عنه للعوز في ذلك الزمان كما نهى عن الإقران". وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب كثير, وقد ذكرنا منه طرفا في كتابنا "الأشربة" وكرهت التطويل بإعادته هنا. وما روي عن أحد من الصحابة والتابعين تحريمه الأشربة التي يبيحها أصحابنا فيما نعلمه, وإنما روي عنهم تحريم نقيع الزبيب والتمر وما لم يرد من العصير إلى الثلث; إلى أن نشأ قوم من الحشو تصنعوا عند العامة بالتشديد في تحريمه ولو كان النبيذ محرما لورد النقل به مستفيضا لعموم البلوى كانت به; إذ كانت عامة أشربتهم نبيذ التمر والبسر, كما ورد تحريم الخمر وقد كانت بلواهم بشرب النبيذ أعم منها بشرب الخمر لقلتها كانت عندهم, وفي ذلك دليل على بطلان قول موجبي تحريمه. وقد استقصينا الكلام في ذلك من سائر وجوهه في "الأشربة".
وأما الميسر فقد روي عن علي أنه قال: "الشطرنج من الميسر" وقال عثمان وجماعة من الصحابة والتابعين: "النرد". وقال قوم من أهل العلم: "القمار كله من الميسر". وأصله من تيسير أمر الجزور بالاجتماع على القمار فيه, وهو السهام التي يجيلونها, فمن خرج سهمه استحق منه ما توجبه علامة السهم, فربما أخفق بعضهم حتى لا يحظى بشيء وينجح البعض فيحظى بالسهم الوافر; وحقيقته تمليك المال على المخاطرة. وهو أصل في بطلان عقود التمليكات الواقعة على الأخطار, كالهبات والصدقات وعقود البياعات ونحوها, إذا علقت على الأخطار, بأن يقول: "قد بعتك إذا قدم زيد" و "وهبته لك إذا خرج عمرو" لأن معنى إيسار الجزور أن يقول: من خرج سهمه استحق من الجزور كذا, فكان استحقاقه لذلك السهم منه معلقا على الخطر.
والقرعة في الحقوق تنقسم إلى معنيين: أحدهما: تطييب النفوس من غير إحقاق واحد من المقترعين ولا بخس حظ مما اقترعوا عليه, مثل القرعة في القسمة وفي قسم النساء وفي تقديم الخصوم إلى القاضي. والثاني: مما ادعاه مخالفونا في القرعة بين عبيد أعتقهم المريض ولا مال له غيرهم, فقول مخالفينا هنا من جنس الميسر المحظور بنص الكتاب لما فيه من نقل الحرية عمن وقعت عليه إلى غيره بالقرعة, ولما فيه أيضا من إحقاق بعضهم وبخس حقه حتى لا يحظى منه بشيء واستيفاء بعضهم حقه وحق غيره, ولا فرق بينه وبين الميسر في المعنى.
وأما الأنصاب فهي ما نصب للعبادة من صنم أو حجر غير مصور, أو غير ذلك من سائر ما ينصب للعبادة.
وأما الأزلام فهي القداح, وهي سهام كانوا يجعلون عليها علامات "افعل" و "لا

(2/582)


تفعل" ونحو ذلك, فيعملون في سائر ما يهتمون به من أعمالهم على ما تخرجه تلك السهام من أمر أو نهي أو إثبات أو نفي, ويستعملونها في الأنساب أيضا إذا شكوا فيها, فإن خرج "لا" نفوه, وإن خرج "نعم" أثبتوه; وهي سهام الميسر أيضا.
وأما قوله {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} فإن الرجس هو الذي يلزم اجتنابه إما لنجاسته وإما لقبح ما يفعل به من عبادة أو تعظيم; لأنه يقال "رجس نجس" فيراد بالرجس النجس, ويتبع أحدهما الآخر, كقولهم: "حسن بسن" و "عطشان نطشان" وما جرى مجرى ذلك. والرجز قد قيل فيه إنه العذاب في قوله تعالى: {لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ} [الأعراف: 134] أي العذاب. وقد يكون في معنى الرجس كما في قوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:5] وقوله: {وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال: 11] وإنما قال تعالى: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} لأنه يدعو إليه ويأمر به, فأكد بذلك أيضا حكم تحريمها; إذ كان الشيطان لا يأمر إلا بالمعاصي والقبائح والمحرمات, وجازت نسبته إلى الشيطان على وجه المجاز; إذ كان هو الداعي إليه والمزين له, ألا ترى أن رجلا لو أغرى غيره بضرب غيره أو بسبه وزينه له جاز أن يقال له هذا من عملك؟
قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} الآية; فإنما يريد به ما يدعو الشيطان إليه ويزينه من شرب الخمر حتى يسكر منها شاربها فيقدم على القبائح ويعربد على جلسائه فيؤدي ذلك إلى العداوة والبغضاء; وكذلك القمار يؤدي إلى ذلك, قال قتادة: "كان الرجل يقامر في ماله وأهله فيقمر ويبقى حزينا سليبا فيكسبه ذلك العداوة والبغضاء". ومن الناس من يستدل به على تحريم النبيذ إذ كان السكر منه يوجب من العداوة والبغضاء مثل ما يوجبه السكر في الخمر; وهذا المعنى لعمري موجود فيما يوجب السكر منه غير موجود فيما لا يوجبه, ولا خلاف في تحريم ما يوجب السكر منه, وأما قليل الخمر فليست هذه العلة موجودة فيه فهو محرم لعينه, وليس فيه علة تقتضي تحريم قليل النبيذ.
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} قال ابن عباس وجابر والبراء بن عازب وأنس بن مالك والحسن ومجاهد وقتادة والضحاك: "لما حرم الخمر كان قد مات رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر قبل أن تحرم, فقالت الصحابة: كيف بمن مات منا وهم يشربونها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية". وروي عن عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن السلمي عن علي: أن قوما شربوا بالشام وقالوا هي لنا حلال وتأولوا هذه الآية, فأجمع عمر وعلي على أن يستتابوا فإن تابوا وإلا

(2/583)


قتلوا. وروى الزهري1 قال: أخبرني عبد الله بن عامر بن ربيعة, أن الجارود سيد بني عبد القيس وأبا هريرة شهدا على قدامة بن مظعون أنه شرب الخمر وأراد عمر أن يجلده, فقال قدامة: ليس لك ذلك لأن الله تعالى يقول: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ} الآية فقال عمر: إنك قد أخطأت التأويل يا قدامة, إذا اتقيت اجتنبت ما حرم الله تعالى عليك فلم يحكموا على قدامة بحكمهم على الذين شربوها بالشام, ولم يكن حكمه حكمهم لأن أولئك شربوها مستحلين لها, ومستحل ما حرم الله كافر, فلذلك استتابوهم. وأما قدامة بن مظعون فلم يشربها مستحلا لشربها, وإنما تأول الآية على أن الحال التي هو عليها ووجود الصفة التي ذكر الله تعالى في الآية فيه مكفرة لذنوبه, وهو قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} فكان عنده أنه من أهل هذه الآية وأنه لا يستحق العقوبة على شربها مع اعتقاده لتحريمها ولتكفير إحسانه إساءته. وأعاد ذكر الاتقاء في الآية ثلاث مرات والمراد بكل واحد منها غير المراد بالأخرى, فأما الأول: فمن اتقى فيما سلف, والثاني: الاتقاء منهم في مستقبل الأوقات, والثالث: اتقاء ظلم العباد والإحسان إليهم.
ـــــــ
1 قوله "وروى الزهري إلى الخ" تفصيل هذه القصة مذكور في جامع أحكام القرآن للقرطبي. "لمصححه".

(2/584)


باب الصيد للمحرم
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ} قيل في موضع "من" ههنا إنها للتبعيض, بأن يكون المراد صيد البر دون صيد البحر وصيد الإحرام دون صيد الإحلال. وقيل إنها للتمييز, كقوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] وقولك" باب من حديد" و" ثوب من قطن". وجائز أن يريد ما يكون من أجزاء الصيد وإن لم يكن صيدا, كالبيض والفرخ; لأن البيض من الصيد, وكذلك الفرخ والريش وسائر أجزائه; فتكون الآية شاملة لجميع هذه المعاني, ويكون المحرم بعض الصيد في بعض الأحوال وهو صيد البر في حال الإحرام, ويفيد أيضا تحريم ما كان من أجزاء الصيد ونما عنه كالبيض والفرخ والوبر وغيره. وقد روي عن ابن عباس في قوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} قال: "فراخ الطير وصغار الوحش". وقال مجاهد: "الفراخ والبيض". وقد روي عن علي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه أعرابي بخمس بيضات فقال: "إننا محرمون وإنا لا نأكل; فلم يقبلها". وروى عكرمة عن ابن عباس عن

(2/584)


كعب بن عجرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بيض نعام أصابه المحرم بقيمته. وروي عن عمر وعبد الله بن مسعود وابن عباس وأبي موسى في بيض النعامة يصيبه المحرم: "أن عليه قيمته". ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في ذلك.
وقوله تعالى: {وَرِمَاحُكُمْ} قال ابن عباس: "كبار الصيد".
قوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} , قيل فيه ثلاثة أوجه كلها محتمل: أحدها: محرمون بحج أو عمرة. والثاني دخول الحرم, يقال أحرم الرجل إذا دخل الحرم, كما يقال أنجد إذا أتى نجدا, وأعرق إذا أتى العراق, وأتهم إذا أتى تهامة. والثالث: الدخول في الشهر الحرام, كما قال الشاعر:
قتل الخليفة محرما
يعني في الشهر الحرام, وهو يريد عثمان بن عفان رضي الله عنه. ولا خلاف أن الوجه الثالث غير مراد بهذه الآية, وأن الشهر الحرام لا يحظر الصيد, والوجهان الأولان مرادان. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم عن صيد الحرم للحلال والمحرم, فدل أنه مراد بالآية; لأنه متى ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حكم ينتظمه لفظ القرآن فالواجب أن يحكم بأنه صدر عن الكتاب غير مبتدأ.
وقوله عز وجل: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} يقتضي عمومه صيد البر والبحر لولا ما خصه بقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} فثبت أن المراد بقوله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} صيد البر خاصة دون صيد البحر. وقد دل قوله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} أن كل ما يقتله المحرم من الصيد فهو غير ذكي لأن الله تعالى سماه قتلا, والمقتول لا يجوز أكله وإنما يجوز أكل المذبوح على شرائط الذكاة, وما ذكي من الحيوان لا يسمى مقتولا لأن كونه مقتولا يفيد أنه غير مذكى. وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم "خمس يقتلهن المحرم في الحل والحرم" قد دل على أن هذه الخمسة ليست مما يؤكل لأنه مقتول غير مذكى, ولو كان مذكى كانت إفاتة روحه لا تكون قتلا ولم يكن يسمى بذلك. وكذلك قال أصحابنا فيمن قال: "لله علي ذبح شاة" إن عليه أن يذبح, ولو قال: "لله علي قتل شاة" لم يلزمه شيء. وكذلك قال أصحابنا فيمن قال: "لله علي ذبح ولدي أو نحره" فعليه شاة, ولو قال: "لله علي قتل ولدي" لم يلزمه شيء لأن اسم الذبح متعلق بحكم الشرع في الإباحة والقربة, وليس كذلك القتل. وروي عن سعيد بن المسيب في قوله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} قال: "قتله حرام في هذه الآية وأكله حرام في هذه الآية" يعني أكل ما قتله المحرم منه. وروى أشعث عن الحسن قال: "كل

(2/585)


صيد يجب فيه الجزاء فذلك الصيد ميتة لا يحل أكله"; وروى عنه يونس أيضا أنه لا يؤكل. وروى حماد بن سلمة عن يونس عن الحسن في الصيد يذبحه المحرم قال: "يأكله الحلال". وعن عطاء: "إذا أصاب المحرم الصيد لا يأكله الحلال". وقال الحكم وعمرو بن دينار: "يأكله الحلال". وهو قول سفيان. وقد ذكرنا دلالة الآية على تحريم ما أصابه المحرم من الصيد وأنه لا يكون مذكى; ويدل على أن تحريمه عليه من طريق الدين على أنه حق الله تعالى فأشبه صيد المجوسي والوثني وما ترك فيه التسمية أو شيء من شرائط الذكاة, وليس بمنزلة الذبح بسكين مغصوب أو ذبح شاة مغصوبة; لأن تحريمه تعلق بحق آدمي, ألا ترى أنه لو أباحه جاز فلم يمنع صحة الذكاة؟ إذ كانت الذكاة حقا لله تعالى, فشروطها ما كان حقا لله تعالى.

(2/586)


باب ما يقتله المحرم
قوله تعالى: { لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} لما كان خاصا في صيد البر دون صيد البحر لما ذكرنا في سياق الآية من التخصيص, اقتضى عمومه تحريم سائر صيد البر إلا ما خصه الدليل. وقد روى ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد وعائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " خمس يقتلهن المحرم في الحل والحرم: الحية والعقرب والغراب والفأرة والكلب العقور" على اختلاف منهم في بعضها, وفي بعضها: "هن فواسق". وروي عن أبي هريرة قال: "الكلب العقور الأسد". وروى حجاج بن أرطاة عن وبرة قال: سمعت ابن عمر يقول أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الذئب والفأرة والغراب والحدأة. فذكر في هذا الحديث الذئب. وذكر القعنبي عن مالك قال: "الكلب العقور الذي أمر المحرم بقتله ما قتل الناس وعدا عليهم, مثل الأسد والنمر والذئب وهو الكلب العقور, وأما ما كان من السباع لا يعدو مثل الضبع والثعلب والهرة وما أشبههن من السباع فلا يقتلهن المحرم, فإن قتل منهن شيئا فداه". قال أبو بكر: قد تلقى الفقهاء هذا الخبر بالقبول واستعملوه في إباحة قتل الأشياء الخمسة للمحرم. وقد اختلف في الكلب العقور, فقال أبو هريرة على ما قدمنا الرواية فيه: "إنه الأسد" ويشهد لهذا التأويل أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا على عتبة بن أبي لهب فقال: "أكلك كلب الله" فأكله الأسد. قيل له: إن الكلب العقور هو الذئب. وروي في بعض أخبار ابن عمر في موضع "الكلب" "الذئب", ولما ذكر الكلب العقور أفاد بذلك كلبا من شأنه العدو على الناس وعقرهم, وهذه صفة الذئب, فأولى الأشياء بالكلب ههنا الذئب. وقد دل على أن كل ما عدا على المحرم وابتدأه بالأذى فجائز له قتله من غير فدية لأن فحوى ذكره الكلب العقور يدل عليه, وكذلك قال أصحابنا فيمن

(2/586)


ابتدأه السبع فقتله فلا شيء عليه, وإن كان هو الذي ابتدأ السبع فعليه الجزاء, لعموم قوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} . واسم الصيد واقع على كل ممتنع الأصل متوحش, ولا يختص بالمأكول منه دون غيره, ويدل عليه قوله تعالى: {لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} [المائدة: 94] فعلق الحكم منه بما تناله أيدينا ورماحنا, ولم يخصص المباح منه دون المحظور الأكل. ثم خص النبي صلى الله عليه وسلم الأشياء المذكورة في الخبر وذكر معها الكلب العقور, فكان تخصيصه لهذه الأشياء وذكره للكلب العقور دليلا على أن كل ما ابتدأ الإنسان بالأذى من الصيد فمباح للمحرم قتله; لأن الأشياء المذكورة من شأنها أن تبتدئ بالأذى, فجعل حكمها حكم حالها في الأغلب وإن كانت قد لا تبتدئ في حال; لأن الأحكام إنما تتعلق في الأشياء بالأعم الأكثر, ولا حكم للشاذ النادر. ثم لما ذكر الكلب العقور وقيل هو الأسد فإنما أباح قتله إذا قصد بالعقر والأذى, وإن كان الذئب فذلك من شأنه في الأغلب; فما خصه النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك بالخبر وقامت دلالته فهو مخصوص من عموم الآية, وما لم يخصه ولم تقم دلالة تخصيصه فهو محمول على عمومها. ويدل عليه حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الضبع صيد وفيه كبش إذا قتله المحرم" . وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع, والضبع من ذي الناب من السباع وجعل النبي صلى الله عليه وسلم فيها كبشا.
فإن قيل: هلا قست على الخمس ما كان في معناها وهو ما لا يؤكل لحمه قيل له: إنما خص هذه الأشياء الخمسة من عموم الآية, وغير جائز عندنا القياس على المخصوص إلا أن تكون علته مذكورة فيه أو دلالة قائمة فيما خص, فلما لم تكن للخمس علة مذكورة فيها لم يجز القياس عليها في تخصيص عموم الأصل. وقد بينا وجه دلالته على ما يبتدئ الإنسان بالأذى من السباع, وكونه غير مأكول اللحم لم تقم عليه دلالة من فحوى الخبر ولا علته مذكورة فيه, فلم يجز اعتباره. وأيضا فإنه لا خلاف فيما ابتدأ المحرم في سقوط الجزاء, فجاز تخصيصه بالإجماع وبقي حكم عموم الآية فيما لم يخصه الخبر ولا الإجماع. ومن أصحابنا من يأبى القياس في مثله لأنه حصره بعدد فقال "خمس يقتلهن المحرم" وفي ذلك دليل على أن ما عداه محظور, فغير جائز استعمال القياس في إسقاط دلالة اللفظ. ومنهم من يأبى صحة الاعتلال بكونه غير مأكول; لأن ذلك نفي والنفي لا يكون علة, وإنما العلل أوصاف ثابتة في الأصل المعلول, وأما نفي الصفة فليس يجوز أن يكون علة. فإن غير الحكم بإثبات وصف وجعل العلة أنه محرم الأكل لم يصح ذلك أيضا; لأن التحريم هو الحكم بنفي الأكل,

(2/587)


فلم يخل من أن يكون نافيا للصفة, فلم يصح الاعتلال بها. وزعم الشافعي أن ما لا يؤكل من الصيد فلا جزاء على المحرم فيه.
قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} قال أبو بكر: اختلف الناس في ذلك على ثلاثة أوجه: فقال قائلون وهم الجمهور: "سواء قتله عمدا أو خطأ فعليه الجزاء" وجعلوا فائدة تخصيصه العمد بالذكر في نسق التلاوة من قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} , وذلك يختص بالعمد دون الخطإ; لأن المخطئ لا يجوز أن يلحقه الوعيد, فخص العمد بالذكر وإن كان الخطأ والنسيان مثله ليصح رجوع الوعيد إليه; وهو قول عمر وعثمان والحسن رواية وإبراهيم وفقهاء الأمصار. والقول الثاني: ما روى منصور عن قتادة عن رجل قد سماه عن ابن عباس: "أنه كان لا يرى في الخطإ شيئا" وهو قول طاوس وعطاء وسالم والقاسم وأحد قولي مجاهد في رواية الجعفي عنه. والقول الثالث: ما روى سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} قال: "إذا كان عامدا لقتله ناسيا لإحرامه فعليه الجزاء, وإن كان ذاكرا لإحرامه عامدا لقتله فلا جزاء عليه" وفي بعض الروايات: "قد فسد حجه وعليه الهدي". وقد روي عن الحسن نحو قول مجاهد في أن الجزاء إنما يجب إذا كان عامدا لقتله ناسيا لإحرامه. والقول الأول هو الصحيح; لأنه قد ثبت أن جنايات الإحرام لا يختلف فيها المعذور وغير المعذور في باب وجوب الفدية, ألا ترى أن الله تعالى قد عذر المريض ومن به أذى من رأسه ولم يخلهما من إيجاب الكفارة؟ وكذلك لا خلاف في فوات الحج لعذر أو غيره أنه غير مختلف الحكم; ولما ثبت ذلك في جنايات الإحرام وكان الخطأ عذرا; لم يكن مسقطا للجزاء.
فإن قال قائل: لا يجوز عندكم إثبات الكفارات قياسا, وليس في المخطئ نص في إيجاب الجزاء. قيل له: ليس هذا عندنا قياسا; لأن النص قد ورد بالنهي عن قتل الصيد في قوله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وذلك عندنا يقتضي إيجاب البدل على متلفه, كالنهي عن قتل صيد الآدمي أو إتلاف ماله يقتضي إيجاب البدل على متلفه; فلما جرى الجزاء في هذا الوجه مجرى البدل وجعله الله مثلا للصيد; اقتضى النهي عن قتله إيجاب بدله على متلفه, ثم ذلك البدل يكون الجزاء بالاتفاق. وأيضا فإنه لما ثبت استواء حال المعذور وغير المعذور في سائر جنايات الإحرام كان مفهوما من ظاهر النهي تساوي حال العامد والمخطئ; وليس ذلك عندنا قياسا, كما أن حكمنا في غير بريرة بما حكم النبي صلى الله عليه وسلم في بريرة ليس بقياس, وكذلك حكمنا في العصفور بحكم الفأرة وحكمنا في الزيت بحكم السمن إذا مات فيه ليس هو قياسا على الفأرة وعلى السمن; لأنه قد ثبت

(2/588)


تساوي ذلك قبل ورود الحكم بما وصفنا, فإذا ورد في شيء منه كان حكما في جميعه, ولذلك قال أصحابنا: إن حكم النبي صلى الله عليه وسلم ببقاء صوم الآكل ناسيا هو حكم فيه ببقاء صوم المجامع ناسيا لأنهما غير مختلفين فيما يتعلق بهما من الأحكام في حال الصوم وكذلك قالوا فيمن سبقه الحدث في الصلاة من بول أو غائط إنه بمنزلة الرعاف والقيء اللذين جاء فيهما الأثر في جواز البناء عليهما; لأن ذلك غير مختلف فيما يتعلق بهما من أحكام الطهارة والصلاة, فلما ورد الأثر في بعض ذلك كان ذلك حكما في جميعه وليس ذلك بقياس. كذلك حكم قاتل الصيد خطأ. وأما مجاهد فإنه تارك لظاهر الآية لأن الله تعالى قال: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} فمن كان ذاكرا لإحرامه عامدا لقتل الصيد فقد شمله الاسم, فواجب عليه الجزاء, ولا معنى لاعتبار كونه ناسيا لإحرامه عامدا لقتله.
فإن قال قائل نص الله تعالى على كفارة قاتل الخطإ فلم تردوا عليه قاتل العمد, كذلك لما نص الله تعالى على قاتل العمد بإيجاب الجزاء لم يجز إيجابها على قاتل الخطإ. قيل له: الجواب عن هذا من وجوه: أحدها: أن الله تعالى لما نص على حكم كل واحد من القتلين وجب استعمالهما ولم يجز قياس أحدهما على الآخر; لأنه غير جائز عندنا قياس المنصوصات بعضها على بعض. ومن جهة أخرى أن قتل العمد لم يخل من إيجاب القود الذي هو أعظم من الكفارة والدية, ومتى أخلينا قاتل الصيد خطأ من إيجاب الجزاء لم يجب عليه شيء آخر فيكون لغوا عاريا من حكم, وذلك غير جائز. وأيضا فإن أحكام القتل في الأصول مختلفة في العمد والخطإ والمباح والمحظور, ولم يختلف ذلك في الصيد, فلذلك استوى حكم العمد والخطإ فيه واختلف في قتل الآدمي.
قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} اختلف في المراد بالمثل, فروي عن ابن عباس: "أن المثل نظيره; في الأروى بقرة وفي الظبية شاة وفي النعامة بعير" وهو قول سعيد بن جبير وقتادة في آخرين من التابعين, وهو قول مالك ومحمد بن الحسن والشافعي وذلك فيما له نظير من النعم, فأما ما لا نظير له منه كالعصفور ونحوه ففيه القيمة. وروى الحجاج عن عطاء ومجاهد وإبراهيم في المثل أنه القيمة دراهم, وروي عن مجاهد رواية أخرى أنه الهدي. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: "المثل هو القيمة, ويشتري بالقيمة هديا إن شاء, وإن شاء اشترى طعاما وأعطى كل مسكين نصف صاع, وإن شاء صام عن كل نصف صاع يوما".
قال أبو بكر: المثل اسم يقع على القيمة وعلى النظير من جنسه وعلى نظيره من النعم, ووجدنا المثل الذي يجب في الأصول على أحد وجهين: إما من جنسه كمن

(2/589)


استهلك لرجل حنطة فيلزمه مثلها, وإما من قيمته كمن استهلك ثوبا أو عبدا; والمثل من غير جنسه ولا قيمته خارج عن الأصول. واتفقوا أن المثل من جنسه غير واجب, فوجب أن يكون المثل المراد بالآية هو القيمة. وأيضا لما كان ذلك متشابها محتملا للمعاني وجب حمله على ما اتفقوا على معناه من المثل المذكور في القرآن, وهو قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فلما كان المثل في هذا الموضع فيما لا مثل له من جنسه هو القيمة, وجب أن يكون المثل المذكور للصيد محمولا عليه من وجهين: أحدهما: أن المثل في آية الاعتداء محكم متفق على معناه منه. والوجه الثاني: أنه قد ثبت أن المثل اسم للقيمة في الشرع ولم يثبت أنه اسم للنظير من النعم, فوجب حمله على ما قد ثبت اسما له ولم يجز حمله على ما لم يثبت أنه اسم له. وأيضا قد اتفقوا أن القيمة مرادة بهذا المثل فيما لا نظير له من النعم, فوجب أن تكون هي المرادة من وجهين: أحدهما: أنه قد ثبت أن القيمة مرادة فهو بمنزلته لو نص عليها فلا ينتظم النظير من النعم. والثاني: أنه لما ثبت أن القيمة مرادة انتفى النظير من النعم لاستحالة إرادتهما جميعا في لفظ واحد; لأنهم متفقون على أن المراد أحدهما من قيمة أو نظير من النعم, ومتى ثبت أن القيمة مرادة انتفى غيرها. ومن جهة أخرى أن قوله تعالى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} لما كان عاما فيما له نظير وفيما لا نظير له, ثم عطف عليه قوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} وجب أن يكون ذلك المثل عاما في جميع المذكور والقيمة بذلك أولى; لأنه إذا حمل على القيمة كان المثل عاما في جميع المذكور, وإذا حمل على النظير كان خاصا في بعضه دون بعض; وحكم اللفظ استعماله على عمومه ما أمكن ذلك, فلذلك وجب أن يكون اعتبار القيمة أولى, ومن اعتبر النظير جعل اللفظ خاصا في بعض المذكور دون البعض.
فإن قيل: إذا كان اسم المثل يقع على القيمة تارة وعلى النظير أخرى, فمن استعملهما فيما له نظير على النظير وفيما لا نظير له من النعم على القيمة, فلم يخل من استعمال لفظ المثل على عمومه إما في القيمة أو المثل. قيل له: ليس كذلك, بل هو مستعمل في القيمة على الخصوص وفي النظير على الخصوص أيضا واستعماله على العموم في جميع ما انتظمه الاسم باعتبار القيمة أولى من استعماله على الخصوص في كل واحد من المعنيين.
فإن قال قائل: المثل اسم للنظير وليس باسم للقيمة, وإنما أوجبت القيمة فيما لا نظير له من الصيد بالإجماع لا بالآية. قيل له: هذا غلط من وجوه: أحدها أن الله تعالى قد سمى القيمة مثلا في قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى

(2/590)


عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] واتفق فقهاء الأمصار فيمن استهلك عبدا أن عليه قيمته, وحكم النبي صلى الله عليه وسلم على معتق عبد بينه وبين غيره بنصف قيمته إذا كان موسرا, فبان بذلك غلط هذا القائل في نفيه اسم المثل عن القيمة. ووجه آخر: وهو أن قولك "إن الآية لم تقتض إيجاب الجزاء فيما لا نظير له" تخصيص لها بغير دليل, مع دخول ذلك في عموم قوله: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وقوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً} والهاء في: {قَتَلَهُ} كناية عن جميع المذكور من الصيد, فإذا أخرجت منه بعضه فقد خصصته بغير دليل, وذلك غير سائغ. ويدل على أن المثل القيمة دون النظير أن جماعة من الصحابة قد روي عنهم: "في الحمامة شاة" ولا تشابه بين الحمامة والشاة في المنظر, فعلمنا أنهم أوجبوها على وجه القيمة.
فإن قيل: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل في الضبع كبشا. قيل له: لأن تلك كانت قيمته, ولا دلالة فيه على أنه أوجبه من حيث كان نظيرا له. فإن قال قائل: إنما كان يسوغ هذا التأويل وحمل الآية على القيمة لو لم يكن في الآية بيان المراد بالمثل, وقد فسر في نسق الآية معنى المثل في قوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} فأخبر أن المثل من النعم ولا مساغ للتأويل مع النص. قيل له: إنما كان يكون على ما ادعيت لو اقتصر على ذلك ولم يصله بما أسقط دعواك, وهو قوله: {مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} فلما وصله بما ذكر وأدخل عليه حرف التخيير ثبت بذلك أن ذكر النعم ليس على وجه التفسير للمثل, ألا ترى أنه قد ذكر الطعام والصيام جميعا وليسا مثلا وأدخل "أو" بينهما وبين النعم؟ ولا فرق; إذ كان ذلك ترتيب الآية بين أن يقول فجزاء مثل ما قتل طعاما أو صياما أو من النعم هديا; لأن تقديم ذكر النعم في التلاوة لا يوجب تقديمه في المعنى, بل الجميع كأنه مذكور معا. ألا ترى أن قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} لم يقتض كون الطعام مقدما على الكسوة ولا الكسوة مقدمة على العتق في المعنى, بل الكل كأنه مذكور بلفظ واحد معا؟ فكذلك قوله: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} موصولا بقوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} لم يكن ذكر النعم تفسيرا للمثل. وأيضا فإن قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} كلام مكتف بنفسه غير مفتقر إلى تضمينه بغيره, وقوله: {مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} يمكن استعماله على غير وجه التفسير للمثل, فلم يجز أن يجعل المثل مضمنا بالنعم مع استغناء الكلام عنه لأن كل كلام فله حكم غير جائز تضمينه بغيره إلا بدلالة تقوم عليه سواه. وأيضا قوله: {مِنَ

(2/591)


النَّعَمِ} معلوم أن فيه ضمير إرادة المحرم, فمعناه: "من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا" إن أراد الهدي, والطعام إن أراد الطعام, فليس هو إذا تفسيرا للمثل, كما أن الطعام والصيام ليسا تفسيرا للمثل المذكور.
فإن قيل: روي عن جماعة من الصحابة أنهم حكموا في النعامة ببدنة, ومعلوم أن القيم تختلف, وقد أطلقوا القول في ذلك من غير اعتبار الصيد في زيادة القيمة ونقصانها. قيل له: فما تقول أنت, هل توجب في كل نعامة بدنة من غير اعتبار الصيد في ارتفاع قيمته وانخفاضها فتوجب في أدنى النعام بدنة رفيعة وتوجب في أرفع النعام بدنة وضيعة؟ فإن قيل: لا, وإنما أوجب بدنة على قدر النعامة, فإن كانت رفيعة فبدنة رفيعة وإن كانت وضيعة فبدنة على قدرها; قيل له فقد خالفت الصحابة لأنهم لم يسألوا عن حال الصيد ولم يفرقوا بين الرفيعة منها والدنية فاعتبرت خلاف ما اعتبروا. فإن قيل: هذا محمول على أنهم حكموا بالبدنة على حسب حال النعامة وإن لم يذكروا ذلك ولم ينقله الراوي. قيل له: فكذلك يقول لك القائلون بالقيمة إنهم حكموا بالبدنة لأن ذلك كان قيمتها في ذلك الوقت, وإن لم ينقل إلينا أنهم حكموا بالبدنة على أن قيمتها كانت قيمة النعامة. ويقال لهم: هل يدل حكمهم في النعامة ببدنة عليه أنه لا يجوز غيرها من الطعام والصيام؟ فإن قالوا: لا, قيل لهم: فكذلك حكمهم فيها بالبدنة غير دال على نفي جواز القيمة.

(2/592)


فصل
وقرئ قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ} برفع المثل, وقرئ بخفضه وإضافة الجزاء إليه. والجزاء قد يكون اسما للواجب بالفعل ويكون مصدرا فيكون فعلا للمجازي, فمن قرأه بالتنوين جعل المثل صفة للجزاء المستحق بالفعل وهو القيمة أو النظير من النعم على اختلافهم فيه; ومن أضافه جعله مصدرا وأضافه إلى المثل, فكان ما يخرجه من الواجب مضافا إلى المثل المذكور. ويحتمل أن يكون الجزاء الذي هو الواجب مضافا إلى المثل, والمثل يكون مثلا للصيد, فيفيد أن الصيد ميتة محرم لا قيمة له, وأن الواجب اعتبار مثل الصيد حيا في إيجاب القيمة, فالإضافة صحيحة المعنى في الحالين سواء كان الجزاء اسما أو مصدرا; والنعم من الإبل والبقر والغنم. وقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} يحتمل القولين جميعا من القيمة أو النظير من النعم لأن القيم تختلف على حسب اختلاف أحوال الصيد, فيحتاج في كل حين وفي كل صيد إلى استئناف حكم الحكمين في تقويمه. ومن قال بالنظير فرجع إلى قول الحكمين, لاختلاف

(2/592)


الصيد في نفسه من ارتفاع أو انخفاض حتى يوجبا في الرفيع منه الرفيع من النظير وفي الوسط الوسط وفي الدني الدني, وذلك يحتاج فيه إلى اجتهاد الحكمين.
وروي عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس وابن عمر, قالا في محرم قتل قطاة: "فيه ثلثا مد وثلثا مد خير من قطاة في بطن مسكين". وروى معمر عن صدقة بن يسار قال: سألت القاسم وسالما عن حجلة ذبحها وهو محرم ناسيا, فقال أحدهما لصاحبه: أحجلة في بطن رجل خير أو ثلثا مد؟ فقال: بل ثلثا مد, فقال: هي خير أو نصف مد؟ قال: بل نصف مد, قال: هي خير أو ثلث مد؟ قال: قلت: أتجزي عني شاة؟ قالا: أوتفعل ذلك؟ قلت: نعم, قالا: فاذهب. وروي أن عمر وضع رداءه على عود في دار الندوة, فأطار حماما فقتله وهو محرم, فقال لعثمان ونافع بن عبد الحارث: احكما علي فحكما بعناق بنية عفراء, فأمر بها عمر. وروى عبد الملك بن عمير عن قبيصة بن جابر: "أن محرما قتل ظبيا, فسأل عمر رجلا إلى جنبه, ثم أمره بذبح شاة وأن يتصدق بلحمها; قال قبيصة: فلما قمنا من عنده قلت له: أيها المستفتي ابن الخطاب إن فتيا ابن الخطاب لم تغن عنك من الله شيئا, فانحر ناقتك وعظم شعائر الله فوالله ما علم ابن الخطاب ما يقول حتى سأل الرجل الذي إلى جنبه, فقمت إلى عمر وإذا عمر قد أقبل ومعه الدرة على صاحبي صفعا وهو يقول: قاتلك الله أتقتل الحرام وتعدي الفتيا وتقول ما علم عمر حتى سأل من إلى جنبه أما تقرأ: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} فهذا يدل على أن حكم الحكمين في ذلك من طريق الاجتهاد, ألا ترى أن عمر وابن عباس وابن عمر والقاسم وسالما كل واحد منهم سأل صاحبه عن اجتهاده في المقدار الواجب, فلما اتفق رأيهما على شيء حكما به؟ وهذا يدل على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث لإباحة الله تعالى الاجتهاد في تقويم الصيد وما يجب فيه. ويدل أيضا على أن تقويم المستهلكات موكول إلى اجتهاد عدلين يحكمان به على المستهلك, كما أوجب الرجوع إلى قول الحكمين في تقويم الصيد. والحكمان عند أبي حنيفة يحكمان عليه بالقيمة ثم يختار المحرم ما شاء من هدي أو طعام أو صيام. وقال محمد: "الحكمان يحكمان بما يريان من هدي أو طعام أو صيام, فإن حكما بالهدي كان عليه أن يهدي".
وأما قوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} فإن الهدي من الإبل والبقر والغنم, وقال الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ولا خلاف أن له أن يهدي من أحد هذه الأصناف أيها شاء منها. هذا في الإحصار, فأما في جزاء الصيد فإن من يجعل الواجب عليه قيمة الصيد فإنه يخيره بعد ذلك, فإن اختار الهدي وبلغت قيمته بدنة نحرها, وإن لم تبلغ بدنة وبلغ بقرة ذبحها, فإن لم تبلغ وبلغ شاة ذبحها, وإن اشترى

(2/593)


بالقيمة جماعة شاء أجزأه. ومن يوجب النظير من النعم, فإنه إن حكم عليه بالهدي أهدى بما حكم به من بدنة أو بقرة أو شاة.
وقد اختلف في السن الذي يجوز في جزاء الصيد, فقال أبو حنيفة: "لا يجوز أن يهدي إلا ما يجزي في الأضحية وفي الإحصار والقران". وقال أبو يوسف ومحمد: "يجزي الجفرة والعناق على قدر الصيد". والدليل على صحة القول الأول أن ذلك هدي تعلق وجوبه بالإحرام, وقد اتفقوا في سائر الهدايا التي تعلق وجوبها بالإحرام أنها لا يجزي منها إلا ما يجزي في الأضاحي, وهو الجذع من الضأن أو الثني من المعز والإبل والبقر فصاعدا, فكذلك هدي جزاء الصيد. وأيضا لما سماه الله تعالى هديا على الإطلاق كان بمنزلة سائر الهدايا المطلقة في القرآن, فلا يجزي دون السن الذي ذكرنا. وذهب أبو يوسف ومحمد إلى ما روي عن جماعة من الصحابة أن في اليربوع جفرة وفي الأرنب عناق, وعلى أنه لو أهدى شاة فولدت ذبح ولدها معها. فأما ما روي عن الصحابة فجائز أن يكون على وجه القيمة, وأما ولد الهدي فإنه تبع لها, فيسري الحق الذي في الأم من جهة التبع, وليس يجوز اعتبار ما كان أصلا في نفسه بالاتباع; ألا ترى أنه يصح أن يكون ابن أم الولد بمنزلة أمه في كونه غير مال وعتقه بموت المولى من غير سعاية ولا يصح ابتداء إيجاب هذا الحكم له على غير وجه التبع والدخول في حكم الأم؟ وكذلك ولد المكاتبة هو مكاتب وهو علوق ولو ابتدأ كتابة العلوق لم يصح; ونظائر ذلك كثيرة.
وقوله تعالى: {بَالِغَ الْكَعْبَةِ} صفة للهدي, وبلوغه الكعبة ذبحه في الحرم لا خلاف في ذلك. وهذا يدل على أن الحرم كله بمنزلة الكعبة في الحرمة وأنه لا يجوز بيع رباعها لأنه عبر بالكعبة عن الحرم, وهو كما روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الحرم كله مسجد ; وكذلك قوله تعالى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [التوبة: 28] المراد به الحرم كله ومعالم الحج لأنهم منعوا بهذه الآية من الحج.
وقد اختلف في مواضع تقويم الصيد, فقال إبراهيم: "يقوم في المكان الذي أصابه, فإن كان في فلاة ففي أقرب الأماكن من العمران إليها", وهو قول أصحابنا. وقال الشعبي: "يقوم بمكة أو بمنى". والأول هو الصحيح; لأنه كتقويم المستهلكات, فيعتبر الموضع الذي وقع فيه الاستهلاك لا في الموضع الذي يؤدى فيه القيمة; ولأن تخصيص مكة ومنى من بين سائر البقاع تخصيص الآية بغير دليل, فلا يجوز.
فإن قال قائل: روي عن عمر وعبد الرحمن بن عوف أنهما حكما في الظبي بشاة ولم يسألا السائل عن الموضع الذي قتله فيه. قيل له: يجوز أن يكون السائل سأل عن قتله في موضع علم أن قيمته فيه شاة.

(2/594)


وأما قوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} فإنه قرئ" كفارة" بالإضافة, وقرئ بالتنوين بلا إضافة. وقد اختلف في تقدير الطعام, فقال ابن عباس رواية وإبراهيم وعطاء ومجاهد ومقسم: "يقوم الصيد دراهم ثم يشتري بالدراهم طعاما, فيطعم كل مسكين نصف صاع". وروي عن ابن عباس رواية: "يقوم الهدي ثم يشتري بقيمة الهدي طعاما", وروي مثله عن مجاهد أيضا. والأول قول أصحابنا, والثاني قول الشافعي; والأول أصح وذلك لأن جميع ذلك جزاء الصيد, فلما كان الهدي من حيث كان جزاء معتبرا بالصيد إما في قيمته أو في نظيره; وجب أن يكون الطعام مثله; لأنه قال: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} إلى قوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} فجعل الطعام جزاء وكفارة كالقيمة; فاعتباره بقيمة الصيد أولى من اعتباره بالهدي, إذ هو بدل من الصيد وجزاء عنه لا من الهدي. وأيضا قد اتفقوا فيما لا نظير له من النعم أن اعتبار الطعام إنما هو بقيمة الصيد, فكذلك فيما له نظير; لأن الآية منتظمة للأمرين, فلما اتفقوا في أحدهما أن المراد اعتبار الطعام بقيمة الصيد كان الآخر مثله. وقال أصحابنا: إذا أراد الإطعام اشترى بقيمة الصيد طعاما فأطعم كل مسكين نصف صاع من بر ولا يجزيه أقل من ذلك, ككفارة اليمين وفدية الأذى; وقد بيناه فيما سلف.
وقوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} , فإنه روي عن ابن عباس وإبراهيم وعطاء ومجاهد ومقسم وقتادة أنهم قالوا: "لكل نصف صاع يوما", وهو قول أصحابنا. وروي عن عطاء أيضا أنه قال: "لكل مد يوما". وما ذكره الله تعالى في هذه الآية من الهدي والإطعام والصيام فهو على التخيير لأن "أو" يقتضي ذلك, كقوله تعالى في كفارة اليمين: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} , وكقوله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196]. وروي نحو ذلك عن ابن عباس وعطاء والحسن وإبراهيم رواية; وهو قول أصحابنا. وروي عن ابن عباس رواية أخرى أنها على الترتيب. وروي عن مجاهد والشعبي والسدي مثله; وعن إبراهيم رواية أخرى أنها على الترتيب. والصحيح هو الأول لأنه حقيقة اللفظ, ومن حمله على الترتيب زاد فيه ما ليس منه, ولا يجوز إلا بدلالة.
قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} . روي عن ابن عباس والحسن وشريح: "إن عاد عمدا لم يحكم عليه والله تعالى ينتقم منه". وقال إبراهيم: "كانوا يسألون هل أصبت شيئا قبله؟ فإن قال نعم لم يحكموا عليه, وإن قال لا حكم عليه". وقال سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد: "يحكم عليه أبدا". وسأل عمر قبيصة بن جابر عن صيد أصابه وهو محرم, فسأل عمر عبد الرحمن بن عوف ثم حكم عليه ولم يسأل هل أصبت قبله

(2/595)


شيئا. وهو قول فقهاء الأمصار, وهو الصحيح لأن قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ} يوجب الجزاء في كل مرة, كقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92]. وذكره الوعيد للعائد لا ينافي وجوب الجزاء, ألا ترى أن الله تعالى قد جعل حد المحارب جزاء له بقوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33], ثم عقبه بذكر الوعيد بقوله: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 33] ؟ فليس إذا في ذكر الانتقام من العائد نفي لإيجاب الجزاء. وعلى أن قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} لا دلالة فيه على أن المراد العائد إلى قتل الصيد بعد قتله لصيد آخر قبله لأن قوله: {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} يحتمل أن يريد به: "عفا الله عما قبل التحريم ومن عاد يعني بعد التحريم" وإن كان أول صيد بعد نزول الآية; وإذا كان فيه احتمال ذلك لم يدل على أن العائد في قتل الصيد بعد قتله مرة أخرى ليس عليه إلا الانتقام.

(2/596)


فصل
قوله تعالى: {لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} يحتج به لأبي حنيفة في المحرم إذا أكل من الصيد الذي لزمه جزاؤه أن عليه قيمة ما أكل يتصدق به; لأن الله تعالى أخبر أنه أوجب عليه الغرم ليذوق وبال أمره بإخراج هذا القدر من ماله, فإذا أكل منه فقد رجع من الغرم في مقدار ما أكل منه, فهو غير ذائق بذلك وبال أمره; لأن من غرم شيئا وأخذ مثله لا يكون ذائقا وبال أمره; فدل ذلك على صحة قوله. وقال أصحابنا: "إن شاء المحرم صام عن كل نصف صاع من الطعام يوما, وإن شاء صام عن بعض وأطعم بعضا" فأجازوا الجمع بين الصيام والطعام, وفرقوا بينه وبين الصيام في كفارة اليمين مع الإطعام فلم يجيزوا الجمع بينهما, وفرقوا أيضا بينه وبين العتق والطعام في كفارة اليمين بأن يعتق نصف عبد ويطعم خمسة مساكين. فأما الصوم في جزاء الصيد فإنما أجازوا الجمع بينه وبين الطعام من قبل أن الله تعالى جعل الصيام عدلا للطعام ومثلا له بقوله: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً}, ومعلوم أنه لم يرد بقوله {عَدْلُ ذَلِكَ} يكون مثلا له في حقيقة معناه; إذ لا تشابه بين الصيام وبين الطعام, فعلمنا أن المراد المماثلة بينهما في قيامه مقام الطعام ونيابته عنه لمن صام بعضا, فكأنه قد أطعم بقدر ذلك فجاز ضمه إلى الطعام فكان الجميع طعاما. وأما الصيام في كفارة اليمين فإنما يجوز عند عدم الطعام وهو بدل منه, فغير جائز الجمع بينهما; إذ لا يخلو من أن يكون واجدا أو غير واجد, فإن كان واجدا للطعام لم يجزه الصيام, وإن كان غير واجد فالصوم فرضه بدلا منه, وغير جائز الجمع بين البدل والمبدل منه, كالمسح على أحد الخفين وغسل الرجل الأخرى

(2/596)


وكالتيمم والوضوء وما جرى مجرى ذلك. ولا نعلم خلافا في. امتناع جواز الجمع بين الصيام والطعام في كفارة اليمين, وأما العتق والطعام فإنما لم يجز الجمع لأن الله تعالى جعل كفارة اليمين أحد الأشياء الثلاثة فإذا أعتق النصف وأطعم النصف فهو غير فاعل لأحدهما فلم يجزه, والعتق لا يتقوم فيجزي عن الجميع بالقيمة, وليس هو مثل أن يكسو خمسة ويطعم خمسة فيجزي بالقيمة; لأن كل واحد من هذين متقوم فيجزي عن أحدهما بالقيمة.

(2/597)


فصل
قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} ينتظم الواحد والجماعة إذا قتلوا في إيجاب جزاء تام على كل واحد; لأن "من" يتناول كل واحد على حياله في إيجاب جميع الجزاء عليه; والدليل عليه قوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] قد اقتضى إيجاب الرقبة على كل واحد من القاتلين إذا قتلوا نفسا واحدة; وقال تعالى: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} [الفرقان: 19] وعيد لكل واحد على حياله. وقوله عز وجل: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً} [النساء: 93] وعيد لكل واحد من القاتلين; وهذا معلوم عند أهل اللغة لا يتدافعونه, وإنما يجهله من لا حظ له فيها.
فإن قال قائل: فلو قتل جماعة رجلا كانت على جميعهم دية واحدة, والدية إنما دخلت في اللفظ حسب دخول الرقبة. قيل له: الذي يقتضيه حقيقة اللفظ وعمومه إيجاب ديات بعدد القاتلين, وإنما اقتصر فيه على دية واحدة بالإجماع, وإلا فالظاهر يقتضيه. ألا ترى أنهما لو قتلاه عمدا كان كل واحد منهما كأنه قاتل له على حياله ويقتلان جميعا به؟ ألا ترى أن كل واحد من القاتلين لا يرث وأنه لو كان بمنزلة من قتل بعضه لوجب أن لا يحرم الميراث مما قتله منه غيره؟ فلما اتفق الجميع على أنهما جميعا لا يرثان وأن كل واحد منهما كأنه قاتل له وحده, كذلك في إيجاب الكفارة; إذ كانت النفس لا تتبعض, وكذلك قاتلو الصيد كل واحد كأنه متلف للصيد على حياله; فتجب على كل واحد كفارة تامة. ويدل عليه أن الله تعالى سمى ذلك كفارة بقوله: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} وجعل فيها صوما, فأشبهت كفارة القتل.
فإن قال قائل: لما قال الله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} دل على أن الجزاء إنما هو جزاء واحد ولم يفرق بين أن يكونوا جماعة أو واحدا, وأنت تقول يجب عليهم جزاءان

(2/597)


وثلاثة وأكثر من ذلك. قيل له: هذا الجزاء ينصرف إلى كل واحد منهم, ونحن لا نقول إنه يجب على كل واحد منهم جزاءان وثلاثة وإنما يجب عليه جزاء واحد; والذي يدل على أنه منصرف إلى كل واحد قوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} ولم يقل: "قتلوا" فدل على أنه أراد واحدا; وقد بينا ذلك في كتاب "شرح المناسك".
والخصم يحتج علينا بهذه الآية في القارن, فإنه لا يجب عليه إلا جزاء واحد بظاهر الكتاب. والجواب عن هذا أنه محرم عندنا بإحرامين على ما سنذكره في موضعه, وإذا صح لنا ذلك ثم أدخل النقص عليهما وجب أن يجبرهما بدمين.
قال أبو بكر: ولا خلاف بين الفقهاء أن الهدي لا يجزي إلا بمكة, وأن بلوغه الكعبة أن يذبحه هناك في الحرم, وأنه لو هلك بعد دخوله الحرم قبل أن يذبحه أن عليه هديا آخر غيره. وقال أصحابنا: إذا ذبحه في الحرم بعد بلوغ الكعبة فإن سرق بعد ذلك لم يكن عليه شيء لأن الصدقة تعينت فيه بالذبح, فصار كمن قال لله علي أن أتصدق بهذا اللحم, فسرق فلا يلزمه شيء. واتفق الفقهاء أيضا على جواز الصوم في غير مكة, واختلفوا في الطعام, فقال أصحابنا: "يجوز أن يتصدق به حيث شاء"; وقال الشافعي: "لا يجزي إلا أن يعطي مساكين مكة". والدليل على جوازه حيث شاء قوله تعالى: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} وذلك عموم في سائرهم, وغير جائز تخصيصه بمكان إلا بدلالة, ومن قصره على مساكين مكة فقد خص الآية بغير دليل. وأيضا ليس في الأصول صدقة مخصوصة بمكان لا يجوز أداؤها في غيره, فلما كان ذلك صدقة وجب جوازها في سائر المواضع قياسا على نظائرها من الصدقات; ولأن تخصيصه بمكان خارج عن الأصول, وما خرج عن الأصول وظاهر الكتاب من الأقاويل فهو ساقط مرذول.
فإن قال قائل: فالهدي سبيله الصدقة وهو مخصوص بالحرم قيل له: ذبحه مخصوص بالحرم, فأما الصدقة فحيث شاء; وكذلك قال أصحابنا أنه لو ذبحه في الحرم ثم أخرجه فتصدق به في غيره أجزأه وأيضا لما اتفقوا على جواز الصيام في غير مكة وهو جزاء للصيد وليس بذبح, وجب مثله في الطعام لهذه العلة.

(2/598)


باب صيد البحر
قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} . روي عن ابن عباس وزيد بن ثابت وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وقتادة والسدي ومجاهد قالوا: "صيده ما صيد طريا بالشباك ونحوها". فأما قوله: {وَطَعَامُهُ} . فقد روي عن أبي بكر وعمر وابن عباس

(2/598)


وقتادة قالوا: "ما قذفه ميتا". روي عن ابن عباس أيضا وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وقتادة ومجاهد قالوا: "المملوح منه". والقول الأول أظهر; لأنه ينتظم إباحة الصنفين مما صيد منه وما لم يصد, وأما المملوح فقد تناوله قوله {صَيْدُ الْبَحْرِ} , ويكون قوله: {وَطَعَامُهُ} على هذا التأويل تكرارا لما انتظمه اللفظ الأول.
فإن قال قائل: هذا يدل على إباحة الطافي لأنه قد انتظم ما صيد منه وما لم يصد والطافي لم يصد. قيل له: إنما تأول السلف قوله: {وَطَعَامُهُ} على ما قذفه البحر, وعندنا أن ما قذفه البحر ميتا فليس بطاف وإنما الطافي ما يموت في البحر حتف أنفه. فإن قيل: قالوا ما قذفه البحر ميتا, وهذا يوجب أن يكون قد مات فيه ثم قذفه, وهذا يدل على أنهم قد أرادوا به الطافي. قيل له: وليس كل ما قذفه البحر ميتا يكون طافيا; إذ جائز أن يموت في البحر بسبب طرأ عليه فقتله من برد أو حر أو غيره فلا يكون طافيا; وقد بينا الكلام في الطافي فيما تقدم من هذا الكتاب. وقد روي عن الحسن في قوله: {وَطَعَامُهُ} قال: ما وراء بحركم هذا كله البحر وطعامه البر والشعير والحبوب رواه أشعث بن عبد الملك عن الحسن; فلم يجعل البحر في هذا الموضع بحور المياه وجعله على ما اتسع من الأرض; لأن العرب تسمي ما اتسع بحرا, ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم للفرس الذي ركبه لأبي طلحة: "وجدناه بحرا" أي واسع الخطو. وقد روى حبيب بن الزبير عن عكرمة في قوله تعالى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم: 41] أنه أراد بالبحر الأمصار, لأن العرب تسمي الأمصار البحر. وروى سفيان عن بعضهم عن عكرمة {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم: 41] قال: "البر الفيافي التي ليس فيها شيء, والبحر القرى". والتأويل الذي روي عن الحسن غير صحيح; لأنه قد علم بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} أن المراد به بحر الماء وأنه لم يرد به البر ولا الأمصار; لأنه عطف عليه قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} .
وقوله تعالى: {مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} روي عن ابن عباس والحسن وقتادة قالوا منفعة للمقيم والمسافر. فإن قال قائل: هل اقتضى قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} إباحة صيد الأنهار؟ قيل له: نعم; لأن العرب تسمي النهر بحرا, ومنه قوله تعالى {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الروم: 41], وقد قيل إن الأغلب على البحر هو الذي يكون ماؤه ملحا, إلا أنه إذا جرى ذكره على طريق الجملة انتظم الأنهار أيضا. وأيضا فالمقصد فيه صيد الماء, فسائر حيوان الماء يجوز للمحرم اصطياده, ولا نعلم خلافا في ذلك بين الفقهاء. وقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} يحتج به من يبيح أكل جميع حيوان البحر; وقد اختلف أهل العلم فيه, والله أعلم

(2/599)


ذكر الخلاف في ذلك:
قال أصحابنا: "لا يؤكل من حيوان الماء إلا السمك", وهو قول الثوري رواه عنه أبو إسحاق الفزاري. وقال ابن أبي ليلى: "لا بأس بأكل كل شيء يكون في البحر من الضفدع وحية الماء وغير ذلك", وهو قول مالك بن أنس; وروي مثله عن الثوري, قال الثوري: "ويذبح". وقال الأوزاعي "صيد البحر كله حلال", ورواه عن مجاهد. وقال الليث بن سعد: "ليس بميتة البحر بأس وكلب الماء والذي يقال له فرس الماء, ولا يؤكل إنسان الماء ولا خنزير الماء". وقال الشافعي: "ما يعيش في الماء حل كله وأخذه ذكاته, ولا بأس بخنزير الماء".
واحتج من أباح حيوان الماء كله بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} وهو على جميعه; إذ لم يخصص شيئا منه. ولا دلالة فيه على ما ذكروا; لأن قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْر} إنما هو على إباحة اصطياد ما فيه للمحرم, ولا دلالة فيه على أكله. والدليل عليه أنه عطف عليه قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} فخرج الكلام مخرج بيان اختلاف حكم صيد البر والبحر على المحرم. وأيضا فإن الصيد اسم مصدر, وهو اسم للاصطياد وإن كان قد يقع على المصيد, ألا ترى أنك تقول: "صدت صيدا"؟ وإذا كان ذلك مصدرا كان اسما للاصطياد الذي هو فعل الصائد, ولا دلالة فيه إذا أريد به ذلك على إباحة الأكل وإن كان قد يعبر به عن المصيد, إلا أن ذلك مجاز; لأنه تسمية للمفعول باسم الفعل, وتسمية الشيء باسم غيره إنما هو استعارة. ويدل على بطلان قول من أباح جميع حيوان الماء قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أحلت لنا ميتتان ودمان: السمك والجراد" , فخص من الميتات هذين, وفي ذلك دليل على أن المخصوص من جملة الميتات المحرمة بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} هو هذان دون غيرهما لأن ما عداهما قد شمله عموم التحريم بقوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} وذلك عموم في ميتة البر والبحر. ومن أصحابنا من يجعل حصره المباح بالعدد المذكور دلالة على حظره ما عداه. وأيضا لما خصهما بالذكر وفرق بينهما وبين غيرهما من الميتات دل تفرقه على اختلاف حالهما; ويدل عليه أيضا قوله تعالى: {وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3, البقرة: 173, النحل:115] وذلك عموم في خنزير الماء كهو في خنزير البر. فإن قيل: إن خنزير الماء إنما يسمى حمار الماء. قيل له: إن سماه إنسان حمارا لم يسلبه ذلك اسم الخنزير المعهود له في اللغة, فينتظمه عموم التحريم. ويدل عليه حديث ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن عثمان قال: ذكر طبيب الدواء عند النبي صلى الله عليه وسلم وذكر

(2/600)


الضفدع يكون في الدواء, فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله والضفدع من حيوان الماء, ولو كان أكله جائزا والانتفاع به سائغا لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله, ولما ثبت تحريم الضفدع بالأثر, كان سائر حيوان الماء سوى السمك بمثابته, لأنا لا نعلم أحدا فرق بينهما.
واحتج الذين أباحوه بما روى مالك بن أنس عن صفوان بن سليم عن سعيد بن سلمة الزرقي عن المغيرة بن أبي بردة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". وسعيد بن سلمة مجهول لا يقطع بروايته, وقد خولف في هذا الإسناد, فروى يحيى بن سعيد الأنصاري عن المغيرة بن عبد الله وهو ابن أبي بردة عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم; ورواه يحيى بن أيوب عن جعفر بن ربيعة وعمرو بن الحارث عن بكر بن سوادة عن أبي معاوية العلوي عن مسلم بن مخشي المدلجي عن الفراسي, أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" . وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل ومحمد بن عبدوس قالا: حدثنا أحمد بن حنبل قال: حدثنا أبو القاسم بن أبي الزناد قال: حدثنا إسحاق يعني ابن حازم عن ابن مقسم يعني عبيد الله عن جابر بن عبد الله, أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البحر فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" وهذه الأخبار لا يحتج بها من له معرفة بالحديث, ولو ثبت كان محمولا على ما بينه في قوله: "أحلت لنا ميتتان" . ويدل على ذلك أنه لم يخصص بذلك حيوان الماء دون غيره, وإنما ذكر ما يموت فيه, وذلك يعم ظاهره حيوان الماء والبر جميعا إذا ماتا فيه, وقد علم أنه لم يرد ذلك, فثبت أنه أراد السمك خاصة ما سواه; إذ قد علم أنه لم يرد به العموم ولا يصح اعتقاده فيه.
واحتج المبيحون له بحديث جابر في جيش الخبط وأن البحر ألقى لهم دابة يقال لها العنبر, فأكلوا منها ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل معكم منه شيء تطعمونيه"؟ وهذا لا دليل فيه على ما قالوا; لأن جماعة قد رووا هذا الحديث وذكروا فيه أن البحر ألقى حوتا يقال له العنبر, فأخبروا أنها كانت حوتا وهو السمك, وهذا لا خلاف فيه ولا دلالة على إباحة ما سواه.

(2/601)


باب أكل المحرم لحم صيد الحلال
قال الله تعالى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} . فروي عن علي وابن عباس "أنهما كرها للمحرم أكل صيد اصطاده حلال" إلا أن إسناد حديث علي ليس بقوي, يرويه علي بن زيد, وبعضهم يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويقفه بعضهم. وروي عن عثمان وطلحة بن عبيد الله وأبي قتادة وجابر وغيرهم إباحته. وروى عبد الله بن أبي قتادة

(2/601)


وعطاء بن يسار عن أبي قتادة قال: أصبت حمار وحش, فقلت لرسول الله: إني أصبت حمار وحش وعندي منه فضلة, فقال لقوم: "كلوا وهم محرمون" . وروى أبو الزبير عن جابر قال عقر أبو قتادة حمار وحش ونحن محرمون وهو حلال, فأكلنا منه ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى المطلب بن عبد الله بن حنطب عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لحم صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصطاد لكم" . وقد روي في إباحته أخبار أخر غير ذلك كرهت الإطالة بذكرها لاتفاق فقهاء الأمصار عليه.
واحتج من حظره بقوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} وعمومه يتناول الاصطياد والمصيد نفسه لوقوع الاسم عليهما, ومن أباحه ذهب إلى قوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ} إذ كان يتناول الاصطياد وتحريم المصيد نفسه, فإن هذا الحيوان إنما يسمى صيدا ما دام حيا وأما اللحم فغير مسمى بهذا الاسم بعد الذبح, فإن سمي بذلك فإنما يسمى به على أنه كان صيدا, فأما اسم الصيد فليس يجوز أن يقع على اللحم حقيقة. ويدل على أن لفظ الآية لم ينتظم اللحم أنه غير محظور عليه التصرف في اللحم بالإتلاف والشرى والبيع وسائر وجوه التصرف سوى الأكل عند القائلين بتحريم أكله, ولو كان عموم الآية قد اشتمل عليه لما جاز له التصرف فيه بغير الأكل كهو إذا كان حيا ولو كان على متلفه إذا كان محرما ضمانه كما يلزم ضمان إتلاف الصيد الحي; لأن قوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} يتناول تحريم سائر أفعالنا في الصيد في حال الإحرام. فإن قال قائل بيض الصيد محرم على المحرم وإن لم يكن ممتنعا ولا مسمى صيدا, فكذلك لحمه. قيل له: ليس كذلك لأن المحرم غير منهي عن إتلاف لحم الصيد ولو أتلفه لم يضمنه, وهو منهي عن إتلاف البيض والفرخ ويلزمه ضمانه. وأيضا فإن البيض والفرخ قد يصيران صيدا ممتنعا فحكم لهما بحكم الصيد, ولحم الصيد لا يصير صيدا بحال فكان بمنزلة لحوم سائر الحيوانات; إذ ليس بصيد في الحال ولا يجيء منه صيد. وأيضا فإنا لم نحرم الفرخ والبيض بعموم الآية وإنما حرمناهما بالاتفاق.
وقد اختلف في حديث الصعب بن جثامة أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالأبواء أو غيرها لحم حمار وحش وهو محرم فرده, فرأى في وجهه الكراهة, فقال: "ليس بنا رد عليك ولكنا حرم" , وخالفه مالك, فرواه عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة, أنه أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بالأبواء أو بودان حمار وحش, فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم" . قال ابن

(2/602)


إدريس: فقيل لمالك: إن سفيان يقول رجل حمار وحش؟ فقال: ذاك غلام ذاك غلام. ورواه ابن جريج عن الزهري بإسناد كرواية مالك, وقال فيه: إنه أهدى له حمار وحش. وروى الأعمش عن حبيب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس, أن الصعب بن جثامة أهدى إلى النبي صلى الله عليه وسلم حمار وحش وهو محرم, فرده وقال: "لولا أنا حرم لقبلناه منك" , فهذا يدل على وهاء حديث سفيان, وأن الصحيح ما رواه مالك لاتفاق هؤلاء الرواة عليه. وقد روي فيه وجه آخر, وهو ما روى أبو معاومة عن ابن جريج عن جابر بن زيد أبي الشعثاء عن أبيه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن محرم أتي بلحم صيد يأكل منه, فقال: "احسبوا له" قال أبو معاوية: يعني إن كان صيد قبل أن يحرم فيأكل وإلا فلا. وهذا يحتمل أن يريد به إذا صيد من أجله أو أمر به أو أعانه أو دل عليه ونحو ذلك من الأسباب المحظورة.
قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} الآية. قيل إنه أراد أنه جعل ذلك قواما لمعايشهم وعمادا لهم, من قولهم: "هو قوام الأمر وملاكه" وهو ما يستقيم به أمره, فهو قوام دينهم ودنياهم. وروي عن سعيد بن جبير قوله: "قواما للناس صلاحا لهم" وقيل: "قياما للناس" أي تقوم به أبدانهم لأمنهم به في التصرف لمعايشهم, فهو قوام دينهم لما في المناسك من الزجر عن القبيح والدعاء إلى الحسن, ولما في الحرم والأشهر الحرم من الأمن, ولما في الحج والمواسم واجتماع الناس من الآفاق فيها من صلاح المعاش, وفي الهدي والقلائد أن الرجل إذا كان معه الهدي مقلدا كانوا لا يعرضون له; وقيل: إن من أراد الإحرام منهم كان يتقلد من لحاء شجر الحرم فيأمن. وقال الحسن: "القلائد من تقليد الإبل والبقر بالنعال والخفاف" فهذا على صلاح التعبد به في الدين, وهذا يدل على أن تقليد البدن قربة وكذلك سوق الهدي.
والكعبة اسم للبيت الحرام قال مجاهد وعكرمة: "إنما سميت كعبة لتربيعها", وقال أهل اللغة: إنما قيل كعبة البيت فأضيفت لأن كعبته تربع أعلاه. وأصل ذلك من الكعوبة وهو النتو, فقيل للتربيع كعبة لنتو زوايا المربع, ومنه كعب ثدي الجارية إذا نتأ, ومنه كعب الإنسان لنتوه. وهذا يدل على أن الكعبين اللذين ينتهي إليهما الغسل في الوضوء هما الناتئان عن جنبي أصل الساق. وسمى الله تعالى البيت حراما لأنه أراد الحرم كله لتحريم صيده وخلاه وتحريم قتل من لجأ إليه, وهو مثل قوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} والمراد الحرم.
وأما قوله تعالى {وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} فإنه روي عن الحسن أنه قال: "هو الأشهر الحرم" فأخرجه مخرج الواحد; لأنه أراد الجنس, وهو أربعة أشهر: ثلاثة سرد وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم, وواحد فرد وهو رجب; فأخبر تعالى أنه جعل الشهر الحرام

(2/603)


قياما للناس لأنهم كانوا يأمنون فيها ويتصرفون فيها في معايشهم, فكان فيه قوامهم. وهذا الذي ذكره الله تعالى من قوام الناس بمناسك الحج والحرم والأشهر الحرم والهدي والقلائد معلوم مشاهد من ابتداء وقت الحج في زمن إبراهيم عليه السلام إلى زمان النبي صلى الله عليه وسلم وإلى آخر الدهر, فلا ترى شيئا من أمر الدين والدنيا تعلق به من صلاح المعاش والمعاد بعد الإيمان ما تعلق بالحج, ألا ترى إلى كثرة منافع الحاج في المواسم التي يردون عليها من سائر البلدان التي يجتازون بمنى وبمكة إلى أن يرجعوا إلى أهاليهم وانتفاع الناس بهم وكثرة معايشهم وتجاراتهم معهم, ثم ما فيه من منافع الدين من التأهب للخروج إلى الحج وإحداث التوبة والتحري لأن تكون نفقته من أحل ماله, ثم احتمال المشاق في السفر إليه وقطع المخاوف ومقاساة اللصوص والمحتالين في مسيرهم إلى أن يبلغوا مكة, ثم الإحرام والتجرد لله تعالى والتشبه بالخارجين يوم النشور من قبورهم إلى عرصة القيامة, ثم كثرة ذكر الله تعالى بالتلبية واللجأ إلى الله تعالى وإخلاص النية له عند ذلك البيت والتعلق بأستاره موقنا بأنه لا ملجأ له غيره, كالغريق المتعلق بما يرجو به النجاة وأنه لا خلاص له إلا بالتمسك به, ثم إظهار التمسك بحبل الله الذي من تمسك به نجا ومن حاد عنه هلك, ثم حضور الموقف والقيام على الأقدام داعين راجين لله تعالى متخلفين عن كل شيء من أمور الدنيا تاركين لأموالهم وأولادهم وأهاليهم على نحو وقوفهم في عرصة القيامة, وما في سائر مناسك الحج من الذكر والخشوع والانقياد لله تعالى, ثم ما يشتمل عليه الحج من سائر القرب التي هي معروفة في غيره من الصلاة والصيام والصدقة والقربات والذكر بالقلب واللسان والطواف بالبيت, وما لو استقصينا ذكره لطال به القول; فهذه كلها من منافع الدين والدنيا.
قوله تعالى: {ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} إخبار عن علمه بما يؤدي إليه شريعة الحج من منافع الدين والدنيا, فدبره هذا التدبير العجيب وانتظم به صلاح الخلق من أول الأمة وآخرها إلى يوم القيامة. فلولا أن الله تعالى كان عالما بالغيب وبالأشياء كل قبل كونها لما كان تدبيره لهذه الأمور مؤديا إلى ما ذكر من صلاح عباده في دينهم ودنياهم لأن من لا يعلم الشيء قبل كونه لا يتأتى منه فعل المحكم المتقن على نظام وترتيب يعم جميع الأمة نفعه في الدين والدنيا.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} . روى قيس بن الربيع عن أبي حصين عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبان قد احمر وجهه, فجلس على المنبر فقال: "لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم" فقام إليه رجل فقال: أين أنا؟ فقال: في النار فقام إليه آخر فقال: من أبي؟ فقال: "أبوك حذافة" فقام عمر

(2/604)


فقال: رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبالقرآن إماما وبمحمد نبيا يا رسول الله كنا حديثي عهد بجاهلية وشرك والله تعالى يعلم من آباؤنا; فسكن غضبه ونزلت هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} . روى إبراهيم الهجري عن أبي عياض عن أبي هريرة, أنها نزلت حين سئل عن الحج أفي كل عام؟ وعن أبي أمامة نحو ذلك. وروى عكرمة أنها نزلت في الرجل الذي قال من أبي. وقال سعيد بن جبير: في الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البحيرة والسائبة. وقال مقسم: فيما سألت الأمم أنبياءهم من الآيات.
قال أبو بكر: ليس يمتنع تصحيح هذه الروايات كلها في سبب نزول الآية, فيكون النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: "لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم" سأله عبد الله بن حذافة عن أبيه من هو, لأنه قد كان يتكلم في نسبه, وسأله كل واحد من الذين ذكر عنهم هذه المسائل على اختلافها, فأنزل الله تعالى: {لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} يعني عن مثلها; لأنه لم يكن بهم حاجة إليها; فأما عبد الله بن حذافة فقد كان نسبه من حذافة ثابتا بالفراش, فلم يحتج إلى معرفة حقيقة كونه من ماء من هو منه, ولأنه كان لا يأمن أن يكون من ماء غيره فيكشف عن أمر قد ستره الله تعالى ويهتك أمه ويشين نفسه بلا طائل ولا فائدة له فيه, لأن نسبه حينئذ مع كونه من ماء غيره ثابت من حذافة لأنه صاحب الفراش, فلذلك قالت له: لقد عققتني بسؤالك, فقال: لم تسكن نفسي إلا بإخبار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. فهذا من الأسئلة التي كان ضرر الجواب عنها عليه كان كثيرا لو صادف غير الظاهر, فكان منهيا عنه. ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى شيئا من هذه القاذورات فليستتر بستر الله, فإن من أبدى لنا صفحة أقمنا عليه كتاب الله" قال لهزال1 وكان أشار على ماعز بالإقرار بالزنا: "لو سترته بثوبك كان خيرا لك" وكذلك الرجل الذي قال: يا رسول الله أين أنا؟ قد كان غنيا عن هذه المسألة والستر على نفسه في الدنيا فهتك ستره وقد كان الستر أولى به. وكذلك المسألة عن الآيات مع ظهور ما ظهر من المعجزات منهي غير سائغ لأحد; لأن معجزات الأنبياء لا يجوز أن تكون تبعا لأهواء الكفار وشهواتهم. فهذا النحو من المسائل مستقبحة مكروهة, وأما سؤال الحج في كل عام فقد كان على سامع آية الحج الاكتفاء بموجب حكمها من إيجابها حجة واحدة, ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنها حجة واحدة ولو قلت نعم لوجبت" فأخبر أنه لو قال نعم لوجبت بقوله دون الآية, فلم يكن به حاجة إلى المسألة مع إمكان الاجتزاء بحكم الآية. وأبعد هذه التأويلات قول من ذكر أنه
ـــــــ
1 قوله: "لهزال" بفتح الهاء والزاي المنقوطة الشديدية, ابن يزيد الصحابي, كذا في شرح الموطأ للزرقاني في كتاب الحدود. "لمصححه".

(2/605)


سئل عن البحيرة والسائبة والوصيلة; لأنه لا يخلو من أن يكون سؤاله عن معنى البحيرة ما هو أو عن جوازها. وقد كانت البحيرة وما ذكر معها أسماء لأشياء معلومة عندهم في الجاهلية ولم يكونوا يحتاجون إلى المسألة عنها; ولا يجوز أيضا أن يكون السؤال وقع عن إباحتها وجوازها, لأن ذلك كان كفرا يتقربون به إلى أوثانهم, فمن اعتقد الإسلام فقد علم بطلانه.
وقد احتج بهذه الآية قوم في حظر المسألة عن أحكام الحوادث, واحتجوا أيضا بما رواه الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يكن حراما فحرم من أجل مسألته" . قال أبو بكر: ليس في الآية دلالة على حظر المسألة عن أحكام الحوادث, لأنه إنما قصد بها إلى النهي عن المسألة عن أشياء أخفاها الله تعالى عنهم واستأثر بعلمها وهم غير محتاجين إليها بل عليهم فيها ضرر إن أبديت لهم, كحقائق الأنساب; لأنه قال: "الولد للفراش" فلما سأله عبد الله بن حذافة عن حقيقة خلقه من ماء من هو دون ما حكم الله تعالى به من نسبته إلى الفراش, نهاه الله عن ذلك, وكذلك الرجل الذي قال: أين أنا؟ لم يكن به حاجة إلى كشف عيبه في كونه من أهل النار, وكسؤال آيات الأنبياء. وفي فحوى الآية دلالة على أن الحظر تعلق بما وصفنا.
قوله تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} يعني الآيات التي سألوها الأنبياء عليهم السلام فأعطاهم الله إياها. وهذا تصديق تأويل مقسم. فأما السؤال عن أحكام غير منصوصة فلم يدخل في حظر الآية, والدليل عليه أن ناجية بن جندب لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معه البدن لينحرها بمكة قال: كيف أصنع بما عطب منها؟ فقال: "انحرها واصبغ نعلها بدمها واضرب بها صفحتها وخل بينها وبين الناس ولا تأكل أنت ولا أحد من أهل رفقتك شيئا" ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم سؤاله. وفي حديث رافع بن خديج أنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: إنا لاقو العدو غدا وليس معنا مدى, فلم ينكره عليه. وحديث يعلى بن أمية في الرجل الذي سأله عما يصنع في عمرته, فلم ينكره عليه. وأحاديث كثيرة في سؤال قوم سألوه عن أحكام شرائع الدين فيما ليس بمنصوص عليه غير محظور على أحد. وروى شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن غنم عن معاذ بن جبل قال قلت: يا رسول الله إني أريد أن أسألك عن أمر ويمنعني مكان هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ} , فقال: ما هو؟ قلت: العمل الذي يدخلني الجنة؟ قال: "قد سألت عظيما وإنه ليسير شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان" فلم يمنعه السؤال ولم ينكره. وذكر محمد بن سيرين عن الأحنف

(2/606)


عن عمر قال: "تفقهوا قبل أن تسودوا", وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمعون في المسجد يتذاكرون حوادث المسائل في الأحكام, وعلى هذا المنهاج جرى أمر التابعين ومن بعدهم من الفقهاء إلى يومنا هذا. وإنما أنكر هذا قوم حشو جهال قد حملوا أشياء من الأخبار لا علم لهم بمعانيها وأحكامها فعجزوا عن الكلام فيها واستنباط فقهها, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه" وهذه الطائفة المنكرة لذلك كمن قال الله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة: 5].
وقوله تعالى: {إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ} معناه: إن تظهر لكم, وهذا يدل على أن مراده فيمن سأل مثل سؤال عبد الله بن حذافة والرجل الذي قال أين أنا; لأن إظهار أحكام الحوادث لا يسوء السائلين; لأنهم إنما يسألون عنها ليعلموا أحكام الله تعالى فيها. ثم قال الله تعالى: {وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ} يعني: في حال نزول الملك وتلاوته القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يظهرها لكم وذلك مما يسوءكم ويضركم.
وقوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا} يعني هذا الضرب من المسائل لم يؤاخذكم الله بها بالبحث عنها والكشف عن حقائقها. والعفو في هذا الموضع التسهيل والتوسعة في إباحة ترك السؤال عنها, كما قال تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187] ومعناه: سهل عليكم. وقال ابن عباس: "الحلال ما أحل الله, والحرام ما حرم الله, وما سكت عنه فهو عفو" يعني تسهيل وتوسعة; ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم: "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق" .
قوله تعالى: {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} قال ابن عباس: "قوم عيسى عليه السلام سألوا المائدة ثم كفروا بها". وقال غيره: "قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها وكفروا بها". وقال السدي: "هذا حين سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يحول لهم الصفا ذهبا". وقيل إن قوما سألوا نبيهم عن مثل هذه الأشياء التي سأل عبد الله بن حذافة ومن قال أين أنا فلما أخبرهم به نبيهم ساءهم فكذبوا به وكفروا.
قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} روى الزهري عن سعيد بن المسيب قال: "البحيرة من الإبل يمنع درها للطواغيت, والسائبة من الإبل كانوا يسيبونها لطواغيتهم, والوصيلة كانت الناقة تبكر بالأنثى ثم تثني بالأنثى فيسمونها الوصيلة يقولون وصلت أنثيين ليس بينهما ذكر, فكانوا يذبحونها لطواغيتهم, والحامي الفحل من الإبل كان يضرب الضراب المعدود فإذا بلغ ذلك يقال حمى ظهره فيترك

(2/607)


فيسمونه الحامي". وقال أهل اللغة: البحيرة الناقة التي تشق أذنها, يقال: بحرت أذن الناقة أبحرها بحرا, والناقة مبحورة وبحيرة, إذا شققتها واسعا; ومنه البحر لسعته; قال: وكان أهل الجاهلية يحرمون البحيرة, وهي أن تنتج خمسة أبطن يكون آخرها ذكرا بحروا أذنها وحرموها وامتنعوا من ركوبها ونحرها ولم تطرد عن ماء ولم تمنع عن مرعى, وإذا لقيها المعيي لم يركبها; قال: والسائبة المخلاة وهي المسيبة, وكانوا في الجاهلية إذا نذر الرجل لقدوم من سفر أو برء من مرض أو ما أشبه ذلك قال: "ناقتي سائبة" فكانت كالبحيرة في التحريم والتخلية, وكان الرجل إذا أعتق عبدا فقال: "هو سائبة" لم يكن بينهما عقل ولا ولاء ولا ميراث. فأما الوصيلة فإن بعض أهل اللغة ذكر أنها الأنثى من الغنم إذا ولدت مع ذكر قالوا: "وصلت أخاها" فلم يذبحوه. وقال بعضهم: كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم, وإذا ولدت ذكرا ذبحوه لآلهتهم في زعمهم, وإذا ولدت ذكرا وأنثى قالوا: "وصلت أخاها" فلم يذبحوه لآلهتهم; وقالوا: الحامي الفحل من الإبل إذا نتجت من صلبه عشرة أبطن قالوا: "حمى ظهره" فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى.
وإخبار الله تعالى بأن ما اعتقده أهل الجاهلية في البحيرة والسائبة وما ذكر في الآية يدل على بطلان عتق السائبة على ما يذهب إليه القائلون بأن من أعتق عبده سائبة فلا ولاء له منه وولاؤه لجماعة المسلمين; لأن أهل الجاهلية قد كانوا يعتقدون ذلك فأبطله الله تعالى بقوله: {وَلا سَائِبَةٍ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الولاء لمن أعتق" يؤكد ذلك أيضا ويبينه.

(2/608)


باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
قال أبو بكر: أكد الله تعالى فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مواضع من كتابه, وبينه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أخبار متواترة عنه فيه, وأجمع السلف وفقهاء الأمصار على وجوبه, وإن كان قد تعرض أحوال من التقية يسع معها السكوت. فمما ذكره الله تعالى حاكيا عن لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17] يعني والله أعلم: واصبر على ما ساءك من المكروه عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإنما حكى الله تعالى لنا ذلك عن عبده لنقتدي به وننتهي إليه. وقال تعالى فيما مدح به سالف الصالحين من الصحابة: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} [التوبة: 112] إلى قوله: {الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة: 112], وقال تعالى: {كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79]. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال:

(2/608)


حدثنا محمد بن العلاء وهناد بن السري قالا: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن إسماعيل بن رجاء عن أبيه عن أبي سعيد, وعن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذاك أضعف الإيمان" . وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا أبو الأحوص قال: حدثنا أبو إسحاق عن ابن جرير عن جرير قال: سمعت رسول الله يقول: "ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيروا عليه فلا يغيروا إلا أصابهم الله بعذاب من قبل أن يموتوا" . فأحكم الله تعالى فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في كتابه وعلى لسان رسوله.
وربما ظن من لا فقه له أن ذلك منسوخ أو مقصور الحكم على حال دون حال, وتأول فيه قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وليس التأويل على ما يظن هذا الظان لو تجردت هذه الآية عن قرينة, وذلك لأنه قال: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} يعني: احفظوها لا يضر كم من ضل إذا اهتديتم; ومن الاهتداء اتباع أمر الله في أنفسنا وفي غيرنا, فلا دلالة فيها إذا على سقوط فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقد روي عن السلف في تأويل الآية أحاديث مختلفة الظاهر وهي متفقة في المعنى, فمنها ما حدثنا جعفر بن محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا محمد بن يزيد الواسطي عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم قال: سمعت أبا بكر على المنبر يقول: يا أيها الناس إني أراكم تتأولون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الناس إذا عمل فيهم بالمعاصي ولم يغيروا أوشك أن يعمهم الله بعقابه" ; فأخبر أبو بكر أن هذه الآية لا رخصة فيها في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنه لا يضره ضلال من ضل إذا اهتدى هو بالقيام بفرض الله من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وحدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا هشيم عن أبي بشر عن سعيد بن جبير في هذه الآية: {لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} قال: "يعني من أهل الكتاب", وقال أبو عبيد: وحدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في هذه الآية قال: {من اليهود والنصارى ومن ضل من غيرهم} . فكأنهما ذهبا إلى أن هؤلاء قد أقروا ولا يجوز لنا نقض عهدهم بإجبارهم على الإسلام, فهذا لا يضرنا الإمساك عنه. وأما ما لا يجوز الإقرار عليه من

(2/609)


المعاصي والفسوق والظلم والجور, فهذا على كل المسلمين تغييره والإنكار على فاعله على ما شرطه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الذي قدمنا. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أبو الربيع سليمان بن داود العتكي قال: حدثنا ابن المبارك عن عتبة بن أبي حكيم قال: حدثنا عمرو بن جارية اللخمي قال: حدثنا أبو أمية الشعباني قال: سألت أبا ثعلبة الخشني فقلت: يا أبا ثعلبة كيف تقول في هذه الآية {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} ؟ فقال: أما والله لقد سألت عنها خبيرا, سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع عنك العوام فإن من ورائكم أيام الصبر, الصبر فيه كقبض على الجمر للعامل فيها مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله" قال: وزادني غيره قال: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: "أجر خمسين منكم" وهذا لا دلالة فيه على سقوط فرض الأمر بالمعروف إذا كانت الحال ما ذكر; لأن ذكر تلك الحال تنبئ عن تعذر تغيير المنكر باليد واللسان لشيوع الفساد وغلبته على العامة, وفرض النهي عن المنكر في مثل هذه الحال إنكاره بالقلب كما قال عليه السلام: "فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه" فكذلك إذا صارت الحال إلى ما ذكر كان فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقلب للتقية ولتعذر تغييره. وقد يجوز إخفاء الإيمان وترك إظهاره تقية بعد أن يكون مطمئن القلب بالإيمان, قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل: 106] فهذه منزلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد روي فيه وجه آخر, وهو ما حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا أبو مسهر عن عباد الخواص قال: حدثني يحيى بن أبي عمرو الشيباني, أن أبا الدرداء وكعبا كانا جالسين بالجابية, فأتاهما آت فقال: لقد رأيت اليوم أمرا كان حقا على من يراه أن يغيره فقال رجل: إن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} , فقال كعب: إن هذا لا يقول شيئا, ذب عن محارم الله تعالى كما تذب عن عائلتك حتى يأتي تأويلها. فانتبه لها أبو الدرداء فقال: متى يأتي تأويلها؟ فقال: إذا هدمت كنيسة دمشق وبني مكانها مسجد فذلك من تأويلها, وإذا رأيت الكاسيات العاريات فذلك من تأويلها; وذكر خصلة ثالثة لا أحفظها, فذلك من تأويلها. قال أبو مسهر: وكان هدم الكنيسة بعهد الوليد بن عبد الملك; أدخلها في مسجد دمشق وزاد في سعته بها. وهذا أيضا على معنى الحديث الأول في الاقتصار على إنكار المنكر بالقلب دون اليد واللسان للتقية والخوف على النفس.

(2/610)


مطلب: في ذم الحججاج الظالم
ولعمري إن أيام عبد الملك والحجاج والوليد وأضرابهم كانت من الأيام التي سقط فيها فرض الإنكار عليهم بالقول واليد لتعذر ذلك والخوف على النفس. وقد حكي أن الحجاج لما مات قال الحسن: "اللهم أنت أمته فاقطع سنته فإنه أتانا أخيفش أعيمش1 يمد بيد قصيرة البنان والله ما عرق فيها عنان في سبيل الله عز وجل, يرجل جمته ويخطر في مشيته ويصعد المنبر فيهذر حتى تفوته الصلاة, لا من الله يتقي ولا من الناس يستحي, فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون لا يقول له قائل الصلاة أيها الرجل" ثم قال الحسن: "هيهات والله حال دون ذلك السيف والسوط" وقال عبد الملك بن عمير: "خرج الحجاج يوم الجمعة بالهاجرة فما زال يعبر مرة عن أهل الشام يمدحهم ومرة عن أهل العراق يذمهم حتى لم نر من الشمس إلا حمرة على شرف المسجد, ثم أمر المؤذن فأذن فصلى بنا الجمعة, ثم أذن فصلى بنا العصر, ثم أذن فصلى بنا المغرب, فجمع بين الصلوات يومئذ". فهؤلاء السلف كانوا معذورين في ذلك الوقت في ترك النكير باليد واللسان. وقد كان فقهاء التابعين وقراؤهم خرجوا عليه مع ابن الأشعث إنكارا منهم لكفره وظلمه وجوره, فجرت بينهم تلك الحروب المشهورة وقتل منهم من قتل ووطئهم بأهل الشام حتى لم يبق أحد ينكر عليه شيئا يأتيه إلا بقلبه. وقد روى ابن مسعود في ذلك ما حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا حجاج عن أبي جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن عبد الله بن مسعود, أنه ذكر عنده هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} فقال: لم يجئ تأويلها بعد, إن القرآن أنزل حين أنزل ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن, وكان منه آي وقع تأويلهن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ومنه آي وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير, ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم, ومنه آي يقع تأويلهن عند الساعة, ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب من الجنة والنار, قال: فما دامت قلوبكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعا ولم يذق بعضكم بأس بعض فأمروا بالمعروف
ـــــــ
1 قوله" "أخيفش إلى آخره" يقرب منه ما ذكره أبو سليمان الخطابي في غريب الحديث حيث قال إن الحجاج أرسل إلى الحسن رحمه الله تعالى فأدخل عليه فلما خرج من عنده قال: دخلت على أحيول يطرطب شعيرات له فأخرج إلي بنان قصيرة قل ما عرقت فيها الأعنة في سبيل الله, قال أبو سليمان: قوله: يطرطب شعيرلت له أي ينفخ بشفتيه في شاربه غيصظا أو كبرا والأصل في الطرطبة الدخاء بالضأن والصفير لها بالشفتين. ومثله في الفائق للزمخشري في "ط ر ب" وقال: والمعنى يستخف شاربه ويحركه في كلامه وقيل ينفخ بشفتيه إلى آخرهخ. "لمصححه".

(2/611)


وانهوا عن المنكر, فإذا اختلفت القلوب والأهواء ولبستم شيعا وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه عند ذلك جاء تأويل هذه الآية. قال أبو بكر: يعني عبد الله بقوله: "لم يجئ تأويلها بعد" أن الناس في عصره كانوا ممكنين من تغيير المنكر لصلاح السلطان والعامة وغلبة الأبرار للفجار, فلم يكن أحد منهم معذورا في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان, ثم إذا جاء حال التقية وترك القبول وغلبت الفجار سوغ السكوت في تلك الحال مع الإنكار بالقلب; وقد يسع السكوت أيضا في الحال التي قد علم فاعل المنكر أنه يفعل محظورا ولا يمكن الإنكار باليد ويغلب في الظن بأنه لا يقبل إذا قتل, فحينئذ يسع السكوت. وقد روي نحوه عن ابن مسعود في تأويل الآية. وحدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا هشيم قال: أخبرنا يونس عن الحسن عن ابن مسعود في هذه الآية: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} قال: قولوها ما قبلت منكم, فإذا ردت عليكم فعليكم أنفسكم. فأخبر ابن مسعود أنه في سعة من السكوت إذا ردت ولم تقبل, وذلك إذا لم يمكنه تغييره بيده; لأنه لا يجوز أن يتوهم عن ابن مسعود إباحته ترك النهي عن المنكر مع إمكان تغييره. حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو عن عبد الله بن عبد الرحمن الأشهلي عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليعمكم الله بعقاب من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم" . قال أبو عبيد: وحدثنا حجاج عن حمزة الزيات عن أبي سفيان عن أبي نضرة قال: جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فقال: إني أعمل بأعمال الخير كلها إلا خصلتين, قال: وما هما؟ قال: لا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر, قال: لقد طمست سهمين من سهام الإسلام, إن شاء الله غفر لك وإن شاء عذبك. قال أبو عبيد: وحدثنا محمد بن يزيد عن جويبر عن الضحاك قال: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضتان من فرائض الله تعالى كتبهما الله عز وجل. قال أبو عبيد: أخبروني عن سفيان بن عيينة قال: حدثت ابن شبرمة بحديث ابن عباس: "من فر من اثنين فقد مر, ومن فر من ثلاثة لم يفر" فقال: أما أنا فأرى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل هذا, لا يعجز الرجل عن اثنين أن يأمرهما أو ينهاهما. وذهب ابن عباس في ذلك إلى قوله تعالى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] وجائز أن يكون ذلك أصلا فيما يلزم من تغيير المنكر. وقال مكحول في قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} : إذا هاب الواعظ وأنكر الموعوظ فعليك حينئذ نفسك لا يضرك من ضل إذا اهتديت, والله الموفق.

(2/612)


باب الشهادة على الوصية في السفر
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} قد اختلف في معنى الشهادة ههنا, فقال قائلون: "هي الشهادة على الوصية في السفر" وأجازوا بها شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر. وروى الشعبي عن أبي موسى أن رجلا مسلما توفي بدقوقا ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته, فأشهد رجلين من أهل الكتاب, فأحلفهما أبو موسى بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا, وإنها لوصية الرجل وتركته; فأمضى أبو موسى شهادتهما وقال: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال آخرون: "معنى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} حضور الوصيين, من قولك شهدته إذا حضرته". وقال آخرون: "إنما الشهادة هنا أيمان الوصية بالله إذا ارتاب الورثة بهما", وهو قول مجاهد. فذهب أبو موسى إلى أنها الشهادة على الوصية التي تثبت بها عند الحكام, وأن هذا حكم ثابت غير منسوخ; وروي مثله عن شريح, وهو قول الثوري وابن أبي ليلى والأوزاعي وروي عن ابن عباس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وابن سيرين وعبيدة وشريح والشعبي: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} : "من غير ملتكم". وروي عن الحسن والزهري: "من غير قبيلتكم".
فأما تأويل من تأولها على اليمين دون الشهادة التي تقام عند الحكام, فقول مرغوب عنه, وإن كانت اليمين قد تسمى شهادة في نحو قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6] لأن الشهادة إذا أطلقت فهي الشهادة المتعارفة, كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] كل ذلك قد عقل به الشهادات على الحقوق لا الأيمان; وكذلك قوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} المفهوم فيه الشهادة المتعارفة. ويدل عليه قوله تعالى: {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} ويبعد أن يكون المراد أيمان بينكم إذا حضر أحدكم الموت لأن حال الموت ليس حالا للأيمان. ثم زاد بذلك بيانا بقوله: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} يعني والله أعلم: إن لم يوجد ذوا عدل منكم; ولا يختلف في حكم اليمين وجود ذوي العدل وعدمهم. وقوله تعالى: {وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} يدل على ذلك أيضا; لأن اليمين موجودة ظاهرة غير مكتومة, ثم ذكر يمين الورثة بعد اختلاف الوصيين على مال الميت, وإنما الشهادة التي هي اليمين هي المذكورة في قوله: {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} ثم قوله: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} يعني به الشهادة

(2/613)


على الوصية; إذ غير جائز أن يقول: "أن تأتوا باليمين على وجهها". وقوله تعالى: {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} يدل أيضا على أن الأول شهادة; لأنه ذكر الشهادة واليمين كل واحدة بحقيقة لفظها.
فأما تأويل من تأول قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ}: من غير قبيلتكم; فلا معنى له والآية تدل على خلافه; لأن الخطاب توجه إليهم بلفظ الإيمان من غير ذكر للقبيلة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} قال: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} يعني من غير المؤمنين, ولم يجر للقبيلة ذكر حتى ترجع إليه الكناية; ومعلوم أن الكناية إنما ترجع إما إلى مظهر مذكور في الخطاب أو معلوم بدلالة الحال, فلما لم تكن هنا دلالة على الحال ترجع الكناية إليها يثبت أنها راجعة إلى من تقدم ذكره في الخطاب من المؤمنين وصح أن المراد من غير المؤمنين, فاقتضت الآية جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر.
وقد روي في تأويل الآية عن عبد الله بن مسعود وأبي موسى وشريح وعكرمة وقتادة وجوه مختلفة, وأشبهها بمعنى الآية ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا الحسن بن علي, قال: حدثنا يحيى بن آدم قال: حدثنا ابن أبي زائدة عن محمد بن أبي القاسم عن عبد الملك بن سعيد بن جبير عن أبيه عن ابن عباس قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء, فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم, فلما قدما بتركته فقدوا جام فضة مخوصا بالذهب, فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم; ثم وجد الجام بمكة فقالوا: اشتريناه من تميم وعدي, فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم, قال: فنزلت فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} . فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بديا, لأن الورثة اتهموهما بأخذه, ثم لما ادعيا أنهما اشتريا الجام من الميت استحلف الورثة وجعل القول قولهم في أنه لم يبع وأخذوا الجام. ويشبه أن يكون ما قال أبو موسى في قبول شهادة الذميين على وصية المسلم في السفر وأن ذلك لم يكن منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن, هو هذه القصة التي في حديث ابن عباس; وقد روى عكرمة في قصة تميم الداري نحو رواية ابن عباس.
واختلف في بقاء حكم جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر, فقال أبو موسى وشريح: "هي ثابتة" وقول ابن عباس ومن قال: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} : إنه من غير المسلمين, يدل على أنهم تأولوا الآية على جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر, ولا يحفظ عنهم بقاء هذا الحكم أو نسخه وروي عن زيد بن أسلم

(2/614)


في قوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} قال: "كان ذلك في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام, وذلك في أول الإسلام والأرض حرب والناس كفار, إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة; فكان الناس يتوارثون بالمدينة بالوصية ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض وعمل المسلمون بها". وروي عن إبراهيم النخعي قال: هي منسوخة, نسختها: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وروى ضمرة بن جندب وعطية بن قيس قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المائدة من آخر القرآن نزولا فأحلوا حلالها وحرموا حرامها" . قال جبير بن نفير عن عائشة, قالت: "المائدة من آخر سورة نزلت فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه وما وجدتم من حرام فاستحرموه". وروى أبو إسحاق عن أبي ميسرة قال: "في المائدة ثماني عشرة فريضة وليس فيها منسوخ". وقال الحسن: "لم ينسخ من المائدة شيء". فهؤلاء ذهبوا إلى أنه ليس في الآية شيء منسوخ. والذي يقتضيه ظاهر الآية جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر, سواء كان في الوصية بيع أو إقرار بدين أو وصية بشيء أو هبة أو صدقة, هذا كله يشتمل عليه اسم الوصية إذا عقده في مرضه; وعلى أن الله تعالى أجاز شهادتهما عليه حين الوصية لم يخصص بها الوصية دون غيرها, وحين الوصية قد يكون إقرار بدين أو بمال عين وغيره لم تفرق الآية بين شيء منه. ثم قد روي أن آية الدين من آخر ما نزل من القرآن وإن كان قوم قد ذكروا أن المائدة من آخر ما نزل, وليس يمتنع أن يريدوا بقولهم: "من آخر ما نزل": من آخر سورة نزلت في الجملة, لا على أن كل آية منها من آخر ما نزل. وإن كان كذلك فآية الدين لا محالة ناسخة لجواز شهادة أهل الذمة على الوصية في السفر, لقوله: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [البقرة: 282] إلى قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] وهم المسلمون لا محالة, لأن الخطاب توجه إليهم باسم الإيمان, ولم يخصص بها حال الوصية دون غيرها, فهي عامة في الجميع; ثم قال: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وليس الكفار بمرضيين في الشهادة على المسلمين, فتضمنت آية الدين نسخ شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر وفي الحضر وفي الوصية وغيرها; فانتظمت الآية جواز شهادة أهل الذمة على وصية المسلم, ومن حيث دلت على جوازها على وصية المسلم في السفر فهي دالة أيضا على وصية الذمي, ثم نسخ فيها جوازها على وصية المسلم بآية الدين وبقي حكمها على الذمي في السفر وغيره; إذ كانت حالة السفر والحضر سواء في حكم الشهادات وعلى جواز شهادة الوصيين على وصية الميت لأن في التفسير أن الميت أوصى إليهما وأنهما شهدا على وصيته; ودلت على أن القول قول الوصي فيما في يده للميت مع يمينه لأنهما على ذلك

(2/615)


استحلفا; ودلت على أن دعواهما شرى شيء من الميت غير مقبولة إلا ببينة وأن القول قول الورثة أن الميت لم يبع ذلك منهما مع أيمانهم.
قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} يعني والله أعلم: أقرب أن لا يكتموا ولا يبدلوا, {أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} يعني: إذا حلفا ما غيرا ولا كتما ثم عثر على شيء من مال الميت عندهما, أن تجعل أيمان الورثة أولى من أيمانهم بديا أنهما ما غيرا ولا كتما, على ما روي عن ابن عباس في قصة تميم الداري وعدي بن بداء.

(2/616)


مطلب: في موضع الاستحلاف
وقوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} فإنه روي عن ابن سيرين وقتادة: استحلفا بعد العصر; وإنما استحلفا بعد العصر تغليظا لليمين في الوقت المعظم كما قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] قيل صلاة العصر; وقد روي عن أبي موسى أنه استحلف بعد العصر في هذه القصة. وقد روي تغليظ اليمين بالاستحلاف في البقعة المعظمة. وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف عند هذا المنبر على يمين آثمة فليتبوأ مقعده من النار ولو على سواك أخضر" ; فأخبر أن اليمين الفاجرة عند المنبر أعظم مأثما, وكذلك سائر المواضع الموسومة للعبادات ولتعظيم الله تعالى وذكره فيها تكون المعاصي فيها أعظم إثما, ألا ترى أن شرب الخمر والزنا في المسجد الحرام وفي الكعبة أعظم مأثما منه في غيره؟ وليست اليمين عند المنبر وفي المسجد في الدعاوى بواجبة, وإنما ذلك على وجه الترهيب وتخويف العقاب. وحكي عن الشافعي أنه يستحلف بالمدينة عند المنبر; واحتج له بعض أصحابه بحديث جابر الذي ذكرنا, وبحديث وائل بن حجر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للحضرمي: "لك يمينه" قال: إنه رجل فاجر لا يبالي, قال: "ليس لك منه إلا ذلك" فانطلق ليحلف, فلما أدبر ليحلف قال: "من حلف على مال ليأكله ظلما لقي الله وهو عنه معرض" وبحديث الأشعث بن قيس, وفيه: فانطلق ليحلف. فقالوا: قوله: "من حلف عند هذا المنبر على يمين آثمة" يدل على أن الأيمان قد كانت تكون عنده. قال أبو بكر: وليس فيه دلالة على أن ذلك مسنون. وإنما قال ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يجلس هناك, فلذلك كان يقع الاستحلاف عند المنبر, واليمين عند المنبر أعظم مأثما إذا كانت كاذبة لحرمة الموضع, فلا دلالة فيه على أنه ينبغي أن تكون عند المنبر; والشافعي لا يستحلف في الشيء التافه عند المنبر, وقد ذكر في الحديث: "ولو على سواك أخضر" فقد خالف الخبر على أصله. وأما قوله: "انطلق ليحلف" وأنه لما أدبر قال النبي صلى الله عليه وسلم ما قال, فإنه لا دلالة فيه على أنه ذهب إلى

(2/616)


الموضع وإنما المراد بذلك العزيمة والتصميم عليه, قال تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} [المدثر:23] لم يرد به الذهاب إلى الموضع, وإنما أراد التولي عن الحق والإصرار عليه. وما روي عن الصحابة في الحلف عند المنبر وبين الركن والمقام فإنما كان ذلك لأنه كان ينفق الحكومة هناك ولا ينكر أن تكون اليمين هناك أغلظ, ولكنه ليس بواجب لقوله عليه السلام: "اليمين على المدعى عليه" ولم يخصصها بمكان; ولكن الحاكم إن رأى تغليظ اليمين باستحلافه عند المنبر إن كان بالمدينة, وفي المسجد الحرام إن كان بمكة, جاز له ذلك كما أمر الله تعالى باستحلاف هذين الوصيين بعد صلاة العصر لأن كثيرا من الكفار يعظمونه, ووقت غروب الشمس.

(2/617)


فصل
قد تضمنت هذه الآية الدلالة على جواز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض وذلك لأنها قد اقتضت جواز شهادتهم على المسلمين وهي على أهل الذمة أجوز فقد دلت الآية على جواز شهادتهم على أهل الذمة في الوصية في السفر; ولما نسخ منها جوازها على المسلمين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] إلى قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] نفى بذلك جواز شهادة أهل الذمة عليهم, ونسخ بذلك قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} وبقي حكم دلالتها في جوازها على أهل الذمة في الوصية في السفر. وإذا كان حكمها باقيا في جوازها على أهل الذمة في الوصية في السفر اقتضى ذلك جوازها عليهم في سائر الحقوق لأن كل من يجيزها على أهل الذمة في الوصية في السفر ومنع جوازها على المسلمين في ذلك أجازها على أهل الذمة في سائر الحقوق.
فإن قال قائل: فإن ابن أبي ليلى والثوري والأوزاعي يجيزون شهادة أهل الذمة على وصية المسلم في السفر على ما روي عن أبي موسى وشريح, ولا يجيزونها على الذمي في سائر الحقوق. قيل له: قد بينا أنها منسوخة على المسلمين باقية على أهل الذمة في سائر الحقوق. وقبول شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض وإن اختلفت مللهم قول أصحابنا وعثمان البتي والثوري; وقال ابن أبي ليلى والأوزاعي والحسن وصالح والليث: "تجوز شهادة أهل كل ملة بعضهم على بعض ولا تجوز على ملة غيرها". وقال مالك والشافعي: "لا تجوز شهادة أهل الكفر بعضهم على بعض". وما ذكرنا من دلالة الآية يقتضي تساوي شهادات أهل الملل بقوله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} يعني غير المؤمنين المبدوء بذكرهم, ولم تفرق بين الملل. ومن حيث اقتضت جواز شهادة أهل

(2/617)


الملل على وصية المسلم في السفر, وهي دالة أيضا على جواز شهادتهم على الكفار في ذلك مع اختلاف مللهم.
ومما يوجب جواز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض من جهة السنة, ما روى مالك عن نافع عن ابن عمر: أن "اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أن رجلا وامرأة منهم زنيا, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم برجمهما". وروى الأعمش عن عبد الله بن مرة عن البراء بن عازب قال: مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمم, فقال: ما شأن هذا ؟ فقالوا: زنى, فرجمه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروى جابر عن الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه اليهود برجل وامرأة زنيا, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ائتوني بأربعة منكم يشهدون فشهد أربعة منهم" , فرجمهما النبي صلى الله عليه وسلم وعن الشعبي قال: "يجوز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض", وعن شريح وعمر بن عبد العزيز والزهري مثله. وقال ابن وهب: خالف مالك معلميه في رد شهادة النصارى بعضهم على بعض, وكان ابن شهاب ويحيى بن سعيد وربيعة يجيزونها. وقال ابن أبي عمران من أصحابنا: سمعت يحيى بن أكثم يقول: جمعت هذا الباب فما وجدت عن أحد من المتقدمين رد شهادة النصارى بعضهم على بعض إلا من ربيعة, فإني وجدت عنه ردها ووجدت عنه إجازتها.
قال أبو بكر: قد ذكرنا حكم الآية على الوجوه التي رويت فيها عن السلف وما نسخ منها وما هو منها ثابت الحكم, فلنذكر الآية على سياقها مع بيان حكمها على ما اقتضاه ترتيبها على السبب الذي نزلت فيه, فنقول وبالله التوفيق: إن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} يعتوره معنيان: أحدهما: شهادة بينكم شهادة اثنين ذوي عدل منكم; فحذف ذكر الشهادة. الثانية لعلم المخاطبين بالمراد; ويحتمل: عليكم شهادة بينكم; فهو أمر بإشهاد اثنين ذوي عدل, كقوله تعالى في الدين: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] فأفاد الأمر بإشهاد شاهدين عدلين من المسلمين أو آخرين من غير المسلمين على وصية المسلم في السفر. وكان نزولها على السبب الذي تقدم ذكره من رواية ابن عباس في قصة تميم الداري وعدي بن بداء, فذكر بعض السبب في الآية ثم قال: {إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} فجعل شرط قبول شهادة الذميين على الوصية أن تكون في حال السفر. وقوله: {حِينَ الْوَصِيَّةِ} قد تضمن أن يكون الشاهدان هما الوصيين لأن الموصي أوصى إلى ذميين, ثم جاءا فشهدا بوصية, فضمن ذلك جواز شهادة الوصيين على وصية الميت. ثم قال: {فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ} يعني قصة الميت الموصي. قال: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ} يعني لما اتهمهما الورثة في حبس شيء من مال الميت وأخذه; على ما رواه عكرمة في قصة

(2/618)


تميم الداري, وعلى ما قاله أبو موسى في استحلافه الذميين ما خانا ولا كذبا. فصارا مدعى عليهما, فلذلك استحلفا لا من حيث كانا شاهدين, ويدل عليه قوله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} يعني فيما أوصى به الميت وأشهدهما عليه. ثم قال تعالى: {فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} يعني ظهور شيء من مال الميت في أيديهما بعد ذلك, وهو جام الفضة الذي ظهر في أيديهما من مال الميت فزعما أنهما كانا اشترياه من مال الميت. ثم قال تعالى: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا} يعني في اليمين لأنهما صارا في هذه الحال مدعيين للشرى, فصارت اليمين على الورثة, وعلى أنه لم يكن للميت إلا وارثان فكانا مدعى عليهما, فلذلك استحلفا, ألا ترى أنه قال: {مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} يعني أن هذه اليمين أولى من اليمين التي حلف بها الوصيان أنهما ما خانا ولا بدلا لأن الوصيين صارا في هذه الحال مدعيين وصار الوارثان مدعى عليهما, وقد كانا بريئين في الظاهر بديا بيمينهما فمضت شهادتهما على الوصية, فلما ظهر في أيديهما شيء من مال الميت صارت أيمان الوارثين أولى.
وقد اختلف في تأويل قوله تعالى: {الْأَوْلَيَانِ} , فروي عن سعيد بن جبير قال: معنى الأوليان بالميت يعني الورثة, وقيل: الأوليان بالشهادة وهي الأيمان في هذا الموضع; وليس في الآية دلالة على إيجاب اليمين على الشاهدين فيما شهدا به, وإنما أوجبت اليمين عليهما لما ادعى الورثة عليهما الخيانة وأخذ شيء من تركة الميت, فصار بعض ما ذكر في هذه الآيات من الشهادات أيمانا. وقال بعضهم: الشهادة على الوصية كالشهادة على الحقوق, لقوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} لا محالة أريد بها شهادات الحقوق, لقوله: {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} وقوله بعد ذلك: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} لا يحتمل غير اليمين, ثم قال: {فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا} يعني بها اليمين; لأن هذه أيمان الوارثين, وقوله: {أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} يحتمل من يمينهما ويحتمل من شهادتهما لأن الوصيين قد كان منهما شهادة وحين صارت يمين الوارث أحق من شهادة الوصيين ويمينهما لأن شهادتهما لأنفسهما غير جائزة ويميناهما لم توجب تصحيح دعواهما في شراء ما ادعيا شراه من الميت.
ثم قال تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا} يعني والله أعلم: بالشهادة على الوصية وأن لا يخونوا ولا يغيروا, يعني أن ما حكم الله تعالى به من ذلك من الأيمان وإيجابها تارة على الشهود فيما ادعي عليهما من الخيانة وتارة على الورثة فيما

(2/619)


ادعى الشهود من شرى شيء من مال الميت, وأنهم متى علموا ذلك أتوا بالشهادة على وصية الميت على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد أيمانهم ولا يقتصروا على أيمانهم ولا يبرئهما ذلك من أن يستحق عليهم ما كتموه وادعوا شراه إذا حلف الورثة على ذلك; والله أعلم.

(2/620)