أحكام القرآن للجصاص ط العلمية
ومن سورة الأنبياء
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي
الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ
شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً
وَعِلْماً} حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق المروزي قال: حدثنا الحسن
بن أبي الربيع الجرجاني قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة:
{نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} قال: "في حرث قوم". وقال معمر: قال
الزهري: "النفش لا يكون إلا بالليل والهمل بالنهار". وقال قتادة: "فقضى
أن يأخذوا الغنم ففهمها الله سليمان، فلما أخبر بقضاء داود عليه السلام
قال لا ولكن خذوا الغنم فلكم ما خرج من رسلها وأولادها وأصوافها إلى
الحول". وروى أبو إسحاق عن مرة عن مسروق: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ}
قال: كان الحرث كرما فنفشت فيه ليلا فاجتمعوا إلى داود فقضى بالغنم
لأصحاب الحرث، فمروا بسليمان فذكروا ذلك له فقال: أولا تدفع الغنم إلى
هؤلاء فيصيبون منها ويقوم هؤلاء على حرثهم حتى إذا عاد كما كان ردوا
عليهم، فنزلت: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} . وروي عن علي بن زيد عن
الحسن عن الأحنف عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه في قصة داود
وسليمان.
قال أبو بكر: فمن الناس من يقول إذا نفشت ليلا في زرع رجل فأفسدته أن
على صاحب الغنم ضمان ما أفسدت، وإن كان نهارا لم يضمن شيئا، وأصحابنا
لا يرون في ذلك ضمانا لا ليلا ولا نهارا إذا لم يكن صاحب الغنم هو الذي
أرسلها فيها. واحتج الأولون بقضية داود وسليمان عليهما السلام
واجتماعهما على إيجاب الضمان، وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
وهو ما حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن محمد بن ثابت المروزي قال:
حدثنا عبد الرزاق قال: حدثنا معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه:
أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائط رجل فأفسدته، فقضى رسول الله صلى
الله عليه وسلم على أهل الأموال حفظها بالنهار وعلى أهل المواشي حفظها
بالليل. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمود بن
خالد قال: حدثنا الفريابي عن الأوزاعي عن الزهري عن
(3/291)
حرام بن
محيصة الأنصاري عن البراء بن عازب قال: كانت له ناقة ضارية فدخلت حائطا
فأفسدت فيه، فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقضى أن حفظ
الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها وأن على
أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل".
قال أبو بكر: ذكر في الحديث الأول حرام بن محيصة عن أبيه أن ناقة
للبراء، وذكر في هذا الحديث حرام بن محيصة عن البراء بن عازب، ولم يذكر
في الحديث الأول ضمان ما أصابت الماشية ليلا وإنما ذكر الحفظ فقط، وهذا
يدل على اضطراب الحديث بمتنه وسنده. وذكر سفيان بن حسين عن الزهري عن
حرام بن محيصة فقال: ولم يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه شيئا،
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ
يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} ، ولا خلاف بين أهل العلم أن حكم داود
وسليمان بما حكما به من ذلك منسوخ، وذلك لأن داود عليه السلام حكم بدفع
الغنم إلى صاحب الحرث وحكم سليمان له بأولادها وأصوافها، ولا خلاف بين
المسلمين أن من نفشت غنمه في حرث رجل أنه لا يجب عليه تسليم الغنم ولا
تسليم أولادها وألبانها وأصوافها إليه، فثبت أن الحكمين جميعا منسوخان
بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل: قد تضمنت القصة معان، منها: وجوب الضمان على صاحب الغنم،
ومنها كيفية الضمان، وإنما المنسوخ منه كيفية الضمان، ولم يثبت أن
الضمان نفسه منسوخ. قيل له: قد ثبت نسخ ذلك أيضا على لسان النبي صلى
الله عليه وسلم بخبر قد تلقاه الناس بالقبول واستعملوه، روى أبو هريرة
وهزيل بن شرحبيل عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العجماء جبار" وفي
بعض الألفاظ "جرح العجماء جبار" ، ولا خلاف بين الفقهاء في استعمال هذا
الخبر في البهيمة المنفلتة إذا أصابت إنسانا أو مالا أنه لا ضمان على
صاحبها إذا لم يرسلها هو عليه، فلما كان هذا الخبر مستعملا عند الجميع
وكان عمومه ينفي ضمان ما تصيبه ليلا أو نهارا ثبت بذلك نسخ ما ذكر في
قصة داود وسليمان عليهما السلام ونسخ ما ذكر في قصة البراء أن فيها
إيجاب الضمان ليلا. وأيضا سائر الأسباب الموجبة للضمان لا يختلف فيها
الحكم بالنهار والليل في إيجاب الضمان أو نفيه، فلما اتفق الجميع على
نفي ضمان ما أصابت الماشية نهارا وجب أن يكون ذلك حكمها ليلا، وجائز أن
يكون النبي صلى الله عليه وسلم إنما أوجب الضمان في حديث البراء إذا
كان صاحبها هو الذي أرسلها فيه ويكون فائدة الخبر أنه معلوم أن السائق
لها بالليل بين الزروع والحوائط لا يخلو من نفش بعض غنمه في زروع الناس
وإن لم يعلم بذلك، فأبان النبي صلى الله عليه وسلم عن حكمها إذا أصابت
زرعا، ويكون فائدة الخبر إيجاب الضمان بسوقه وإرساله في الزروع وإن لم
يعلم بذلك، وبين تساوي حكم العلم والجهل فيه. وجائز أيضا أن تكون قضية
داود وسليمان كانت
(3/292)
على هذا
الوجه، بأن يكون صاحبها أرسلها ليلا وساقها وهو غير عالم بنفشها في حرث
القوم، فأوجبا عليه الضمان، وإذا كان ذلك محتملا لم تثبت فيه دلالة على
موضع الخلاف.
وقد تنازع الفريقان من المختلفين في حكم المجتهد في الحادثة القائلون
منهم بأن الحق واحد والقائلون بأن الحق في جميع أقاويل المختلفين،
فاستدل كل منهم بالآية على قوله، وذلك لأن الذين قالوا بأن الحق في
واحد زعموا أنه لما قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} فخص
سليمان بالفهم دل ذلك على أنه كان المصيب للحق عند الله دون داود،; إذ
لو كان الحق في قوليهما لما كان لتخصيص سليمان بالفهم دون داود معنى.
وقال القائلون بأن كل مجتهد مصيب: لما لم يعنف داود على مقالته ولم
يحكم بتخطئته دل على أنهما جميعا كانا مصيبين، وتخصيصه لسليمان
بالتفهيم لا يدل على أن داود كان مخطئا، وذلك لأنه جائز أن يكون سليمان
أصاب حقيقة المطلوب فلذلك خص بالتفهيم ولم يصب داود عين المطلوب، وإن
كان مصيبا لما كلف.
ومن الناس من يقول: إن حكم داود وسليمان جميعا كان من طريق النص لا من
جهة الاجتهاد، ولكن داود لم يكن قد أبرم الحكم ولا أمضى القضية بما
قال، أو أن يكون قوله ذلك على وجه الفتيا لا على جهة إنفاذ القضاء بما
أفتى به، أو كانت قضية معلقة بشريطة لم تفصل بعد، فأوحى الله تعالى إلى
سليمان بالحكم الذي حكم به ونسخ به الحكم الذي كان داود أراد أن ينفذه،
قالوا: ولا دلالة في الآية على أنهما قالا ذلك من جهة الرأي، قالوا:
وقوله: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} يعني به تفهيمه الحكم الناسخ.
وهذا قول من لا يجيز أن يكون حكم النبي صلى الله عليه وسلم من طريق
الاجتهاد والرأي وإنما يكون من طريق النص. آخر سورة الأنبياء.
(3/293)
ومن سورة
الحج
مدخل
...
ومن سورة الحج
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أبو بكر: لم يختلف السلف وفقهاء الأمصار في السجدة الأولى من الحج
أنها موضع سجود واختلفوا في الثانية منها وفي المفصل، فقال أصحابنا:
"سجود القرآن أربع عشرة سجدة، منها الأولى من الحج وسجود المفصل في
ثلاثة مواضع" وهو قول الثوري. وقال مالك: "أجمع الناس على أن عزائم
سجود القرآن إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء". وقال الليث:
"أستحب أن يسجد في سجود القرآن كله وسجود المفصل وموضع السجود من حم:
{إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] وقال الشافعي: "سجود
القرآن أربع عشرة سجدة سوى سجدة ص فإنها سجدة شكر". قال أبو بكر: فاعتد
بآخر الحج سجودا. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد في ص
وقال ابن عباس في سجدة حم: السجدة بآخر الآيتين، كما قال أصحابنا. وروى
زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد في النجم. وقال عبد
الله بن مسعود: سجد النبي صلى الله عليه وسلم في النجم. قال أبو بكر:
ليس فيما روى زيد بن ثابت من ترك النبي صلى الله عليه وسلم في النجم
دلالة على أنه غير واجب فيه، وذلك لأنه جائز أن لا يكون سجد; لأنه صادف
عند تلاوته بعض الأوقات المنهي عن السجود فيها فأخره إلى وقت يجوز فعله
فيه، وجائز أيضا أن يكون عند التلاوة على غير طهارة فأخره ليسجد وهو
طاهر. وروى أبو هريرة قال: سجدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في:
{إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق:1] و {اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق:1].
واختلف السلف في الثانية من الحج، فروي عن عمر وابن عباس وابن عمر وأبي
الدرداء وعمار وأبي موسى أنهم قالوا: "في الحج سجدتان" وقالوا: "إن هذه
السورة فضلت على غيرها من السور بسجدتين". وروى خارجة بن مصعب عن أبي
حمزة عن ابن عباس قال: "في الحج سجدة". وروى سفيان بن عيينة عن عبد
الأعلى عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال "الأولى عزمة والآخرة تعليم".
وروى منصور عن الحسن عن ابن عباس قال: "في الحج سجدة واحدة". وروي عن
الحسن وإبراهيم وسعيد بن جبير
(3/294)
وسعيد بن
المسيب وجابر بن زيد: "أن في الحج سجدة واحدة". وقد روينا عن ابن عباس
فيما تقدم أن في الحج سجدتين، وبين في حديث سعيد بن جبير أن الأولى
عزمة والثانية تعليم، والمعنى فيه والله أعلم أن الأولى هي السجدة التي
يجب فعلها عند التلاوة وأن الثانية وإن كان فيها ذكر السجود فإنما هو
تعليم الصلاة التي فيها الركوع والسجود، وهو مثل ما روى سفيان عن عبد
الكريم عن مجاهد قال: السجدة التي في آخر الحج إنما هي موعظة وليست
بسجدة، قال الله تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} فنحن نركع ونسجد. فقول
ابن عباس هو على معنى قول مجاهد، ويشبه أن يكون من روي عنه من السلف أن
في الحج سجدتين إنما أرادوا أن فيه ذكر السجود في موضعين وأن الواجبة
هي الأولى دون الثانية على معنى قول ابن عباس. ويدل على أنه ليس بموضع
سجود أنه ذكر معه الركوع، والجمع بين الركوع والسجود مخصوص به الصلاة،
فهو إذا أمر بالصلاة والأمر بالصلاة مع انتظامها للسجود ليس بموضع
سجود، ألا ترى أن قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} ليس بموضع للسجود؟
وقال تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي
مَعَ الرَّاكِعِينَ} [آل عمران:43] وليس ذلك سجدة؟ وقال: {فَسَبِّحْ
بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر:98] وليس بموضع
سجود; لأنه أمر بالصلاة؟ كقوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ
الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43].
قوله تعالى: {مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ} قال قتادة: "تامة الخلق وغير
تامة الخلق". وقال مجاهد: "مصورة وغير مصورة". وقال ابن مسعود: "إذا
وقعت النطفة في الرحم أخذها ملك بكفه فقال: يا رب مخلقة أو غير مخلقة؟
فإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما وإن كانت مخلقة كتب رزقه وأجله
ذكر أو أنثى شقي أو سعيد". وقال أبو العالية: "غير مخلقة السقط".
قال أبو بكر: قوله تعالى: {مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ} ظاهره يقتضي أن
لا تكون المضغة إنسانا كما اقتضى ذلك في العلقة والنطفة والتراب، وإنما
نبهنا بذلك على تمام قدرته ونفاذ مشيئته حين خلق إنسانا سويا معدلا
بأحسن التعديل من غير إنسان، وهي المضغة والعلقة والنطفة التي لا تخطيط
فيها ولا تركيب ولا تعديل الأعضاء، فاقتضى أن لا تكون المضغة إنسانا
كما أن النطفة والعلقة ليستا بإنسان، وإذا لم تكن إنسانا لم تكن حملا
فلا تنقضي بها العدة; إذ لم تظهر فيها الصورة الإنسانية وتكون حينئذ
بمنزلة النطفة والعلقة; إذ هما ليستا بحمل ولا تنقضي بهما العدة
بخروجهما من الرحم. وقول ابن مسعود الذي قدمنا يدل على ذلك; لأنه قال:
"إذا وقعت النطفة في الرحم أخذها ملك بكفه فقال: يا رب مخلقة أو غير
مخلقة؟ فإن كانت غير مخلقة قذفتها الأرحام دما"، فأخبر أن الدم
(3/295)
الذي
تقذفه الرحم ليس بحمل، ولم يفرق منه بين ما كان مجتمعا علقة أو سائلا،
وفي ذلك دليل على أن ما لم يظهر فيه شيء من خلق الإنسان فليس بحمل وأن
العدة لا تنقضي به; إذ ليس هو بولد، كما أن العلقة والنطفة لما لم
تكونا ولدا لم تنقض بهما العدة. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو
داود قال: حدثنا محمد بن كثير قال: حدثنا سفيان عن الأعمش قال: حدثنا
زيد بن وهب قال: حدثنا عبد الله بن مسعود قال: حدثنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: "إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه
أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث
إليه ملك فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وأجله وعمله ثم يكتب شقي أو
سعيد ثم ينفخ فيه الروح" . فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه يكون أربعين
يوما نطفة وأربعين يوما علقة وأربعين يوما مضغة، ومعلوم أنها لو ألقته
علقة لم يعتد به ولم تنقض به العدة وإن كانت العلقة مستحيلة من النطفة;
إذ لم تكن له صورة الإنسانية، وكذلك المضغة إذا لم تكن لها صورة
الإنسانية فلا اعتبار بها وهي بمنزلة العلقة والنطفة. ويدل على ذلك
أيضا أن المعنى الذي به يتبين الإنسان من الحمار وسائر الحيوان وجوده
على هذا الضرب من البنية والشكل والتصوير، فمتى لم يكن للسقط شيء من
صورة الإنسان فليس ذلك بولد وهو بمنزلة العلقة والنطفة سواء فلا تنقضي
به العدة لعدم كونه ولدا. وأيضا فجائز أن يكون ما أسقطته مما لا تتبين
له صورة الإنسان دما مجتمعا أو داء أو مدة. فغير جائز أن نجعله ولدا
تنقضي به العدة، وأكثر أحواله احتماله لأن يكون مما كان يجوز أن يكون
ولدا ويجوز أن لا يكون ولدا. فلا نجعلها منقضية العدة به بالشك، وعلى
أن اعتبار ما يجوز أن يكون منه ولدا أو لا يكون منه ولدا ساقط لا معنى
له; إذ لم يكن ولدا بنفسه في الحال; لأن العلقة قد يجوز أن يكون منها
ولد وكذلك النطفة وقد تشتمل الرحم عليهما وتضمهما، وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم أن: "النطفة تمكث أربعين يوما نطفة ثم أربعين يوما
علقة" ، ومع ذلك لم يعتبر أحد العلقة في انقضاء العدة.
وزعم إسماعيل بن إسحاق أن قوما ذهبوا إلى أن السقط لا تنقضي به العدة
ولا تعتق به أم الولد حتى يتبين شيء من خلقه يدا أو رجلا أو غير ذلك،
وزعم أن هذا غلط; لأن الله أعلمنا أن المضغة التي هي غير مخلقة قد دخلت
فيما ذكر من خلق الناس كما ذكر المخلقة، فدل ذلك على أن كل شيء يكون من
ذلك إلى أن يخرج الولد من بطن أمه فهو حمل، وقال تعالى: {وَأُولاتُ
الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4].
والذي ذكره إسماعيل إغفال منه لمقتضى الآية، وذلك لأن الله لم يخبر أن
العلقة
(3/296)
والمضغة
ولد ولا حمل وإنما ذكر أنه خلقنا من المضغة والعلقة كما أخبر أنه خلقنا
من النطفة ومن التراب. ومعلوم أنه حين أخبرنا أنه خلقنا من المضغة
والعلقة فقد اقتضى ذلك أن لا يكون الولد نطفة ولا علقة ولا مضغة; لأنه
لو كانت العلقة والمضغة والنطفة ولدا لما كان الولد مخلوقا منها; إذ ما
قد حصل ولدا لا يجوز أن يقال قد خلق منه ولد وهو نفسه ذلك الولد، فثبت
بذلك أن المضغة التي لم يستبن فيها خلق الإنسان ليس بولد.
وقوله: "إن الله أعلمنا أن المضغة التي هي غير مخلقة قد دخلت فيما ذكر
من خلق الإنسان كما ذكر المخلقة" فإنه إن كان هذا استدلالا صحيحا فإنه
يلزمه أن يقول مثله في النطفة; لأن الله قد ذكرها فيما ذكر من خلق
الناس كما ذكر المضغة، فينبغي أن تكون النطفة حملا وولدا لذكر الله لها
فيما خلق الناس منه.
فإن قيل: قد ذكر الله أنه خلقنا من مضغة مخلقة وغير مخلقة والمخلقة هي
المصورة وغير المخلقة غير المصورة، فإذا جاز أن يقول خلقكم من مضغة
مصورة مع كون المصورة ولدا لم يمتنع أن يكون غير المصورة ولدا مع قوله:
"خلقكم من مضغة غير مخلقة". قيل له جائز أن يكون معنى المخلقة ما ظهر
فيه بعض صورة الإنسان فأراد بقوله: "خلقكم منها" تمام الخلق وتكميله،
فأما ما ليس بمخلقة فلا فرق بينه وبين النطفة لعدم الصورة فيها، فيكون
معنى قوله: "خلقكم منها" أنه أنشأ الولد منها وإن لم يكن ولدا قبل ذلك.
هذا هو حقيقة اللفظ وظاهره. وأما قوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ
أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] فإنه معلوم أن
مراده وضع الولد، فما ليس بولد فليس بمراد، وهذا لا يشكل على أحد له
أدنى تأمل.
وقال إسماعيل أيضا: لا تخلو هذه المضغة وما قبلها من العلقة من أن تكون
ولدا أو غير ولد، فإن كانت ولدا قبل أن يخلق فحكمها قبل أن يخلق وبعدها
واحد وإن كانت ليست بولد إلى أن يخلق فلا ينبغي أن يرث الولد أباه إذا
مات حين تحمل به أمه قبل أن يخلق.
قال أبو بكر: وهذا إغفال ثان وكلام منتقض بإجماع الفقهاء، وذلك لأنه
معلوم أنه إذا مات عن امرأته وجاءت بولد لسنتين على قول من يجعل أكثر
مدة الحمل سنتين أو لأربع سنين على قول من يجعل أكثر الحمل أربع سنين
أن الولد يرثه، ومعلوم أنه إنما كان نطفة وقت وفاة الأب وقد ورثه. ومع
ذلك فلا خلاف أن النطفة ليست بحمل ولا ولد وأنه لا تنقضي بها العدة ولا
تعتق بها أم الولد، فبان بذلك فساد اعتلال وانتقاض قوله، وليست علة
الميراث كونه ولدا; لأن الولد الميت هو ولد تنقضي به العدة ويثبت به
(3/297)
الاستيلاد
في الأم، وقد لا يكون من مائه فيرثه إذا كان منسوبا إليه بالفراش، ألا
ترى أنها لو جاءت بولد من الزنا لم يلحق نسبه بالزاني وكان ابنا لصاحب
الفراش؟ فالميراث إنما يتعلق حكمه بثبوت النسب منه لا بأنه من مائه،
ألا ترى أن ولد الزنا لا يرث الزاني لعدم ثبوت النسب وإن كان من مائه؟
فعلمنا بذلك أن ثبوت الميراث ليس بمتعلق بكونه ولدا من مائه دون حصول
النسبة إليه من الوجه الذي ذكرنا.
قال إسماعيل: فإن قيل إنما ورث أباه; لأنه من ذلك الأصل حين صار حيا
يرث ويورث. قيل له: فلا ينبغي أن تنقضي به العدة وإن تم خلقه حتى يخرج
حيا.
قال أبو بكر: وهذا تخليط وكلام في المسألة من غير وجهه، وذلك لأن خصمه
لم يجعل وجوب الميراث علة لانقضاء العدة وكون الأم به أم ولد، وهذا لا
خلاف فيه بين المسلمين; لأن الولد الميت عندهم جميعا تنقضي به العدة
ولا يرث، وقد يرث الولد ولا تنقضي به العدة: إذا كان في بطنها ولدان
فوضعت أحدهما ورث هذا الولد من أبيه ولا تنقضي به العدة حتى تضع الولد
الآخر. فإن وضعته ميتا لم يرثه وانقضت العدة به، فلما كان الميراث قد
يثبت للولد ولا تنقضي العدة بوضعه وقد تنقضي به العدة ولا يرث علمنا أن
أحدهما ليس بأصل للآخر ولا يصح اعتباره به.
ثم قال إسماعيل: فإن قيل إنه حمل ولكنا لا نعلم ذلك، قيل له لا يجوز أن
يتعبد الله بحكم لا سبيل إلى علمه، والنساء يعرفن ذلك ويفرقن بين لحم
أو دم سقط من بدنها أو رحمها وبين العلقة التي يكون منها الولد، ولا
يلتبس على جميع النساء لحم المرأة ودمها من العلقة بل لا بد من أن يكون
فيهن من يعرف، فإذا شهدت امرأتان أنها علقة قبلت شهادتهما، وقد قال
الشافعي أيضا إنها إذا أسقطت علقة أو مضغة لم يستبن شيء من خلقه فإنه
يرى النساء، فإن قلن كان يجيء منها الولد لو بقيت انقضت به العدة ويثبت
بها الاستيلاد، وإن قلن لا يجيء من مثلها ولد لم تنقض به العدة ولم
يثبت به الاستيلاد.
وعسى أن يكون إسماعيل إنما أخذ ما قال من ذلك عن الشافعي، وهو من أظهر
الكلام استحالة وفسادا، وذلك لأنه لا يعلم أحد الفرق بين العلقة التي
يكون منها الولد وبين ما لا يكون منها الولد إلا أن يكون قد شاهد علقا
كان منه الولد وعلقا لم يكن منه الولد فيعرف بالعادة الفرق بين ما كان
منه ولد وما لم يكن منه ولد بعلامة توجد في أحدهما دون الآخر في مجرى
العادة وأكثر الظن، كما يعرف كثير من الأعراب السحابة التي يكون منها
المطر والسحابة التي لا يكون منها المطر وذلك بما قد عرفوه من العلامات
التي لا تكاد تخلف في الأعم الأكثر، فأما العلقة التي كان منها الولد
فمستحيل أن يشاهدها إنسان قبل كون الولد منها متميزة من العلقة التي لم
يكن منها ولد، وذلك
(3/298)
شيء قد
استأثر الله بعلمه إلا من أطلع عليه من ملائكته حين يأمره بكتب رزقه
وأجله وعمله وشقي أو سعيد، قال الله تعالى: {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا
تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ}
[الرعد: 8]. وقال: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: 34] وهو
عالم بكل شيء جل وتعالى، ولكنه خص نفسه بالعلم بالأرحام في هذا الموضع
إعلاما لنا أن أحدا غيره لا يعلم ذلك وأنه من علم الغيب الذي لا يعلمه
إلا الله ومن ارتضى من رسول، قال الله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا
يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}
[الجن: 27] والله أعلم
(3/299)
باب بيع أراضي مكة وإجارة بيوتها
قال الله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ
لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} روى إسماعيل بن مهاجر
عن أبيه عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤاجر بيوتها" . وروى سعيد بن جبير عن
ابن عباس قال: "كانوا يرون الحرم كله مسجدا سواء العاكف فيه والبادي".
وروى يزيد بن أبي زياد عن عبد الرحمن بن سابط: {سَوَاءً الْعَاكِفُ
فِيهِ وَالْبَادِ} قال: "من يجيء من الحاج والمعتمرين سواء في المنازل
ينزلون حيث شاءوا غير أن لا يخرج من بيته ساكنه" قال: وقال ابن عباس في
قوله: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} قال: {سَوَاءً الْعَاكِفُ
فِيهِ} : أهله، {وَالْبَادِ} : من يأتيه من أرض أخرى وأهله في المنزل
سواء، وليس ينبغي لهم أن يأخذوا من البادي إجارة المنزل. وروى جعفر بن
عون عن الأعمش عن إبراهيم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مكة
حرمها الله لا يحل بيع رباعها ولا إجارة بيوتها" . وروى أبو معاوية عن
الأعمش عن مجاهد عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وروى عيسى بن يونس
عن عمر بن سعيد بن أبي حسين عن عثمان بن أبي سليمان عن علقمة بن نضلة
قال: "كانت رباع مكة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي
بكر وعمر وعثمان تسمى السوائب من احتاج سكن ومن استغنى سكن". وروى
الثوري عن منصور عن مجاهد قال: قال عمر: "يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم
أبوابا لينزل البادي حيث شاء". وروى عبيد الله عن نافع عن ابن عمر: "أن
عمر نهى أهل مكة أن يغلقوا أبواب دورهم دون الحاج". وروى ابن أبي نجيح
عن عبد الله بن عمر قال: "من أكل كراء بيوت مكة فإنما أكل نارا في
بطنه". وروى عثمان بن الأسود عن عطاء قال: "يكره بيع بيوت مكة
وكراؤها". وروى ليث عن القاسم قال: "من أكل كراء بيوت مكة فإنما يأكل
نارا". وروى معمر عن ليث عن عطاء وطاوس ومجاهد: "كانوا يكرهون أن
يبيعوا شيئا من رباع مكة".
قال أبو بكر: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ما ذكرنا،
وروي عن الصحابة
(3/299)
والتابعين
ما وصفنا من كراهة بيع بيوت مكة وأن الناس كلهم فيها سواء، وهذا يدل
على أن تأويلهم لقوله تعالى: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} للحرم كله.
وقد روي عن قوم إباحة بيع بيوت مكة وكراؤها، وروى ابن جريج عن هشام بن
حجير قال: كان لي بيت بمكة فكنت أكريه، فسألت طاوسا فأمرني بأكله. وروى
ابن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}
قالا: "سواء في تعظيم البلد وتحريمه" وروى عمرو بن دينار عن عبد الرحمن
بن فروخ قال: "اشترى نافع بن عبد الحارث دار السجن لعمر بن الخطاب من
صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم فإن رضي عمر فالبيع له وإن لم يرض عمر
فلصفوان أربعمائة درهم"زاد عبد الرحمن عن معمر: "فأخذها عمر". وقال أبو
حنيفة: "لا بأس ببيع بناء بيوت مكة وأكره بيع أراضيها" وروى سليمان عن
محمد عن أبي حنيفة قال: "أكره إجارة بيوت مكة في الموسم وفي الرجل يقيم
ثم يرجع، فأما المقيم والمجاور فلا نرى بأخذ ذلك منهم بأسا". وروى
الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أن بيع دور مكة جائز.
قال أبو بكر: لم يتأول هؤلاء السلف المسجد الحرام على الحرم كله إلا
والاسم شامل له من طريق الشرع، إذ غير جائز أن يتأول الآية على معنى لا
يحتمله اللفظ، وفي ذلك دليل على أنهم قد علموا وقوع اسم المسجد على
الحرم من طريق التوقيف، ويدل عليه قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ
عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [التوبة:7] والمراد فيما
روي: الحديبية، وهي بعيدة من المسجد قريبة من الحرم، وروي أنها على
شفير الحرم. وروى المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم: "أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان مضربه في الحل ومصلاه في الحرم" وهذا يدل على أنه أراد
بالمسجد الحرام ههنا الحرم كله، ويدل عليه قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ
عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ
وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة: 217]
والمراد إخراج المسلمين من مكة حين هاجروا إلى المدينة، فجعل المسجد
الحرام عبارة عن الحرم. ويدل على أن المراد جميع الحرم كله قوله تعالى:
{وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ
أَلِيمٍ} والمراد به من انتهك حرمة الحرم بالظلم فيه. وإذا ثبت ذلك
اقتضى قوله: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} تساوي الناس كلهم
في سكناه والمقام به.
فإن قيل: يحتمل أن يريد به أنهم متساوون في وجوب اعتقاد تعظيمه وحرمته.
قيل له: هو على الأمرين جميعا من اعتقاد تعظيمه وحرمته ومن تساويهم في
سكناه والمقام به.وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يجوز بيعه; لأن لغير المشتري
سكناه كما للمشتري فلا يصح للمشتري تسلمه والانتفاع به حسب الانتفاع
بالأملاك، وهذا يدل على أنه غير
(3/300)
مملوك،
وأما إجارة البيوت فإنما أجازها أبو حنيفة إذا كان البناء ملكا للمؤاجر
فيأخذ أجرة ملكه، فأما أجرة الأرض فلا تجوز، وهو مثل بناء الرجل في أرض
لآخر يكون لصاحب البناء إجارة البناء.
وقوله: {الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} روي عن جماعة من السلف أن العاكف
أهله والبادي من غير أهله.
قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} فإن الإلحاد
هو الميل عن الحق إلى الباطل، وإنما سمي اللحد في القبر; لأنه مائل إلى
شق القبر قال الله تعالى: {وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي
أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] وقال: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ
إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} [النحل: 103] أي لسان الذي يومئون إليه. و
"الباء" في قوله: {بِإِلْحَادٍ} زائدة، كقوله: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ}
[المؤمنون: 20] أي تنبت الدهن، وقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ
اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159]. وروي عن ابن عمر أنه قال "ظلم
الخادم فما فوقه بمكة إلحاد". وقال عمر "احتكار الطعام بمكة إلحاد".
وقال غيره: "الإلحاد بمكة الذنوب". وقال الحسن: "أراد بالإلحاد الإشراك
بالله".
قال أبو بكر: الإلحاد مذموم; لأنه اسم للميل عن الحق ولا يطلق في الميل
عن الباطل إلى الحق، فالإلحاد اسم مذموم، وخص الله تعالى الحرم بالوعيد
في الملحد فيه تعظيما لحرمته. ولم يختلف المتأولون للآية أن الوعيد في
الإلحاد مراد به من ألحد في الحرم كله وأنه غير مخصوص به المسجد، وفي
ذلك دليل على أن قوله: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ
لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} قد أريد به الحرم; لأن
قوله: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} هذه الهاء كناية عن الحرم
وليس للحرم ذكر متقدم إلا قوله: {وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فثبت أن
المراد بالمسجد ههنا الحرم كله. وقد روى عمارة بن ثوبان قال: أخبرني
موسى بن زياد قال: سمعت يعلى بن أمية قال: قال رسول الله "احتكار
الطعام بمكة إلحاد". وروى عثمان بن الأسود عن مجاهد قال: "بيع الطعام
بمكة إلحاد، وليس الجالب كالمقيم". وليس يمتنع أن يكون جميع الذنوب
مرادا بقوله: {بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} فيكون الاحتكار من ذلك وكذلك
الظلم والشرك، وهذا يدل على أن الذنب في الحرم أعظم منه في غيره. ويشبه
أن يكون من كره الجوار بمكة ذهب إلى أنه لما كانت الذنوب بها تتضاعف
عقوبتها آثروا السلامة في ترك الجوار بها مخافة مواقعة الذنوب التي
تتضاعف عقوبتها. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يلحد بمكة
رجل عليه مثل نصف عذاب أهل الأرض". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: "أعتى الناس على الله رجل قتل في الحرم ورجل قتل غير قاتله
ورجل قتل بذحول الجاهلية" .
(3/301)
قوله
تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} روى معتمر عن ليث عن مجاهد
في قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} قال إبراهيم عليه
السلام: وكيف أؤذنهم؟ قال: تقول: يا أيها الناس أجيبوا يا أيها الناس
أجيبوا قال: فقال: يا أيها الناس أجيبوا فصارت التلبية لبيك اللهم
لبيك. وروى عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس: "لما ابتنى
إبراهيم عليه السلام البيت قال: أوحى الله إليه أن أذن في الناس بالحج،
فقال إبراهيم عليه السلام: "إن ربكم قد اتخذ بيتا وأمركم أن تحجوه،
فاستجاب له ما سمعه من صخر أو شجر أو أكمة أو تراب أو شيء لبيك اللهم
لبيك".
وهذه الآية تدل على أن فرض الحج كان في ذلك الوقت; لأن الله تعالى أمر
إبراهيم بدعاء الناس إلى الحج وأمره كان على الوجوب، وجائز أن يكون
وجوب الحج باقيا إلى أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم وجائز أن يكون
نسخ على لسان بعض الأنبياء، إلا أنه قد روي أن النبي صلى الله عليه
وسلم حج قبل الهجرة حجتين وحج بعد الهجرة حجة الوداع. وقد كان أهل
الجاهلية يحجون على تخاليط وأشياء قد أدخلوها في الحج ويلبون تلبية
الشرك، فإن كان فرض الحج الذي أمر الله به إبراهيم في زمن إبراهيم عليه
السلام باقيا حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم فقد حج النبي صلى الله
عليه وسلم حجتين بعدما بعثه قبل الهجرة والأولى فيهما هي الفرض، وإن
كان فرض الحج منسوخا على لسان بعض الأنبياء فإن الله تعالى قد فرضه في
التنزيل بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ
اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] وقيل إنها نزلت في سنة
تسع، وروي أنها نزلت في سنة عشر، وهي السنة التي حج فيها النبي صلى
الله عليه وسلم وهذا أشبه بالصحة; لأنا لا نظن بالنبي صلى الله عليه
وسلم تأخير الحج المفروض عن وقته المأمور فيه; إذ كان النبي صلى الله
عليه وسلم من أشد الناس مسارعة إلى أمر الله وأسبقهم إلى أداء فروضه،
ووصف الله تعالى الأنبياء السالفين فأثنى عليهم بمسابقتهم إلى الخيرات
بقوله تعالى: {كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا
رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الانبياء: 90] فلم يكن
النبي صلى الله عليه وسلم ليتخلف عن منزلة الأنبياء المتقدمين في
المسابقة إلى الخيرات بل كان حظه منها أوفى من حظ كل أحد لفضله عليهم
وعلو منزلته في درجات النبوة، فغير جائز أن يظن به تأخير الحج عن وقت
وجوبه، لا سيما وقد أمر غيره بتعجيله فيما روى ابن عباس عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "من أراد الحج فليتعجل" ، فلم يكن النبي صلى
الله عليه وسلم ليأمر غيره بتعجيل الحج ويؤخره عن وقت وجوبه، فثبت بذلك
أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤخر الحج عن وقت وجوبه. فإن كان فرض
الحج لزم بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}
لأنه لم يخل تاريخ نزوله من أن يكون في سنة تسع أو سنة عشر، فإن كان
نزوله في سنة تسع فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أخره لعذر وهو أن
وقت الحج اتفق على ما كانت العرب تحجه من
(3/302)
إدخال
النسيء فيه فلم يكن واقعا في وقت الحج الذي فرضه الله تعالى فيه، فلذلك
أخر الحج عن تلك السنة ليكون حجه في الوقت الذي فرض الله فيه الحج
ليحضر الناس فيقتدوا به. وإن كان نزوله في سنة عشر فهو الوقت الذي حج
فيه النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان فرض الحج باقيا منذ زمن إبراهيم
عليه السلام إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم فإن الحج الذي فعله قبل
الهجرة كان هو الفرض وما عداه نفل، فلم يثبت في الوجهين جميعا أن النبي
صلى الله عليه وسلم أخر الحج بعد وجوبه عن أول أحوال الإمكان.
(3/303)
باب الحج ماشياً
روى موسى بن عبيدة عن محمد بن كعب عن ابن عباس قال: "ما آسى على شيء
إلا أني وددت أني كنت حججت ماشيا; لأن الله تعالى يقول: {يَأْتُوكَ
رِجَالاً} وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد: "أن إبراهيم وإسماعيل عليهما
السلام حجا ماشيين". وروى القاسم بن الحكم العرني عن عبيد الله الرصافي
عن عبد الله بن عتبة بن عمير قال: قال ابن عباس: "ما ندمت على شيء
فاتني في شيبتي إلا أن لم أحج راجلا، ولقد حج الحسن بن علي خمسا وعشرين
حجة ماشيا من المدينة إلى مكة وإن النجائب لتقاد معه، ولقد قاسم الله
عز وجل ماله ثلاث مرات إنه ليعطي النعل ويمسك النعل ويعطي الخف ويمسك
الخف". وروى عبد الرزاق عن عمرو بن زر عن مجاهد قال: "كانوا يحجون ولا
يركبون، فأنزل الله تعالى: {رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ
مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} . وروى ابن جريج قال: أخبرني العلاء قال:
سمعت محمد بن علي يقول: "كان الحسن بن علي يمشي وتقاد دوابه".
قال أبو بكر: قوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ}
يقتضي إباحة الحج ماشيا وراكبا ولا دلالة فيه على الأفضل منهما، وما
رويناه عن السلف في اختيارهم الحج ماشيا وتأويل الآية عليه يدل على أن
الحج ماشيا أفضل، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يفصح عن ذلك
وهو أن أم عقبة بن عامر نذرت أن تمشي إلى بيت الله تعالى فأمرها النبي
صلى الله عليه وسلم أن تركب وتهدي، وهذا يدل على أن المشي قربة قد لزمت
بالنذر، لولا ذلك لما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم عليها هديا عند
تركها المشي.
قوله تعالى: {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} روى جويبر عن
الضحاك: {مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} قال: "بلد بعيد". وقال قتادة:
"مكان بعيد". قال أبو بكر: الفج الطريق، فكأنه قال: من طريق بعيد. وقال
بعض أهل اللغة: "العمق الذاهب على وجه الأرض والعمق الذاهب في الأرض".
قال رؤبة:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
(3/303)
فأراد
بالعمق هذا الذاهب على وجه الأرض، فالعميق البعيد لذهابه على وجه
الأرض، قال الشاعر:
يقطعن نور النازح1 العميق
يعني البعيد. وقد روت أم حكيم بنت أمية عن أم سلمة زوج النبي صلى الله
عليه وسلم قالت: سمعت النبي يقول: "من أهل بالمسجد الأقصى بعمرة أو
بحجة غفر له ما تقدم من ذنبه" . وروى أبو إسحاق عن الأسود أن ابن مسعود
أحرم من الكوفة بعمرة. وعن ابن عباس أنه أحرم من الشام في الشتاء،
وأحرم ابن عمر من بيت المقدس، وعمران بن حصين أحرم من البصرة. وروى
عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال: سئل علي عن قوله تعالى:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] قال: "أن
تحرم بهما من دويرة أهلك". وقال علي وعمر: "ما أرى أن يعتمر إلا من حيث
ابتدأ" وروي عن مكحول قال: قيل لابن عمر: الرجل يحرم من سمرقند أو من
خراسان أو البصرة أو الكوفة؟ فقال: "يا ليتنا نسلم من وقتنا الذي وقت
لنا"، فكأنه كرهه في هذا الحديث لما يخاف من مواقعة ما يحظره الإحرام
لا لبعد المسافة.
ـــــــ
1 قوله: "نور النازح" هكذا في أكثر النسخ, وفي بعضها: "بعد النازح"
فليحرر "لمصححه".
(3/304)
باب التجارة في الحج
قال الله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} روى ابن أبي نجيح عن
مجاهد قال: "التجارة وما يرضي الله من أمر الدنيا والآخرة". وروى عاصم
بن أبي النجود عن أبي رزين عن ابن عباس قال: "أسواق كانت، ما ذكر
المنافع إلا للدنيا". وعن أبي جعفر: "المغفرة". قال أبو بكر: ظاهره
يوجب أن يكون قد أريد به منافع الدين وإن كانت التجارة جائزة أن تراد،
وذلك لأنه قال: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً
وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} فاقتضى ذلك أنهم دعوا وأمروا بالحج
ليشهدوا منافع لهم، ومحال أن يكون المراد منافع الدنيا خاصة; لأنه لو
كان كذلك كان الدعاء إلى الحج واقعا لمنافع الدنيا، وإنما الحج الطواف
والسعي والوقوف بعرفة والمزدلفة ونحر الهدي وسائر مناسك الحج، ويدخل
فيها منافع الدنيا على وجه التبع والرخصة فيها دون أن تكون هي المقصودة
بالحج، وقد قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ
تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 198] فجعل ذلك رخصة في
التجارة في الحج، وقد ذكرنا ما روي فيه في سورة البقرة.
(3/304)
باب الأيام المعلومات
قال الله عز وجل: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} فروي
عن علي وابن عمر أن المعلومات يوم النحر ويومان بعده واذبح في أيها
شئت، قال ابن عمر: "المعلومات أيام النحر والمعدودات أيام التشريق".
وذكر الطحاوي عن شيخه أحمد بن أبي عمران عن بشر بن الوليد الكندي
القاضي قال: كتب أبو العباس الطوسي إلى أبي يوسف يسأله عن الأيام
المعلومات، فأملى علي أبو يوسف جواب كتابه: اختلف أصحاب رسول الله صلى
الله عليه وسلم فيها، فروي عن علي وابن عمر أنها أيام النحر، وإلى ذلك
أذهب; لأنه قال: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}
وذلك في أيام النحر، وعن ابن عباس والحسن وإبراهيم أن المعلومات أيام
العشر والمعدودات أيام التشريق، وروى معمر عن قتادة مثل ذلك، وروى ابن
أبي ليلى عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا
اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} يوم النحر وثلاثة أيام بعده، وذكر
أبو الحسن الكرخي أن أحمد القاري روى عن أبي حنيفة أن المعلومات العشر،
وعن محمد أنها أيام النحر الثلاثة يوم الأضحى ويومان بعده، وذكر
الطحاوي أن من قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد أن المعلومات العشر
والمعدودات أيام التشريق، والذي رواه أبو الحسن عنهم أصح. وقد قيل إنه
إنما قيل لأيام التشريق معدودات; لأنها قليلة، كما قال تعالى:
{وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] وأنه
سماها معدودة لقلتها. وقيل لأيام العشر معلومات حثا على علمها وحسابها
من أجل أن وقت الحج في آخرها، فكأنه أمرنا بمعرفة أول الشهر وطلب
الهلال فيه حتى نعد عشرة ويكون آخرهن يوم النحر. ويحتج لأبي حنيفة بذلك
في أن تكبير التشريق مقصور على أيام العشر مفعول في يوم عرفة ويوم
النحر وهما من أيام العشر.
فإن قيل: لما قال: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}
دل على أن المراد أيام النحر كما روي عن علي. قيل له: يحتمل أن يريد
لما رزقهم من بهيمة الأنعام، كما قال: {لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى
مَا هَدَاكُمْ} ومعناه: لما هداكم، وكما تقول: اشكر الله على نعمه،
ومعناه: لنعمه. وأيضا فيحتمل أن يريد به يوم النحر ويكون قوله تعالى:
{عَلَى مَا رَزَقَهُمْ} يريد به يوم النحر وبتكرار السنين عليه تصير
أياما. وهذه الآية تدل على أن ذبح سائر الهدايا في أيام النحر أفضل منه
في غيرها وإن كانت من تطوع أو جزاء صيد أو غيره.
واختلف أهل العلم في أيام النحر، فقال أصحابنا والثوري: "هو يوم النحر
ويومان
(3/305)
بعده".
وقال الشافعي: "ثلاثة أيام بعده وهي أيام التشريق". قال أبو بكر: وروي
نحو قولنا عن علي وابن عباس وابن عمر وأنس بن مالك وأبي هريرة وسعيد بن
جبير وسعيد بن المسيب. وروي مثل قول الشافعي عن الحسن وعطاء. وروي عن
إبراهيم النخعي أن النحر يومان. وقال ابن سيرين: "النحر يوم واحد".
وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة وسليمان بن يسار قالا: "الأضحى إلى
هلال المحرم".
قال أبو بكر: قد ثبت عمن ذكرنا من الصحابة أنها ثلاثة واستفاض ذلك
عنهم، وغير جائز لمن بعدهم خلافهم; إذ لم يرو عن أحد من نظرائهم خلافه
فثبتت حجته. وأيضا فإن سبيل تقدير أيام النحر التوقيف أو الاتفاق; إذ
لا سبيل إليها من طريق المقاييس، فلما قال من ذكرنا قوله من الصحابة
بالثلاثة صار ذلك توقيفا، كما قلنا في مقدار مدة الحيض وتقدير المهر
ومقدار التشهد في إكمال فرض الصلاة وما جرى مجراها من المقادير التي
طريق إثباتها التوقيف أو الاتفاق إذا قال به قائل من الصحابة ثبتت حجته
وكان ذلك توقيفا. وأيضا قد ثبت الفرق بين أيام النحر وأيام التشريق;
لأنه لو كانت أيام النحر أيام التشريق لما كان بينهما فرق وكان ذكر أحد
العددين ينوب عن الآخر، فلما وجدنا الرمي في يوم النحر وأيام التشريق
ووجدنا النحر في يوم النحر، وقال قائلون: إلى آخر أيام التشريق، وقلنا
نحن: يومان بعده، وجب أن نوجب فرقا بينهما، لإثبات فائدة كل واحد من
اللفظين وهو أن يكون من أيام التشريق ما ليس من أيام النحر وهو آخر
أيامها.
واحتج من جعل النحر إلى آخر أيام التشريق بما روى سليمان بن موسى عن
ابن أبي حسين عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل
عرفات موقف وارتفعوا عن عرنة، وكل مزدلفة موقف وارتفعوا عن محسر، وكل
فجاج مكة منحر وكل أيام التشريق ذبح" ، وهذا حديث قد ذكر عن أحمد بن
حنبل أنه سئل عن هذا الحديث فقال: لم يسمعه ابن أبي حسين من جبير بن
مطعم وأكثر روايته عن سهو. وقد قيل إن أصله ما رواه مخرمة بن بكير بن
عبد الله بن الأشج عن أبيه قال: سمعت أسامة بن زيد يقول: سمعت عبد الله
بن أبي حسين يخبر عن عطاء بن أبي رباح وعطاء يسمع قال: سمعت جابر بن
عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل عرفة موقف وكل
منى منحر وكل فجاج مكة طريق ومنحر" ، فهذا أصل الحديث، ولم يذكر فيه:
"وكل أيام التشريق ذبح" ، ويشبه أن يكون الحديث الذي ذكر فيه هذا اللفظ
إنما هو من كلام جبير بن مطعم أو من دونه; لأنه لم يذكره. وأيضا لما
ثبت أن النحر فيما يقع عليه اسم الأيام وكان أقل ما يتناوله اسم الأيام
ثلاثة وجب أن يثبت الثلاثة، وما زاد لم تقم عليه الدلالة فلم يثبت.
(3/306)
في التسمية على الذبيحة
قال الله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} فإن
كان المراد بهذا الذكر التسمية على الذبيحة فقد دل ذلك على أن ذلك من
شرائط الذكاة; لأن الآية تقتضي وجوبها، وذلك لأنه قال: {وَأَذِّنْ فِي
النَّاسِ بِالْحَجِّ} إلى قوله: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ
وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} فكانت المنافع
هي أفعال المناسك التي يقتضي الإحرام إيجابها، فوجب أن تكون التسمية
واجبة; إذ كان الدعاء إلى الحج وقع لها كوقوعها لسائر مناسك الحج، وإن
كان المراد بالتسمية هي الذكر المفعول عند رمي الجمار أو تكبير التشريق
فقد دلت الآية على وجوب هذا الذكر، وليس يمتنع أن يكون المراد جميع ذلك
وهو التسمية على الهدايا الموجبة بالإحرام للقران أو التمتع وما تعلق
وجوبها بالإحرام ويراد بها تكبير التشريق والذكر المفعول عند رمي
الجمار; إذ لم تكن إرادة جميع ذلك ممتنعة بالآية. وروى معمر عن أيوب عن
نافع قال: "كان ابن عمر يقول حين ينحر: لا إله إلا الله والله أكبر".
وروى الأعمش عن أبي ظبيان عن ابن عباس قال: "قلت: كيف تقول إذا نحرت؟
قال: أقول الله أكبر لا إله إلا الله". وروى سفيان عن أبي بكر الزبيدي
عن عاصم بن شريف: "أن عليا ضحى يوم النحر بكبش فقال: بسم الله والله
أكبر اللهم منك ولك ومن علي لك.
(3/307)
باب في أكل الهدايا
...
باب في أكل لحوم الهدايا
قال الله عز وجل: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ
فَكُلُوا مِنْهَا} قال أبو بكر: ظاهره يقتضي إيجاب الأكل، إلا أن السلف
متفقون على أن الأكل منها ليس على الوجوب، وذلك لأن قوله: {عَلَى مَا
رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} لا يخلو من أن يكون المراد به
الأضاحي وهدي المتعة والقران والتطوع أو الهدايا التي تجب من جنايات
تقع من المحرم في الإحرام نحو جزاء الصيد وما يجب على اللابس والمتطيب
وفدية الأذى وهدي الإحصار ونحوها، فأما دماء الجنايات فمحظور عليه
الأكل منها، وأما دم القران والمتعة والتطوع فلا خلاف أيضا أن الأكل
منها ليس بواجب; لأن الناس في دم القران والمتعة على قولين منهم من لا
يجيز الأكل منه ومنهم من يبيح الأكل منه ولا يوجبه، ولا خلاف بين السلف
ومن بعدهم من الفقهاء أن قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا} ليس على الوجوب، وقد
روي عن عطاء والحسن وإبراهيم ومجاهد قالوا: "إن شاء أكل وإن شاء لم
يأكل" قال مجاهد: إنما هو بمنزلة قوله تعالى: {وَإِذَا
(3/307)
حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} وقال إبراهيم: كان المشركون لا يأكلون من
البدن حتى نزلت: {فَكُلُوا مِنْهَا} فإن شاء أكل وإن شاء لم يأكل. وروى
يونس بن بكير عن أبي بكر الهذلي عن الحسن قال: "كان الناس في الجاهلية
إذا ذبحوا لطخوا بالدم وجه الكعبة وشرحوا اللحم ووضعوه على الحجارة
وقالوا لا يحل لنا أن نأكل شيئا جعلناه لله حتى تأكله السباع والطير،
فلما جاء الإسلام جاء الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا:
شيئا كنا نصنعه في الجاهلية ألا نصنعه الآن فإنما هو لله؟ فأنزل الله
تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لا تفعلوا فإن ذلك ليس لله" . وقال الحسن: فلم يعزم عليهم الأكل
فإن شئت فكل وإن شئت فدع، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل
من لحم الأضحية.
قال أبو بكر: وظاهر الآية يقتضي أن يكون المذكور في هذه الآية من بهيمة
الأنعام التي أمرنا بالتسمية عليها هي دم القران والمتعة، وأقل أحوالها
أن تكون شاملة لدم القران والمتعة وسائر الدماء وإن كان الذي يقتضيه
ظاهره دم المتعة والقران، والدليل على ذلك قوله تعالى في نسق التلاوة:
{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ
لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ولا دم تترتب عليه هذه الأفعال إلا دم المتعة
والقران; إذ كان سائر الدماء جائزا له فعلها قبل هذه الأفعال وبعدها،
فثبت أن المراد بها دم القران والمتعة. وزعم الشافعي أن دم المتعة
والقران لا يؤكل منهما، وظاهر الآية يقتضي بطلان قوله. وقد روى جابر
وأنس وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان قارنا في حجة الوداع".
وروى جابر أيضا وابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم "أهدى في حجة
الوداع مائة بدنة نحر بيده منها ستين وأمر ببقيتها فنحرت وأخذ من كل
بدنة بضعة فجمعت في قدر وطبخت وأكل منها وتحسى من المرقة فأكل صلى الله
عليه وسلم من دم القران". وأيضا لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم
كان قارنا وأنه لم يكن ليختار من الأعمال إلا أفضلها فثبت أن القران
أفضل من الإفراد وأن الدم الواجب به إنما هو نسك وليس بجبران لنقص
أدخله في الإحرام، ولما كان نسكا جاز الأكل منه كما يأكل من الأضاحي
والتطوع. ويدل على أنه كان قارنا أن حفصة قالت: يا رسول الله ما بال
الناس حلوا ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال: "إني سقت الهدي فلا أحل إلا
يوم النحر، ولو استقبلت من أمري ما استدبرته ما سقت الهدي ولجعلتها
عمرة" ، فلو كان هديه تطوعا لما منعه الإحلال; لأن هدي التطوع لا يمنع
الإحلال.
فإن قيل: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قارنا فقد كان إحرام الحج
يمنعه الإحلال، فلا تأثير للهدي في ذلك. قيل له: لم يكن إحرام الحج
مانعا في ذلك الوقت من الإحلال قبل يوم النحر; لأن فسخ الحج كان جائزا،
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه الذين أحرموا بالحج أن
يتحللوا بعمل عمرة، فكانوا في ذلك الوقت بمنزلة المتمتع الذي يحرم
بالعمرة مفرداً
(3/308)
بها،فلم
يكن يمتنع الإحلال فيما بينها وبين إحرام الحج إلا أن يسوق الهدي
فيمنعه ذلك من الإحلال، وهذه كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم في
قرانه وكان المانع له من الإحلال سوق الهدي دون إحرام الحج، وفي ذلك
دليل على صحة ما ذكرنا من أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم كان هدي
القران لا التطوع; إذ لا تأثير لهدي التطوع في المنع من الإحلال بحال.
ويدل على أنه كان قارنا قوله صلى الله عليه وسلم: "أتاني آت من ربي في
هذا الوادي المبارك وقال قل حجة وعمرة" ، ويمتنع أن يخالف ما أمره به
ربه. ورواية ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج لا يعارض
رواية من روى القران، وذلك لأن راوي القران قد علم زيادة إحرام لم
يعلمه الآخر فهو أولى، وجائز أن يكون راوي الإفراد سمع النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: "لبيك اللهم لبيك" ولم يسمعه يذكر العمرة، أو سمعه ذكر
الحج دون العمرة وظن أنه مفرد، إذ جائز للقارن أن يقول لبيك بحجة دون
العمرة وجائز أن يقول لبيك بعمرة وجائز أن يلبي بهما معا، فلما كان ذلك
سائغا وسمعه بعضهم يلبي بالحج وبعضهم سمعه يلبي بحج وعمرة كانت رواية
من روى الزيادة أولى. وأيضا فإنه يحتمل أن يريد بقوله أفرد الحج أفعال
الحج، وأفاد أنه أفرد أفعال الحج وأفرد أفعال العمرة ولم يقتصر
للإحرامين على فعل الحج دون العمرة، وأبطل بذلك قول من يجيز لهما طوافا
واحدا وسعيا واحداً.
وقد روي عن جماعة من الصحابة والتابعين الأكل من هدي القران والمتعة.
وروى عطاء عن ابن عباس قال: "من كل الهدي يؤكل إلا ما كان من فداء أو
جزاء أو نذر". وروى عبيد الله بن عمر قال: "لا يؤكل من جزاء الصيد
والنذر ويؤكل مما سوى ذلك". وروى هشام عن الحسن وعطاء قالا: "لا يؤكل
من الهدي كله إلا الجزاء". فهؤلاء الصحابة والتابعون قد أجازوا الأكل
من دم القران والتمتع، ولا نعلم أحدا من السلف حظره.
قوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} روى طلحة بن عمرو عن
عطاء: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} قال: "من سألك". وروى ابن
أبي نجيح عن مجاهد قال: البائس الذي يسأل بيده إذا سأل". وإنما سمي من
كانت هذه حاله بائسا لظهور أثر البؤس عليه بأن يمد يده للمسألة، وهذا
على جهة المبالغة في الوصف له بالفقر، وهو في معنى المسكين; لأن
المسكين من هو في نهاية الحاجة والفقر، وهو الذي قد ظهر عليه السكون
للحاجة وسوء الحال، وهو الذي لا يجد شيئا، وقيل: هو الذي يسأل. وهذه
الآية قد انتظمت سائر الهدايا والأضاحي وهي مقتضية لإباحة الأكل منها
والندب إلى الصدقة ببعضها. وقدر أصحابنا فيه الصدقة بالثلث، وذلك لقوله
تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} وقال
النبي صلى الله عليه وسلم في لحوم الأضاحي: "فكلوا وادخروا" فجعلوا
(3/309)
الثلث
للأكل والثلث للادخار والثلث للبائس الفقير. وفي قوله تعالى: {فَكُلُوا
مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} دلالة على حظر بيعها،
ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "فكلوا وادخروا" وفي ذلك منع
البيع. ويدل عليه ما روى سفيان عن عبد الكريم الجزري عن مجاهد عن عبد
الرحمن بن أبي ليلى عن علي قال: أمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن
أقوم على بدنه وقال: "اقسم جلودها وجلالها ولا تعط الجازر منها شيئا
فإنا نعطيه من عندنا" ، فمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطى منها
أجرة الجازر، وفي ذلك منع من البيع; لأن إعطاء الجازر ذلك من أجرته هو
على وجه البيع. ولما جاز الأكل منها دل على جواز الانتفاع بجلودها من.
غير جهة البيع، ولذلك قال أصحابنا: "يجوز الانتفاع بجلد الأضحية" وروي
ذلك عن عمر وابن عباس وعائشة. وقال الشعبي: كان مسروق يتخذ مسك أضحيته
مصلى فيصلي عليه. وعن إبراهيم وعطاء وطاوس والشعبي: أنه ينتفع به.
قال أبو بكر: ولما منع النبي صلى الله عليه وسلم أن يعطى الجازر من
الهدي شيئا في جزارتها وقال: "إنا نعطيه من عندنا" دل ذلك على معنيين:
أحدهما: أن المحظور من ذلك أن يعطيه منها على وجه الأجرة; لأن في بعض
ألفاظ حديث علي: "وأمرني أن لا أعطي أجر الجزار منها" وفي بعضها: "أن
لا أعطيه في جزارتها منها شيئا" فدل على أنه جائز أن يعطي الجزار من
غير أجرته كما يعطي سائر الناس. وفيه دليل على جواز الإجارة على نحر
البدن; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نحن نعطيه من عندنا" وهو
أصل في جواز الإجارة على كل عمل معلوم. وأجاز أصحابنا الإجارة على ذبح
شاة، ومنع أبو حنيفة الإجارة على قتل رجل بقصاص، والفرق بينها أن الذبح
عمل معلوم والقتل مبهم غير معلوم ولا يدري أيقتله بضربة أو بضربتين أو
أكثر.
قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}
روى عبد الملك عن عطاء عن ابن عباس قال: "التفث الذبح والحلق والتقصير
وقص الأظفار والشارب ونتف الإبط". وروى عثمان بن الأسود عن مجاهد مثله،
وكذلك عن الحسن وأبي عبيدة. وقال ابن عمر وسعيد بن جبير في قوله:
{تَفَثَهُمْ} قال: "المناسك". وروى أشعث عن الحسن قال: "نسكهم". وروى
حماد بن سلمة عن قيس عن عطاء: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} قال:
"الشعر والأظفار". وقيل: "التفث قشف الإحرام وقضاؤه بحلق الرأس
والاغتسال ونحوه".
قال أبو بكر: لما تأول السلف قضاء التفث على ما ذكرنا دل ذلك على أن من
قضائه حلق الرأس; لأنهم تأولوه عليه، ولولا أن ذلك اسم له لما تأولوه
عليه; إذ لا يسوغ التأويل على ما ليس اللفظ عبارة عنه، وذلك دليل على
وجوب الحلق; لأن الأمر على الوجوب، فيبطل قول من قال إن الحلق ليس بنسك
في الإحرام. ومن الناس من
(3/310)
يزعم أنه
إطلاق من حظر; إذ كانت هذه الأشياء محظورة قبل الإحلال لقوله تعالى
{وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وقوله: {فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10] والأول
أصح; لأن أمره بقضاء التفث قد انتظم سائر المناسك على ما روي عن ابن
عمر ومن ذكرنا قوله من السلف. ومعلوم أن فعل سائر المناسك ليس على وجه
الإباحة بل على وجه الإيجاب، فكذلك الحلق; لأنه قد ثبت أنه قد أريد
بالأمر بقضاء التفث الإيجاب في غير الحلق، فكذلك الحلق.
وقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} قال ابن عباس نحر ما نذروا من
البدن". وقال مجاهد: "كل ما نذر في الحج". قال أبو بكر: إن كان التأويل
نحر البدن المنذورة فإن قوله تعالى: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ
بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا} لم يرد به ما نذر نحره من
البدن والهدايا; لأنه لو كان مرادا لما ذكره بعد ذكره الذبح بهيمة
الأنعام وأمره إيانا بالأكل منها، فيكون قوله: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ
مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا} في غير المنذور به وهو
دم التطوع والتمتع والقران. ويدل على أنه لم يرد الهدي المنذور أن دم
النذر لا يؤكل منه وقد أمر الله تعالى بالأكل من بهيمة الأنعام المذكور
في الآية، فدل على أنه لم يرد النذر، واستأنف ذكر النذر وأفاد به معان:
أحدها: أنه لا يؤكل منه، والثاني: أن ذبح النذر في هذه الأيام أفضل منه
في غيرها، والثالث إيجاب الوفاء بنفس المنذور دون كفارة يمين. وجائز أن
يكون المراد سائر النذور في الحج من صدقة أو طواف ونحوه، وقد روي عن
ابن عباس أيضا أنه قال: "هو كل نذر إلى أجل".
قال أبو بكر: وفيه الدلالة على لزوم الوفاء بالنذر لقوله تعالى:
{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} والأمر على الوجوب، وهو يدل على بطلان قول
الشافعي فيمن نذر حجا أو عمرة أو بدنة أو نحوها أن عليه كفارة يمين;
لأن الله أمرنا بالوفاء بنفس المنذور.
(3/311)
باب طواف الزيارة
قال الله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فروي عن
الحسن أنه قال: " {وَلْيَطَّوَّفُوا} طواف الزيارة" وقال مجاهد:
"الطواف الواجب". قال أبو بكر: ظاهره يقتضي الوجوب; لأنه أمر والأوامر
على الوجوب. ويدل عليه أنه أمر به معطوفا على الأمر بقضاء التفث، ولا
طواف مفعول في ذلك الوقت وهو يوم النحر بعد الذبح إلا طواف الزيارة،
فدل على أنه أراد طواف الزيارة.
فإن قيل: يحتمل أن يريد به طواف القدوم الذي فعله رسول الله صلى الله
عليه وسلم وأصحابه حين قدموا مكة وحلوا به من إحرام الحج وجعلوه عمرة
إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قد كان ساق
(3/311)
الهدي
فمنعه ذلك من الإحلال ومضى على حجته. قيل له: لا يجوز أن يكون المراد
به طواف القدوم من وجوه: أحدها: أنه مأمور به عقيب الذبح، وذبح الهدي
إنما يكون يوم النحر; لأنه قال: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي
أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ
ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} وحقيقة "ثم" للترتيب والتراخي، وطواف القدوم
مفعول قبل يوم النحر، فثبت أنه لم يرد به طواف القدوم. والوجه الثاني:
أن قوله: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} هو أمر والأمر على
الوجوب حتى تقوم دلالة الندب، وطواف القدوم غير واجب، وفي صرف المعنى
إليه صرف للكلام عن حقيقته. والثالث: أنه لو كان المراد الطواف الذي
أمر به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدموا مكة لكان منسوخا;
لأن ذلك الطواف إنما أمروا به لفسخ الحج وذلك منسوخ بقوله تعالى:
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وبما روى
ربيعة عن الحارث بن بلال بن الحارث المزني عن أبيه قال: " قلت: يا رسول
الله "أرأيت فسخ حجتنا لنا خاصة أم للناس عامة؟ قال: بل لكم خاصة" .
وروي عن عمر وعثمان وأبي ذر وغيرهم مثل ذلك. وقال ابن عباس: "لا يطوف
الحاج للقدوم وإنه إن طاف قبل عرفة صارت حجته عمرة" وكان يحتج بقوله:
{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} فذهب إلى أنه يحل
بالطواف قبله قبل عرفة أو بعده، فكان ابن عباس يذهب إلى أن هذا الحكم
باق لم ينسخ وأن فسخ الحج قبل تمامه جائز بأن يطوف قبل الوقوف بعرفة
فيصير حجه عمرة. وقد ثبت بظاهر قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} نسخه، وهذا معنى ما أراده عمر بن الخطاب بقوله:
"متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما
وأضرب عليهما: متعة النساء ومتعة الحج"، وذهب فيه إلى ظاهر هذه الآية
وإلى ما علمه من توقيف رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم على أن فسخ
الحج كان لهم خاصة، وإذا ثبت أن ذلك منسوخ لم يجز تأويل قوله تعالى:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} عليه، فثبت بما وصفنا أن
المراد طواف الزيارة.
وفيه الدلالة على وجوب تقديمه قبل مضي أيام النحر; إذ كان الأمر على
الفور حتى تقوم الدلالة على جواز التأخير، ولا خلاف في إباحة تأخيره
إلى آخر أيام النحر، وقد روى سفيان الثوري وغيره عن أفلح بن حميد عن
أبيه: "أنه حج مع ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم أبو
أيوب، فلما كان يوم النحر لم يزر أحد منهم البيت إلى يوم النفر إلا
رجالا كانت معهم نساء فتعجلوا"، وإنما أراد بذلك عندنا النفر الأول،
وهو اليوم الثالث من يوم النحر، فلو خلينا وظاهر الآية لما جاز تأخير
الطواف عن يوم النحر، إلا أنه لما اتفق السلف وفقهاء الأمصار على إباحة
تأخيره إلى اليوم الثالث من أيام النحر
(3/312)
أخرناه
ولم يجز تأخيره إلى آخر أيام التشريق، ولذلك قال أبو حنيفة: "من أخره
إلى أيام التشريق فعليه دم" وقال أبو يوسف ومحمد: "لا شيء عليه".
فإن قيل: لما كانت "ثم" تقتضي التراخي وجب جواز تأخيره إلى أي وقت شاء
الطائف. قيل له: لا خلاف أنه ليس بواجب عليه التأخير، وظاهر اللفظ
يقتضي إيجاب تأخيره إذا حمل على حقيقته، فلما لم يكن التأخير واجبا
وكان فعله واجبا لا محالة اقتضى ذلك لزوم فعله يوم النحر من غير تأخير
وهو الوقت الذي أمر فيه بقضاء التفث، فاستدلالك بظاهر اللفظ على جواز
تأخيره أبدا غير صحيح مع كون "ثم" في هذا الموضع غير مراد بها حقيقة
معناها من وجوب فعله على التراخي، ولهذا قال أبو حنيفة فيمن أخر الحلق
إلى آخر أيام التشريق إن عليه دما; لأن قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا
تَفَثَهُمْ} قد اقتضى فعل الحلق على الفور في يوم النحر، وأباح تأخيره
إلى آخر أيام النحر بالاتفاق ولم يبحه أكثر من ذلك. ومما يحتج به لأبي
حنيفة في ذلك أن الله تعالى قد أباح النفر في اليوم الثاني من أيام
التشريق وهو الثالث من النحر بقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي
أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ
عَلَيْهِ} [البقرة: 203] ويمتنع إباحة النفر قبل تقديم طواف الزيارة،
فثبت أنه مأمور به قبل النفر الأول وهو اليوم الثالث من النحر، فإذا
تضمن ذلك فقد تم الطواف فهو لا محالة منهي عن تأخيره، فإذا أخره لزمه
جبرانه بدم.
وقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} لما كان لفظا
ظاهر المعنى بين المراد اقتضى جواز الطواف على أي وجه أوقعه من حدث أو
جنابة أو عريان أو منكوسا أو زحفا; إذ ليس فيه دلالة على كون الطهارة
وما ذكرنا شرطا فيه، ولو شرطنا فيه الطهارة وما ذكرنا كنا زائدين في
النص ما ليس فيه، والزيادة في النص غير جائزة إلا بمثل ما يجوز به
النسخ فقد دلت الآية على وقوع الطواف موقع الجواز وإن فعله. على هذه
الوجوه المنهي عنها. وقوله: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا
نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} يقتضي جواز أي
ذلك فعله من غير ترتيب; إذ ليس في اللفظ دلالة على الترتيب، فإن فعل
الطواف قبل قضاء التفث أو قضى التفث ثم طاف فإن مقتضى الآية أن يجزئ
جميع ذلك; إذ "الواو" لا توجب الترتيب.
ولم يختلف الفقهاء في إباحة الحلق واللبس قبل طواف الزيارة، ولم
يختلفوا أيضا في حظر الجماع قبله، واختلفوا في الطيب والصيد، فقال
قائلون: "هما مباحان قبل الطواف" وهو قول أصحابنا وعامة الفقهاء، وهو
قول عائشة في آخرين من السلف. وقال عمر بن الخطاب وابن عمر: "لا تحل له
النساء والطيب والصيد حتى يطوف للزيارة". وقال قوم: "لا تحل له النساء
والطيب والصيد حتى يطوف" وروى سفيان بن عيينة عن
(3/313)
عبد
الرحمن بن القاسم عن أبيه عن عائشة قالت: طيبت رسول الله لحرمه حين
أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت. ويدل عليه من طريق النظر اتفاق الجميع
على إباحة اللبس والحلق قبل الطواف وليس لهما تأثير في إفساد الإحرام،
فوجب أن يكون الطيب والصيد مثلهما.
وقوله تعالى: {بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} قال معمر عن الزهري قال: قال
ابن الزبير: "إنما سمي البيت العتيق; لأن الله أعتقه من الجبابرة".
وقال مجاهد: "أعتق من أن يملكه الجبابرة". وقيل: "إنه أول بيت وضع
للناس، بناه آدم عليه السلام ثم ولده إبراهيم عليه السلام فهو أقدم
بيت، فسمي لذلك عتيقا".
قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} يعني به
والله أعلم اجتناب ما حرم الله عليه في وقت الإحرام تعظيما لله عز وجل
واستعظاما لمواقعة ما نهى الله عنه في إحرامه صيانة لحجه وإحرامه، فهو
خير له عند ربه من ترك استعظامه والتهاون به.
قوله تعالى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى
عَلَيْكُمْ} قيل فيه وجهان: أحدهما: إلا ما يتلى عليكم في كتاب الله من
الميتة والدم ولحم الخنزير والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع
وما ذبح على النصب. والثاني: وأحلت لكم بهيمة الأنعام من الإبل والبقر
والغنم في حال إحرامكم إلا ما يتلى عليكم من الصيد فإنه يحرم على
المحرم.
قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} يعني:
اجتنبوا تعظيم الأوثان فلا تعظموها واجتنبوا الذبائح لها على ما كان
يفعله المشركون، وسماها رجسا استقذارا لها واستخفافا بها، وإنما أمرهم
باستقذارها; لأن المشركين كانوا ينحرون عليها هداياهم ويصبون عليها
الدماء وكانوا مع هذه النجاسات يعظمونها، فنهى الله المسلمين عن
تعظيمها وعبادتها وسماها رجسا لقذارتها ونجاستها من الوجوه التي ذكرنا،
ويحتمل أن يكون سماها رجسا للزوم اجتنابها كاجتناب الأقذار والأنجاس.
(3/314)
باب شهادة الزور
قال الله عز وجل: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} والزور الكذب وذلك
عام في سائر وجوه الكذب، وأعظمها الكفر بالله والكذب على الله عز وجل.
وقد دخل فيه شهادة الزور، حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا عبد
الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا محمد
ويعلى ابنا عبيد عن سفيان العصفري عن أبيه عن حبيب بن النعمان عن خريم
بن فاتك قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ثم قال:
(3/314)
"عدلت
شهادة الزور بالإشراك بالله" ثم تلا هذه الآية: {فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفَاءَ
لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} " وروى وائل بن ربيعة عن عبد الله بن
مسعود قال: "عدلت شهادة الزور بالشرك بالله ثم قرأ: {فَاجْتَنِبُوا
الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} ". وحدثنا
عبد الباقي قال: حدثنا محمد بن العباس المؤدب قال: حدثنا عاصم بن علي
قال: حدثنا محمد بن الفرات التميمي قال: سمعت محارب بن دثار يقول:
أخبرني عبد الله بن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"شاهد الزور لا تزول قدماه حتى توجب له النار" .
وقد اختلف في حكم شاهد الزور، فقال أبو حنيفة: "لا يعزر" وهذا عندنا
على أنه إن جاء تائبا، فأما إن كان مصرا فإنه لا خلاف عندي بينهم في
أنه يعزر. وقال أبو يوسف ومحمد: "يضرب ويسخم وجهه ويشهر ويحبس". وقد
روى عبد الله بن عامر عن أبيه قال: "أتي عمر بن الخطاب بشاهد زور،
فجرده وأوقفه للناس يوما وقال: هذا فلان بن فلان فاعرفوه ثم حبسه".
وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا العباس بن الوليد البزاز قال:
حدثنا خلف بن هشام قال: حدثنا حماد بن زيد عن الحجاج عن مكحول، أن عمر
بن الخطاب قال في الشاهد الزور: "يضرب ظهره ويحلق رأسه ويسخم وجهه
ويطال حبسه".
قوله تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا
مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} قال أهل اللغة: الشعائر جمع شعيرة، وهي
العلامة التي تشعر بما جعلت له، وإشعار البدن هو أن نعلمها بما يشعر
أنها هدي، فقيل على هذا: إن الشعائر علامات مناسك الحج كلها، منها رمي
الجمار والسعي بين الصفا والمروة وروى حبيب المعلم عن عطاء أنه سئل عن
شعائر الله فقال: "حرمات الله اتباع طاعته واجتناب معصيته فذلك شعائر
الله". وروى شريك عن جابر عن عطاء: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ
اللَّهِ} قال: "استسمانها واستعظامها". وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد عن
ابن عباس: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} قال: "في الاستحسان
والاستسمان والاستعظام" وعن عكرمة مثله، وكذلك قول مجاهد. وقال الحسن
"شعائر الله دين الله". قال أبو بكر: يجوز أن تكون هذه الوجوه كلها
مرادة بالآية لاحتمالها لها.
(3/315)
باب في ركوب البدنة
قال الله عز وجل: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} قال
ابن عباس وابن عمر ومجاهد وقتادة: "لكم فيها منافع في ألبانها وظهورها
وأصوافها إلى أن تسمى بدنا ثم
(3/315)
محلها إلى
البيت العتيق"، وعن محمد بن كعب القرظي مثله. وقال عطاء: "إنه ينتفع
بها إلى أن تنحر" وهو قول عروة بن الزبير. قال أبو بكر: فاتفق ابن عباس
ومن تابعه على أن قوله: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} أريد به إلى أن تصير
بدنا، فذلك هو الأجل المسمى، وكرهوا بعد ذلك أن تركب، وقال عطاء ومن
وافقه: "يركبها بعد أن تصير بدنة" وقال عروة بن الزبير: "ويركبها غير
فادح لها ويحلبها عن فضل ولدها". وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
في ذلك أخبار يحتج بها من أباح ركوبها، فروى أبو هريرة أن النبي صلى
الله عليه وسلم: "رأى رجلا يسوق بدنة فقال له: "ويحك اركبها فقال: إنها
بدنة فقال: ويحك اركبها". وروى شعبة عن قتادة عن أنس عن النبي صلى الله
عليه وسلم نحو ذلك. وهذا عندنا إنما أباحه لضرورة علمه من حاجة الرجل
إليها، وقد بين ذلك في أخبار أخر، منها ما روى إسماعيل بن جعفر عن حميد
عن أنس قال: "مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل يسوق بدنة وهو يمشي وقد
بلغ منه فقال: "اركبها" قال: إنها بدنة قال: "اركبها". وسئل جابر عن
ركوب الهدي فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "اركبها
بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرا" . وقد روى ابن جريج عن أبي
الزبير عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ركوب الهدي
قال: "اركب بالمعروف إذا احتجت إليها حتى تجد ظهرا" . فبين في هذه
الأخبار أن إباحة ركوبها معقودة بشريطة الضرورة إليها، ويدل على أنه لا
يملك منافعها أنه لا يجوز له أن يؤاجرها للركوب، فلو كان مالكا
لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها كمنافع سائر المملوكات.
(3/316)
باب محل الهدي
محل الهدي قال الله تعالى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا
مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى
أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} ومعلوم
أن مراده تعالى فيما جعل هديا أو بدنة أو فيما وجب أن تجعل هديا من
واجب في ذمته، فأخبر تعالى أن محل ما كان هذا وصفه إلى البيت العتيق،
والمراد بالبيت ههنا الحرم كله; إذ معلوم أنها لا تذبح عند البيت ولا
في المسجد، فدل على أنه الحرم كله، فعبر عنه بذكر البيت; إذ كانت حرمة
الحرم كله متعلقة بالبيت، وهو كقوله تعالى في جزاء الصيد: {هَدْياً
بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] ولا خلاف أن المراد الحرم كله. وقد
روى أسامة بن زيد عن عطاء عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "عرفة كلها موقف ومنى كلها منحر وكل فجاج مكة طريق
ومنحر" ، وعموم الآية يقتضي أن يكون محل سائر الهدايا الحرم ولا يجزئ
في غيره; إذ لم تفرق بين شيء منها.
وقد اختلف في هدي الإحصار، فقال أصحابنا: "محله ذبحه في الحرم" وذلك
(3/316)
لأنه قال:
{ولا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}
[البقرة: 196] وكان المحل مجملا في هذه الآية، فلما قال: {ثُمَّ
مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} بين فيه ما أجمل ذكره في الآية
الأولى، فوجب أن يكون محل هدي الإحصار الحرم. ولم يختلفوا في سائر
الهدايا التي يتعلق وجوبها بالإحرام مثل جزاء الصيد وفدية الأذى ودم
التمتع أن محلها الحرم، فكذلك هدي الإحصار لما تعلق وجوبه بالإحرام وجب
أن يكون في الحرم.
قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ
لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} قيل: إن البدن الإبل المبدنة بالسمن، يقال بدنت
الناقة إذا سمنتها، ويقال بدن الرجل إذا سمن. وإنما قيل لها بدنة من
هذه الجهة، ثم سميت الإبل بدنا مهزولة كانت أو سمينة، فالبدنة اسم يختص
بالبعير في اللغة، إلا أن البقرة لما صارت في حكم البدنة قامت مقامها،
وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة
فصار البقر في حكم البدن، ولذلك كان تقليد البقرة كتقليد البدنة في باب
وقوع الإحرام بها لسائقها ولا يقلد غيرهما، فهذان المعنيان اللذان يختص
بهما البدن دون سائر الهدايا، وروي عن جابر بن عبد الله قال: "البقرة
من البدن".
واختلف أصحابنا فيمن قال "لله علي بدنة" هل يجوز له نحرها بغير مكة؟
فقال أبو حنيفة ومحمد: "يجوز له ذلك" وقال أبو يوسف: "لا يجوز له نحره
إلا بمكة". ولم يختلفوا فيمن نذر هديا أن عليه ذبحه بمكة وأن من قال:
"لله علي جزور" أنه يذبحه حيث شاء. وروي عن ابن عمر أنه قال: "من نذر
جزورا نحرها حيث شاء، وإذا نذر بدنة نحرها بمكة"، وكذا روي عن الحسن
وعطاء، وكذا روي عن عبد الله بن محمد بن علي وسالم وسعيد بن المسيب.
وروي عن الحسن أيضا وسعيد بن المسيب قالا: "إذا جعل على نفسه هديا
فبمكة وإذا قال بدنة فحيث نوى". وقال مجاهد: "ليست البدن إلا بمكة".
وذهب أبو حنيفة إلى أن البدنة بمنزلة الجزور ولا يقتضي إهداءها إلى
موضع فكان بمنزلة ناذر الجزور والشاة ونحوها، وأما الهدي فإنه يقتضي
إهداءه إلى موضع، وقال الله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}
[المائدة: 95] فجعل بلوغ الكعبة من صفة الهدي. ويحتج لأبي يوسف بقوله
تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ
لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} فكان اسم البدنة مفيدا لكونها قربة كالهدي; إذ
كان اسم الهدي يقتضي كونه قربة مجعولا لله، فلما لم يجز الهدي إلا بمكة
كان كذلك حكم البدنة. قال أبو بكر: وهذا لا يلزم من قبل أنه ليس كل ما
كان ذبحه قربة فهو مختص بالحرم; لأن الأضحية قربة، وهي جائزة في سائر
الأماكن، فوصفه للبدن بأنها من شعائر الله لا يوجب تخصيصها بالحرم.
قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} روى يونس
عن زياد قال: رأيت
(3/317)
ابن عمر
أتى على رجل قد أناخ راحلته فنحرها وهي باركة، فقال: "انحرها قياما
مقيدة سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم". وروى أيمن بن نابل عن طاوس
قال في قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ}
"قياما". وروى سفيان عن منصور عن مجاهد قال: من قرأ: "صواف" فهي قائمة
مضمومة يداها، ومن قرأ: "صوافن" قيام معقولة. وروى الأعمش عن أبي ظبيان
عن ابن عباس قال: قرأها "صوافن". قال" "معقولة، يقول: بسم الله والله
أكبر". وروى الأعمش عن أبي الضحى قال: سمعت ابن عباس وسئل عن هذه الآية
صواف قال: "قياما معقولة". وروى جويبر عن الضحاك قال: كان ابن مسعود
يقرؤها: "صوافن" وصوافن أن يعقل إحدى يديها فتقوم على ثلاث. وروى قتادة
عن الحسن أنه قرأها: "صوافي" قال: "خالصة من الشرك". وعن ابن عمر وعروة
بن الزبير: "أنها تنحر مستقبلة القبلة".
قال أبو بكر: خلصت قراءة السلف لذلك على ثلاثة أنحاء: أحدها: "صواف"
بمعنى مصطفة قياما، و "صوافي" بمعنى خالصة لله تعالى، و "صوافن" بمعنى
معقلة في قيامها.
قوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} روي عن ابن عباس ومجاهد
والضحاك وغيرهم: "إذا سقطت" وقال أهل اللغة: الوجوب هو السقوط، ومنه:
وجبت الشمس إذا سقطت للمغيب، قال قيس بن الخطيم:
أطاعت بنو عوف أميرا نهاهم ... عن السلم حتى كان أول واجب
يعني: أول مقتول سقط على الأرض. وكذلك البدن إذا نحرت قياما سقطت
لجنوبها، وهذا يدل على أنه قد أراد بقوله: "صواف" قياما; لأنها إذا
كانت باركة لا يقال إنها تسقط إلا بالإضافة فيقال سقطت لجنوبها، وإذا
كانت قائمة ثم نحرت فلا محالة يطلق عليها اسم السقوط، وقد يقال للباركة
إذا ماتت فانقلبت على الجنب إنها سقطت لجنبها، فاللفظ محتمل للأمرين،
إلا أن أظهرهما أن تكون قائمة فتسقط لجنبها عند النحر. وقوله تعالى:
{فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} يدل على أنه قد أريد
بوجوبها لجنوبها موتها، فهذا يدل على أنه ليس المراد سقوطها فحسب، وأنه
إنما أراد سقوطها للموت فجعل وجوبها عبارة عن الموت، وهذا يدل على أنه
لا يجوز الأكل منها إلا بعد موتها، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم:
"ما بان من البهيمة وهي حية فهو ميتة".
وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} يقتضي إيجاب الأكل منها، إلا أن أهل
العلم متفقون على أن الأكل منها غير واجب، وجائز أن يكون مستحبا مندوبا
إليه، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أكل من البدن التي
ساقها في حجة الوداع، وكان لا يأكل يوم الأضحى حتى
(3/318)
يصلي صلاة
العيد ثم يأكل من لحم أضحيته، وقال صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن
لحوم الأضاحي فوق ثلاث فكلوا وادخروا" . وروى أبو بكر بن عياش عن أبي
إسحاق عن علقمة قال: بعث معي عبد الله بهديه فقلت له: ماذا تأمرني أن
أصنع به؟ قال: "إذا كان يوم عرفة فعرف به وإذا كان يوم النحر فانحره
صواف فإذا وجب لجنبه فكل ثلثا وتصدق بثلث وابعث إلى أهل أخي ثلثا".
وروى نافع عن ابن عمر، كان يفتي في النسك والأضحية ثلث لك ولأهلك وثلث
في جيرانك وثلث للمساكين". وقال عبد الملك عن عطاء مثله، قال: "وكل شيء
من البدن واجبا كان أو تطوعا فهو بهذه المنزلة إلا ما كان من جزاء صيد
أو فدية من صيام أو صدقة أو نسك أو نذر مسمى للمساكين". وقد روى طلحة
بن عمرو عن عطاء عن ابن مسعود قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن نتصدق بثلثها ونأكل ثلثها ونعطي الجازر ثلثها، والجازر غلط; لأن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي: "لا تعط الجازر منها شيئا" ، وجائز
أن يكون الجازر صحيحا، وإنما أمرنا بإعطائه من غير أجرة الجزارة، وإنما
نهى أن يعطى الجازر منها من أجرته. ولما ثبت جواز الأكل منها، دل ذلك
على جواز إعطائه الأغنياء; لأن كل ما يجوز له أكله يجوز أن يعطي منه
الغني كسائر أمواله. وإنما قدروا الثلث للصدقة على وجه الاستحباب; لأنه
لما جاز له أن يأكل بعضه ويتصدق ببعضه، ويهدي بعضه على غير وجه الصدقة
كان الذي حصل للصدقة الثلث، وقد قدمنا قبل ذلك أنه لما قال صلى الله
عليه وسلم في لحوم الأضاحي: "فكلوا وادخروا" وقال الله تعالى:
{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} حصل الثلث
للصدقة. وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} عطفا على البدن يقتضي عمومه
جواز الأكل من بدن القران والتمتع لشمول اللفظ لها.
قوله تعالى: {وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} قال أبو بكر:
القانع قد يكون الراضي بما رزق، والقانع السائل، أخبرنا أبو عمر غلام
ثعلب قال: أخبرنا ثعلب عن ابن الأعرابي قال: القناعة الرضا بما رزقه
الله تعالى، ويقال من القناعة رجل قانع وقنع "ومن القنوع رجل قانع" لا
غير قال أبو بكر: وقال الشماخ في القنوع:
لمال المرء يصلحه فيغني ... مفاقره أعف من القنوع
واختلف السلف في المراد بالآية، فروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة قالوا:
"القانع الذي لا يسأل والمعتر الذي يسأل". وروي عن الحسن وسعيد بن جبير
قالا: "القانع الذي يسأل". وروي عن الحسن قال: "المعتر يتعرض ولا
يسأل". وقال مجاهد: "القانع جارك والغني والمعتر الذي يعتريك من
الناس". قال أبو بكر: إن كان القانع هو الغني فقد اقتضت الآية أن يكون
المستحب الصدقة بالثلث; لأن فيها الأمر بالأكل وإعطاء الغني وإعطاء
الفقير الذي يسأل.
(3/319)
قوله
تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ
يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} قيل في معناه: لن يتقبل الله اللحوم
ولا الدماء ولكن يتقبل التقوى منها. وقيل: لن يبلغ رضا الله لحومها ولا
دماؤها ولكن يبلغه التقوى منكم. وإنما قال ذلك بيانا أنهم إنما يستحقون
الثواب بأعمالهم; إذ كانت اللحوم والدماء فعل الله فلا يجوز أن يستحقوا
بها الثواب وإنما يستحقونه بفعلهم الذي هو التقوى ومجرى موافقة أمر
الله تعالى بذبحها.
قوله تعالى: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} يعني: ذللها لتصريف العباد
فيما يريدون منها خلاف السباع الممتنعة بما أعطيت من القوة والآلة.
قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ
لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} قال مجاهد:
"صوامع الرهبان، والبيع كنائس اليهود". وقال الضحاك: "صلوات كنائس
اليهود يسمونها صلوتا". وقيل: "إن الصلوات مواضع صلوات المسلمين مما في
منازلهم". وقال بعضهم: "لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع في
أيام شريعة عيسى عليه السلام وبيع في أيام شريعة موسى عليه السلام
ومساجد في أيام شريعة محمد صلى الله عليه وسلم". وقال الحسن: "يدفع عن
هدم مصليات أهل الذمة بالمؤمنين".
قال أبو بكر: في الآية دليل على أن هذه المواضع المذكورة لا يجوز أن
تهدم على من كان له ذمة أو عهد من الكفار، وأما في دار الحرب فجائز لهم
أن يهدموها كما يهدمون سائر دورهم. وقال محمد بن الحسن في أرض الصلح
إذا صارت مصرا للمسلمين: "لم يهدم ما كان فيها من بيعة أو كنيسة أو بيت
نار، وأما ما فتح عنوة وأقر أهلها عليها بالجزية فإنه ما صار منها مصرا
للمسلمين فإنهم يمنعون فيها من الصلاة في بيعهم وكنائسهم ولا تهدم
عليهم ويؤمرون بأن يجعلوها إن شاءوا بيوتا مسكونة".
(3/320)
مطلب: في صحة إمامة الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم
قوله تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا
الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ} قال أبو بكر: هذه صفة الذين أذن لهم في
القتال بقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ
ظُلِمُوا} إلى قوله: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ
حَقٍّ} إلى قوله: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ
أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ
وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} وهذه صفة المهاجرين; لأنهم الذين أخرجوا
من ديارهم بغير حق، فأخبر تعالى أنه إن مكنهم في الأرض أقاموا الصلاة
وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وهو صفة الخلفاء
الراشدين الذين مكنهم الله في الأرض وهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي
الله
(3/320)
عنهم وفيه
الدلالة الواضحة على صحة إمامتهم لإخبار الله تعالى بأنهم إذا مكنوا في
الأرض قاموا بفروض الله عليهم، وقد مكنوا في الأرض فوجب أن يكونوا أئمة
قائمين بأوامر الله منتهين عن زواجره ونواهيه، ولا يدخل معاوية في
هؤلاء; لأن الله إنما وصف بذلك المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم، وليس
معاوية من المهاجرين بل هو من الطلقاء.
قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا
نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي
أُمْنِيَّتِهِ} الآية.
(3/321)
مطلب: في [تلك الغرانيق العلى] إلى آخره
روي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك ومحمد بن كعب ومحمد بن قيس: أن
السبب في نزول هذه الآية أنه لما تلا النبي صلى الله عليه وسلم:
{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ
الْأُخْرَى} [النجم: 19, 20] ألقى الشيطان في تلاوته: تلك الغرانيق
العلى، وإن شفاعتهن لترتجى. وقد اختلف في معنى ألقى الشيطان، فقال
قائلون: لما تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه السورة وذكر فيها
الأصنام علم الكفار أنه يذكرها بالذم والعيب، فقال قائل منهم حين بلغ
النبي صلى الله عليه وسلم إلى قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ
وَالْعُزَّى} : "تلك الغرانيق العلى" وذلك بحضرة الجمع الكثير من قريش
في المسجد الحرام، فقال سائر الكفار الذين كانوا بالبعد منه: إن محمدا
قد مدح آلهتنا، وظنوا أن ذلك كان في تلاوته، فأبطل الله ذلك من قولهم
وبين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتله وإنما تلاه بعض المشركين،
وسمى الذي ألقى ذلك في حال تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم شيطانا;
لأنه كان من شياطين الإنس كما قال تعالى: {شَيَاطِينَ الْأِنْسِ
وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112] والشيطان اسم لكل متمرد عات من الجن
والإنس. وقيل: إنه جائز أن يكون شيطانا من شياطين الجن، وقال ذلك عند
تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم ومثل ذلك جائز في أزمان الأنبياء عليهم
السلام كما حكى الله تعالى عنه بقوله: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ
الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ
النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ
نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى
مَا لا تَرَوْنَ} [الأنفال: 48] وإنما قال ذلك إبليس حين تصور في صورة
سراقة بن مالك لقريش وهم يريدون الخروج إلى بدر، وكما تصور في صورة
الشيخ النجدي حين تشاورت قريش في دار الندوة في أمر النبي صلى الله
عليه وسلم وكان مثل ذلك جائزا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لضرب من
التدبير، فجائز أن يكون الذي قال ذلك شيطانا فظن القوم أن النبي صلى
الله عليه وسلم قاله. وقال بعضهم جائز أن يكون النبي صلى الله عليه
وسلم قد تكلم بذلك على سبيل السهو الذي لا يعرى منه
(3/321)
بشر فلا
يلبث أن ينبهه الله عليه. وأنكر بعض العلماء ذلك، وذهب إلى أن المعنى
أن الشيطان كان يلقي وساوسه في صدر النبي صلى الله عليه وسلم ما يشغله
عن بعض ما يقول، فيقرأ غلطا في القصص المتشابهة نحو قصة موسى عليه
السلام وفرعون في مواضع من القرآن مختلفة الألفاظ، فكان المنافقون
والمشركون ربما قالوا قد رجع عن بعض ما قرأ وكان ذلك يكون منه على طريق
السهو فنبهه الله تعالى عليه. فأما الغلط في قراءة "تلك الغرانيق" فإنه
غير جائز وقوعه من النبي صلى الله عليه وسلم كما لا يجوز وقوع الغلط
على بعض القرآن بإنشاد شعر في أضعاف التلاوة على أنه من القرآن. وروي
عن الحسن أنه لما تلا ما فيه ذكر الأصنام قال لهم النبي صلى الله عليه
وسلم: "إنما هي عندكم كالغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى في قولكم"
على جهة النكير عليهم.
قوله تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ
فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} قيل: إن المنسك الموضع المعتاد
لعمل خير أو شر وهو المألف لذلك، ومناسك الحج مواضع العبادات فيه، فهي
متعبدات الحج. وقال ابن عباس: "منسكا عيدا" وقال مجاهد وقتادة: "متعبدا
في إراقة الدم بمنى وغيره". وقال عطاء ومجاهد أيضا وعكرمة ذبائح هم
ذابحوه. وقيل إن المنسك جميع العبادات التي أمر الله بها. قال أبو بكر:
قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث البراء بن عازب أن النبي صلى
الله عليه وسلم خرج يوم الأضحى فقال صلى الله عليه وسلم: "إن أول نسكنا
في يومنا هذا الصلاة ثم الذبح" فجعل الصلاة والذبح جميعا نسكا"، وهذا
يدل على أن اسم النسك يقع على جميع العبادات، إلا أن الأظهر الأغلب في
العادة عند الإطلاق الذبح على وجه القربة، قال الله تعالى: {فَفِدْيَةٌ
مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وليس يمتنع أن
يكون المراد جميع العبادات ويكون الذبح أحد ما أريد بالآية، فيوجب ذلك
أن يكونوا مأمورين بالذبح لقوله تعالى: {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي
الْأَمْرِ} وإذ كنا مأمورين بالذبح ساغ الاحتجاج به في إيجاب الأضحية
لوقوعها عامة في الموسرين كالزكاة، ولو جعلناه على الذبح الواجب في
الحج كان خاصا في دم القران والمتعة; إذ كانا نسكين في الحج دون غيرهما
من الدماء; إذ كانت سائر الدماء في الحج إنما يجب على جهة جبران نقص
وجناية فلا يكون إيجابه على وجه ابتداء العبادة به، وقوله تعالى:
{جَعَلْنَا مَنْسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} يقتضي ظاهره ابتداء إيجاب
العبادة به.
(3/322)
مطلب: في الأضحية
واختلف السلف وفقهاء الأمصار في وجوب الأضحية، فروى الشعبي عن أبي
سريحة قال: "رأيت أبا بكر وعمر وما يضحيان". وقال عكرمة: "كان ابن عباس
يبعثني يوم الأضحى بدرهمين أشتري له لحما ويقول: من لقيت فقل هذه أضحية
ابن عباس".
(3/322)
وقال ابن
عمر: "ليست بحتم ولكن سنة ومعروف". وقال أبو مسعود الأنصاري: "إني لأدع
الأضحى وأنا موسر مخافة أن يرى جيراني أنه حتم علي". وقال إبراهيم
النخعي: "الأضحية واجبة إلا على مسافر" وروي عنه أنه قال: "كانوا إذا
شهدوا ضحوا وإذا سافروا لم يضحوا". وروى يحيى بن يمان عن سعيد بن عبد
العزيز عن مكحول قال: "الأضحية واجبة". وقال أبو حنيفة ومحمد وزفر:
"الأضحية واجبة على أهل اليسار من أهل الأمصار والقرى المقيمين دون
المسافرين، ولا أضحية على المسافر وإن كان موسرا، وحد اليسار في ذلك ما
تجب فيه صدقة الفطر" وروي عن أبي يوسف مثل ذلك، وروي عنه أنه ليست
بواجبة وهي سنة. وقال مالك بن أنس: "على الناس كلهم أضحية المسافر
والمقيم، ومن تركها من غير عذر فبئس ما صنع". وقال الثوري والشافعي:
"ليست بواجبة". وقال الثوري: "لا بأس بتركها". وقال عبد الله بن الحسن:
"يؤثر بها أباه أحب إلي من أن يضحي".
قال أبو بكر: ومن يوجبها يحتج بهذه الآية، ويحتج له بقوله: {قُلْ إِنَّ
صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ
لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام: 162, 163] قد اقتضى
الأمر بالأضحية; لأن النسك في هذا الموضع المراد به الأضحية، ويدل عليه
ما روى سعيد بن جبير عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "يا فاطمة اشهدي أضحيتك فإنه يغفر لك بأول قطرة من دمها كل ذنب
عملتيه وقولي: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} " . وروي أن عليا رضي الله عنه كان يقول
عند ذبح الأضحية: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ
وَمَمَاتِي لِلَّهِ} الآية. وقال أبو بردة بن نيار يوم الأضحى: يا رسول
الله إني عجلت بنسكي. وقال صلى الله عليه وسلم: "إن أول نسكنا في يومنا
هذا الصلاة ثم الذبح" فدل ذلك على أن هذا النسك قد أريد به الأضحية،
وأخبر أنه مأمور به بقوله: {وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ} [الأنعام: 163]
والأمر يقتضي الوجوب. ويحتج فيه بقوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}
[الكوثر:2] قد روي أنه أراد صلاة العيد وبالنحر الأضحية، والأمر يقتضي
الإيجاب، وإذا وجب على النبي صلى الله عليه وسلم فهو واجب علينا لقوله
تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ} وقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ
اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]
ويحتج للقائلين بإيجابها من جهة الأثر بما رواه زيد بن الحباب عن عبد
الله بن عياش قال: حدثني الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "من كان له يسار فلم يضح فلا يقربن مصلانا" . وقد رواه
غير زيد بن الحباب مرفوعا جماعة منهم يحيى بن سعيد، حدثنا عبد الباقي
بن قانع قال: حدثنا عباس بن الوليد بن المبارك قال: حدثنا
(3/323)
الهيثم بن
خارجة قال: حدثنا يحيى بن سعيد عن عبد الله بن عياش عن الأعرج عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قدر على سعة فلم يضح
فلا يقربن مصلانا" . ورواه يحيى بن يعلى أيضا مرفوعا، حدثنا عبد الباقي
قال: حدثنا حسين بن إسحاق قال: حدثنا أحمد بن النعمان الفراء قال:
حدثنا يحيى بن يعلى عن عبد الله بن عياش أو عباس عن الأعرج عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من وجد سعة فلم يضح فلا
يقربن مسجدنا". ورواه عبيد الله بن أبي جعفر عن الأعرج عن أبي هريرة
قال: "من وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا". ويقال إن عبيد الله بن
أبي جعفر فوق ابن عياش في الضبط والجلالة، فوقفه على أبي هريرة ولم
يرفعه، ويقال إن الصحيح أنه موقوف عليه غير مرفوع.
ويحتج لإيجابها أيضا بحديث أبي رملة الحنفي عن مخنف بن سليم عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: "على كل أهل بيت في عام أضحية وعتيرة".
قال أبو بكر: والعتيرة منسوخة بالاتفاق، وهي أنهم كانوا يصومون رجب ثم
يعترون، وهي الرجبية، وقد كان ابن سيرين وابن عون يفعلانه، ولم تقم
الدلالة على نسخ الأضحية فهي واجبة بمقتضى الخبر، إلا أنه ذكر في هذا
الحديث: "على كل أهل بيت أضحية" ومعلوم أن الواجب من الأضحية لا يجزئ
عن أهل البيت وإنما يجزئ عن واحد، فيدل ذلك على أنه لم يرد الإيجاب.
ومما يحتج لموجبها ما حدثنا عبد الباقي قال: حدثنا أحمد بن أبي عون
البزوري قال: حدثنا أبو معمر إسماعيل بن إبراهيم قال: حدثنا أبو
إسماعيل المؤدب عن مجالد عن الشعبي عن جابر والبراء بن عازب قالا: قام
النبي صلى الله عليه وسلم على منبره يوم الأضحى فقال: "من صلى معنا هذه
الصلاة فليذبح بعد الصلاة" فقام أبو بردة بن نيار فقال: يا رسول الله
إني ذبحت ليأكل معنا أصحابنا إذا رجعنا، قال: ليس بنسك قال: عندي جذعة
من المعز، قال: "تجزي عنك ولا تجزي عن غيرك" ، فيستدل من هذا الخبر
بوجوه على الوجوب، أحدها: قوله صلى الله عليه وسلم: "من صلى معنا هذه
الصلاة وشهد معنا فليذبح بعد الصلاة" وهو أمر بالذبح يقتضي ظاهره
الوجوب. والوجه الثاني: قوله صلى الله عليه وسلم: "تجزي عنك ولا تجزي
عن غيرك" . ومعناه: تقضي عنك; لأنه يقال جزى عني كذا بمعنى قضى عني،
والقضاء لا يكون إلا عن واجب فقد اقتضى ذلك الوجوب. ومن جهة أخرى أن في
بعض ألفاظ هذا الحديث: "فمن ذبح قبل الصلاة فليعد أضحيته" وفي بعضها
أنه قال لأبي بردة: "أعد أضحيتك"، ومن يأبى ذلك يقول: إن قوله صلى الله
عليه وسلم: "من صلى معنا هذه الصلاة وشهد معنا فليذبح" يدل على أنه لم
يرد الإيجاب; لأن وجوبها لا يتعلق بشهود الصلاة عند الجميع، ولما عم
الجميع ولم يخصص به الأغنياء دل على أنه أراد الندب،
(3/324)
وأما
قوله: "تجزي عنك" فإنما أراد به جواز قربة، والجواز والقضاء على ضربين:
أحدهما جواز قربة، والآخر جواز فرض، فليس في ظاهر إطلاق لفظ الجواز
والقضاء دلالة على الوجوب. وأيضا يحتمل أن يكون أبو بردة قد كان أوجب
الأضحية نذرا، فأمره بالإعادة، فإذا ليس فيما خاطب به أبا بردة دلالة
على الوجوب; لأنه حكم في شخص معين ليس بعموم لفظ في إيجابها على كل
أحد.
فإن قيل: لو أراد القضاء عن واجب لسأله عن قيمته ليوجب عليه مثله. قيل
له: قد قال أبو بردة: "إن عندي جذعة خير من شاتي لحم" فكانت الجذعة
خيرا من الأولى.
ومما يحتج به على الوجوب من طريق النظر اتفاق الجميع على لزومها
بالنذر، فلولا أن لها أصلا في الوجوب لما لزمت بالنذر، كسائر الأشياء
التي ليس لها أصل في الوجوب فلا تلزم بالنذر. ومما يحتج به للوجوب ما
روى جابر الجعفي عن أبي جعفر قال: "نسخت الأضحية كل ذبح كان قبلها،
ونسخت الزكاة كل زكاة كانت قبلها، ونسخ صوم رمضان كل صوم كان قبله،
ونسخ غسل الجنابة كل غسل كان قبله"، قالوا: فهذا يدل على وجوب الأضحى;
لأنه نسخ به ما كان قبله، ولا يكون المنسوخ به إلا واجبا، ألا ترى أن
كل ما ذكره أنه ناسخ لما قبله فهو فرض أو واجب؟ قال أبو بكر: وهذا عندي
لا يدل على الوجوب; لأن نسخ الواجب هو بيان مدة الوجوب، فإذا بين
بالنسخ أن مدة الإيجاب كانت إلى هذا الوقت لم يكن في ذلك ما يقتضي
إيجاب شيء آخر، ألا ترى أنه لو قال قد نسخت عنكم العتيرة والعقيقة
وسائر الذبائح التي كانت تفعل لم تكن فيه دلالة على وجوب ذبيحة أخرى؟
فليس إذا في قوله: "نسخت الأضحية كل ذبيحة كانت قبلها" دلالة على وجوب
الأضحية، وإنما فائدة ذكر النسخ في هذا الموضع بالأضحية أنه بعدما
ندبنا إلى الأضحية لم تكن هناك ذبيحة أخرى واجبة.
ومما يحتج به من نفى وجوبها ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا
إبراهيم بن عبد الله قال: حدثنا عبد العزيز بن الخطاب قال: حدثنا مندل
بن علي عن أبي حباب عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "الأضحى علي فريضة وهو عليكم سنة" . وحدثنا عبد الباقي قال:
حدثنا سعيد بن محمد أبو عثمان الأنجذاني قال: حدثنا الحسن بن حماد قال:
حدثنا عبد الرحيم بن سليم عن عبد الله بن محرز عن قتادة عن أنس بن مالك
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت بالأضحى والوتر ولم تعزم
علي" . وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا محمد بن علي بن العباس الفقيه
قال: حدثنا عبد الله بن عمر قال: حدثنا محمد بن عبد الوارث قال: حدثنا
أبان عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث هن
علي فريضة ولكم تطوع: الأضحى والوتر والضحى" ففي هذه الأخبار
(3/325)
أنها ليست
بواجبة علينا، إلا أن الأخبار لو تعارضت لكانت الأخبار المقتضية
للإيجاب أولى بالاستعمال من وجهين: أحدهما: أن الإيجاب طارئ على إباحة
الترك، والثاني: أن فيه حظر الترك وفي نفيه إباحة الترك، والحظر أولى
من الإباحة.
ومما يحتج به في نفي الوجوب ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود
قال: حدثنا هارون بن عبد الله قال: حدثنا عبد الله بن يزيد قال: حدثني
سعيد بن أيوب قال: حدثني عياش القتباني عن عيسى بن هلال الصدفي عن عبد
الله بن عمرو بن العاص، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت بيوم
الأضحى عيدا جعله الله لهذه الأمة فقال رجل: أرأيت إن لم أجد إلا منيحة
أنثى أفأضحي بها؟ قال: لا، ولكن تأخذ من شعرك وأظفارك وتقص شاربك وتحلق
عانتك فتلك تمام أضحيتك عند الله عز وجل" فلما جعل هذه الأشياء بمنزلة
الأضحية دل على أن الأضحية غير واجبة; إذ كان فعل هذه الأشياء غير
واجب. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثني إبراهيم بن
موسى الرازي قال: حدثنا عيسى قال: حدثنا محمد بن إسحاق عن يزيد بن أبي
حبيب عن أبي عياش عن جابر بن عبد الله قال: ذبح النبي صلى الله عليه
وسلم يوم النحر كبشين أقرنين أملحين موجئين، فلما وجههما قال: "إني
وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض على ملة إبراهيم حنيفا وما أنا من
المشركين، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له
وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، اللهم منك ولك عن محمد وأمته، باسم الله
والله أكبر". ثم ذبح. قالوا: ففي ذبحه عن الأمة دلالة على أنها غير
واجبة; لأنها لو كانت واجبة لم تجز شاة عن جميع الأمة. قال أبو بكر:
وهذا لا ينفي الوجوب; لأنه تطوع بذلك، وجائز أن يتطوع عمن قد وجب عليه
كما يتطوع الرجل عن نفسه ولا يسقط ذلك عنه وجوب ما يلزمه.
ومما يحتج من نفى الوجوب ما قدمنا روايته عن السلف من نفي إيجابه، وفيه
الدلالة من وجهين على ذلك: أحدهما: أنه لم يظهر من أحد من نظرائهم من
السلف خلافه، وقد استفاض عمن ذكرنا قولهم من السلف نفي إيجابه والثاني:
أنه لو كان واجبا مع عموم الحاجة إليه لوجب أن يكون من النبي عليه
السلام توقيف لأصحابه على وجوبه، ولو كان كذلك لورد النقل به مستفيضا
متواترا وكان لا أقل من أن يكون وروده في وزن ورود إيجاب صدقة الفطر
لعموم الحاجة إليه، وفي عدم النقل المستفيض فيه دلالة على نفي الوجوب.
ويحتج فيه بأنه لو كان واجبا وهو حق في مال لما اختلف حكم المقيم
والمسافر فيه كصدقة الفطر، فلما لم يوجبه أبو حنيفة على المسافر دل على
أنه غير واجب. ويحتج فيه أيضا بأنه لو كان واجبا وهو حق في مال لما
أسقطه مضي الوقت،
(3/326)
فلما اتفق
الجميع على أنه يسقط بمضي أيام النحر دل على أنه غير واجب; إذ كانت
سائر الحقوق الواجبة في الأموال نحو الزكاة وصدقة الفطر والعشر ونحوها
لا يسقطها مضي الأوقات.
قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} إلى قوله
{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} قيل: معناه جاهدوا في الله حق جهاده
واتبعوا ملة أبيكم إبراهيم، ولذلك نصب. قال بعضهم: نصب; لأنه أراد كملة
أبيكم، إلا أنه لما حذف الجار اتصل الاسم بالفعل فنصب. قال أبو بكر:
وفي هذه الآية دلالة على أن علينا اتباع شريعة إبراهيم إلا ما ثبت نسخه
على لسان نبينا صلى الله عليه وسلم وقيل: إنه إنما قال ملة أبيكم
إبراهيم; لأنها داخلة في ملة نبينا صلى الله عليه وسلم وإن كان المعنى
أنه كملة أبيكم إبراهيم، فإنه يعني أن الجهاد في الله حق جهاده كملة
أبيكم إبراهيم عليه السلام; لأنه جاهد في الله حق جهاده. قال ابن عباس:
{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} : "جاهدوا المشركين". وروي
عن ابن عباس أيضا: "لا تخافوا في الله لومة لائم، وهو الجهاد في الله
حق جهاده". وقال الضحاك: "يعني اعملوا بالحق لله عز وجل".
قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} قال
ابن عباس: "من ضيق". وكذلك قال مجاهد. ويحتج به في كل ما اختلف فيه من
الحوادث أن ما أدى إلى الضيق فهو منفي وما أوجب التوسعة فهو أولى، وقد
قيل: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} أنه من ضيق
لا مخرج منه، وذلك لأن منه ما يتخلص منه بالتوبة ومنه ما ترد به
المظلمة، فليس في دين الإسلام ما لا سبيل إلى الخلاص من عقوبته.
وقوله {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} الخطاب لجميع المسلمين، وليس
كلهم راجعا بنسبه إلى أولاد إبراهيم، فروي عن الحسن أنه أراد أن حرمة
إبراهيم على المسلمين كحرمة الوالد على الولد كما قال تعالى:
{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] وفي بعض القراءات: "وهو
أب لهم".
قوله تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} قال ابن
عباس ومجاهد: "يعني أن الله سماكم المسلمين". وقيل: إن إبراهيم سماكم
المسلمين لقوله تعالى حاكيا عن إبراهيم: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً
مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة: 128].
وقوله تعالى: {مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} قال مجاهد: "من قبل القرآن وفي
القرآن".
وقوله تعالى: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} يدل على أنهم عدول مرضيون، وفي ذلك
بطلان طعن الطاعنين عليهم; إذ كان الله لا يجتبي إلا أهل طاعته واتباع
مرضاته، وفي ذلك مدح للصحابة المخاطبين بذلك ودليل على طهارتهم.
(3/327)
قوله
تعالى: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا
شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فيه الدلالة على صحة إجماعهم; لأن معناه:
ليكون الرسول شهيدا عليكم بطاعة من أطاع في تبليغه وعصيان من عصى
وتكونوا شهداء على الناس بأعمالهم فيما بلغتموهم من كتاب ربهم وسنة
نبيهم، وهذه الآية نظير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً
وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ
عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] فبدأ بمدحهم ووصفهم بالعدالة ثم
أخبر أنهم شهداء وحجة على من بعدهم، كما قال هنا: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ}
إلى قوله: {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}.
قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} ربما يحتج به المحتج في إيجاب
قربة مختلف في وجوبها، وهذا عندنا لا يصح الاحتجاج به في إيجاب شيء ولا
يصح اعتقاد العموم فيه. آخر سورة الحج.
(3/328)
|