أحكام القرآن للجصاص ط العلمية

سورة بني إسرائيل
مدخل
...
سورة بني إسرائيل
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} روي عن أم هانئ {أن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به من بيتها تلك الليلة فقال تعالى: {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} لأن الحرم كله مسجد، وقد تقدم ذكر ذلك فيما سلف وقال: الحسن وقتادة: معناه كان في المسجد نفسه فأسري به.
قوله عز وجل: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} قيل: معناه فإليها، كما يقال: أحسن إلى نفسه وأساء إلى نفسه وحروف الإضافة يقع بعضها موضع بعض إذا تقاربت، وقال تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:5] والمعنى: أوحى إليها.
قوله تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} يعني جعلناها لا يبصر بها كما لا يبصر بما يمحى من الكتاب وهو في نهاية البلاغة. وقال ابن عباس: "محونا آية الليل: السواد الذي في القمر".
قوله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} قيل: إنما أراد به عمله من خير أو شر على عادة العرب في الطائر الذي يجيء من ذات اليمين فيتبرك به والطائر الذي يجيء من ذات الشمال فيتشاءم به، فجعل الطائر اسما للخير والشر جميعا فاقتصر على ذكره دون ذكر كل واحد منهما على حياله لدلالته على المعنيين، وأخبر أنه في عنقه كالطوق الذي يحيط به ويلازمه مبالغة في الوعظ والتحذير واستدعاء إلى الصلاح وزجرا عن الفساد.
قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} قيل: فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يعذب فيما كان طريقه السمع دون العقل إلا بقيام حجة السمع فيه من جهة الرسول وهذا يدل على أن من أسلم من أهل الحرب ولم يسمع بالصلاة والزكاة ونحوها من

(3/253)


الشرائع السمعية أنه لا يلزمه قضاء شيء منها إذا علم لأنه لم يكن لازما له إلا بعد قيام حجة السمع عليه، وبذلك وردت السنة في قصة أهل قبا حين أتاهم آت أن القبلة قد حولت وهم في الصلاة فاستداروا إلى الكعبة ولم يستأنفوا لفقد قيام الحجة عليهم بنسخ القبلة وكذلك قال أصحابنا فيمن أسلم في دار الحرب ولم يعلم بوجوب الصلاة عليه أنه لا قضاء عليه فيما ترك، قالوا: ولو أسلم في دار الإسلام ولم يعلم بفرض الصلاة عليه فعليه القضاء استحسانا والقياس أن يكون مثل الأول لعدم قيام حجة السمع عليه، وحجة الاستحسان أنه قد رأى الناس يصلون في المساجد بأذان وإقامة وذلك دعاء إليها فكان ذلك بمنزلة قيام الحجة عليه ومخاطبة المسلمين إياه بلزوم فرضها، فلا يسقطها عنه تضييعه إياها والوجه الثاني: أنه لا يعذب عذاب الاستئصال إلا بعد قيام حجة السمع بالرسول، وأن مخالفة موجبات أحكام العقول قبل ورود السمع من جهة الرسول لا توجب في حكم الله عذاب الاستئصال.
قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} قال سعيد: "أمروا بالطاعة فعصوا". وعن عبد الله قال: "كنا نقول للحي إذا كثروا في الجاهلية قد أمر بنو فلان". وعن الحسن وابن سيرين وأبي العالية وعكرمة ومجاهد: {أَمَرْنَا} "أكثرنا". ومعناه على هذا أنا إذا كان في معلومنا إهلاك قرية أكثرنا مترفيها، وليس المعنى وجود الإرادة منه لإهلاكهم قبل المعصية لأن الإهلاك عقوبة والله تعالى لا يجوز أن يعاقب من لم يعص، وهو كقوله تعالى: {جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف:77] ليس المعنى وجود الإرادة منه وإنما هو أنه في المعلوم أنه سينقض. وخص المترفين بالذكر لأنهم الرؤساء ومن عداهم تبع لهم، وكما أمر فرعون وقومه تبع لهم، وكما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى قيصر "أسلم وإلا فعليك إثم الأريسيين" وكتب إلى كسرى: "فإن لم تسلم فعليك إثم الأكارين" .
قوله تعالى: {مِنَ الْقُرُونِ} روي عن عبد الله بن أبي أوفى: أن القرن مائة وعشرون سنة. وقال محمد بن القاسم المازني: مائة سنة. وقيل: القرن أربعون سنة.
قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} العاجلة: الدنيا، كقوله: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} [القيامة:21] أخبر الله تعالى أن من كان همه مقصورا على طلب الدنيا دون الآخرة عجل له منها ما يريد، فعلق ما يؤتيه منها بمعنيين: أحدهما: قوله: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ} فلذلك استثنى في المعطى، وذلك يتضمن مقداره وجنسه وإدامته أو قطعه، ثم أدخل عليه استثناء آخر فقال: {لِمَنْ نُرِيدُ} فلذلك استثنى في المعطين وأنه لا يعطى الجميع ممن يسعى للدنيا بل يعطي من شاء منهم ويحرم من شاء، فأدخل على إرادة العاجلة في إعطاء المريد منها

(3/254)


استثنائين لئلا يثق الطالبون للدنيا بأنهم لا محالة سينالون بسعيهم ما يريدون. ثم قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} فلم يستثن شيئا بعد وقوع السعي منهم على الوجه المأمور به، وشرط في السعي للآخرة أن يكون مؤمنا ومريدا لثوابها. قال محمد بن عجلان: من لم يكن فيه ثلاث خلال لم يدخل الجنة: نية صحيحة وإيمان صادق وعمل مصيب، قال: فقلت: عمن هذا؟ فقال: عن كتاب الله، قال الله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فعلق سعي الآخرة في استحقاق الثواب له بأوصاف ولم يستثن في المقصود شيئا ولم يخصص إرادة العاجلة بوصف بل أطلقها واستثنى في العطية والمعطى ما قدمنا.
قوله تعالى: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ} قد تقدم ذكر مريد العاجلة والساعي للآخرة وحكم مايناله كل واحد منهما بقصده وإرادته، ثم أخبر أن نعمه جل وتعالى مبسوط على البر والفاجر في الدنيا وأنها خاصة للمتقين في الآخرة، ألى ترى أن سائر نعم الله تعالى من الشمس والقمر والسماء والأرض بما فيها من المنافع والهواء والماء والنبات والحيوانات المأكولة والأغذية والأدوية وصحة الجسم والعافية إلى ما لا يحصى من النعم شاملة للبر والفاجر؟ والله الموفق.

(3/255)


باب بر الوالدين
قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} {وَقَضَى رَبُّكَ} معناه: أمر ربك، وأمر بالوالدين إحسانا وقيل: معناه وأوصى بالوالدين إحسانا والمعنى واحد لأن الوصية أمر. وقد أوصى الله تعالى ببر الوالدين والإحسان إليهما في غير موضع من كتابه وقال: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً} [الاحقاف:15] وقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فأمر بمصاحبة الوالدين المشركين بالمعروف مع النهي عن طاعتهما في الشرك لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من الكبائر عقوق الوالدين. قوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا} قيل فيه: إن بلغت حال الكبر وهو حال التكليف وقد بقي معك أبواك أو أحدهما فلا تقل لهما أف. وذكر ليث عن مجاهد قال: "لا تقل لهما أف إذا بلغا من الكبر ما كانا يليان منك في الصغر فلا تقل لهما أف". قال أبو بكر: اللفظ محتمل للمعنيين فهو عليهما، ولا محالة أن بلوغ الولد شرط في الأمر; إذ لا يصح تكليف غير البالغ، فإذا بلغ حال التكليف وقد بلغاهما حال

(3/255)


الكبر والضعف أو لم يبلغا فعليه الإحسان إليهما وهو مزجور أن يقول لهما أف، وهي كلمة تدل على الضجر والتبرم بمن يخاطب بها.
قوله تعالى: {وَلا تَنْهَرْهُمَا} معناه: لا تزجرهما على وجه الاستخفاف بهما والإغلاظ لهما قال قتادة في قوله: {وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} قال: "لينا سهلا". وقال هشام بن عروة عن أبيه: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} قال: "لا تمنعهما شيئا يريدانه". وروى هشام عن الحسن أنه سئل: ما بر الوالدين؟ قال: "أن تبذل لهما ما ملكت وأطعهما في أمرك ما لم يكن معصية". وروى عمرو بن عثمان عن واصل بن السائب: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} قال: "لا تنفض يدك عليهما" وقال عروة بن الزبير: "ما بر والده من أحد النظر إليه وعن أبي الهياج قال: سألت سعيد بن المسيب عن قوله: {قَوْلاً كَرِيماً} قال: "قول العبد الذليل للسيد الفظ الغليظ". وعن عبد الله الرصافي قال: حدثني عطاء في قوله تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} قال: "يداك لا ترفعهما على أبويك ولا تحد بصرك إليهما إجلالا وتعظيما
"قال أبو بكر: قوله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} هو مجاز لأن الذل ليس له جناح ولا يوصف بذلك، ولكنه أراد المبالغة في التذلل والتواضع لهما، وهو كقول امرئ القيس في وصف الليل:
فقلت له لما تمطى بصلبه ... وأردف أعجازا وناء بكلكل
وليس لليل صلب ولا أعجاز ولا كلكل، وهو مجاز، وإنما أراد به تكامله واستواءه.
قوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} فيه الأمر بالدعاء لهما بالرحمة والمغفرة إذا كانا مسلمين لأنه قال في موضع آخر: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة:113] فعلمنا أن مراده بالدعاء للوالدين خاص في المؤمنين. وبين الله تعالى بهذه الآية تأكيد حق الأبوين، فقرن الأمر بالإحسان إليهما إلى الأمر بالتوحيد فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} ثم بين صفة الإحسان إليهما بالقول والفعل والمخاطبة الجميلة على وجه التذلل والخضوع ونهى عن التبرم والتضجر بهما بقوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} ونهى عن الإغلاظ والزجر لهما بقوله {وَلا تَنْهَرْهُمَا} فأمر بلين القول والاستجابة لهما إلى ما يأمرانه به ما لم يكن معصية، ثم عقبه بالأمر بالدعاء لهما في الحياة وبعد الوفاة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه عظم حق الأم على الأب وروى أبو زرعة بن عمرو بن جرير عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله من أحق الناس بحسن

(3/256)


صحابتي؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: ثم "أمك" قال: ثم من؟ قال: ثم "أمك"، قال: ثم من؟ قال: "ثم أبوك".
قوله تعالى: {فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً} قال سعيد بن المسيب: "الأواب الذي يتوب مرة بعد مرة كلما أذنب بادر بالتوبة" وقال سعيد بن جبير ومجاهد: "هو الراجع عن ذنبه بالتوبة منه". وروى منصور عن مجاهد قال: "الأواب الذي يذكر ذنوبه في الخلاء ويستغفر الله منها". وروى قتادة عن القاسم بن عوف الشيباني عن زيد بن أرقم قال:خرج النبي صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال: "إن صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى".
قوله تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} قال أبو بكر: الحق المذكور في هذه الآية مجمل مفتقر إلى البيان، وهو مثل قوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذريات:19] وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" فهذا الحق غير ظاهر المعنى في الآية بل هو موقوف على البيان، فجائز أن يكون هذا الحق هو حقهم من الخمس إن كان المراد قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم وجائز أن يكون ما لهم من الحق في صلة رحمهم.
وقد اختلف في ذوي القربى المذكورين في هذه الآية، فقال ابن عباس والحسن: هو قرابة الإنسان". وروي عن علي بن الحسين: "أنه قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم" وقد قيل: إن التأويل هو الأول لأنه متصل بذكر الوالدين، ومعلوم أن الأمر بالإحسان إلى الوالدين عام في جميع الناس، فكذلك ما عطف عليه من إيتاء ذي القربى حقه.
قوله تعالى: {وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} يجوز أن يكون مراده الصدقات الواجبة في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] الآية، وجائز أن يكون الحق الذي يلزمه إعطاؤه عند الضرورة إليه. وقد روى ابن حمزة عن الشعبي عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في المال حق سوى الزكاة" وتلا: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} [البقرة:177] الآية. وروى سفيان عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه ذكر الإبل فقال: إن فيها حقا فسئل عن ذلك فقال: "إطراق فحلها وإعارة دلوها ومنيحة سمينها".
قوله تعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} روي عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وقتادة قالوا: "التبذير إنفاق المال في غير حقه". وقال مجاهد: "لو أنفق مدا في باطل كان تبذيرا". قال أبو بكر: من يرى الحجر للتبذير يحتج بهذه الآية; إذ كان التبذير منهيا عنه،

(3/257)


فالواجب على الإمام منعه منه بالحجر والحيلولة بينه وبين ماله إلا بمقدار نفقة مثله وأبو حنيفة لا يرى الحجر وإن كان من أهل التبذير لأنه من أهل التكليف، فهو جائز التصرف على نفسه فيجوز إقراره وبياعاته كما يجوز إقراره بما يوجب الحد والقصاص، وذلك مما تسقطه الشبهة، فإقراره وعقوده بالجواز أولى إذ كانت مما لا تسقطه الشبهة، وقد بينا ذلك في سورة البقرة عند قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً} [البقرة:282].
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ} قيل فيه وجهان: أحدهما: أنهم أخوانهم باتباعهم آثارهم وجريهم على سننهم، والثاني: أنهم يقرنون بالشياطين في النار.
قوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا} الآية قيل فيه وجهان: أحدهما: أنه علمنا ما يفعله عند مسألة السائلين لنا من المسلمين وابن السبيل وذي القربى مع عوز ما يعطي وقلة ذات أيدينا، فقال: إن أعرضت عنهم لأنك لا تجد ما تعطيهم وكنت منتظر الرزق ورحمة ترجوها من الله لتعطيهم منه فقل لهم عند ذلك قولا حسنا لينا سهلا فتقول لهم يرزق الله وقد روي ذلك عن الحسن ومجاهد وإبراهيم وغيرهم.
قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} يعني والله أعلم: لا تبخل بالمنع من حقوقهم الواجبة لهم. وهذا مجاز، ومراده ترك الإنفاق، فيكون بمنزلة من يده مغلولة إلى عنقه فلا يعطي من ماله شيئا وذلك لأن العرب تصف البخيل بضيق اليد فتقول: فلان جعد الكفين، إذا كان بخيلا، وقصير الباع ويقولون في ضده: فلان رحب الذراع وطويل اليدين وقال النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه: "أسرعكن بي لحاقا أطولكن يدا" . وإنما أراد كثرة الصدقة، فكانت زينب بنت جحش لأنها كانت أكثرهن صدقة وقال الشاعر:
وما إن كان أكثرهم سواما ... ولكن كان أرحبهم ذراعا
قوله تعالى: {وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} يعني: ولا تخرج جميع ما في يدك مع حاجتك وحاجة عيالك إليه {فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} يعني: ذا حسرة على ما خرج من يدك. وهذا الخطاب لغير النبي صلى الله عليه وسلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخر شيئا لغد وكان يجوع حتى يشد الحجر على بطنه، وقد كان كثير من فضلاء الصحابة ينفقون في سبيل الله جميع أملاكهم فلم يعنفهم النبي صلى الله عليه وسلم لصحة يقينهم وشدة بصائرهم، وإنما نهى الله تعالى عن الإفراط في الإنفاق وإخراج جميع ما حوته يده من المال من خيف عليه الحسرة على ما

(3/258)


خرج عن يده فأما من وثق بموعود الله وجزيل ثوابه فيما أنفقه فغير مراد بالآية وقد روي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل بيضة من ذهب فقال: يا رسول الله أصبت هذه من معدن والله ما أملك غيرها فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم فعاد ثانيا فأعرض عنه، فعاد ثالثا فأخذها النبي صلى الله عليه وسلم فرمى بها فلو أصابته لعقرته، فقال: "يأتيني أحدهم بجميع ما يملك ثم يقعد يتكفف الناس" . وروي أن رجلا دخل المسجد وعليه هيئة رثة والنبي صلى الله عليه وسلم على المنبر، فأمر الرجل بأن يقوم فقام، فطرح الناس ثيابا للصدقة فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم منها ثوبين، ثم حث النبي صلى الله عليه وسلم الناس على الصدقة، فطرح أحد ثوبيه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "انظروا إلى هذا أمرته أن يقوم ليفطن له فيتصدق عليه فأعطيته ثوبين ثم قد طرح أحدهما ثم قال له: خذ ثوبك" فإنما منع أمثال هؤلاء من إخراج جميع أموالهم. فأما أهل البصائر فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يمنعهم من ذلك، وقد كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه ذا مال كثير فأنفق جميع ماله على النبي صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله حتى بقي في عباءة فلم يعنفه النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر ذلك عليه.
والدليل على أن ذلك ليس بمخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وإنما خوطب به غيره قوله تعالى: {فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً} [الاسراء: 29] ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ممن يتحسر على إنفاق ما حوته يده في سبيل الله، فثبت أن المراد غير النبي صلى الله عليه وسلم وهو نحو قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره، وقوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس: 94] لم يرد به النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يشك قط. فاقتضت هذه الآيات من قوله: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الاسراء: 23] الأمر بتوحيد الله والإحسان إلى الوالدين والتذلل لهما وطاعتهما وإعطاء ذي القربى والمساكين وابن السبيل حقوقهم والنهي عن تبذير المال وإنفاقه في معصية الله والأمر بالاقتصاد في الإنفاق والنهي عن الإفراط والتقصير في الإعطاء والمنع وتعليم ما يجيب به السائل والمسكين عند تعذر ما يعطي.
قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الاسراء: 31] هو كلام يتضمن ذكر السبب الخارج عليه وذلك لأن من العرب من كان يقتل بناته خشية الفقر لئلا يحتاج إلى النفقة عليهن وليتوفر ما يريد إنفاقه عليهن على نفسه وعلى بيته، وكان ذلك مستفيضا شائعا فيهم، وهي الموءودة التي ذكرها الله في قوله: {وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير:9] والموءودة هي المدفونة حيا، وكانوا يدفنون بناتهم أحياء. وقال عبد الله بن مسعود: سئل النبي صلى الله عليه وسلم فقيل: ما أعظم الذنوب؟ قال: "أن تجعل لله ندا وهو خلقك وأن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك وأن تزني بحليلة جارك".

(3/259)


قوله تعالى: {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} فيه إخبار بأن رزق الجميع على الله تعالى والله سيسبب لهم ما ينفقون على الأولاد وعلى أنفسهم، وفيه بيان أن الله تعالى سيرزق كل حيوان خلقه ما دامت حياته باقية وأنه إنما يقطع رزقه بالموت، وبين الله تعالى ذلك لئلا يتعدى بعضهم على بعض ولا يتناول مال غيره; إذ كان الله قد سبب له من الرزق ما يغنيه عن مال غيره.

(3/260)


مطلب: الزنا قبيح في العقل قبل ورود السمع
قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} فيه الإخبار بتحريم الزنا وأنه قبيح لأن الفاحشة هي التي قد تفاحش قبحه وعظم، وفيه دليل على أن الزنا قبيح في العقل قبل ورود السمع لأن الله سماه فاحشة ولم يخصص به قبل ورود السمع أو بعده ومن الدليل على أن الزنا قبيح في العقل أن الزانية لا نسب لولدها من قبل الأب; إذ ليس بعض الزناة أولى به لحاقه به من بعض، ففيه قطع الأنساب ومنع ما يتعلق بها من الحرمات في المواريث والمناكحات وصلة الأرحام وإبطال حق الوالد على الولد وما جرى مجرى ذلك من الحقوق التي تبطل مع الزنا، وذلك قبيح في العقول مستنكر في العادات ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" لأنه لو لم يكن النسب مقصورا على الفراش وما هو في حكم الفراش لما كان صاحب الفراش بأولى بالنسب من الزاني وكان ذلك يؤدي إلى إبطال الأنساب وإسقاط ما يتعلق بها من الحقوق والحرمات.
قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إنما قال تعالى: {إِلَّا بِالْحَقِّ} لأن قتل النفس قد يصير حقا بعد أن لم يكن حقا، وذلك قتله على وجه القود وبالردة والرجم للمحصن والمحاربة ونحو ذلك.
قوله تعالى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد في قوله: {سُلْطَاناً} قالوا: حجة، كقوله: {أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل: 21] وقال الضحاك: السلطان أنه مخير بين القتل وبين أخذ الدية وعلى السلطان أن يطلب القاتل حتى يدفعه إليه. قال أبو بكر: السلطان لفظ مجمل غير مكتف بنفسه في الإبانة عن المراد لأنه لفظ مشترك يقع على معان مختلفة، فمنها الحجة ومنها السلطان الذي يلي الأمر والنهي وغير ذلك، إلا أن الجميع مجمعون أنه قد أريد به القود فصار القود كالمنطوق به في الآية، وتقديره فقد جعلنا لوليه سلطانا أي قودا، ولم يثبت أن الدية مرادة فلم نثبتها ولما ثبت أن المراد القود دل ظاهره على أنه إذا كانت الورثة صغارا وكبارا أن للكبار أن يقتصوا قبل بلوغ الصغار لأن كل واحد منهم ولي والصغير

(3/260)


ليس بولي، ألا ترى أنه لا يجوز عفوه؟ وهذا قول أبي حنيفة، وعند أبي يوسف ومحمد لا يقتص الكبار حتى يبلغ الصغار فيقتصوا معهم أو يعفوا وروي عن محمد الرجوع إلى قول أبي حنيفة.
قوله تعالى: {فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} روي عن عطاء والحسن ومجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وطلق بن حبيب: "لا يقتل غير قاتله ولا يمثل به" وذلك لأن العرب كانت تتعدى إلى غير القاتل من الحميم والقريب، فلما جعل الله له سلطانا نهاه أن يتعدى وعلى هذا المعنى قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} [البقرة:178] لأنه كان لبعض القبائل طول على الأخرى فكان إذا قتل منهم العبد لا يرضون إلا أن يقتلوا الحر منهم وقال في هذه الآية: لا يسرف في القتل بأن يتعدى إلى غير القاتل وقال أبو عبيدة: لا يسرف في القتل، جزمه بعضهم على النهي ورفعه بعضهم على مجاز الخبر، يقول: ليس في قتله سرف لأن قتله مستحق.
قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} قال قتادة: "هو عائد على الولي" وقال مجاهد: "على المقتول". وقيل: "هو منصور إما في الدنيا وإما في الآخرة، ونصره هو حكم الله له بذلك أعني للولي". وقيل: "نصره أمر النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن يعينوه". وقوله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} قد اقتضى إثبات القصاص للنساء لأن الولي هنا هو الوارث كما قال: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] وقال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} إلى قوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وقال: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [لأنفال:72] فنفى بذلك إثبات التوارث بينهم إلا بعد الهجرة، ثم قال: {وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين} فأثبت الميراث بأن جعل بعضهم أولياء بعض، وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73] فأثبت التوارث بينهم بذكر الولاية. فلما قال {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} [الاسراء:33] اقتضى ذلك إثبات القود لسائر الورثة ويدل على أن الدم موروث عن المقتول أن الدية التي هي بدل من القصاص موروثة عنه للرجال والنساء، ولو لم تكن النساء قد ورثن القصاص لما ورثن بدله الذي هو المال، وكيف يجوز أن يرث بعض الورثة من بعض ميراث الميت ولا يرث من البعض الآخر هذا القول مع مخالفته لظاهر الكتاب مخالف للأصول. وقول مالك: "إن النساء ليس إليهن من القصاص شيء وإنما القصاص للرجال فإذا تحول مالا ورثت النساء مع الرجال" وروي عن سعيد بن المسيب والحسن وقتادة والحكم: "ليس إلى

(3/261)


النساء شيء من العفو والدم"، ومن قول أصحابنا: "إن القصاص واجب لكل وارث من الرجال والنساء والصبيان بقدر مواريثهم".
قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قال مجاهد: "التي هي أحسن التجارة". وقال الضحاك: يبتغي به من فضل الله ولا يكون للذي يبتغي فيه شيء". قال أبو بكر: إنما خص اليتيم بالذكر وإن كان ذلك واجبا في أموال سائر الناس لأن اليتيم إلى ذلك أحوج والطمع في مثله أكثر، وقد انتظم قوله: {إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} جواز التصرف في مال اليتيم للوالي عليه من جد أو وصي أب لسائر ما يعود نفعه عليه لأن الأحسن ما كان فيه حفظ ماله وتثميره، فجائز على ذلك أن يبيع ويشتري لليتيم بما لا ضرر على اليتيم فيه وبمثل القيمة وأقل منها مما يتغابن الناس فيه لأن الناس قد يرون ذلك حطا لما يرجون فيه من الربح والزيادة ولأن هذا القدر من النقصان مما يختلف المقومون فيه، فلم تثبت هناك حطيطة في الحقيقة، ولا يجوز أن يشتري بأكثر من القيمة بما لا يتغابن الناس فيه لأن فيه ضررا على اليتيم وذلك ظاهر متيقن، وقد نهى الله أن يقرب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن. وقد دلت الآية على جواز إجارة مال اليتيم والعمل به مضاربة لأن الربح الذي يستحقه اليتيم إنما يحصل له بعمل المضارب، فذلك أحسن من تركه وقد روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ابتغوا بأموال الأيتام خيرا لا تأكلها الصدقة" ، قيل: معناه النفقة لأن النفقة تسمى صدقة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أنفق الرجل على نفسه وعياله فهو له صدقة" . وقد روي عن عمر وابن عمر وعائشة وجماعة من التابعين أن للوصي أن يتجر بمال اليتيم وأن يدفعه مضاربة ويدل على أن للأب أن يشتري مال الصغير لنفسه ويبيع منه وعلى أن للوصي أن يشتري مال اليتيم لنفسه إذا كان ذلك خيرا لليتيم، وهو قول أبي حنيفة قال: "وإن اشترى بمثل القيمة لم يجز حتى يكون ما يأخذه اليتيم أكثر قيمة لقوله تعالى: {إلا بالتي هي أحسن} . وقال أبو يوسف ومحمد: "لا يجوز ذلك بحال". وقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} قال زيد بن أسلم وربيعة: "الحلم". قال أبو بكر: وقال في موضع آخر: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] فذكر الكبر ههنا وذكر الأشد في هذه الآية، وقال: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] فذكر في إحدى الآيات الكبر مطلقا وفي الأخرى الأشد وفي الأخرى بلوغ النكاح مع إيناس الرشد. وروى عبد الله بن عثمان بن خثيم عن مجاهد عن ابن عباس: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [الاحقاف: 15] ثلاث وثلاثون سنة، {وَاسْتَوَى} [القصص: 14] : أربعون سنة، {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ} [فاطر: 37] قال: العمر

(3/262)


الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة. وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} [الاحقاف: 15] فذكر في قصة موسى بلوغ الأشد والاستواء. وذكر في هذه الآية بلوغ الأشد، وفي الأخرى بلوغ الأشد وبلوغ أربعين سنة، وجائز أن يكون المراد ببلوغ الأشد قيل أربعين سنة وقيل الاستواء، وإذا كان كذلك فالأشد ليس له مقدار معلوم في العادة لا يزيد عليه ولا ينقص منه، وقد يختلف أحوال الناس فيه فيبلغ بعضهم الأشد في مدة لا يبلغه غيره في مثلها لأنه إن كان بلوغ الأشد هو اجتماع الرأي واللب بعد الحلم فذلك مختلف في العادة وإن كان بلوغه اجتماع القوى وكمال الجسم فهو مختلف أيضا، وكل ما كان حكمه مبنيا على العادات فغير ممكن القطع به على وقت لا يتجاوزه ولا يقصر عنه إلا بتوقيف أو إجماع، فلما قال في آية: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} اقتضى ذلك دفع المال إليه عند بلوغ الأشد من غير شرط إيناس الرشد، ولما قال في آية أخرى: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] شرط فيها بعد بلوغ النكاح إيناس الرشد ولم يشرط ذلك في بلوغ الأشد ولا بلوغ حد الكبر في قوله: {وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6] فقال أبو حنيفة: "لا يدفع إليه ماله بعد البلوغ حتى يؤنس منه رشداً ويكبر ويبلغ الأشد وهو خمس وعشرون سنة ثم يدفع إليه ماله بعد أن يكون عاقلا" فجائز أن تكون هذه مدة بلوغ الأشد عنده.
قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} يعني والله أعلم إيجاب الوفاء بما عاهد الله على نفسه من النذور والدخول في القرب، فألزمه الله تعالى إتمامها، وهو كقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} [التوبة: 75, 77] وقيل: أوفوا بالعهد في حفظ مال اليتيم مع قيام الحجة عليكم بوجوب حفظه وكل ما قامت به الحجة من أوامر الله وزواجره فهو عهد.
وقوله {إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} معناه مسئولا عنه للجزاء فحذ1ف اكتفاء بدلالة الحال وعلم المخاطب بالمراد وقيل إن العهد يسأل فيقال لم نقضضت؟ كما تسأل الموءودة بأي ذنب قتلت وذلك يرجع إلى معنى الأول لأنه توقيف وتقرير لناقص العهد كما أن سؤال الموءودة توقيف وتقرير لقاتلها بغير ذنب.
قوله تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} فيه دلالة على أن من اشترى شيئا من المكيلات مكايلة أو من الموزونات موازنة واجب عليه أن لا يأخذ المشترى كيلا إلا بكيل ولا المشترى وزنا إلا بوزن، وأنه غير جائز له أن يأخذه مجازفة،

(3/263)


وفي ذلك دليل على أن الاعتبار في تحريم التفاضل هو بالكيل والوزن; إذ لم يخصص إيجاب الكيل في المكيل وإيجاب الوزن في الموزون بالمأكول منه دون غيره، فوجب أن يكون سائر المكيلات والموزونات إذا اشترى بعضها ببعض من جنس واحد أنه غير جائز أخذه مجازفة إلا بكيل سواء كان مأكولا أو غير مأكول نحو الجص والنورة وفي الموزون نحو الحديد والرصاص وسائر الموزونات. وفيه الدلالة على جواز الاجتهاد وأن كل مجتهد مصيب لأن إيفاء الكيل والوزن لا سبيل لنا إليه إلا من طريق الاجتهاد وغلبة الظن، ألا ترى أنه لا يمكن أحدا أن يدعي إذا كان لغيره القطع بأنه لا يزيد حبة ولا ينقص وإنما مرجعه في إيفاء حقه إلى غلبة ظنه؟ ولما كان الكائل والوازن مصيبا لحكم الله تعالى إذا فعل ذلك ولم يكلف إصابة حقيقة المقدار عند الله تعالى كان كذلك حكم مسائل الاجتهاد. وقيل في القسطاس إنه الميزان صغر أو كبر. وقال الحسن: هو القبان. ولما ذكرنا من المعنى في المكيل والموزون قال أصحابنا فيمن له على آخر شيء من المكيل أو الموزون: إنه غير جائز له أن يقبضه مجازفة إن تراضيا وظاهر الأمر بالكيل والوزن يوجب أن لا يجوز تركهما بتراضيهما، وكذلك لا تجوز قسمتهما إذا كان بين شريكين مجازفة للعلة التي ذكرنا، ولو كانت ثيابا أو عروضا من غير المكيل والموزون جاز أن يقبضه مجازفة بتراضيهما وجاز أن يقتسما مجازفة; إذ لم يوجد علينا فيه إيفاء الكيل والوزن.
قوله تعالى: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} معناه أن ذلك خير لكم وأحسن عاقبة في الدنيا والآخرة والتأويل هو الذي إليه مرجع الشيء وتفسيره، من قولهم: آل يؤول أولا إذا رجع. قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} القفو اتباع الأثر من غير بصيرة ولا علم بما يصير إليه، ومنه القافة وكانت العرب فيها من يقتاف الأثر وفيها من يقتاف النسب، وقد كان هذا الاسم موضوعا عندهم لما يخبر به الإنسان من غير حقيقة، يقولون: تقوف الرجل إذا قال الباطل قال جرير:
وطال حذاري خيفة البين والنوى ... وأحدوثة من كاشح متقوف
قال أهل اللغة: أراد بقوله الباطل. وقال آخر:
ومثل الدمى شم العرانين ساكن ... بهن الحياء لا يشعن التقافيا
أي التقاذف. وإنما سمي التقاذف بهذا الاسم لأن أكثره يكون عن غير حقيقة وقد حكم الله بكذب القاذف إذا لم يأت بالشهود بقوله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ

(3/264)


وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12] قال قتادة في قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} : "لا تقل سمعت ولم تسمع ولا رأيت ولم تره ولا علمت ولم تعلم". وقد اقتضى ذلك نهي الإنسان عن أن يقول في أحكام الله ما لا علم له به على جهة الظن والحسبان وأن لا يقول في الناس من السوء ما لا يعلم صحته، ودل على أنه إذا أخبر عن غير علم فهو آثم في خبره كذبا كان خبره أو صدقا لأنه قائل بغير علم وقد نهاه الله عن ذلك.
قوله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} فيه بيان أن لله علينا حقا في السمع والبصر والفؤاد والمرء مسئول عما يفعله بهذه الجوارح من الاستماع بما لا يحل والنظر إلى ما لا يجوز والإرادة لما يقبح. ومن الناس من يحتج بقوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} في نفي القياس في فروع الشريعة وإبطال خبر الواحد لأنهما لا يفضيان بنا إلى العلم والقائل بهما قائل بغير علم. وهذا غلط من قائله وذلك لأن ما قامت دلالة القول به فليس قولا بغير علم والقياس وأخبار الآحاد قد قامت دلائل موجبة للعلم بصحتهما وإن كنا غير عالمين بصدق المخبر، وعدم العلم بصدق المخبر غير مانع جواز قبوله ووجوب العمل به، كما أن شهادة الشاهدين يجب قبولها إذا كان ظاهرهما العدالة وإن لم يقع لنا العلم بصحة مخبرهما، وكذلك أخبار المعاملات مقبولة عند جميع أهل العلم مع فقد العلم بصحة الخبر. وقوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} غير موجب لرد أخبار الآحاد كما لم يوجب رد الشهادات، وأما القياس الشرعي فإن ما كان منه من خبر الاجتهاد فكل قائل بشيء من الأقاويل التي يسوغ فيها الاجتهاد فهو قائل بعلم; إذ كان حكم الله عليه ما أداه اجتهاده إليه. ووجه آخر وهو أن العلم على ضربين: علم حقيقي وعلم ظاهر، والذي تعبدنا به من ذلك هو العلم الظاهر، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10] وإنما هو العلم الظاهر لا معرفة مغيب ضمائرهن وقال إخوة يوسف: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف: 81] فأخبروا أنهم شهدوا بالعلم الظاهر.
قوله تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَاباً مَسْتُوراً} قيل: إنه على معنى التشبيه لهم بمن بينه وبين ما يأتي به من الحكمة في القرآن، فكان بينه وبينهم حجابا عن أن يدركوه فينتفعوا به. وروي نحوه عن قتادة، وقال غيره: "نزل في قوم كانوا يؤذونه بالليل إذا تلا القرآن فحال الله تعالى بينهم وبينه حتى لا يؤذوه". وقال الحسن: "منزلتهم فيما أعرضوا عنه منزلة من بينك وبينه حجاب".

(3/265)


قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} قيل فيه: إنه منعهم من ذلك ليلا في وقت مخصوص لئلا يؤذوا النبي صلى الله عليه وسلم وقيل: جعلناها بالحكم أنهم بهذه المنزلة، ذما لهم على الامتناع من تفهم الحق والاستماع إليه مع إعراضهم ونفورهم عنه.
قوله تعالى: {وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً} قال الحسن: "إن لبثتم إلا قليلا في الدنيا لطول لبثكم في الآخرة، كما قيل كأنك بالدنيا لم تكن وكأنك بالآخرة لم تزل". وقال قتادة: "أراد به احتقار أمر الدنيا حين عاينوا يوم القيامة".
قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} روي عن ابن عباس رواية وسعيد بن جبير والحسن وقتادة وإبراهيم ومجاهد والضحاك قالوا: رؤيا غير ليلة الإسراء إلى بيت المقدس، فلما أخبر المشركين بما رأى كذبوا به". وروي عن ابن عباس أيضا أنه أراد برؤياه أنه سيدخل مكة.
قوله تعالى: {وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ} روي عن ابن عباس والحسن والسدي وإبراهيم وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة والضحاك: أنه أراد شجرة الزقوم التي ذكرها في قوله: {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43, 44] فأراد بقوله: "ملعونة" أنه ملعون أكلها. وكانت فتنتهم بها قول أبي جهل لعنه الله: ودونه النار تأكل الشجر فكيف تنبت فيها؟.
قوله تعالى: {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} هذا تهدد واستهانة بفعل المقول له ذلك وأنه لا يفوته الجزاء عليه والانتقام منه، وهو مثل قول القائل: اجهد جهدك فسترى ما ينزل بك. ومعنى استفزز استزل يقال استفزه واستزله بمعنى. وقوله: {بِصَوْتِكَ} روي عن مجاهد أنه الغناء واللهو وهما محظوران وأنهما من صوت الشيطان. وقال ابن عباس: هو الصوت الذي يدعو به إلى معصية الله، وكل صوت دعي به إلى الفساد فهو من صوت الشيطان.
قوله تعالى: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ} فإن الإجلاب هو السوق بجلبة من السائق، والجلبة الصوت الشديد.
وقوله تعالى: {بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ} روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة: "كل راجل أو ماش إلى معصية الله من الإنس والجن فهو من رجل الشيطان وخيله". والرجل جمع راجل كالتجر جمع تاجر والركب جمع راكب.
قوله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} قيل: معناه كن شريكا في ذلك فإن منه ما يطلبونه بشهوتهم ومنه ما يطلبونه لإغرائك بهم. وقال مجاهد والضحاك:

(3/266)


"وشاركهم في الأولاد يعني الزنا". وقال ابن عباس: "الموءودة" وقال الحسن وقتادة: "من هودوا ونصروا". وقال ابن عباس رواية: "تسميتهم عبد الحارث وعبد شمس". قال أبو بكر: لما احتمل هذه الوجوه كان محمولا عليها وكان جميعها مرادا; إذ كان ذلك مما للشيطان نصيب في الإغراء به والدعاء إليه.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} أطلق ذلك على الجنس وفيهم الكافر المهان على وجهين: أحدهما: أنه كرمهم بالإنعام عليهم وعاملهم معاملة المكرم بالنعمة على وجه المبالغة في الصفة، والوجه الآخر: أنه لما كان فيهم من على هذا المعنى أجرى الصفة على جماعتهم كقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] لما كان فيهم من هو كذلك أجرى الصفة على الجماعة.
قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} قيل: إنه يقال هاتوا متبعي إبراهيم هاتوا متبعي موسى هاتوا متبعي محمد صلى الله عليه وسلم فيقوم الذين اتبعوا الأنبياء واحدا واحدا فيأخذون كتبهم بأيمانهم، ثم يدعو بمتبعي أئمة الضلال على هذا المنهاج. قال مجاهد وقتادة: "إمامه نبيه". وقال ابن عباس والحسن والضحاك: "إمامه كتاب عمله". وقال أبو عبيدة: "بمن كانوا يأتمون به في الدنيا". وقيل: "بإمامهم بكتابهم الذي أنزل الله عليهم في الحلال والحرام والفرائض".
قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى} روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة: "من كان في أمر هذه الدنيا وهي شاهدة له من تدبيرها وتصريفها وتقليب النعم فيها أعمى عن اعتقاد الحق الذي هو مقتضاها، وهو في الآخرة التي هي غائبة عنه أعمى وأضل سبيلا".
قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} روي عن ابن مسعود وأبي عبد الرحمن السلمي قالا: "دلوكها غروبها". وعن ابن عباس وأبي برزة الأسلمي وجابر وابن عمر: "دلوك الشمس ميلها" وكذلك روي عن جماعة من التابعين. قال أبو بكر: هؤلاء الصحابة قالوا: إن الدلوك الميل، وقولهم مقبول فيه لأنهم من أهل اللغة وإذا كان كذلك جاز أن يراد به الميل للزوال والميل للغروب، فإن كان المراد الزوال فقد انتظم صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة; إذ كانت هذه أوقاتا متصلة بهذه الفروض، فجاز أن يكون غسق الليل غاية لفعل هذه الصلوات في مواقيتها. وقد روي عن أبي جعفر أن غسق الليل انتصافه، فيدل ذلك على أنه آخر الوقت المستحب لصلاة العشاء الآخرة وأن تأخيرها إلى ما بعده مكروه. ويحتمل أن يريد به غروب الشمس، فيكون المراد بيان وقت المغرب أنه من غروب الشمس إلى غسق الليل.

(3/267)


وقد اختلف في غسق الليل، فروى مالك عن داود بن الحصين قال: أخبرني مخبر عن ابن عباس أنه كان يقول: "غسق الليل اجتماع الليل وظلمته". وروى ليث عن مجاهد عن ابن عباس أنه كان يقول: "دلوك الشمس حين تزول الشمس إلى غسق الليل حين تجب الشمس". قال: وقال ابن مسعود: "دلوك الشمس حين تجب الشمس إلى غسق الليل حين يغيب الشفق". وعن عبد الله أيضا أنه لما غربت الشمس قال: "هذا غسق الليل". وعن أبي هريرة: "غسق الليل غيبوبة الشمس". وعن الحسن: "غسق الليل صلاة المغرب والعشاء". وعن إبراهيم: "غسق الليل العشاء الآخرة". وقال أبو جعفر: "غسق الليل انتصافه".
قال أبو بكر: من تأول دلوك الشمس على غروبها فغير جائز أن يكون تأويل غسق الليل عنده غروبها أيضا لأنه جعل الابتداء الدلوك وغسق الليل غاية له، وغير جائز أن يكون الشيء غاية لنفسه فيكون هو الابتداء وهو الغاية، فإن كان المراد بالدلوك غروبها فغسق الليل هو إما الشفق الذي هو آخر وقت المغرب أو اجتماع الظلمة وهو أيضا غيبوبة الشفق لأنه لا يجتمع إلا بغيبوبة البياض، وإما أن يكون آخر وقت العشاء الآخرة المستحب وهو انتصاف الليل، فينتظم اللفظ حينئذ المغرب والعشاء الآخرة.
قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} قال أبو بكر: هو معطوف على قوله: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وتقديره: أقم قرآن الفجر وفيه الدلالة على وجوب القراءة في صلاة الفجر لأن الأمر على الوجوب ولا قراءة في ذلك الوقت واجبة إلا في الصلاة.
فإن قيل: معناه صلاة الفجر. قيل له: هذا غلط من وجهين: أحدهما: أنه غير جائز أن تجعل القراءة عبارة عن الصلاة لأنه صرف للكلام عن حقيقته إلى المجاز بغير دليل. والثاني: قوله في نسق التلاوة: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} ويستحيل التهجد بصلاة الفجر ليلا، و"الهاء" في قوله "به" كناية عن قرآن الفجر المذكور قبله، فثبت أن المراد حقيقة القراءة لا مكان التهجد بالقرآن المقروء في صلاة الفجر واستحالة التهجد بصلاة الفجر. وعلى أنه لو صح أن المراد ما ذكرت لكانت دلالته قائمة على وجوب القراءة في الصلاة، وذلك لأنه لم يجعل القراءة عبارة عن الصلاة إلا وهي من أركانها وفروضها.
قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} روي عن حجاج بن عمرو الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يحسب أحدكم إذا قام أول الليل إلى آخره أنه قد تهجد، لا، ولكن التهجد الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة،

(3/268)


وكذلك كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم" وعن الأسود وعلقمة قالا: "التهجد بعد النوم". والتهجد في اللغة السهر للصلاة أو لذكر الله، والهجود النوم، وقيل: التهجد التيقظ بما ينفي النوم. وقوله: {نَافِلَةً لَكَ} قال مجاهد: "وإنما كانت نافلة للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكانت طاعاته نافلة أي زيادة في الثواب ولغيره كفارة لذنوبه". وقال قتادة: "نافلة: تطوعا وفضيلة". وروى سليمان بن حيان قال: حدثنا أبو غالب قال: حدثنا أبو أمامة قال: "إذا وضعت الطهور مواضعه قعدت مغفورا، وإن قمت تصلي كانت لك فضيلة وأجرا، فقال له رجل: يا أبا أمامة أرأيت إن قام يصلي يكون له نافلة؟ قال: لا إنما النافلة للنبي صلى الله عليه وسلم كيف يكون ذلك نافلة وهو يسعى في الذنوب والخطايا يكون لك فضيلة وأجرا" فمنع أبو أمامة أن تكون النافلة لغير النبي صلى الله عليه وسلم وقد روى عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كيف أنت إذا كانت عليك أمراء يؤخرون الصلاة؟ قال قلت: فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها فإن أدركتهم فصلها معهم لك نافلة" . وروى قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الوضوء يكفر ما قبله ثم تصير الصلاة نافلة قيل له: أنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم غير مرة ولا مرتين ولا ثلاث ولا أربع ولا خمس" . فأثبت النبي صلى الله عليه وسلم بهذين الخبرين النافلة لغيره، النافلة هي الزيادة بعد الواجب وهي التطوع والفضيلة، ومنه النفل في الغنيمة وهو ما يجعله الإمام لبعض الجيش زيادة على ما يستحقه من سهامها، بأن يقول: من قتل قتيلا فله سلبه ومن أخذ شيئا فهو له.
قوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} قال مجاهد: "على طبيعته". وقيل: "على عادته التي ألفها". وفيه تحذير من إلف الفساد والمساكنة إليه فيستمر عليه. وقيل: "على أخلاقه". قال أبو بكر: شاكلته ما يشاكله ويليق به ويشبهه، فالذي يشاكل الخير من الناس الخير والصلاح والذي يشاكل الشرير الشر والفساد، وهو كقوله: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور: 26] يعني: الخبيثات من الكلام للخبيثين من الناس {وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ} [النور: 26] يعني: الطيبات من الكلام للطيبين من الناس. ويروى أن عيسى عليه السلام مر بقوم فكلموه بكلام قبيح ورد عليهم ردا حسنا، فقيل له في ذلك، فقال: "إنما ينفق كل إنسان ما عنده".
قوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} اختلف في الروح الذي سألوا عنه، فروي عن ابن عباس: "أنه جبريل". وروي عن علي: "أنه ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله بجميع ذلك". وقيل: "إنما أراد روح الحيوان" وهو ظاهر الكلام. قال قتادة: "الذي سأله عن ذلك قوم من

(3/269)


اليهود". وروح الحيوان جسم رقيق على بنية حيوانية في كل جزء. منه حياة، وفيه خلاف بين أهل العلم، وكل حيوان فهو روح، إلا أن منهم من الأغلب عليه الروح ومنهم من الأغلب عليه البدن. وقيل: أنه لم يجبهم لأن المصلحة في أن يوكلوا إلى ما في عقولهم من الدلالة عليها للارتياض باستخراج الفائدة. وروي في كتابهم أنه إن أجاب عن الروح فليس بنبي، فلم يجبهم الله عز وجل مصداقا لما في كتابهم.
والروح قد يسمى به أشياء، منها القرآن، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] سماه روحا تشبيها بروح الحيوان الذي به يحيى. والروح الأمين جبريل، وعيسى ابن مريم سمي روحا على نحو ما سمي به من القرآن.
وقوله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} أي من الأمر الذي يعلمه ربي.
وقوله تعالى: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} يعني: ما أعطيتم من العلم المنصوص عليه إلا قليلا من كثير بحسب حاجتكم إليه، فالروح من المتروك الذي لا يصلح النص عليه للمصلحة.
وقد دلت هذه الآية على جواز ترك جواب السائل عن بعض ما يسأل عنه لما فيه من المصلحة في استعمال الفكر والتدبر والاستخراج، وهذا في السائل الذي يكون من أهل النظر واستخراج المعاني، فأما إن كان مستفتيا قد بلي بحادثة احتاج إلى معرفة حكمها وليس من أهل النظر فعلى العالم بحكمها أن يجيبه عنها بما هو حكم الله عنده.
قوله تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ} الآية فيه الدلالة على إعجاز القرآن، فمن الناس من يقول: "إعجازه في النظم على حياله وفي المعاني وترتيبها على حياله" ويستدل على ذلك بتحديه في هذه الآية العرب والعجم والجن والإنس، ومعلوم أن العجم لا يتحدون به من طريق النظم فوجب أن يكون التحدي لهم من جهة المعاني وترتيبها على هذا النظام دون نظم الألفاظ. ومنهم من يأبى أن يكون إعجازه إلا من جهة نظم الألفاظ والبلاغة في العبارة، فإنه يقول: إن إعجاز القرآن من وجوه كثيرة، منها حسن النظم وجودة البلاغة في اللفظ والاختصار وجمع المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة مع تعريه من أن يكون فيه لفظ مسخوط أو معنى مدخول ولا تناقض ولا اختلاف تضاد، وجميعه في هذه الوجوه جار على منهاج واحد، وكلام العباد لا يخلو إذا طال من أن يكون فيه الألفاظ الساقطة والمعاني الفاسدة والتناقض في المعاني. وهذه المعاني التي ذكرنا من عيوب الكلام موجودة في كلام الناس من أهل سائر اللغات لا يختص باللغة العربية دون غيرها، فجائز أن يكون التحدي

(3/270)


واقعا للعجم بمثل هذه المعاني في الإتيان بها عارية مما يعيبها ويهجنها من الوجوه التي ذكرناها، ومن جهة أن الفصاحة لا تختص بها لغة العرب دون سائر اللغات وإن كانت لغة العرب أفصحها، وقد علمنا أن القرآن في أعلى طبقات البلاغة فجائز أن يكون التحدي للعجم واقعا بأن يأتوا بكلام في أعلى طبقات البلاغة بلغتهم التي يتكلمون بها.
قوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} قوله: {فَرَقْنَاهُ} يعني فرقناه بالبيان عن الحق من الباطل. وقوله: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} يعني على تثبت وتوقف ليفهموه بالتأمل ويعلموا ما فيه بالتفكر ويتفقهوا باستخراج ما تضمن من الحكم والعلوم الشريفة. وقد قيل: إنه كان ينزل منه شيء فيمكثون ما شاء الله ثم ينزل شيء آخر، وهو في معنى قوله: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 4] وروى سفيان عن عبيد المكتب قال: سئل مجاهد عن رجلين قرأ أحدهما البقرة وآل عمران ورجل قرأ البقرة جلوسهما وسجودهما وركوعهما سواء أيهما أفضل؟ قال: الذي قرأ البقرة، ثم قرأ: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} وروى معاوية بن قرة عن عبيد الله بن المغفل قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح وهو على ناقته وهو يقرأ سورة الفتح أو من سورة الفتح قراءة بينة. وروى حماد بن سلمة عن أبي حمزة الضبعي قال: قال ابن عباس: "لأن أقرأ القرآن فأرتلها وأتدبرها أحب إلي من أن أقرأ القرآن هذا". وروى الأعمش عن عمارة عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: "لا تقرءوا القرآن في أقل من ثلاث واقرأه في سبع" . وروى الأعمش عن إبراهيم عن عبد الرحمن بن يزيد أنه كان يقرأه في سبع والأسود في ست وعلقمة في خمس. وروي عن عثمان بن عفان أنه قرأ القرآن في ليلة. روى ابن أبي ليلة عن صدقة عن ابن عمر قال: بني لرسول الله صلى الله عليه وسلم سقف في المسجد واعتكف فيه في آخر رمضان وكان يصلي فيه، فأخرج رأسه فرأى الناس يصلون فقال: "إن المصلي إذا صلى يناجي ربه فليعلم أحدكم بما يناجيه" ، وفي ذلك دليل على أن المستحب الترتيل; لأنه به يعلم ما يناجي ربه به ويفهم عن نفسه ما يقرأه.

(3/271)


باب السجود على الوجه
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً} روي عن ابن عباس قال: "للوجوه". وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً} قال: "للوجوه". وقال معمر: وقال الحسن: "اللحى". وسئل ابن سيرين عن السجود على الأنف فقال: {يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً} وروى طاوس عن

(3/271)


ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أسجد على سبعة أعظم ولا أكف شعرا ولا ثوبا" ، قال طاوس: وأشار إلى الجبهة والأنف هما عظم واحد. وروى عامر بن سعد عن العباس بن عبد المطلب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سجد العبد سجد معه سبعة آراب: وجهه وكفاه وركبتاه وقدماه" . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا سجدت فمكن جبهتك وأنفك من الأرض" . وروى وائل بن حجر قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم إذا سجد وضع جبهته وأنفه على الأرض. وروى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري: أنه رأى الطين في أنف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرنبته من أثر السجود وكانوا مطروا من الليل. وروى عاصم الأحول عن عكرمة قال: رأى النبي صلى الله عليه وسلم رجلا ساجدا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تقبل صلاة إلا بمس الأنف منها ما يمس الجبين" . وهذه الأخبار تدل على أن موضع السجود هو الأنف والجبهة جميعا وروى عبد العزيز بن عبد الله قال: قلت لوهب بن كيسان: يا أبا نعيم ما لك لا تمكن جبهتك وأنفك من الأرض؟ قال: ذاك لأني سمعت جابر بن عبد الله يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد على جبهته على قصاص الشعر. وروى أبو الشعثاء قال: رأيت ابن عمر سجد فلم يضع أنفه على الأرض، فقيل له في ذلك، فقال: "إن أنفي من حر وجهي وأنا أكره أن أشين وجهي". وروي عن القاسم وسالم أنهما كانا يسجدان على جباههما ولا تمس أنوفهما الأرض. وأما حديث جابر فجائز أن يكون رأى النبي صلى الله عليه وسلم يسجد على قصاص شعره لعذر كان بأنفه تعذر معه السجود عليه، وتأويل من تأوله على الوجوه على اللحى يدل على جواز الاقتصار بالسجود على الأنف دون الجبهة وإن كان المستحب فعل السجود عليهما; لأنه معلوم أنه لم يرد به السجود على الذقن; لأن أحدا من أهل العلم لا يقول ذلك، فثبت أن المراد الأنف لقربه من الذقن، ومن مذهب أبي حنيفة أنه إن سجد على الأنف دون الجبهة أجزأه، وقال أبو يوسف ومحمد: "لا يجزئه" وإن سجد على الجبهة دون الأنف أجزأه عندهم جميعا. وروى العطاف بن خالد عن نافع عن ابن عمر قال: "إذا وقع أنفك على الأرض فقد سجدت". وروى سفيان عن حنظلة عن طاوس قال: "الجبهة والأنف من السبعة في الصلاة واحد". وروى إبراهيم بن ميسرة عن طاوس قال: "إن الأنف من الجبين" وقال: هو خيره.

(3/272)


باب ما يقال في السجود
قال الله عز وجل: {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} فمدحهم بهذا القول عند السجود، فدل على أن المسنون في السجود من الذكر هو التسبيح. وروى موسى بن أيوب عن عمه عن عقبة بن عامر قال: لما نزل: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}

(3/272)


[الواقعة:96] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في ركوعكم" فلما نزل: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اجعلوها في سجودكم" . وروى ابن أبي ليلى عن الشعبي عن صلة بن زفر عن حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه: "سبحان ربي العظيم وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاثا" . وروى قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده: "سبوح قدوس رب الملائكة والروح" . وروى ابن أبي ذئب عن إسحاق بن يزيد عن عون بن عبد الله عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا ركع أحدكم فليقل في ركوعه سبحان ربي العظيم ثلاثا، فإذا فعل ذلك فقد تم ركوعه وذكر في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاثا" . وروي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أما الركوع فعظموا فيه الرب وأما السجود فأكثروا فيه الدعاء، فإنه قمن أن يستجاب لكم" . وروي عن علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: "اللهم لك سجدت وبك آمنت" في كلام كثير. وجائز أن يكون ما رواه علي وابن عباس إنما كان يقوله قبل نزول: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] ثم لما نزل ذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل في السجود، كما رواه عقبة بن عامر. وقال أصحابنا والثوري والشافعي: "يقول في الركوع سبحان ربي العظيم ثلاثا وفي السجود سبحان ربي الأعلى ثلاثا". وقال الثوري: "يستحب للإمام أن يقولها خمسا في الركوع وفي السجود حتى يدرك الذين خلفه ثلاث تسبيحات". وقال ابن القاسم عن مالك في الركوع والسجود إذا أمكن ولم يسبح فهو يجزئ عنه، وكان لا يوقت تسبيحا. وقال مالك في السجود والركوع: "قول الناس في الركوع سبحان ربي العظيم وفي السجود سبحان ربي الأعلى لا أعرفه" فأنكره ولم يحد فيه دعاء موقتا، قال: "ولكن يمكن يديه من ركبتيه في الركوع ويمكن جبهته من الأرض في السجود" وليس فيه عنده حد.

(3/273)


باب البكاء في الصلاة
قال الله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} ومثله قوله تعالى: {خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: 58] وفيه الدلالة على أن البكاء في الصلاة من خوف الله لا يقطع الصلاة; لأن الله تعالى قد مدحهم بالبكاء في السجود ولم يفرق بين سجود الصلاة وسجود التلاوة وسجدة الشكر. وروى سفيان بن عيينة قال: حدثنا إسماعيل بن محمد بن سعد قال: سمعت عبد الله بن شداد قال: سمعت نشيج عمر رضي الله عنه وإني لفي آخر الصفوف، وقرأ في صلاة الصبح سورة يوسف حتى إذا بلغ {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] نشج ولم ينكر عليه أحد من الصحابة وقد كانوا خلفه،

(3/273)


فصار إجماعاً. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه كان يصلي ولصدره أزيز كأزيز المرجل من البكاء" . وقوله تعالى: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} يعني به أن بكاءهم في حال السجود يزيدهم خشوعا إلى خشوعهم وفيه الدلالة على أن مخافتهم لله تعالى حتى تؤديهم إلى البكاء داعية إلى طاعة الله وإخلاص العبادة على ما يجب من القيام بحقوق نعمه. والله الموفق.

(3/274)


باب الجهر بالقراءة في الصلاة والدعاء
قال الله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} روي عن ابن عباس رواية وعائشة ومجاهد وعطاء: "لا تجهر بدعائك ولا تخافت به". وروي عن ابن عباس أيضا وقتادة: أن المشركين كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر ولا يسمع من خلفه إذا خافت، وذلك بمكة، فأنزل الله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} وأراد به القراءة في الصلاة. وقال الحسن: "لا تجهر بالصلاة بإشاعتها عند من يؤذيك ولا تخافت بها عند من يلتمسها" فكان عند الحسن أنه أريد ترك الجهر في حال وترك المخافتة في أخرى. وقيل: "ولا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بجميعها وابتغ بين ذلك سبيلا بأن تجهر بصلاة الليل وتخافت بصلاة النهار على ما أمرناك به". وروي عن عبادة بن نسي عن غضيف بن الحارث قال: سألت عائشة أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجهر بالقرآن أو يخافت؟ قالت: ربما جهر وربما خافت. وروى أبو خالد الوالبي عن أبي هريرة: أنه كان إذا قام من الليل يخفض طورا ويرفع طورا وقال: "هكذا كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم". وروي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى الناس يصلون في آخر رمضان فقال: "إن المصلي إذا صلى يناجي ربه فليعلم أحدكم بما يناجيه ولا يجهر بعضكم على بعض" . وروى أبو إسحاق عن الحارث عن علي قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفع الرجل صوته بالقرآن قبل العشاء وبعدها يغلط أصحابه في الصلاة. ورويت أخبار في الجهر بالقراءة في صلاة الليل، روى كريب عن ابن عباس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في بعض حجره فيسمع قراءته من كان خارجا. وروى إبراهيم عن علقمة قال: "صليت مع عبد الله ليلة فكان يرفع صوته بالقراءة فيسمع أهل الدار". وروي لأبي بكر: "كان إذا صلى خفض صوته وأن عمر كان إذا صلى رفع صوته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: لم تفعل هذا قال: أناجي ربي وقد علم حاجتي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أحسنت وقال لعمر: لم تفعل هذا؟ فقال: أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان، فقال: أحسنت فلما نزل: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ} الآية، قال لأبي بكر: "ارفع شيئا" وقال لعمر: "اخفض شيئا". وروى الزهري عن عروة عن عائشة قالت سمع النبي صلى الله عليه وسلم صوت أبي موسى فقال: "لقد أوتي أبو موسى

(3/274)


من مزامير آل داود"، فهذا يدل على أن رفع الصوت لم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم. وروى عبد الرحمن بن عوسجة عن البراء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "زينوا القرآن بأصواتكم" . وروى حماد عن إبراهيم عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول: "حسنوا أصواتكم بالقرآن". وروى ابن جريج عن طاوس قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحسن الناس قراءة؟ قال: "الذي إذا سمعت قراءته رأيت أنه يخشى الله" . آخر سورة بني إسرائيل.

(3/275)