أحكام القرآن للجصاص ط العلمية
ومن سورة الرعد
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ} قال ابن عباس
ومجاهد والضحاك: "الأرض السبخة والأرض العذبة " {وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ}
قال ابن عباس والبراء بن عازب ومجاهد وقتادة: "النخلات أصلها واحد".
قوله تعالى: {يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى
بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ} فيه أوضح دلالة على بطلان مذهب أصحاب الطبائع
لأنه لو كان حدوث ما يحدث من الثمار بطبع الأرض والهواء والماء لوجب أن
يتفق ما يحدث من ذلك لاتفاق ما يوجب حدوثه; إذ كانت الطبيعة الواحدة
توجب عندهم اتفاق ما يحدث منها ولا يجوز أن توجب فعلين مختلفين
متضادين، فلو كان حدوث هذه الأشياء المختلفة الألوان والطعوم والأراييح
والأشكال من إيجاب الطبيعة لاستحال اختلافها وتضادها مع اتفاق الموجب
لها، فثبت أن المحدث لها قادر مختار حكيم قد أحدثها على اختلافها على
علم منه بها وهو الله تعالى.
قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} روي عن
ابن عباس وسعيد ومجاهد والضحاك: "الهادي هو الله تعالى " وروي عن مجاهد
أيضا وقتادة: "الهادي نبي كل أمة". وعن ابن عباس أيضا: الهادي الداعي
إلى الحق". وعن الحسن وقتادة وأبي الضحى وعكرمة: "الهادي محمد صلى الله
عليه وسلم". وهذا هو الصحيح لأن تقديره: إنما أنت منذر وهاد لكل قوم،
والمنذر هو الهادي والهادي أيضا هو المنذر.
قوله تعالى: {وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ} قال ابن
عباس والضحاك: "وما تنقص من الأشهر التسعة وما تزداد، فإن الولد يولد
لستة أشهر فيعيش ويولد لسنتين فيعيش". وقال الحسن: "وما تنقص بالسقط
وما تزداد بالتمام". وقال الفراء: "الغيض النقصان، ألا تراهم يقولون
غاضت المياه إذا نقصت؟". وقال عكرمة: "إذا غاضت " وقال: "ما غاضت الرحم
بالدم يوما إلا زاد في الحمل". وقال مجاهد: "الغيض ما رأت
(3/233)
الحامل من
الدم في حملها وهو نقصان من الولد، والزيادة ما زاد على تسعة أشهر وهو
تمام النقصان وهو الزيادة". وزعم إسماعيل بن إسحاق: أن التفسير إن كان
على ما روي عن مجاهد وعكرمة فهو حجة منه في أن الحامل تحيض، قال: "لأن
كل دم تخرج من الرحم فليس يخلو من أن يكون حيضا أو نفاسا وأما دم
الاستحاضة فهو من عرض". وهذا الذي ذكره ليس بشيء لأن الدم الخارج من
الرحم قد يكون حيضا ونفاسا وقد يكون غيرهما، وقوله صلى الله عليه وسلم
في دم الاستحاضة: "إنه دم عرق" غير مانع أن يكون بعض ما يخرج من الرحم
من الدم قد يكون دم استحاضة لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "إنما هو عرق
انقطع أو داء عرض" فأخبر أن دم الاستحاضة قد يكون من داء عرض وإن لم
يكن من عرق وأيضا فما الذي يحيل أن يكون دم العرق خارجا من الرحم بأن
ينقطع العرق فيسيل الدم إليها ثم يخرج فلا يكون حيضا ولا نفاسا؟ ثم
قال: "فلا يقال إن الحامل لا تحيض إلا بخبر عن الله أو عن رسوله لأنه
حكاية عن غيب". ونسي أن قضيته توجب أن لا يقال: إنها تحيض إلا بخبر عن
الله وعن الرسول لأنه حكاية عن غيب على حسب موضوعه وقاعدته، بل قد يسوغ
لمن نفى الحيض عن الحامل ما لا يسوغ لمن أثبته لأنا قد علمنا أنها كانت
غير حائض فإذا رأت الدم واختلفوا أنه حيض أو غير حيض وفي إثبات الحيض
إثبات أحكام، فغير جائز إثباته حيضا إلا بتوقيف. وواجب أن تكون باقية
على ما كانت عليه من عدم الحيض حتى يثبت الحيض بتوقيف أو اتفاق; إذ كان
في إثبات الدم حيضا إثبات حكم لا سبيل إلى علمه إلا من طريق التوقيف.
وأيضا فإن قولنا حيض " هو حكم لدم خارج من الرحم، وقد يوجد الدم خارجا
من الرحم على هيئة واحدة فيحكم لما رأته في أيامها بحكم الحيض ولما
رأته في غير أيامها بحكم الاستحاضة وكذلك النفاس. فإذا كان الحيض ليس
بأكثر من إثبات أحكام لدم يوجد في أوقات ولم يكن الحيض عبارة عن الدم
فحسب دون ما يتعلق به من الحكم وإثبات الحكم بخروج دم لا يعلم إلا من
طريق التوقيف، فلم يجز أن يجعل هذا الحكم ثابتا لدم الحامل; إذ لم يرد
به توقيف ولا حصل عليه اتفاق. ثم قال إسماعيل عطفا على قوله لا يقال إن
الحامل لا تحيض إلا بخبر عن الله أو عن رسوله لأنه حكاية عن غيب: "ولا
يلزم ذلك من قال: إنها تحيض لأن الله تعالى قد قال: {وَيَسْأَلونَكَ
عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي
الْمَحِيضِ} [البقرة:222] فلما قيل: "النساء" لزم في ذلك العموم لأن
الدم إذا خرج من فرجها فالحيض أولى به حتى يعلم غيره". قال أبو بكر:
قوله: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة:222] ليس فيه بيان صفة
الحيض بمعنى يتميز به عن غيره، وقوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذىً}
[البقرة:222] إنما هو إخبار عما يتعلق بالمحيض من ترك الصلاة والصوم
واجتناب الرجل جماعها وإخبار عن نجاسة دم الحيض ولزوم اجتنابه، ولا
دلالة فيه على
(3/234)
وجوده في
حال الحمل وعدمه وقوله: "لما قيل النساء لزم في ذلك العموم" لا معنى له
لأنه قال: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة:222]
وقوله: {فِي الْمَحِيضِ} ليس فيه بيان أن الحيض ما هو، ومتى ثبت المحيض
وجب الاعتزال، وإنما اختلفا في أن الدم الخارج في وقت الحمل هل هو حيض
أم لا، وقول الخصم لا يكون حجة لنفسه وقوله: "إن الدم إذا خرج من فرجها
فالحيض أولى به " دعوى مجردة من البرهان، ولخصمه أن يقول: إن الدم إذا
خرج من فرجها فغير الحيض أولى به حتى يقوم الدليل على أنه حيض لوجودنا
دما خارجا من الرحم غير حيض، فلم يحصل من جميع هذا الكلام إلا دعاوى
مبنية بعضها على بعض وجميعها مفتقر إلى دليل يعضدها.
وقد روى مطر الوراق عن عطاء عن عائشة أنها قالت في الحامل ترى الدم:
"إنها لا تدع الصلاة". وروى حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد قال: لا يختلف
فيه عندنا عن عائشة أنها كانت تقول في الحامل ترى الدم أنها تمسك عن
الصلاة حتى تطهر، وهذا يحتمل أن تريد به الحامل التي في بطنها ولدان
فولدت أحدهما أن النفاس من الأول وأنها تدع الصلاة حتى تطهر، على ما
يقول أبو حنيفة وأبو يوسف في ذلك، حتى يصحح الخبرين جميعا عنها. وعند
أصحابنا أن الحامل لا تحيض، وأن ما رأته من دم فهو استحاضة، وعند مالك
والشافعي تحيض. فالحجة لقولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في
سبايا أوطاس: "لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تستبرئ بحيضة"،
والاستبراء هو معرفة براءة الرحم فلما جعل الشارع وجود الحيض علما
لبراءة الرحم لم يجز وجوده مع الحبل لأنه لو جاز وجوده معه لم يكن وجود
الحيض علما لبراءة الرحم ويدل عليه أيضا قوله صلى الله عليه وسلم في
طلاق السنة: "فليطلقها طاهرا من غير جماع أو حاملا قد استبان حملها" ،
فلو كانت الحامل تحيض لفصل بين جماعها وطلاقها بحيضة كغير الحامل، وفي
إباحته صلى الله عليه وسلم إيقاع الطلاق على الحامل بعد الجماع من غير
فصل بينه وبين الطلاق بحيضة دلالة على أنها لا تحيض. آخر سورة الرعد.
(3/235)
ومن سورة إبراهيم
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} روى
أبو ظبيان عن ابن عباس قال: "غدوة وعشية". وروى سعيد بن جبير عن ابن
عباس قال: "هي النخلة تطعم في كل ستة أشهر"، وكذلك روي عن مجاهد وعامر
وعكرمة. وروى الليث بن سعد وسليمان بن أبي كثير عن علي قال: "أرى الحين
سنة"، وكذلك روي عن الحكم وحماد من قولهما، وكذلك روي عن عكرمة في
رواية من قوله وقال سعيد بن المسيب: "الحين شهران، من حين تصرم النخل
إلى أن تطلع"، وروي عنه أن النخلة لا تكون فيها أكلها إلا شهرين، وروي
عنه أن الحين ستة أشهر. وروى القاسم بن عبد الله عن أبي حازم عن ابن
عباس أنه سئل عن الحين فقال: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} : ستة
أشهر، {لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف:35] : ثلاث عشرة سنة،
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [صّ:88] : يوم القيامة. وروى
هشام بن حسان عن عكرمة أن رجلا قال: إن فعلت كذا وكذا إلى حين فغلامه
حر، فأتى عمر بن عبد العزيز فسأله، فسألني عنها فقلت: إن من الحين حين
لا يدرك قوله: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ
إِلَى حِينٍ} [الانبياء:111] فأرى أن يمسك ما بين صرام النخل إلى حملها
فكأنه أعجبه. وروى عبد الرزاق عن معمر عن الحسن: {تُؤْتِي أُكُلَهَا
كُلَّ حِينٍ} قال: "ما بين ستة الأشهر أو السبعة".
قال أبو بكر: الحين اسم يقع على وقت مبهم، وجائز أن يراد به وقت مقدر،
قال الله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ
تُصْبِحُونَ} [الروم:17] ثم قال: {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:18]
فهذا على وقت صلاة الفجر ووقت الظهر ووقت المغرب على اختلاف فيه لأنه
قد أريد به فعل الصلاة المفروضة في هذه الأوقات، فصار "حين " في هذا
الموضع اسما لأوقات هذه الصلوات. ويشبه أن يكون ابن عباس في الرواية
التي رويت عنه في الحين أنه غدوة وعشية ذهب إلى معنى قوله تعالى:
{حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم:17] ويطلق ويراد به أقصر
الأوقات، كقوله تعالى: {وَسَوْفَ
(3/236)
يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} [الفرقان:42] وهذا على وقت
الرؤية وهو وقت قصير غير ممتد. ويطلق ويراد به أربعون سنة لأنه روي في
تأويل قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ
الدَّهْرِ} [الانسان:1] أنه أراد أربعين سنة، والسنة والستة الأشهر
والثلاث عشرة سنة والشهران على ما ذكرنا من تأويل السلف للآية كله
محتمل فلما كان ذلك كذلك ثبت أن الحين اسم يقع على وقت مبهم وعلى أقصر
الأوقات وعلى مدد معلومة بحسب قصد المتكلم. ثم قال أصحابنا فيمن حلف أن
لا يكلم فلانا حينا أنه على ستة أشهر وذلك لأنه معلوم أنه لم يرد به
أقصر الأوقات، إذ كان هذا القدر من الأوقات لا يحلف عليه في العادة،
ومعلوم أنه لم يرد به أربعين سنة لأن من أراد الحلف على أربعين سنة حلف
على التأبيد من غير توقيت. ثم كان قوله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا
كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} لما اختلف السلف فيه على ما وصفنا كان
أقصر الأوقات فيه ستة أشهر لأن من حين الصرام إلى وقت أوان الطلع ستة
أشهر، وهو أولى من اعتبار السنة لأن وقت الثمرة لا يمتد سنة بل ينقطع
حتى لا يكون فيه شيء، وإذا اعتبرنا ستة أشهر كان موافقا لظاهر اللفظ في
أنها تطعم ستة أشهر وتنقطع ستة أشهر. وأما الشهران فلا معنى لاعتبار من
اعتبرهما لأنه معلوم أن من وقت الصرام إلى وقت خروج الطلع أكثر من
شهرين، فإن اعتبر بقاء الثمرة شهرين فإنا قد علمنا أن من وقت خروج
الطلع إلى وقت الصرام أكثر من شهرين أيضا، فلما بطل اعتبار السنة
واعتبار الشهرين بما وصفنا ثبت أن اعتبار الستة الأشهر أولى آخر سورة
إبراهيم عليه السلام.
(3/237)
ومن سورة
النحل
مدخل
...
ومن سورة النحل
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ
وَمَنَافِعُ} روي عن ابن عباس قال: "الدفء اللباس " وقال الحسن: الدفء
ما استدفئ به من أوبارها وأصوافها وأشعارها". قال أبو بكر: وذلك يقتضي
جواز الانتفاع بأصوافها وأوبارها في سائر الأحوال من حياة أو موت.
قوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا}
روى هشام الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير عن نافع عن علقمة أن ابن عباس
كان يكره لحوم الخيل والبغال والحمير، وكان يقول في {وَالْأَنْعَامَ
خَلَقَهَا لَكُمْ} : إن هذه للأكل وهذه للركوب {وَالْخَيْلَ
وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} وروى أبو حنيفة عن الهيثم
عن عكرمة عن ابن عباس أنه كره لحوم الخيل وتأول: {وَالْخَيْلَ
وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} قال أبو بكر:
فهذا دليل ظاهر على حظر لحومها وذلك لأن الله تعالى ذكر الأنعام وعظم
منافعها، فذكر منها الأكل بقوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا
لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} ثم ذكر الخيل
والبغال والحمير وذكر منافعها الركوب والزينة، فلو كان الأكل من
منافعها وهو من أعظم المنافع لذكره كما ذكره من منافع الأنعام. وقد روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه أخبار متضادة في الإباحة والحظر، فروى
عكرمة بن عمار عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال: لما كان
يوم خيبر أصاب الناس مجاعة، فذبحوها، "فحرم رسول الله صلى الله عليه
وسلم لحوم الحمر الإنسية ولحوم الخيل والبغال وكل ذي ناب من السباع وكل
ذي مخلب من الطير، وحرم الخلسة والنهبة" وروى سفيان بن عيينة عن عمرو
بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: أطعمنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم لحوم الخيل ونهانا عن لحوم الحمر، ولم يسمع عمرو بن دينار هذا
الحديث من جابر وذلك لأن ابن جريج رواه عن عمرو بن دينار عن رجل عن
جابر، وجابر لم يشهد خيبر لأن محمد بن إسحاق روى عن سلام بن كركرة عن
عمرو بن دينار عن جابر، ولم يشهد جابر خيبر وأن رسول الله صلى الله
عليه وسلم
(3/238)
نهى عن
لحوم الحمر وأذن لهم في لحوم الخيل فوردت أخبار جابر في ذلك متعارضة،
فجائز حينئذ أن يقال فيها وجهان: أحدهما: أنه إذا ورد خبران أحدهما
حاظر والآخر مبيح فالحظر أولى، فجائز أن يكون الشارع أباحه في وقت ثم
حظره وذلك لأن الأصل كان الإباحة والحظر طارئ عليها لا محالة، ولا نعلم
إباحة بعد الحظر، فحكم الحظر ثابت لا محالة; إذ لم تثبت إباحة بعد
الحظر. وقد روي عن جماعة من السلف هذا المعنى وذلك لأن ابن وهب روى عن
الليث بن سعد قال: خسفت الشمس بعد العصر ونحن بمكة سنة ثلاث عشرة
ومائة، وبها يومئذ رجال من أهل العلم كثير منهم ابن شهاب وأبو بكر بن
حزم وقتادة وعمرو بن شعيب، قال: فقمنا قياما بعد العصر ندعو الله، فقلت
لأيوب بن موسى القرشي: ما لهم لا يصلون وقد صلى النبي صلى الله عليه
وسلم قال: النهي قد جاء في الصلاة بعد العصر أن لا تصلي، فلذلك لا
يصلون، وإن النهي يقطع الأمر فهذا أحد الوجهين في حديث جابر. والوجه
الآخر: أن يتعارض خبرا جابر فيسقطا كأنهما لم يردا، وقد روى إسرائيل بن
يونس عن عبد الكريم الجزري عن عطاء بن أبي رباح عن جابر قال: كنا نأكل
لحوم الخيل، قال عطاء: فقلت له: فالبغال؟ قال: أما البغال فلا. وروى
هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء ابنة أبي بكر قالت: "نحرنا
فرسا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكلناه". وهذا لا حجة فيه
للمخالف لأنه ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم علم به وأقرهم عليه،
ولو ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم علم به وأقرهم عليه كان محمولا
على أنه كان قبل الحظر. وقد روى بقية بن الوليد عن ثور بن يزيد عن صالح
بن يحيى بن المقدام عن أبيه عن جده عن خالد بن الوليد: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الخيل. وقال الزهري: ما علمنا الخيل
أكلت إلا في حصار. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي: "لا بأس بلحوم الخيل
" وروي نحوه عن الأسود بن يزيد والحسن البصري وشريح. وأبو حنيفة لا
يطلق فيه التحريم وليس هو عنده كلحم الحمار الأهلي وإنما يكرهه لتعارض
الأخبار الحاظرة والمبيحة فيه، ويحتج له من طريق النظر أنه ذو حافر
أهلي فأشبه الحمار والبغل. ومن جهة أخرى اتفاق الجميع على أن لحم البغل
لا يؤكل، وهو من الفرس فلو كانت أمه حلالا لكان حكمه حكم أمه; لأن حكم
الولد حكم الأم; إذ هو كبعضها، ألا ترى أن حمارة أهلية لو ولدت من حمار
وحشي لم يؤكل ولدها، ولو ولدت حمارة وحشية من حمار أهلي أكل ولدها؟
فكان الولد تابعا لأمه دون أبيه، فلما كان لحم البغل غير مأكول وإن
كانت أمه فرسا دل ذلك على أن الخيل غير مأكولة.
قوله تعالى: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} يحتج
به أبو يوسف ومحمد فيمن حلف لا يلبس حليا فلبس لؤلؤا أنه يحنث، لتسمية
الله إياه حليا وأبو حنيفة يقول:
(3/239)
لا يحنث
لأن الأيمان محمولة على التعارف، وليس في العرف تسمية اللؤلؤ وحده
حليا، ألا ترى أن بائعه لا يسمى بائع حلي؟ وأما الآية فإن فيها أيضا
{لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً} ، ولا خلاف بينهم أنه لو حلف
لا يأكل لحما فأكل سمكا أنه لا يحنث مع تسمية الله تعالى إياه لحما
طرياً.
(3/240)
باب السكر
قال الله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ
تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} اختلف السلف في تأويل
السكر، فروي عن الحسن وسعيد بن جبير أنهما قالا: "السكر ما حرم منه
والرزق الحسن ما حل منه". وروي عن إبراهيم والشعبي وأبي رزين قالوا:
"السكر خمر". وروى جرير عن مغيرة عن إبراهيم عن عبد الله قال: "السكر
خمر". وروى ابن شبرمة عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال: "السكر خمر إلا
أنه من التمر". وقال هؤلاء: إنه منسوخ بتحريم الخمر. وحدثنا جعفر بن
محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد
قال: حدثنا عبد الرحمن عن سفيان عن الأسود بن قيس عن عمرو بن سفيان عن
ابن عباس قال: "هو ما حرم من ثمرتيهما وما أحل من ثمرتيهما". قال أبو
بكر: هذا نحو قول الأولين وحدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا جعفر بن محمد
بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج وعثمان بن
عطاء الخراساني عن ابن عباس: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} قال:
"السكر النبيذ، والرزق الحسن الزبيب".
قال أبو بكر: لما تأوله السلف على الخمر وعلى النبيذ وعلى الحرام منه،
ثبت أن الاسم يقع على الجميع وقولهم إنه منسوخ بتحريم الخمر يدل على أن
الآية اقتضت إباحة السكر وهو الخمر والنبيذ، والذي ثبت نسخه من ذلك
إنما هو الخمر، ولم يثبت تحريم النبيذ، فوجب تحليله بظاهر الآية; إذ لم
يثبت نسخه. ومن ادعى أنه منسوخ بتحريم الخمر لم يصح له ذلك إلا بدلالة;
إذ كان اسم الخمر لا يتناول النبيذ. وروى سعيد عن قتادة قال: "السكر
خمور الأعاجم والرزق الحسن ما ينبذون ويخللون ويأكلون، أنزلت هذه الآية
ولم تحرم الخمر وإنما جاء تحريمها في سورة المائدة". وقد روى أبو يوسف
قال: حدثنا أيوب بن جابر الحنفي عن أشعث بن سليمان عن أبيه عن معاذ بن
جبل قال: "لما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن أمره أن
ينهاهم عن السكر". قال أبو بكر: وهذا السكر المحرم عندنا هو نقيع
التمر.
قوله تعالى: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ
وَدَمٍ لَبَناً خَالِصاً سَائِغاً
(3/240)
لِلشَّارِبِينَ} فيه الدلالة على طهارة اللبن المحلوب من الشاة الميتة
من وجهين: أحدهما: عموم اللفظ في إباحة اللبن من غير فرق بين ما يؤخذ
منه حيا أو ميتا. والثاني: إخباره تعالى أنه خارج من بين فرث ودم وحكمه
بطهارته مع ذلك; إذ كان ذلك موضع الخلقة فثبت أن اللبن لا ينجس بنجاسة
موضع الخلقة وهو ضرع الميتة كما لم ينجس بمجاورته للفرث والدم.
قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ
فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} فيه بيان طهارة العسل ومعلوم أنه لا يخلو من
النحل الميت وفراخه فيه، وحكم الله تعالى مع ذلك بطهارته فأخبر عما فيه
من الشفاء للناس، فدل ذلك على أن ما لا دم له لا يفسد ما يموت فيه.
قوله تعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ
فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ} روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة: "أنهم لا يشركون عبيدهم
في أموالهم حتى يكونوا فيه سواء وهم لا يرضون بذلك لأنفسهم وهم يشركون
عبيدي في ملكي وسلطاني". وقيل: "معناه أنهم سواء في أني رزقت الجميع
وأنه لا يمكن أحد أن يرزق عبده إلا برزقي إياه". قال أبو بكر: قد تضمنت
الآية انتفاء المساواة بين المولى وبين عبده في الملك وفي ذلك دليل على
أن العبد لا يملك من وجهين: أحدهما: أنه لو جاز أن يملك العبد ما يملكه
المولى إياه لجاز أن يملكه ماله فيملكه حتى يكون مساويا له ويكون ملك
العبيد مثل ملك المولى، بل كان يجوز أن يكون العبد أفضل في باب الملك
وأكثر ملكا، وفي ذلك دليل على أن العبد لا يملك وإن ملكه المولى إياه
لأن الآية قد اقتضت نفي المساواة له في الملك. وأيضا لما جعله مثلا
للمشركين في عبادتهم الأوثان، وكان معلوما أن الأوثان لا تملك شيئا، دل
على أن العبد لا يملك لنفيه الشركة بينه وبين الحر كما نفى الشركة بين
الله وبين الأوثان.
قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً}
روي عن ابن عباس: "أن الحفدة الخدم والأعوان " وقال الحسن: "من أعانك
فقد حفدك". وقال مجاهد وقتادة وطاوس: "الحفدة الخدم". وروي عن عبد الله
وأبي الضحى وإبراهيم وسعيد بن جبير قالوا: "الحفدة الأختان". ويقال: إن
أصل الحفد الإسراع في العمل، ومنه: وإليك نسعى ونحفد، والحفدة جمع حافد
كقولك: كامل وكملة. قال أبو بكر: لما تأوله السلف على هذين المعنيين من
الخدم والأعوان ومن الأختان وجب أن يكون عليهما، وفيه دلالة على أن
الأب يستحق على ابنه الخدمة والمعونة لقوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ
مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً} ولذلك قال أصحابنا: إن الأب
إذا استأجر ابنه لخدمته أنه
(3/241)
لا يستحق
الأجر إن خدمه لأنها مستحقة عليه بغير الإجارة.
قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ
عَلَى شَيْءٍ} روي عن ابن عباس وقتادة: "أنه مثل ضرب للكافر الذي لا
خير عنده والمؤمن الذي يكتسب الخير " وقال الحسن ومجاهد: "هو مثل ضرب
لعبادتهم الأوثان التي لا تملك شيئا والعدول عن عبادة الله الذي يملك
كل شيء".
قال أبو بكر: قد حوت هذه الآية ضروبا من الدلالة على أن العبد لا يملك:
أحدها: قوله: {عَبْداً مَمْلُوكاً} نكرة، فهو شائع في جنس العبيد، كقول
القائل: لا تكلم عبدا وأعط هذا عبدا، أن ذلك ينتظم كل من يسمى بهذا
الاسم، وكذلك قوله: {يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذَا
مَتْرَبَةٍ} [البلد:16] فكل من لحقه هذا الاسم قد انتظمه الحكم; إذ كان
لفظا منكورا، كذلك قوله: {عَبْداً مَمْلُوكاً} قد انتظم سائر العبيد.
ثم قال: {لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} لا يخلو من أن يكون المراد نفي
القدرة أو نفي الملك أو نفيهما، ومعلوم أنه لم يرد به نفي القدرة; إذ
كان العبد والحر لا يختلفان في القدرة من حيث اختلفا في الرق والحرية;
لأن العبد قد يكون أقدر من الحر، فعلمنا أنه لم يرد به نفي القدرة،
فثبت أنه أراد نفي الملك، فدل على أن العبد لا يملك. ووجه آخر: وهو أنه
تعالى جعله مثلا للأصنام فشبهها بالعبيد المملوكين في نفي الملك،
ومعلوم أن الأصنام لا تملك شيئا، فوجب أن يكون من ضرب المثل به لا يملك
شيئا وإلا زالت فائدة ضرب المثل به، وكان يكون حينئذ ضرب المثل بالعبد
والحر سواء وأيضا لو أراد عبدا بعينه لا يملك شيئا وجاز أن يكون من
العبيد من يملك لقال ضرب الله مثلا رجلا لا يقدر على شيء، فلما خص
العبد بذلك دل على أن وجه تخصيصه أنه ليس ممن يملك.
فإن قيل: روى إبراهيم عن عكرمة عن يعلى بن منية عن ابن عباس في هذه
الآية: أنها نزلت في رجل من قريش وعبده ثم أسلما، فنزلت الأخرى في
رجلين أحدهما أبكم لا يقدر على شيء إلى قوله {صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
قال: كان مولى لعثمان كان عثمان يكفله وينفق عليه، فعثمان الذي ينفق
بالعدل وهو على صراط مستقيم والآخر أبكم وهذا يوجب أن يكون في عبد
بعينه، وقد يجوز أن يكون في العبيد من لا يملك شيئا كما يكون في
الأحرار من لا يملك. قيل له: هذه الرواية ضعيفة عن ابن عباس، وظاهر
اللفظ ينفيها لأنه لو أراد عبدا بعينه لعرفه بالألف واللام ولم يذكره
بلفظ منكور. وأيضا معلوم أن الخطاب في ذكر عبدة الأوثان والاحتجاج
عليهم، ألا ترى إلى قوله: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا
يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا
يَسْتَطِيعُونَ فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} ثم قال: {ضَرَبَ
اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} فأخبر
أن مثل ما
(3/242)
يعبدون
مثل العبيد المماليك الذين لا يملكون شيئا ولا يستطيعون أن يملكوا
تأكيدا لنفي أملاكهم، ولو كان المراد عبدا بعينه وكان ذلك العبد ممن
يجوز أن يملك، ما كان بينه وبين الحر فرق وكان تخصيصه العبد بالذكر
لغوا فثبت أن المعنى فيه نفي ملك العبيد رأسا.
فإن قيل: فقد قال: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا
أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} ولم
يدل على أن الأبكم لا يملك شيئا. قيل له: إنما أراد به عبدا أبكم، ألا
ترى إلى قوله: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا
يَأْتِ بِخَيْرٍ} فذكر المولى وتوجيهه يدل على أن المراد العبد، كأنه
ذكر أولا عبدا غير أبكم وجعله مثلا للصنم في نفي الملك، ثم زاده نقصا
بقوله: {أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى
مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ} فدل على أنه أراد
عبدا أبكم مبالغة في وصف الأصنام بالنقص وقلة الخير وأنه مملوك متصرف
فيه.
فإن قيل: أراد بقوله: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ} ابن عمه لأن ابن
العم يسمى مولى. قيل له: هذا خطأ، لأن ابن العم لا تلزمه نفقة ابن عمه
ولا أن يكون كلا عليه وليس له توجيهه في أموره، فلما ذكر الله تعالى
هذين المعنيين للأبكم علمنا أنه لم يرد به الحر الذي له ابن عم وأنه
أراد عبدا مملوكا أبكم وعلى أنه لا معنى لذكر ابن العم ههنا لأن الأب
والأخ والعم أقرب إليه من ابن العم وأولى به، فحمله على ابن العم يزيل
فائدته. وأيضا فإن المولى إذا أطلق يقتضي مولى الرق أو مولى النعمة ولا
يصرف إلى ابن العم إلا بدلالة.
فإن قيل: لا يجوز أن يكون المراد الأصنام لأنه قال: عبدا مملوكا ولا
يقال ذلك للصنم. قيل له: قد أغفلت موضع الدلالة لأنه إنما ذكر عبدا
مملوكا لنا وجعله مثلا للأصنام التي كانوا يعبدونها وأخبر أنها بمنزلة
مماليكنا الذين لا يملكون شيئا، فكما أن الصنم لا يملك بحال كذلك
العبد، وعلى أن الله تعالى قد سمى الأصنام عبادا بقوله: {إِنَّ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ}
[الأعراف:194].
وقد اختلف الفقهاء في ملك العبد، فقال أصحابنا والشافعي: "العبد لا
يملك ولا يتسرى". وقال مالك: "يملك ويتسرى". وقد روى أبو حنيفة قال:
حدثنا إسماعيل بن أمية المكي عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن ابن عمر
قال: "لا يحل فرج المملوك إلا لمن إن باع أو وهب أو تصدق أو أعتق جاز "
يعني بذلك المملوك وكذلك روى يحيى بن سعيد عن عبيد الله عن نافع عن ابن
عمر. وروي عن إبراهيم وابن سيرين والحكم: "أن العبد لا يتسرى". وروي عن
ابن عباس: "أن العبد يتسرى"، وروى يعمر
(3/243)
عن نافع
عن ابن عمر: "أنه كان يرى بعض رقيقه يتخذ السرية فلا ينكر عليه" وقال
الحسن والشعبي: "يتسرى العبد بإذن سيده". وروى أبو يوسف عن العلاء بن
كثير عن مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العبد لا يتسرى" وهذا
يدل على أنه لا يملك لأنه لو ملك لجاز له التسري بقوله: {وَالَّذِينَ
هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا
مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون:6-5] ويدل عليه قوله صلى الله عليه
وسلم: "من باع عبدا وله مال فماله للبائع إلا أن يشترطه المبتاع" وذلك
لأنه لما أن جعله للبائع أو للمشتري أخرج العبد منه صفرا بلا شيء. ويدل
عليه أن للمولى أخذ ما في يده وهو أولى به منه لأجل ملكه لرقبته، فلو
كان العبد ممن يملك لما كان له أخذ ما في يده لأن ما بان به العبد عن
مولاه فلا سبيل للمولى عليه فيه، ألا ترى أن العبد لما ملك طلاق امرأته
ووطء زوجته فهي أمة للمولى لم يملكه المولى؟ وكذلك سائر ما يملكه العبد
من نفسه لم يملكه المولى منه، فلو ملك العبد المال لما كان للمولى أخذه
منه لأجل ملكه له كما لم يملك طلاق امرأته لأجل ملكه.
فإن قيل جواز أخذ المولى ماله لا يدل على أنه غير مالك لأن للغريم أن
يأخذ ما في يد المدين بدينه ولم يدل على أن المدين غير مالك. قيل له:
لأنه يأخذه لا لأنه مالك للمدين بل لأجل دينه الذي عليه، والمولى
يستحقه لأجل ملكه لرقبته، فلو كان العبد مالكا لم يستحق المولى لأجل
ملكه لرقبته كما لم يملك طلاق امرأته لأجل ملكه لرقبته، وفي ذلك دليل
على أن العبد لا يملك. ودليل آخر: وهو أنه لا خلاف أن من كاتب عبده على
مال فأداه أنه يعتق ويكون الولاء للمولى وأنه معتق على ملك مولاه، فلو
كان ممن يملك لملك رقبته بالمال الذي أداه ولا ينتقل إليه كما ينتقل
إلى غيره لو أمره بأن يعتقه عنه على مال ولو ملك رقبته لعتق على نفسه
لكان لا يكون الولاء للمولى بل كان يكون ولاؤه لنفسه، فلما لم يصح
انتقال ملك رقبته إليه بالمال وعتق على ملك المولى دل ذلك على أنه لا
يملك لأنه لو كان ممن يملك لكان بملك رقبته أولى إذ كانت رقبته مما
يجوز فيه التمليك.
فإن قيل: قوله صلى الله عليه وسلم: "من باع عبدا وله مال فماله للبائع"
يدل على أن العبد يملك لإضافته المال إليه. قيل له: قد أثبت النبي صلى
الله عليه وسلم المال للبائع في حال البيع، ومعلوم أنه لا يجوز أن يكون
ملكا للمولى وملكا للعبد لاستحالة أن يملك، وإلا لكان لكل واحد جميع
المال ففي هذا الخبر بعينه إثبات ما أضاف إلى العبد ملكا للبائع، فثبت
أن إضافته إلى العبد على وجه اليد كما تقول: "هذه دار فلان" وهو ساكن
فيها وليس بمالك، وكقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" ولم
يرد إثبات ملك الأب.
(3/244)
فإن قيل:
قد روى عبيد الله بن أبي جعفر عن بكير بن عبد الله بن الأشج عن نافع عن
ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أعتق عبدا فماله له إلا
أن يشترط السيد ماله فيكون له" . وهذا يدل على أن العبد يملك لأنه لو
لم يملكه قبل العتق لم يملكه بعده. قيل له: لا دلالة في هذا على أن
العبد يملك لأنه جائز أن يكون جريان العادة بأن ما على العبد من الثياب
ونحو ذلك لا يؤخذ منه عند العتق، جعله كالمنطوق به وجعل ترك المولى
لأخذه منه دلالة على أنه قد رضي منه بتمليكه إياه بعد العتق وأيضا فقد
روي عن جماعة من أهل النقل تضعيفه، وقد قيل: إن عبيد الله بن أبي جعفر
غلط في رفع هذا الحديث وفي متنه، وإن أصله ما رواه أيوب عن نافع عن ابن
عمر أنه كان إذا أعتق عبدا لم يعرض لماله، فهذا هو أصل الحديث، فأخطأ
عبيد الله في رفعه وفي لفظه.
وقد روي خلاف ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما رواه أبو مسلم
الكجي قال: حدثنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال: حدثنا عبد الأعلى بن
أبي المساور عن عمران بن عمير عن أبيه قال: وكان مملوكا لعبد الله بن
مسعود قال له عبد الله: يا عمير بين لي مالك فإني أريد أن أعتقك، إني
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أعتق عبدا فماله للذي
أعتق" وكذلك رواه يونس بن إسحاق عن عمران بن عمير عن ابن مسعود مرفوعا.
وقد بلغنا أن المسعودي رواه موقوفا على ابن مسعود، وذلك لا يفسده
عندنا.
فإن احتج محتج بقوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ
وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا
فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32] وذلك عائد على
جميع المذكورين من الأيامى والعبيد والإماء، فأثبت للعبد الغنى والفقر،
فدل على أنه يملك; إذ لو لم يملك لكان أبدا فقيرا. قيل له: لا يخلو
قوله: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}
[النور:32] من أن يكون المراد به الغنى بالوطء الحلال عن الحرام أو
الغنى بالمال فلما وجدنا كثيرا من المتزوجين لا يستغنون بالمال، ومعلوم
أن مخبر أخبار الله لا محالة كائن على ما أخبر به، علمنا أنه لم يرد به
الغنى بالمال وإنما أراد الغنى بالوطء الحلال عن الحرام. وأيضا فإنه إن
أراد الغنى بالمال فإنه مقصور على الأيامى والأحرار المذكورين في الآية
دون العبيد الذين لا يملكون بما ذكرنا من الدليل. وأيضا فإن العبد لا
يستغني بالمال عند مخالفنا لأن المولى أولى بجميع ماله منه، فأي غنى في
مال يحصل له وغيره أولى به منه، فالغنى في هذا الموضع إنما يحصل للمولى
دون العبد. والدليل على أن العبد لا يكون غنيا بالمال قول النبي صلى
الله عليه وسلم: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم"،
وعند مخالفنا أنه لا يؤخذ من مال العبد، فلو كان غنيا لوجب في ماله
الزكاة; إذ هو مسلم غني من أهل التكليف.
(3/245)
فإن قيل:
لما كان العبد يملك الطلاق وجب أن يملك المال كالحر. قيل له: إنما ملك
العبد الطلاق لأن المولى لا يملكه منه، فلو ملك العبد المال وجب أن لا
يملك المولى منه وأن لا يجوز له أخذه منه لأن كل ما يملكه المولى من
عبده فإن العبد لا يملكه منه، ألا ترى أن العبد المحجور عليه لو أقر
بدين لم يلزمه في الرق ولو أقر المولى عليه به لزمه؟ وكذلك للمولى أن
يزوج عبده وليس للعبد أن يزوج نفسه لما كان ذلك معنى يملكه المولى منه،
ولو أقر المولى عليه بقصاص أو حد لم يلزمه لأن العبد يملك ذلك من نفسه،
وفي ذلك دليل على أن العبد لا يملك; إذ لو ملكه لما جاز للمولى أن
يتصرف عليه في ماله كما لا يتصرف عليه في الطلاق حين كان العبد يملكه.
قوله تعالى: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا
أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ} فيه الدلالة على جواز الانتفاع بما
يؤخذ منها من ذلك بعد الموت; إذ لم يفرق بين أخذها بعد الموت وقبله.
(3/246)
مطلب: ما من حكم من أحكام الدين إلا وفي الكتاب تبيانه
قوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ
شَيْءٍ} يعني به والله أعلم: تبيان كل شيء من أمور الدين بالنص
والدلالة، فما من حادثة جليلة ولا دقيقة إلا ولله فيها حكم قد بينه في
الكتاب نصا أو دليلا، فما بينه النبي صلى الله عليه وسلم فإنما صدر عن
الكتاب بقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا
نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7] وقوله تعالى: {وإنك وَإِنَّكَ
لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] وقوله: {مَنْ يُطِعِ
الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] فما بينه الرسول فهو
عن الله عز وجل وهو من تبيان الكتاب له لأمر الله إيانا بطاعته واتباع
أمره، وما حصل عليه الإجماع فمصدره أيضا عن الكتاب لأن الكتاب قد دل
على صحة حجة الإجماع وأنهم لا يجتمعون على ضلال، وما أوجبه القياس
واجتهاد الرأي وسائر ضروب الاستدلال من الاستحسان وقبول خبر الواحد
جميع ذلك من تبيان الكتاب لأنه قد دل على ذلك أجمع، فما من حكم من
أحكام الدين إلا وفي الكتاب تبيانه من الوجوه التي ذكرنا.
(3/246)
مطلب: هذه الآية دالة على صحة القول بالقياس
وهذه الآية دالة على صحة القول بالقياس وذلك لأنا إذا لم نجد للحادثة
حكما منصوصا في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع، وقد أخبر الله
تعالى أن في الكتاب تبيان كل شيء من أمور الدين، ثبت أن طريقه النظر
والاستدلال بالقياس على حكمه; إذ لم يبق هناك وجه يوصل إلى حكمها من
غير هذه الجهة ومن قال بنص خفي أو
(3/246)
في الوفاء بالعهد
قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا
تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} قال أبو بكر: العهد
ينصرف على وجوه: فمنها الأمر، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا
إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ} [طه:115] وقال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ
يَا بَنِي آدَمَ} [يّس:60] والمراد الأمر. وقد يكون العهد يمينا،
ودلالة الآية على أن المراد في هذا الموضع اليمين ظاهرة. لأنه قال:
{وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} ولذلك قال
أصحابنا: إن من قال: "علي عهد الله إن فعلت كذا" أنه حالف. وقد روي في
حديث حذيفة حين أخذه المشركون وأباه فأخذوا منه عهد الله أن لا يقاتلوا
مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما قدما المدينة ذكرا ذلك للنبي صلى
الله عليه وسلم فقال: "تفي لهم بعهدهم وتستعين الله عليهم" . وروي عن
عطاء والحسن وابن سيرين وعامر وإبراهيم النخعي ومجاهد: "إذا قال: علي
عهد الله إن فعلت كذا فهو يمين".
قوله تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ
قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} شبه الله تعالى من عقد على نفسه شيئا لله تعالى
فيه قربة ثم فسخه ولم يتمه بالمرأة التي تغزل شعرا أو ما
(3/247)
أشبهه ثم
نقضت ذلك بعد أن فتلته فتلا شديدا، وهو معنى قوله: {مِنْ بَعْدِ
قُوَّةٍ} [النحل: 92] لأن العرب تسمي الفتل قوة، فمن عقد على نفسه عقدا
أو أوجب قربة أو دخل فيها أن لا يتمها فيكون بمنزلة التي نقضت غزلها
بعد قوة، وهذا يوجب أن كل من دخل في صلاة تطوع أو صوم نفل أو غير ذلك
من القرب أن لا يجوز له الخروج منه قبل إتمامه، فيكون بمنزلة من نقضت
غزلها من بعد قوة أنكاثاً
(3/248)
باب الاستعاذة
قال الله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ
مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} روى عمرو بن مرة عن عباد بن عاصم عن
نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم حين
افتتح الصلاة قال: "اللهم أعوذ بك من الشيطان من همزه ونفخه ونفثه" .
وروى أبو سعيد الخدري: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ في صلاته
قبل القراءة وروي عن عمر وابن عمر: "الاستعاذة قبل القراءة في الصلاة"
وروى ابن جريج عن عطاء قال: "الاستعاذة واجبة لكل قراءة في الصلاة
وغيرها". وقال محمد بن سيرين: "إذا تعوذت مرة أو قرأت مرة بسم الله
الرحمن الرحيم أجزأ عنك"، وكذلك روي عن إبراهيم النخعي وكان الحسن
يستعيذ في الصلاة حين يستفتح قبل أن يقرأ أم القرآن. وروي عن ابن سيرين
رواية أخرى قال: "كلما قرأت فاتحة الكتاب حين تقول آمين فاستعذ". وقال
أصحابنا والثوري والأوزاعي والشافعي: "يتعوذ قبل القراءة" وقال مالك:
"لا يتعوذ في المكتوبة قبل القراءة ويتعوذ في قيام رمضان إذا قرأ".
قال أبو بكر: قوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ
بِاللَّهِ} يقتضي ظاهره أن تكون الاستعاذة بعد القراءة، كقوله:
{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً
وَقُعُوداً} [النساء:103] ولكنه قد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم
وعن السلف الذين ذكرناهم الاستعاذة قبل القراءة. وقد جرت العادة بإطلاق
مثله. والمراد إذا أردت ذلك كقوله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ
فَاعْدِلُوا} [الأنعام:152] وقوله: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً
فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب:53] وليس المراد أن
تسألها من وراء حجاب بعد سؤال متقدم، وكقوله تعالى: {إِذَا نَاجَيْتُمُ
الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}
[المجادلة:12] وكذلك قوله {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ
بِاللَّهِ} معناه: إذا قرأت فقدم الاستعاذة قبل القراءة، وحقيقة معناه:
إذا أردت القراءة فاستعذ، وكقول القائل: إذا قلت فاصدق وإذا أحرمت
فاغتسل يعني قبل الإحرام، والمعنى في جميع ذلك إذا أردت ذلك كذلك قوله:
{فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} معناه: إذا أردت قراءته. وقول من قال:
"الاستعاذة بعد الفراغ من القراءة
(3/248)
شاذ،
وإنما الاستعاذة قبل القراءة لنفي وساوس الشيطان عند القراءة، قال الله
تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ
إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ
فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج:52] فإنما أمر
الله بتقديم الاستعاذة قبل القراءة لهذه العلة. والاستعاذة ليست بفرض
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلمها الأعرابي حين علمه الصلاة، ولو
كانت فرضا لم يخله من تعليمها.
قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا
مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} روى معمر عن عبد
الكريم عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} قال: أخذ المشركون عمارا وجماعة
معه فعذبوهم حتى قاربوهم في بعض ما أرادوا، فشكا ذلك إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: "كيف كان قلبك؟" قال: مطمئن بالإيمان، قال: "فإن
عادوا فعد" . قال أبو بكر: هذا أصل في جواز إظهار كلمة الكفر في حال
الإكراه، والإكراه المبيح لذلك هو أن يخاف على نفسه أو بعض أعضائه
التلف إن لم يفعل ما أمره به، فأبيح له في هذه الحال أن يظهر كلمة
الكفر ويعارض بها غيره إذا خطر ذلك بباله، فإن لم يفعل ذلك مع خطوره
بباله كان كافرا قال محمد بن الحسن: "إذا أكرهه الكفار على أن يشتم
محمدا صلى الله عليه وسلم فخطر بباله أن يشتم محمدا آخر غير فلم يفعل
وقد شتم النبي صلى الله عليه وسلم كان كافرا، وكذلك لو قيل له لتسجدن
لهذا الصليب فخطر بباله أن يجعل السجود لله فلم يفعل وسجد للصليب كان
كافرا، فإن أعجلوه عن الروية ولم يخطر بباله شيء، وقال ما أكره عليه أو
فعل لم يكن كافرا إذا كان قلبه مطمئنا بالإيمان". قال أبو بكر: وذلك
لأنه إذا خطر بباله ما ذكرنا فقد أمكنه أن يفعل الشتيمة لغير النبي صلى
الله عليه وسلم; إذ لم يكن مكرها على الضمير وإنما كان مكرها على القول
وقد أمكنه صرف الضمير إلى غيره فمتى لم يفعله فقد اختار إظهار الكفر من
غير إكراه فلزمه حكم الكفر. وقوله صلى الله عليه وسلم لعمار: "إن عادوا
فعد" إنما هو على وجه الإباحة لا على جهة الإيجاب ولا على الندب، وقال
أصحابنا: الأفضل أن لا يعطي التقية ولا يظهر الكفر حتى يقتل وإن كان
غير ذلك مباحا له وذلك لأن خبيب بن عدي لما أراد أهل مكة أن يقتلوه لم
يعطهم التقية حتى قتل فكان عند النبي صلى الله عليه وسلم وعند المسلمين
أفضل من عمار في إعطائه التقية ولأن في ترك إعطاء التقية إعزازا للدين
وغيظا للمشركين، فهو بمنزلة من قاتل العدو حتى قتل، فحظ الإكراه في هذا
الموضع إسقاط المأثم عن قائل هذا القول حتى يكون بمنزلة من لم يقل. وقد
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان
وما استكرهوا عليه" ، فجعل المكره كالناسي والمخطئ في إسقاط المأثم
عنه، فلو أن رجلا نسي أو أخطأ فسبق لسانه بكلمة الكفر لم يكن عليه فيها
مأثم ولا تعلق بها حكم.
(3/249)
وقد اختلف
الفقهاء في طلاق المكره وعتاقه ونكاحه وأيمانه، فقال أصحابنا: "ذلك كله
لازم". وقال مالك والشافعي: "لا يلزمه شيء من ذلك". والذي يدل على لزوم
حكم هذه الأشياء ظاهر قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ
لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة:230] ولم
يفرق بين طلاق المكره والطائع وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ
اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ
تَوْكِيدِهَا} [النحل:91] ولم يفرق بين عهد المكره وغيره، وقال:
{ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة:89] وقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه" . ويدل
عليه أيضا ما روى. يونس بن بكير عن الوليد بن جميع الزهري عن أبي
الطفيل عن حذيفة قال:"أقبلت أنا وأبي ونحن نريد رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقد توجه إلى بدر، فأخذنا كفار قريش، فقال: إنكم لتريدون
محمدا؟ فقلنا: لا نريده إنما نريد المدينة، قال: فأعطونا عهد الله
وميثاقه لتنصرفن إلى المدينة ولا تقاتلون معه فأعطيناهم عهد الله،
فمررنا برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يريد بدرا فأخبرناه بما كان
منا وقلنا: ما تأمر يا رسول الله؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "تفي
لهم بعهدهم وتستعين الله عليهم" ، فانصرفنا إلى المدينة فذلك منعنا من
الحضور معهم. فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم إحلاف المشركين إياهم على
وجه الإكراه وجعلها كيمين الطوع، فإذا ثبت ذلك في اليمين فالطلاق
والعتاق والنكاح مثلها لأن أحدا لم يفرق بينهما. ويدل عليه حديث عبد
الرحمن بن حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن يوسف بن ماهك عن أبي هريرة أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح
والطلاق والرجعة" . فلما سوى النبي صلى الله عليه وسلم فيهن بين الجاد
والهازل ولأن الفرق بين الجد والهزل أن الجاد قاصد إلى اللفظ وإلى
إيقاع حكمه والهازل قاصد إلى اللفظ غير مريد لإيقاع حكمه، علمنا أنه لا
حظ للإرادة في نفي الطلاق وأنهما جميعا من حيث كانا قاصدين للقول أن
يثبت حكمه عليهما، وكذلك المكره قاصد للقول غير مريد لإيقاع حكمه فهو
كالهازل سواء.
فإن قيل: لما كان المكره على الكفر لا تبين منه امرأته واختلف حكم
الطوع والإكراه فيه وكان الكفر يوجب الفرقة كالطلاق، وجب أن يختلف حكم
طلاق المكره والطائع. قيل له: ليس لفظ الكفر من ألفاظ الفرقة لا كناية
ولا تصريحا، وإنما تقع به الفرقة إذا حصل كافرا، والمكره على الكفر لا
يكون كافرا، فلما لم يصر كافرا بإظهاره كلمة الكفر على وجه الإكراه لم
تقع الفرقة، وأما الطلاق فهو من ألفاظ الفرقة والبينونة وقد وجد إيقاعه
في لفظ مكلف فوجب أن لا يختلف حكمه في حال الإكراه والطوع.
فإن قال قائل تساوي حال الجد والهزل في الطلاق لا يوجب تساوي حال
الإكراه والطوع فيه لأن الكفر يستوي حكم جده وهزله ولم يستو حال
الإكراه والطوع فيه. قيل
(3/250)
له: نحن
لم نقل إن كل ما يستوي جده وهزله يستوي حال الإكراه والطوع فيه، وإنما
قلنا: إنه لما سوى النبي صلى الله عليه وسلم بين الجاد والهازل في
الطلاق علمنا أنه لا اعتبار فيه بالقصد للإيقاع بعد وجود القصد منه إلى
القول فاستدللنا بذلك على أنه لا اعتبار فيه للقصد للإيقاع بعد وجود
لفظ الإيقاع من مكلف، وأما الكفر فإنما يتعلق حكمه بالقصد لا بالقول،
ألا ترى أن من قصد إلى الجد بالكفر أو الهزل أنه يكفر بذلك قبل أن يلفظ
به وأن القاصد إلى إيقاع الطلاق لا يقع طلاقه إلا باللفظ؟ ويبين لك
الفرق بينهما أن الناسي إذا تلفظ بالطلاق وقع طلاقه ولا يصير كافرا
بلفظ الكفر على وجه النسيان، وكذلك من غلط بسبق لسانه بالكفر لم يكفر
ولو سبق لسانه بالطلاق طلقت امرأته، فهذا يبين الفرق بين الأمرين. وقد
روي عن علي وعمر وسعيد بن المسيب وشريح وإبراهيم والنخعي والزهري
وقتادة قالوا: "طلاق المكره جائز". وروي عن ابن عباس وابن عمر وابن
الزبير والحسن وعطاء وعكرمة وطاوس وجابر بن زيد قالوا: "طلاق المكره لا
يجوز". وروى سفيان عن حصين عن الشعبي قال: "إذا أكرهه السلطان على
الطلاق فهو جائز وإن أكرهه غيره لم يجز".وقال أصحابنا فيمن أكره بالقتل
وتلف بعض الأعضاء على شرب الخمر أو أكل الميتة لم يسعه أن لا يأكل ولا
يشرب وإن لم يفعل حتى قتل كان آثما لأن الله تعالى قد أباح ذلك في حال
الضرورة عند الخوف على النفس فقال: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ
إِلَيْهِ} [الأنعام:119] ومن لم يأكل الميتة عند الضرورة حتى مات جوعا
كان آثما بمنزلة تارك أكل الخبز حتى يموت، وليس ذلك بمنزلة الإكراه على
الكفر في أن ترك إعطاء التقية فيه أفضل لأن أكل الميتة وشرب الخمر
تحريمه من طريق السمع فمتى أباحه السمع فقد زال الحظر وعاد إلى حكم
سائر المباحات، وإظهار الكفر محظور من طريق العقل لا يجوز استباحته
للضرورات، وإنما يجوز له إظهار اللفظ على معنى المعاريض والتورية
باللفظ إلى غير معنى الكفر من غير اعتقاد لمعنى ما أكره عليه فيصير
اللفظ بمنزلة لفظ الناسي والذي يسبقه لسانه بالكفر، فكان ترك إظهاره
أولى وأفضل وإن كان موسعا عليه إظهاره عند الخوف. وقالوا فيمن أكره على
قتل رجل أو على الزنا بامرأة: لا يسعه الإقدام عليه لأن ذلك من حقوق
الناس وهما متساويان في الحقوق، فلا يجوز إحياء نفسه بقتل غيره بغير
استحقاق، وكذلك الزنا بالمرأة فيه انتهاك حرمتها بمعنى لا تبيحه
الضرورة وإلحاقها بالشين والعار. وليس كذلك عندهم الإكراه على القذف،
فيجوز له أن يفعل من قبل أن القذف الواقع على وجه الإكراه لا يؤثر في
المقذوف ولا يلحقه به شيء.
فأحكام الإكراه مختلفة على الوجوه التي ذكرنا، منها ما هو واجب فيه
إعطاء التقية وهو الإكراه على شرب الخمر وأكل الميتة ونحو ذلك مما طريق
حظره السمع، ومنها ما لا يجوز فيه إعطاء التقية وهو الإكراه على قتل من
لا يستحق القتل
(3/251)
ونحو
الزنا ونحو ذلك مما فيه مظلمة لآدمي ولا يمكن استدراكه، ومنها ما هو
جائز له فعل ما أكره عليه والأفضل تركه كالإكراه على الكفر وشبهه.
قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ
بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} روي عن الشعبي
وقتادة وعطاء بن يسار: "أن المشركين لما مثلوا بقتلى أحد قال المسلمون:
لئن أظهرنا الله عليهم لنمثلن بهم أعظم مما مثلوا فأنزل الله تعالى هذه
الآية "وقال ومجاهد وابن سيرين: هو في كل من ظلم بغضب أو نحوه فإنما
يجازى بمثل ما عمل" قال أبو بكر: نزول الآية على سبب لا يمنع عندنا
اعتبار عمومها في جميع ما انتظمه الاسم، فوجب استعمالها في جميع ما
انطوى تحتها بمقتضى ذلك أن من قتل رجلا قتل به ومن جرح جراحة جرح به
جراحة مثلها، وإن قطع يد رجل ثم قتله أن للولي قطع يده ثم قتله واقتضى
أيضا أن من قتل رجلا برضخ رأسه بالحجر أو نصبه غرضا فرماه حتى قتله أنه
يقتل بالسيف; إذ لا يمكن المعاقبة بمثل ما فعله لأنا لا نحيط علما
بمقدار الضرب وعدده ومقدار ألمه، وقد يمكننا المعاقبة بمثله في باب
إتلاف نفسه قتلا بالسيف، فوجب استعمال حكم الآية فيه من هذا الوجه دون
الوجه الأول. وقد دلت أيضا على أن من استهلك لرجل مالا فعليه مثله،
وإذا غصبه ساجة فأدخلها في بنائه أو غصبه حنطة فطحنها أن عليه المثل
فيهما جميعا لأن المثل في الحنطة بمقدار كيلها من جنسها وفي الساجة
قيمتها لدلالة قد دلت عليه، وقد دلت على أن العفو عن القاتل والجاني
أفضل من استيفاء القصاص بقوله تعالى: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ
خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} آخر سورة النحل.
(3/252)
|