أحكام القرآن للجصاص ط العلمية

المجلد الثالث
سورة الأنعام
باب النهي عن مجالسة الظالمين
...
سورة الأنعام
بسم الله الرحمن الرحيم
باب النهي عن مجالسة الظالمين
قال الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} الآية، فأمر الله نبيه بالإعراض عن الذين يخوضون في آيات الله، وهي القرآن، بالتكذيب وإظهار الاستخفاف إعراضا يقتضي الإنكار عليهم وإظهار الكراهة لما يكون منهم إلا أن يتركوا ذلك ويخوضوا في حديث غيره. وهذا يدل على أن علينا ترك مجالسة الملحدين وسائر الكفار عند إظهارهم الكفر والشرك وما لا يجوز على الله تعالى إذا لم يمكنا إنكاره وكنا في تقية من تغييره باليد أو اللسان; لأن علينا اتباع النبي صلى الله عليه وسلم فيما أمره الله به إلا أن تقوم الدلالة على أنه مخصوص بشيء منه
قوله تعالى: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ} المراد: إن أنساك الشيطان ببعض الشغل فقعدت معهم وأنت ناس للنهي فلا شيء عليك في تلك الحال. ثم قال تعالى: {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} يعني: بعدما تذكر نهي الله تعالى لا تقعد مع الظالمين. وذلك عموم في النهي عن مجالسة سائر الظالمين من أهل الشرك وأهل الملة لوقوع الاسم عليهم جميعا، وذلك إذا كان في ثقة من تغييره بيده أو بلسانه بعد قيام الحجة على الظالمين بقبح ما هم عليه، فغير جائز لأحد مجالستهم مع ترك النكير سواء كانوا مظهرين في تلك الحال للظلم والقبائح أوغير مظهرين له; لأن النهي عام عن مجالسة الظالمين; لأن في مجالستهم مختارا مع ترك النكير دلالة على الرضا بفعلهم ونظيره قوله تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ} [المائدة:78] الآيات، وقد تقدم ذكر ما روي فيه، وقوله تعالى: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113].
قوله تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ} قال قتادة: هي منسوخة بقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}

(3/3)


[التوبة:5] وقال مجاهد: ليست بمنسوخة، لكنه على جهة التهدد كقوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} وقوله {تُبْسَلَ} قال الفراء: "ترتهن" وقال الحسن ومجاهد والسدي: "تسلم". وقال قتادة: "تحبس". وقال ابن عباس: "تفضح". وقيل: أصله الارتهان، وقيل: التحريم، ويقال أسد باسل لأن فريسته مرتهنة به لا تفلت منه، وهذا بسل عليك أي حرام عليك لأنه مما يرتهن به، ويقال: أعطي الراقي بسلته أي أجرته لأن العمل مرتهن بالأجرة، والمستبسل المستسلم لأنه بمنزلة المرتهن بما أسلم فيه
قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي} قيل فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه قال ذلك في أول حال نظره واستدلاله على ما سبق إلى وهمه وغلب في ظنه; لأن قومه قد كانوا يعبدون الأوثان على أسماء الكواكب فيقولون هذا صنم زحل وصنم الشمس وصنم المشتري، ونحو ذلك. والثاني: أنه قال قبل بلوغه وقبل، إكمال الله تعالى عقله الذي به يصح التكليف، فقال ذلك وقد خطرت بقلبه الأمور وحركته الخواطر والدواعي على الفكر فيما شاهده من الحوادث الدالة على توحيد الله تعالى وروي في الخبر أن أمه كانت ولدته في مغار خوفا من نمرود لأنه كان يقتل الأطفال المولودين في ذلك الزمان، فلما خرج من المغار قال هذا القول حين شاهد الكواكب. والثالث: أنه قال ذلك على وجه الإنكار على قومه، وحذف الألف وأراد: أهذا ربي قال الشاعر:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط ... غلس الظلام من الرباب خيالا
ومعناه: أكذبتك. وقال آخر:
رقوني وقالوا يا خويلد لا ترع ... فقلت وأنكرت الوجوه هم هم
معناه: أهم هم ومعنى قوله: {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} إخبار بأنه ليس برب ولو كان ربا لأحببته وعظمته تعظيم الرب وهذا الاستدلال الذي سلك إبراهيم طريقه من أصح ما يكون من الاستدلال وأوضحه، وذلك أنه لما رأى الكوكب في علوه وضيائه قرر نفسه على ما ينقسم إليه حكمه من كونه ربا خالقا أو مخلوقا مربوبا، فلما رآه طالعا آفلا ومتحركا زائلا قضى بأنه محدث لمقارنته لدلالات الحدث وأنه ليس برب; لأنه علم أن المحدث غير قادر على إحداث الأجسام وأن ذلك مستحيل فيه كما استحال ذلك منه إذ كان محدثا، فحكم بمساواته له في جهة الحدوث وامتناع كونه خالقا ربا ثم لما طلع القمر فوجده من العظم والإشراق وانبساط النور على خلاف الكوكب قرر أيضا نفسه على حكمه فقال: هذا ربي، فلما راعاه وتأمل وجده في معناه في باب مقارنته للحوادث من الطلوع والأفول والانتقال والزوال حكم له بحكمه وإن كان أكبر وأضوأ منه، ولم يمنعه ما شاهد من اختلافهما من العظم والضياء من أن يقضي به بالحدوث لوجود

(3/4)


دلالات الحدث فيه ثم لما أصبح رأى الشمس طالعة في عظمها وإشراقها وتكامل ضيائها قال: هذا ربي; لأنها بخلاف الكوكب والقمر في هذه الأوصاف، ثم لما رآها آفلة منتقلة حكم لها بالحدوث أيضا وأنها في حكم الكوكب والقمر لشمول دلالة الحدث للجميع.
وفيما أخبر الله تعالى به عن إبراهيم عليه السلام وقوله عقيب ذلك: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} أوضح دلالة على وجوب الاستدلال على التوحيد وعلى بطلان قول الحشو القائلين بالتقليد; لأنه لو جاز لأحد أن يكتفي بالتقليد لكان أولاهم به إبراهيم عليه السلام فلما استدل إبراهيم على توحيد الله واحتج به على قومه ثبت بذلك أن علينا مثله; وقد قال في نسق التلاوة عند ذكره إياه مع سائر الأنبياء: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فأمرنا الله تعالى بالاقتداء به في الاستدلال على التوحيد والاحتجاج به على الكفار.
ومن حيث دلت أحوال هذه الكواكب على أنها مخلوقة غير خالقة ومربوبة غير رب فهي دالة أيضا على أن من كان في مثل حالها في الانتقال والزوال والمجيء والذهاب لا يجوز أن يكون ربا خالقا وأنه يكون مربوبا، فدل على أن الله تعالى لا يجوز عليه الانتقال ولا الزوال ولا المجيء ولا الذهاب، لقضية استدلال إبراهيم عليه السلام بأن من كان بهذه الصفة فهو محدث، وثبت بذلك أن من عبد ما هذه صفته فهو غير عالم بالله تعالى وأنه بمنزلة من عبد كوكبا أو بعض الأشياء المخلوقة وفيه الدلالة على أن معرفة الله تعالى تجب بكمال العقل قبل إرسال الرسل; لأن إبراهيم عليه السلام استدل عليها قبل أن يسمع بحجج الأنبياء عليهم السلام.
قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} . يعني والله أعلم ما ذكر من الاستدلال على حدوث الكوكب والقمر والشمس، وأن من كان في مثل حالها من مقارنة الحوادث له لا يكون إلها. ولما قرر ذلك عندهم قال: {فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ} أمن يعبد إلها واحدا أحق أم من يعبد آلهة شتى؟ قالوا: من يعبد إلها واحدا، فأقروا على أنفسهم فصاروا محجوجين. وقيل إنهم لما قالوا له أما تخاف أن يخبلك آلهتنا؟ قال لهم: أما تخافون أن تخبلكم بجمعكم الصغير مع الكبير في العبادة؟ فأبطل ذلك حجاجهم عليه من حيث رجع عليهم ما أرادوا إلزامه إياه فألزمهم مثله على أصلهم وأبطل قولهم بقوله.
قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} أمر لنا بالاقتداء بمن ذكر من الأنبياء في الاستدلال على توحيد الله تعالى على نحو ما ذكرنا من استدلال إبراهيم عليه السلام ويحتج بعمومه في لزوم شرائع من كان قبلنا من الأنبياء بأنه لم يخصص بذلك

(3/5)


الاستدلال على التوحيد من الشرائع السمعية وهو على الجميع، وقد بينا ذلك في أصول الفقه.
قوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} يقال إن الإدراك أصله اللحوق، نحو قولك: أدرك زمان المنصور، وأدرك أبا حنيفة، وأدرك الطعام أي لحق حال النضج، وأدرك الزرع والثمرة، وأدرك الغلام إذا لحق حال الرجال وإدراك البصر للشيء لحوقه له برؤيته إياه; لأنه لا خلاف بين أهل اللغة أن قول القائل: أدركت ببصري شخصا معناه رأيته ببصري، ولا يجوز أن يكون الإدراك الإحاطة لأن البيت محيط بما فيه وليس مدركا له، فقوله تعالى: {لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} معناه: لا تراه الأبصار، وهذا تمدح بنفي رؤية الأبصار كقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} وما تمدح الله بنفيه عن نفسه فإن إثبات ضده ذم ونقص، فغير جائز إثبات نقيضه بحال، كما لو بطل استحقاق الصفة بـ {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} لم يبطل إلا إلى صفة نقص، فلما تمدح بنفي رؤية البصر عنه لم يجز إثبات ضده ونقيضه بحال; إذ كان فيه إثبات صفة نقص ولا يجوز أن يكون مخصوصا بقوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} لأن النظر محتمل لمعان، منه انتظار الثواب كما روي عن جماعة من السلف، فلما كان ذلك محتملا للتأويل لم يجز الاعتراض عليه بما لا مساغ للتأويل فيه. والأخبار المروية في الرؤية إنما المراد بها العلم لو صحت، وهو علم الضرورة الذي لا تشوبه شبهة ولا تعرض فيه الشكوك; لأن الرؤية بمعنى العلم مشهورة في اللغة.
قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا} معناه: لو شاء الله أن يكونوا على ضد الشرك من الإيمان قسرا ما أشركوا; لأن المشيئة إنما تتعلق بالفعل أن يكون لا بأن لا يكون، فمتعلق المشيئة محذوف; وإنما المراد بهذه المشيئة الحال التي تنافي الشرك قسرا بالاقتطاع عن الشرك عجزا ومنعا وإلجاء، فهذه الحال لا يشاؤها الله تعالى لأن المنع من المعصية بهذه الوجوه منع من الطاعة وإبطال للثواب والعقاب في الآخرة.
قوله تعالى: {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} قال السدي: لا تسبوا الأصنام فيسبوا من أمركم بما أنتم عليه من عيبها. وقيل: "لا تسبوا الأصنام فيحملهم الغيظ والجهل على أن يسبوا من تعبدون كما سببتم من يعبدون". وفي ذلك دليل على أن المحق عليه أن يكف عن سب السفهاء الذين يتسرعون إلى سبه على وجه المقابلة له لأنه بمنزلة البعث على المعصية.
قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} ظاهره أمر ومعناه الإباحة، كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] {فَإِذَا قُضِيَتِ

(3/6)


الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة:10] هذا إذا أراد بأكله التلذذ فهو إباحة ويحتمل الترغيب في اعتقاد صحة الإذن في أكله للاستعانة به على طاعة الله تعالى، فيكون آكله في هذه الحال مأجورا ومن الناس من يقول: {إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ} يدل على حظر أكل ما لم يذكر اسم الله عليه لاقتضائه مخالفة المشركين في أكل ما لم يذكر اسم الله عليه وقوله {مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} عموم في سائر الأذكار، ويحتج به على جواز أكل ذبح الغاصب للشاة المغصوبة وفي الذبح بسكين مغصوبة أن المالك للشاة له أكلها لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} إذ كان ذلك مما قد ذكر اسم الله عليه.
قوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} قال الضحاك: كان أهل الجاهلية يرون إعلان الزنا إثما والاستسرار به غير إثم، فقال الله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} وهو عموم في سائر ما يسمى بهذا الاسم أن عليه تركه سرا وعلانية، فهو يوجب تحريم الخمر أيضا لقوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة:219] ويجوز أن يكون ظاهر الإثم ما يفعله بالجوارح، وباطنه ما يفعله بقلبه من الاعتقادات والفصول ونحوها مما حظر عليه فعله منها.
مطلب: الأقوال في ترك التسمية على الذبيحة
قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فيه نهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه. وقد اختلف في ذلك، فقال أصحابنا ومالك والحسن بن صالح: إن ترك المسلم التسمية عمدا لم يؤكل وإن تركها ناسيا أكل. وقال الشافعي: "يؤكل في الوجهين"، وذكر مثله عن الأوزاعي وقد اختلف أيضا في تارك التسمية ناسيا، فروي عن علي وابن عباس ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وسعيد بن المسيب وابن شهاب وطاوس قالوا: لا بأس بأكل ما ذبح ونسي التسمية عليه. وقال علي: "إنما هي على الملة". وقال ابن عباس: المسلم ذكر الله في قلبه وقال: كما لا ينفع الاسم في الشرك لا يضر النسيان في الملة. وقال عطاء: المسلم تسمية اسم الله تعالى; المسلم هو اسم من أسماء الله تعالى، والمؤمن هو اسم من أسمائه، والمؤمن تسمية للذابح. وروى أبو خالد الأصم عن ابن عجلان عن نافع: "أن غلاما لابن عمر قال له: يا عبد الله قل بسم الله قال: قد قلت، قال: قل بسم الله قال: قد قلت، قال: قل بسم الله قال: قد قلت، قال: فذبح فلم يأكل منه" وقال ابن سيرين: إذا ترك التسمية ناسيا لم يؤكل. وروى يونس بن عبيد عن مولى لقريش عن أبيه: "أنه أتى على غلام لابن عمر قائما عند

(3/7)


قصاب ذبح شاة ونسي أن يذكر اسم الله عليها، فأمره ابن عمر أن يقوم عنده فإذا جاء إنسان يشتري قال: ابن عمر يقول إن هذه لم يذكها فلا تشتر". وروى شعبة عن حماد عن إبراهيم في الرجل يذبح فينسى أن يسمي قال: "أحب إلي أن لا يأكل".
وظاهر الآية موجب لتحريم ما ترك اسم الله عليه ناسيا كان ذلك أو عامدا، إلا أن الدلالة قد قامت عندنا على أن النسيان غير مراد به; فأما من أباح أكله مع ترك التسمية عمدا فقوله مخالف للآية غير مستعمل لحكمها بحال، هذا مع مخالفته للآثار المروية في إيجاب التسمية على الصيد والذبيحة.
فإن قيل: إن المراد بالنهي الذبائح التي ذبحها المشركون، ويدل عليه ما روى شريك عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال المشركون: أما ما قتل ربكم فمات فلا تأكلونه وأما ما قتلتم أنتم وذبحتم فتأكلونه فأوحى الله تعالى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} قال: "الميتة". ويدل على ذلك قوله تعالى في نسق التلاوة: {لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} فإذا كانت الآية في الميتة وفي ذبائح المشركين فهي مقصورة الحكم ولم يدخل فيها ذبائح المسلمين. قيل له: نزول الآية على سبب لا يوجب الاقتصار بحكمها عليه بل الحكم للعموم إذا كان أعم من السبب، فلو كان المراد ذبائح المشركين لذكرها ولم يقتصر على ذكر ترك التسمية، وقد علمنا أن المشركين وإن سموا على ذبائحهم لم تؤكل مثل ذلك على أنه لم يرد ذبائح المشركين; إذ كانت ذبائحهم غير مأكولة سموا الله عليها أو لم يسموا، وقد نص الله تعالى على تحريم ذبائح المشركين في غير هذه الآية وهو قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة:3] وأيضا فلو أراد ذبائح المشركين أو الميتة لكانت دلالة الآية قائمة على فساد التذكية بترك التسمية; إذ جعل ترك التسمية علما لكونه ميتة، فدل ذلك على أن كل ما تركت التسمية عليه فهو ميتة. وعلى أنه قد روي عن ابن عباس ما يدل على أن المراد التسمية دون ذبيحة الكافر. وهو ما رواه إسرائيل عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} قال: كانوا يقولون: ما ذكر اسم الله عليه فلا تأكلوه وما لم يذكر اسم الله عليه فكلوه، فقال الله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} ، فأخبر ابن عباس في هذا الحديث أن المجادلة منهم كانت في ترك التسمية وأن الآية نزلت في إيجابها لا من طريق ذبائح المشركين ولا الميتة.
ويدل على أن ترك التسمية عامدا يفسد الزكاة قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] إلى قوله: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ} [المائدة:4] ومعلوم أن ذلك أمر يقتضي الإيجاب وأنه غير

(3/8)


واجب على الآكل، فدل على أنه أراد به حال الاصطياد، والسائلون قد كانوا مسلمين فلم يبح لهم الأكل إلا بشريطة التسمية; ويدل عليه قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36] يعني في حال النحر; لأنه قال الله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36] والفاء للتعقيب. ويدل عليه من جهة السنة حديث عدي بن حاتم حين سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صيد الكلب، فقال: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل إذا أمسك عليك، وإن وجدت معه كلبا آخر وقد قتله فلا تأكله" فإنما ذكرت اسم الله على كلبك ولم تذكره على غيره وقد كان عدي بن حاتم مسلما، فأمره بالتسمية على إرسال الكلب ومنعه الأكل عند عدم التسمية بقوله: "فلا تأكله فإنما ذكرت اسم الله على كلبك". وقد اقتضت الآية النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه والنهي عن ترك التسمية أيضا. ويدل على تأكيد النهي عن ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وهو راجع إلى الأمرين من ترك التسمية ومن الأكل ويدل أيضا على أن المراد حال تركها عامدا; إذ كان الناسي لا يجوز أن تلحقه سمة الفسق ويدل عليه ما روى عبد العزيز الدراوردي عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن الناس قالوا: يا رسول الله إن الأعراب يأتون باللحم فبتنا عندهم وهم حديثو عهد بكفر لا ندري ذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال: "سموا عليه الله وكلوا"، فلو لم تكن التسمية من شرط الذكاة لقال: وما عليكم من ترك التسمية، ولكنه قال: "كلوا" لأن الأصل أن أمور المسلمين محمولة على الجواز والصحة فلا تحمل على الفساد وما لا يجوز إلا بدلالة
فإن قيل: لو كان المراد ترك المسلم التسمية لوجب أن يكون من استباح أكله فاسقا لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} فلما اتفق الجميع على أن المسلم التارك للتسمية عامدا غير مستحق بسمة الفسق دل على أن المراد الميتة أو ذبائح المشركين قيل له: ظاهر قوله: {وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} عائد على الجميع من المسلمين وغيرهم وقيام الدلالة على خصوص بعضهم غير مانع بقاء حكم الآية في إيجاب التسمية على المسلم في الذبيحة. وأيضا فإنا نقول: من ترك التسمية عامدا مع اعتقاده لوجوبها هو فاسق. وكذلك من أكل ما هذا سبيله مع الاعتقاد; لأن ذلك من شرطها فقد لحقته سمة الفسق، وأما من اعتقد أن ذلك في الميتة أو ذبائح أهل الشرك دون المسلمين فإنه لا يكون فاسقا لزواله عند حكم الآية بالتأويل.
فإن قال قائل: لما كانت التسمية ذكرا ليس بواجب في استدامته ولا في انتهائه وجب أن لا يكون واجبا في ابتدائه، ولو كان واجبا لاستوى فيه العامد والناسي. قيل له:

(3/9)


أما القياس الذي ذكره فهو دعوى محض لم يرده على أصل فلا يستحق الجواب، على أنه منتقض بالإيمان والشهادتين وكذلك في التلبية والاستئذان وما شاكل هذا لأن هذه إذا كانت ليست بواجبة في استدامتها وانتهائها ومع ذلك فهي واجبة في الابتداء.
وإنما قلنا إن ترك التسمية ناسيا لا يمنع صحة الذكاة، من قبل أن قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} خطاب للعامد دون الناسي; ويدل عليه قوله تعالى في نسق التلاوة :{وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} وليس ذلك صفة للناسي; ولأن الناسي في حال نسيانه غير مكلف للتسمية، وروى الأوزاعي عن عطاء بن أبي رباح عن عبيد بن عمير عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "تجاوز الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ، وإذا لم يكن مكلفا للتسمية فقد أوقع الذكاة على الوجه المأمور به فلا يفسده ترك التسمية، وغير جائز إلزامه ذكاة أخرى لفوات ذلك منه، وليس ذلك مثل نسيان تكبيرة الصلاة أو نسيان الطهارة ونحوها لأن الذي يلزمه بعد الذكر هو فرض آخر، ولا يجوز أن يلزمه فرض آخر في الذكاة لفوات محلها.
فإن قيل: لو كانت التسمية من شرائط الذكاة لما أسقطها النسيان، كترك قطع الأوداج. وهذا السؤال للفريقين: من أسقط التسمية رأسا، ومن أوجبها في حال النسيان; فأما من أسقطها فإنه يستدل علينا باتفاقنا على سقوطها في حال النسيان، وشرائط الذكاة لا يسقطها النسيان كترك قطع الأوداج، فدل على أن التسمية ليست بشرط فيها، ومن أوجبها في حال النسيان يشبهها بترك قطع الحلقوم والأوداج ناسيا أو عامدا أنه يمنع صحة الذكاة. فأما من أسقط فرض التسمية رأسا فإن هذا السؤال لا يصح له; لأنه يزعم أن ترك الكلام من فروض الصلاة وكذلك فعل الطهارة وهما جميعا من شروطها، ثم فرق بين تارك الطهارة ناسيا وبين المتكلم في الصلاة ناسيا; وكذلك النية شرط في صحة الصوم وترك الأكل أيضا شرط في صحته، ولو ترك النية ناسيا لم يصح صومه ولو أكل ناسيا لم يفسد صومه، فهذا سؤال ينتقض على أصل هذا السائل. وأما من أوجبها في حال النسيان واستدل بقطع الأوداج فإنه لا يصح له ذلك أيضا لأن قطع الأوداج هو نفس الذبح الذي ينافي موته حتف أنفه وينفصل به من الميتة، والتسمية مشروطة لذلك لا على أنها نفس الذبح بل هي مأمور بها عنده في حال الذكر دون حال النسيان، فلم يخرجه عدم التسمية على وجه السهو من وجود الذبح، فلذلك اختلفا.
قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيباً} الآية الحرث الزرع، والحرث الأرض التي تثار للزرع; قال ابن عباس وقتادة عمد أناس من أهل الضلالة فجزءوا من حروثهم ومواشيهم جزءا لله تعالى وجزءا لشركائهم، فكانوا إذا خالط

(3/10)


شيء مما جزءوا لشركائهم ما جزءوا لله تعالى ردوه على شركائهم، وكانوا إذا أصابتهم السنة استعانوا بما جزءوا لله تعالى ووفروا ما جزءوا لشركائهم. وقيل: إنهم كانوا إذا هلك الذي لأوثانهم أخذوا بدله مما لله تعالى ولا يفعلون مثل ذلك فيما لله تعالى، قال ذلك الحسن والسدي. وقيل: "إنهم كانوا يصرفون بعض ما جعلوه لله في النفقة على أوثانهم ولا يفعلون مثل ذلك فيما جعلوه للأوثان". وإنما جعل الأوثان شركاءهم لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم ينفقونها عليها فشاركوها في نعمهم.
قوله تعالى: {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ}. قال الضحاك: الحرث الزرع الذي جعلوه لأوثانهم، وأما الأنعام التي ذكرها أولا فهو ما جعلوه لأوثانهم كما جعلوا الحرث للنفقة عليها في سدنتها وما ينوب من أمرها. وقيل: "ما جعل منها قربانا للأوثان"، وأما الأنعام التي ذكرت ثانيا فإن الحسن ومجاهدا قالا: هي السائبة والوصيلة والحامي، وأما التي ذكرت ثالثا فإن السدي وغيره قالوا: "هي التي إذا ولدوها أو ذبحوها أو ركبوها لم يذكروا اسم الله عليها"، وقال أبو وائل: "هي التي لا يحجون عليها". وقوله تعالى: {حِجْرٌ} قال قتادة: يعني حرام، وأصله المنع، قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} [الفرقان:22] أي حراما محرما. قوله تعالى: {وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا} قال ابن عباس: "يعنون اللبن". وقال سعيد عن قتادة: "ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا": البحائر كانت للذكور دون النساء، وإن كانت ميتة اشترك فيها ذكورهم وإناثهم}. قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} قال قتادة: يعني البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، تحريما من الشيطان في أموالهم. وقال مجاهد والسدي: ما في بطون هذه الأنعام يعني بها الأجنة وقال غيرهم: "أراد بها الألبان والأجنة جميعا" والخالص هو الذي يكون على معنى واحد لا يشوبه شيء من غيره كالذهب الخالص، ومنه إخلاص التوحيد وإخلاص العمل لله تعالى وإنما أنث خالصة على المبالغة في الصفة، كالعلامة والراوية، وقيل: على تأنيث المصدر، نحو العاقبة والعافية، ومنه: {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [صّ:46] وقيل: لتأنيث ما في بطونها من الأنعام، ويقال: فلان خالصة فلان وخلصانه.
وقوله تعالى: {وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ} يعني أجنة الأنعام إذا كانت ميتة استوى ذكرهم وأنثاهم فيها فأكلوها جميعا قال أبو بكر: وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: إذا أردت أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام

(3/11)


إلى قوله: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} .
قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ} إلى قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال ابن عباس والسدي: {مَعْرُوشَاتٍ} ما عرش الناس من الكروم ونحوها، وهو رفع بعض أغصانها على بعض. وقيل إن تعريشه أن يحظر عليه بحائط، وأصله الرفع، ومنه: {خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} [البقرة:259] [الكهف:42] [الحج:45] أي على أعاليها وما ارتفع منها، والعرش السرير لارتفاعه ذكر الله تعالى الزرع والنخل والزيتون والرمان ثم قال: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وهو عطف على جميع المذكور، فاقتضى ذلك إيجاب الحق في سائر الزروع والثمار المذكورة في الآية.
وقد اختلف في المراد بقوله تعالى :{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فروي عن ابن عباس وجابر بن زيد ومحمد ابن الحنفية والحسن وسعيد بن المسيب وطاوس وزيد بن أسلم وقتادة والضحاك: أنه العشر ونصف العشر. وروي عن ابن عباس رواية أخرى ومحمد ابن الحنفية والسدي وإبراهيم: نسخها العشر ونصف العشر. وعن الحسن قال: نسختها الزكاة. وقال الضحاك: نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن وروي عن ابن عمر ومجاهد: أنها محكمة وأنه حق واجب عند الصرام غير الزكاة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى عن جداد الليل وعن صرام الليل" قال سفيان بن عيينة: هذا لأجل المساكين كي يحضروا قال مجاهد: إذا حصدت طرحت للمساكين منه، وكذلك إذا نقيت وإذا كدست، ويتركون يتبعون آثار الحصادين، وإذا أخذت في كيله حثوت لهم منه، وإذا علمت كيله عزلت زكاته، وإذا أخذت في جداد النخل طرحت لهم منه، وكذلك إذا أخذت في كيله، وإذا علمت كيله عزلت زكاته وما روي عن ابن عباس ومحمد بن الحنفية وإبراهيم أن قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} منسوخ بالعشر ونصف العشر، يبين أن مذهبهم تجويز نسخ القرآن بالسنة.وقد اختلف الفقهاء فيما يجب فيه العشر من وجهين: أحدهما: في الصنف الموجب فيه، والآخر في مقداره.
ذكر الخلاف في الموجب فيه
قال أبو حنيفة وزفر: "في جميع ما تخرجه الأرض العشر إلا الحطب والقصب والحشيش". وقال أبو يوسف ومحمد: "لا شيء فيما تخرجه الأرض إلا ما كان له ثمرة باقية". وقال مالك: "الحبوب التي تجب فيها الزكاة الحنطة والشعير والسلت والذرة

(3/12)


والدخن والأرز والحمص والعدس والجلبان واللوبياء وما أشبه ذلك من الحبوب وفي الزيتون". وقال ابن أبي ليلى والثوري: "ليس في شيء من الزرع زكاة إلا التمر والزبيب والحنطة والشعير"، وهو قول الحسن بن صالح، وقال الشافعي: "إنما تجب فيما ييبس ويقتات ويدخر مأكولا، ولا شيء في الزيتون لأنه إدام". وقد روي عن علي بن أبي طالب وعمر ومجاهد وعطاء وعمرو بن دينار: أنه ليس في الخضر صدقة. وروي عن ابن عباس أنه كان يأخذ من دساتج الكراث العشر بالبصرة.
قال أبو بكر: قد تقدم ذكر اختلاف السلف في معنى قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وفي بقاء حكمه أو نسخه، والكلام بين السلف في ذلك من ثلاثة أوجه: أحدها: هل المراد زكاة الزرع والثمار وهو العشر ونصف العشر أو حق آخر غيره؟ وهل هو منسوخ أو غير منسوخ؟ فالدليل على أنه غير منسوخ اتفاق الأمة على وجوب الحق في كثير من الحبوب والثمار وهو العشر ونصف العشر، ومتى وجدنا حكما قد استعملته الأمة ولفظ الكتاب ينتظمه ويصح أن يكون عبارة عنه، فواجب أن يحكم أن الاتفاق إنما صدر عن الكتاب وأن ما اتفقوا عليه هو الحكم المراد بالآية، وغير جائز إثباته حقا غيره ثم إثبات نسخه بقوله عليه السلام: "فيما سقت السماء العشر" ; إذ جائز أن يكون ذلك الحق هو العشر الذي بينه النبي صلى الله عليه وسلم فيكون قوله: "فيما سقت السماء العشر" بيانا للمراد بقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} كما أن قوله: "في مائتي درهم خمسة دراهم" بيان لقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] وقوله: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة:267] وغير جائز أن يكون قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} منسوخاً بالعشر ونصف العشر; لأن النسخ إنما يقع بما لا يصح اجتماعهما، فأما ما يصح اجتماعهما معا فغير جائز وقوع النسخ به، ألا ترى أنه يصح أن يقول: وآتوا حقه يوم حصاده وهو العشر؟ فلما كان ذلك كذلك لم يجز أن يكون منسوخا به وأما من جعل هذا الحق ثابت الحكم غير منسوخ وزعم أنه حق آخر غير العشر يجب عند الحصاد وعند الدياس وعند الكيل، فإنه لا يخلو قوله هذا من أحد معنيين: إما أن يكون مراده عنده الوجوب، أو الندب; فإن كان ندبا عنده لم يسغ له ذلك إلا بإقامة الدلالة عليه، إذ غير جائز صرف الأمر عن الإيجاب إلى الندب إلا بدلالة، وإن رآه واجبا، فلو كان كما زعم لوجب أن يرد النقل به متواترا لعموم الحاجة إليه، ولكان لا أقل من أن يكون نقله في نقل وجوب العشر ونصف العشر، فلما لم يعرف ذلك عامة السلف والفقهاء علمنا أنه غير مراد، فثبت أن هذا الحق هو العشر ونصف العشر الذي بينه عليه السلام.
فإن قيل: الزكاة لا تخرج يوم الحصاد وإنما تخرج بعد التنقية، فدل على أنه لم يرد

(3/13)


به الزكاة قيل له: الحصاد اسم للقطع، فمتى قطعه فعليه إخراج عشر ما صار في يده، ومع ذلك فالخضر كلها إنما يخرج الحق منها يوم الحصاد غير منتظر به شيء غيره وقيل: إن قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} لم يجعل "اليوم" ظرفا للإيتاء المأمور به وإنما هو ظرف لحقه، كأنه قال: وآتوا الحق الذي وجب يوم حصاده بعد التنقية.
قال أبو بكر: ولما ثبت بما ذكرنا أن المراد بقوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} هو العشر، دل على وجوب العشر في جميع ما تخرجه الأرض إلا ما خصه الدليل; لأن الله تعالى قد ذكر الزرع بلفظ عموم ينتظم لسائر أصنافه، وذكر النخل والزيتون والرمان ثم عقبه بقوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وهو عائد إلى جميع المذكور، فمن ادعى خصوص شيء منه لم يسلم له ذلك إلا بدليل، فوجب بذلك إيجاب الحق في الخضر وغيرها وفي الزيتون والرمان.
فإن قيل: إنما أوجب الله تعالى هذا الحق فيما ذكر يوم حصاده، وذلك لا يكون إلا بعد استحكامه ومصيره إلى حال تبقى ثمرته، فأما ما أخذ منه قبل بلوغ وقت الحصاد من الفواكه الرطبة فلم يتناوله اللفظ، ومع ذلك فإن الزيتون والرمان لا يحصدان فلم يدخلا في عموم اللفظ قيل له: الحصاد اسم للقطع والاستيصال، قال الله تعالى: {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} [الانبياء:15] وقال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة: "ترون أوباش قريش احصدوهم حصدا"، فيوم حصاده هو يوم قطعه، فذلك قد يكون في الخضر وفي كل ما يقطع من الثمار عن شجرة سواء كان بالغا أو أخضر رطبا وأيضا قد أوجب الآية العشر في ثمر النخل عند جميع الفقهاء بقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} فدل على أن المراد يوم قطعه لشمول اسم الحصاد لقطع ثمر النخل، وفائدة ذكر الحصاد ههنا أن الحق غير واجب إخراجه بنفس خروجه وبلوغه حتى يحصل في يد صاحبه فحينئذ يلزمه إخراجه، وقد كان يجوز أن يتوهم أن الحق قد لزمه بخروجه قبل قطعه وأخذه، فأفاد بذلك أن عليه زكاة ما حصل في يده دون ما تلف منه ولم يحصل منه في يده ويدل على وجوب العشر في جميع الخارج قوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة:267] وذلك عموم في جميع الخارج.
فإن قيل: النفقة لا تعقل منها الصدقة قيل له: هذا غلط من وجوه: أحدها أن النفقة لا يعقل منها غير الصدقة، وبهذا ورد الكتاب، قال الله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة:267] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة:34] وقال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً} [البقرة:274] الآية، وغير ذلك من الآي

(3/14)


الموجبة لما ذكرنا.وأيضا فإن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة:267] أمر، وهو يقتضي الوجوب، وليس ههنا نفقة واجبة غير الزكاة والعشر; إذ النفقة على عياله واجبة وأيضا فإن النفقة على نفسه وأولاده معقولة غير مفتقرة إلى الأمر، فلا معنى لحمل الآية عليه.
فإن قيل: المراد صدقة التطوع. قيل له: هذا غلط من وجهين: أحدهما: أن الأمر على الوجوب فلا يصرف إلى الندب إلا بدليل، والثاني: قوله تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة:267] قد دل على الوجوب; لأن الإغماض إنما يكون في اقتضاء الدين الواجب، فأما ما ليس بواجب فكل ما أخذه منه فهو فضل وربح فلا إغماض فيه; ومن جهة السنة حديث معاذ وابن عمر وجابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما سقت السماء ففيه العشر وما سقي بالسانية فنصف العشر" ، وهذا خبر قد تلقاه الناس بالقبول واستعملوه، فهو في حيز التواتر وعمومه يوجب الحق في جميع أصناف الخارج.
فإن احتجوا بحديث يعقوب بن شيبة قال: حدثنا أبو كامل الجحدري قال: حدثنا الحارث بن شهاب عن عطاء بن السائب عن موسى بن طلحة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في الخضراوات صدقة" قيل له: قد قال يعقوب بن شيبة إن هذا حديث منكر، وكان يحيى بن معين يقول: حديث الحارث بن شهاب ضعيف، قال يحيى: وقد روى عبد السلام بن حرب هذا الحديث عن عطاء بن السائب عن موسى بن طلحة مرسلا، وعبد السلام ثقة; وإنما أصل حديث موسى بن طلحة ما رواه يعقوب بن شيبة قال: حدثنا جعفر بن عون قال: حدثنا عمرو بن عثمان بن موهب عن موسى بن طلحة أن بعض الأمراء بعث إليه في صدقة أرضه فقال: ليس عليها صدقة وإنما هي أرض خضر ورطاب، إن معاذا إنما أمر أن يأخذ من النخل والحنطة والشعير والعنب. فهذا أصل حديث موسى بن طلحة، وهو تأويل لحديث معاذ أنه أمر بالأخذ من الأصناف التي ذكر، وليس في ذلك لو ثبت دلالة على نفي الحق عما سواها; لأنه يجوز أن يكون معاذ إنما استعمل على هذه الأصناف دون غيرها وأيضا فلو استقام سند موسى بن طلحة وصحت طريقته لم يجز الاعتراض به على خبر معاذ في العشر ونصف العشر; لأنه خبر تلقاه الناس بالقبول واستعملوه وهم مختلفون في استعمال حديث موسى بن طلحة، ومتى ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم خبران فاتفق الفقهاء على استعمال أحدهما واختلفوا في استعمال الآخر كان المتفق على استعماله قاضيا على المختلف فيه منهما خاصا كان ذلك أو عاما، فوجب أن يكون قوله: "فيما سقت السماء العشر" قاضيا على خبر موسى بن طلحة:

(3/15)


"ليس في الخضراوات صدقة" وأيضا يمكن استعمال هذا الخبر فيما يمر به على العاشر على ما يقول أبو حنيفة; لأنه لا يأخذ منه العشر، ويكون خبر معاذ: "فيما سقت السماء العشر" مستعملا في الجميع ومن جهة النظر أن الأرض يقصد طلب نمائها بزراعتها الخضراوات كما يطلب نماؤها بزراعتها الحب، فوجب أن يكون فيها العشر كالحبوب، ولا يلزم عليه الحطب والقصب والحشيش; لأن ذلك ينبت في العادة إذا صادفه الماء من غير زراعة وليس يكاد يقصد بها الأرض، فلذلك لم يجب فيها شيء، ولا خلاف في نفي وجوب الحق عن هذه الأشياء.
وقد اختلف فيما يأكله رب النخل من التمر، فقال أبو حنيفة وزفر ومالك والثوري: "يحسب عليه ما أكله صاحب الأرض". وقال أبو يوسف: "إذا أكل صاحب الأرض وأطعم جاره وصديقه أخذ منه عشر ما بقي من ثلاثمائة الصاع التي تجب فيها الزكاة ولا يؤخذ منه مما أكل أو أطعم، ولو أكل الثلاثمائة صاع وأطعمها لم يكن عليه عشر، فإن بقي منها قليل أو كثير فعليه عشر ما بقي أو نصف العشر". وقال الليث في زكاة الحبوب: "يبدأ بها قبل النفقة، وما أكل من فريك هو وأهله فإنه لا يحتسب عليه، بمنزلة الرطب الذي يترك لأهل الحائط ما يأكله هو وأهله لا يخرص عليه". وقال الشافعي: "يترك الخارص لرب الحائط ما يأكله هو وأهله لا يخرصه عليه، ومن أكل من نخله وهو رطب لم يحتسب عليه".
قال أبو بكر: قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} يقتضي وجوب الحق في جميع المأخوذ، ولم يخصص الله تعالى ما أكله هو وأهله، فهو على الجميع.
فإن قيل: إنما أمر بإيتاء الحق يوم الحصاد، فلا يجب الحق فيما أخذ منه قبل الحصاد.
قيل له: الحصاد اسم للقطع، فكلما قطع منه شيئا لزمه إخراج عشره; وأيضا فليس في قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} دليل على نفي الوجوب عما أخذ قبل الحصاد; لأنه جائز أن يريد: وآتوا حق الجميع يوم حصاده المأكول منه والباقي
واحتج من لم يحتسب بالمأكول بما روى شعبة عن خبيب بن عبد الرحمن قال: سمعت عبد الرحمن بن مسعود يقول: جاء سهل بن أبي حثمة إلى مجلسنا، فحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فالربع" ، وهذا يحتمل أن يكون معناه ما روى سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا حثمة خارصا,

(3/16)


فجاءه رجل فقال: يا رسول الله إن أبا حثمة قد زاد علي فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن ابن عمك يزعم أنك قد زدت عليه" فقال: يا رسول الله لقد تركت له قدر عرية أهله وما يطعم المساكين وما يصيب الريح، فقال: "قد زادك ابن عمك وأنصفك" ، والعرايا هي الصدقة; فإنما أمر بذلك الثلث صدقة ويدل عليه حديث جرير بن حازم عن قيس بن مسعود عن مكحول الشامي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "خففوا في الخرص فإن في المال العرية والوصية" فجمع بين العرية والوصية، فدل على أنه أراد الصدقة. وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس في العرايا صدقة" ، فلم يوجب فيها صدقة لأن العرية نفسها صدقة، وإنما فائدة الخبر أن ما تصدق به صاحب العشر يحتسب له ولا تجب فيها صدقة ولا يضمنها.
ذكر الخلاف في اعتبار ما يجب فيه الحق
فقال أبو حنيفة وزفر: يجب العشر في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره إلا ما قدمنا ذكره. وقال أبو يوسف ومحمد ومالك وابن أبي ليلى والليث والشافعي: "لا يجب حتى يبلغ ما يجب فيه الحق خمسة أوسق" وذلك إذا كان ما يجب فيه الحق مكيلا، فإن لم يكن مكيلا فإن أبا يوسف اعتبر أن يكون فيه خمسة أوسق من أدنى الأشياء التي تدخل في الوسق مما يجب فيه العشر إلا في العسل، فإنه روي عنه أنه اعتبر عشرة أرطال، وروي أنه اعتبر عشر قرب، وروي أنه اعتبر قيمة خمسة أوسق من أدنى ما يدخل في الوسق. وأما محمد فإنه ينظر إلى أعلى ما يقدر به ذلك الشيء فيعتبر منه أن يبلغ خمسة أمثال، وذلك نحو الزعفران، فإن أعلى مقاديره منا فيعتبر بلوغه خمسة أمناء; لأن ما زاد على المن فإنه يضاعف أو ينسب إليه فيقال منوان وثلاثة ونصف من وربع من، ويعتبر في القطن خمسة أحمال لأن الحمل أعلى مقاديره وما زاد فتضعيف له، وفي العسل خمسة أفراق لأن الفرق أعلى ما يقدر به ويحتج لأبي حنيفة في ذلك بقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وذلك عائد إلى جميع المذكور، فهو عموم فيه وإن كان مجملا في المقدار الواجب; لأن قوله: {حَقَّهُ} مجمل مفتقر إلى البيان، وقد ورد البيان في مقدار الواجب وهو العشر أو نصف العشر ويحتج فيه بقوله تعالى: {أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] وذلك عام في جميع الخارج; ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر" ولم يفصل بين القليل والكثير ومن جهة النظر اتفاق الجميع على سقوط اعتبار الحول فيه، فوجب أن يسقط اعتبار المقدار كالركاز والغنائم

(3/17)


واحتج معتبرو المقدار بما روى محمد بن مسلم الطائفي قال: أخبرنا عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا صدقة في شيء من الزرع أو الكرم أو النخل حتى يبلغ خمسة أوسق" . وروى ليث بن أبي سليم عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" ورواه أيوب بن موسى عن نافع عن ابن عمر موقوفا عليه وروى ابن المبارك عن معمر عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
والجواب عن هذا لأبي حنيفة من وجوه: أحدها: أنه إذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم خبران أحدهما عام والآخر خاص واتفق الفقهاء على استعمال أحدهما واختلف في استعمال الآخر، فالمتفق على استعماله قاض على المختلف فيه، فلما كان خبر العشر متفقا على استعماله واختلفوا في خبر المقدار كان استعمال خبر العشر على عمومه أولى وكان قاضيا على المختلف فيه، فإما أن يكون الآخر منسوخا أو يكون تأويله محمولا على معنى لا ينافي شيئا من خبر العشر وأيضا فإن قوله: "فيما سقت السماء العشر" عام في إيجابه في الموسوق وغيره، وخبر الخمسة أوسق خاص في الموسوق دون غيره، فغير جائز أن يكون بيانا لمقدار ما يجب فيه العشر; لأن حكم البيان أن يكون شاملا لجميع ما اقتضى البيان، فلما كان خبر الأوساق مقصورا على ذكر مقدار الوسق دون غيره وكان خبر العشر عموما في الموسوق وغيره علمنا أنه لم يرد مورد البيان لمقدار ما يجب فيه العشر وأيضا فإن ذلك يقتضي أن يكون ما يوسق يعتبر في إيجاب الحق بلوغ مقداره خمسة أوسق، وما ليس بموسوق يجب في قليله وكثيره لقوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر" وفقد ما يوجب تخصيص مقدار ما لا يدخل في الأوساق، وهذا قول مطروح والقائل به ساقط مرذول لاتفاق السلف والخلف على خلافه، وليس ذلك كقوله عليه السلام: "في الرقة ربع العشر" وقوله: "ليس فيما دون خمس أواق زكاة" وذلك لأنه لا شيء من الرقة إلا وهو داخل في الوزن، والأواقي مذكورة للوزن، فجاز أن يكون بيانا لمقدار جميع الرقة المذكورة في الخبر الآخر وأيضا فقد ذكرنا أن لله حقوقا واجبة في المال غير الزكاة ثم نسخت بالزكاة، كما روي عن أبي جعفر محمد بن علي والضحاك قالا: "نسخت الزكاة كل صدقة في القرآن" ، فجائز أن يكون هذا التقدير معتبرا في الحقوق التي كانت واجبة فنسخت، نحو قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء:8] ونحو ما روي عن مجاهد: إذا حصدت طرحت للمساكين وإذا كدست وإذا نقيت، وإذا علمت كيله عزلت زكاته، وهذه الحقوق غير واجبة اليوم، فجائز أن يكون ما روي من تقدير الخمسة الأوسق كان

(3/18)


معتبرا في تلك الحقوق، وإذا احتمل ذلك لم يجز تخصيص الآية والأثر المتفق على نقله به وأيضا فقد روي: "ليس فيما دون خمسة أوسق زكاة" ، فجائز أن يريد به زكاة التجارة بأن يكون سأل سائل عن أقل من خمسة أوسق طعام أو تمر للتجارة، فأخبر أن لا زكاة فيه لقصور قيمته عن النصاب في ذلك الوقت، فنقل الراوي كلام النبي صلى الله عليه وسلم وترك ذكر السبب كما يوجد ذلك في كثير من الأخبار.
ذكر الخلاف في اجتماع العشر والخراج
فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر: "لا يجتمعان". وقال مالك والثوري والحسن بن صالح وشريك والشافعي: "إذا كانت أرض خراج فعليه العشر في الخارج والخراج في الأرض". والدليل على أنهما لا يجتمعان أن عمر بن الخطاب لما فتح السواد وضع على الأرض الخراج ولم يأخذ العشر من الخارج وذلك بمشاورة الصحابة وموافقتهم إياه عليه، فصار ذلك إجماعا من السلف وعليه مضى الخلف، ولو جاز اجتماعهما لجمعهما عمر بن الخطاب رضي الله عنه ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر وفيما سقي بالناضح نصف العشر" وذلك إخبار بجميع الواجب في كل واحد منهما، فلو وجب الخراج معه لكان ذلك بعض الواجب لأن الخراج قد يكون الثلث أو الربع وقد يكون قفيزا ودرهما وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد رد العشر إلى النصف لأجل المؤنة التي لزمت صاحبها، فلو لزم الخراج في الأرض لزم سقوط نصف العشر الباقي للزوم مؤنة الخراج، ولكان يجب أن يختلف حكم ما تغلظ فيه المؤنة وما تخف فيه كما خالف النبي صلى الله عليه وسلم بين ما سقته السماء وبين ما سقي بالناضح لأجل المؤنة، ويدل عليه حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "منعت العراق قفيزها ودرهمها" ومعناه: ستمنع; ولو كان العشر واجبا لاستحال أن يكون الخراج ممنوعا منه والعشر غير ممنوع; لأن من منع الخراج كان للعشر أمنع، وفي تركه ذكر العشر دلالة على أن لا عشر في أرض الخراج وروي أن دهقانة نهر الملك أسلمت، فكتب عمر أن يؤخذ منها الخراج إن اختارت أرضها وروي أيضا أن رفيلا أسلم، فقال له علي: "إن أقمت على أرضك أخذنا منك الخراج"; ولو كان العشر واجبا مع ذلك لأخبر بوجوبه ولم يخالفهما في ذلك أحد من الصحابة وأيضا لما كان العشر والخراج حقين لله تعالى لم يجز اجتماعهما عليه في وقت واحد، والدليل عليه اتفاق الجميع على امتناع وجوب زكاة السائمة وزكاة التجارة.
فإن قيل: إن الخراج بمنزلة الأجرة، والعشر صدقة، فكما جاز اجتماع أجر الأرض

(3/19)


والعشر في الخارج كذلك يجوز اجتماع الخراج والعشر; وذلك لأن أرض الخراج مبقاة على حكم الفيء، وإنما أبيح لزارعها الانتفاع بها بالخراج وهو أجرة الأرض، فلا يمنع ذلك وجوب العشر مع الخراج. قيل له: هذا غلط من وجوه: أحدها: أن عند أبي حنيفة لا يجتمع العشر والأجرة على المستأجر، ومتى لزمته الأجرة سقط عنه العشر فكان العشر على رب الأرض الآخذ للأجرة; فهذا الإلزام ساقط عنه وقول القائل إن أرض الخراج غير مملوكة لأهلها وإنها مبقاة على حكم الفيء خطأ; لأنها عندنا مملوكة لأهلها، والكلام فيها في غير هذا الموضع وقوله: "إن الخراج أجرة" خطأ أيضا من وجوه: أحدها: أنه لا خلاف أنه لا يجوز استئجار النخل والشجر، ومعلوم أن الخراج يؤدى عنهما، فثبت أنه ليس بأجرة وأيضا فإن الإجارة لا تصح إلا على مدة معلومة، ولم يعتقد أحد من الأئمة على أرباب أراضي الخراج مدة معلومة وأيضا فإن كانت أرض الخراج وأهلها مقرون على حكم الفيء فغير جائز أن يؤخذ منهم جزية رءوسهم لأن العبد لا جزية عليه. ومما يدل على انتفاء اجتماع الخراج والعشر تنافي سببيهما وذلك لأن الخراج سببه الكفر لأنه يوضع موضع الجزية، وسائر أموال الفيء والعشر سببه الإسلام، فلما تنافى سببهما تنافى مسبباهما.
قوله تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً} روي عن ابن عباس رواية والحسن وابن مسعود رواية أخرى ومجاهد قالوا: الحمولة كبار الإبل، والفرش الصغار. وقال قتادة والربيع بن أنس والضحاك والسدي والحسن رواية: الحمولة ما حمل من الإبل، والفرش الغنم. وروي عن ابن عباس رواية أخرى قال: الحمولة كل ما حمل من الإبل والبقر والخيل والبغال والحمير، والفرش الغنم، فأدخل في الأنعام الحافر على الاتباع لأن اسم الأنعام لا يقع على الحافر، وكان قول السلف في الفرش أحد معنيين: إما صغار الإبل وإما الغنم وقال بعض أهل العلم: أراد بالفرش ما خلق لهم من أصوافها وجلودها التي يفترشونها ويجلسون عليها ولولا قول السلف على ما ذكرنا لكان هذا الظاهر يستدل به على جواز الانتفاع بأصواف الأنعام وأوبارها في سائر الأحوال سواء أخذت منها بعد الموت أو في حال الحياة; ويستدل به أيضا على جواز الانتفاع بجلودها بعد الموت لاقتضاء العموم له، إلا أنهم قد اتفقوا أنه لا ينتفع بالجلود قبل الدباغ، فهو مخصوص وحكم الآية ثابت في الانتفاع بها بعد الدباغ
وقوله تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً} فيه إضمار: وهو الذي أنشأ لكم من الأنعام حمولة وفرشا. قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ} إلى {الظَّالِمِينَ} .

(3/20)


قوله {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} بدل من قوله: {حَمُولَةً وَفَرْشاً} لدخوله في الإنشاء، كأنه قال: أنشأ ثمانية أزواج، فكل واحد من الأصناف الأربعة من ذكورها وإناثها يسمى زوجا، ويقال للاثنين زوج أيضا كما يقال للواحد خصم وللاثنين خصم، فأخبر الله تعالى أنه أحل لعباده هذه الأزواج الثمانية وأن المشركين حرموا منها ما حرموا من البحيرة والسائبة والوصيلة والحامي وما جعلوه لشركائهم على ما بينه قبل ذلك بغير حجة ولا برهان ليضلوا الناس بغير علم، فقال: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ثم قال: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} لأن طريق العلم إما المشاهدة أو الدليل الذي يشترك العقلاء في إدراك الحق به، فبان بعجزهم عن إقامة الدلالة من أحد هذين الوجهين بطلان قولهم في تحريم ما حرموا من ذلك.
قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية روي عن طاوس أن أهل الجاهلية كانوا يستحلون أشياء ويحرمون أشياء، فقال الله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} مما تستحلون {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً} الآية وسياقة المخاطبة تدل على ما قال طاوس وذلك لأن الله قد قدم ذكر ما كانوا يحرمون من الأنعام وذمهم على تحريم ما أحله وعنفهم وأبان به عن جهلهم لأنهم حرموا بغير حجة، ثم عطف قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} يعني تحرمونه إلا ما ذكر وإذا كان ذلك تقدير الآية لم يجز الاستدلال بها على إباحة ما خرج عن الآية.
فإن قيل: قد ذكر في أول المائدة تحريم المنخنقة والموقوذة وما ذكر معهما، وهي خارجة عن هذه الآية قيل له: في ذلك جوابان: أحدهما: أن المنخنقة وما ذكر معها قد دخلت في الميتة، وإنما ذكر الله تعالى تحريم الميتة في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] ثم فسر وجوهها والأسباب الموجبة لكونها ميتة فقد اشتمل اسم الميتة على المنخنقة ونظائرها. والثاني: أن سورة الأنعام مكية، وجائز أن لا يكون قد حرم في ذلك الوقت إلا ما قد ذكر في هذه الآية، والمائدة مدنية وهي من آخر ما نزل من القرآن، وفي هذه الآية دليل على أن "أو" إذا دخلت على النفي ثبت كل واحد مما دخلت عليه على حياله وأنها لا تقتضي تخييرا; لأن قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} قد أوجب تحريم كل واحد من ذلك على حياله.
مطلب: في لحوم الحمر الأهلية
وقد احتج كثير من السلف في إباحة ما عدا المذكورة في هذه الآية بها، فمنها لحوم الحمر الأهلية وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: قلت لجابر بن

(3/21)


زيد: إنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية قال: قد كان يقول ذلك الحكم بن عمرو الغفاري عندنا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن أبى ذلك البحر يعني عبد الله بن عباس وقرأ: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية روى حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة: أنها كانت لا ترى بلحوم السباع والدم الذي يكون في أعلى العروق بأسا، وقرأت هذه الآية: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية فأما لحوم الحمر الأهلية فإن أصحابنا ومالكا والثوري والشافعي ينهون عنه. وروي عن ابن عباس ما ذكرنا من إباحته، وتابعه على ذلك قوم,
وقد وردت أخبار مستفيضة في النهي عن أكل لحوم الحمر الأهلية، منها حديث الزهري عن الحسن وعبد الله ابني محمد ابن الحنفية عن أبيهما أنه سمع علي بن أبي طالب يقول لابن عباس: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الحمر الإنسية وعن متعة النساء يوم خيبر" . وقد روى ابن وهب عن يحيى بن عبد الله بن سالم عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي عن مجاهد عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الإنسية" ، وهذا يدل على أنه لما سمع عليا يروي النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم رجع عما كان يذهب إليه من الإباحة. وروى أبو حنيفة وعبد الله عن نافع عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية" . وروى ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية" , ورواه حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن محمد بن علي عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية. وروى شعبة عن أبي إسحاق عن البراء بن عازب سمعه منه قال: "أصبنا حمرا يوم خيبر فطبخناها، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أكفئوا القدور" . وروى النهي عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن أبي أوفى وسلمة بن الأكوع وأبو هريرة وأبو ثعلبة الخشني في آخرين, في بعضها ابتداء نهي عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعضها ذكر قصة خيبر
والسبب الذي من أجله نهى عنها، فقال قائلون: "إنما نهى عنها لأنها كانت نهبة انتهبوها". وقال آخرون: "لأنه قيل له إن الحمر قد قلت". وقال آخرون: "لأنها كانت جلالة". فتأول من أباحها نهي النبي صلى الله عليه وسلم على أحد هذه الوجوه، ومن حظرها أبطل هذه التأويلات بأشياء: أحدها ما رواه جماعة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل الحمار الأهلي" منهم المقداد بن معدي كرب وأبو ثعلبة الخشني وغيرهما; والثاني ما رواه سفيان بن عيينة عن أيوب السختياني عن ابن سيرين عن أنس بن مالك قال: لما فتح النبي صلى الله عليه وسلم خيبر

(3/22)


أصابوا حمرا فطبخوا منها، فنادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن الله ورسوله ينهاكم عنها، فإنها نجس فاكفئوا القدور" وروى عبد الوهاب الثقفي عن أيوب بإسناده مثله، قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مناديا فنادى: إن الله ورسوله ينهاكم عن لحوم الحمر الأهلية فإنها رجس، قال: فأكفئت القدور وإنها لتفور". وهذا يبطل تأويل من تأول النهي على النهبة وتأويل من تأوله على خوف فناء الحمر الأهلية بالذبح; لأنه أخبر أنها نجس، وذلك يقتضي تحريم عينها لا لسبب غيرها ويدل عليه أنه أمر بالقدور فأكفئت، ولو كان النهي لأجل ما ذكروا لأمر بأن يطعم المساكين كما أمر بذلك في الشاة المذبوحة بغير أمر أصحابها بأن يطعم الأسرى. وفي حديث أبي ثعلبة الخشني أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحرم عليه، فقال: "لا تأكل الحمار الأهلي ولا كل ذي ناب من السباع" ، فبهذا أيضا يبطل سائر التأويلات التي ذكرناها عن مبيحها وقد روي عن سعيد بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر لأنها كانت تأكل العذرة, فإن صح هذا التأويل للنهي الذي كان منه يوم خيبر فإن خبر أبي ثعلبة وغيره في سؤالهم عنها في غير يوم خيبر يوجب إيهام تحريمها لا لعلة غير أعيانها وقد روي في حديث يروى عن عبد الرحمن بن مغفل عن رجل من مزينة فقال بعضهم: غالب بن الأبجر، وقال بعضهم: الحر بن غالب أنه قال: يا رسول الله إنه لم يبق من مالي شيء أستطيع أن أطعم فيه أهلي غير حمرات لي، قال: "فأطعم أهلك من سمين مالك فإنما كرهت لكم جوال القرية" ; فاحتج من أباح الحمر الأهلية بهذا الخبر وهذا الخبر يدل على النهي عنها; لأنه قال: "كرهت لكم جوال القرية" والحمر الأهلية كلها جوال القرى، والإباحة عندنا في هذا الحديث إنما انصرفت إلى الحمر الوحشية.
مطلب: الكلام في الحمار الوحشي إذا ألف
وقد اختلف في الحمار الوحشي إذا دجن فقال أصحابنا والحسن بن صالح والشافعي في الحمار الوحشي إذا دجن وألف: "إنه جائز أكله"، وقال ابن القاسم عن مالك: "إذا دجن وصار يعمل عليه كما يعمل على الأهلي فإنه لا يؤكل". وقد اتفقوا على أن الوحش الأهلي لا يخرجه عن حكم جنسه في تحريم الأكل كذلك ما أنس من الوحش.
مطلب: الكلام في ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير
قال أبو بكر: وقد اختلف في ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد: "لا يحل أكل ذي الناب من السباع وذي المخلب

(3/23)


من الطير". وقال مالك: "لا يؤكل سباع الوحش ولا الهر الوحشي ولا الأهلي ولا الثعلب ولا الضبع ولا شيء من السباع، ولا بأس بأكل سباع الطير الرخم والعقبان والنسور وغيرها ما أكل الجيف منها وما لا يأكل". وقال الأوزاعي: "الطير كله حلال إلا أنهم يكرهون الرخم". وقال الليث: "لا بأس بأكل الهر وأكره الضبع". وقال الشافعي: "لا يؤكل ذو الناب من السباع التي تعدو على الناس الأسد والنمر والذئب، ويؤكل الضبع والثعلب، ولا يؤكل النسر والبازي ونحوه لأنها تعدو على طيور الناس". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال: حدثنا حجاج قال: حدثنا حماد قال: حدثنا عمران بن جبير أن عكرمة سئل عن الغراب قال: دجاجة سمينة، وسئل عن الضبع فقال: نعجة سمينة. قال أبو بكر: حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا القعنبي عن مالك عن ابن شهاب عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة الخشني: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع". وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن ميمون بن مهران عن ابن عباس قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وعن كل ذي مخلب من الطير" ، ورواه علي بن أبي طالب والمقداد بن معدي كرب وأبو هريرة وغيرهما. فهذه آثار مستفيضة في تحريم ذي الناب من السباع وذي المخلب من الطير، والثعلب والهر والنسر والرخم داخلة في ذلك، فلا معنى لاستثناء شيء منها إلا بدليل يوجب تخصيصه، وليس في قبولها ما يوجب نسخ قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} لأنه إنما فيه إخبار بأنه لم يكن المحرم غير المذكور وأن ما عداه كان باقيا على أصل الإباحة، وكذلك الأخبار الواردة في لحوم الحمر الأهلية هذا حكمها، ومع ذلك فإن هذه الآية خاصة باتفاق أهل العلم على تحريم أشياء كثيرة غير مذكورة في الآية فجاز قبول الأخبار الآحاد في تخصيصها
وكره أصحابنا الغراب الأبقع لأنه يأكل الجيف، ولم يكرهوا الغراب الزرعي لما روى قتادة عن سعيد بن المسيب عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "خمس فواسق يقتلهن المحرم في الحل والحرم" وذكر أحدها الغراب الأبقع، فخص الأبقع بذلك لأنه يأكل الجيف، فصار أصلا في كراهة أشباهه مما يأكل الجيف وقوله صلى الله عليه وسلم "خمس يقتلهن المحرم" يدل على تحريم أكل هذه الخمس وأنها لا تكون إلا مقتولة غير مذكاة، ولو كانت مما يؤكل لأمر بذبحها وذكاتها لئلا تحرم بالقتل.
فإن قيل بما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إسماعيل بن الفضل قال: حدثنا محمد بن حاتم قال: حدثنا يحيى بن مسلم قال: حدثني إسماعيل بن أمية عن أبي الزبير

(3/24)


قال: سألت جابرا: هل يؤكل الضبع؟ قال: نعم، قلت: أصيد هي؟ قال: نعم، قلت: أسمعت هذا من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم. قيل له: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من نهيه عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير قاض على ذلك لاتفاق الفقهاء على استعماله واختلافهم في استعمال ذلك.
مطلب في الكلام على الضب
واختلف في أكل الضب، فكرهه أصحابنا، وقال مالك والشافعي: "لا بأس به". والدليل على صحة قولنا ما روى الأعمش عن زيد بن وهب الجهني عن عبد الرحمن بن حسنة قال: "نزلنا أرضا كثيرة الضباب، فأصابتنا مجاعة فطبخنا منها، فإن القدور لتغلي بها، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما هذا؟" فقلنا ضباب أصبناها، فقال: "إن أمة من بني إسرائيل مسخت دواب الأرض وإني أخشى أن تكون هذه فأكفئوها!" وهذا يقتضي حظره; لأنه لو كان مباح الأكل لما أمر بإكفاء القدور، لأنه عليه السلام نهى عن إضاعة المال وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن عون الطائي أن الحكم بن نافع حدثهم قال: حدثنا ابن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد عن أبي راشد الحبراني عن عبد الرحمن بن شبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحم الضب وروى أبو حنيفة عن حماد عن إبراهيم عن عائشة أنه أهدي لها ضب، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن أكله فنهاها عنه، فجاء سائل فقامت لتناوله إياه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتطعمينه ما لا تأكلين!" فهذه الأخبار توجب النهي عن أكل الضب وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأكل من الضب وأكل على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان حراما ما أكل على مائدته، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما ترك أكله تقذرا. وفي بعض الأخبار أنه قال: "لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" ، وأن خالد بن الوليد أكله بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينهه. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا عمر بن سهل قال: حدثنا إسحاق بن الربيع عن الحسن قال: قال عمر: إن هذه الضباب طعام عامة هذه الرعاء وإن الله ليمنع غير واحد ولو كان عندي منها شيء لأكلته، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرمه ولكنه قذره. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا عمر بن سهل قال: حدثنا بحر عن أبي هارون عن أبي سعيد الخدري قال: "إن كان أحدنا لتهدى إليه الضبة المكنونة أحب إليه من الدجاجة السمينة" فاحتج مبيحوه بهذه الأخبار، وفيها دلالة على حظره; لأن فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم تركه تقذرا وأنه قذره، وما قذره النبي صلى الله عليه وسلم فهو نجس ولا يكون نجسا إلا وهو محرم الأكل. ولو ثبتت الإباحة بهذه الأخبار لعارضتها أخبار ومتى ورد الخبران في شيء وأحدهما مبيح

(3/25)


والآخر حاظر فخبر الحظر أولى; وذلك لأن الحظر وارد لا محالة بعد الإباحة; لأن الأصل كان الإباحة والحظر طارئ عليها ولم يثبت ورود الإباحة على الحظر فحكم الحظر ثابت لا محالة.
مطلب: في الكلام على هوام الأرض
واختلف في هوام الأرض، فكره أصحابنا أكل هوام الأرض اليربوع والقنفذ والفأر والعقارب وجميع هوام الأرض. وقال ابن أبي ليلى: لا بأس بأكل الحية إذا ذكيت، وهو قول مالك والأوزاعي إلا أنه لم يشترط منه الذكاة وقال الليث: لا بأس بأكل القنفذ وفراخ النحل ودود الجبن والتمر ونحوه. وقال ابن القاسم عن مالك: "لا بأس بأكل الضفدع"، قال ابن القاسم: وقياس قول مالك أنه لا بأس بأكل خشاش الأرض وعقاربها ودودها; لأنه قال: موته في الماء لا يفسده وقال الشافعي: "كل ما كانت العرب تستقذره فهو من الخبائث، كالذئب والأسد والغراب والحية والحدأة والعقرب والفأرة لأنها تقصد بالأذى فهي محرمة من الخبائث، وكانت تأكل الضبع والثعلب لأنهما لا يعدوان على الناس بأنيابهما فهما حلال".
قال أبو بكر: قال الله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [لأعراف:157] قال: حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا إبراهيم بن خالد أبو ثور قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد عن عيسى بن نميلة عن أبيه قال: كنت عند ابن عمر فسئل عن أكل القنفذ، فتلا: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} الآية، فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "خبيثة من الخبائث" فقال ابن عمر: إن كان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا فهو كما قال فسماه النبي صلى الله عليه وسلم خبيثة من الخبائث فشمله حكم التحريم بقوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف: 157] والقنفذ من حشرات الأرض، فكل ما كان من حشراتها فهو محرم قياسا على القنفذ. وروى عبد الله بن وهب قال: أخبرني ابن أبي ذئب عن سعيد بن خالد عن سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن قال: ذكر طبيب الدواء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الضفدع يكون في الدواء، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتله، وهذا يدل على تحريمه لأنه نهاه أن يقتله فيجعله في الدواء، ولو جاز الانتفاع به لما كان منهيا عن قتله للانتفاع به. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار مستفيضة رواها ابن عباس وابن عمر وأبو سعيد وعائشة وغيرهم أنه قال: "يقتل المحرم في الحل والحرام الحدأة والغراب والفأرة والعقرب" وفي بعض الأخبار: "والحية" ، ففي أمره بقتلهن دلالة على تحريم أكلهن

(3/26)


لأنها لو كانت مما تؤكل لأمر بالتوصل إلى ذكاتها فيما تتأتى فيه الذكاة منها، فلما أمر بقتلها والقتل إنما يكون لا على وجه الذكاة ثبت أنها غير مأكولة، ولما ثبت ذلك في الغراب والحدأة كان سائر ما يأكل الجيف مثلها، ودل على أن ما كان من حشرات الأرض فهو محرم كالعقرب والحية، وكذلك اليربوع لأنه جنس من الفأر. وأما قول الشافعي في اعتباره ما كانت العرب تستقذره وأن ما كان كذلك فهو من الخبائث، فلا معنى له من وجوه: أحدها: أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير قاض بتحريم جميعه، وغير جائز أن يزيد فيه ما ليس منه ولا يخرج منه ما قد تناوله العموم، ولم يعتبر النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكره الشافعي وإنما جعل كونه ذا ناب من السباع وذا مخلب من الطير علما للتحريم، فلا يجوز الاعتراض عليه بما لم تثبت به الدلالة. ومن جهة أخرى أن خطاب الله تعالى للناس بتحريم الخبائث عليهم لم يختص بالعرب دون العجم، بل الناس كلهم من كان منهم من أهل التكليف داخلون في الخطاب، فاعتبار ما يستقذره العرب دون غيرهم قول لا دليل عليه خارج عن مقتضى الآية. ومع ذلك فليس يخلو من أن يعتبر ما كانت العرب يستقذرونه جميعهم أو بعضهم، فإن كان اعتبر الجميع فإن جميع العرب لم يكن يستقذر الحيات والعقارب ولا الأسد والذئاب والفأر وسائر ما ذكر، بل عامة الأعراب تستطيب أكل هذه الأشياء، فلا يجوز أن يكون المراد ما كان جميع العرب يستقذرونه. وإن أراد ما كان بعض العرب يستقذره فهو فاسد من وجهين: أحدهما: أن الخطاب إذا كان لجميع العرب فكيف يجوز اعتبار بعضهم دون بعض؟ والثاني: أنه لما صار البعض المستقذر كذلك كان أولى بالاعتبار من البعض الذي يستطيبه. فهذا قول منتقض من جميع وجوهه. وزعم أنه أباح الضبع والثعلب لأن العرب كانت تأكله، وقد كانت العرب تأكل الغراب والحدأة والأسد لم يكن منهم من يمتنع من أكل ذلك. وأما اعتباره ما يعدو على الناس، فإن أراد به يعدو على الناس في سائر الأحوال فإن ذلك لا يوجد في الحدأة والحية والغراب وقد حرمها، وإن أراد به العدو عليهم في بعض الأحوال فإن الضبع قد يعدو على الإنسان في بعض الأحوال وقد يترك الأسد العدو عليهم في حال إذا لم يكن جائعا، والجمل الهائج قد يعدو على الإنسان وكذلك الثور في بعض الأحوال، ولم يعتبر ذلك هو ولا غيره في هذه الأشياء في تحريم الأكل وإباحته، والكلب والسنور لا يعدوان على الناس وهما محرمان.
مطلب: في لحوم الإبل الجلالة
وقد اختلف في لحوم الإبل الجلالة، فكرهها أصحابنا والشافعي إذا لم يكن يأكل غير العذرة. وقال مالك والليث: "لا بأس بلحوم الجلالة كالدجاج"; حدثنا محمد بن

(3/27)


بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبي شيبة قال: حدثنا عبدة عن محمد بن إسحاق عن ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عمر قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها" . وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا أبو عامر قال: حدثنا هشام عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لبن الجلالة قال أبو بكر: فكل من خالف في هذه المسائل التي ذكرنا من ابتدائنا بأحكام قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} وأباح أكل ما ذهب أصحابنا فيه إلى حظره، فإنهم يحتجون فيه بقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآية. وقد بينا أن ذلك خرج على سبب فيما كان يحرمه أهل الجاهلية مما حكاه الله عنهم قبل هذه الآية مما كانوا يحرمونه من الأنعام، ولو لم يكن نزوله على السبب الذي ذكرنا وكان خبرا مبتدأ لم يمتنع بذلك قبول أخبار الآحاد في تحريم أشياء لم تنتظمها الآية ولا استعمال القياس في حظر كثير منه; لأن أكثر ما فيه الإخبار بأنه لم يكن المحرم من طريق الشرع إلا المذكور في الآية، وقد علمنا أن هذه الأشياء قد كانت مباحة قبل ورود السمع، وقد كان قبول أخبار الآحاد جائزا واستعمال القياس سائغا في تحريم ما هذا وصفه، وكذلك إخبار الله بأنه لم يحرم بالشرع إلا المذكور في الآية غير مانع تحريم غيره من طريق خبر الواحد والقياس.
وقوله تعالى: {عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] يدل على أن المحرم من الميتة ما يتأتى فيه الأكل منها، فلم يتناول الجلد المدبوغ ولا القرن والعظم والظلف والريش ونحوها، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في شاة ميمونة: "إنما حرم أكلها" وفي بعض الألفاظ: "إنما حرم لحمها" .
وقوله تعالى: {أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام: 145] يدل على أن المحرم من الدم ما كان مسفوحا وأن ما يبقى في العروق من أجزاء الدم غير محرم، وكذلك روي عن عائشة وغيرها في الدم الذي في المذبح أو في أعلى القدر أنه ليس بمحرم; لأنه ليس بمسفوح. وهذا يدل على أن دم البق والبراغيث والذباب ليس بنجس; إذ ليس بمسفوح.
فإن قيل: قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} وإن كان إخبارا بأنه ليس المحرم في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم من المأكولات غير المذكور في الآية، فإنه قد نسخ به كثيرا من المحظورات على ألسنة الأنبياء المتقدمين، فلا يكون سبيله سبيل بقاء الشيء على حكم الإباحة الأصلية بل يكون في حكم ما قد نص على إباحته شرعا، فلا يجوز الاعتراض عليه بخبر الواحد ولا بالقياس. والدليل على أنه قد نسخ بذلك كثيراً

(3/28)


من المحظورات على لسان غيره من الأنبياء، قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} وشحومهما مباحة لنا، وكذلك كثير من الحيوانات ذوات الأظفار. قيل له: ما ذكرت لا يخرج ما عدا المذكور في الآية من أن يكون في حكم المباح على الأصل وذلك لأن ما حرم على أولئك من ذلك وأبيح لنا لم يصر شريعة لنبينا عليه السلام وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن حكم ذلك التحريم، إنما كان موقتا إلى هذا الوقت وأن مضي الوقت أعاده إلى ما كان عليه من حكم الإباحة، فلا فرق بينه في هذا الوجه وبين ما لم يحظر قط. وأيضا فلو سلمنا لك ما ادعيت كان ما ذكرنا من قبول خبر الواحد واستعمال القياس فيما وصفنا سائغا لأن ذلك مخصوص بالاتفاق، أعني قوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} لاتفاق الجميع من الفقهاء على تحريم أشياء غير مذكورة في الآية كالخمر ولحم القردة والنجاسات وغيرها، فلما ثبت خصوصه بالاتفاق ساغ قبول خبر الواحد واستعمال القياس فيه.
قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية. قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة والسدي ومجاهد: هو كل ما ليس بمفتوح الأصابع كالإبل والنعام والإوز والبط. وقال بعض أهل العلم: "يدخل في ذلك جميع أنواع السباع والكلاب والسنانير وسائر ما يصطاد بظفره من الطير". قال أبو بكر: قد ثبت تحريم الله تعالى ذلك عليهم على لسان بعض الأنبياء، فحكم ذلك التحريم عندنا ثابت بأن يكون شريعة لنبينا عليه السلام إلا أن يثبت نسخه، ولم يثبت نسخ تحريم الكلاب والسباع ونحوها فوجب أن تكون محرمة بتحريم الله بديا وكونه شريعة لنبينا عليه السلام
وقوله تعالى: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} يستدل به من أحنث الحالف أن لا يأكل شحما فأكل من شحم الطير لاستثناء الله ما على ظهورهما من جملة التحريم، وهو قول أبي يوسف ومحمد وعند أبي حنيفة ما على الظهر إنما يسمى لحما سمينا في العادة ولا يتناوله اسم الشحم على الإطلاق; وتسمية الله إياه شحما لا توجب دخوله في اليمين; إذ لم يكن الاسم له متعارفا ألا ترى أن الله تعالى قد سمى السمك لحما والشمس سراجا ولا يدخل في اليمين؟ والحوايا، روي عن ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير وقتادة ومجاهد والسدي أنها المباعر، وقال غيرهم: هي بنات اللبن، ويقال: إنها الأمعاء التي عليها الشحم.
وأما قوله تعالى: {أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} فإنه روي عن السدي وابن جريج أنه شحم الجنب والألية لأنهما على عظم وهذا أيضا يدل على ما ذكرنا من أن دخول "أو" على

(3/29)


النفي يقتضي نفي كل واحد مما دخل عليه على حياله; لأن قوله تعالى: {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} تحريم للجميع, ونظيره قوله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الانسان:24] نهي عن طاعة كل واحد منهما، وكذلك قال أصحابنا فيمن قال والله لا أكلم فلانا أو فلانا أنه أيهما كلم حنث لأنه نفى كلام كل واحد منهما على حدة.
قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} إلى قوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} فيه إكذاب للمشركين بقولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا} لأنه قال تعالى: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ومن كذب بالحق فهو كاذب في تكذيبه، فأخبر تعالى عن كذب الكفار بقولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} ولو كان الله قد شاء الشرك لما كانوا كاذبين في قولهم: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} وفيه بيان أن الله تعالى لا يشاء الشرك وقد أكد ذلك أيضا بقوله: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} يعني: تكذبون; فثبت أن الله تعالى غير شاء لشركهم وأنه قد شاء منهم الإيمان اختيارا، ولو شاء الله الإيمان منهم قسرا لكان عليه قادرا، ولكنهم كانوا لا يستحقون به الثواب والمدح. وقد دلت العقول على مثل ما نص الله عليه في القرآن أن مريد الشرك والقبائح سفيه كما أن الآمر به سفيه وذلك لأن الإرادة للشرك استدعاء إليه كما أن الأمر به استدعاء إليه، فكل ما شاءه الله من العباد فقد دعاهم إليه ورغبهم فيه ولذلك كان طاعة، كما أن كل ما أمر الله به فقد دعاهم إليه ويكون طاعة منهم إذا فعلوه، وليس كذلك العلم بالشرك; لأن العلم بالشيء لا يوجب أن يكون العالم به مستدعيا إليه ولا أن يكون المعلوم من فعل غيره طاعة إذا لم يرده.
فإن قيل: إنما أنكر الله على المشركين باحتجاجهم لشركهم بأن الله تعالى قد شاءه وليس ذلك بحجة، ولو كان مراده تكذيبهم في قولهم لقال: كذلك كذب الذين من قبلهم، بالتخفيف. قيل له: لو كان الله قد شاء الكفر منهم لكان احتجاجهم صحيحا ولكان فعلهم طاعة لله، فلما أبطل الله احتجاجهم بذلك علم أنه إنما كان كذلك لأن الله تعالى لم يشأ. وأيضا فقد أكذبهم الله تعالى في هذا القول من وجهين: أحدهما: أنه أخبر بتكذيبهم بالحق والمكذب بالحق لا يكون إلا كاذبا. والثاني: قول: {وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} يعني: تكذبون.
قوله تعالى: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا} الآية. يعني أبطل لعجزهم إقامة الدلالة, إلا أن الله حرم هذا; إذ لم يمكنهم إثبات ما ادعوه من جهة عقل ولا سمع, وما لم يثبت من أحد هذين الوجهين وليس بمحسوس مشاهد فطريق

(3/30)


العلم به منسد والحكم ببطلانه واجب.
فإن قيل: فلم دعوا للشهادة حتى إذا شهدوا لم تقبل منهم؟ قيل: لأنهم لم يشهدوا على هذا الوجه الذي يرجع من قولهم فيه إلى ثقة، وقيل إنهم كلفوا شهداء من غيرهم ممن تثبت بشهادته حجة.
ونهى عن اتباع الأهواء المضلة. واعتقاد المذاهب بالهوى يكون من وجوه: أحدها: هوى من سيق إليه، وقد يكون لشبهة حلت في نفسه مع زواجر عقله عنها، ومنها هوى ترك الاستقصاء للمشقة، ومنها هوى ما جرت به عادة لألفة له; وكل ذلك متميز مما استحسنه بعقله.
قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ} كانت العرب تدفن أولادها أحياء البنات منهن خوف الإملاق، وهو الإفلاس; ومنه حديث النبي صلى الله عليه وسلم "أعظم الذنوب أن تجعل لله ندا وهو خلقك، وأن تقتل ولدك خشية أن تأكل معك، وأن تزني بحليلة جارك" وهي الموءودة التي ذكرها الله تعالى في قوله: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:9] فنهاهم الله عن ذلك مع ذكر السبب الذي كانوا من أجله يقتلونهم، وأخبر أنه رازقهم ورازق أولادهم
قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} قال ابن عباس: ما ظهر منها نكاح حلائل الأبناء والجمع بين الأختين ونحو ذلك، وما بطن الزنا
وقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} قال أبو بكر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله" . ولما أراد أبو بكر قتال مانعي الزكاة قالوا له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" فقال أبو بكر: هذا من حقها، لو منعوني عقالا مما كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير نفس" وهذا عندنا ممن يستحق القتل ويتقرر عليه حكمه وقد يجب قتل غير هؤلاء على وجه الدفع، مثل قتل الخوارج ومن قصد قتل رجل وأخذ ماله فيجوز قتله على جهة المنع من ذلك; لأنه لو كف عن ذلك لم يستحق القتل.
قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}. إنما خص اليتيم بالذكر فيما أمرنا به من ذلك لعجزه عن الانتصار لنفسه ومنع غيره عن ماله، ولما كانت الأطماع

(3/31)


تقوى في أخذ ماله أكد النهي عن أخذ ماله بتخصيصه بالذكر. وقوله تعالى: {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} يدل على أن من له ولاية على اليتيم يجوز له دفع مال اليتيم مضاربة، وأن يعمل به هو مضاربة فيستحق ربحه; إذ رأى ذلك أحسن، وأن يبضع ويستأجر من يتصرف ويتجر في ماله، وأن يشتري ماله من نفسه إذا كان خيرا لليتيم، وهو أن يكون ما يعطي اليتيم أكثر قيمة مما يأخذه منه وأجاز أبو حنيفة شراه مال اليتيم لنفسه إذا كان خيرا لليتيم بهذه الآية; وقال تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} ولم يشرط البلوغ، فدل على أن بعد البلوغ يجوز أن يحفظ عليه ماله إذا لم يكن مأنوس الرشد ولا يدفعه إليه، ويدل على أنه إذا بلغ أشده لا يجوز له أن يفوت مال سواء آنس منه الرشد أو لم يؤنس رشده بعد أن يكون عاقلا; لأنه جعل بلوغ الأشد نهاية لإباحة قرب ماله. ويدل على أن الوصي لا يجوز له أن يأكل من مال اليتيم فقيرا كان أو غنيا ولا يستقرض منه; لأن ذلك ليس بأحسن ولا خيرا لليتيم. وجعل أبو حنيفة بلوغ الأشد خمسا وعشرين سنة فإذا بلغها دفع إليه ماله ما لم يكن معتوها; وذلك لأن طريق ذلك اجتهاد الرأي وغالب الظن، فكان عنده أن هذه السن متى بلغها كان بالغا أشده.
وقد اختلف في بلوغ الأشد، فقال عامر بن ربيعة وزيد بن أسلم: "هو بلوغ الحلم". وقال السدي: "هو ثلاثون سنة". وقيل: "ثماني عشرة سنة". وجعله أبو حنيفة خمسا وعشرين سنة على النحو الذي ذكرنا. وقيل: إن الأشد واحدها شد وهو قوة الشباب عند ارتفاعه، وأصله من شد النهار وهو قوة الضياء عند ارتفاعه; قال الشاعر:
تطيف به شد النهار ظعينة ... طويلة أنقاء اليدين سحوق
قوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} فيه أمر بإيفاء الحقوق على الكمال; ولما كان الكيل والوزن يتعذر فيهما التحديد بأقل القليل علمنا أنه لم يكلفنا ذلك وإنما كلفنا الاجتهاد في التحري دون حقيقة الكيل والوزن، وهذا أصل في جواز الاجتهاد في الأحكام وأن كل مجتهد مصيب وإن كانت الحقيقة المطلوبة بالاجتهاد واحدة; لأنا قد علمنا أن للمقدار المطلوب من الكيل حقيقة معلومة عند الله تعالى قد أمرنا بتحريها والاجتهاد فيها ولم يكلفنا إصابتها; إذ لم يجعل لنا دليلا عليها، فكان كل ما أدانا إليه اجتهادنا من ذلك فهو الحكم الذي تعبدنا به. وقد يجوز أن يكون ذلك قاصرا عن تلك الحقيقة أو زائدا عليها، ولكنه لما لم يجعل لنا سبيلا إليها أسقط حكمها عنا. ويدلك على أن تلك الحقيقة المطلوبة غير مدركة يقينا أنه قد يكال أو يوزن ثم يعاد عليه الكيل أو الوزن فيزيد أو ينقص لا سيما فيما كثر مقداره; ولذلك قال الله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] في هذا الموضع، يعني أنه ليس

(3/32)


عليه أكثر مما يتحراه باجتهاده. وقد استدل عيسى بن أبان بأمر الكيل والوزن على حكم المجتهدين في الأحكام وشبهه به.
قوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} قد انتظم ذلك تحري الصدق وعدل القول في الشهادات والأخبار والحكم بين الناس والتسوية بين القريب والبعيد فيه، وهو نظير قوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا} [النساء:135] وقد بينا حكم ذلك فيما تقدم في موضعه. وقد انتظم قوله: {وإذا قلتم فاعدلوا} مصالح الدنيا والآخرة; لأن من تحرى صدق القول في العدل فهو أن يتحرى العدل في الفعل أحرى، ومن كان بهذه الصفة فقد حاز خير الدنيا والآخرة; نسأل الله حسن التوفيق لذلك.
قوله تعالى: {وبعهد الله أوفوا} عهد الله يشتمل على أوامره وزواجره، كقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} [يّس:60] وقد يتناول المنذور وما يوجبه العبد على نفسه من القرب, ألا ترى إلى قوله: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} .
وقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ} الآية; فإن المراد بالصراط الشريعة التي تعبد الله بها عباده; والصراط هو الطريق، وإنما قيل للشرع الطريق لأنه يؤدي إلى الثواب في الجنة فهو طريق إليها وإلى النعيم، وأما سبيل الشيطان فطريق إلى النار أعاذنا الله منها. وإنما جاز الأمر باتباع الشرع بما يشتمل عليه من الوجوب والنفل والمباح كما جاز الأمر باتباعه مع ما فيه من التحليل والتحريم وذلك لأن اتباعه إنما هو اعتقاد صحته على ترتيبه من قبح المحظور ووجوب الفرض والرغبة في النفل واستباحة المباح والعمل بكل شيء من ذلك على حسب مقتضى الشرع له من إيجاب أو نفل أو إباحة.
قوله تعالى: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} . قيل في قوله: {ثُمَّ} إن معناه: ثم قل آتينا موسى الكتاب تماما; لأنه عطف على قوله: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} وقيل معناه: وآتينا موسى الكتاب، كقوله: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ} ومعناه: والله شهيد، وكقوله: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد:17] ومعناه: وكان من الذين آمنوا. ويحتمل أن يكون صلة للكلام ويكون معناه: ثم بعد ما ذكرت لكم أخبرتكم أنا آتينا موسى الكتاب، ونحوه من الكلام.
قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا} . هو أمر باتباع الكتاب

(3/33)


على حسب ما تضمنه من فرض أو نفل أو إباحة واعتقاد كل منه على مقتضاه. والبركة ثبوت الخير ونموه، وتبارك الله صفة ثبات لا أول له ولا آخر، هذا تعظيم لا يستحقه إلا الله تعالى وحده لا شريك له.
قوله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} . قال ابن عباس والحسن ومجاهد وقتادة والسدي وابن جريج: "أراد بهما اليهود والنصارى"، وفي ذلك دليل على أن أهل الكتاب هم اليهود والنصارى وأن المجوس ليسوا أهل كتاب; لأنهم لو كانوا أهل كتاب لكانوا ثلاث طوائف، وقد أخبر الله تعالى أنهم طائفتان.
فإن قيل: إنما حكى الله ذلك عن المشركين، قيل له: هذا احتجاج عليهم بأنه أنزل الكتاب عليكم لئلا تقولوا {إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} فقطع الله عذرهم بإنزال القرآن وأبطل أن يحتجوا بأن الكتاب إنما أنزل على طائفتين من قبلنا ولم ينزل علينا.
قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} قيل في قوله تعالى: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} : أو يأتي أمر ربك بالعذاب، ذكر ذلك عن الحسن. وحذف كما حذف في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ} [الأحزاب:57] ومعناه أولياء الله وقيل: أو يأتي ربك بجلائل آياته وقيل: تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم، أو يأتي ربك: أمر ربك يوم القيامة، أو يأتي بعض آيات ربك طلوع الشمس من مغربها; وروي ذلك عن مجاهد وقتادة والسدي.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} . قال مجاهد هم اليهود لأنهم كانوا يمالئون عبدة الأوثان على المسلمين وقال قتادة: اليهود والنصارى لأن بعض النصارى يكفر بعضا وكذلك اليهود. وقال أبو هريرة: "أهل الضلال من هذه الأمة، فهو تحذير من تفرق الكلمة ودعاء إلى الاجتماع والألفة على الدين وقال الحسن هم جميع المشركين لأنهم كلهم بهذه الصفة". وأما دينهم فقد قيل: الذي أمرهم الله به وجعله دينا لهم، وقيل: الدين الذي هم عليه لإكفار بعضهم لبعض لجهالة فيه. والشيع الفرق الذين يمالئ بعضهم بعضا على أمر واحد مع اختلافهم في غيره. وقيل: أصله الظهور، من قولهم: شاع الخبر، إذا ظهر، وقيل: أصله الاتباع، من قولك: شايعه على المراد، إذا اتبعه.
وقوله: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} . المباعدة التامة من أن يجتمع معهم في معنى من مذاهبهم الفاسدة، وليس كذلك بعضهم مع بعض لأنهم يجتمعون في معنى من الباطل

(3/34)


وإن افترقوا في غيره فليس منهم في شيء لأنه بريء من جميعه.
قوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} الحسنة اسم للأعلى في الحسن; لأن "الهاء" دخلت للمبالغة فتدخل فيها الفروض والنوافل، ولا يدخل المباح وإن كان حسنا; لأن المباح لا يستحق عليه حمد ولا ثواب، ولذلك رغب الله في الحسنة وكانت طاعة، وكذلك الإحسان يستحق عليه الحمد. فأما الحسن فإنه يدخل فيه المباح; لأن كل مباح حسن، ولكنه لا ثواب فيه، فإذا دخلت عليه الهاء صارت اسما لا على الحسن وهي الطاعات.
قوله تعالى: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} معناه: في النعيم واللذة، ولم يرد به أمثالها في عظم المنزلة; وذلك لأن منزلة التعظيم لا يجوز أن يبلغها إلا بالطاعة، وهذه المضاعفة إنما هي بفضل الله غير مستحق عليها كما قال تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [فاطر:30] وغير جائز أن تساوي منزلة التفضيل منزلة الثواب في التعظيم; لأنه لو جاز ذلك لجاز أن يبتدئهم بها في الجنة من غير عمل، ولجاز أن يساوي بين المنعم بأعظم النعم وبين من لم ينعم.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} قوله: {دِيناً قِيَماً} يعني مستقيما; ووصفه بأنه ملة إبراهيم، والحنيف المخلص لعبادة الله تعالى، يروى ذلك عن الحسن. وقيل: أصله الميل، من قولهم رجل أحنف إذا كان مائل القدم بإقبال كل واحدة منهما على الأخرى خلقة لا من عارض، فسمي المائل إلى الإسلام حنيفا لأنه لا رجوع معه. وقيل: أصله الاستقامة، وإنما جاء أحنف للمائل القدم على التفاؤل كما قيل للديغ سليم; وفي ذلك دليل على أن ما لم ينسخ من ملة إبراهيم عليه السلام فقد صارت شريعة لنبينا صلى الله عليه وسلم لإخباره بأن دينه ملة إبراهيم.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال سعيد بن جبير وقتادة والضحاك والسدي: نسكي: ديني في الحج والعمرة وقال الحسن: نسكي: ديني. وقال غيرهم: "عبادتي". إلا أن الأغلب عليه هو الذبح الذي يتقرب به إلى الله تعالى، وقولهم: فلان ناسك، معناه عابد لله. وقد روى عبد الله بن أبي رافع عن علي قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال : "إِنِي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" إلى قوله: "مِنَ الْمُسْلِمِينَ" وروى أبو سعيد الخدري وعائشة النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا افتتح الصلاة رفع يديه وقال: "سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك" والأول كان يقوله عندنا قبل أن ينزل: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ

(3/35)


تَقُومُ} [الطور:48] فلما نزل ذلك وأمر بالتسبيح عند القيام إلى الصلاة ترك الأول; وهذا قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: "يجمع بينهما لأنهما قد رويا جميعا". قوله تعالى: {إِنَّ صَلاتِي} يجوز أن يريد بها صلاة العبد {وَنُسُكِي} الأضحية; لأنها تسمى نسكا، وكذلك كل ذبيحة على وجه القربة إلى الله تعالى فهي نسك، قال الله تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "النسك شاة" ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم النحر: " إن أول نسكنا في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح" فسمى الصلاة والذبح جميعا نسكا، ولما قرن النسك إلى الصلاة دل على أن المراد صلاة العيد والأضحية، وهذا يدل على وجوب الأضحية لقوله تعالى: {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} والأمر يقتضي الوجوب.وقوله تعالى: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163] قال الحسن وقتادة: {أول المسلمين من هذه الأمة}.
قوله عز وجل: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} يحتج به في امتناع جواز تصرف أحد على غيره إلا ما قامت دلالته، لإخبار الله تعالى أن أحكام أفعال كل نفس متعلقة بها دون غيرها; فيحتج بعمومه في امتناع جواز تزويج البكر الكبيرة بغير إذنها وفي بطلان الحجر على امتناع جواز بيع أملاكه عليه وفي جواز تصرف البالغ العاقل على نفسه وإن كان سفيها، لإخبار الله تعالى باكتساب كل نفس على نفسه وفي نظائر ذلك من المسائل.
وقوله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} إخبار بأن الله تعالى لا يؤاخذ أحدا بذنب غيره وأنه لا يعذب الأبناء بذنب الآباء. وقد احتجت عائشة في رد قول من تأول ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" فقالت: قال الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وإنما مر النبي صلى الله عليه وسلم بيهودي يبكى عليه فقال: "إنه ليعذب وهم يبكون عليه" وقد بينا وجه ذلك في غير هذا الموضع. وقيل: إن أصله الوزر والملجأ، من قوله: {كَلَّا لا وَزَرَ} [القيامة:11] ولكنه جرى في الأغلب على الإثم وشبه بمن التجأ إلى غير ملجأ، ويقال: "وزر يزر ووزر يوزر ووزر يوزر فهو موزور", وكله بمعنى الإثم; والوزير بمعنى الملجأ; لأن الملك يلجأ إليه في الأمور. والله أعلم بالصواب.

(3/36)