أحكام القرآن للجصاص ط العلمية

ومن سورة الكهف
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} فيه بيان أن ما جعله زينة لها من النبات والحيوان وغير ذلك سيجعله صعيدا جرزا، والصعيد: الأرض، والصعيد: التراب. وما ذكره الله تعالى من إحالته ما عليها مما هو زينة لها صعيدا هو مشاهد معلوم من طبع الأرض; إذ كل ما يحصل فيها من نبات أو حيوان أو حديد أو رصاص أو نحوه من الجواهر يستحيل ترابا، فإذا كان الله جل وعلا قد أخبر أن ما عليها يصيره صعيدا جرزا وأباح مع ذلك التيمم بالصعيد وجب بعموم ذلك جواز التيمم بالصعيد الذي كان نباتا أو حيوانا أو حديدا أو رصاصا أو غير ذلك لإطلاقه تعالى الأمر بالتيمم بالصعيد. وفي ذلك دليل على صحة قول أصحابنا في النجاسات إذا استحالت أرضا أنها طاهرة; لأنها في هذه الحال أرض ليست بنجاسة، وكذلك قالوا في نجاسة أحرقت فصارت رمادا أنها طاهر; لأن الرماد في نفسه طاهر وليس بنجاسة، ولا فرق بين رماد النجاسة وبين رماد الخشب الطاهر; إذ النجاسة هي التي توجد على ضرب من الاستحالة وقد زال ذلك عنها بالإحراق وصارت إلى ضرب الاستحالة التي لا توجب التنجيس، وكذلك الخمر إذا استحالت خلا فهو طاهر; لأنه في الحال ليس بخمر لزوال الاستحالة الموجبة لكونها خمراً.
قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} فيه الدلالة على أن على الإنسان أن يهرب بدينه إذا خاف الفتنة فيه، وأن عليه أن لا يتعرض لإظهار كلمة الكفر وإن كان على وجه التقية، ويدل على أنه إذا أراد الهرب بدينه خوف الفتنة أن يدعو بالدعاء الذي حكاه الله عنهم; لأن الله قد رضي ذلك من فعلهم وأجاب دعاءهم وحكاه لنا على جهة الاستحسان لما كان منهم.
قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَداً} معناه: ليظهر المعلوم في اختلاف الحزبين في مدة لبثهم لما في ذلك من العبرة.

(3/276)


قوله تعالى: {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} قيل فيه وجوه: أحدها: ما ألبسهم الله تعالى من الهيبة لئلا يصل إليهم أحد حتى يبلغ الكتاب أجله فيهم وينتبهوا من رقدتهم، وذلك وصفهم في حال نومهم لا بعد اليقظة. والثاني: أنهم كانوا في مكان موحش من الكهف أعينهم مفتوحة يتنفسون ولا يتكلمون. والثالث: أن أظفارهم وشعورهم طالت فلذلك يأخذ الرعب منهم.
قوله تعالى: {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} لما حكى الله ذلك عنهم غير منكر لقولهم علمنا أنهم كانوا مصيبين في إطلاق ذلك; لأن مصدره إلى ما كان عندهم من مقدار اللبث وفي اعتقادهم لا عن حقيقة اللبث في المغيب، وكذلك هذا في قوله: {فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ} [البقرة: 259] ولم ينكر الله ذلك; لأنه أخبر عما عنده وفي اعتقاده لا عن مغيب أمره. وكذلك قول موسى عليه السلام للخضر: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف: 74] و {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً} [الكهف: 71] يعني: عندي كذلك. ونحوه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل ذلك لم يكن" حين قال ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت؟
قوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} الآية يدل على جواز خلط دراهم الجماعة والشرى بها والأكل من الطعام الذي بينهم بالشركة وإن كان بعضهم قد يأكل أكثر مما يأكل غيره، وهذا الذي يسميه الناس المناهدة ويفعلونه في الأسفار، وذلك لأنهم قالوا: فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة، فأضاف الورق إلى الجماعة، ونحوه قوله تعالى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] فأباح لهم بذلك خلط طعام اليتيم بطعامهم وأن تكون يده مع أيديهم مع جواز أن يكون بعضهم أكثر أكلا من غيره. وفي هذه الآية دلالة على جواز الوكالة بالشرى; لأن الذي بعثوا به كان وكيلا لهم.

(3/277)


باب الاستثناء في اليمين
الاستثناء في اليمين قال الله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} قال أبو بكر: هذا الضرب من الاستثناء يدخل لرفع حكم الكلام حتى يكون وجوده وعدمه سواء، وذلك لأن الله تعالى ندبه إلى الاستثناء بمشيئة الله تعالى لئلا يصير كاذبا بالحلف، فدل على أن حكمه ما وصفنا. ويدل عليه أيضا قوله عز وجل حاكيا عن موسى عليه السلام: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} [الكهف: 69] فلم يصبر ولم يك كاذبا لوجود الاستثناء في كلامه، فدل على أن معناه ما وصفنا من دخوله في الكلام لرفع حكمه فوجب أن لا يختلف حكمه في دخوله على اليمين أو على إيقاع الطلاق أو على العتاق. وقد روى

(3/277)


أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه" وفي بعض الألفاظ "فقد استثنى" . قال أبو بكر: ولم يفرق بين شيء من الأيمان، فهو على جميعها. وعن عبد الله بن مسعود من قوله مثله. وعن عطاء وطاوس ومجاهد وإبراهيم قالوا: الاستثناء في كل شيء". وقد روى إسماعيل بن عياش عن حميد بن مالك اللخمي عن مكحول عن معاذ بن جبل قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قال الرجل لعبده أنت حر إن شاء الله فهو حر، وإذا قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله فليست بطالق" . وهذا حديث شاذ واهي السند غير معمول عليه عند أهل العلم.
وقد اختلف أهل العلم بعد اتفاقهم على صحة الاستثناء في الوقت الذي يصح فيه الاستثناء على ثلاثة أنحاء، فقال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وأبو العالية: "إذا استثنى بعد سنة صح استثناؤه". وقال الحسن وطاوس: "يجوز الاستثناء ما دام في المجلس". وقال إبراهيم وعطاء والشعبي: "لا يصح الاستثناء إلا موصولا بالكلام". وروي عن إبراهيم في الرجل يحلف ويستثني في نفسه قال: "لا حتى يجهر بالاستثناء كما جهر بيمينه"، وهذا محمول عندنا على أنه لا يصدق في القضاء إذا ادعى أنه كان استثنى ولم يسمع منه وقد سمع منه اليمين. وقال أصحابنا وسائر الفقهاء: "لا يصح الاستثناء إلا موصولا بالكلام" وذلك لأن الاستثناء بمنزلة الشرط والشرط لا يصح ولا يثبت حكمه إلا موصولا بالكلام من غير فصل، مثل قوله: "أنت طالق إن دخلت الدار" فلو قال: "أنت طالق" ثم قال: "إن دخلت الدار" بعد ما سكت، لم يوجب ذلك تعلق الطلاق بالدخول، ولو جاز هذا لجاز أن يقول لامرأته: أنت طالق ثلاثا، ثم يقول بعد سنة: إن شاء الله، فيبطل الطلاق ولا تحتاج إلى زوج ثان في إباحتها للأول، وفي تحريم الله تعالى إياها عليه بالطلاق الثلاث إلا بعد زوج دلالة على بطلان الاستثناء بعد السكوت، ولما صح ذلك في الإيقاع في أنه لا يصح الاستثناء إلا موصولا بالكلام كان كذلك حكم اليمين. وأيضا قال الله تعالى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أنه إن برأ ضربها، فأمره الله تعالى أن يأخذ بيده ضغثا ويضرب به ولا يحنث، ولو صح الاستثناء متراخيا عن اليمين لأمره بالاستثناء فيستغني به عن ضربها بالضغث وغيره. ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" ، ولو جاز الاستثناء متراخيا عن اليمين لأمره بالاستثناء واستغنى عن الكفارة. وقال صلى الله عليه وسلم: "إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني" ، ولم يقل إلا قلت إن شاء الله.
فإن قيل: روى قيس عن سماك عن عكرمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لأغزون قريشاً!

(3/278)


والله لأغزون قريشاً!" ثم سكت ساعة فقال: "إن شاء الله" فقد استثنى بعد السكوت. قيل له رواه شريك عن سماك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والله لأغزون قريشا!" ثلاثا، ثم قال في آخرهن: "إن شاء الله" فأخبر أنه استثنى في آخرهن، وذلك يقتضي اتصاله باليمين، وهو أولى لما ذكرنا. وفي هذا الخبر دلالة أيضا على أنه إذا حلف بأيمان كثيرة ثم استثنى في آخرهن كان الاستثناء راجعا إلى الجميع.
واحتج ابن عباس ومن تابعه في إجازة الاستثناء متراخيا عن اليمين بقوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} فتأولوا قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} على الاستثناء، وهذا غير واجب; لأن قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} يصح أن يكون كلاما مبتدأ مستقلا بنفسه من غير تضمين له بما قبله، وغير جائز فيما كان هذا سبيله تضمينه بغيره. وقد روى ثابت عن عكرمة في قوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} قال: "إذا غضبت" فثبت بذلك أنه إنما أراد الأمر بذكر الله تعالى وأن يفزع إليه عند السهو والغفلة، وقد روي في التفسير أن قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} : إنما نزل فيما سألت قريش عن قصة أصحاب الكهف وذي القرنين، فقال: "سأخبركم" فأبطأ عنه جبريل عليهما السلام أياما، ثم أتاه يخبرهم، وأمره الله تعالى بعد ذلك بأن لا يطلق القول على فعل يفعله في المستقبل إلا مقرونا بذكر مشيئة الله تعالى. وفي نحو ذلك ما روى هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال سليمان بن داود: والله لأطوفن الليلة على مائة امرأة فتلد كل امرأة منهن غلاما يضرب بالسيف في سبيل الله، ولم يقل إن شاء الله، فلم تلد منهن إلا واحدة ولدت نصف إنسان".
قوله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً} روي عن قتادة أن هذا حكاية عن قول اليهود; لأنه قال: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا} وقال مجاهد والضحاك وعبيد بن عمير: "إنه إخبار من الله تعالى بأن هذا كانت مدة لبثهم، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل إن حاجك أهل الكتاب الله أعلم بما لبثوا". وقيل فيه: "الله أعلم بما لبثوا إلى الوقت الذي نزل فيه القرآن بهذا". وقيل: "قل الله أعلم بما لبثوا إلى أن ماتوا". فأما قول قتادة فليس بظاهر; لأنه لا يجوز صرف أخبار الله إلى أنه حكاية عن غيره إلا بدليل، ولأنه يوجب أن يكون بيان مدة لبثهم غير مذكور في الكتاب، مع العلم بأن الله قد أراد منا الاعتبار والاستدلال به على عجيب قدرة الله تعالى ونفاذ مشيئته.
قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} قيل في ما شاء الله وجهان: أحدهما: "ما شاء الله كان" فحذف، كقوله تعالى: {فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ

(3/279)


تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 35] فحذف منه "فافعل". والثاني: "هو ما شاء الله". وقد أفاد أن قول القائل منا "ما شاء الله" ينتظم رد العين وارتباط النعمة وترك الكبر; لأن فيه إخبارا أنه لو قال ذلك لم يصبها ما أصاب.
قوله تعالى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ} فيه بيان أنه ليس من الملائكة; لأنه أخبر أنه من الجن، وقال الله تعالى: {وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} [الحجر:27] فهو جنس غير جنس الملائكة كما أن الإنس جنس غير جنس الجن. وروي أن الملائكة أصلهم من الريح كما أن أصل بني آدم من الأرض وأصل الجن من النار.
قوله تعالى: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} والناسي له كان يوشع بن نون، فأضاف النسيان إليهما كما يقال: نسي القوم زادهم، وإنما نسيه أحدهم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث ولابن عم له: "إذا سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أحدكما" ، وإنما يؤذن ويقيم أحدهما، وقال: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] وإنما هم من الإنس.
قوله تعالى: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} يدل على إباحة إظهار مثل هذا القول عندما يلحق الإنسان نصب أو تعب في سعي في قربة، وأن ذلك ليس بشكاية مكروهة.

(3/280)


مطلب فعل الحكيم للضرورة لا يجوز أن يستنكرر
وما ذكره الله تعالى في قصة موسى عليه السلام مع الخضر فيه بيان أن فعل الحكيم للضرر لا يجوز أن يستنكر إذا كان فيه تجويز فعله على وجه الحكمة المؤدية إلى المصلحة، وأن ما يقع من الحكيم من ذلك بخلاف ما يقع من السفيه، وهو مثل الصبي الذي إذا حجم أو سقي الدواء استنكر ظاهره وهو غير عالم بحقيقة معنى النفع والحكمة فيه، فكذلك ما يفعل الله من الضرر أو ما يأمر به غير جائز استنكاره بعد قيام الدلالة أنه لا يفعل إلا ما هو صواب وحكمة، وهذا أصل كبير في هذا الباب. والخضر لم يحتمل موسى أكثر من ثلاث مرات، فدل على أنه جائز للعالم احتمال من يتعلم منه المرتين والثلاث على مخالفة أمره، وأنه جائز له بعد الثلاث ترك احتماله.

(3/280)


في الكنز ما هو
قال الله تعالى: {وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا} قال سعيد بن جبير: "علم". وقال عكرمة: "مال". وقال ابن عباس: "ما كان بذهب ولا فضة وإنما كان علما صحفا".

(3/280)


ومن سورة مريم
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيّاً} فمدحه بإخفاء الدعاء، وفيه الدليل على أن إخفاءه أفضل من الجهر به، ونظيره قوله تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وروى سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم: "خير الذكر الخفي وخير الرزق ما يكفي" . وعن الحسن أنه كان يرى أن يدعو الإمام في القنوت ويؤمن من خلفه، وكان لا يعجبه رفع الأصوات. وروى أبو موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فرأى قوما قد رفعوا أصواتهم بالدعاء فقال: "إنكم لا تدعون أصما ولا غائبا إن الذي تدعونه أقرب إليكم من حبل الوريد" .
قوله تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائي} روي عن مجاهد وقتادة وأبي صالح والسدي: أن الموالي العصبة وهم بنو أعمامه، خافهم على الدين; لأنهم كانوا شرار بني إسرائيل.
قوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} سأل الله عز وجل أن يرزقه ولدا ذكرا يلي أمور الدين والقيام به بعد موته لخوفه من بني أعمامه على تبديل دينه بعد وفاته. وروي عن قتادة عن الحسن في قوله تعالى: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} قال: "نبوته وعلمه". وروى خصيف عن عكرمة عن ابن عباس قال: "كان عقيما لا يولد له ولد فسأل ربه الولد فقال يرثني ويرث من آل يعقوب النبوة"، وعن أبي صالح مثله. فذكر ابن عباس أنه يرث المال ويرث من آل يعقوب النبوة فقد أجاز إطلاق اسم الميراث على النبوة فكذلك يجوز أن يعني بقوله: {يَرِثُنِي} يرث علمي. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم" ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كونوا على مشاعركم" يعني بعرفات "فإنكم على إرث من إرث إبراهيم" . وروى الزهري عن عروة عن عائشة أن أبا بكر الصديق قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا نورث ما تركنا صدقة" . وروى الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: سمعت عمر ينشد نفرا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم عثمان وعبد الرحمن بن

(3/282)


عوف والزبير وطلحة: أنشدكم بالله الذي به تقوم السموات والأرض أتعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نورث ما تركنا صدقة؟" قالوا: نعم فقد ثبت برواية هذه الجماعة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الأنبياء لا يورثون المال، ويدل على أن زكريا لم يرد بقوله: "يَرِثُنِي" المال أن نبي الله لا يجوز أن يأسف على مصير ماله بعد موته إلى مستحقه، وأنه إنما خاف أن يستولي بنو أعمامه على علومه وكتابه فيحرفونها ويستأكلون بها فيفسدون دينه ويصدون الناس عنه.
قوله تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} فيه الدلالة على أن ترك الكلام واستعمال الصمت قد كان قربة، لولا ذلك لما نذرته مريم ولما فعلته بعد النذر. وقد روى معمر عن قتادة في قوله: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} قال: في بعض الحروف: "صمتا" ويدل على أن مرادها الصمت. قولها: {فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً} وهذا منسوخ بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى عن صمت يوم إلى الليل" . وقال السدي: كان من صام في ذلك الزمان لا يكلم الناس فأذن لها في هذا المقدار من الكلام، وقد كان الله تعالى حبس زكريا عن الكلام ثلاثا وجعل ذلك آية له على الوقت الذي يخلق له فيه الولد، فكان ممنوعا من الكلام من غير آفة ولا خرس.
قوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ} قال أبو عبيدة: المحراب صدر المجلس، ومنه محراب المسجد. وقيل: إن المحراب الغرفة، ومنه قوله تعالى: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [صّ: 21] وقيل: المحراب المصلى.
وقوله تعالى: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ} قيل فيه: إنه أشار إليهم وأومأ بيده، فقامت الإشارة في هذا الموضع مقام القول; لأنها أفادت ما يفيده القول، وهذا يدل على أن إشارة الأخرس معول عليها قائمة فيما يلزمه مقام القول. ولم يختلف الفقهاء أن إشارة الصحيح لا تقوم مقام قوله، وإنما كان في الأخرس كذلك; لأنه بالعادة والمران والضرورة الداعية إليها قد علم بها ما يعلم بالقول، وليس للصحيح في ذلك عادة معروفة فيعمل عليها، ولذلك قال أصحابنا فيمن اعتقل لسانه فأومأ وأشار بوصية أو غيرها أنه لا يعمل على ذلك; لأنه ليس له عادة جارية بذلك حتى يكون في معنى الأخرس.
قوله تعالى: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً} قال قائلون: إنما تمنت الموت للحال التي دفعت إليها من الولادة من غير ذكر. وهذا خطأ; لأن هذه حال كان الله تعالى قد ابتلاها بها وصيرها إليها وقد كانت هي راضية بقضاء الله تعالى لها بذلك مطيعة لله، وتسخط فعل الله وقضائه معصية; لأن الله تعالى لا يفعل إلا ما هو صواب

(3/283)


وحكمة، فعلمنا أنها لم تتمن الموت لهذا المعنى وإنما تمنته لعلمها بأن الناس سيرمونها بالفاحشة فيأثمون بسببها، فتمنت أن تكون قد ماتت قبل أن يعصي الناس الله بسببها.
قوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا} قال ابن عباس وقتادة والضحاك والسدي: "جبريل" عليه السلام. وقال مجاهد والحسن وسعيد بن جبير ووهب بن منبه: "الذي ناداها عيسى" عليه السلام وقوله تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} قال مجاهد: "معلما للخير". وقال غيره: "جعلني نفاعا". وقوله تعالى: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} قيل: إنه عنى زكاة المال، وقيل: أراد التطهير من الذنوب. قوله تعالى: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي} إلى قوله: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} يدل على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بصفات الحمد والخير إذا أراد تعريفها إلى غيره لا على جهة الافتخار، وهو أيضا مثل قول يوسف عليه السلام: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] فوصف نفسه بذلك تعريفا للملك بحاله.
قوله تعالى: {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} روي عن الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير والسدي قالوا: "دهرا طويلا". وعن ابن عباس وقتادة والضحاك: "مليا: سويا سليما من عقوبتي". قال أبو بكر: هذا من قولهم فلان ملي بهذا الأمر إذا كان كامل الأمر فيه مضطلعا به.
قوله تعالى: {أَضَاعُوا الصَّلاةَ} قال عمر بن عبد العزيز: "أضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها" ويدل على هذا التأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس التفريط في النوم إنما التفريط أن يدعها حتى يدخل وقت الأخرى" . وقال محمد بن كعب: "أضاعوها بتركها".
قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} قال ابن عباس ومجاهد وابن جريج: "مثلا وشبيها" وقوله تعالى: {لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً} قال ابن عباس: "لم تلد مثله العواقر". وقال مجاهد: "لم نجعل له من قبل مثلا". وقال قتادة وغيره: "لم يسم أحد قبله باسمه". وقيل في معنى قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} أن أحدا لا يستحق أن يسمى إلها غيره.
وقوله تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} فيه الدلالة على أن سامع السجدة وتاليها سواء في حكمها وأنهم جميعا يسجدون; لأنه مدح السامعين لها إذا سجدوا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه تلا سجدة يوم الجمعة على المنبر فنزل وسجدها وسجد المسلمون معه. وروى عطية عن ابن عمر وسعيد بن جبير وسعيد بن

(3/284)


المسيب قالوا: "السجدة على من سمعها". وروى أبو إسحاق عن سليمان بن حنظلة الشيباني قال: قرأت عند ابن مسعود سجدة فقال: "إنما السجدة على من جلس لها"، وروى سعيد بن المسيب عن عثمان مثله. قال أبو بكر: قد أوجبا السجدة على من جلس لها، ولا فرق بين أن يجلس للسجدة بعد أن يكون قد سمعها; إذ كان السبب الموجب لها هو السماع، ثم لا يختلف حكمها في الوجوب بالنية، وفي هذه الآية دلالة أيضا على أن البكاء في الصلاة من خوف الله لا يفسدها.
قوله تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً} فيه الدلالة على أن ملك الوالد لا يبقى على ولده فيكون عبدا له يتصرف فيه كيف شاء وأنه يعتق عليه إذا ملكه، وذلك لأنه تعالى فرق بين الولد والعبد، فنفى بإثباته العبودية النبوة. وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه بالشرى"، وهو كقوله صلى الله عليه وسلم: "الناس غاديان فبائع نفسه فموبقها ومشتر نفسه فمعتقها" ، ولم يرد بذلك أن يبتدئ لنفسه عتقا بعد الشرى، وإنما معناه: معتقها بالشرى، فكذلك قوله: "فيشتريه فيعتقه" ، وهو كقوله: "فيشتريه فيملكه" وليس المراد منه استئناف ملك آخر بعد الشرى بل يملكه بالشرى. ويدل على أنه يعتق عليه بنفس الشرى أن ولد الحر من أمته حر الأصل ولا يحتاج إلى استئناف عتق، وكذلك المشتري لابنه; لأنه لو احتاج المشتري لابنه إلى استئناف عتق لاحتاج إليه أيضا الابن المولود من أمته; إذ كانت الأمة مملوكة.
فإن قيل: إن ولد أمته منه حر الأصل فلم يحتج من أجل ذلك إلى استئناف عتق، والولد المشترى مملوك فلا يعتق بالشرى حتى يستأنف له عتقا. قيل له: اختلافهما من هذا الوجه لا يمنع وجه الاستدلال منه على ما وصفنا في أن الإنسان لا يبقى له ملك على ولده وأنه واجب أن يعتق عليه إذا ملكه، وذلك لأنه لو جاز له أن يبقى له ملك على ولده لوجب أن يكون ولده من أمته رقيقا إلى أن يعتقه. وإنما اختلف الولد المولود من أمته والولد المشترى في كون الأول حر الأصل وكون الآخر معتقا عليه ثابت الولاء منه، من قبل أن الولد المشترى قد كان ملكا لغيره فلا بد إذا اشتراه من وقوع العتاق عليه حتى يستقر ملكه; إذ غير جائز إيقاع العتق في ملك بائعه; لأنه لو وقع العتاق في ملكه لبطل البيع; لأنه بعد العتق، ولا يصح أيضا وقوعه في حال البيع; لأن حصول العتق ينفي صحة البيع في الحال التي يقع فيها فوجب أن يعتق في الثاني من ملكه، ولا يصح أيضا وقوع العتاق في حال الملك; لأنه يكون إيقاع عتق لا في ملك فلذلك وجب أن يعتق في الثاني من ملكه، وأما الولد المولود في ملكه من جاريته فإنا لو أثبتنا له ملكا فيه كان هو

(3/285)


المستحق للعتق في حال الملك، فلا جائز أن يثبت ملكه مع وجود ما ينافيه وهو استحقاق العتاق في تلك الحال فكان حر الأصل ولم يثبت له ملك فيه، ولو ثبت ملكه ابتداء فيه لكان مستحقا بالعتق في حال ما يريد إثباته لوجود سببه الموجب له وهو ملكه للأم، وغير جائز إثبات ملك ينتفي في حال وجوده، واختلافهما من هذا الوجه لا ينفي أن يكون ملكه لولده في الحالين موجبا لعتقه وحريته.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} قيل فيه وجهان: أحدهما: في الآخرة يحب بعضهم بعضا كمحبة الوالد للولد، وقال ابن عباس ومجاهد: "ودا في الدنيا" آخر سورة مريم.

(3/286)


ومن سورة طه
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} قال الحسن: "استوى بلطفه وتدبيره". وقيل: استولى. وقوله تعالى: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} قال ابن عباس: "السر ما حدث به العبد غيره في خفى، وأخفى منه ما أضمره في نفسه مما لم يحدث به غيره". وقال سعيد بن جبير وقتادة: "السر ما أضمره العبد في نفسه، وأخفى منه ما لم يكن ولا أضمره أحد".
قوله تعالى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} قال الحسن وابن جريج: أمره بخلع نعليه ليباشر بقدمه بركة الوادي المقدس. قال أبو بكر: يدل عليه قوله عقيب ذلك: {إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً} فتقديره: اخلع نعليك; لأنك بالوادي المقدس. وقال كعب وعكرمة: "كانت من جلد حمار ميت فلذلك أمر بخلعها". قال أبو بكر: ليس في الآية دلالة على كراهة الصلاة والطواف في النعل، وذلك لأن التأويل إن كان هو الأول فالمعني فيه مباشرة الوادي بقدمه تبركا به كاستلام الحجر وتقبيله تبركا به، فيكون الأمر بخلع النعل مقصورا على تلك الحال في ذلك الوادي المقدس بعينه، وإن كان التأويل هو الثاني فجائز أن يكون قد كان محظورا لبس جلد الحمار الميت وإن كان مدبوغا، فإن كان كذلك فهو منسوخ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما إهاب دبغ فقد طهر" ، وقد صلى النبي صلى الله عليه وسلم في نعليه ثم خلعهما في الصلاة فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال: "ما لكم خلعتم نعالكم"؟ قالوا: خلعت فخلعنا، قال: "فإن جبريل أخبرني أن فيها قذرا" ، فلم يكره صلى الله عليه وسلم الصلاة في النعل، وأنكر على الخالعين خلعها، وأخبرهم أنه إنما خلعها; لأن جبريل أخبره أن فيها قذرا وهذا عندنا. محمول على أنها كانت نجاسة يسيرة; لأنها لو كانت كثيرة لاستأنف الصلاة.
قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} قال الحسن ومجاهد: "لتذكرني فيها بالتسبيح والتعظيم". وقيل فيه: "لأن أذكرك بالثناء والمدح". وروى الزهري عن

(3/287)


سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم نام عن صلاة الصبح حتى طلعت الشمس فصلاها بعد طلوع الشمس وقال: "إن الله تعالى يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} ". وروى همام بن يحيى عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك وتلا: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} " وهذا يدل على أن قوله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} قد أريد به فعل الصلاة المتروكة، وكون ذلك مرادا بالآية لا ينفي أن تكون المعاني التي تأولها عليها الآخرون مرادة أيضا; إذ هي غير متنافية، فكأنه قال: أقم الصلاة إذا ذكرت الصلاة المنسية لتذكرني فيها بالتسبيح والتعظيم لأن أذكرك بالثناء والمدح، فيكون جميع هذه المعاني مرادة بالآية. وهذا الذي ورد به الأثر من إيجاب قضاء الصلاة المنسية عند الذكر لا خلاف بين الفقهاء فيه، وقد روي عن بعض السلف فيه قول شاذ ليس العمل عليه، فروى إسرائيل عن جابر عن أبي بكر بن أبي موسى عن سعد قال: "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها وليصل مثلها من الغد" وروى الجريري1 عن أبي نضرة عن سمرة بن جندب قال: إذا فاتت الرجل الصلاة صلاها من الغد لوقتها، فذكرت ذلك لأبي سعيد فقال: صلها إذا ذكرتها. وهذان القولان شاذان، وهما مع ذلك خلاف ما ورد به الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من أمره بقضاء الفائتة عند الذكر من غير فعل صلاة أخرى غيرها. وتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} عقيب ذكر الفائتة وبعد قوله: "من نسي صلاة فليصلها إذا ذكرها" يوجب أن يكون مراد الآية قضاء الفائتة عند الذكر، وذلك يقتضي الترتيب في الفوائت; لأنه إذا كان مأمورا بفعل الفائتة عند الذكر وكان ذلك في وقت صلاة فهو منهي لا محالة عن فعل صلاة الوقت في تلك الحال، فأوجب ذلك فساد صلاة الوقت إن قدمها على الفائتة; لأن النهي يقتضي الفساد حتى تقوم الدلالة على غيره.
وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال أصحابنا: "الترتيب بين الفوائت وبين صلاة الوقت واجب في اليوم والليلة وما دونهما إذا كان في الوقت سعة للفائتة ولصلاة الوقت، فإن زاد على اليوم والليلة لم يجب الترتيب" والنسيان يسقط الترتيب عندهم، أعني نسيان الصلاة الفائتة. وقال مالك بن أنس بوجوب الترتيب وإن نسي الفائتة، إلا أنه يقول: "إن كانت الفوائت كثيرة بدأ بصلاة الوقت ثم صلى ما كان نسي، وإن كانت الفوائت خمسا ثم ذكرهن قبل صلاة الصبح صلاهن قبل الصبح وإن فات وقت الصبح، وإن صلى الصبح ثم ذكر صلوات صلى ما نسي، فإذا فرغ أعاد الصبح ما دام في الوقت
ـــــــ
1 قوله: "الجريري" بضم الجيم وبالمهمليتين هو سعيد بن إياس كذا في خلاصة تهذيب الكمال "لمصححه".

(3/288)


فإذا فات الوقت لم يعد". وقال الثوري بوجوب الترتيب، إلا أنه لم يرو عنه الفرق بين القليل والكثير; لأنه سئل عمن صلى ركعة من العصر ثم ذكر أنه صلى الظهر على غير وضوء أنه يشفع بركعة ثم يسلم فيستقبل الظهر ثم العصر. وروي عن الأوزاعي روايتان في إحداهما إسقاط الترتيب وفي الأخرى إيجابه. وقال الليث: "إذا ذكرها وهو في صلاة وقد صلى ركعة فإن كان مع إمام فليصل معه حتى إذا سلم صلى التي نسي ثم أعاد الصلاة التي صلاها معه". وقال الحسن بن صالح: "إذا صلى صلوات بغير وضوء أو نام عنهن قضى الأولى فالأولى، فإن جاء وقت صلاة تركها وصلى ما قبلها وإن فاته وقتها حتى يبلغها". وقال الشافعي: "الاختيار أن يبدأ بالفائتة، فإن لم يفعل وبدأ بصلاة الوقت أجزأه ولا فرق بين القليل والكثير". قال أبو بكر: وروى مالك عن نافع عن ابن عمر قال: "من نسي صلاة وذكرها وهو خلف إمام فليصل مع الإمام، فإذا فرغ صلى التي نسي ثم يصلي الأخرى". وروى عباد بن العوام عن همام عن محمد بن سيرين عن كثير بن أفلح قال: "أقبلنا حتى دنونا من المدينة وقد غابت الشمس، وكان أهل المدينة يؤخرون المغرب، فرجوت أن أدرك معهم الصلاة، فأتيتهم وهم في صلاة العشاء فدخلت معهم وأنا أحسبها المغرب، فلما صلى الإمام قمت فصليت المغرب ثم صليت العشاء، فلما أصبحت سألت عن الذي فعلت، فكلهم أخبروني بالذي صنعت، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بها يومئذ متوافرين". قال سعيد بن المسيب والحسن وعطاء بوجوب الترتيب. فهؤلاء السلف قد روي عنهم إيجاب الترتيب ولم يرو عن أحد من نظرائهم خلاف فصار ذلك إجماعا من السلف.
ويدل على وجوب الترتيب في الفوائت ما روى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر قال: جاء عمر يوم الخندق فجعل يسب كفار قريش ويقول: يا رسول الله ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغيب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأنا والله ما صليت بعد فنزل وتوضأ ثم صلى العصر بعدما غربت الشمس ثم صلى المغرب بعدما صلى العصر" . وروي عنه صلى الله عليه وسلم: أنه فاتته أربع صلوات حتى كان هوي من الليل، فصلى الظهر ثم العصر ثم المغرب ثم العشاء. وهذا الخبر يدل من وجهين على وجوب الترتيب: أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فلما صلاهن على الترتيب اقتضى ذلك إيجابه. والوجه الآخر: أن فرض الصلاة مجمل في الكتاب، والترتيب وصف من أوصاف الصلاة، وفعل النبي صلى الله عليه وسلم إذا ورد على وجه البيان فهو على الوجوب، فلما قضى الفوائت على الترتيب كان فعله ذلك بيانا للفرض المجمل، فوجب أن يكون على الوجوب. ويدل على وجوبه أيضا أنهما صلاتان فرضان قد جمعهما وقت واحد في اليوم

(3/289)


والليلة فأشبهتا صلاتي عرفة والمزدلفة، فلما لم يجز إسقاط الترتيب فيهما وجب أن يكون ذلك حكم الفوائت فيما دون اليوم والليلة، وقال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: إني ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن تغيب، فلم ينكره النبي صلى الله عليه وسلم ولم يأمره بالإعادة، فيه الدلالة على أن من صلى العصر عند غروب الشمس فلا إعادة عليه.
قوله تعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} يعني أني جعلت من رآك أحبك حتى أحبك فرعون فسلمت من شره وأحبتك امرأته آسية بنت مزاحم فتبنتك.
قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} قال قتادة: "لتغذى على محبتي وإرادتي". وقوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} قال سعيد بن جبير: سألت ابن عباس عن قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} فقال: "استأنف لها نهارا يا ابن جبير" ثم ذكر في معناه وقوعه في محنة بعد محنة خلصه الله منها، أولها أنها حملته في السنة التي كان فرعون يذبح الأطفال، ثم إلقاؤه في اليم، ثم منعه الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم جره لحية فرعون حتى هم بقتله، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة فدرأ ذلك عنه قتل فرعون، ثم مجيء رجل من شيعته يسعى ليخبره عما عزموا عليه من قتله. وقال مجاهد في قوله تعالى: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} معناه: خلصناك خلاصا.
وقوله تعالى: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} فإن الاصطناع الإخلاص بالألطاف. ومعنى: {لِنَفْسِي} لتصرف على إرادتي ومحبتي.
قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} قيل في وجه سؤال موسى عليه السلام عما في يده أنه على وجه التقرير له على أن الذي في يده عصا ليقع المعجز لها بعد التثبت فيها والتأمل لها، فإذا أجاب موسى بأنها عصا يتوكأ عليها عند الإعياء وينفض بها الورق لغنمه وأن له فيها منافع أخرى فيها، ومعلوم أنه لم يرد بذلك إعلام الله تعالى ذلك; لأن الله تعالى كان أعلم بذلك منه، ولكنه لما اقتضى السؤال منه جوابا لم يكن له بد من الإجابة بذكر منافع العصا إقرارا منه بالنعمة فيها واعتدادا بمنافعها والتزاما لما يجب عليه من الشكر له. ومن أهل الجهل من يسأل عن ذلك فيقول: إنما قال الله له: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} فإنما وقعت المسألة عن ماهيتها ولم تقع عن منافعها وما تصلح له، فلم أجاب عما لم يسأل منه؟ ووجه ذلك ما قدمنا وهو أنه أجاب عن المسألة بديا بقوله: هي عصاي، ثم أخبر عما جعل الله تعالى له من المنافع فيها على وجه الاعتراف بالنعمة وإظهار الشكر على ما منحه الله منها، وكذلك سبيل أنبياء الله تعالى والمؤمنين عند مثله في الاعتداد بالنعمة ونشرها وإظهار الشكر عليها، وقال الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11].

(3/290)