أحكام القرآن للجصاص ط العلمية
ومن سورة المؤمنين
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} روى ابن عون عن محمد بن سيرين قال: كان النبي
صلى الله عليه وسلم إذا صلى رفع رأسه إلى السماء، فلما نزلت:
{الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} نكس رأسه. وروى هشام عن
محمد قال: "لما نزلت: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ}
خفضوا أبصارهم فكان الرجل يحب أن لا يجاوز بصره موضع سجوده". وروي عن
جماعة: "الخشوع في الصلاة أن لا يجاوز بصره موضع سجوده". وروي عن
إبراهيم ومجاهد والزهري: "الخشوع السكون". وروى المسعودي عن أبي سنان
عن رجل منهم قال: سئل علي عن قوله: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ
خَاشِعُونَ} قال: "الخشوع في القلب وأن تلين كنفك للمرء المسلم ولا
تلتفت في صلاتك "وقال الحسن: "خاشعون خائفون".
قال أبو بكر: الخشوع ينتظم هذه المعاني كلها من السكون في الصلاة
والتذلل وترك الالتفات والحركة والخوف من الله تعالى وقد روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اسكنوا في الصلاة وكفوا أيديكم في
الصلاة" وقال: "أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء وأن لا أكف شعرا ولا ثوبا"
، وأنه نهى عن مس الحصى في الصلاة وقال: "إذا قام الرجل يصلي فإن
الرحمة تواجهه فإذا التفت انصرفت عنه" . وروى الزهري عن سعيد بن
المسيب: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلمح في الصلاة ولا
يلتفت. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أبو توبة
قال: حدثنا معاوية بن سلام عن زيد بن سلام أنه سمع أبا سلام قال: حدثني
السلولي أنه حدثه سهل بن الحنظلية أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم يوم حنين، وذكر الحديث إلى قوله: "من يحرسنا الليلة؟" قال
أنس بن أبي مرثد الغنوي: أنا يا رسول الله، قال: "فاركب!" فركب فرسا
له، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا يغرن من قبلك
الليلة" فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع
ركعتين ثم قال: "هل أحسستم
(3/329)
فارسكم؟"
قالوا: يا رسول الله ما أحسسناه، فثوب بالصلاة، فجعل رسول الله صلى
الله عليه وسلم يصلي وهو يلتفت إلى الشعب حتى إذا قضى صلاته وسلم قال:
"أبشروا فقد جاءكم فارسكم" . فأخبر في هذا الحديث أنه كان يلتفت إلى
الشعب وهو في الصلاة، وهذا عندنا كان عذرا من وجهين: أحدهما: أنه لم
يأمن من مجيء العدو من تلك الناحية، والثاني: اشتغال قلبه بالفارس إلى
أن طلع. روي عن إبراهيم النخعي أنه كان يلحظ في الصلاة يمينا وشمالا.
وروى حماد بن سلمة عن حميد عن معاوية بن قرة قال: قيل لابن عمر: إن ابن
الزبير إذا صلى لم يقل هكذا ولا هكذا قال: لكنا نقول هكذا وهكذا ونكون
مثل الناس. روي عن ابن عمر أنه كان لا يلتفت في الصلاة، فعلمنا أن
الالتفات المنهي عنه أن يولي وجهه يمنة ويسرة، فأما أن يلحظ يمنة ويسرة
فإنه غير منهي عنه. روى سفيان عن الأعمش قال: "كان ابن مسعود إذا قام
إلى الصلاة كأنه ثوب ملقى". وروى أبو مجلز عن أبي عبيدة قال: "كان ابن
مسعود إذا قام إلى الصلاة خفض فيها صوته وبدنه وبصره". وروى علي بن
صالح عن زبير اليامي قال: "كان إذا أراد أن يصلي كأنه خشبة".
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} واللغو هو
الفعل الذي لا فائدة فيه، وما كان هذا وصفه من القول والفعل فهو محظور.
وقال ابن عباس: "اللغو الباطل"، والقول الذي لا فائدة فيه هو الباطل،
وإن كان الباطل قد يبتغى به فوائد عاجلة.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} يجوز أن يكون
المراد عاما في الرجال والنساء; لأن المذكر والمؤنث إذا اجتمعا غلب
المذكر كقوله: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي
صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قد أريد به الرجال والنساء. من الناس من يقول
إن قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} خاص في الرجال
بدلالة قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ} وذلك لا محالة أريد به الرجال. قال أبو بكر: وليس يمتنع
أن يكون اللفظ الأول عاما في الجميع والاستثناء خاص في الرجال، كقوله:
{وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً} [العنكبوت: 8] ثم
قال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} [العنكبوت: 8] فالأول عموم في
الجميع والعطف في بعض ما انتظمه اللفظ، وقوله: {وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} عام لدلالة الحال عليه، وهو حفظها من مواقعة
المحظور بها.
قوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْعَادُونَ} يقتضي تحريم نكاح المتعة; إذ ليست بزوجة ولا مملوكة يمين،
وقد بينا ذلك في سورة النساء. في قوله: {وَرَاءَ ذَلِكَ} معناه: غير
ذلك. قوله: {الْعَادُونَ} يعني من يتعدى الحلال إلى الحرام، فأما قوله:
{إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} استثناء
من
(3/330)
الجملة
المذكورة لحفظ الفروج وإخبار عن إباحة وطء الزوجة وملك اليمين، فاقتضت
الآية حظر ما عدا هذين الصنفين في الزوجات وملك الأيمان، ودل بذلك على
إباحة وطء الزوجات وملك اليمين لعموم اللفظ فيهن.
إن قيل: لو كان ذلك عموما في إباحة وطئهن لوجب أن يجوز وطؤهن في حال
الحيض ووطء الأمة ذات الزوجة والمعتدة من وطء بشبهة ونحو ذلك. قيل له:
قد اقتضى عموم اللفظ إباحة وطئهن في سائر الأحوال، إلا أن الدلالة قد
قامت على تخصيص من ذكرت كسائر العموم إذا خص منه شيء لم يمنع ذلك بقاء
حكم العموم فيما لم يخص، وملك اليمين متى أطلق عقل به الأمة والعبد
المملوكان، ولا يكاد يطلق ملك اليمين في غير بني آدم، لا يقال للدار
والدابة ملك اليمين، وذلك; لأن ملك العبد والأمة أخص من ملك غيرهما،
ألا ترى أنه يملك التصرف في الدار بالنقض والبناء ولا يملك ذلك في بني
آدم ويجوز عارية الدار وغيرها من العروض ولا يجوز عارية الفروج؟. قوله
تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} روي عن جماعة
من السلف في قوله تعالى: {يُحَافِظُونَ} قالوا: "فعلها في الوقت". وروي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس التفريط في النوم إنما
التفريط أن يترك الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى" . وقال مسروق: "الحفاظ
على الصلاة فعلها لوقتها". وقال إبراهيم النخعي "يحافظون دائمون". وقال
قتادة: "يحافظون على وضوئها ومواقيتها وركوعها وسجودها". قال أبو بكر:
المحافظة عليها مراعاتها للتأدية في وقتها على استكمال شرائطها، وجميع
المعاني التي تأول عليها السلف المحافظة هي مرادة بالآية، وأعاد ذكر
الصلاة; لأنه مأمور بالمحافظة عليها كما هو مأمور بالخشوع فيها.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ} الآية. روى وكيع عن مالك بن مغول عن عبد الرحمن بن سعيد بن
وهب عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا
آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أهو الرجل يشرب الخمر ويسرق؟ قال: "لا
يا عائشة ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه" . وروى
جرير عن ليث عمن حدثه عن عائشة وعن ابن عمر: {يُؤْتُونَ مَا آتَوْا}
قال: "الزكاة". ويروى عن الحسن قال: لقد أدركت أقواما كانوا من حسناتهم
أن ترد عليهم أشفق منكم على سيئاتكم أن تعذبوا عليها.
قوله تعالى: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا
سَابِقُونَ} الخيرات هنا الطاعات يسارع إليها أهل الإيمان بالله
ويجتهدون في السبق إليها رغبة فيها وعلما بما لهم بها من حسن الجزاء،
وقوله {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} قال ابن عباس: "سبقت لهم
(3/331)
السعادة".
وقال غيره وهم من أهل الخيرات سابقون إلى الجنة". وقال آخرون وهم إلى
الخيرات سابقون".
قوله تعالى: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} قال قتادة وأبو
العالية: "خطايا من دون الحق". وعن الحسن ومجاهد: "أعمال لهم من دون ما
هم عليه لا بد من أن يعملوها".
وقوله تعالى: {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ} قرئ بفتح
التاء وضم الجيم، وقرئ بضم التاء وكسر الجيم، فقيل في "تهجرون" قولان:
أحدهما: قول ابن عباس "تهجرون الحق بالإعراض عنه" وقال مجاهد وسعيد بن
جبير: "تقولون الهجر وهو السيئ من القول". ومن قرأ: "تهجرون" فليس إلا
من الهجر، عن ابن عباس وغيره: "يقال أهجر المريض إذا هذى". ووحد
"سامرا" وإن كان المراد السمار; لأنه في موضع المصدر، كما يقال: قوموا
قياما، وقيل: إنما وحد; لأنه في موضع الوقت بتقدير: ليلا تهجرون،
وكانوا يسمرون بالليل حول الكعبة.
(3/332)
مطلب: في السمر
وقد اختلف في السمر، فروى شعبة عن أبي المنهال عن أبي برزة الأسلمي عن
النبي صلى الله عليه وسلم : أنه كان يكره النوم قبلها والحديث بعدها.
وروى شعبة عن منصور عن خيثمة عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: "لا سمر إلا لرجلين: مصل أو مسافر" . وعن ابن عمر أنه كان ينهى عن
السمر بعد العشاء. وأما الرخصة فيه فما روى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة
قال: قال عمر: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال يسمر الليلة عند
أبي بكر في الأمر من أمور المسلمين، وكان ابن عباس يسمر بعد العشاء،
وكذلك عمرو بن دينار وأيوب السختياني إلى نصف الليل. آخر سورة
المؤمنين.
(3/332)
ومن سورة
النور
مدخل
...
ومن سورة النور
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} قال أبو بكر: لم يختلف السلف في أن حد
الزانيين في أول الإسلام ما قال الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ
الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ} إلى قوله: {وَالَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ
فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] فكان حد المرأة الحبس والأذى بالتعيير، وكان
حد الرجل التعيير، ثم نسخ ذلك عن غير المحصن بقوله تعالى:
{الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
مِائَةَ جَلْدَةٍ} ونسخ عن المحصن بالرجم، وذلك لأن في حديث عبادة بن
الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلا
البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب الجلد والرجم" ، فكان
ذلك عقيب الحبس والأذى المذكورين في قوله: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ
الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ
لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] وذلك لتنبيه النبي صلى الله عليه وسلم
إيانا على أن ما ذكره من ذلك هو السبيل المراد بالآية، ومعلوم أنه لم
تكن بينهما واسطة حكم آخر; لأنه لو كان كذلك لكان السبيل المجعول لهن
متقدما لقوله صلى الله عليه وسلم بحديث عبادة أن المراد بالسبيل هو ما
ذكره دون غيره، وإذا كان كذلك كان الأذى والحبس منسوخين عن غير المحصن
بالآية وعن المحصن بالسنة وهو الرجم.
واختلف أهل العلم في حد المحصن وغير المحصن في الزنا، فقال أبو حنيفة
وأبو يوسف وزفر ومحمد: "يرجم المحصن ولا يجلد ويجلد غير المحصن، وليس
نفيه بحد وإنما هو موكول إلى رأي الإمام إن رأى نفيه للدعارة فعل كما
يجوز حبسه حتى يحدث توبة". وقال ابن أبي ليلى ومالك والأوزاعي والثوري
والحسن بن صالح: "لا يجتمع الجلد والرجم" مثل قول أصحابنا، واختلفوا في
النفي بعد الجلد، فقال ابن أبي ليلى: ينفى البكر بعد الجلد" وقال مالك:
"ينفى الرجل ولا تنفى المرأة ولا العبد، ومن نفي حبس في الموضع الذي
ينفى إليه" وقال الثوري والأوزاعي والحسن بن صالح
(3/333)
والشافعي:
"ينفى الزاني" وقال الأوزاعي: "ولا تنفى المرأة" وقال الشافعي: "ينفى
العبد نصف سنة".
والدليل على أن نفي البكر الزاني ليس بحد أن قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}
يوجب أن يكون هذا هو الحد المستحق بالزنا وأنه كمال الحد، فلو جعلنا
النفي حدا معه لكان الجلد بعض الحد وفي ذلك إيجاب نسخ الآية، فثبت أن
النفي إنما هو تعزير وليس بحد ومن جهة أخرى أن الزيادة في النص غير
جائزة إلا بمثل ما يجوز به النسخ، وأيضا لو كان النفي حدا مع الجلد
لكان من النبي صلى الله عليه وسلم عند تلاوته توقيف للصحابة عليه لئلا
يعتقدوا عند سماع التلاوة أن الجلد هو جميع حده، ولو كان كذلك لكان
وروده في وزن ورود نقل الآية فلما لم يكن خبر النفي بهذه المنزلة بل
كان وروده من طريق الآحاد ثبت أنه ليس بحد. وقد روي عن عمر أنه غرب
ربيعة بن أمية بن خلف في الخمر إلى خيبر فلحق بهرقل، فقال عمر: "لا
أغرب بعدها أحدا" ولم يستثن الزنا. وروي عن علي أنه قال في البكرين إذا
زنيا: "يجلدان ولا ينفيان وإن نفيهما من الفتنة" وروى عبيد الله عن
نافع عن ابن عمر: "أن أمة له زنت، فجلدها ولم ينفها". وقال إبراهيم
النخعي: "كفى بالنفي فتنة". فلو كان النفي ثابتا مع الجلد على أنهما حد
الزاني لما خفي على كبراء الصحابة، ويدل على ذلك ما روى أبو هريرة وشبل
وزيد بن خالد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الأمة: "إذا زنت
فليجلدها، فإن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير"
. وقد حوى هذا الخبر الدلالة من وجهين على صحة قولنا: أحدهما: أنه لو
كان النفي ثابتا لذكره مع الجلد، والثاني: أن الله تعالى قال: {فَإِنْ
أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ
مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فإذا كان جلد الأمة نصف حد الحرة وأخبر
صلى الله عليه وسلم في حدها بالجلد دون النفي دل ذلك على أن حد الحرة
هو الجلد ولا نفي فيه.
فإن قيل: إنما أراد بذلك التأديب دون الحد، وقد روي عن ابن عباس أن
الأمة إذا زنت قبل أن تحصن أنه لا حد عليها لقوله تعالى: {فَإِذَا
أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] قيل له: قد روى سعيد
المقبري عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها قال ذلك ثلاث مرات،
ثم قال في الثالثة أو الرابعة: ثم ليبعها ولو بضفير، وقوله صلى الله
عليه وسلم: بعها ولو بضفير" يدل على أنها لا تنفى; لأنه لو وجب نفيها
لما جاز بيعها; إذ لا يمكن المشتري تسلمها; لأن حكمها أن تنفى.
فإن قيل: في حديث شعبة عن قتادة عن الحسن عن حطان بن عبد الله عن عبادة
بن
(3/334)
الصامت
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني قد جعل الله لهن
سبيلا: البكر بالبكر والثيب بالثيب، البكر يجلد وينفى والثيب يجلد
ويرجم" . وروى الحسن عن قبيصة بن ذؤيب عن سلمة بن المحبق عن النبي صلى
الله عليه وسلم مثله، وحديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن أبي
هريرة وزيد بن خالد: أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
يا رسول الله إن ابني كان عسيفا على هذا فزنى بامرأته فافتديته منه
بوليدة ومائة شاة، ثم أخبرني أهل العلم أن على ابني جلد مائة وتغريب
عام وأن على امرأة هذا الرجم، فاقض بيننا بكتاب الله تعالى فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله أما
الغنم والوليدة فرد عليك وأما ابنك فإن عليه جلد مائة وتغريب عام ثم
قال لرجل من أسلم: اغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" .
قيل له: غير جائز أن نزيد في حكم الآية بأخبار الآحاد; لأنه يوجب
النسخ، لا سيما مع إمكان استعمالها على وجه لا يوجب النسخ، فالواجب إذا
كان هذا هكذا حمله على وجه التعزير لا أنه حد مع الجلد، فرأى النبي صلى
الله عليه وسلم في ذلك الوقت نفي البكر; لأنهم كانوا حديثي عهد
بالجاهلية فرأى ردعهم بالنفي بعد الجلد كما أمر بشق روايا الخمر وكسر
الأواني; لأنه أبلغ في الزجر وأحرى بقطع العادة وأيضا فإن حديث عبادة
وارد لا محالة قبل آية الجلد، وذلك لأنه قال: "خذوا عني قد جعل الله
لهن سبيلا" فلو كانت الآية قد نزلت قبل ذلك لكان السبيل مجعولا قبل ذلك
ولما كان الحكم مأخوذا عنه بل عن الآية، فثبت بذلك أن آية الجلد إنما
نزلت بعد ذلك وليس فيها ذكر النفي، فوجب أن يكون ناسخا لما في حديث
عبادة من النفي إن كان النفي حدا.
ومما يدل على أن النفي على وجه التعزير وليس بحد أن الحدود معلومة
المقادير والنهايات ولذلك سميت حدودا لا تجوز الزيادة عليها ولا
النقصان منها فلما لم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم للنفي مكانا
معلوما ولا مقدارا من المسافة والبعد علمنا أنه ليس بحد وأنه موكول إلى
اجتهاد الإمام، كالتعزير لما لم يكن له مقدار معلوم كان تقديره موكولا
إلى رأي الإمام. ولو كان ذلك حدا لذكر النبي صلى الله عليه وسلم مسافة
الموضع الذي ينفى إليه كما ذكر توقيت السنة لمدة النفي.
وأما الجمع بين الجلد والرجم للمحصن فإن فقهاء الأمصار متفقون على أن
المحصن يرجم ولا يجلد، والدليل على صحة ذلك حديث أبي هريرة وزيد بن
خالد في قصة العسيف وأن أبا الزاني قال: سألت رجلا من أهل العلم فقالوا
على امرأة هذا الرجم، فلم يقل النبي صلى الله عليه وسلم بل عليها الرجم
والجلد، وقال لأنيس: "اغد على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" ولم يذكر
جلدا، ولو وجب الجلد مع الرجم لذكره له كما ذكر الرجم. وقد وردت قصة
ماعز من جهات مختلفة ولم يذكر في شيء منها مع الرجم
(3/335)
جلد، ولو
كان الجلد حدا مع الرجم لجلده النبي صلى الله عليه وسلم ولو جلده لنقل
كما نقل الرجم; إذ ليس أحدهما بأولى بالنقل من الآخر. وكذلك في قصة
الغامدية حين أقرت بالزنا فرجمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن
وضعت ولم يذكر جلدا، ولو كانت جلدت لنقل. وفي حديث الزهري عن عبيد الله
بن عبد الله بن عتبة عن ابن عباس قال: قال عمر: "قد خشيت أن يطول
بالناس زمان حتى يقول قائل لا نجد الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك
فريضة أنزلها الله، وقد قرأنا: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما
ألبتة، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده"، فأخبر أن الذي
فرضه الله هو الرجم وأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم، ولو كان الجلد
واجبا مع الرجم لذكره.
واحتج من جمع بينهما بحديث عبادة الذي قدمناه وقوله: "الثيب بالثيب
الجلد والرجم" ، وبما روى ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر: أن رجلا زنى
بامرأة فأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فجلد، ثم أخبر أنه قد كان
أحصن فأمر به فرجم، وبما روي: "أن عليا جلد شراحة الهمدانية ثم رجمها
وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم".
فأما حديث عبادة فإنا قد علمنا أنه وارد عقيب كون حد الزانيين الحبس
والأذى ناسخا له لا واسطة بينهما بقوله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني
قد جعل الله لهن سبيلا". ثم كان رجم ماعز والغامدية وقوله: "واغد يا
أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" بعد حديث عبادة، فلو كان ما
ذكر في حديث عبادة من الجمع بين الجلد والرجم ثابتا لاستعمله النبي صلى
الله عليه وسلم في هذه الوجوه. وأما حديث جابر فجائز أن يكون جلده بعض
الحد; لأنه لم يعلم بإحصانه، ثم لما ثبت إحصانه رجمه، وكذلك قول
أصحابنا. ويحتمل حديث علي في جلده شراحة ثم رجمها أن يكون على هذا
الوجه.
واختلف الفقهاء في الذميين هل يحدان إذا زنيا؟ فقال أصحابنا والشافعي:
"يحدان" إلا أنهما لا يرجمان عندنا وعند الشافعي يرجمان إذا كانا
محصنين، وقد بينا ذلك فيما سلف، وقال مالك: "لا يحد الذميان إذا زنيا".
قال أبو بكر: وظاهر قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} يوجب الحد على الذميين،
ويدل عليه حديث زيد بن خالد وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها" وقوله صلى الله عليه وسلم: "أقيموا
الحدود على ما ملكت أيمانكم" ، ولم يفرق بين الذمي والمسلم. وأيضا فإن
النبي صلى الله عليه وسلم رجم اليهوديين، فلا يخلو ذلك من أن يكون بحكم
التوراة أو حكما مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم فإن كان رجمهما
بحكم التوراة فقد صار شريعة للنبي صلى الله عليه وسلم; لأن ما كان من
شرائع الأنبياء المتقدمين مبقى إلى وقت النبي صلى الله عليه وسلم فهو
شريعة لنبينا صلى الله عليه وسلم ما لم ينسخ، وإن كان رجمهما على أنه
حكم مبتدأ من النبي صلى الله عليه وسلم فهو ثابت; إذ لم يرد ما
(3/336)
يوجب
نسخه. والصحيح عندنا أنه رجمهما على أنه شريعة مبتدأة من النبي صلى
الله عليه وسلم لا على تبقية حكم التوراة، والدليل عليه أن حد الزانيين
في أول الإسلام كان الحبس والأذى المحصن وغير المحصن فيه سواء، فدل ذلك
على أن الرجم الذي أوجبه الله في التوراة قد كان منسوخاً.
فإن قيل: فإن النبي رجم اليهوديين وأنت لا ترجمهما فقد خالفت الخبر
الذي احتججت به في إثبات حد الزنا على الذميين قيل له: استدلالنا من
خبر رجم اليهوديين على ما ذكرنا صحيح، وذلك; لأنه لما ثبت أنه رجمهما
صح أنهما في حكم المسلمين في إيجاب الحدود عليهما، وإنما رجمهما النبي
صلى الله عليه وسلم; لأنه لم يكن من شرط الرجم الإحصان، فلما شرط
الإحصان فيه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من أشرك بالله فليس
بمحصن" صار حدهما الجلد.
فإن قيل: إنما رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين من قبل أنه لم
تكن لليهوديين ذمة وتحاكموا إليه. قيل له: لو لم يكن الحد واجبا عليهم
لما أقامه النبي صلى الله عليه وسلم عليهما، ومع ذلك فدلالته قائمة على
ما ذكرنا; لأنه إذا كان من لا ذمة له قد حده النبي صلى الله عليه وسلم
في الزنا فمن له ذمة وتجري عليه أحكام المسلمين أحرى بذلك. ويدل عليه
أنهم لا يختلفون أن الذمي يقطع في السرقة، فكذلك في الزنا; إذ كان فعلا
لا يقر عليه، فوجب أن يزجر عنه بالحد كما وجب زجر المسلم به، وليس هو
كالمسلم في شرب الخمر; لأنهم مقرون على التخلية بينهم وبين شربها،
وليسوا مقرين على السرقة ولا على الزنا.
واختلف فيمن أكره على الزنا، فقال أبو حنيفة: "إن أكرهه غير سلطان حد،
وإن أكرهه سلطان لم يحد". وقال أبو يوسف ومحمد: "لا يحد في الوجهين
جميعا" وهو قول الحسن بن صالح والشافعي. وقال زفر: "إن أكرهه سلطان حد
أيضا". وأما المكرهة فلا تحد في قولهم جميعا. فأما إيجاب الحد عليه في
حال الإكراه فإن أبا حنيفة قال القياس أن يحد سواء أكرهه سلطان أو
غيره، ولكنه ترك القياس في إكراه السلطان". ويحتمل قوله: "في إكراه
السلطان" معنيين: أحدهما: أن يريد به الخليفة، فإن كان قد أراد هذا
فإنما أسقط الحد; لأنه قد فسق وانعزل عن الخلافة بإكراهه إياه على
الزنا فلم يبق هناك من يقيم الحد عليه، والحد إنما يقيمه السلطان فإذا
لم يكن هناك سلطان لم يقم الحد، كمن زنى في دار الحرب ويحتمل أن يريد
به من دون الخليفة، فإن كان أراد ذلك فوجهه أن السلطان مأمور بالتوصل
إلى درء الحد، فإذا أكرهه على الزنا فإنما أراد التوصل إلى إيجابه، فلا
تجوز له إقامته إذا; لأنه بإكراهه أراد التوصل إلى إيجابه فلا يجوز له
ذلك ويسقط الحد. وأما إذا أكرهه غير سلطان فإن الحد واجب،
(3/337)
وذلك;
لأنه معلوم أن الإكراه ينافي الرضا، وما وقع عن طوع ورضا فغير مكره
عليه، فلما كانت الحال شاهدة بوجود الرضا منه بالفعل دل ذلك على أنه لم
يفعله مكرها ودلالة الحال على ما وصفنا أنه معلوم أن حال الإكراه هي
حال خوف وتلف النفس والانتشار والشهوة ينافيهما الخوف والوجل، فلما وجد
منه الانتشار والشهوة في هذه الحال علم أنه فعله غير مكره; لأنه لو كان
مكرها خائفا لما كان منه انتشار ولا غلبته الشهوة، وفي ذلك دليل على أن
فعله ذلك لم يقع على وجه الإكراه فوجب الحد.
فإن قيل: إن وجود الانتشار لا ينافي ترك الفعل، فعلمنا حين فعل مع ظهور
الإكراه أنه فعله مكرها كشرب الخمر والقذف ونحوه. قيل له: هذا لعمري
هكذا ولكنه لما كان في العادة أن الخوف على النفس ينافي الانتشار دل
ذلك على أنه فعله طائعا، ألا ترى أن من أكره على الكفر فأقر أنه فعله
طائعا كان كافرا مع وجود الإكراه في الظاهر؟ كذلك الحال الشاهدة بالطوع
هي بمنزلة الإقرار منه بذلك فيحد.
(3/338)
باب صفة الضرب في الزنا
قال الله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ
اللَّهِ} روي عن الحسن وعطاء ومجاهد وأبي مجلز قالوا: "في تعطيل الحدود
لا في شدة الضرب". وروى ابن أبي مليكة عن عبيد الله بن عبد الله بن
عمر: أن جارية لابن عمر زنت فضرب رجليها، وأحسبه قال: وظهرها، قال:
فقلت لا تأخذكم بهما رأفة في دين الله قال: يا بني ورأيتني أخذتني بها
رأفة؟ إن الله تعالى لم يأمرني أن أقتلها ولا أن أجعل جلدها في رأسها
وقد أوجعت حيث ضربت. وروي عن سعيد بن جبير وإبراهيم والشعبي قالوا: "في
الضرب".
واختلف الفقهاء في شدة الضرب في الحدود، فقال أصحابنا وأبو حنيفة وأبو
يوسف ومحمد وزفر: "التعزير أشد الضرب، وضرب الزنا أشد من ضرب الشارب،
ويضرب الشارب أشد من ضرب القاذف". وقال مالك والليث: "الضرب في الحدود
كلها سواء غير مبرح بين الضربين". وقال الثوري ضرب الزنا أشد من ضرب
القذف، وضرب القذف أشد من ضرب الشرب". وقال الحسن بن صالح ضرب الزنا
أشد من ضرب الشرب والقذف". وروي عن عطاء قال: "حد الزنية أشد من حد
الفرية وحد الفرية والخمر واحد". وعن الحسن قال ضرب الزنا أشد من القذف
والقذف أشد من الشرب وضرب الشرب أشد من ضرب التعزير". وروي عن علي أنه
ضرب رجلا قاعدا وعليه كساء قسطلاني.
(3/338)
قال أبو
بكر: قوله تعالى: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ
اللَّهِ} لما كان محتملا لما تأوله السلف عليه من تعطيل الحد ومن تخفيف
الضرب، اقتضى ظاهره أن يكون عليهما جميعا في أن لا يعطل الحد وفي تشديد
الضرب، وذلك يقتضي أن يكون أشد من ضرب القاذف والشارب، وإنما قالوا إن
التعزير أشد الضرب وأرادوا بذلك أنه جائز للإمام أن يزيد في شدة الضرب
للإيلام على جهة الزجر والردع; إذ لا يمكنه فيه بلوغ الحد، ولم يعنوا
بذلك أنه لا محالة أشد الضرب; لأنه موكول إلى رأي الإمام واجتهاده، ولو
رأى أن يقتصر من الضرب في التعزير على الحبس إذا كان ذا مروءة وكان ذلك
الفعل منه زلة جاز له أن يتجافى عنه ولا يعزره، فعلمت أن مرادهم
بقولهم: "التعزير أشد الضرب" إنما هو إذا رأى الإمام ذلك للزجر والردع
فعل، وقد روى شريك عن جامع بن أبي راشد عن أبي وائل قال: "كان لرجل على
ابن أخ لأم سلمة رضي الله عنها دين فمات فقضت عنه، فكتب إليها يحرج
عليها فيه، فرفعت ذلك إلى عمر فكتب عمر إلى عامله: اضربه ثلاثين ضربة
كلها تبضع اللحم وتحدر الدم". فهذا من ضرب التعزير. وروى شعبة عن واصل
عن المعرور بن سويد قال: "أتي عمر بن الخطاب بامرأة زنت فقال: أفسدت
حسبها، اضربوها ولا تحرقوا عليها جلدها" فهذا يدل على أنه كان يرى ضرب
الزاني أخف من التعزير.
قال أبو بكر: قد دل قوله: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي
دِينِ اللَّهِ} على شدة ضرب الزاني على ما بينا وأنه أشد من ضرب الشارب
والقاذف، لدلالة الآية على شدة الضرب فيه; ولأن ضرب الشارب كان من
النبي صلى الله عليه وسلم بالجريد والنعال، وضرب الزاني إنما يكون
بالسوط، وهذا يوجب أن يكون ضرب الزاني أشد من ضرب الشارب، وإنما جعلوا
ضرب القاذف أخف الضرب; لأن القاذف جائز أن يكون صادقا في قذفه، وأن له
شهودا على ذلك والشهود مندوبون إلى الستر على الزاني، فإنما وجب عليه
الحد لقعود الشهود عن الشهادة، وذلك يوجب تخفيف الضرب. ومن جهة أخرى أن
القاذف قد غلظت عليه العقوبة في إبطال شهادته، فغير جائز التغليظ عليه
من جهة شدة الضرب.
فإن قيل: روى سفيان بن عيينة قال: سمعت سعد بن إبراهيم يقول للزهري: إن
أهل العراق يقولون إن القاذف لا يضرب ضربا شديدا، ولقد حدثني أبي أن
أمه أم كلثوم أمرت بشاة فسلخت حين جلد أبو بكرة فألبسته مسكها، فهل كان
ذلك إلا من ضرب شديد. قيل له: هذا لا يدل على شدة الضرب; لأنه جائز أن
يؤثر في البدن الضرب الخفيف على حسب ما يصادف من رقة البشرة ففعلت ذلك
إشفاقا عليه.
(3/339)
باب ما يضرب من أعضاء المحدود
ما يضرب من أعضاء المحدود قال الله سبحانه وتعالى: {فَاجْلِدُوا كُلَّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} ولم يذكر ما يضرب منه، وظاهره
يقتضي جواز ضرب جميع الأعضاء. وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار فيه،
فروى ابن أبي ليلى عن عدي بن ثابت عن المهاجر بن عميرة عن علي رضي الله
عنه أنه أتي برجل سكران أو في حد، فقال: "اضرب وأعط كل عضو حقه واتق
الوجه والمذاكير". وروى سفيان بن عيينة عن أبي عامر عن عدي بن ثابت عن
مهاجر بن عميرة عن علي رضي الله عنه أنه قال: "اجتنب رأسه ومذاكيره
وأعط كل عضو حقه"، فذكر في هذا الحديث الرأس وفي الحديث الأول الوجه،
وجائز أن يكون قد استثناهما جميعا. وروي عن عمر أنه أمر بالضرب في حد
فقال: "أعط كل عضو حقه" ولم يستثن شيئا. وروى المسعودي عن القاسم قال:
أتي أبو بكر برجل انتفى من ابنه، فقال أبو بكر: "اضرب الرأس فإن
الشيطان في الرأس". وقد روي عن عمر: "أنه ضرب صبيغ بن عسيل على رأسه
حين سأل عن الذاريات ذروا على وجه التعنت". وروي عن ابن عمر أنه لا
يصيب الرأس. وقال أبو حنيفة ومحمد: "يضرب في الحدود الأعضاء كلها إلا
الفرج والرأس والوجه". وقال أبو يوسف: "يضرب الرأس أيضا". وذكر الطحاوي
عن أحمد بن أبي عمران عن أصحاب أبي يوسف: "أن الذي يضرب به الرأس من
الحد سوط واحد". وقال مالك: "لا يضرب إلا في الظهر". وذكر ابن سماعة عن
محمد في التعزير: أنه يضرب الظهر بغير خلاف وفي الحدود يضرب الأعضاء
إلا ما ذكرنا. وقال الحسن بن صالح: "يضرب في الحد والتعزير الأعضاء
كلها ولا يضرب الوجه ولا المذاكير". وقال الشافعي: "يتقى الوجه
والفرج". قال أبو بكر: اتفق الجميع على ترك ضرب الوجه والفرج.
وروي عن علي استثناء الرأس أيضا، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: "إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه" . وإذا لم يضرب الوجه فالرأس
مثله; لأن الشين الذي يلحق الرأس بتأثير الضرب كالذي يلحق الوجه، وإنما
أمر باجتناب الوجه لهذه العلة ولئلا يلحقه أثر يشينه أكثر مما هو مستحق
بالفعل الموجب للحد. والدليل على أن ما يلحق الرأس من ذلك هو كما يلحق
الوجه أن الموضحة وسائر الشجاج حكمها في الرأس والوجه سواء وفارقا سائر
البدن من هذا الوجه; لأن الموضحة فيما سوى الرأس والوجه إنما تجب فيه
حكومة ولا يجب فيها أرش الموضحة الواقعة في الرأس والوجه، فوجب من أجل
ذلك استواء حكم الرأس والوجه في اجتناب ضربهما. ووجه آخر، وهو أنه
ممنوع من ضرب الوجه لما يخاف فيه
(3/340)
من
الجناية على البصر، وذلك موجود في الرأس; لأن ضرب الرأس يظلم منه البصر
وربما حدث منه الماء في العين وربما حدث منه أيضا اختلاط في العقل،
فهذه الوجوه كلها تمنع ضرب الرأس. وأما اجتناب الفرج فمتفق عليه، وهو
أيضا مقتل فلا يؤمن أن يحدث أكثر مما هو مستحق بالفعل. وقال أبو حنيفة
وأصحابه والليث والشافعي: "الضرب في الحدود كلها وفي التعزير مجردا
قائما غير ممدود، إلا حد القذف فإنه يضرب وعليه ثيابه وينزع عنه الحشو
والفرو" وقال بشر بن الوليد عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: "يضرب التعزير
في إزار ولا يفرق في التعزير خاصة في الأعضاء". وقال أبو يوسف ضرب ابن
أبي ليلى المرأة القاذفة قائمة فخطأه أبو حنيفة. وقال الثوري: "لا يجرد
الرجل ولا يمد، وتضرب المرأة قاعدة والرجل قائماً".
قال أبو بكر: في حديث رجم النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديين قال:
"رأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة" وهذا يدل على أن الرجل كان
قائما، والمرأة قاعدة. وروى عاصم الأحول عن أبي عثمان النهدي قال: أتي
عمر بسوط فيه شدة فقال: أريد ألين من هذا، فأتي بسوط فيه لين فقال:
أريد أشد من هذا، فأتي بسوط بين السوطين فقال: اضرب ولا يرى إبطك وأعط
كل عضو حقه وعن ابن مسعود أنه ضرب رجلا حدا، فدعا بسوط فأمر فدق بين
حجرين حتى لان ثم قال: اضرب ولا تخرج إبطك وأعط كل عضو حقه وعن علي أنه
قال للجلاد: أعط كل عضو حقه وروى حنظلة السدوسي عن أنس بن مالك قال:
"كان يؤمر بالسوط فتقطع ثمرته ثم يدق بين حجرين ثم يضرب به، وذلك في
زمن عمر بن الخطاب". وروي عن أبي هريرة أنه جلد رجلا قائما في القذف.
قال أبو بكر: هذه الأخبار تدل على معان: منها اتفاقهم على أن ضرب
الحدود بالسوط، ومنها أنه يضرب قائما; إذ لا يمكن إعطاء كل عضو حقه إلا
وهو قائم، ومنها أنه يضرب بسوط بين سوطين. وإنما قالوا: "إنه يضرب
مجردا" ليصل الألم إليه، ويضرب القاذف وعليه ثيابه; لأن ضربه أخف.
وإنما قالوا: "لا يمد"; لأن فيه زيادة في الإيلام غير مستحق بالفعل ولا
هو من الحد. وروى يزيد بن هارون عن الحجاج عن الوليد بن أبي مالك: "أن
أبا عبيدة بن الجراح أتي برجل في حد، فذهب الرجل ينزع قميصه وقال: ما
ينبغي لجسدي هذا المذنب أن يضرب وعليه قميص فقال أبو عبيدة: لا تدعوه
ينزع قميصه فضربه عليه". وروى ليث عن مجاهد ومغيرة عن إبراهيم قالا:
"يجلد القاذف وعليه ثيابه". وعن الحسن قال: "إذا قذف الرجل في الشتاء
لم يلبس ثياب الصيف ولكن يضرب في ثيابه التي قذف فيها، إلا أن يكون
عليه فرو وحشو يمنعه من أن يجد وجع الضرب فينزع ذلك عنه" وقال مطرف عن
الشعبي مثل ذلك. وروى شعبة عن عدي بن
(3/341)
ثابت عمن
شهد عليا رضي الله عنه: "أنه أقام على رجل الحد فضربه على قباء أو
قرطق". ومذهب أصحابنا موافق لما روي عن السلف في هذه الأخبار، ويدل على
صحته أن من عليه حشو أو فرو فلم يصل الألم أن الفاعل لذلك غير ضارب في
العادة، ألا ترى أنه لو حلف أن يضرب فلانا فضربه وعليه حشو أو فرو فلم
يصل إليه الألم أنه لا يكون ضاربا ولم يبر في يمينه ولو وصل إليه الألم
كان ضاربا؟
(3/342)
في إقامة الحدود في المسجد
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد والشافعي: "لا تقام الحدود في المساجد"
وهو قول الحسن بن صالح. قال أبو يوسف: وأقام ابن أبي ليلى حدا في
المسجد فخطأه أبو حنيفة وقال مالك: لا بأس بالتأديب في المسجد خمسة
أسواط ونحوها، وأما الضرب الموجع والحد فلا يقام في المسجد".
قال أبو بكر: روى إسماعيل بن مسلم المكي عن عمرو بن دينار عن طاوس عن
ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقام الحدود في
المساجد ولا يقتل بالولد الوالد" . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم ورفع أصواتكم وشراكم وبيعكم
وإقامة حدودكم وجمروها في جمعكم وضعوا على أبوابها المطاهر" . ومن جهة
النظر أنه لا يؤمن أن يكون من المحدود بالمسجد من خروج النجاسة ما
سبيله أن ينزه المسجد عنه.
(3/342)
في الذي يعمل عمل قوم لوط
قال أبو حنيفة: "يعزر ولا يحد". وقال مالك والليث: يرجمان أحصنا أو لم
يحصنا" وقال عثمان البتي والحسن بن صالح وأبو يوسف ومحمد والشافعي: "هو
بمنزلة الزنا" وهو قول الحسن وإبراهيم وعطاء قال أبو بكر: قال النبي
صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث زنا بعد
إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير نفس" ، فحصر قتل المسلم إلا بإحدى
هذه الثلاث، وفاعل ذلك خارج عن ذلك; لأنه لا يسمى زنا.
فإن احتجوا بما روى عاصم بن عمرو عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذي يعمل عمل قوم لوط
فارجموا الأعلى والأسفل وارجموهما جميعا" ، وبما روى الدراوردي عن عمرو
بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول
(3/342)
في الذي يأتي البهيمة
قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك وعثمان البتي: "لا حد عليه
ويعزر". وروي مثله عن ابن عمر. وقال الأوزاعي: "عليه الحد". قال أبو
بكر: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث
زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير نفس" ينفي قتل فاعل ذلك;
إذ ليس ذلك بزنا في اللغة، ولا يجوز إثبات الحدود إلا من طريق التوقيف
أو الاتفاق، وذلك معدوم في مسألتنا، ولا يجوز إثباته من طريق المقاييس.
وقد روى عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "من وجدتموه على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة" ،
وعمرو هذا ضعيف لا تثبت به حجة. ومع ذلك فقد روى شعبة وسفيان وأبو
عوانة عن عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس فيمن أتى بهيمة: "أنه لا حد
عليه"، وكذلك رواه إسرائيل وأبو بكر بن عياش وأبو الأحوص وشريك كلهم عن
عاصم عن أبي رزين عن ابن عباس مثله، ولو كان حديث عمرو بن أبي عمرو
ثابتا لما خالفه ابن عباس وهو راويه إلى غيره، وإن صح الخبر كان محمولا
على من استحله.
(3/343)
فصل
قال أبو بكر: قد أنكرت طائفة شاذة لا تعد خلافا الرجم وهم الخوارج، وقد
ثبت الرجم عن النبي صلى الله عليه وسلم بفعل النبي صلى الله عليه وسلم
وبنقل الكافة والخبر الشائع المستفيض الذي لا مساغ للشك فيه وأجمعت
الأمة عليه، فروى الرجم أبو بكر وعمر وعلي وجابر بن عبد الله وأبو سعيد
الخدري وأبو هريرة وبريدة الأسلمي وزيد بن خالد في آخرين من الصحابة،
وخطب عمر فقال: "لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لأثبته في
المصحف". وبعض هؤلاء الرواة يروي خبر رجم ماعز وبعضهم خبر الجهينية
والغامدية. وخبر ماعز
(3/343)
باب تزويج الزانية
قال الله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ
مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ
وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} . قال أبو بكر: روى عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رجل يقال له مرثد بن أبي مرثد وكان يحمل
الأسرى من مكة حتى يأتي بهم المدينة، وكان بمكة بغي يقال لها عناق
وكانت صديقة له، وكان وعد رجلا أن يحمله من أسرى مكة، وإن عناق رأته
فقالت له: أقم الليلة عندي قال: يا عناق قد حرم الله الزنا فقالت: يا
أهل الخباء هذا الذي يحمل أسراكم فلما قدمت المدينة أتيت رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أتزوج عناق؟ فلم يرد حتى نزلت هذه
الآية: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَة} فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكحها!" . فبين عمرو بن شعيب في
هذا الحديث أن الآية نزلت في الزانية المشركة أنها لا ينكحها إلا زان
أو مشرك، وإن تزوج المسلم المشركة زنا; إذ كانت لا تحل له.
وقد اختلف السلف في تأويل الآية وحكمها، فحدثنا جعفر بن محمد الواسطي
قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا
يحيى بن سعيد ويزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد الأنصاري عن سعيد بن
المسيب في قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ
مُشْرِكَة} : قد نسختها الآية التي بعدها: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى
مِنْكُمْ} قال: كان يقال هي من أيامى المسلمين، فأخبر سعيد بن المسيب
أن الآية منسوخة. قال أبو عبيد: وحدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد في
قوله: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَة} قال:
"كان رجال يريدون الزنا بنساء زواني بغايا معلنات كن كذلك في الجاهلية،
فقيل لهم هذا حرام، فأرادوا نكاحهن" فذكر مجاهد أن ذلك كان في نساء
مخصوصات على الوصف الذي ذكرنا وروي عن عبد الله بن عمر في قوليه:
{الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَة} أنه نزل في
رجل تزوج امرأة بغية على أن تنفق عليه "فأخبر عبد الله بن عمر أن النهي
خرج على هذا الوجه وهو أن يزوجها على أن يخليها والزنا. وروى حبيب بن
أبي عمرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: "يعني بالنكاح جماعها".
وروى ابن شبرمة عن عكرمة: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً
أَوْ مُشْرِكَةً} قال: "لا يزني حين يزني إلا بزانية مثله".
وقال شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس: "بغايا كن في الجاهلية يجعلن على
أبوابهن رايات كرايات البياطرة يأتيهن ناس، يعرفن بذلك". وروى مغيرة عن
إبراهيم النخعي: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً} : "يعني به
الجماع حين يزني" وعن عروة بن الزبير مثله.
(3/345)
قال أبو
بكر: فذهب هؤلاء إلى أن معنى الآية الإخبار باشتراكهما في الزنا وأن
المرأة كالرجل في ذلك، فإذا كان الرجل زانيا فالمرأة مثله إذا طاوعته،
وإذا زنت المرأة فالرجل مثلها، فحكم تعالى في ذلك بمساواتهما في الزنا،
ويفيد ذلك مساواتهما في استحقاق الحد وعقاب الآخرة وقطع الموالاة وما
جرى مجرى ذلك. وروي فيه قول آخر، وهو ما روى عاصم الأحول عن الحسن في
هذه الآية قال: "المحدود لا يتزوج إلا محدودة".
واختلف السلف في تزويج الزانية، فروي عن أبي بكر وعمر وابن عباس وابن
مسعود وابن عمر ومجاهد وسليمان بن يسار وسعيد بن جبير في آخرين من
التابعين: "أن من زنى بامرأة أو زنى بها غيره فجائز له أن يتزوجها".
وروي عن علي وعائشة والبراء وإحدى الروايتين عن ابن مسعود: "أنهما لا
يزالان زانيين ما اجتمعا". وعن علي: "إذا زنى الرجل فرق بينه وبين
امرأته، وكذلك هي إذا زنت".
قال أبو بكر: فمن حظر نكاح الزانية تأول فيه هذه الآية، وفقهاء الأمصار
متفقون على جواز النكاح، وأن الزنا لا يوجب تحريمها على الزوج ولا يوجب
الفرقة بينهما. ولا يخلو قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا
زَانِيَةً} من أحد وجهين: إما أن يكون خبرا وذلك حقيقته أو نهيا
وتحريما، ثم لا يخلو من أن يكون المراد بذكر النكاح هنا الوطء أو
العقد، وممتنع أن يحمل على معنى الخبر، وإن كان ذلك حقيقة اللفظ; لأنا
وجدنا زانيا يتزوج غير زانية وزانية تتزوج غير الزاني، فعلمنا أنه لم
يرد مورد الخبر، فثبت أنه أراد الحكم والنهي. فإذا كان كذلك فليس يخلو
من أن يكون المراد الوطء أو العقد، وحقيقة النكاح هو الوطء في اللغة
لما قد بيناه في مواضع، فوجب أن يكون محمولا عليه على ما روي عن ابن
عباس ومن تابعه في أن المراد الجماع، ولا يصرف إلى العقد إلا بدلالة;
لأنه مجاز; ولأنه إذا ثبت أنه قد أريد به الحقيقة انتفى دخول المجاز
فيه. وأيضا فلو كان المراد العقد لم يكن زنا المرأة أو الرجل موجبا
للفرقة; إذ كانا جميعا موصوفين بأنهما زانيان; لأن الآية قد اقتضت
إباحة نكاح الزاني للزانية، فكان يجب أن يجوز للمرأة أن تتزوج الذي زنى
بها قبل أن يتوبا وأن لا يكون زناهما في حال الزوجية يوجب الفرقة، ولا
نعلم أحدا يقول ذلك، وكان يجب أن يجوز للزاني أن يتزوج مشركة وللمرأة
الزانية أن تتزوج مشركا، ولا خلاف في أن ذلك غير جائز وأن نكاح
المشركات وتزويج المشركين محرم منسوخ، فدل ذلك على أحد معنيين: إما أن
يكون المراد الجماع على ما روي عن ابن عباس ومن تابعه، أو أن يكون حكم
الآية منسوخا على ما روي عن سعيد بن المسيب.
(3/346)
ومن الناس
من يحتج في أن الزنا لا يبطل النكاح بما روى هارون بن رئاب عن عبيد
الله بن عبيد ويرويه عبد الكريم الجزري عن أبي الزبير، وكلاهما يرسله
أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إن امرأتي لا تمنع يد لامس،
فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالاستمتاع منها، فيحمل ذلك على أنها
لا تمنع أحدا ممن يريدها على الزنا. وقد أنكر أهل العلم هذا التأويل،
قالوا: لو صح هذا الحديث كان معناه أن الرجل وصف امرأته بالخرق وضعف
الرأي وتضييع ماله فهي لا تمنعه من طالب ولا تحفظه من سارق، قالوا:
وهذا أولى; لأنه حقيقة اللفظ، وحمله على الوطء كناية ومجاز، وحمله على
ما ذكرنا أولى وأشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم كما قال علي وعبد الله:
إذا جاءكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فظنوا به الذي هو
أهدى والذي هو أهنأ والذي هو أتقى.
فإن قيل: قال الله تعالى: {أَوْ لامَسْتُمُ1 النِّسَاءَ} [النساء: 43]
فجعل الجماع لمسا. قيل له: إن الرجل لم يقل للنبي صلى الله عليه وسلم
إنها لا تمنع لامسا، وإنما قال يد لامس، ولم يقل فرج لامس، وقال الله
تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ
فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7] ومعلوم أن المراد حقيقة اللمس
باليد، وقال جرير الخطفي يعاتب قوما:
ألستم لئاما إذ ترومون جارهم ... ولولا همو لم تمنعوا2 كف لامس
ومعلوم أنه لم يرد به الوطء وإنما أراد أنكم لا تدفعون عن أنفسكم الضيم
ومنع أموالكم هؤلاء القوم، فكيف ترومون جارهم بالظلم.
ومن الناس من يقول إن تزويج الزانية وإمساكها على النكاح محظور منهي
عنه ما دامت مقيمة على الزنا وإن لم يؤثر ذلك في إفساد النكاح; لأن
الله تعالى إنما أباح نكاح المحصنات من المؤمنات ومن أهل الكتاب بقوله:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] يعني
العفائف منهن; ولأنها إذا كانت كذلك لا يؤمن أن تأتي بولد من الزنا
فتلحقه به وتورثه ماله، وإنما يحمل قول من رخص في ذلك على أنها تائبة
غير مقيمة على الزنا، ومن الدليل على أن زناها لا يوجب الفرقة أن الله
تعالى حكم في القاذف لزوجته باللعان ثم بالتفريق بينهما، فلو كان وجود
الزنا منها يوجب الفرقة لوجب إيقاف الفرقة بقذفه إياها لاعترافه بما
يوجب الفرقة، ألا ترى أنه لو أقر أنها أخته من الرضاعة أو أن أباه قد
كان وطئها لوقعت الفرقة بهذا القول.
ـــــــ
1 قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ} هكذا في النسخ التي بأيدينا, وهي
قراءة حمزة والكسائي كما صرح به البيضاوي في سورة النساء. "لمصححه".
2 قوله: "لم تمنعوا" هكذا في النسخ, والذي في ديوانه المطبوع: "لم
تدفعوا" "لمصححه".
(3/347)
فإن قيل:
لما حكم الله تعالى بإيقاع الفرقة بعد اللعان دل ذلك على أن الزنا يوجب
التحريم، لولا ذلك لما وجبت الفرقة باللعان. قيل له: لو كان كما ذكرت
لوجبت الفرقة بنفس القذف دون اللعان، فلما لم تقع بالقذف دل على فساد
ما ذكرت.
فإن قيل: إنما وقعت الفرقة باللعان; لأنه صار بمنزلة الشهادة عليها
بالزنا، فلما حكم عليها بذلك حكم بوقوع الفرقة لأجل الزنا. قيل له:
وهذا غلط أيضا; لأن شهادة الزوج وحده عليها بالزنا لا توجب كونها زانية
كما أن شهادتها عليه بالإكذاب لا توجب عليه الحكم بالكذب في قذفه
إياها; إذ ليست إحدى الشهادتين بأولى من الأخرى، ولو كان الزوج محكوما
له بقبول شهادته عليها بالزنا لوجب أن تحد حد الزنا، فلما لم تحد بذلك
دل على أنه غير محكوم عليها بالزنا بقول الزوج، والله أعلم بالصواب.
(3/348)
باب حد القذف
قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}
قال أبو بكر: الإحصان على ضربين، أحدهما: ما يتعلق به وجوب الرجم على
الزاني، وهو أن يكون حرا بالغا عاقلا مسلما قد تزوج امرأة نكاحا صحيحا
ودخل بها وهما كذلك، والآخر: الإحصان الذي يوجب الحد على قاذفه، وهو أن
يكون حرا بالغا عاقلا مسلما عفيفا. ولا نعلم خلافا بين الفقهاء في هذا
المعنى.
قال أبو بكر: قد خص الله تعالى المحصنات بالذكر، ولا خلاف بين المسلمين
أن المحصنين مرادون بالآية، وأن الحد واجب على قاذف الرجل المحصن
كوجوبه على قاذف المحصنة. واتفق الفقهاء على أن قوله: {وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} قد أريد به الرمي بالزنا، وإن كان في فحوى
اللفظ دلالة عليه من غير نص، وذلك لأنه لما ذكر المحصنات وهن العفائف
دل على أن المراد بالرمي رميها بضد العفاف وهو الزنا. ووجه آخر من
دلالة فحوى اللفظ، وهو قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ} يعني: على صحة ما رموه به، ومعلوم أن هذا العدد من الشهود
إنما هو مشروط في الزنا، فدل على أن قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ} معناه: يرمونهن بالزنا. ويدل ذلك على معنى آخر، وهو أن
القذف الذي يجب به الحد إنما هو القذف بصريح الزنا، وهو الذي إذا جاء
بالشهود عليه حد المشهود عليه، ولولا ما في فحوى اللفظ من الدلالة عليه
لم يكن ذكر الرمي مخصوصا بالزنا دون غيره من الأمور التي يقع الرمي
بها; إذ قد يرميها بسرقة وشرب خمر وكفر وسائر الأفعال المحظورة، ولم
يكن اللفظ حينئذ مكتفيا بنفسه في إيجاب حكمه بل كان يكون مجملا موقوف
الحكم على البيان، إلا أنه كيفما تصرفت
(3/348)
الحال فقد
حصل الاتفاق على أن الرمي بالزنا مراد، ولما كان كذلك صار بمنزلة قوله:
والذين يرمون المحصنات بالزنا; إذ حصول الإجماع على أن الزنا مراد
بمنزلة ذكره في اللفظ، فوجب بذلك أن يكون وجوب حد القذف مقصورا على
القذف بالزنا دون غيره.
وقد اختلف السلف والفقهاء في التعريض بالزنا، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف
وزفر ومحمد وابن شبرمة والثوري والحسن بن صالح والشافعي: "لا حد في
التعريض بالقذف". وقال مالك: "عليه فيه الحد". وروى الأوزاعي عن الزهري
عن سالم عن ابن عمر قال: كان عمر يضرب الحد في التعريض". وروى ابن وهب
عن مالك عن أبي الرجال عن أمه عمرة: "أن رجلين استبا في زمن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه، فقال. أحدهما للآخر: والله ما أبي بزان ولا أمي
بزانية فاستشار في ذلك عمر الناس، فقال قائل مدح أباه وأمه وقال آخرون:
قد كان لأبيه وأمه مدح غير هذا، نرى أن يجلد الحد، فجلده عمر الحد
ثمانين"، ومعلوم أن عمر لم يشاور في ذلك إلا الصحابة الذين إذا خالفوا
قبل خلافهم، فثبت بذلك حصول الخلاف بين السلف. ثم لما ثبت أن المراد
بقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} هو الرمي بالزنا لم يجز
لنا إيجاب الحد على غيره; إذ لا سبيل إلى إثبات الحدود من طريق
المقاييس وإنما طريقها الاتفاق أو التوقيف وذلك معدوم في التعريض، وفي
مشاورة عمر الصحابة في حكم التعريض دلالة على أنه لم يكن عندهم فيه
توقيف، وأنه قاله اجتهادا ورأيا. وأيضا فإن التعريض بمنزلة الكناية
المحتملة للمعاني، وغير جائز إيجاب الحد بالاحتمال لوجهين: أحدهما: أن
الأصل أن القائل بريء الظهر من الجلد فلا نجلده بالشك والمحتمل مشكوك
فيه، ألا ترى أن يزيد بن ركانة لما طلق امرأته ألبتة استحلفه النبي صلى
الله عليه وسلم بالله ما أردت إلا واحدة فلم يلزمه الثلاث بالاحتمال؟
ولذلك قال الفقهاء في كنايات الطلاق إنها لا تجعل طلاقا إلا بدلالة.
والوجه الآخر: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ادرءوا
الحدود بالشبهات" ، وأقل أحوال التعريض حين كان محتملا للقذف وغيره أن
يكون شبهة في سقوطه. وأيضا قد فرق الله تعالى بين التعريض بالنكاح في
العدة وبين التصريح فقال: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ
بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لا
تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} [البقرة: 235] يعني نكاحا، فجعل التعريض
بمنزلة الإضمار في النفس، فوجب أن يكون كذلك حكم التعريض بالقذف،
والمعنى الجامع بينهما أن التعريض لما كان فيه احتمال كان في حكم
الضمير لوجود الاحتمال فيه.
واختلف الفقهاء في حد العبد في القذف، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر
ومحمد ومالك وعثمان البتي والثوري والشافعي: "إذا قذف العبد حرا فعليه
أربعون
(3/349)
جلدة".
وقال الأوزاعي: "يجلد ثمانين". وروى الثوري عن جعفر بن محمد عن أبيه أن
عليا قال: "يجلد العبد في الفرية أربعين". وروى الثوري عن ابن ذكوان عن
عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: "أدركت أبا بكر وعمر وعثمان ومن بعدهم
من الخلفاء فلم أرهم يضربون المملوك في القذف إلا أربعين". قال أبو
بكر: وهو مذهب ابن عباس وسالم وسعيد بن المسيب وعطاء. وروى ليث بن أبي
سليم عن القاسم بن عبد الرحمن أن عبد الله بن مسعود قال في عبد قذف
حرا: "إنه يجلد ثمانين". وقال أبو الزناد جلد عمر بن عبد العزيز عبدا
في الفرية ثمانين". ولم يختلفوا في أن حد العبد في الزنا خمسون على
النصف من حد الحر لأجل الرق، وقال الله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ
فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى
الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] فنص على حد الأمة وأنه
نصف حد الحرة، واتفق الجميع على أن العبد بمنزلتها لوجود الرق فيه،
كذلك يجب أن يكون حده في القذف على النصف من حد الحر لوجود الرق فيه.
واختلفوا في قاذف المجنون والصبي، فقال أبو حنيفة وأصحابه والحسن بن
صالح والشافعي: "لا حد على قاذف المجنون والصبي". وقال مالك: "لا يحد
قاذف الصبي وإن كان مثله يجامع إذا لم يبلغ، ويحد قاذف الصبية إذا كان
مثلها تجامع وإن لم تحصن، ويحد قاذف المجنون".
وقال الليث "يحد قاذف المجنون". قال أبو بكر: المجنون والصبي والصبية
لا يقع من واحد منهم زنا; لأن الوطء منهم لا يكون زنا; إذ كان الزنا
فعلا مذموما يستحق عليه العقاب وهؤلاء لا يستحقون العقاب على أفعالهم،
فقاذفهم بمنزلة قاذف المجنون لوقوع العلم بكذب القاذف; ولأنهم لا
يلحقهم شين بذلك الفعل لو وقع منهم، فكذلك لا يشينهم قذف القاذف لهم
بذلك. ومن جهة أخرى أن المطالبة بالحد إلى المقذوف ولا يجوز أن يقوم
غيره مقامه فيه، ألا ترى أن الوكالة غير مقبولة فيه؟ وإذا كان كذلك لم
تجب المطالبة لأحد وقت القذف، فلم يجب الحد; لأن الحد إذا وجب فإنما
يجب بالقذف لا غير.
فإن قيل: فللرجل أن يأخذ بحد أبيه إذا قذف وهو ميت فقد جاز أن يطالب عن
الغير بحد القذف. قيل له: إنما يطالب عن نفسه لما حصل به من القدح في
نسبه ولا يطالب عن الأب. وأيضا لما اتفقوا على أن قاذف الصبي لا يحد
كان كذلك قاذف الصبية; لأنهما جميعا من غير أهل التكليف ولا يصح وقوع
الزنا منهما، فكذلك المجنون لهذه العلة.
واختلفوا فيمن قذف جماعة، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك
والثوري والليث: "إذا قذفهم بقول واحد فعليه حد واحد". وقال ابن أبي
ليلى: "إذا قال
(3/350)
لهم يا
زناة فعليه حد واحد، وإن قال لكل إنسان يا زاني فلكل إنسان حد" وهو قول
الشعبي. وقال عثمان البتي: "إذا قذف جماعة فعليه لكل واحد حد، وإن قال
لرجل زنيت بفلانة فعليه حد واحد; لأن عمر ضرب أبا بكرة وأصحابه حدا
واحدا ولم يحدهم للمرأة". وقال الأوزاعي: "إذا قال يا زاني ابن زان
فعليه حدان، وإن قال لجماعة إنكم زناة فحد واحد". وقال الحسن بن صالح:
"إذا قال من كان داخل هذه الدار فهو زان ضرب لمن كان داخلها إذا
عرفوا". وقال الشافعي فيما حكاه المزني عنه: "إذا قذف جماعة بكلمة
واحدة فلكل واحد حد، وإن قال لرجل واحد يا ابن الزانيين فعليه حدان"
وقال في أحكام القرآن: "إذا قذف امرأته برجل لاعن ولم يحد للرجل".
قال أبو بكر: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ
جَلْدَةً} ومعلوم أن مراده جلد كل واحد من القاذفين ثمانين جلدة، فكان
تقدير الآية: ومن رمى محصنا فعليه ثمانون جلدة، وهذا يقتضي أن قاذف
جماعة من المحصنات لا يجلد أكثر من ثمانين، ومن أوجب على قاذف جماعة
المحصنات أكثر من حد واحد فهو مخالف لحكم الآية. ويدل عليه من جهة
السنة ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن
بشار قال: حدثنا ابن أبي عدي قال: أنبأنا هشام بن حسان قال: حدثني
عكرمة عن ابن عباس: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله
عليه وسلم بشريك ابن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة أو
حد في ظهرك !" فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلا على امرأته يلتمس
البينة؟، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "البينة وإلا فحد في
ظهرك" فقال هلال: والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله في أمري ما
يبرئ ظهري من الحد فنزلت: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} "،
وذكر الحديث. روى محمد بن كثير قال: حدثنا مخلد بن الحسين عن هشام عن
ابن سيرين عن أنس: أن هلال بن أمية قذف شريك بن سحماء بامرأته، فرفع
ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "ائت بأربعة شهداء وإلا فحد في
ظهرك!". قال ذلك مرارا، فنزلت آية اللعان". قال أبو بكر: قد ثبت بهذا
الخبر أن قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} الآية،
كان حكما عاما في الزوجات كهو في الأجنبيات، لقوله صلى الله عليه وسلم
لهلال بن أمية: "ائت بأربعة شهداء وإلا فحد في ظهرك" ولأن عموم الآية
قد اقتضى ذلك، ثم لم يوجب النبي صلى الله عليه وسلم على هلال إلا حدا
مع قذفه لامرأته ولشريك ابن سحماء، إلى أن نزلت آية اللعان فأقيم
اللعان في الزوجات مقام الحد في الأجنبيات، ولم ينسخ موجب الخبر من
وجوب الاقتصار على حد واحد إذا قذف جماعة، فثبت بذلك أنه لا يجب على
قاذف الجماعة إلا حد واحد. ويدل عليه من جهة النظر أن سائر ما يوجب
الحد إذا وجد منه مرارا لا يوجب إلا حدا
(3/351)
واحدا،
كمن زنى مرارا أو سرق مرارا أو شرب مرارا لم يحد إلا حدا واحدا، فكان
اجتماع هذه الحدود التي هي من جنس واحد موجبا لسقوط بعضها والاقتصار
على واحد منها، والمعنى الجامع بينهما أنها حد، وإن شئت قلت إنه مما
يسقط بالشبهة.
فإن قيل حد القذف حق لآدمي، فإذا قذف جماعة وجب أن يكون لكل واحد منهم
استيفاء حده على حياله، والدليل على أنه حق لآدمي أنه لا يحد إلا
بمطالبة المقذوف، قيل له: الحد هو حق لله تعالى كسائر الحدود في الزنا
والسرقة وشرب الخمر، وإنما المطالبة به حق لآدمي لا الحد نفسه، وليس
كونه موقوفا على مطالبة الآدمي مما يوجب أن يكون الحد نفسه حقا لآدمي،
ألا ترى أن حد السرقة لا يثبت إلا بمطالبة الآدمي ولم يوجب ذلك أن يكون
القطع حقا للآدمي؟ فكذلك حد القذف، ولذلك لا يجيز أصحابنا العفو عنه،
ولا يورث ويدل على أنه حق لله تعالى اتفاق الجميع على أن العبد يجلد في
القذف أربعين، ولو كان حقا لآدمي لما اختلف الحر والعبد فيه; إذ كان
الجلد مما يتنصف، ألا ترى أن العبد والحر يستويان فيما يثبت عليهما من
الجنايات على الآدميين فإذا قتل العبد ثبت الدم في عنقه فإذا كان عمدا
قتل وإن كان خطأ كانت الدية في رقبته كما لو قتله حر وجبت الدية؟ فلو
كان حد القذف حقا لآدمي لما اختلف مع إمكان تنصيفه الحر والعبد، وكذلك
العبد والحر لا يختلفان في استهلاك الأموال; إذ ما يثبت على الحر فمثله
يثبت على العبد.
وقد اختلف في إقامة حد القذف من غير مطالبة المقذوف، فقال أبو حنيفة
وأبو يوسف وزفر ومحمد والأوزاعي والشافعي: "لا يحد إلا بمطالبة
المقذوف". وقال ابن أبي ليلى: "يحده الإمام، وإن لم يطالب المقذوف"
وقال مالك: "لا يحده الإمام حتى يطالب المقذوف إلا أن يكون الإمام سمعه
يقذف فيحده إذا كان مع الإمام شهود عدول". قال أبو بكر: حدثنا محمد بن
بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا سليمان بن داود المهري قال: أخبرنا
ابن وهب قال: سمعت ابن جريج يحدث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله
بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تعافوا الحدود
فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب" ، فثبت بذلك أن ما بلغ النبي صلى
الله عليه وسلم من حد لم يكن يهمله ولا يقيمه، فلما قال لهلال بن أمية
حين قذف امرأته بشريك ابن سحماء: "ائتني بأربعة يشهدون وإلا فحد في
ظهرك" ولم يحضر شهودا ولم يحده حين لم يطالب المقذوف بالحد، دل ذلك على
أن حد القذف لا يقام إلا بمطالبة المقذوف. ويدل عليه أيضا ما روي في
حديث زيد بن خالد وأبي هريرة في قصة العسيف، وأن أبا الزاني قال: إن
ابني زنى بامرأة هذا، فلم يحده النبي صلى الله عليه وسلم بقذفها وقال:
"اغد يا أنيس على امرأة هذا
(3/352)
فإن
اعترفت فارجمها". ولما كان حد القذف واجبا لما انتهك من عرضه بقذفه مع
إحصانه وجب أن تكون المطالبة به حقا له دون الإمام، كما أن حد السرقة
لما كان واجبا لما انتهك من حرز المسروق وأخذ ماله لم يثبت إلا بمطالبة
المسروق منه، وأما فرق مالك بين أن يسمعه الإمام أو يشهد به الشهود فلا
معنى له; لأن هذا إن كان مما للإمام إقامته من غير مطالبة المقذوف
فواجب أن لا يختلف فيه حكم سماع الإمام وشهادة الشهود من غير سماعه.
(3/353)
باب شهادة القاذف
قال الله عز وجل: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً
وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} قال أبو بكر: حكم الله تعالى في
القاذف إذا لم يأت بأربعة شهداء على ما قذفه به بثلاثة أحكام: أحدها
جلد ثمانين، والثاني بطلان الشهادة، والثالث: الحكم بتفسيقه إلى أن
يتوب. واختلف أهل العلم في لزوم هذه الأحكام له وثبوتها عليه بالقذف
بعد اتفاقهم على وجوب الحد عليه بنفس القذف عند عجزه عن إقامة البينة
على الزنا، فقال قائلون: "قد بطلت شهادته ولزمته سمة الفسق قبل إقامة
الحد عليه" وهو قول الليث بن سعد والشافعي. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف
وزفر ومحمد ومالك: "شهادته مقبولة ما لم يحد" وهذا يقتضي من قولهم أنه
غير موسوم بسمة الفسق ما لم يقع به الحد; لأنه لو لزمته سمة الفسق لما
جازت شهادته; إذ كانت سمة الفسق مبطلة لشهادة من وسم بها إذا كان فسقه
من طريق الفعل لا من جهة التدين والاعتقاد، والدليل على صحة ذلك قوله
تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} فأوجب بطلان شهادته عند عجزه عن
إقامة البينة على صحة قذفه، وفي ذلك ضربان من الدلالة على جواز شهادته
وبقاء حكم عدالته ما لم يقع الحد به: أحدهما قوله: {ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وثم للتراخي في حقيقة اللغة فاقتضى
ذلك أنهم متى أتوا بأربعة شهداء متراخيا عن حال القذف ان يكونوا غير
فساق بالقذف لأنه قال: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}
الآية، فكان تقديره: ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فأولئك هم الفاسقون
فإنما حكم بفسقهم متراخيا عن حال القذف في حال العجز عن إقامة الشهود
فمن حكم بفسقهم بنفس القذف فقد خالف حكم الآية وأوجب ذلك أن تكون شهادة
القاذف غير مردودة لأجل القذف، فثبت بذلك أن بنفس القذف لم تبطل
شهادته. وأيضا فلو كانت الشهادة تبطل بنفس القذف لما كان تركه إقامة
البينة على زنا المقذوف مبطلا لشهادته وهي قد بطلت قبل ذلك والوجه
الآخر: أن المعقول من هذا
(3/353)
اللفظ أنه
لا تبطل شهادته ما دامت إقامة البينة على زناه ممكنة، ألا ترى أنه لو
قال رجل لامرأته "أنت طالق إن كلمت فلانا ثم لم تدخلي الدار" أنها إن
كلمت فلانا لم تطلق حتى تترك دخول الدار إلى أن تموت فتطلق حينئذ قبل
موتها بلا فصل؟ وكذلك لو قال: "أنت طالق إن كلمت فلانا ولم تدخلي
الدار" كان بهذه المنزلة وكان الكلام وترك الدخول إلى أن تموت شرطا
لوقوع الطلاق ولا فرق بين قوله "وأنت طالق إن كلمت فلانا ثم دخلت
الدار" وبين قوله: "إن كلمت فلانا ثم لم تدخليها" وإن افترقا من جهة أن
شرط اليمين في أحدهما وجود الدخول وفي الآخر نفيه ولما كان ذلك كذلك.
وكان قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} مقتضيا لشرطين في بطلان شهادة القاذف
أحدهما: الرمي والآخر عدم الشهود على زنا المقذوف متراخيا عن القذف
وفوات الشهادة عليه به، فما دامت إقامة الشهادة عليه بالزنا ممكنة
بخصومة القاذف فقد اقتضى لفظ الآية بقاءه على ما كان عليه غير محكوم
ببطلان شهادته وأيضا لا يخلو القاذف من أن يكون محكوما بكذبه وبطلان
شهادته بنفس القذف أو أن يكون محكوما بكذبه بإقامة الحد عليه، فلو كان
محكوما بكذبه بنفس القذف ولذلك بطلت شهادته فواجب أن لا تقبل بعد ذلك
بينته على الزنا; إذ قد وقع الحكم بكذبه والحكم بكذبه في قذفه حكم
ببطلان شهادة من شهد بصدقه في كون المقذوف زانيا فلما لم يختلفوا في
حكم قبول بينته على المقذوف بالزنا، وأن ذلك يسقط عنه الحد ثبت أن قذفه
لم يوجب أن يكون كاذبا فواجب أن لا تبطل شهادته; إذ لم يحكم بكذبه; لأن
من سمعناه يخبر بخبر لا نعلم فيه صدقه من كذبه لم تبطل به شهادته، ألا
ترى أن قاذف امرأته بالزنا تبطل شهادته بنفس القذف ولا يكون محكوما
بكذبه بنفس قذفه؟ ولو كان كذلك لما جاز إيجاب اللعان بينه وبين امرأته
ولما أمر أن يشهد أربع شهادات بالله إنه لصادق فيما رماها به من الزنا
مع الحكم بكذبه ولما وعظ في ترك اللعان الكاذب منهما، ولما قال النبي
صلى الله عليه وسلم بعدما لاعن بين الزوجين: "الله يعلم أن أحدكما كاذب
فهل منكما تائب؟" فأخبر أن أحدهما بغير عينه هو الكاذب ولم يحكم بكذب
القاذف دون الزوجة، وفي ذلك دليل على أن نفس القذف لا يوجب تفسيقه ولا
الحكم بتكذيبه. ويدل عليه قوله عز وجل: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ
بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ
فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فلم يحكم بكذبهم بنفس
القذف فقط بل إذا لم يأتوا بالشهداء، ومعلوم أن المراد إذا لم يأتوا
بالشهداء عند الخصومة في القذف، فغير جائز إبطال شهادته قبل وجود هذه
الشريطة وهو عجزه عن إقامة البينة بعد الخصومة في حد القذف عند الإمام;
إذ كان الشهداء إنما يقيمون الشهادة عند الإمام فمن حكم بتفسيقه وأبطل
شهادته بنفس القذف فقد خالف الآية.
(3/354)
فإن قيل:
لما قال تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ
مُبِينٌ} دل ذلك على أن على الناس إذا سمعوا من يقذف آخر أن يحكموا
بكذبه ورد شهادته إلى أن يأتي بالشهداء. قيل له: معلوم أن الآية نزلت
في شأن عائشة رضي الله عنها وقذفتها; لأنه قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ
جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} إلى قوله: {لَوْلا إِذْ
سَمِعْتُمُوهُ} وقد كانت بريئة الساحة غير متهمة بذلك، وقاذفوها أيضا
لم يقذفوها برؤية منهم لذلك وإنما قذفوها ظنا منهم وحسبانا حين تخلفت.
ولم يدع أحد أنهم أنه رأى ذلك، ومن أخبر عن ظن في مثله فعلينا إكذابه
والنكير عليه. وأيضا لما قال في نسق التلاوة: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا
بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} فحكم
بكذبهم عند عجزهم عن إقامة البينة، علمنا أنه لم يرد بقوله: {وَقَالُوا
هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} إيجاب الحكم بكذبهم بنفس القذف، وأن معناه:
وقالوا هذا إفك مبين; إذ سمعوه ولم يأت القاذف بالشهود. والشافعي يزعم
أن شهود القذف إذا جاءوا متفرقين قبلت شهادتهم، فإن كان القذف قد أبطل
شهادته فوجب أن لا يقبلها بعد ذلك وإن شهد معه ثلاثة; لأنه قد فسق
بقذفه فوجب الحكم بتكذيبه، وفي قبول شهادتهم إذا جاءوا متفرقين ما
يلزمه أن لا تبطل شهادتهم بنفس القذف. ويدل على صحة قولنا من جهة السنة
ما روى الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده" قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في
قذف" ، فأخبر صلى الله عليه وسلم ببقاء عدالة القاذف ما لم يحد. ويدل
عليه أيضا حديث عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس في قصة هلال بن
أمية لما قذف امرأته عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "أيجلد هلال وتبطل شهادته في المسلمين" فأخبر أن
بطلان شهادته معلق بوقوع الجلد به، ودل بذلك أن القذف لم يبطل شهادته.
واختلف الفقهاء في شهادة المحدود في القذف بعد التوبة، فقال أبو حنيفة
وزفر وأبو يوسف ومحمد والثوري والحسن بن صالح: "لا تقبل شهادته إذا تاب
وتقبل شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب". وقال مالك وعثمان البتي
والليث والشافعي تقبل شهادة المحدود في القذف إذا تاب". وقال الأوزاعي:
"لا تقبل شهادة محدود في الإسلام".
قال أبو بكر: روى الحجاج عن ابن جريج وعثمان بن عطاء عن عطاء الخراساني
عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ
جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ} ثم استثنى فقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} فتاب عليهم
من الفسق، وأما الشهادة فلا تجوز. حدثنا
(3/355)
جعفر بن
محمد الواسطي قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا حجاج، وقد
ورد عن ابن عباس أيضا ما حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا ابن اليمان
قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن
علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ
شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} قال: ثم قال:
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} قال: "فمن تاب وأصلح فشهادته في كتاب الله
مقبولة". قال أبو بكر: ويحتمل أن لا يكون ذلك مخالفا لما روي عنه في
الحديث الأول، بأن يكون أراد بأن شهادته مقبولة إذا لم يجلد وتاب،
والأول على أنه جلد فلا تقبل شهادته وإن تاب. وروي عن شريح وسعيد بن
المسيب والحسن وإبراهيم وسعيد بن جبير قالوا: "لا تجوز شهادته وإن تاب
إنما توبته فيما بينه وبين الله". وقال إبراهيم: "رفع عنهم بالتوبة اسم
الفسق فأما الشهادة فلا تجوز أبدا". وروي عن عطاء وطاوس ومجاهد والشعبي
والقاسم بن محمد وسالم والزهري: "أن شهادته تقبل إذا تاب". وروي عن عمر
بن الخطاب من وجه مطعون فيه أنه قال لأبي بكرة: "إن تبت قبلت شهادتك"،
وذلك أنه رواه ابن عيينة عن الزهري قال سفيان: عن سعيد بن المسيب، ثم
شك وقال: هو عمر بن قيس، أن عمر قال لأبي بكرة: "إن تبت قبلت شهادتك
فأبى أن يتوب"، فشك سفيان بن عيينة في سعيد بن المسيب وعمر بن قيس
ويقال إن عمر بن قيس مطعون فيه، فلم يثبت عن عمر بهذا الإسناد هذا
القول. ورواه الليث عن ابن شهاب أنه بلغه أن عمر قال ذلك لأبي بكرة،
وهذا بلاغ لا يعمل عليه على مذهب المخالف. وقد روي عن سعيد بن المسيب
أن شهادته غير مقبولة بعد التوبة، فإن صح عنه حديث عمر فلم يخالفه إلا
إلى ما هو أقوى منه، ومع ذلك فليس في حديث عمر أنه قال ذلك لأبي بكرة
بعدما جلده، وجائز أن يكون قال قبل الجلد.
قال أبو بكر: وما ذكرنا من اختلاف السلف وفقهاء الأمصار في حكم القاذف
إذا تاب فإنما صدر عن اختلافهم في رجوع الاستثناء إلى الفسق أو إلى
إبطال الشهادة وسمة الفسق جميعا فيرفعهما، والدليل على أن الاستثناء
مقصور الحكم على ما يليه من زوال سمة الفسق به دون جواز الشهادة أن حكم
الاستثناء في اللغة رجوعه إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدمه إلا
بدلالة، والدليل عليه قوله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا
لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ} [الحجر:59] فكانت
المرأة مستثناة من المنجين; لأنها تليهم، ولو قال رجل لفلان: "علي عشرة
دراهم إلا ثلاثة دراهم إلا درهم" كان عليه ثمانية دراهم وكان الدرهم
مستثنى من الثلاثة، وإذا كان ذلك حكم الاستثناء وجب الاقتصار به على ما
يليه ويدل عليه أيضا أن قوله: {فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ
بِهِنَّ} [النساء: 23] في معنى
(3/356)
الاستثناء
وهو راجع إلى الربائب دون أمهات النساء; لأنه يليهن، فثبت بما وصفنا
صحة ما ذكرنا من الاقتصار بحكم الاستثناء على ما يليه دون ما تقدمه
وأيضا فإن الاستثناء إذا كان في معنى التخصيص وكانت الجملة الداخل
عليها الاستثناء عموما، وجب أن يكون حكم العموم ثابتا وأن لا نرفعه
باستثناء قد ثبت حكمه فيما يليه إلا أن تقوم الدلالة على رجوعه إليها.
فإن قيل: قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} [المائدة:
33] إلى قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا
عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] فكان الاستثناء راجعا إلى جميع المذكور
لكونه معطوفا بعضه على بعض، وقال تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ
وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً
إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43] ثم قال:
{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ
مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا
مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] فكان التيمم لمن لزمه الاغتسال
كلزومه لمن لزمه الوضوء بالحدث، فكذلك حكم الاستثناء الداخل على كلام
معطوف بعضه على بعض يجب أن ينتظم الجميع ويرجع إليه. قيل له: قد بينا
أن حكم الاستثناء في اللغة رجوعه إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدمه
إلا بدلالة، وقد قامت الدلالة فيما ذكر على رجوعه إلى جميع المذكور ولم
تقم الدلالة فيما اختلفنا فيه على رجوعه إلى الجميع المذكور.
فإن قيل: إذا كنا قد وجدنا الاستثناء تارة يرجع إلى بعض المذكور وتارة
إلى جميعه وكان ذلك متعالما مشهورا في اللغة، فما الدلالة على وجوب
الاقتصار به على بعض الجملة وهو الذي يليه دون رجوعه إلى الجميع؟ قيل
له: لو سلمنا لك ما ادعيت من جواز رجوعه إلى الجميع لكان سبيله أن يقف
موقف الاحتمال في رجوعه إلى ما يليه أو إلى جميع المذكور، وإذا كان
كذلك، وكان اللفظ الأول عموما مقتضيا للحكم في سائر الأحوال لم يجز رد
الاستثناء إليه بالاحتمال; إذ غير جائز تخصيص العموم بالاحتمال، ووجب
استعمال حكمه في المتيقن وهو ما يليه دون ما تقدمه.
فإن قيل: ما أنكرت أن لا يكون اللفظ الأول عموما مع دخول الاستثناء على
آخر الكلام بل يصير في حيز الاحتمال ويبطل اعتبار العموم فيه؟ إذ ليس
اعتبار عمومه بأولى من اعتبار عموم الاستثناء في عوده إلى الجميع، وإذا
بطل فيه اعتبار العموم وقف موقف الاحتمال في إيجاب حكمه فسقط اعتبار
عموم اللفظ فيه. قيل له: هذا غلط من قبل أن صيغة اللفظ الأول صيغة
العموم لا تدافع بيننا فيه، وليس للاستثناء صيغة عموم يقتضي رفع
الجميع، فوجب أن يكون حكم الصيغة الموجبة للعموم مستعملا فيه وأن لا
نزيلها
(3/357)
عنه إلا
بلفظ يقتضي صيغته رفع العموم، وليس ذلك بموجود في لفظ الاستثناء.
فإن قيل: لو قال رجل: عبده حر وامرأته طالق إن شاء الله، رجع الاستثناء
إلى الجميع، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "والله لأغزون قريشا
والله لأغزون قريشا والله لأغزون قريشا إن شاء الله" ، فكان استثناؤه
راجعا إلى جميع الأيمان،; إذ كانت معطوفة بعضها على بعض. قيل له: ليس
هذا مما نحن في شيء; لأن هذا الضرب من الاستثناء مخالف للاستثناء
الداخل على الجملة بحروف الاستثناء التي هي "إلا" و "غير" و "سوى" ونحو
ذلك; لأن قوله: "إن شاء الله" يدخل لرفع حكم الكلام حتى لا يثبت منه
شيء، والاستثناء المذكور بحرف الاستثناء لا يجوز دخوله إلا لرفع حكم
الكلام رأسا، ألا ترى أنه يجوز أن يقول أنت طالق إن شاء الله فلا يقع
شيء ولو قال: أنت طالق إلا طالق كان الطلاق واقعا والاستثناء باطلا
لاستحالة دخوله لرفع حكم الكلام؟ ولذلك جاز أن يكون قوله "إن شاء الله"
راجعا إلى جميع المذكور المعطوف بعضه على بعض، ولم يجب مثله فيما
وصفنا.
فإن قيل: فلو كان قال: "أنت طالق وعبدي حر إلا أن يقدم فلان" كان
الاستثناء راجعا إلى الجميع، فإن لم يقدم فلان حتى مات طلقت امرأته
وعتق عبده وكان ذلك بمنزلة قوله: إن شاء الله. قيل له: ليس ذلك على ما
ظننت، من قبل أن قوله: "إلا أن يقدم فلان" وإن كانت صيغته صيغة
الاستثناء فإنه في معنى الشرط كقوله: "إن لم يقدم فلان"، وحكم الشرط أن
يتعلق به جميع المذكور إذا كان بعضه معطوفا على بعض، وذلك لأن الشرط
يشبه الاستثناء الذي هو مشيئة الله عز وجل من حيث كان وجوده عاملا في
رفع الكلام حتى لا يثبت منه شيء، ألا ترى أنه ما لم يوجد الشرط لم يقع
شيء؟ وجائز أن لا يوجد الشرط أبدا فيبطل حكم الكلام رأسا ولا يثبت من
الجزاء شيء، فلذلك جاز رجوع الشرط إلى جميع المذكور كما جاز رجوع
الاستثناء بمشيئة الله تعالى. قال أبو بكر: وقوله: "إلا أن يقدم فلان"
هو شرط، وإن دخل عليه حرف الاستثناء، وأما الاستثناء المحض الذي هو
قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [البقرة: 160] و {إِلَّا آلَ لُوطٍ}
[الحجر: 59] وما جرى مجراه، فإنه لا يجوز دخوله لرفع حكم الكلام رأسا
حتى لا يثبت منه شيء، ألا ترى أن قوله: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ
شَهَادَةً أَبَداً} لا بد من أن يكون حكمه ثابتا في وقت ما وأن من رد
الاستثناء إليه فإنما يرفع حكمه في بعض الأوقات بعد ثبات حكمه في
بعضها؟ وكذلك قوله: {إِلَّا آلَ لُوطٍ} [الحجر: 59] غير جائز أن يكون
رافعا لحكم النجاة عن الأولين، وإنما عمل في بعض ما انتظمه لفظ العموم.
ويستدل بما ذكرنا على أن حقيقة هذا الضرب من الاستثناء رجوعه إلى ما
يليه دون
(3/358)
ما تقدمه
وأن لا يرد إلى ما تقدمه إلا بدلالة وذلك; لأنه لما استحال دخول هذا
الاستثناء لرفع حكم الكلام رأسا حتى لا يثبت منه شيء وجب أن يكون
مستعملا في البعض دون الكل، فإذا وجب ذلك كان ذلك البعض الذي عمل فيه
هو المتيقن دون غيره، بمنزلة لفظ لا يصح اعتقاد العموم فيه فيكون حكمه
مقصورا على الأقل المتيقن دون اعتبار لفظ العموم، كذلك الاستثناء. ولما
جاز دخول شرط مشيئة الله تعالى وسائر شروط الأيمان لرفع حكم اللفظ رأسا
وجب استعماله في جميع المذكور وأن لا يخرج منه شيء إلا بدلالة.
ويدل على أن الاستثناء في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} مقصور على
ما يليه دون ما تقدمه، أن قوله: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً
وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} كل واحد منهما أمر، وقوله:
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} خبر، والاستثناء داخل عليه، فوجب أن
يكون موقوفا عليه دون رجوعه إلى الأمر وذلك; لأن "الواو" في قوله:
{وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} للاستقبال; إذ غير جائز أن يكون
للجميع; لأنه غير جائز أن ينتظم لفظ واحد الأمر والخبر، ألا ترى أنه لا
يصح جمعهما في كناية ولا في لفظ واحد؟ ويدل عليه أنه لم يرجع إلى الحد
إذا كان أمرا، ونظيره قول القائل: "أعط زيدا درهما، ولا تدخل الدار
وفلان خارج إن شاء الله" إن مفهوم هذا الكلام رجوع الاستثناء إلى
الخروج دون ما تقدم من ذكر الأمر، كذلك يجب أن يكون حكم الاستثناء في
الآية لا فرق بينهما.
فإن قيل: قال الله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ
يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} [المائدة: 33] إلى قوله: {ذَلِكَ لَهُمْ
خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ}
[المائدة: 33] ثم قال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ
تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] ومعلوم أن ما تقدم في أول الآية
أمر، وقوله: {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا} [المائدة: 33] خبر،
فرجع الاستثناء إلى الجميع ولم يختلف حكم الخبر والأمر. قيل له: إنما
جاز ذلك; لأن قوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] وإن كان أمرا في الحقيقة فإن صورته صورة
الخبر، فلما كان الجميع في صورة الخبر جاز رجوع الاستثناء إلى الجميع،
ولما كان قوله تعالى: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} أمرا على الحقيقة ثم عطف عليه
الخبر، وجب أن لا يرجع إلى الجميع; ومع ذلك فإنا نقول متى اختلفت صيغ
المعطوف بعضه على بعض لم يرجع إلا إلى ما يليه ولا يرجع إلى ما تقدم
مما ليس في مثل صيغته إلا بدلالة، فإن قامت الدلالة جاز رده إليه، وقد
قامت الدلالة في آية المحاربين ولم تقم الدلالة فيما اختلفنا فيه فهو
مبقى على حكمه في الأصل.
(3/359)
فإن قيل:
لما كانت "الواو" للجمع، ثم قال: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً
وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ
الْفَاسِقُونَ} صار الجميع كأنه مذكور معا لا تقدم لواحد منهما على
الآخر، فلما أدخل عليه الاستثناء لم يكن رجوع الاستثناء إلى شيء من
المذكور بأولى من رجوعه إلى الآخر; إذ لم يكن لتقديم بعضها على بعض حكم
في الترتيب، فكان الجميع في المعنى بمنزلة المذكور معا، فليس رجوع
الاستثناء إلى سمة الفسق بأولى من رجوعه إلى بطلان الشهادة والحد،
ولولا قيام الدلالة على أنه لم يرجع إلى الحد لاقتضى ذلك رجوعه أيضا
وزواله عنه بالتوبة. قيل له: إن "الواو" قد تكون للجمع على ما ذكرت وقد
تكون للاستئناف، وهي في قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
للاستئناف; لأنها إنما تكون للجمع فيما لا يختلف معناه وينتظمه جملة
واحدة فيصير الكل كالمذكور معا، وذلك في نحو قوله تعالى: {إِذَا
قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] إلى
آخر الآية; لأن الجميع أمر، كأنه قال: فاغسلوا هذه الأعضاء; لأن الجميع
قد تضمنه لفظ الأمر فصارت كالجملة الواحدة المنتظمة لهذه الأوامر. وأما
آية القذف فإن ابتداءها أمر وآخرها خبر، ولا يجوز أن ينتظمهما جملة
واحدة; فلذلك كانت "الواو" للاستئناف; إذ غير جائز دخول معنى الخبر في
لفظ الأمر، وقوله: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] الاستثناء فيه عائد إلى الأمر بالقتل وما
ذكر معه وغير عائد إلى الخبر الذي يليه; لأن قوله: {إِلَّا الَّذِينَ
تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] لا
يجوز أن يكون عائدا إلى قوله: { وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ
عَظِيمٌ} [المائدة: 33] لأن التوبة تزيل عذاب الآخرة قبل القدرة عليهم
وبعدها، فعلمنا أن هذه التوبة مشروطة للحد دون عذاب الآخرة. ودليل آخر،
وهو أن قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} لا
يخلو من أن يكون بطلان هذه الشهادة متعلقا بالفسق أو يكون حكما على
حياله تقتضي الآية تأبيده، فلما كان حمله على بطلانها بلزوم سمة الفسق
يبطل فائدة ذكره; إذ كان ذكر التفسيق مقتضيا لبطلانها إلا بزواله
والتوبة منه، وجب حمله على أنه حكم برأسه غير متعلق بسمة الفسق ولا
بترك التوبة. وأيضا فإن كل كلام فحكمه قائم بنفسه وغير جائز تضمينه
بغيره إلا بدلالة، وفي حمله على ما ادعاه المخالف تضمينه بغيره وإبطال
حكمه بنفسه، وذلك خلاف مقتضى اللفظ. وأيضا فإن حمله على ما ادعى يوجب
أن يكون الفسق المذكور في الآية علة لما ذكر من إبطال الشهادة، فيكون
تقديره: ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا; لأنهم فاسقون; وفي ذلك إزالة اللفظ
عن حقيقته وصرفه إلى مجاز لا دلالة عليه; لأن حكم اللفظ أن يكون قائما
بنفسه في إيجاب حكمه وأن لا يجعل علة لغيره مما هو مذكور معه ومعطوف
عليه، فثبت بذلك أن
(3/360)
بطلان
الشهادة بعد الجلد حكم قائم بنفسه على وجه التأبيد المذكور في الآية
غير موقوف على التوبة.
فإن قيل رجوع الاستثناء إلى الشهادة أولى منه إلى الفسق; لأنه معلوم أن
التوبة تزيل الفسق بغير هذه الآية فلا يكون رده إلى الفسق مفيدا ورده
إلى الشهادة يفيد جوازها بالتوبة; إذ كان جائزا أن تكون الشهادة مردودة
مع وجود التوبة، فأما بقاء سمة الفسق مع وجود التوبة فغير جائز في عقل
ولا سمع; إذ كانت سمة الفسق ذما وعقوبة، وغير جائز أن يستحق التائب
الذم، وليس كذلك بطلان الشهادة، ألا ترى أن العبد والأعمى غير جائزي
الشهادة لا على وجه الذم والتعنيف لكن عبادة؟ فكان رجوع الاستثناء إلى
الشهادة أولى بإثبات فائدة الآية منه إلى الفسق. قيل له: إن التوبة
المذكورة في هذه الآية إنما هي التوبة من القذف وإكذاب نفسه فيه; لأنه
به استحق سمة الفسق، وقد كان جائزا أن تبقى سمة الفسق عليه إذا تاب من
سائر الذنوب، ولم يكذب نفسه، فأخبر الله تعالى بزوال سمة الفسق عنه إذا
أكذب نفسه. ووجه آخر، وهو أن سمة الفسق إنما لزمته بوقوع الجلد به ولم
يكن يمتنع عند إظهار التوبة أن لا تكون مقبولة في ظاهر الحال وإن كانت
مقبولة عند الله; لأنا لا نقف على حقيقة توبته، فكان جائزا أن يتعبدنا
بأن لا نصدقه على توبته وأن نتركه على الجملة ولا نتولاه على حسب ما
نتولى سائر أهل التوبة، فلما كان ذلك جائزا ورود العبادة به أفادتنا
الآية قبول توبته ووجوب موالاته وتصديقه على ما ظهر من توبته.
فإن قيل: لما اتفقنا على أن الذمي المحدود في القذف تقبل شهادته إذا
أسلم وتاب، دل ذلك من وجهين على قبول شهادة المسلم المحدود في القذف:
أحدهما: أنه قد ثبت أن الاستثناء راجع إلى بطلان الشهادة; إذ كان الذمي
مرادا بالآية، وقد أريد به كون بطلان الشهادة موقوفا على التوبة.
والثاني: أنه لما رفعت التوبة الحكم ببطلان شهادته كان المسلم في حكمه
لوجود التوبة منه. قيل له: ليس الأمر فيه على ما ظننت وذلك; لأن الذمي
لم يدخل في الآية، وذلك لأن الآية إنما اقتضت بطلان شهادة من جلد وحكم
بفسقه من جهة القذف، والذمي قد تقدمت له سمة الفسق، فلما لم يستحق هذه
السمة بالجلد لم يدخل في الآية وإنما جلدناه بالاتفاق، ولم يحصل
الاتفاق على بطلان شهادته بعد إسلامه بالجلد الواقع في حال كفره
فأجزناها كما نجيز شهادة سائر الكفار إذا أسلموا.
فإن قيل: فيجب على هذا أن لا يكون الفاسق من أهل الملة مرادا بالآية;
إذ لم يستحدث سمة الفسق بوقوع الحد به. قيل له: هو كذلك، وإنما دخل في
حكمها بالمعنى لا باللفظ، وإنما أجاز أصحابنا شهادة الذمي المحدود في
القذف بعد إسلامه
(3/361)
وتوبته من
قبل أن الحد في القذف يبطل العدالة من وجهين: أحدهما: عدالة الإسلام،
والآخر عدالة الفعل; والذمي لم يكن مسلما حين حد فيكون وقوع الحد به
مبطلا لعدالة إسلامه، وإنما بطلت عدالته من جهة الفعل، فإذا أسلم فأحدث
توبة فقد حصلت له عدالة من جهة الإسلام ومن طريق الفعل أيضا بالتوبة;
فلذلك قبلت شهادته. وأما المسلم فإن الحد قد أسقط عدالته من طريق الدين
ولم يستحدث بالتوبة عدالة أخرى من جهة الدين; إذ لم يستحدث دينا
بتوبته، وإنما استحدث عدالة من طريق الفعل; فلذلك لم تقبل شهادته; إذ
كان شرط قبول الشهادة وجود العدالة من جهة الدين والفعل جميعاً.
فإن قيل: لما اتفقنا على قبول شهادته إذا تاب قبل وقوع الحد به دل ذلك
على أن الاستثناء راجع إلى الشهادة كرجوعه إلى التفسيق، فوجب على هذا
أن يكون مقتضيا لقبولها بعد الحد كهو قبله. قيل له: إن شهادته لم تبطل
بالقذف قبل وقوع الحد به ولا وجب الحكم بتفسيقه لما بيناه في المسألة
المتقدمة، ولو لم يتب وأقام على قذفه كانت شهادته مقبولة، وإنما بطلان
الشهادة ولزومه سمة الفسق مرتب على وقوع الحد به، فالاستثناء إنما رفع
عنه سمة الفسق التي لزمته بعد وقوع الحد فأما قبل ذلك فغير محتاج إلى
الاستثناء في الشهادة ولا في الحكم بالتفسيق.
ودليل آخر على صحة قولنا، وهو أنا قد اتفقنا على أن التوبة لا تسقط
الحد، ولم يرجع الاستثناء إليه، فوجب أن يكون بطلان الشهادة مثله
لأنهما جميعا أمران قد تعلقا بالقذف، فمن حيث لم يرجع الاستثناء إلى
الحد وجب أن لا يرجع إلى الشهادة، وأما التفسيق فهو خبر ليس بأمر فلا
يلزم على ما وصفنا. ومن جهة أخرى أن المطالبة بالحد حق لآدمي فكذلك
بطلان الشهادة حق لآدمي; ألا ترى أن الشهادات إنما هي حق للمشهود له
وبمطالبته يصح أداؤها وإقامتها كما تصح إقامة حد القذف بمطالبة
المقذوف؟ فوجب أن يكونا سواء في أن التوبة لا ترفعهما، وأما لزوم سمة
الفسق فلا حق فيه لأحد فكان الاستثناء راجعا إليه ومقصورا عليه.
فإن قيل: إذا كان التائب من الكفر مقبول الشهادة فالتائب من القذف أحرى
قيل له: التائب من الكفر يزول عنه القتل ولا يزول عن التائب من القذف
حد القذف، فكما جاز أن تزيل التوبة من الكفر القتل عن الكافر جاز أن
تقبل توبته ولا يلزم عليه التائب من القذف لأن توبته لا تزيل الجلد
عنه. وأيضا فإن عقوبات الدنيا غير موضوعة على مقادير الأجرام، ألا ترى
أن القاذف بالكفر لا يجب عليه الحد والقاذف بالزنا يجب عليه الحد؟ فغلظ
أمر القذف من هذا الوجه بما لم يغلظ به أمر القذف في أحكام الدنيا وإن
كانت عقوبة الكفر في الآخرة أعظم.
(3/362)
فإن قيل:
فإذا تاب وأصلح فهو عدل ولي لله تعالى، وقد كان بطلان شهادته بديا على
وجه العقوبة والتوبة تزيل العقوبة وتوجب العدالة والولاية، فغير جائز
بطلان شهادته بعد توبته. قيل له: لا يكون بطلان شهادته بعد توبته على
وجه العقوبة بل على جهة المحنة، كما لا تكون إقامة الحد عليه بعد
التوبة على جهة العقوبة بل على جهة المحنة، ولله أن يمتحن عباده بما
شاء على وجه المصلحة. ألا ترى أن العبد قد يكون عدلا مرضيا عند الله
وليا لله تعالى وهو غير مقبول الشهادة وكذلك الأعمى وشهادة الوالد
لولده ومن جرى مجراه؟ فليس بطلان الشهادة في الأصول موقوفا على الفسق
وعلى وجه العقوبة حتى يعارض فيه بما ذكرت.
ومما يدل على أن توبة القاذف لا توجب جواز شهادته أن شهادته إنما بطلت
بحكم الحاكم عليه بالجلد وجلده إياه ولم تبطل بقذفه لما قد بينا فيما
سلف، فلما تعلق بطلان شهادته بحكم الحاكم لم يجر إجازتها إلا بحكم
الحاكم بجوازها; لأن في الأصول أن كل ما تعلق ثبوته بحكم الحاكم لم يزل
ذلك الحكم عنه إلا بما يجوز ثبوته من طريق الحكم كالإملاك والعتاق
والطلاق وسائر الحقوق، فلما لم تكن توبته مما تصح الخصومة فيه ولا يحكم
بها الحاكم لم يجز لنا إبطال ما قد ثبت بحكم الحاكم.
فإن قيل: فرقة اللعان والعنين وما جرى مجراها متعلقة بحكم الحاكم وقد
يجوز أن يتزوجها فيعود النكاح، فكذلك بطلان شهادة القاذف وإن كان
متعلقا بحكم الحاكم فإن ذلك لا يمنع إطلاق شهادته عند توبته ويكون حكم
الحاكم بديا ببطلانها مقصورا على الحال التي لم تحدث فيها توبة، كما أن
الفرقة الواقعة بحكم الحاكم إنما هي مقصورة على الحال التي لم يكن
منهما فيها عقد مستقبل. قيل له: لأن النكاح الثاني مما يجوز وقوع الحكم
به فجاز أن تبطل به الفرقة الواقعة بحكم الحاكم، والتوبة ليست مما يحكم
به الحاكم فلا تثبت فيه الخصومات فلم يجز أن يبطل به حكم الحاكم ببطلان
شهادته، ولكنه لو شهد القاذف بشهادة عند حاكم يرى قبول شهادة المحدود
في القذف بعد التوبة فحكم بجواز شهادته بعد حكمه جازت شهادته.
فإن قيل: فلو أن رجلا زنى فحده الحاكم ثم تاب جازت شهادته بعد التوبة
ولم يكن حكم الحاكم مانعا من قبولها بعد التوبة قيل له: الزاني لم
يتعلق بطلان شهادته بحكم الحاكم وإنما بطلت بزناه قبل أن يحده الحاكم
لظهور فسقه، فلما لم يتعلق بطلان شهادته بحكم الحاكم بل بفعله جازت عند
ظهور توبته وشهادة القاذف لم تبطل بقذفه لما بينا فيما سلف لأنه جائز
أن يكون صادقا، وإنما يحكم بكذبه وفسقه عند جلد الحاكم إياه فأما قبل
ذلك فهو في حكم من لم يقذف. ويدل على ذلك من جهة السنة حديث
(3/363)
عباد بن
منصور عن عكرمة عن ابن عباس في قصة هلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك
ابن سحماء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيجلد هلال وتبطل
شهادته في المسلمين". وذكر الحديث، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم
أن وقوع الجلد به يبطل شهادته من غير شرط التوبة في قبولها. وقد روى
الحجاج بن أرطاة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا محدودا في قذف"
قال أبو بكر: ولم يستثن فيه وجود التوبة منه. وحدثنا عبد الباقي بن
قانع قال: حدثنا حامد بن محمد قال: حدثنا شريح قال: حدثنا مروان عن
يزيد بن أبي خالد عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: "لا تجوز في الإسلام شهادة مجرب عليه شهادة زور ولا
خائن ولا خائنة ولا مجلود حدا ولا ذي غمر لأخيه ولا الصانع لأهل البيت
ولا ظنين ولا قرابة" ; فأبطل عليه الصلاة والسلام القول بإبطال شهادة
المحدود، فظاهره يقتضي بطلان شهادة سائر المحدودين في حد قذف أو غيره;
إلا أن الدلالة قد قامت على جواز قبول شهادة المحدود في غير القذف إذا
تاب مما حد فيه، ولم تقم الدلالة في المحدود في القذف، فهو على عموم
لفظه تاب أو لم يتب; وإنما قبلنا شهادة المحدود في غير القذف إذا تاب
لأن بطلان شهادته متعلق بالفسق فمتى زالت عنه سمة الفسق كانت شهادته
مقبولة، والدليل على ذلك أن الفعل الذي استحق به الحد من زنا أو سرقة
أو شرب خمر قد أوجب تفسيقه قبل وقوع الحد به، فلما لم يتعلق بطلان
شهادته بالحد كان بمنزلة سائر الفساق إذا تابوا فتقبل شهاداتهم، وأما
المحدود في القذف فلم يوجب القذف بطلان شهادته قبل وقوع الحد به لأنه
جائز أن يكون صادقا في قذفه، وإنما بطلت شهادته بوقوع الحد به فلم تزل
ذلك عنه بتوبته.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} . قال أبو بكر: قد اقتضت هذه الآية
أن يكون شهود الزنا أربعة، كما أوجب قوله: {وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وقوله: {وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] قبول شهادة العدد المذكور فيه
وامتناع جواز الاقتصار على أقل منه. وقال تعالى في سياق التلاوة عند
ذكر أصحاب الإفك: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ
الْكَاذِبُونَ} فجعل عدد الشهود المبرئ للقاذف من الحد أربعة وحكم
بكذبه عند عجزه عن إقامة أربعة شهداء، وقد بين تعالى عدد شهود الزنا في
قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ
فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15] الآية،
وأعاد ذكر الشهود الأربعة عند القذف إعلاما لنا أن القاذف لا تبرئه من
الجلد إلا شهادة أربعة.
(3/364)
واختلف
الفقهاء في القاذف إذا جاء بأربعة شهداء فساق فشهدوا على المقذوف
بالزنا، فقال أصحابنا وعثمان البتي والليث بن سعد: "لا حد على الشهود
وإن كانوا فساقا". وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف في رجل قذف رجلا
بالزنا ثم جاء بأربعة فساق يشهدون أنه زان: "إنه يحد القاذف ويدرأ عن
الشهود". وقال زفر: "يدرأ عن القاذف وعن الشهود".
وقال مالك وعبيد الله بن الحسن: "يحد الشهود". قال أبو بكر: ولم يختلف
أصحابنا لو جاء بأربعة كفار أو محدودين في قذف أو عبيد أو عميان أن
القاذف والشهود جميعا يحدون للقذف، فأما إذا كانوا فساقا فإن ظاهر
قوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} قد تناولهم; إذ لم
يشرط في سقوط الحد عن القاذف العدول دون الفساق، فوجب بمقتضى الآية
زوال الحد عن القاذف; إذ جعل شرط وجوب الحد أن لا يأتي بأربعة شهداء
وهو قد أتى بأربعة شهداء; إذ كان الشهداء اسما لمن أقام الشهادة.
فإن قيل: يلزمك مثله في الكفار والمحدودين في القذف ونحوهم. قيل له: قد
اقتضى، الظاهر ذلك، وإنما خصصناه بدلالة. وأيضا فإن الفساق إنما ردت
شهادتهم للتهمة وكان ذلك شبهة في ردها، فغير جائز إيجاب الحد عليهم
بالشبهة التي ردت من أجلها شهادتهم، ووجب سقوط الحد عن القاذف أيضا
بهذه الشهادة كما أسقطناها عنهم; إذ كان سبيل الشبهة أن يسقط بها الحد
ولا يجب بها الحد، وأما المحدود في القذف والكافر والعبد والأعمى فلم
نرد شهادتهم للتهمة ولا لشبهة فيها وإنما رددناها لمعان متيقنة فيهم
تبطل الشهادة، وهي الحد والكفر والرق والعمى فلذلك حددناهم ولم يكن
لشهادتهم تأثير في إسقاط الحد عنهم وعن القاذف، ووجه آخر، وهو أن
الفساق من أهل الشهادة، وإنما رددناها اجتهادا، وقد يسوغ الاجتهاد
لغيرنا في قبول شهادتهم إذا كان ما نحكم نحن بأنه فسق يوجب رد الشهادة
قد يجوز أن يراه غيرنا غير مانع من قبول الشهادة، فلما كان كذلك لم يكن
لنا إيجاب الحد على الشهود ولا على القاذف بالاجتهاد، وأما الحد في
القذف والكفر ونظائرهما فليس طريق إثباتها الاجتهاد بل الحقيقة; فلذلك
جاز أن يحدوا ولم يكن لشهادتهم تأثير في إسقاط الحد عن القاذف. وأيضا
فإن الفاسق غير محكوم ببطلان شهادته إذ الفسق ليس بمعنى يحكم به الحاكم
ولا يسمع عليه البينات، فلما لم يحكم ببطلان شهادتهم ولا كان الفسق مما
تقوم به البينات ويحكم به الحاكم لم يجز الحكم ببطلان شهادتهم في إيجاب
الحد عليهم، ولما كان حد القذف والكفر والرق والعمى مما يقع الحكم به
وتقوم عليه البينات كان محكوما ببطلان شهادتهم وخرجوا بذلك من أن
يكونوا من أهل الشهادة فوجب أن يحدوا لوقوع
(3/365)
الحكم
بالسبب الموجب لخروجهم من أن يكونوا من أهل الشهادة. وأيضا فإن الفسق
من الشاهد غير متيقن في حال الشهادة، إذ جائز أن يكون عدلا بتوبته في
الحال فيما بينه وبين الله، وأما الكفر والحد والعمى والرق فقد علمنا
أنه غير زائل وهو المانع له من كونه شاهدا، فلذلك اختلفا.
فإن قيل جائز أن يكون الكافر قد أسلم أيضا فيما بينه وبين الله قيل له:
لا يكون مسلما باعتقاده الإسلام دون إظهاره في الموضع الذي يمكنه
إظهاره، فإذا لم يظهره فهو باق على كفره، فقول زفر في هذه المسألة أظهر
لأنه إن جاز أن يكون فسق الشهود غير مخرج لهم من أن يكونوا من أهل
الشهادة في باب سقوط الحد عنهم فكذلك حكمهم في سقوطه عن القاذف.
قال أبو بكر اختلف الفقهاء في شهود الزنا إذا جاءوا متفرقين، فقال أبو
حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والأوزاعي والحسن بن صالح: "يحدون"
وقال عثمان البتي والشافعي: "لا يحدون وتقبل شهادتهم"، ثم قال الشافعي:
"إذا كان الزنا واحدا" قال أبو بكر: لما شهد الأول وحده كان قاذفا
بظاهر قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} فاقتضى أن يكون الأربعة غيره; إذ غير
جائز أن يكون المعقول منه دخوله في الأربعة; لأنه لا يقال ائت بنفسك
بعد الشهادة أو القذف كما لا يجوز أن يقال ائت بأربعة سواك; ولأنهم لم
يختلفوا أنه إذا قال لها أنت زانية أنه مكلف لأن يأتي بأربعة غيره
يشهدون بالزنا وليس هو منهم، فكذلك قوله أشهد أنك زانية. وإذا كان كذلك
فقد اقتضى ظاهر الآية إيجاب الحد على كل قاذف سواء كان قذفه بلفظ
الشهادة أو بغير لفظ الشهادة، فلما كان ذلك حكم الأول كان كذلك حكم
الثاني والثالث والرابع; إذ كان كل واحد منهم قاذف محصنة قد أوجب الله
عليه الحد ولم يبرئه منه إلا بشهادة أربعة غيره.
فإن قيل: إنما أوجب الله عليه الحد إذا كان قاذفا ولم يجئ مجيء
الشهادة، فأما إذا جاء مجيء الشهادة بأن يقول: "أشهد أن فلانا زنى"
فليس هذا بقاذف قيل له: قذفه إياها بلفظ الشهادة لا يخرجه من حكم
القاذفين. ألا ترى أنه لو لم يشهد معه غيره لكان قاذفا وكان الحد له
لازما؟ فلما كان كذلك علمنا أن إيراده القذف بلفظ الشهادة لا يخرجه من
أن يكون قاذفا بعد أن يكون وحده وأيضا فقد تناوله عموم قوله:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} إذ كان راميا، وإنما ينفصل حكم
الرامي من حكم الشاهد إذا جاء أربعة مجتمعين وهم العدد المشروط في قبول
الشهادة، فلا يكونون مكلفين لأن يأتوا بغيرهم، فأما من دون الأربعة إذا
جاءوا قاذفين بلفظ الشهادة أو بغير لفظها فإنهم قذفة; إذ هم
(3/366)
مكلفون
للإتيان بغيرهم في صحة قذفهم.
فإن قيل: قد روي أن نافع بن الحارث كتب إلى عمر رضي الله عنه: أن أربعة
جاءوا يشهدون على رجل وامرأة بالزنا، فشهد ثلاثة أنهم رأوا كالميل في
المكحلة ولم يشهد الرابع بمثل ذلك، فكتب إليه عمر: إن شهد الرابع على
مثل ما شهد عليه الثلاثة فاجلدهما وإن كانا محصنين فارجمهما، وإن لم
يشهد إلا بما كتبت به إلي فاجلد الثلاثة وخل سبيل الرجل والمرأة، وهذا
يدل على أنه لو شهد مع الثلاثة آخر أنهم لا يحدون وقبلت شهادتهم مع كون
الثلاثة بديا منفردين. قيل له: ليس في ذلك دلالة على ما ذكرت; وذلك لأن
الرجل الذي لم يشهد بما شهد به الآخرون لم ينفرد عنهم بل جاءوا مجتمعين
مجيء الشهادة وجائز أن يكون الجميع شهدوا بالزنا فلما استثبتوا بالرجل
أن يصرح بما صرح به الثلاثة فأمر عمر بأن يوقف الرجل، فإن أتى بالتفسير
على ما أتى به القوم حد المشهود عليهما، وإن هو لم يأت بالتفسير أبطل
شهادته وجعل الثلاثة منفردين فحدهم، ولم يقل عمر إن جاء رابع فشهد معهم
فاقبل شهادتهم فيكون قابلا لشهادة الثلاثة المنفردين مع واحد جاء
بعدهم; وقد جلد أبا بكرة وأصحابه لما نكل زياد عن الشهادة ولم يقل لهم
ائتوا بشاهد آخر يشهد بمثل شهادتكم، وكان ذلك بحضرة الصحابة فلم ينكره
عليه أحد منهم، ولو كان قبول شهادة شاهد واحد منهم لو شهد معهم جائزا
لوقف الأمر واستثبتهم وقال هل يشهد بمثل شهادتكم شاهد آخر؟ وإذ لم يقل
ذلك ولم يوقف أمرهم بما عزم عليه من حدهم دل على أنهم قد صاروا قذفة قد
لزمهم الحد وأنه لم يكن يبرئهم من الحد إلا شهادة أربعة آخرين.
فإن قيل: فهو لم يقل لهم هل معكم أربعة يشهدون بمثل شهادتكم ولم يوقف
أمر الحد عليهم لجواز ذلك، فكذلك في الشاهد الواحد لو شهد بمثل
شهادتهم. قيل له: لأنه لم يكن يخفى عليهم أنهم لو جاءوا بأربعة آخرين
يشهدون لهم بذلك لكانت شهادتهم مقبولة وكان الحد عنهم زائلا، فلو كانوا
قد علموا أن هناك شهودا أربعة يشهدون بذلك لسألوه التوقيف، فلذلك لم
يحتج أن يعلمهم ذلك; وأما الشاهد الواحد لو شهد معهم فإنه جائز أن يخفى
حكمه عليهم في جواز شهادته معهم أو بطلانها، فلو كان ذلك مقبولا لوقفهم
عليه وأعلمهم إياه حتى يأتوا به إن كان.
(3/367)
فيمن يقيم الحد على المملوك
قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد: "يقيمه الإمام دون المولى وذلك في
سائر الحدود"، وهو قول الحسن بن صالح. وقال مالك: "يحده المولى في
الزنا وشرب
(3/367)
الخمر
والقذف إذا شهد عنده الشهود، ولا يقطعه في السرقة وإنما يقطعه الإمام"،
وهو قول الليث بن سعد. وقال الشافعي: "يحده المولى ويقطعه". وقال
الثوري: "يحده المولى في الزنا" رواية الأشجعي، وذكر عنه الفريابي: "أن
المولى إذا حد عبده ثم أعتقه جازت شهادته". وقال الأوزاعي: "يحده
المولى". وروي عن الحسن قال: "ضمن هؤلاء أربعا: الصلاة والصدقة والحدود
والحكم" رواه عنه ابن عون، وروي عنه بدل الصلاة الجمعة. وقال عبد الله
بن محيريز: "الحدود والفيء والجمعة والزكاة إلى السلطان". وقد روى حماد
بن سلمة عن يحيى البكاء عن مسلم بن يسار عن أبي عبد الله رجل من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم وكان ابن عمر يأمرنا أن نأخذ عنه وهو عالم
فخذوا عنه فسمعته يقول: "الزكاة والحدود والفيء والجمعة إلى السلطان";
وقد قيل إن أبا عبد الله هذا يظن أنه أخو أبي بكرة واسمه نافع. فهؤلاء
السلف قد روي عنهم ذلك، ولا نعلم عن أحد من الصحابة خلافه. وقد روي عن
الأعمش أنه ذكر إقامة عبد الله بن مسعود حدا بالشام، وقال الأعمش هم
أمراء حيث كانوا. وجائز أن يكون عبد الله بن مسعود قد كان ولي ذلك لأنه
لم يذكر أن المحدود كان عبده.
فإن قيل: روي عن ابن أبي ليلى أنه قال: أدركت بقايا الأنصار يضربون
الوليدة من ولائدهم إذا زنت في مجالسهم. قيل له: يجوز أن يكونوا فعلوا
ذلك على وجه التعزير لا على وجه إقامة الحد; لأنهم لم يكونوا مأمورين
برفعها إلى الإمام بل كانوا مأمورين بالستر عليها وترك رفعها إلى
الإمام. والدليل على أن إقامة الحد على المملوك إلى الإمام دون المولى
قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا
جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] وقال: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي
فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} وقال في آية
أخرى: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ
نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وقد
علم من قرع سمعه هذا الخطاب من أهل العلم أن المخاطبين بذلك هم الأئمة
دون عامة الناس، فكان تقديره: فليقطع الأئمة والحكام أيديهما وليجلدهما
الأئمة والحكام. ولما ثبت باتفاق الجميع أن المأمورين بإقامة هذه
الحدود على الأحرار هم الأئمة ولم تفرق هذه الآيات بين المحدودين من
الأحرار والعبيد، وجب أن يكون فيهم جميعا وأن يكون الأئمة هم المخاطبون
بإقامة الحدود على الأحرار والعبيد دون الموالي. ويدل على ذلك أيضا أنه
لو جاز للمولى أن يسمع شهادة الشهود على عبده بالسرقة فيقطعه ثم يرجع
الشهود عن شهادتهم أن يكون له تضمين الشهود، ومعلوم أن تضمين الشهود
يتعلق بحكم الحاكم بالشهادة; لأنه لو لم يحكم بشهادتهم لم يضمنوا شيئا،
فكان يصير حاكما لنفسه بإيجاب الضمان عليهم، ومعلوم أن أحدا من الناس
(3/368)
لا يجوز
له أن يحكم لنفسه، فعلمنا أن المولى لا يملك استماع البينة على عبده
بذلك ولا قطعه. وأيضا فإن المولى والأجنبي سواء في حد العبد والأمة،
بدلالة أن إقراره به عليه غير مقبول وأن إقرار العبد على نفسه بذلك
مقبول وإن جحده المولى، فلما كانا في ذلك في حكم الأجنبيين وجب أن يكون
المولى بمنزلة الأجنبي في إقامة الحد عليه، وإنما جاز للحاكم أن يسمع
البينة ويقيم الحد لأن قوله مقبول في ثبوت ما يوجب الحد عنده فلذلك سمع
البينة وحكم بالحد.
فإن قيل: يجوز إقرار الإنسان على نفسه بما يوجب الحد ولا يملك مع ذلك
إقامة الحد على نفسه. قيل له: إذا كان من يجوز إقراره على نفسه ولا
يقيم الحد على نفسه فمن لا يجوز إقراره على عبده أحرى بأن لا يقيم الحد
عليه.
فإن قيل: فلا نجعل قول الحاكم عليه علة جواز إقامة الحد عليه. قيل له:
إن قول الحاكم: "قد ثبت عندي" لا يوجب عليه الحد وليس بإقرار منه،
وإنما هو حكم; وكذلك البينة إذا قامت عنده فإنه يقيم الحد من طريق
الحكم، فمن لا يقبل قوله في الحكم فهو لا يملك سماع البينة ولا إقامة
الحد.
فإن قيل: إن أبا حنيفة وأبا يوسف لا يقبلان قول الحاكم بما يوجب الحد
لأنهما يقولان: "لا يحكم بعلمه في الحدود". قيل له: ليس معنى ذلك أن
قول الحاكم غير مقبول إذا قال: "ثبت ذلك عندي ببينة أو بإقرار" لأن من
قولهما أن ذلك مقبول، وإنما معنى قولهما: "إنه لا يحكم بعلمه في
الحدود" أنه لو شاهد رجلا على زنا أو سرقة أو شرب خمر لم يقم عليه الحد
بعلمه، فأما إذا قال: "قد شهد عندي شهود بذلك" أو قال: "أقر عندي بذلك"
فإن قوله مقبول منه في ذلك ويسع من أمره الحاكم بالرجم والقطع أن يرجم
ويقطع.
واحتج المخالف لنا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم"، وقوله: "إذا زنت أمة أحدكم
فليجلدها وإن عادت فليجلدها وإن عادت فليجلدها ولا يثرب عليها فإن عادت
فليبعها ولو بضفير" وقد روي في بعض ألفاظ هذا الحديث: "فليقم عليها
الحد" قال أبو بكر: لا دلالة في هذه الأخبار على ما ذهبوا إليه، وذلك
لأن قوله: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" هو كقوله تعالى:
{وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:
38] وقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} ومعلوم أن المراد رفعه إلى الإمام لإقامة
الحد، فالمخاطبون بإقامة الحد هم الأئمة وسائر الناس مخاطبون برفعهم
إليهم حتى يقيموا عليهم الحدود; فكذلك
(3/369)
قوله عليه
السلام: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" هو على هذا المعنى. وأما
قوله عليه السلام: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها" فإنه ليس كل جلد حدا;
لأن الجلد قد يكون على وجه التعزير فإذا عزرناها فقد قضينا عهدة الخبر
ولا يجوز أن نجلدها بعد ذلك; ويدل على أنه أراد التعزير قوله: "لا يثرب
عليها" يعني: ولا يعيرها. ومن شأن إقامة الحد أن يكون بحضرة الناس
ليكون أبلغ في الزجر والتنكيل، فلما قال: "ولا يثرب عليها" دل ذلك على
أنه أراد التعزير لا الحد. ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في
الرابعة: "فليبعها ولو بضفير" ولم يأمر بجلدها، ولو كان ذلك حدا لذكره
وأمر به كما أمر به في الأول والثاني والثالث; لأنه لا يجوز تعطيل
الحدود بعد ثبوتها عند من يقيمها، وقد يجوز ترك التعزير على حسب ما يرى
الإمام فيه من المصلحة.
فإن قيل: لو أراد التعزير لوجب أن يكون لو عزرها المولى ثم رفع إلى
الإمام بعد التعزير أن يقيم عليها الحد; لأن التعزير لا يسقط الحد،
فيكون قد اجتمع عليها الحد والتعزير. قيل له: لا ينبغي لمولاها أن
يرفعها إلى الإمام بعد ذلك، بل هو مأمور بالستر عليها لقول النبي صلى
الله عليه وسلم لهزال حين أشار على ماعز بالإقرار بالزنا: "لو سترته
بثوبك كان خيرا لك"، وقال صلى الله عليه وسلم: "من أتى شيئا من هذه
القاذورات فليستتر بستر الله فإن من أبدى لنا صفحته أقمنا عليه كتاب
الله". وأيضا فليس يمتنع اجتماع الحد والتعزير، وقد يجب النفي عندنا مع
الجلد على وجه التعزير. وروي أن النجاشي الشاعر شرب الخمر في رمضان
فضربه علي كرم الله وجهه ثمانين وقال: "هذا لشربك الخمر" ثم جلده عشرين
وقال: "هذا لإفطارك في رمضان" فجمع عليه الحد والتعزير; فلما كان ذلك
جائزا لم يمتنع لو رفعت هذه الأمة بعد تعزير المولى إلى الإمام أن
يحدها حد الزنا.
(3/370)
باب اللعان
قال الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} إلى آخر
القصة. قال أبو بكر: كان حد قاذف الأجنبيات والزوجات الجلد، والدليل
عليه قوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك ابن
سحماء: "ائتني بأربعة يشهدون وإلا فحد في ظهرك" ، وقال الأنصار: أيجلد
هلال بن أمية وتبطل شهادته في المسلمين فثبت بذلك أن حد قاذف الزوجات
كان كحد قاذف الأجنبيات وأنه نسخ عن الأزواج الجلد باللعان; لأن النبي
صلى الله عليه وسلم قال لهلال بن أمية حين نزلت آية اللعان: "ائتني
بصاحبتك فقد أنزل الله فيك وفيها قرآنا" ولاعن بينهما، وروي نحو ذلك في
حديث عبد الله بن مسعود في الرجل الذي قال: أرأيتم لو أن رجلا وجد مع
امرأته رجلا فإن
(3/370)
تكلم
جلدتموه وإن قتل قتلتموه وإن سكت سكت على غيظ فدلت هذه الأخبار على أن
حد قاذف الزوجة كان الجلد وأن الله تعالى نسخه باللعان، ومن أجل ذلك
قال أصحابنا: إن الزوج إذا كان عبدا أو محدودا في قذف فلم يجب اللعان
بينهما أن عليه الحد، كما أنه إذا أكذب نفسه فسقط اللعان من قبله كان
عليه الحد، وقالوا: لو كانت المرأة هي المحدودة في القذف أو كانت أمة
أو ذمية أنه لا حد على الزوج; لأنه قد سقط اللعان من قبلها فكان بمنزلة
تصديقها الزوج بالقذف لما سقط اللعان من جهتها لم يجب على الزوج الحد.
واختلف الفقهاء فيمن يجب بينهما اللعان من الزوجين، فقال أصحابنا جميعا
أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد: "يسقط اللعان بأحد معنيين أيهما وجد
لم يجب معه اللعان، وهو أن يكون الزوجة ممن لا يجب على قاذفها الحد إذا
كان أجنبيا نحو أن تكون الزوجة مملوكة أو ذمية أو قد وطئت وطئا حراما
في غير ملك، والثاني أن يكون أحدهما من غير أهل الشهادة بأن يكون
محدودا في قذف أو كافرا أو عبدا، فأما إذا كان أحدهما أعمى أو فاسقا
فإنه يجب اللعان". وقال ابن شبرمة: "يلاعن المسلم زوجته اليهودية إذا
قذفها". وقال ابن وهب عن مالك: "الأمة المسلمة والحرة والنصرانية
واليهودية تلاعن الحر المسلم، وكذلك العبد يلاعن زوجته اليهودية". وقال
ابن القاسم عن مالك: "ليس بين المسلم والكافر لعان إذا قذفها إلا أن
يقول رأيتها تزني فتلاعن سواء ظهر الحمل أو لم يظهر لأنه يقول أخاف أن
أموت فيلحق نسب ولدها بي، وإنما يلاعن المسلم الكافر في دفع الحمل ولا
يلاعنها فيما سوى ذلك، وكذلك لا يلاعن زوجته الأمة إلا في نفي الحمل"
قال: "والمحدود في القذف يلاعن، وإن كان الزوجان جميعا كافرين فلا لعان
بينهما، والمملوكان المسلمان بينهما لعان إذا أراد أن ينفي الولد".
وقال الثوري والحسن بن صالح: "لا يجب اللعان إذا كان أحد الزوجين
مملوكا أو كافرا ويجب إذا كان محدودا في قذف". وقال الأوزاعي: "لا لعان
بين أهل الكتاب ولا بين المحدود في القذف وامرأته". وقال الليث في
العبد إذا قذف امرأته الحرة وادعى أنه رأى عليها رجلا: "يلاعنها; لأنه
يحد لها إذا كان أجنبيا; فإن كانت أمة أو نصرانية لاعنها في نفي الولد
إذا ظهر بها حمل ولا يلاعنها في الرؤية لأنه لا يحد لها، والمحدود في
القذف يلاعن امرأته". وقال الشافعي: "كل زوج جاز طلاقه ولزمه الفرض
يلاعن إذا كانت ممن يلزمها الفرض".
قال أبو بكر: فأما الوجه الأول من الوجهين اللذين يسقطان اللعان فإنما
وجب ذلك به من قبل أن اللعان في الأزواج أقيم مقام الحد في الأجنبيات،
وقد كان الواجب
(3/371)
على قاذف
الزوجة والأجنبية جميعا الجلد بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ
الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ
فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ثم نسخ ذلك عن الأزواج وأقيم
اللعان مقامه، والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية حين
قذف امرأته بشريك ابن سحماء: "ائتني بأربعة يشهدون وإلا فحد في ظهرك"
وقول الرجل الذي قال: أرأيتم لو أن رجلا وجد مع امرأته رجلا فتكلم
جلدتموه وإن قتل قتلتموه وإن سكت سكت عن غيظ فأنزلت آية اللعان، فقال
النبي صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية: "قد أنزل الله فيك وفي صاحبتك
قرآنا فأتني بها"، فلما كان اللعان في الأزواج قائما مقام الحد في
الأجنبيات لم يجب اللعان على قاذف من لا يجب عليه الحد لو قذفها أجنبي.
وأيضا فقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم اللعان حدا; حدثنا عبد الباقي
بن قانع قال: حدثنا محمد بن أحمد بن نصر الخراساني قال: حدثنا عبد
الرحمن بن موسى قال: حدثنا روح بن دراج عن ابن أبي ليلى عن الحكم عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: لما لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم
بين المرأة وزوجها فرق بينهما وقال: "إن جاءت به أرح القدمين يشبه
فلانا فهو منه" قال: فجاءت به يشبهه، فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "لولا ما مضى من الحد لرجمتها" ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم
أن اللعان حد، ولما كان حدا لم يجز إيجابه على الزوج إذا كانت المرأة
مملوكة; إذ كان حدا مثل حد الجلد، ولما كان حدا لم يجب على قاذف
المملوك.
فإن قيل: لو كان حدا لما وجب على الزوج إذا قذف امرأته الحرة الجلد إذا
أكذب نفسه بعد اللعان; إذ غير جائز أن يجتمع حدان بقذف واحد، وفي إيجاب
حد القذف عليه عند إكذابه نفسه دليل على أن اللعان ليس بحد. قيل له: قد
سماه النبي صلى الله عليه وسلم حدا، وغير جائز استعمال النظر في دفع
الأثر، ومع ذلك فإنما يمتنع اجتماع الحدين عليه إذا كان جلدا فأما إذا
كان أحدهما جلدا والآخر لعانا فإنا لم نجد في الأصول خلافه; وأيضا فإن
اللعان إنما هو حد من طريق الحكم، فمتى أكذب نفسه وجلد الحد خرج اللعان
من أن يكون حدا; إذ كان ما يصير حدا من طريق الحكم فجائز أن يكون تارة
حدا وتارة ليس بحد، فكذلك كل ما تعلق بالشيء من طريق الحكم فجائز أن
يكون تارة على وصف وأخرى على وصف آخر. وإنما قلنا إن من شرط اللعان أن
يكون الزوجان جميعا من أهل الشهادة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا
أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ}
إلى آخر القصة; فلما سمى الله لعانهما شهادة ثم قال في المحدود في
القذف: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} وجب بمضمون الآيتين
انتفاء اللعان عن المحدود في القذف، وإذا ثبت ذلك في المحدود ثبت في
سائر من خرج من أن يكون من أهل الشهادة مثل العبد والكافر ونحوهما، ومن
جهة أخرى أنه إذا ثبت أن
(3/372)
المحدود
في القذف لا يلاعن وجب مثله في سائر من ليس هو من أهل الشهادة; إذ لم
يفرق أحد بينهما لأن كل من لا يوجب اللعان على المحدود لا يوجبه على من
ذكرنا. ووجه آخر من دلالة الآية، وهو قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} فلا يخلو المراد به من أن يكون
الأيمان فحسب من غير اعتبار معنى الشهادة فيه أو أن يكون أيمانا ليعتبر
فيها معنى الشهادة على ما نقوله، فلما قال تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ
لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} علمنا أنه أراد أن يكون الملاعن
من أهل الشهادة; إذ غير جائز أن يكون المراد ولم يكن لهم حالفون إلا
أنفسهم; إذ كل أحد لا يحلف إلا عن نفسه ولا يجوز إحلاف الإنسان عن
غيره، ولو كان المعنى ولم يكن لهم حالفون إلا أنفسهم لاستحال وزالت
فائدته، فثبت أن المراد أن يكون الشاهد في ذلك من أهل الشهادة وإن كان
ذلك يمينا. ويدل على ذلك قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ
شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} فلم يخل المراد من أن يكون الإتيان بلفظ الشهادة
في هذه الأيمان أو الحلف من كل واحد منهما سواء كان بلفظ الشهادة أو
بغيرها بعد أن يكون حلفا، فلما كان قول القائل بجواز قبول اليمين منهما
على أي وجه كانت كان مخالفا للآية وللسنة لأن الله تعالى قال:
{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} كما قال
تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]
وقال: {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: 15]
ولم يجز الاقتصار على الإخبار دون إيراده بلفظ الشهادة، وكذلك فعل
النبي صلى الله عليه وسلم حين لاعن بين الزوجين أمرهما باللعان بلفظ
الشهادة ولم يقتصر على لفظ اليمين دونها، ولما كان ذلك كذلك علمنا أن
شرط هذه الأيمان أن يكون الحالف بها من أهل الشهادة ويلاعنان.
فإن قيل: الفاسق والأعمى ليسا من أهل الشهادة ويلاعنان قيل له: الفاسق
من أهل الشهادة من وجوه: أحدها: أن الفسق الموجب لرد الشهادة قد يكون
طريقه الاجتهاد في الرد والقبول. والثاني: أنه غير محكوم ببطلان
شهادته; إذ الفسق لا يجوز أن يحكم به الحاكم، فلما لم تبطل شهادته من
طريق الحكم لم يخرج من أن يكون من أهل الشهادة. والثالث: أن فسقه في
حال لعانه غير متيقن; إذ جائز أن يكون تائبا فيما بينه وبين الله تعالى
فيكون عدلا مرضيا عند الله، وليس هذه الشهادة يستحق بها على الغير فترد
من أجل ما علم من ظهور فسقه بديا، فلم يمنع فسقه من قبول لعانه وإن كان
من شرطه كونه من أهل الشهادة، وليس كذلك الكفر لأن الكافر لو اعتقد
الإسلام لم يكن مسلما إلا بإظهاره إذا أمكنه ذلك فكان حكم كفره باقيا
مع اعتقاده لغيره ما لم يظهر الإسلام; وأيضا فإن العدالة إنما تعتبر في
الشهادة التي يستحق بها على الغير فلا يحكم بها للتهمة. والفاسق إنما
ردت شهادته في الحقوق للتهمة، واللعان لا تبطله التهمة، فلم يجب اعتبار
(3/373)
الفسق في
سقوطه; وأما الأعمى فإنه من أهل الشهادة كالبصير لا فرق بينهما، إلا أن
شهادته غير مقبولة في الحقوق لأن بينه وبين المشهود عليه حائلا، وليس
شرط شهادة اللعان أن يقول: "رأيتها تزني"; إذ لو قال: "هي زانية ولم أر
ذلك" لاعن، فلما لم يحتج إلى الإخبار عن معاينة المشهود به لم يبطل
لعانه لأجل عماه. وقد روي في معنى مذهب أصحابنا عن النبي صلى الله عليه
وسلم أخبار، منها ما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أحمد بن داود
السراج قال: حدثنا الحكم بن موسى قال: حدثنا عتاب بن إبراهيم عن عثمان
بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "أربع من النساء ليس بينهن وبين أزواجهن ملاعنة: اليهودية
والنصرانية تحت المسلم والحرة تحت المملوك والمملوكة تحت الحر" ،
وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا أحمد بن حمويه بن سيار قال: حدثنا أبو
سيار التستري قال: حدثنا الحسن بن إسماعيل عن مجالد المصيصي قال:
أخبرنا حماد بن خالد عن معاوية بن صالح عن صدقة أبي توبة عن عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع ليس بينهن
ملاعنة: اليهودية والنصرانية تحت المسلم والمملوكة تحت الحر والحرة تحت
المملوك". فإن قيل: اللعان إنما يجب في نفي الولد لئلا يلحق به نسب ليس
منه وذلك موجود في الأمة وفي الحرة قيل له: لما دخل في نكاح الأمة لزمه
حكمه، ومن حكمه أن لا ينتفي منه نسب ولدها كما لزمه حكمه في رق ولده
(3/374)
باب القذف الذي يوجب اللعان
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}
الآية. ولا خلاف بين الفقهاء أن المراد به قذف الأجنبيات المحصنات
بالزنا سواء قال: "زنيت" أو قال: "رأيتك تزنين"، ثم قال تعالى:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} ولا خلاف أيضا أنه قد أريد به
رميها بالزنا. ثم اختلف الفقهاء في صفة القذف الموجب للعان، فقال أبو
حنيفة وأبو يوسف ومحمد وزفر والشافعي: "إذا قال لها يا زانية وجب
اللعان". وقال مالك بن أنس: "لا يلاعن إلا أن يقول رأيتك تزنين أو ينفي
حملا بها أو ولدا منها، والأعمى يلاعن إذا قذف امرأته". وقال الليث:
"لا تكون ملاعنة إلا أن يقول رأيت عليها رجلا أو يقول قد كنت استبرأت
رحمها وليس هذا الحمل مني ويحلف بالله على ما قال" وقال عثمان البتي:
"إذا قال رأيتها تزني لاعنها وإن قذفها وهي بخراسان وإنما تزوجها قبل
ذلك بيوم لم يلاعن ولا كرامة".
قال أبو بكر ظاهر الآية يقتضي إيجاب اللعان بالقذف سواء قال رأيتك
تزنين أو
(3/374)
لم يقل;
لأنه إذا قذفها بالزنا فهو رام لها سواء ادعى معاينة ذلك أو أطلقه ولم
يذكر العيان وأيضا لم يختلفوا أن قاذف الأجنبية لا يختلف حكمه في وجوب
الحد عليه بين أن يدعي المعاينة أو يطلقه، كذلك يجب أن يكون حكم الزوج
في قذفه إياها، إذ كان اللعان متعلقا بالقذف كالجلد ولأن اللعان في قذف
الزوجات أقيم مقام الجلد في قذف الأجنبيات فوجب أن يستويا فيما يتعلقان
به من لفظ القذف. وأيضا فقد قال مالك: "إن الأعمى يلاعن" وهو لا يقول
رأيت، فعلمنا أنه ليس شرط اللعان رميها برؤيا الزنا منها وأيضا قد أوجب
مالك اللعان في نفي الحمل من غير ذكر رؤية، فكذلك نفي غير الحمل يلزمه
أن لا يشرط فيه الرؤية.
(3/375)
باب كيفية اللعان
قال الله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ
بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ
اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} . واختلف أهل العلم
في صفة اللعان إذا لم يكن ولد، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد
والثوري: "يشهد الزوج أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين فيما رماها
به من الزنا والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيما رماها
به من الزنا، وتشهد هي أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماها
به من الزنا والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين فيما رماها
به من الزنا، فإن كان هناك ولد نفاه يشهد أربع شهادات بالله إنه لصادق
فيما رماها به من نفي هذا الولد". وذكر أبو الحسن الكرخي أن الحاكم
يأمر الزوج أن يقول: "أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميتك به من
نفي ولدك هذا" فيقول ذلك أربع مرات، ثم يقول في الخامسة: "لعنة الله
علي إن كنت من الكاذبين فيما رميتك به من نفي ولدك هذا" ثم يأمرها
القاضي فتقول: "أشهد بالله إنك لمن الكاذبين فيما رميتني به من نفي
ولدي هذا" فتقول ذلك أربع مرات، ثم تقول في الخامسة: "وغضب الله علي إن
كنت من الصادقين فيما رميتني به من نفي ولدي هذا". وروى حيان بن بشر عن
أبي يوسف قال: "إذا كان اللعان بولد فرق بينهما فقال قد ألزمته أمه
وأخرجته من نسب الأب". قال أبو الحسن: ولم أجد ذكر نفي الحاكم الولد
بالقول فيما قرأته إلا في رواية حيان بن بشر، قال أبو الحسن: وهو الوجه
عندي. وروى الحسن بن زياد في سياق روايته عن أبي حنيفة قال: "لا يضره
أن يلاعن بينهما وهما قائمان أو جالسان، فيقول الرجل: أشهد بالله إني
لمن الصادقين فيما رميتك به من الزنا، يقبل بوجهه عليها فيواجهها في
ذلك كله وتواجهه أيضا هي". وروي عن زفر مثل ذلك في المواجهة. وقال مالك
فيما ذكره ابن القاسم عنه: "أنه يحلف أربع شهادات بالله
(3/375)
يقول:
أشهد بالله أني رأيتها تزني، والخامسة: لعنة الله علي إن كنت من
الكاذبين; وتقول هي: أشهد بالله ما رآني أزني، فتقول ذلك أربع مرات
والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين". وقال الليث: "يشهد
الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين والخامسة أن لعنة الله عليه
إن كان من الكاذبين، وتشهد المرأة أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين
والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين"، وقال الشافعي: "يقول
أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان، ويشير
إليها إن كانت حاضرة، يقول ذلك أربع مرات، ثم يقعده الإمام يذكره الله
ويقول إني أخاف إن لم تكن صدقت أن تبوء بلعنة الله، فإن رآه يريد أن
يمضي أمره يضع يده على فيه ويقول: إن قولك علي لعنة الله إن كنت من
الكاذبين موجبة إن كنت كاذبا، فإن أبى تركه فيقول: لعنة الله علي إن
كنت من الكاذبين فيما رميت به زوجتي فلانة من الزنا، فإن قذفها بأحد
يسميه بعينه واحدا كان أو اثنين، وقال مع كل شهادة: إني لمن الصادقين
فيما رميتها به من الزنا بفلان وفلان; وإن نفى ولدها قال مع كل شهادة:
أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا وإن هذا الولد
ولد زنا ما هو مني، فإذا قال هذا فقد فرغ من الالتعان".
قال أبو بكر: قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ
بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} يقتضي ظاهره جواز الاقتصار
عليه من شهادات اللعان; إلا أنه لما كان معلوما من دلالة الحال أن
التلاعن واقع على قذفه إياها بالزنا علمنا أن المراد: فشهادة أحدهما
بالله إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا، وكذلك شهادة المرأة
واقعة في نفي ما رماها به، وكذلك اللعن والغضب والصدق والكذب راجع إلى
إخبار الزوج عنها بالزنا، فدل على أن المراد بالآية وقوع الالتعان
والشهادات على ما وقع به رمي الزوج، فاكتفى بدلالة الحال على المراد عن
قوله فيما رميتها به من الزنا واقتصر على قوله: "إني لمن الصادقين"
وهذا نحو قوله تعالى: {وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ
كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35] والمراد: والحافظات فروجهن
والذاكرات الله; ولكنه حذف لدلالة الحال عليه. وفي حديث عبد الله بن
مسعود وابن عباس في قصة المتلاعنين عند النبي صلى الله عليه وسلم: فشهد
الرجل أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين، ولم يذكرا فيما رماها به من
الزنا. وأما قول مالك: "إنه يشهد أربع شهادات بالله أنه رآها تزني"
فمخالف لظاهر لفظ الكتاب والسنة; لأن في الكتاب: {فَشَهَادَةُ
أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ
الصَّادِقِينَ} وكذلك لاعن النبي صلى الله عليه وسلم بين الزوجين. وأما
قول الشافعي: "إنه يذكرها باسمها ونسبها ويشير إليها بعينها" فلا معنى
له; لأن الإشارة تغني عن ذكر الاسم
(3/376)
والنسب،
فذكر الاسم والنسب لغو في هذا الموضع، ألا ترى أن الشهود لو شهدوا على
رجل بحق وهو حاضر كانت شهادتهم أنا نشهد أن لهذا الرجل على هذا الرجل
ألف درهم ولا يحتاجون إلى اسمه ونسبه؟
(3/377)
في نفي الولد
قال أبو حنيفة: "إذا ولدت المرأة فنفى ولدها حين يولد أو بعده بيوم أو
يومين لاعن وانتفى الولد، وإن لم ينفه حين يولد حتى مضت سنة أو سنتان
ثم نفاه لاعن ولزمه الولد"، ولم يوقت أبو حنيفة لذلك وقتا، ووقت أبو
يوسف ومحمد مقدار النفاس أربعين ليلة; وقال أبو يوسف: "إن كان غائبا
فقدم فله أن ينفيه فيما بينه وبين مقدار النفاس منذ قدم ما كان في
الحولين، فإن قدم بعد خروجه من الحولين لم ينتف أبدا". وقال هشام: سألت
محمدا عن أم ولد لرجل جاءت بولد والمولى شاهد فلم يدعه ولم ينكره،
فقال: "إذا مضى أربعون يوما من يوم ولدته فإنه يلزمه وهي بمنزلة
الحرة"، قال: قلت: فإن كان المولى غائبا فقدم وقد أتت له سنون؟ فقال
محمد: "إن كان الابن نسب إليه حتى عرف به فإنه يلزمه" وقال محمد: "وإن
لم ينسب إليه وقال هذا لم أعلم بولادته فإن سكت أربعين يوما من يوم قدم
لزمه الولد". وقال مالك: "إذا رأى الحمل فلم ينفه حين وضعته لم ينتف
بعد ذلك وإن نفاه حرة كانت أو أمة، فإن انتفى منه حين ولدته وقد رآها
حاملا فلم ينتف منه فإنه يجلد الحد لأنها حرة مسلمة فصار قاذفا لها،
وإن كان غائبا عن الحمل وقدم ثم ولدته فله أن ينفيه". وقال الليث فيمن
أقر بحمل امرأته ثم قال بعد ذلك رأيتها تزني: "لاعن في الرؤية ويلزمه
الحمل". وقال الشافعي: "إذا علم الزوج بالولد فأمكنه الحاكم إمكانا
بينا فترك اللعان لم يكن له أن ينفيه كالشفعة"، وقال في القديم: "إن لم
ينفه في يوم أو يومين لم يكن له أن ينفيه".
قال أبو بكر: ليس في كتاب الله عز وجل ذكر نفي الولد، إلا أنه قد ثبت
عن النبي صلى الله عليه وسلم نفي الولد باللعان إذا قذفها بنفي الولد;
حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة
القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر: أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول
الله صلى الله عليه وسلم وانتفى من ولدها، ففرق رسول الله صلى الله
عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالمرأة. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا
أبو داود قال: حدثنا الحسن بن علي قال: حدثنا يزيد بن هارون قال:
أخبرنا عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس قال: جاء هلال بن أمية من
أرضه عشيا، فوجد عند أهله رجلا، وذكر الحديث إلى آخر ذكر اللعان، قال:
ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن لا يدعى ولدها لأب.
قال أبو بكر:
(3/377)
وقد اتفق
الفقهاء على أنه إذا نفى ولدها أنه يلاعن ويلزم الولد أمه وينتفي نسبه
من أبيه، إلا أنهم اختلوا في وقت نفي الولد على ما ذكرنا، وفي خبر ابن
عمر الذي ذكرنا في أن رجلا انتفى من ولدها فلاعن رسول الله صلى الله
عليه وسلم بينهما وألحق الولد بالأم دليل على أن نفي ولد زوجته من قذف
لها لولا ذلك لما لاعن بينهما; إذ كان اللعان لا يجب إلا بالقذف، وأما
توقيت نفي الولد فإن طريقه الاجتهاد وغالب الظن فإذا مضت مدة قد كان
يمكنه فيها نفي الولد وكان منه قبول للتهنئة أو ظهر منه ما يدل على أنه
غير ناف له لم يكن له بعد ذلك أن ينفيه عند أبي حنيفة، وتحديد الوقت
ليس عليه دلالة فلم يثبت، واعتبر ما ذكرنا من ظهور الرضا بالولد ونحوه.
فإن قيل: لما لم يكن سكوته في سائر الحقوق رضا بإسقاطها كان كذلك نفي
الولد. قيل له: قد اتفق الجميع على أن السكوت في ذلك إذا مضت مدة من
الزمان بمنزلة الرضا بالقول، إلا أنهم اختلفوا فيها، وأكثر من وقت فيها
أربعين يوما، وذلك لا دليل عليه، وليس اعتبار هذه المدة بأولى من
اعتبار ما هو أقل منها. وذهب أبو يوسف ومحمد إلى أن الأربعين هي مدة
أكثر النفاس، وحال النفاس هي حال الولادة، فما دامت على حال الولادة
قبل نفيه. وهذا ليس بشيء; لأن نفي الولد لا تعلق له بالنفاس. وأما قول
مالك: "إنه إذا رآها حاملا فلم ينتف منه ثم نفاه بعد الولادة فإنه يجلد
الحد" فإنه قول واه لا وجه له من وجوه: أحدها: أن الحمل غير متيقن
فيعتبر نفيه، والثاني: أنه ليس بآكد ممن ولدت امرأته ولم يعلم بالحمل
فعلم به وسكت زمانا يلزمه الولد، وإن نفاه بعد ذلك لاعن ولم ينتف نسب
الولد منه; إذ لم تكن صحة اللعان متعلقة بنفي الولد ولم يكن منه إكذاب
لنفسه بعد النفي، فكيف يجوز أن يجلد وأيضا قوله تعالى: {وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} الآية، فأوجب اللعان بعموم الآية على سائر
الأزواج فلا يخص منه شيء إلا بدليل، ولم تقم الدلالة فيما اختلفنا فيه
من ذلك على وجوب الحد وسقوط اللعان.
(3/378)
باب الرجل يطلق امرأته طلاقا بائنا ثم يقذفها
قال أصحابنا فيمن طلق امرأته ثلاثا ثم قذفها: "فعليه الحد" وكذلك إن
ولدت ولدا قبل انقضاء عدتها فنفى ولدها فعليه الحد والولد ولده. وقال
ابن وهب عن مالك: "إذا بانت منه ثم أنكر حملها لاعنها إن كان حملها
يشبه أن يكون منه، وإن قذفها بعد الطلاق الثلاث وهي حامل مقر بحملها ثم
زعم أنه رآها تزني قبل أن يقاذفها حد ولم يلاعن، وإن أنكر حملها بعد أن
يطلقها ثلاثا لاعنها". وقال الليث: "إذا أنكر حملها بعد البينونة
(3/378)
لاعن، ولو
قذفها بالزنا بعد أن بانت منه وذكر أنه رأى عليها رجلا قبل فراقه إياها
جلد الحد ولم يلاعن". وقال ابن شبرمة: "إذا ادعت المرأة حملا في عدتها
وأنكر الذي يعتد منه لاعنها، وإن كانت في غير عدة جلد وألحق به الولد".
وقال الشافعي: "وإن كانت امرأة مغلوبة على عقلها فنفى زوجها ولدها
التعن ووقعت الفرقة وانتفى الولد، وإن ماتت المرأة قبل اللعان فطالب
أبوها وأمها زوجها كان عليه أن يلتعن، وإن ماتت ثم قذفها حد ولا لعان
إلا أن ينفي به ولدا أو حملا فيلتعن". وروى قتادة عن جابر بن زيد عن
ابن عباس في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم يقذفها قال:
"يحد". وقال ابن عمر: "يلاعن". وروى الشيباني عن الشعبي قال: "إن طلقها
طلاقا بائنا فادعت حملا فانتفى منه يلاعنها، إنما فر من اللعان". وروى
أشعث عن الحسن مثله ولم يذكر الفرار، وإن لم تكن حاملا جلد. وقال
إبراهيم النخعي وعطاء والزهري: "إذا قذفها بعدما بانت منه جلد الحد"
قال عطاء: "والولد ولده".
قال أبو بكر: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ
ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ
جَلْدَةً} . وكان ذلك حكما عاما في قاذف الزوجات والأجنبيات على ما
بينا فيما سلف، ثم نسخ منه قاذف الزوجات بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} والبائنة ليست بزوجة، فعلى الذي كان زوجها
الحد إذا قذفها بظاهر قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}
ومن أوجب اللعان بعد البينونة وارتفاع الزوجية فقد نسخ من هذه الآية ما
لم يرد توقيف بنسخه، وغير جائز نسخ القرآن إلا بتوقيف يوجب العلم. ومن
جهة أخرى أنه لا مدخل للقياس في إثبات اللعان; إذ كان اللعان حدا على
ما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا سبيل إلى إثبات الحدود من
طريق المقاييس وإنما طريقها التوقيف أو الاتفاق. وأيضا لم يختلفوا أنه
لو قذفها بغير ولد أن عليه الحد ولا لعان، فثبت أنه غير داخل في الآية
ولا مراد،; إذ ليس في الآية نفي الولد وإنما فيها ذكر القذف، ونفي
الولد مأخوذ من السنة ولم ترد السنة بإيجاب اللعان لنفي الولد بعد
البينونة.
فإن قيل: إنما يلاعن بينهما لنفي الولد لأن ذلك حق للزوج ولا ينتفي منه
إلا باللعان قياسا على حال بقاء الزوجية. قيل له: هذا استعمال القياس
في نسخ حكم الآية، وهو قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}
فلا يجوز نسخ الآية بالقياس; وأيضا لو جاز إيجاب اللعان لنفي الولد مع
ارتفاع الزوجية لجاز إيجابه لزوال الحد عن الزوج بعد ارتفاع الزوجية،
فلما كان لو قذفها بغير ولد حد ولم يجب اللعان ليزول الحد لعدم الزوجية
كذلك لا يجب اللعان لنفي الولد مع ارتفاع الزوجية.
فإن قيل: قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ
النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] وقال:
(3/379)
{وَإِذَا
طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [البقرة: 231] فحكم
تعالى بطلاق النساء ولم يمنع ذلك عندك من طلاقها بعد البينونة ما دامت
في العدة، فما أنكرت مثله في اللعان؟ قيل له: هذا سؤال ساقط من وجوه:
أحدها: أن الله تعالى حين حكم بوقوع الطلاق على نساء المطلق لم ينف
بذلك وقوعه على من ليست من نسائه بل ما عدا نسائه، فحكمه موقوف على
الدليل في وقوع طلاقه أو نفيه وقد قامت الدلالة على وقوعه في العدة،
وأما اللعان فإنه مخصوص بالزوجات ولأن من عدا الزوجات فالواجب فيهن
الحد بقوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} فكان موجب هذه
الآية نافيا للعان، ومن أوجبه وأسقط حكم الآية فقد نسخها بغير توقيف
وذلك باطل; ولذلك نفيناه إلا مع بقاء الزوجية. وأيضا فإن الله تعالى من
حيث حكم بطلاق النساء فقد حكم بطلاقهن بعد البينونة بقوله: {فَلا
جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] ثم عطف عليه
قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى
تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فحكم بوقوع الطلاق بعد
الفدية لأن "الفاء" للتعقيب، وليس معك آية ولا سنة في إيجاب اللعان بعد
البينونة. وأيضا فجائز إثبات الطلاق من طريق المقاييس بعد البينونة،
ولا يجوز إثبات اللعان بعد البينونة من طريق القياس; لأنه حد لا مدخل
للقياس في إثباته. وأيضا فإن اللعان يوجب البينونة ولا يصح إثباتها بعد
وقوع البينونة، فلا معنى لإيجاب لعان لا يتعلق به بينونة; إذ كان موضوع
اللعان لقطع الفراش وإيجاب البينونة، فإذا لم يتعلق به ذلك فلا حكم له
فجرى اللعان عندنا في هذا الوجه مجرى الكنايات الموضوعة للبينونة فلا
يقع بها طلاق بعد ارتفاع الزوجية، مثل قوله: أنت خلية وبائن وبتة
ونحوها، فلما لم يجز أن يلحقها حكم هذه الكنايات بعد البينونة وجب أن
يكون ذلك حكم اللعان في انتفاء حكمه بعد وقوع الفرقة وارتفاع الزوجية،
وليس كذلك حكم صريح الطلاق; إذ ليس شرطه ارتفاع البينونة، ألا ترى أن
الطلاق تثبت معه الرجعة في العدة ولو طلق الثانية بعد الأولى في العدة
لم يكن في الثانية تأثير في بينونة ولا تحريم؟ وإنما أوجب نقصان العدد
فلذلك جاز أن يلحقها الطلاق في العدة بعد البينونة لنقصان العدد لا
لإيجاب تحريم ولا لبينونة. وأيضا فليس يجوز أن يكون وقوع الطلاق أصلا
لوجوب اللعان; لأن الصغيرة والمجنونة يلحقهما الطلاق ولا لعان بينهما
وبين أزواجهما.
واختلف أهل العلم فيمن قذف امرأته ثم طلقها ثلاثا، فقال أبو حنيفة وأبو
يوسف وزفر ومحمد: "إذا بانت منه بعد القذف بطلاق أو غيره فلا حد عليه
ولا لعان"، وهو قول الثوري. وقال الأوزاعي والليث والشافعي: "يلاعن".
وقال الحسن بن صالح: "إذا قذفها وهي حامل ثم ولدت ولدا قبل أن يلاعنها
فماتت لزمه الولد وضرب الحد، وإن
(3/380)
لاعن
الزوج ولم يلتعن المرأة حتى تموت ضرب الحد وتوارثا، وإن طلقها وهي حامل
وقد قذفها فوضعت حملها قبل أن يلاعنها لم يلاعن وضرب الحد".
قال أبو بكر: قد بينا امتناع وجوب اللعان بعد البينونة، ثم لا يخلو إذا
لم يجب اللعان من أن لا يجب الحد على ما قال أصحابنا أو أن يجب الحد
على ما قال الحسن بن صالح، وغير جائز إيجاب الحد إن لم يكن من الزوج
إكذاب لنفسه، وإنما سقط اللعان عنه من طريق الحكم وصار بمنزلتها لو
صدقته على القذف لما سقط اللعان من جهة الحكم لا بإكذاب من الزوج لنفسه
لم يجب الحد.
فإن قيل: لو قذفها وهي أجنبية ثم تزوجها لم تنتقل إلى اللعان، كذلك إذا
قذفها وهي زوجته ثم بانت لم يبطل اللعان قيل له: حال النكاح قد يجب
فيها اللعان وقد يجب فيه الحد، ألا ترى أنه لو أكذب نفسه وجب الحد في
حال النكاح وغير حال النكاح لا يجب فيه اللعان بحال؟.
واختلف أهل العلم في الرجل ينفي حمل امرأته، فقال أبو حنيفة: "إذا قال
ليس هذا الحمل مني لم يكن قاذفا لها، فإن ولدت بعد يوم لم يلاعن حتى
ينفيه بعد الولادة"، وهو قول زفر. وقال أبو يوسف ومحمد: "إن جاءت به
بعد هذا القول لأقل من ستة أشهر لاعن". وقد روي عن أبي يوسف: "أنه
يلاعنها قبل الولادة". وقال مالك والشافعي: "يلاعن بالحمل"، وذكر عنه
الربيع: "أنه لا يلاعن حتى تلد". وإنما يوجب أبو حنيفة اللعان بنفي
الحمل لأن الحمل غير متيقن، وجائز أن يكون ريحا أو داء، وإذا كان كذلك
لم يجز أن نجعله قذفا لأن القذف لا يثبت بالاحتمال، ألا ترى أن التعريض
المحتمل للقذف ولغيره لا يجوز إيجاب اللعان ولا الحد به؟ فلما كان
محتملا أن يكون ما نفاه ولدا واحتمل غيره لم يجز أن يوجب اللعان به قبل
الوضع، ثم إذا وضعت لأقل من ستة أشهر تيقنا أنه كان حملا في وقت النفي
لم يجب اللعان أيضا لأنه يوجب أن يكون القذف معلقا على شرط والقذف لا
يجوز أن يعلق على شرط، ألا ترى أنه لو قال: "إذا ولدت فأنت زانية" لم
يكن قاذفا لها بالولادة؟.
واحتج من لاعن بالحمل بما روى الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله:
أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بالحمل; وإنما أصل هذا الحديث ما
رواه عيسى بن يونس وجرير جميعا عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن ابن
مسعود: أن رجلا قال: أرأيتم إن وجد رجل مع امرأته رجلا فإن هو قتله
قتلتموه وإن تكلم جلدتموه وإن سكت سكت على غيظ فأنزلت آية اللعان
فابتلي به، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلاعن امرأته; فلم يذكر
في هذا الحديث الحمل ولا أنه لاعن بالحمل. وروى ابن جريج عن يحيى بن
سعيد عن
(3/381)
القاسم بن
محمد عن ابن عباس: أن رجلا جاء وقال: وجدت مع امرأتي رجلا، ثم لاعن
رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال: "إن جاءت به كذا". وحدثنا
محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا
ابن أبي عدي قال: أنبأنا هشام بن حسان قال: حدثني عكرمة عن ابن عباس أن
هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك ابن
سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة أو حد في ظهرك" وذكر
الحديث إلى قوله: "أبصروها فإن جاءت به كذا فهو لشريك ابن سحماء" ،
وكذلك رواه عباد بن منصور عن عكرمة عن ابن عباس. فذكر في هذه الأخبار
أنه قذفها، وأبو حنيفة يوجب اللعان بالقذف وإن كانت حاملا، وإنما لا
يوجبه إذا نفى الحمل من غير قذف.
فإن قيل: قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا
عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقد ترد الجارية
بعيب الحمل إذا قال النساء هي حبلى; وقال النبي صلى الله عليه وسلم في
دية شبه العمد: "منها أربعون خلفة في بطونها أولادها" قيل له: أما نفقة
الحامل فلا تجب لأجل الحمل وإنما وجبت للعدة، فما لم تنقض عدتها
فنفقتها واجبة، ألا ترى أن غير الحامل نفقتها واجبة؟ وإنما ذكر الحمل
لأن وضعه تنقضي به العدة وتنقطع به النفقة، وأما الرد بالعيب فإنه جائز
كونه مع الشبهة كسائر الحقوق التي لا تسقطها الشبهة والحد لا يجوز
إثباته بالشبهة، فلذلك اختلفا. وكذلك من يوجب في الدية أربعين خلفة في
بطونها أولادها فإنه يوجبها على غالب الظن، ومثله لا يجوز إيجاب الحد
به، وهذا كما يحكم بظاهر وجود الدم أنه حيضة ولا يجوز القطع به حتى يتم
ثلاثة أيام، وكذلك من كان ظاهر أمرها الحبل لا تكون رؤيتها الدم حيضا،
فإن تبين بعد أنها لم تكن حاملا كان ذلك الدم حيضا; وقوله صلى الله
عليه وسلم في قصة هلال بن أمية: "إن جاءت به على صفة كيت وكيت فهو
لشريك ابن سحماء" فإنه فيما أضافه إلى هلال محمول على حقيقة إثبات
النسب منه، وهذا يدل على أنه لم ينف الولد منه بلعانه إياها في حال
حملها، وقوله: "فهو لشريك ابن سحماء" لا يجوز أن يكون مراده إلحاق
النسب به وإنما أراد أنه من مائه في غالب الرأي; لأن الزاني لا يلحق به
النسب لقوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر".
فإن قيل: في حديث عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى
في امرأة هلال بن أمية حين لاعن بينهما أن لا يدعى ولدها لأب. قيل له:
هذا إنما ذكره عباد بن منصور عن عكرمة، وهو ضعيف واه لا يشك أهل العلم
بالحديث أن في حديث عباد بن منصور هذا أشياء ليست من كلام النبي صلى
الله عليه وسلم مدرجة فيه، ولم يذكر ذلك غير عباد بن منصور. ويدل على
أنه غير جائز نفي النسب ولا إثبات القذف بالشبهة حديث أبي هريرة قال:
إن
(3/382)
أعرابيا
جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "إن امرأتي ولدت غلاما أسود
وإني أنكرته، فقال له: "هل لك من إبل"؟ قال: نعم، قال: "ما ألوانها"؟
قال: حمر، قال: "هل فيها من أورق"؟ قال: نعم، قال: "فأنى ترى ذلك
جاءها"؟ قال عرق نزعها، قال: "فلعل هذا عرق نزعه" ، فلم يرخص له رسول
الله صلى الله عليه وسلم نفيه عنه لبعد شبهه منه. ويدل أيضا على أنه لا
يجوز نفي النسب بالشبهة.
(3/383)
فصل
وقال أصحابنا: "إذا نفى نسب ولد زوجته فعليه اللعان". وقال الشافعي:
"لا يجب اللعان حتى يقول إنها جاءت به من الزنا". قال أبو بكر: حدثنا
محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا القعنبي عن مالك عن نافع
عن ابن عمر: أن رجلا لاعن امرأته في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم
وانتفى من ولدها، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وألحق
الولد بالمرأة فأخبر أنه لاعن بينهما لنفيه الولد، فثبت أن نفي ولدها
قذف يوجب اللعان.
(3/383)
أربعة شهدوا على امرأة بالزنا أحدهم زوجها
قال أصحابنا: "شهادتهم جائزة ويقام الحد على المرأة". وقال مالك
والشافعي: "يلاعن الزوج ويحد الثلاثة"، وروي نحو قولهما عن الحسن
والشعبي. وروي عن ابن عباس: "أن الزوج يلاعن ويحد الثلاثة".
قال أبو بكر: قال الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ
مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}
[النساء: 15] ولم يفرق بين كون الزوج فيهم وبين أن يكونوا جميعا
أجنبيين، وقال: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}
فإذا قذف الأجنبي امرأة وجاء بأربعة أحدهم الزوج اقتضى الظاهر جواز
شهادتهم وسقوط الحد عن القاذف وإيجابه عليها. وأيضا لا خلاف أن شهادة
الزوج جائزة على امرأته في سائر الحقوق وفي القصاص وفي سائر الحدود من
السرقة والقذف والشرب، فكذلك يجب أن تكون في الزنا.
فإن قيل: الزوج يجب عليه اللعان إذا قذف امرأته فلا يجوز أن يكون
شاهدا. قيل له: إذا جاء مجيء الشهود مع ثلاثة غيره فليس بقاذف ولا لعان
عليه، وإنما يجب اللعان عليه إذا قذفها ثم لم يأت بأربعة شهداء،
كالأجنبي إذا قذف وجب عليه الحد إلا أن يأتي بأربعة غيره يشهدون
بالزنا، ولو جاء مع ثلاثة فشهدوا بالزنا لم يكن قاذفا وكان شاهدا،
فكذلك الزوج.
(3/383)
في إباء أحد الزوجين اللعان
قال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد: "أيهما نكل عن اللعان حبس حتى
يلاعن". وقال مالك والحسن بن صالح والليث والشافعي: "أيهما نكل حد، إن
نكل الرجل حد للقذف وإن نكلت هي حدت للزنا". وروى معاذ بن معاذ عن أشعث
عن الحسن في الرجل يلاعن وتأبى المرأة قال: "تحبس". وعن مكحول والضحاك
والشعبي: "إذا لاعن وأبت أن تلاعن رجمت".
قال أبو بكر: قال الله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ
مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}
[النساء: 15] وقال: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وقال
النبي صلى الله عليه وسلم لهلال بن أمية حين قذف امرأته بشريك ابن
سحماء: "ائتني بأربعة شهداء وإلا فحد في ظهرك" ورد النبي صلى الله عليه
وسلم ماعزا والغامدية كل واحد منهما حتى أقر أربع مرات بالزنا ثم
رجمهما; فثبت أنه لا يجوز إيجاب الحد عليها بترك اللعان لأنه ليس ببينة
ولا إقرار; وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا
بإحدى ثلاث زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس بغير نفس" ، فنفى
وجوب القتل إلا بما ذكر، والنكول عن اللعان خارج عن ذلك فلا يجب رجمها،
وإذا لم يجب الرجم إذا كانت محصنة لم يجب الجلد في غير المحصن لأن أحدا
لم يفرق بينهما.
فإن قيل: قوله: "امرئ مسلم" إنما يتناول الرجل دون المرأة قيل له: ليس
كذلك; لأنه لا خلاف أن المرأة مرادة بذلك وأن هذا الحكم عام فيهما
جميعا، وأيضا فإن ذلك للجنس كقوله: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ
وَلَدٌ} [النساء: 176] وقوله: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ}
[عبس:34]. وأيضا لا خلاف أن الدم لا يستحق بالنكول في سائر الدعاوى،
وكذلك سائر الحدود، فكان في اللعان أولى أن لا يستحق.
فإن قيل: لما قال تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ} ، وهو يعني حد الزنا، ثم قال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا
الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} فعرفه بالألف
واللام، علمنا أن المراد هو العذاب المذكور في قوله: {وَلْيَشْهَدْ
عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} . قيل له: ليست هذه قصة
واحدة ولا حكما واحدا حتى يلزم فيه ما قلت; لأن أول السورة إنما هي في
بيان حكم الزانيين ثم حكم القاذف، وقد كان ذلك حكما ثابتا في قاذف
الزوجات والأجنبيات جاريا على عمومه إلى أن نسخ عن قاذف الزوجات
باللعان، وليس في ذكره العذاب وهو يريد به حد الزنا في موضع ثم ذكر
العذاب بالألف واللام في غيره ما يوجبه أن العذاب المذكور في لعان
الزوجين هو المذكور في الزانيين; إذ ليس يختص
(3/384)
العذاب
بالحد دون غيره. وقد قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ
عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] ولم يرد به الحد، وقال: {لَأُعَذِّبَنَّهُ
عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21] ولم يرد الحد،
وقال: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً}
[الفرقان: 19] ولم يرد به الحد، وقال عبيد بن الأبرص:
والمرء ما عاش في تكذيب ... طول الحياة له تعذيب
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "السفر قطعة من العذاب". فإذا كان اسم
العذاب لا يختص بنوع من الإيلام دون غيره، ومعلوم أنه لم يرد به جميع
سائر ضروب العذاب عليه، لم يخل اللفظ من أحد معنيين: إما أن يريد به
الجنس فيكون على أدنى ما يسمى عذابا، أي ضرب منه كان، أو مجملا مفتقرا
إلى البيان; إذ غير جائز أن يكون المراد معهودا لأن المعهود هو ما تقدم
ذكره في الخطاب فيرجع الكلام إليه; إذ كان معناه متقررا عند المخاطبين
وأن المراد عوده إليه، فلما لم يكن في ذكر قذف الزوج وإيجاب اللعان ما
يوجب استحقاق الحد على المرأة لم يجز أن يكون هو المراد بالعذاب، وإذا
كان ذلك كذلك وكانت الأيمان قد تكون حقا للمدعي حتى يحبس من أجل النكول
عنها وهي القسامة متى نكلوا عن الأيمان فيها حبسوا، كذلك حبس الناكل عن
اللعان أولى من إيجاب الحد عليه; لأنه ليس في الأصول إيجاب الحد
بالنكول وفيها إيجاب الحبس به. وأيضا فإن النكول ينقسم إلى أحد معنيين:
إما بدل لما استحلف عليه، وإما قائم مقام الإقرار; وبدل الحدود لا يصح
وما قام مقام الغير لا يجوز إيجاب الحد به، كالشهادة على الشهادة وكتاب
القاضي إلى القاضي وشهادة النساء مع الرجال وأيضا فإن النكول لما لم
يكن صريح الإقرار لم يجز إثبات الحد به، كالتعريض وكاللفظ المحتمل
للزنا ولغيره فلا يجب به الحد على المقر ولا على القاذف.
فإن قيل: في حديث ابن عباس وغيره في قصة هلال بن أمية أن النبي صلى
الله عليه وسلم لما لاعن بينهما وعظ المرأة وذكرها وأخبرها أن عذاب
الدنيا أهون من عذاب الآخرة وكذلك الرجل، ومعلوم أنه أراد بعذاب الدنيا
حد الزنا أو القذف قيل له: هذا غلط; لأنه لا يخلو من أن يكون مراده
بعذاب الدنيا الحبس أو الحد إذا أقر، فإن كان المراد الحبس فهو عند
النكول، وإن أراد الحد فهو عند إقرارها بما يوجب الحد وإكذاب الزوج
لنفسه، فلا دلالة له فيه على أن النكول يوجب الحد دون الحبس.
فإن قيل: إنما يجب عليها الحد بالنكول وأيمان الزوج، وكذلك يجب عليه
بنكوله وأيمان المرأة. قيل له: النكول والأيمان لا يجوز أن يستحق به
الحد، ألا ترى أن من ادعى على رجل قذفا أنه لا يستحلف ولا يستحق المدعي
الحد بنكول المدعى عليه
(3/385)
ولا
بيمينه؟ وكذلك سائر الحدود، ولا يستحلف فيها ولا يحكم فيها بالنكول ولا
برد اليمين.
(3/386)
باب تصادق الزوجين أن الولد ليس منه
قال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد والشافعي: "لا ينفى الولد منه إلا
باللعان". وقال أصحابنا: "تصديقها إياه بأن ولدها من الزنا يبطل اللعان
فلا ينتفي النسب منه أبدا" وقال مالك والليث: "إذا تصادق الزوجان على
أنها ولدته وأنه ليس منه لم يلزمه الولد وتحد المرأة" وذكر ابن القاسم
عن مالك قال: "لو شهد أربعة على امرأة أنها زنت منذ أربعة أشهر وهي
حامل وقد غاب زوجها منذ أربعة أشهر فأخرها الإمام حتى وضعت ثم رجمها
فقدم زوجها بعدما رجمت فانتفى من ولده وقال قد كنت استبرأتها فإنه
يلتعن وينتفي به الولد عن نفسه ولا ينفيه ههنا إلا اللعان".
قال أبو بكر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر
الحجر" وظاهره يقتضي أن لا ينتفي أبدا عن صاحب الفراش، غير أنه لما
وردت السنة في إلحاق الولد بالأم وقطع نسبه من الأب باللعان واستعمل
ذلك فقهاء الأمصار سلمنا ذلك، وما عدا ذلك مما لم ترد به سنة فهو لازم
للزوج بظاهر قوله: "الولد للفراش" . وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو
داود قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا مهدي بن ميمون أبو يحيى
قال: حدثنا محمد بن عبد الله بن أبي يعقوب عن الحسن بن سعد مولى الحسن
بن علي بن أبي طالب عن رباح قال: زوجني أهلي أمة لهم رومية، فوقعت
عليها فولدت لي غلاما أسود مثلي فسميته عبد الله ثم طبن لها غلام من
أهلي رومي يقال له يوحنا، فراطنها بلسانه، فولدت غلاما كان وزغة من
الوزغات فقلت لها: ما هذا؟ فقالت: هذا ليوحنه، فرفعنا إلى عثمان، قال:
فسألهما فاعترفا، فقال لهما: أترضيان أن أقضي بينكما بقضاء رسول الله
صلى الله عليه وسلم؟ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الولد
للفراش، فجلدها وجلده وكانا مملوكين.
(3/386)
باب الفرقة باللعان
قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: "لا تقع الفرقة بعد فراغهما من اللعان
حتى يفرق الحاكم". وقال مالك وزفر بن الهذيل والليث: "إذا فرغا من
اللعان وقعت الفرقة وإن لم يفرق بينهما الحاكم". وعن الثوري والأوزاعي:
"لا تقع الفرقة بلعان الزوج وحده". وقال عثمان البتي: "لا أرى ملاعنة
الزوج امرأته تنقص شيئا، وأحب إلي أن
(3/386)
باب نكاح الملاعن للملاعنة
قال أبو حنيفة ومحمد: "إذا أكذب الملاعن نفسه وجلد الحد أو جلد حد
القذف في غير ذلك وصارت المرأة بحال لا يجب بينها وبين زوجها إذا قذفها
لعان، فله أن يتزوجها"; وروي نحو ذلك عن سعيد بن المسيب وإبراهيم
والشعبي وسعيد بن جبير. وقال أبو يوسف والشافعي: "لا يجتمعان أبدا";
وروي عن علي وعمر وابن مسعود مثل ذلك. وهذا محمول عندنا على أنهما لا
يجتمعان ما داما على حال التلاعن. وروي عن سعيد بن جبير: "أن فرقة
اللعان لا تبينها منه، وأنه إذا أكذب نفسه في العدة ردت إليه امرأته";
وهو قول شاذ لم يقل به أحد غيره، وقد مضت السنة ببطلانه حين فرق رسول
الله صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين، والفرقة لا تكون إلا مع
البينونة. ويحتج للقول الأول بعموم الآي المبيحة لعقود المناكحات، نحو
قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وقوله:
{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وقوله:
{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32]. ومن جهة النظر أنا
قد بينا أن هذه الفرقة متعلقة بحكم الحاكم، وكل فرقة تعلقت بحكم الحاكم
فإنها لا توجب تحريما مؤبدا، والدليل على ذلك أن سائر الفرق التي تتعلق
بحكم الحاكم لا يوجب تحريما مؤبدا مثل فرقة العنين وخيار الصغيرين
(3/391)
وفرقة
الإيلاء عند مخالفنا، وكذلك سائر الفرق المتعلقة بحكم الحاكم في الأصول
هذه سبيلها.
فإن قيل: سائر الفرق التي ذكرت لا يمنع التزويج في الحال وإن تعلقت
بحكم الحاكم، وهذه الفرقة تحظر تزويجها في الحال عند الجميع، فكما جاز
أن يفارق سائر الفرق المتعلقة بحكم الحاكم من هذا الوجه جاز أن يخالفها
في إيجابها التحريم مؤبدا. قيل له: من الفرق المتعلقة بحكم الحاكم ما
يمنع التزويج في الحال ولا توجب مع ذلك تحريما مؤبدا، مثل فرقة العنين
إذا لم تكن نفي من طلاقها إلا واحدة قد أوجبت تحريما حاظرا لعقد النكاح
في الحال، ولم توجب. مع ذلك تحريما مؤبدا; وكذلك الزوج الذمي إذا أبى
الإسلام وقد أسلمت امرأته ففرق الحاكم بينهما منع ذلك من نكاحها بعد
الفرقة ولا توجب تحريما مؤبدا، فلم يجب من حيث حظرنا تزويجها بعد
الفرقة أن توجب به تحريما مؤبدا. وأيضا لو كان اللعان يوجب تحريما
مؤبدا لوجب أن يوجبه إذا تلاعنا عند غير الحاكم; لأنا وجدنا سائر
الأسباب الموجبة للتحريم المؤبد فإنها توجبه بوجودها غير مفتقرة فيه
إلى حاكم، مثل عقد النكاح الموجب لتحريم الأم والوطء الموجب للتحريم
والرضاع والنسب، كل هذه الأسباب لما تعلق بها تحريم مؤبد لم تفتقر إلى
كونها عند الحاكم، فلما لم يتعلق تحريم اللعان إلا بحكم الحاكم وهو أن
يتلاعنا بأمره بحضرته ثبت أنه لا يوجب تحريما مؤبدا. وأيضا لو أكذب
نفسه قبل الفرقة بعد اللعان لجلد الحد ولم يفرق بينهما، وأبو يوسف لا
يخالفنا في ذلك لزوال حال التلاعن وبطلان حكمه بالحد الواقع به وجب
مثله بعد الفرقة لزوال المعنى الذي من أجله وجبت الفرقة وهو حكم
اللعان.
فإن قيل: لو كان كذلك لوجب أنه إذا أكذب نفسه بعد الفرقة وجلد الحد أن
يعود النكاح وتبطل الفرقة لزوال المعنى الموجب لها، كما لا يفرق بينهما
إذا أكذب نفسه بعد اللعان قبل الفرقة. قيل له: لا يجب ذلك; لأنا إنما
جعلنا زوال حكم اللعان علة لارتفاع التحريم الذي تعلق به لا لبقاء
النكاح ولا لعود النكاح، فعلى أي وجه بطل لم يعد إلا بعقد مستقبل; إلا
أن الفرقة قد تعلق بها تحريم غير البينونة، وذلك التحريم إنما يرتفع
بارتفاع حكم اللعان، كما أن الطلاق الثلاث توجب البينونة وتوجب أيضا مع
ذلك تحريما لا يزول إلا بزوج ثان يدخل بها، فإذا دخل بها الزوج الثاني
ارتفع التحريم الذي أوجبه الطلاق الثلاث ولم يعد نكاح الزوج الأول إلا
بعد فراق الزوج الثاني وانقضاء العدة وإيقاع عقد مستقبل. ودليل آخر،
وهو أن التحريم الواقع بالفرقة لما كان متعلقا بحكم اللعان وجب أن
يرتفع بزوال حكمه، والدليل على ارتفاع حكم اللعان إذا أكذب نفسه
(3/392)
وجلد الحد
أنه معلوم أن اللعان حد على ما بينا فيما سلف وبمنزلة الجلد في قاذف
الأجنبيات، وممتنع أن يجتمع عليه حدان في قذف واحد، فإيقاع الجلد لذلك
القذف مخرج للعان من أن يكون حدا ومزيل لحكمه في إيجاب التحريم لزوال
السبب الموجب له.
فإن قيل: فهذا الذي ذكرت يبطل حكم اللعان لامتناع اجتماع الحدين عليه
بقذف واحد، فواجب إذا جلد الزوج حدا في قذفه لغيرها أن لا يبطل حكم
اللعان فيما بينهما فلا يتزوج بها قيل له: إذا صار محدودا في قذف فقد
خرج من أن يكون من أهل اللعان، ألا ترى أنه لو قذف امرأة له أخرى لم
يلاعن وكان عليه الحد عندنا؟ فالعلة التي ذكرنا في إكذابه نفسه فيما
لاعن عليه امرأته وإن كانت غير موجودة في هذه فجائز قياسها عليها بمعنى
آخر وهو خروجه من أن يكون من أهل اللعان.
فإن احتجوا بما روى محمد بن إسحاق عن الزهري عن سهل بن سعد في قصة
المتلاعنين، قال الزهري: "فمضت السنة أنهما إذا تلاعنا فرق بينهما ثم
لا يجتمعان أبدا"، وبما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال:
حدثنا أحمد بن عمرو بن السرح قال: حدثنا ابن وهب عن عياض بن عبد الله
الفهري وغيره عن ابن شهاب عن سهل بن سعد في هذه القصة قال: "فطلقها
ثلاث تطليقات عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنفذه رسول الله صلى
الله عليه وسلم" وكان ما صنع عند النبي صلى الله عليه وسلم وقال سهل:
"حضرت هذا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضت السنة بعد في
المتلاعنين أن يفرق بينهما ثم لا يجتمعان أبدا" وبحديث ابن عمر أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا سبيل لك عليها" ، فإنها لو كانت تحل
له بحال لبين كما بين الله تعالى حكم المطلقة ثلاثا في إباحتها بعد زوج
غيره قيل له: أما حديث الزهري الأول فإنه قول الزهري، وقوله: "مضت
السنة" ليس فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سنها ولا أنه حكم بها،
وأما قول سهل بن سعد: "فمضت السنة من بعد في المتلاعنين أنهما لا
يجتمعان أبدا" ليس فيه أيضا أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم مضت بذلك;
والسنة قد تكون من النبي صلى الله عليه وسلم وقد تكون من غيره، فلا حجة
في هذا. وأيضا فإنه قال في المتلاعنين، وهذا يصفه حكم يتعلق به وهو
بقاؤهما على حكم التلاعن وكونهما من أهل اللعان، فمتى زالت الصفة
بخروجهما من أن يكونا من أهل اللعان زال الحكم، كقوله تعالى {مَا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] وقوله {لا يَنَالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ} [البقرة: 124] ونحو ذلك من الأحكام المعلقة بالصفات،
ومتى زالت الصفة زال الحكم.
فإن قيل: قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "المتلاعنان لا
يجتمعان أبدا" قيل له: ما نعلم أحدا روى ذلك بهذا اللفظ، وإنما روي ما
ذكرنا في حديث سهل بن سعد وهو أصل
(3/393)
الحديث.
فإن صح هذا اللفظ فإنما أخذه الراوي من حديث سهل وظن أن هذه العبارة
مبينة عما في حديث سهل، ولو صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفد
نفي النكاح بعد زوال حكم اللعان على النحو الذي بينا، وأما قوله "لا
سبيل لك عليها" فإنه لا يفيد تحريم النكاح وإنما هو إخبار بوقوع الفرقة
لأنه لا يصح إطلاق القول بأنه لا سبيل لأحد على الأجنبيات ولا يفيد ذلك
تحريم العقد.
فإن قيل: قوله "لا سبيل لك عليها" ينفي جواز العقد; إذ كان جوازه يوجب
أن يكون له عليها سبيل. قيل له: ليس كذلك لأنا قد نقول لا سبيل لك على
الأجنبية ولا نريد به أنه لا يجوز له تزويجها فيصير لك عليها سبيل
بالتزويج. وإنما نريد أنه لا يملك بضعها في الحال، فإذا تزوجها فإنما
صار له عليها سبيل برضاها وعقدها، ألا ترى أن قوله: {مَا عَلَى
الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] لم يمنع أن يصير عليهم سبيل
في العقود المقتضية لإثبات الحقوق والسبيل عليه برضاه؟ فكذلك قوله "لا
سبيل لك عليها" إنما أفاد أنه "لا سبيل لك عليها" إلا برضاها.
(3/394)
فصل
قال أبو بكر: واتفق أهل العلم أن الولد قد ينفى من الزوج باللعان، وقد
ذكرنا حديث ابن عمر وابن عباس في إلحاق الولد بالأم وقطع نسبه من الأب
باللعان نصا عن النبي صلى الله عليه وسلم وحكي عن بعض من شذ أنه للزوج
ولا ينتفي نسبه باللعان، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: "الولد
للفراش" والذي قال: "الولد للفراش" هو الذي حكم بقطع النسب من الزوج
باللعان، وليست الأخبار المروية في ذلك بدون ما روي أن الولد للفراش،
فثبت أن معنى قوله: "الولد للفراش" أنه لم ينتف باللعان. وأيضا فلما
بطل ما كان أهل الجاهلية عليه من استلحاق النسب بالزنا، كما حدثنا محمد
بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن صالح قال: حدثنا عنبسة
بن خالد قال: حدثني يونس بن يزيد قال: قال محمد بن مسلم بن شهاب:
أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه
وسلم أخبرته أن النكاح كان في الجاهلية على أربعة أنحاء: فنكاح منها
نكاح الناس اليوم، يخطب الرجل إلى الرجل وليته فيصدقها ثم ينكحها;
ونكاح آخر: كان الرجل يقول لامرأته: "إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان
فاستبضعي منه" ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك
الرجل الذي يستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إن أحب، وإنما
يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح يسمى نكاح الاستبضاع;
ونكاح آخر: يجتمع الرهط دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم
(3/394)
يصيبها،
فإذا حملت ووضعت ومر ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل
منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها، فتقول لهم: "قد عرفتم الذي كان من
أمركم وقد ولدت وهو ابنك يا فلان" فتسمي من أحبت منهم باسمه فيلحق به
ولدها ونكاح رابع: يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمنع من
جاءها، وهن البغايا كن ينصبن رايات على أبوابهن يكن علما، فمن أرادهن
دخل عليهن، فإذا حملت فوضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم
ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاطه ودعا ابنه لا يمتنع من ذلك، فلما بعث
الله النبي محمدا صلى الله عليه وسلم هدم نكاح أهل الجاهلية كله إلا
نكاح أهل الإسلام اليوم. فمعنى قوله عليه السلام: "الولد للفراش" أن
الأنساب قد كانت تلحق بالنطف في الجاهلية بغير فراش، فألحقها النبي صلى
الله عليه وسلم بالفراش; وكذلك ما روي في قصة زمعة حين قال النبي صلى
الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" فلم يلحقه بالزاني،
وقال: هو للفراش، إخبارا منه أنه لا ولد للزاني ورده إلى عبد; إذ كان
ابن أمة أبيه، ثم قال لسودة: "احتجبي منه" إذ كان سببها بالمدعى له;
لأنه في ظاهره من ماء أخي سعد وهذا يدل على أنه لم يقض في نسبه بشيء،
ولو كان قضى بالنسب لما أمرها بالاحتجاب بل كان أمرها بصلته ونهاها عن
الاحتجاب عنه كما نهى عائشة عن الاحتجاب عن عمها من الرضاعة وهو أفلح
أخو أبي القعيس. ويدل على أنه لم يقض في نسبه بشيء ما رواه سفيان
الثوري وجرير عن منصور عن مجاهد عن يوسف بن الزبير عن عبد الله بن
الزبير قال: كانت لزمعة جارية تبطنها وكانت تظن برجل آخر، فمات زمعة
وهي حبلى، فولدت غلاما كان يشبه الرجل الذي يظن بها، فذكرته سودة لرسول
الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أما الميراث له وأما أنت فاحتجبي منه
فإنه ليس لك بأخ" فصرح في هذا الخبر بنفي نسبه من زمعة وأعطاه الميراث
بإقرار عبد أنه أخوه. وقد روي هذا الحديث على غير هذا الوجه، وهو ما
حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا ابن منصور ومسدد بن
مسرهد قالا: حدثنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: اختصم سعد
بن أبي وقاص وعبد بن زمعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ابن أمة
زمعة، فقال سعد: أوصاني أخي عتبة إذا قدمت مكة أن أنظر إلى ابن أمة
زمعة فأقبضه فإنه ابنه، وقال عبد بن زمعة: أخي ابن أمة أبي ولد على
فراش أبي; فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شبها بينا بعتبة فقال:
"الولد للفراش واحتجبي منه يا سودة" زاد مسدد: فقال: "هو أخوك يا عبد"
. قال أبو بكر الصحيح ما رواه سعيد بن منصور، والزيادة التي زادها مسدد
ما نعلم أحدا وافقه عليها، وقد روي في بعض الألفاظ أنه قال: "هو لك يا
عبد" ، ولا يدل ذلك على أنه أثبت النسب; لأنه جائز أن يريد به إثبات
اليد له; إذ كان من يستحق يدا في شيء جاز أن يضاف إليه فيقال هو له،
وقد قال عبد الله بن رواحة لليهود حين خرص عليهم تمر خيبر: "إن شئتم
فلكم وإن
(3/395)
شئتم فلي"
ولم يرد به الملك; ومعلوم أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد
بقوله: "هو لك يا عبد" إثبات الملك. فادعى خصمنا أنه أراد إثبات النسب،
وذلك لا يوجب إضافته إليه في الحقيقة على هذا الوجه; لأن قوله: "هو لك"
إضافة الملك والأخ ليس بملك، فإذ لم يرد به الحقيقة فليس حمله على
إثبات النسب بأولى من حمله على إثبات اليد ويحتمل لو صحت الرواية أنه
قال: "هو أخوك" يريد به أخوة الدين وأنه ليس بعبد لإقراره بأنه حر،
ويحتمل أن يكون أصل الحديث ما ذكر بعض الرواة أنه قال: "هو لك" وظن
الراوي أن معناه أنه أخوه في النسب، فحمله على المعنى عنده في خبر
سفيان وجرير الذي يرويه عبد الله بن الزبير أنه قال: "ليس لك بأخ" وهذا
لا احتمال فيه، فوجب حمل خبر الزهري الذي روينا على الوجوه التي ذكرنا.
قال أبو بكر: وقوله: "الولد للفراش" قد اقتضى معنيين: أحدهما: إثبات
النسب لصاحب الفراش، والثاني: أن من لا فراش له فلا نسب له; لأن قوله:
"الولد" اسم للجنس، وكذلك قوله: "الفراش" للجنس، لدخول الألف واللام
عليه، فلم يبق ولد إلا وهو مراد بهذا الخبر، فكأنه قال: لا ولد إلا
للفراش.
وفيما حكم الله تعالى به من آية اللعان دلالة على أن الزنا والقذف ليسا
بكفر من فاعلهما; لأنهما لو كانا كفرا لوجب أن يكون أحد الزوجين مرتدا;
لأنه إن كان الزوج كاذبا في قذفها فواجب أن يكون كافرا، وإن كان صادقا
فواجب أن تكون المرأة كافرة بزناها، وكان يجب أن تبين منه امرأته قبل
اللعان، فلما حكم الله تعالى فيهما باللعان ولم يحكم ببينونتها منه قبل
اللعان ثبت أن الزنا والقذف ليسا بكفر ودل على بطلان مذهب الخوارج في
قولهم إن ذلك كفر. وتدل الآية أيضا على أن القاذف مستحق للعن من الله
تعالى إذا كان في قذفه كاذبا، وأن الزنا يستحق به الغضب من الله لولا
ذلك لما جاز أن يأمرهما الله بذلك; إذ غير جائز أن يؤمرا بأن يدعوا على
أنفسهما بما لا يستحقانه، ألا ترى أنه لا يجوز أن يدعو على نفسه بأن
يظلمه الله ويعاقبه بما لا يستحقه؟.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ
لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} نزلت في الذين
قذفوا عائشة رضي الله عنها فأخبر الله أن ذلك كذب، والإفك هو الكذب
ونال النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وجماعة من المسلمين غم شديد
وأذى وحزن، فصبروا على ذلك فكان ذلك خيرا لهم، ولم يكن صبرهم واغتمامهم
بذلك شرا لهم بل كان خيرا لهم لما نالوا به من الثواب ولما لحقهم أيضا
من السرور ببيان الله براءة عائشة وطهارتها ولما عرفوا من الحكم في
القاذف.
(3/396)
وقوله
تعالى: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْأِثْمِ} يعني
والله أعلم عقاب ما اكتسب من الإثم على قدر ما اكتسبه.
وقوله تعالى: {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ} ، روي أنه عبد الله بن أبي
ابن السلول وكان منافقا، وكبره هو عظمه وإن عظم ما كان فيه; لأنهم
كانوا يجتمعون عنده وبرأيه وأمره كانوا يشيعون ذلك ويظهرونه، وكان هو
يقصد بذلك أذى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأذى أبي بكر والطعن
عليهما.
قوله تعالى: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ
مُبِينٌ} هو أمر للمؤمنين بأن يظنوا خيرا بمن كان ظاهره العدالة وبراءة
الساحة وأن لا يقضوا عليهم بالظن وذلك لأن الذين قذفوا عائشة لم يخبروا
عن معاينة وإنما قذفوها. تظننا وحسبانا لما رأوها متخلفة عن الجيش قد
ركبت جمل صفوان بن المعطل يقوده. وهذا يدل على أن الواجب لمن كان ظاهره
العدالة أن يظن به خيرا ولا يظن به شرا، وهو يوجب أن يكون أمور
المسلمين في عقودهم وأفعالهم وسائر تصرفهم محمولة على الصحة والجواز
وأنه غير جائز حملها على الفساد وعلى ما لا يجوز فعله بالظن والحسبان;
ولذلك قال أصحابنا فيمن وجد مع امرأة أجنبية رجلا فاعترفا بالتزويج:
إنه لا يجوز تكذيبهما بل يجب تصديقهما; وزعم مالك بن أنس أنه يحدهما إن
لم يقيما بينة على النكاح. ومن ذلك أيضا ما قال أصحابنا فيمن باع درهما
ودينارا بدرهمين ودينارين: إنا نخالف بينهما لأنا قد أمرنا بحسن الظن
بالمؤمنين وحمل أمورهم على ما يجوز فوجب حمله على ما يجوز وهو المخالفة
بينهما، وكذلك إذا باعه سيفا محلى فيه مائة درهم بمائتي درهم أنا نجعل
المائة بالمائة والفضل بالسيف، فنحمل أمرهما على أنهما تعاقدا عقدا
جائزا ولا نحمله على الفساد وما لا يجوز. وهذا يدل أيضا على صحة قول
أبي حنيفة في أن المسلمين عدول ما لم تظهر منهم ريبة; لأنا إذا كنا
مأمورين بحسن الظن بالمسلمين وتكذيب من قذفهم على جهة الظن والتخمين
بما يسقط العدالة فقد أمرنا بموالاتهم والحكم لهم بالعدالة بظاهر
حالهم، وذلك يوجب الروية وقبول الشهادة ما لم تظهر منهم ريبة توجب
التوقف عنها أو ردها; وقال تعالى: {إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ
الْحَقِّ شَيْئاً} [يونس: 36] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم
والظن فإنه أكذب الحديث" .
وقوله: {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ
خَيْراً} فإنه يحتمل معنيين: أحدهما: أن يظن بعضهم ببعض خيرا، كقوله:
{فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور:
61] والمعنى: فليسلم بعضكم على بعض، وكقوله: {وَلا تَقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] يعني: لا يقتل بعضكم بعضا. والثاني: أنه
جعل المؤمنين كلهم كالنفس الواحدة فيما
(3/397)
يجري
عليها من الأمور، فإذا جرى على أحدهم مكروه فكأنه قد جرى على جميعهم،
كما حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن دوست
قال: حدثنا جعفر بن حميد قال: حدثنا الوليد بن أبي ثور قال: حدثنا عبد
الملك بن عمير عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "مثل المسلمين في تواصلهم وتراحمهم والذي جعل الله بينهم كمثل
الجسد إذا وجع بعضه وجع كله بالسهر والحمى" . وحدثنا عبد الباقي قال:
حدثنا عبد الله بن محمد بن ناجية قال: حدثنا محمد بن عبد الملك بن
زنجويه قال: حدثنا عبد الله بن ناصح قال: حدثنا أبو مسلم عبد الله بن
سعيد عن مالك بن مغول عن أبي بردة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "المؤمنون للمؤمنين كالبنيان يشد بعضه بعضا" .
وقوله تعالى: {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ
لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ
الْكَاذِبُونَ} . قد أبانت هذه الآية عن معنيين: أحدهما: أن الحد واجب
على القاذف ما لم يأت بأربعة شهداء، والثاني: أنه لا يقبل في إثبات
الزنا أقل من أربعة شهداء. قوله: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ
فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} قال أبو بكر: قد حوى
ذلك معنيين، أحدهما: أنهم متى لم يقيموا أربعة من الشهداء فهم محكومون
بكذبهم عند الله في إيجاب الحد عليهم، فيكون معناه: فأولئك في حكم الله
هم الكاذبون; فيقتضي ذلك الأمر بالحكم بكذبهم، فإن كان جائزا أن يكونوا
صادقين في المغيب عند الله، وذلك جائز سائغ، كما قد تعبدنا بأن نحكم
لمن ظهر منه عمل الخيرات وتجنب السيئات بالعدالة وإن كان جائزا أن يكون
فاسقا في المغيب عند الله تعالى. والوجه الثاني: أن الآية نزلت في شأن
عائشة رضي الله تعالى عنها وفي قذفتها، فأخبر بقوله: {فَأُولَئِكَ
عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} بمغيب خبرهم وأنه كذب في الحقيقة
لم يرجعوا فيه إلى صحة، فمن جوز صدق هؤلاء فهو راد لخبر الله.
قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ
بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} . قرئ: "تلقونه"
بالتشديد. قال مجاهد: "يرويه بعضهم عن بعض ليشيعه". وعن عائشة:
"تلقونه" من ولق الكذب، وهو الاستمرار عليه; ومنه: ولق فلان في السير
إذا استمر عليه. فذمهم تعالى على الإقدام على القول بما لا علم لهم به،
وذلك قوله: {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ
عِلْمٌ} وهو نحو قوله: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ
السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ
مَسْؤُولاً} [الاسراء:36] فأخبر أن ذلك وإن كان يقينا في ظنهم وحسبانهم
فهو عظيم الإثم عنده ليرتدعوا عن مثله عند علمهم بموقع المأثم فيه، ثم
قال: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ
نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا
(3/398)
بُهْتَانٌ
عَظِيمٌ} تعليما لنا بما نقوله عند سماع مثله فيمن كان ظاهر حاله
العدالة وبراءة الساحة.
قوله تعالى: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} أي: تنزيها لك من
أن نغضبك بسماع مثل هذا القول في تصديق قائله، وهو كذب وبهتان في ظاهر
الحكم.
وقوله تعالى: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً}
; فإنه تعالى يعظنا ويزجرنا بهذه الزواجر وعقاب الدنيا بالحد مع ما
نستحق من عقاب الآخرة لئلا نعود إلى مثل هذا الفعل أبدا {إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ} بالله مصدقين لرسوله.
قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ
فِي الَّذِينَ آمَنُوا} . أبان الله بهذه الآية وجوب حسن الاعتقاد في
المؤمنين ومحبة الخير والصلاح لهم، فأخبر فيها بوعيد من أحب إظهار
الفاحشة والقذف والقول القبيح للمؤمنين وجعل ذلك من الكبائر التي يستحق
عليها العقاب، وذلك يدل على وجوب سلامة القلب للمؤمنين كوجوب كف
الجوارح والقول عما يضر بهم. وروى عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "المؤمن من سلم المسلمون من لسانه ويده والمهاجر من
هجر ما نهى الله عنه" ، وقال: "ليس بمؤمن من لا يأمن جاره بوائقه" .
وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا الحسن بن العباس الرازي قال: حدثنا سهل
بن عثمان قال: حدثنا زياد بن عبد الله عن ليث عن طلحة عن خيثمة عن عبد
الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سره أن يزحزح عن
النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا
رسول الله ويحب أن يأتي إلى الناس ما يحب أن يأتوا إليه". وحدثنا عبد
الباقي قال: حدثنا إبراهيم بن هاشم قال: حدثنا هدبة قال: حدثنا همام
قال: حدثنا قتادة عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا
يؤمن العبد حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير" .
قوله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ
أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} . روي عن ابن عباس وعائشة أنها نزلت
في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ويتيمين كانا في حجره ينفق عليهما،
أحدهما مسطح بن أثاثة، وكانا ممن خاضا في أمر عائشة، فلما نزلت براءتها
حلف أبو بكر أن لا ينفعهما بنفع أبدا، فلما نزلت هذه الآية عاد له
وقال: بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي، والله لا أنزعها عنهما أبدا
وكان مسطح بن خالة أبي بكر مسكينا ومهاجرا من مكة إلى المدينة من
البدريين. وفي هذا دليل على أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها
أنه ينبغي له أن يأتي الذي هو خير; وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير
وليكفر عن يمينه" . ومن الناس من يقول إنه يأتي الذي هو خير وذلك
كفارته، وقد روي أيضاً في
(3/399)
حديث عن
النبي صلى الله عليه وسلم. ويحتج من يقول ذلك بظاهر هذه الآية وأن الله
تعالى أمر أبا بكر بالحنث ولم يوجب عليه كفارة. وليس فيما ذكروا دلالة
على سقوط الكفارة; لأن الله قد بين إيجاب الكفارة في قوله: {وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ}
[المائدة: 89] وقوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا
حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] وذلك عموم فيمن حنث فيما هو خير وفي غيره.
وقال الله تعالى في شأن أيوب حين حلف على امرأته أن يضربها: {وَخُذْ
بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} [صّ: 44] وقد علمنا أن
الحنث كان خيرا من تركه وأمره الله تعالى بضرب لا يبلغ منها، ولو كان
الحنث فيها كفارتها لما أمر بضربها بل كان يحنث بلا كفارة. وأما ما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها
خيرا منها فليأت الذي هو خير وذلك كفارته". فإن معناه تكفير الذنب لا
الكفارة المذكورة في الكتاب وذلك لأنه منهي عن أن يحلف على ترك طاعة
الله، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالحنث والتوبة وأخبر أن ذلك
يكفر ذنبه الذي اقترفه بالحلف.
قوله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ
لِلْخَبِيثَاتِ} . روي عن ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك قالوا:
"الخبيثات من الكلام للخبيثين من الرجال". وروي عن ابن عباس أيضا أنه
قال: "الخبيثات من السيئات للخبيثين من الرجال"، وهو قريب من الأول،
وهو نحو قوله: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ} [الاسراء: 84].
وقيل: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، على نحو قوله:
{الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً
وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ
ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} وأن ذلك منسوخ بما ثبت في موضعه.
(3/400)
باب الاستئذان
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا
بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا
عَلَى أَهْلِهَا} روي عن ابن عباس وابن مسعود وإبراهيم وقتادة قالوا:
"الاستئناس الاستئذان" فيكون معناه: حتى تستأنسوا بالإذن. وروى شعبة عن
أبي بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه كان يقرأ هذا الحرف: {حَتَّى
تَسْتَأْنِسُوا} وقال "غلط الكاتب". وروى القاسم بن نافع عن مجاهد:
{حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} قال: "هو التنحنح والتنخع". وفي نسق التلاوة
ما دل على أنه أراد الاستئذان، وهو قوله: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ
مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ} . والاستئناس قد يكون للحديث كقوله تعالى: {وَلا
مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} [الأحزاب: 53] وكما روي عن عمر في حديثه
الذي ذكر فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم انفرد في مشربة له حين هجر
نساءه، فاستأذنت عليه
(3/400)
فقال
الآذن: قد سمع كلامك، ثم أذن له; فذكر أشياء وفيه قال: فقلت: أستأنس يا
رسول الله؟ قال: "نعم". وإنما أراد به الاستئناس للحديث، وذلك كان بعد
الدخول. والاستئناس المذكور في قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} لا يجوز
أن يكون المراد به الحديث; لأنه لا يصل إلى الحديث إلا بعد الإذن،
وإنما المراد الاستئذان للدخول، وإنما سمي الاستئذان استئناسا لأنهم
إذا استأذنوا أو سلموا أنس أهل البيوت بذلك، ولو دخلوا عليهم بغير إذن
لاستوحشوا وشق عليهم. وأمر مع الاستئذان بالسلام; إذ هو من سنة
المسلمين التي أمروا بها، ولأن السلام أمان منه لهم وهو تحية أهل الجنة
ومجلبة للمودة وناف للحقد والضغينة; حدثنا عبد الباقي بن قانع قال:
حدثنا يوسف بن يعقوب قال: حدثنا محمد بن أبي بكر قال: حدثنا صفوان بن
عيسى قال: حدثنا الحارث بن عبد الرحمن بن أبي رئاب عن سعيد بن أبي سعيد
عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لما خلق الله آدم فنفخ
فيه الروح عطس فقال الحمد لله، فحمد الله بإذن الله، فقال له ربه: رحمك
ربك آدم اذهب إلى هؤلاء الملائكة ملأ منهم جلوس فقل السلام عليكم فقال
سلام عليكم ورحمة الله; ثم رجع إلى ربه فقال: هذه تحيتك وتحية ذريتك
بينهم". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا علي بن إسحاق بن رائطة
قال: حدثنا إبراهيم بن سعيد قال: حدثنا يحيى بن نصر بن حاجب قال: حدثنا
هلال بن حماد عن زاذان عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"حق المسلم على المسلم ست: يسلم عليه إذا لقيه ويجيبه إذا دعاه وينصح
له بالغيب ويشمته إذا عطس ويعوده إذا مرض ويشهد جنازته إذا مات" .
وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا إبراهيم بن إسحاق الحربي قال: حدثنا أبو
غسان النهدي قال: حدثنا زهير قال: حدثنا الأعمش عن أبي هريرة أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قال: "والذي نفسي بيده لا تدخلون الجنة حتى
تؤمنوا، ولا تؤمنون حتى تحابوا، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه
تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" . وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا إسماعيل
بن الفضل قال: حدثنا محمد بن حميد قال: حدثنا محمد بن معلى قال: حدثنا
زياد بن خيثمة عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عمر عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "إن سركم أن يخرج الغل من صدوركم فأفشوا السلام
بينكم" .
(3/401)
في عدد الاستئذان وكيفيته
روى دهيم بن قران عن يحيى بن أبي كثير عن عمرو بن عثمان عن أبي هريرة
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الاستئذان ثلاث: فالأولى
يستنصتون، والثانية يستصلحون، والثالثة يأذنون أو يردون" . وروى يونس
بن عبيد عن الوليد بن مسلم عن جندب قال:
(3/401)
سمعت رسول
الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له
فليرجع" . وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن
عبدة قال أخبرنا سفيان عن يزيد بن خصيفة عن بسر بن سعيد عن أبي سعيد
الخدري قال: كنت جالسا في مجلس من مجالس الأنصار، فجاء أبو موسى فزعا،
فقلنا له: ما أفزعك؟ قال: أمرني عمر أن آتيه فأتيته فاستأذنت ثلاثا فلم
يؤذن لي فرجعت، فقال: ما منعك أن تأتيني؟ قلت: قد جئت فاستأذنت ثلاثا
فلم يؤذن لي وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا استأذن أحدكم
ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع" قال: لتأتين على هذا بالبينة قال: فقال أبو
سعيد: لا يقوم معك إلا أصغر القوم، قال: فقام أبو سعيد معه فشهد له .
وفي بعض الأخبار أن عمر قال لأبي موسى: "إني لم أتهمك ولكن الحديث عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم شديد"، وفي بعضها: "ولكني خشيت أن يتقول
الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم".
قال أبو بكر: إنما لم يقبل عمر خبره حتى استفاض عنده لأن أمر الاستئذان
مما بالناس إليه حاجة عامة، فاستنكر أن تكون سنة الاستئذان ثلاثا مع
عموم الحاجة إليها ثم لا ينقلها إلا الأفراد; وهذا أصل في أن ما بالناس
إليه حاجة عامة لا يقبل فيه إلا خبر الاستفاضة.
وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا هارون بن عبد الله
قال: حدثنا أبو داود الحفري عن سفيان عن الأعمش عن طلحة بن مصرف عن رجل
عن سعد قال وقف رجل على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن فقام
مستقبل الباب، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "هكذا عنك أو هكذا
فإنما جعل الاستئذان من النظر" . وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو
داود قال: حدثنا ابن بشار قال: حدثنا أبو عاصم قال: أخبرنا ابن جريج
قال: أخبرني عمرو بن أبي سفيان أن عمرو بن عبد الله بن صفوان أخبره عن
كلدة: أن صفوان بن أمية بعثه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بلبن
وجداية وضغابيس والنبي صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فدخلت ولم أسلم،
فقال: "ارجع فقل السلام عليكم" وذاك بعدما أسلم صفوان. وحدثنا محمد بن
بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا
أبو الأحوص عن منصور عن ربعي قال: حدثنا رجل من بني عامر استأذن على
النبي صلى الله عليه وسلم وهو في بيت فقال: ألج؟ فقال النبي صلى الله
عليه وسلم لخادمه: "اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان فقل له: قل السلام
عليكم أأدخل فسمعه الرجل فقال: السلام عليكم أأدخل"؟ فأذن له النبي صلى
الله عليه وسلم فدخل" . وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال:
حدثنا مؤمل بن فضل الحراني في آخرين قالوا: حدثنا بقية قال: حدثنا محمد
بن عبد الرحمن عن عبد الله بن بسر قال: كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا أتى باب قوم لا يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه
(3/402)
الأيمن أو
الأيسر فيقول: "السلام عليكم" وذلك أن الدور لم تكن يومئذ عليها ستور.
قال أبو بكر: ظاهر قوله: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ
حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} يقتضي جواز الدخول بعد الاستئذان وإن لم يكن من
صاحب البيت إذن، ولذلك قال مجاهد: "الاستئناس التنحنح والتنخع" فكأنه
إنما أراد أن يعلمهم بدخوله; وهذا الحكم ثابت فيمن جرت عادته بالدخول
بغير إذن، إلا أنه معلوم أنه قد أريد به الإذن في الدخول فحذفه لعلم
المخاطبين بالمراد. وقد حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال:
حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد عن حبيب وهشام عن محمد عن أبي
هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رسول الرجل إلى الرجل إذنه" .
وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا حسين بن معاذ قال:
حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا سعيد عن قتادة عن أبي رافع عن أبي هريرة
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فجاء مع
الرسول فإن ذلك له إذن" . فدل هذا الخبر على معنيين: أحدهما: أن الإذن
محذوف من قوله: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} وهو مراد به، والثاني: أن
الدعاء إذن إذا جاء مع الرسول وأنه لا يحتاج إلى استئذان ثان. وهو يدل
أيضا على أن من قد جرت العادة له بإباحة الدخول أنه غير محتاج إلى
الاستئذان.
فإن قيل: قد روى أبو نعيم عن عمر بن زر عن مجاهد أن أبا هريرة كان
يقول: والله إني كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، إني كنت لأشد
الحجر على بطني من الجوع ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه
فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ما سألته إلا ليشبعني فمر ولم
يفعل، فمر بي عمر ففعلت مثل ذلك فمر ولم يفعل، فمر بي النبي صلى الله
عليه وسلم فتبسم حين رآني وعرف ما في نفسي ثم قال: "يا أبا هر" قلت:
لبيك يا رسول الله قال: "الحق!" ومضى واتبعته، فدخل واستأذنت فأذن لي،
فدخلت فوجدت لبنا في قدح فقال: "من أين هذا؟" قالوا: أهدى لك فلان أو
فلانة، قال: "يا أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله قال: "الحق أهل الصفة
فادعهم لي" قال: وأهل الصفة أضياف أهل الإسلام لا يلوون على أهل ولا
مال، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم لم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية
أرسل إليهم فأصاب منها وأشركهم فيها; فساءني ذلك فقلت: وما هذا اللبن
في أهل الصفة؟ كنت أرجو أن أصيب من هذا شربة أتقوى بها فأبى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فإذا جاءوا فأمرني فكنت أنا أعطيهم، فما عسى أن
يبلغ من هذا اللبن؟ فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا حتى استأذنوا، فأذن لهم،
فأخذوا مجالسهم من البيت فقال: "يا أبا هر" قلت: لبيك يا رسول الله
قال: "خذ فأعطهم!" فأخذت القدح فجعلت أعطي الرجل فيشرب حتى يروى ثم
(3/403)
يرد علي
القدح فأعطيه آخر فيشرب حتى يروى ثم يرد علي القدح حتى انتهيت إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقد روي القوم كلهم، فأخذ القدح فوضعه على يده
ونظر إلي فتبسم وقال: "يا أبا هر!" قلت: لبيك يا رسول الله قال: "بقيت
أنا وأنت" قلت: صدقت يا رسول الله، قال: "فاقعد واشرب!" فشربت، فما زال
يقول اشرب فأشرب حتى قلت: والذي بعثك بالحق ما أجد له مسلكا قال:
"فأرني!" فأعطيته القدح، فحمد الله وشرب الفضل. فقال فقد استأذن أهل
الصفة وقد جاءوا مع الرسول ولم ينكر ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهذا مخالف لحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن "رسول
الرجل إلى الرجل إذنه". قيل له: ليسا مختلفين; لأن قوله إباحة للدخول
مع الرسول وليس فيه كراهية الاستئذان بل هو مخير حينئذ، وإذا لم يكن مع
الرسول وجب حينئذ الاستئذان; والذي يدل على أن الإذن مشروط في قوله:
"حتى تستأنسوا" قوله في نسق التلاوة: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا
أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} فحظر الدخول إلا
بالإذن، فدل على أن الإذن مشروط في إباحة الدخول في الآية الأولى.
وأيضا فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأخبار التي قدمناها:
"إنما جعل الاستئذان من أجل النظر" ، فدل على أنه لا يجوز النظر في دار
أحد إلا بإذنه. وقد روي في ذلك ضروب من التغليظ، وهو ما حدثنا محمد بن
بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن عبيد قال: حدثنا حماد عن
عبيد الله بن أبي بكر عن أنس بن مالك: أن رجلا اطلع من بعض حجر رسول
الله صلى الله عليه وسلم فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص
أو بمشاقص، قال: فكأني أنظر إلى رسول الله يختله ليطعنه. وحدثنا محمد
بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا الربيع بن سليمان المؤذن قال:
حدثنا ابن وهب عن سليمان بن بلال عن كثير عن الوليد عن أبي هريرة أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل البصر فلا إذن" . وحدثنا محمد
بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا
حماد عن سهيل عن أبيه قال: حدثنا أبو هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: "من اطلع في دار قوم بغير إذنهم ففقئوا عينه فقد هدرت
عينه".
قال أبو بكر: والفقهاء على خلاف ظاهره; لأنهم يقولون إنه ضامن إذا فعل
ذلك، وهذا من أحاديث أبي هريرة التي ترد لمخالفتها الأصول، مثل ما روي
أن ولد الزنا شر الثلاثة، وأن ولد الزنا لا يدخل الجنة، ولا وضوء لمن
لم يذكر اسم الله عليه، ومن غسل ميتا فليغتسل ومن حمله فليتوضأ; هذه
كلها أخبار شاذة قد اتفق الفقهاء على خلاف ظواهرها. وزعم الشافعي أن من
اطلع في دار غيره ففقأ عينه كان ضامنا وكان عليه القصاص إن كان عامدا
والأرش إن كان مخطئا، ومعلوم أن الداخل قد اطلع وزاد على الاطلاع
(3/404)
الدخول;
وظاهر الحديث مخالف لما حصل عليه الاتفاق، فإن صح الحديث فمعناه عندنا
فيمن اطلع في دار قوم ناظرا إلى حرمهم ونسائهم فمونع فلم يمتنع فذهبت
عينه في حال الممانعة، فهذا هدر; وكذلك من دخل دار قوم أو أراد دخولها
فمانعوه فذهبت عينه أو شيء من أعضائه فهو هدر، ولا يختلف فيه حكم
الداخل والمطلع فيها من غير دخول. فأما إذا لم يكن إلا النظر ولم تقع
فيه ممانعة ولا نهي ثم جاء إنسان ففقأ عينه فهذا جان يلزمه حكم جنايته
بظاهر قوله تعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ
قِصَاصٌ} [المائدة: 45].
قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا
حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} قد تضمن ذلك معنيين: أحدهما: أنه لا ندخل بيوت
غيرنا إلا بإذنه، والثاني: أنه إذا أذن لنا جاز لنا الدخول، واقتضى ذلك
جواز قبول الإذن ممن أذن صبيا كان أو امرأة أو عبدا أو ذميا; إذ لم
تفرق الآية بين شيء من ذلك; وهذا أصل في قبول أخبار المعاملات من هؤلاء
وأنه لا تعتبر فيها العدالة ولا تستوفى فيها صفات الشهادة، ولذلك قبلوا
أخبار هؤلاء في الهدايا والوكالات ونحوها.
(3/405)
باب في الاستئذان على المحارم
روى شعبة عن أبي إسحاق عن مسلم بن يزيد قال: "سأل رجل حذيفة: أأستأذن
على أختي؟ قال: إن لم تستأذن عليها رأيت ما يسوءك". وروي عن ابن عيينة
عن عمرو عن عطاء قال: "سألت ابن عباس: أأستأذن على أختي؟ قال: نعم، قال
قلت: إنها معي في البيت وأنا أنفق عليها، قال: استأذن عليها". وروى
سفيان عن مخارق عن طارق قال: "قال رجل لابن مسعود أأستأذن على أمي؟
قال: نعم". وروى سفيان عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار أن رجلا سأل
النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أأستأذن على أمي؟ قال: "نعم، أتحب أن
تراها عريانة؟" . وقال عمرو عن عطاء: "سألت ابن عباس: أأستأذن على أختي
وأنا أنفق عليها؟ قال: نعم أتحب أن تراها عريانة؟ إن الله يقول: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ} ". فلم يؤمر هؤلاء بالاستئذان إلا في العورات الثلاث.
ثم قال: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ
فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} ولم
يفرق بين من كان منهم أجنبيا أو ذا رحم محرم، إلا أن أمر ذوي المحارم
أيسر لجواز النظر إلى شعرها وصدرها وساقها ونحوها من الأعضاء.
وقوله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى
لَكُمْ} بعد قوله: {فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ} يدل على
أن للرجل أن ينهى من لا يجوز له دخول داره عن
(3/405)
الوقوف
على باب داره أو القعود عليه، لقوله تعالى: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ
ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} ويمتنع أن يكون المراد
بذلك حظر الدخول إلا بعد الإذن; لأن هذا المعنى قد تقدم ذكره مصرحا به
في الآية، فواجب أن يكون لقوله: {وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا
فَارْجِعُوا} فائدة مجددة، وهو أنه متى أمره بالرجوع عن باب داره فواجب
عليه التنحي عنه لئلا يتأذى به صاحب الدار في دخول حرمه وخروجهم وفيما
ينصرف عليه أموره في داره مما لا يحب أن يطلع عليه غيره.
قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً
غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} . قال محمد ابن الحنفية:
"هي بيوت الخانات التي تكون في الطرق وبيوت الأسواق"، وعن الضحاك مثله.
وقال الحسن وإبراهيم النخعي: "كانوا يأتون حوانيت السوق لا يستأذنون".
وقال مجاهد: "كانت بيوتا يضعون فيها أمتعتهم فأمروا أن يدخلوها بغير
إذن"، وروي عنه أيضا أنه قال: "هي البيوت التي تنزلها السفر". وروي عن
أبي عبيد المحاربي قال: "رأيت عليا أصابته السماء وهو في السوق، فاستظل
بخيمة فارسي فجعل الفارسي يدفعه عن خيمته وعلي يقول: إنما أستظل من
المطر، فجعل الفارسي يدفعه، ثم أخبر الفارسي أنه علي فضرب بصدره". وقال
عكرمة: {بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ} "هي البيوت الخربة لكم فيها
حاجة" وقال ابن جريج عن عطاء: {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} "الخلاء
والبول". وجائز أن يكون المراد جميع ذلك; إذ كان الاستئذان في البيوت
المسكونة لئلا يهجم على ما لا يحب من العورة، ولأن العادة قد جرت في
مثله بإطلاق الدخول، فصار المعتاد المتعارف كالمنطوق به. والدليل على
أن معنى إطلاق ذلك لجريان العادة في الإذن أن أصحابنا لو منعوا الناس
من دخول هذه البيوت كان لهم ذلك ولم يكن لأحد أن يدخلها بغير إذن،
ونظير ذلك فيما جرت العادة بإباحته وقام ذلك مقام الإذن فيه ما يطرحه
الناس من النوى وقمامات البيوت والخرق في الطرق أن لكل أحد أن يأخذ ذلك
وينتفع به. وهو أيضا يدل على صحة اعتبار أصحابنا هذا المعنى في سائر ما
يكون في معناه مما قد جرت العادة به وتعارفوا أنه بمنزلة النطق، كنحو
قولهم فيما يلحقونه برأس المال من طعام الرقيق وكسوتهم وفي حمولة
المتاع أنه يلحقه برأس المال ويبيعه مرابحة، فيقول: قام علي بكذا; وما
لم تجر العادة به لا يلحقه برأس المال، فقامت العادة في ذلك مقام
النطق; وفي نحوه قول محمد فيمن أسلم إلى خياط أو قصار ثوبا ليخيطه أو
يقصره ولم يشرط له أجرا: "إن الأجر قد وجب له إذا كان قد نصب نفسه لذلك
وقامت العادة في مثله مقام النطق في أنه فعله على وجه الإجارة". وقد
روى سفيان عن عبد الله بن دينار قال: "كان ابن عمر يستأذن في حوانيت
السوق، فذكر ذلك لعكرمة
(3/406)
فقال: ومن
يطيق ما كان ابن عمر يطيق؟" وليس في; فعله ذلك دلالة على أنه رأى
دخولها بغير إذن محظورا، ولكنه احتاط لنفسه، وذلك مباح لكل أحد.
(3/407)
باب ما يجب من غض البصر عن المحرمات
قال الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ
وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} . قال أبو بكر: معقول من ظاهره أنه أمر بغض
البصر عما حرم علينا النظر إليه، فحذف ذكر ذلك اكتفاء بعلم المخاطبين
بالمراد; وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم عن سلمة بن أبي
الطفيل عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي إن لك
كنزا في الجنة وإنك ذو وفر منها فلا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى
وليست لك الثانية". وروى الربيع بن صبيح عن الحسن عن أنس قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "ابن آدم لك أول نظرة وإياك والثانية" . وروى
أبو زرعة عن جرير: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة
الفجاءة فأمرني أن أصرف بصري. قال أبو بكر: إنما أراد صلى الله عليه
وسلم بقوله: "لك النظرة الأولى" إذا لم تكن عن قصد، فأما إذا كانت عن
قصد فهي والثانية سواء، وهو على ما سأل عنه جرير من نظرة الفجاءة، وهو
مثل قوله: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ
كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الاسراء: 36].
وقوله: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} هو
على معنى ما نهي الرجل عنه من النظر إلى ما حرم عليه النظر إليه.
وقوله تعالى: {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} وقوله: {وَيَحْفَظْنَ
فُرُوجَهُنَّ} فإنه روي عن أبي العالية أنه قال: كل آية في القرآن:
"يحفظوا فروجهم ويحفظن فروجهن" من الزنا، إلا التي في النور:
{وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} أن لا ينظر
إليها أحد. قال أبو بكر: هذا تخصيص بلا دلالة، والذي يقتضيه الظاهر أن
يكون المعنى حفظها عن سائر ما حرم عليه من الزنا واللمس والنظر، وكذلك
سائر الآي المذكورة في غير هذا الموضع في حفظ الفروج هي على جميع ذلك
ما لم تقم الدلالة على أن المراد بعض ذلك دون بعض; وعسى أن يكون أبو
العالية ذهب في إيجاب التخصيص في النظر لما تقدم من الأمر بغض البصر،
وما ذكره لا يوجب ذلك; لأنه لا يمتنع أن يكون مأمورا بغض البصر وحفظ
الفرج من النظر ومن الزنا وغيره من الأمور المحظورة; وعلى أنه إن كان
المراد حظر النظر فلا محالة أن اللمس والوطء مرادان بالآية; إذ هما
أغلظ من النظر، فلو نص الله على النظر لكان في مفهوم الخطاب ما يوجب
حظر الوطء واللمس كما أن قوله: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا
تَنْهَرْهُمَا} [الاسراء: 23] قد اقتضى حظر ما فوق ذلك من السب والضرب.
(3/407)
قوله
تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} . روي
عن ابن عباس ومجاهد وعطاء في قوله: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} قال:
"ما كان في الوجه والكف، الخضاب والكحل" وعن ابن عمر مثله، وكذلك عن
أنس. وروي عن ابن عباس أيضا: "أنها الكف والوجه والخاتم" وقالت عائشة:
"الزينة الظاهرة: القلب والفتخة" وقال أبو عبيدة: "الفتخة، الخاتم".
وقال الحسن: "وجهها وما ظهر من ثيابها". وقال سعيد بن المسيب: "وجهها
مما ظهر منها". وروى أبو الأحوص عن عبد الله قال: "الزينة زينتان: زينة
باطنة لا يراها إلا الزوج الإكليل والسوار والخاتم، وأما الظاهرة
فالثياب" وقال إبراهيم: "الزينة الظاهرة الثياب".
قال أبو بكر: قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا
ظَهَرَ مِنْهَا} إنما أراد به الأجنبيين دون الزوج وذوي المحارم; لأنه
قد بين في نسق التلاوة حكم ذوي المحارم في ذلك. وقال أصحابنا: المراد
الوجه والكفان; لأن الكحل زينة الوجه والخضاب والخاتم زينة الكف، فإذ
قد أباح النظر إلى زينة الوجه والكف فقد اقتضى ذلك لا محالة إباحة
النظر إلى الوجه والكفين. ويدل على أن الوجه والكفين من المرأة ليسا
بعورة أيضا أنها تصلي مكشوفة الوجه واليدين، فلو كانا عورة لكان عليها
سترهما كما عليها ستر ما هو عورة; وإذا كان كذلك جاز للأجنبي أن ينظر
من المرأة إلى وجهها ويديها بغير شهوة، فإن كان يشتهيها إذا نظر إليها
جاز أن ينظر لعذر مثل أن يريد تزويجها أو الشهادة عليها أو حاكم يريد
أن يسمع إقرارها. ويدل على أنه لا يجوز له النظر إلى الوجه لشهوة قوله
صلى الله عليه وسلم لعلي: "لا تتبع النظرة النظرة فإن لك الأولى وليس
لك الآخرة" ، وسأل جرير رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجاءة
فقال: "اصرف بصرك" ولم يفرق بين الوجه وغيره، فدل على أنه أراد النظرة
بشهوة; وإنما قال: "لك الأولى "; لأنها ضرورة: "وليس لك الآخرة" ;
لأنها اختيار. وإنما أباحوا النظر إلى الوجه والكفين وإن خاف أن يشتهي
لما ذكرنا من الأعذار للآثار الواردة في ذلك، منها: ما روى أبو هريرة
أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة من الأنصار، فقال له رسول الله صلى الله
عليه وسلم: "انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئاً" يعني الصغر.
وروى جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب أحدكم فقدر على أن
يرى منها ما يعجبه ويدعوه إليها فليفعل" . وروى موسى بن عبد الله بن
يزيد عن أبي حميد وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إذا خطب أحدكم المرأة فلا جناح عليه أن ينظر
إليها إذا كان إنما ينظر إليها للخطبة" . وروى سليمان بن أبي حثمة عن
محمد بن سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وروى عاصم الأحول عن
بكير بن عبد الله عن المغيرة بن شعبة قال: خطبنا امرأة فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: " نظرت إليها؟" فقلت: لا، فقال: "انظر فإنه لأجدر أن
يؤدم بينكما" . فهذا
(3/408)
كله يدل
على جواز النظر إلى وجهها وكفها بشهوة إذا أراد أن يتزوجها، ويدل عليه
أيضا قوله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ
تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ}
[الأحزاب: 52] ولا يعجبه حسنهن إلا بعد رؤية وجوههن. ويدل على أن النظر
إلى وجهها بشهوة محظور قوله صلى الله عليه وسلم: "العينان تزنيان
واليدان تزنيان والرجلان تزنيان ويصدق ذلك كله الفرج أو يكذبه". وقول
ابن مسعود في أن ما ظهر منها هو الثياب لا معنى له; لأنه معلوم أنه ذكر
الزينة والمراد العضو الذي عليه الزينة، ألا ترى أن سائر ما تتزين به
من الحلي والقلب والخلخال والقلادة يجوز أن تظهرها للرجال إذا لم تكن
هي لابستها؟ فعلمنا أن المراد موضع الزينة كما قال في نسق التلاوة بعد
هذا: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} والمراد
موضع الزينة، فتأويلها على الثياب لا معنى له; إذ كان ما يرى الثياب
عليها دون شيء من بدنها كما يراها إذا لم تكن لابستها.
قوله تعالى: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} . روت
صفية بنت شيبة عن عائشة أنها قالت: "نعم النساء نساء الأنصار، لم يكن
يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين وأن يسألن عنه; لما نزلت سورة النور
عمدن إلى حجوز مناطقهن فشققنه فاختمرن به". قال أبو بكر: قد قيل: إنه
أراد جيب الدروع; لأن النساء كن يلبسن الدروع ولها جيب مثل جيب الدراعة
فتكون المرأة مكشوفة الصدر والنحر إذا لبستها، فأمرهن الله بستر ذلك
الموضع بقوله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} وفي
ذلك دليل على أن صدر المرأة ونحرها عورة لا يجوز للأجنبي النظر إليها
منها.
قوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ}
الآية. قال أبو بكر: ظاهره يقتضي إباحة إبداء الزينة للزوج ولمن ذكر
معه من الآباء وغيرهم، ومعلوم أن المراد موضع الزينة وهو الوجه واليد
والذراع; لأن فيها السوار والقلب، والعضد وهو موضع الدملج، والنحر
والصدر موضع القلادة، والساق موضع الخلخال، فاقتضى ذلك إباحة النظر
للمذكورين في الآية إلى هذه المواضع وهي مواضع الزينة الباطنة; لأنه خص
في أول الآية إباحة الزينة الظاهرة للأجنبيين وأباح للزوج وذوي المحارم
النظر إلى الزينة الباطنة. وروي عن ابن مسعود والزبير: "القرط والقلادة
والسوار والخلخال". وروى سفيان عن منصور عن إبراهيم {أَوْ آبَناءِ
بُعُولَتِهِنَّ} قال: "ينظر إلى ما فوق الذراع من الأذن والرأس". قال
أبو بكر لا معنى لتخصيص الأذن والرأس بذلك; إذ لم يخصص الله شيئا من
مواضع الزينة دون شيء، وقد سوى في ذلك بين الزوج وبين من ذكر معه،
فاقتضى عمومه إباحة النظر إلى مواضع الزينة لهؤلاء المذكورين كما اقتضى
إباحتها للزوج. ولما ذكر الله تعالى مع الآباء ذوي المحارم الذين يحرم
عليهم نكاحهن تحريما مؤبدا دل ذلك
(3/409)
على أن من
كان في التحريم بمثابتهم فحكمه حكمهم، مثل زوج الابنة وأم المرأة
والمحرمات من الرضاع ونحوهن. وروي عن سعيد بن جبير أنه سئل عن الرجل
ينظر إلى شعر أجنبية، فكرهه وقال: ليس في الآية. قال أبو بكر: إنه وإن
لم يكن في الآية فهو في معنى ما ذكر فيها من الوجه الذي ذكرنا، وهذا
الذي ذكر من تحريم النظر في هذه الآية إلا ما خص منه إنما هو مقصور على
الحرائر دون الإماء وذلك لأن الإماء لسائر الأجنبيين بمنزلة الحرائر
لذوي محارمهن فيما يحل النظر إليه، فيجوز للأجنبي النظر إلى شعر الأمة
وذراعها وساقها وصدرها وثديها كما يجوز لذوي المحرم النظر إلى ذات
محرمه; لأنه لا خلاف أن للأجنبي النظر إلى شعر الأمة. وروي أن عمر كان
يضرب الإماء ويقول: "اكشفن رءوسكن ولا تتشبهن بالحرائر" فدل على أنهن
بمنزلة ذوات المحارم. ولا خلاف أيضا أنه يجوز للأمة أن تسافر بغير محرم
فكان سائر الناس لها كذوي المحارم للحرائر حين جاز لهم السفر بهن، ألا
ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم
الآخر أن تسافر سفراً فوق ثلاث إلا مع ذي محرم أو زوج" فلما جاز للأمة
أن تسافر بغير محرم علمنا أنها بمنزلة الحرة لذوي محرمها فيما يستباح
النظر إليه منها. وقوله: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن
تسافر سفراً فوق ثلاث إلا مع ذي محرم أو زوج" دال على اختصاص ذي المحرم
باستباحة النظر منها إلى كل ما لا يحل للأجنبي، وهو ما وصفنا بديا وروى
منذر الثوري أن محمد بن الحنفية كان يمشط أمه، وروى أبو البختري أن
الحسن والحسين كانا يدخلان على أختهما أم كلثوم وهي تمتشط، وعن ابن
الزبير مثله في ذات محرم منه. وروي عن إبراهيم: أنه لا بأس أن ينظر
الرجل إلى شعر أمه وأخته وخالته وعمته، وكره الساقين. قال أبو بكر: لا
فرق بينهما في مقتضى الآية. وروى هشام عن الحسن في المرأة تضع خمارها
عند أخيها قال: "والله ما لها ذلك". وروى سفيان عن ليث عن طاوس: أنه
كره أن ينظر إلى شعر ابنته وأخته وروى جرير عن مغيرة عن الشعبي: أنه
كره أن يسدد الرجل النظر إلى شعر ابنته وأخته. قال أبو بكر: وهذا عندنا
محمول على الحال التي يخاف فيها أن تشتهى; لأنه لو حمل على الحال التي
يأمن فيها الشهوة لكان خلاف الآية والسنة ولكان ذو محرمها والأجنبيون
سواء. والآية أيضا مخصوصة في نظر الرجال دون النساء; لأن المرأة يجوز
لها أن تنظر من المرأة إلى ما يجز للرجل أن ينظر من الرجل وهو السرة
فما فوقها وما تحت الركبة، والمحظور عليهن من بعضهن لبعض ما تحت السرة
إلى الركبة.
وقوله تعالى: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} . روي أنه أراد نساء المؤمنات.
وقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} تأوله ابن عباس وأم سلمة
وعائشة أن للعبد أن
(3/410)
ينظر إلى
شعر مولاته، قالت عائشة: وإلى شعر غير مولاته; روي أنها كانت تمتشط
والعبد ينظر إليها. وقال ابن مسعود ومجاهد والحسن وابن سيرين وابن
المسيب: "إن العبد لا ينظر إلى شعر مولاته"، وهو مذهب أصحابنا، إلا أن
يكون ذا محرم، وتأولوا قوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} على
الإماء; لأن العبد والحر في التحريم سواء، فهي وإن لم يجز لها أن
تتزوجه وهو عبدها فإن ذلك تحريم عارض كمن تحته امرأة أختها محرمة عليه
ولا يبيح له ذلك النظر إلى شعر أختها، وكمن عنده أربع نسوة سائر النساء
محرمات عليه في الحال ولا يجوز له أن يستبيح النظر إلى شعورهن; فلما لم
يكن تحريمها على عبدها في الحال تحريما مؤبدا كان العبد بمنزلة سائر
الأجنبيين وأيضا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لامرأة تؤمن
بالله واليوم الآخر أن تسافر سفرا فوق ثلاث إلا مع ذي محرم" والعبد ليس
بذي محرم منها فلا يجوز أن يسافر بها، وإذا لم يجز له السفر بها لم يجز
له النظر إلى شعرها كالحر الأجنبي.
فإن قيل: هذا يؤدي إلى إبطال فائدة ذكر ملك اليمين في هذا الموضع قيل
له: ليس كذلك; لأنه قد ذكر النساء في الآية بقوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ}
وأراد بهن الحرائر المسلمات، فجاز أن يظن ظان أن الإماء لا يجوز لهن
النظر إلى شعر مولاتهن وإلى ما يجوز للحرة النظر إليه منها، فأبان
تعالى أن الأمة والحرة في ذلك سواء، وإنما خص نساءهن بالذكر في هذا
الموضع; لأن جميع من ذكر قبلهن هم الرجال بقوله: {وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} إلى آخر ما ذكر، فكان جائزا أن
يظن ظان أن الرجال مخصوصون بذلك إذا كانوا ذوي محارم، فأبان تعالى
إباحة النظر إلى هذه المواضع من نسائهن سواء كن ذوات محارم أو غير ذوات
محارم، ثم عطف على ذلك الإماء بقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُنَّ} لئلا يظن ظان أن الإباحة مقصورة على الحرائر من
النساء; إذ كان ظاهر قوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} يقتضي الحرائر دون
الإماء، كما كان قوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} على
الحرائر دون المماليك، وقوله: {شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:
282] الأحرار لإضافتهم إلينا; كذلك قوله: {أَوْ نِسَائِهِنَّ} على
الحرائر، ثم عطف عليهن الإماء فأباح لهن مثل ما أباح في الحرائر.
وقوله تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ
الرِّجَالِ} . روي عن ابن عباس وقتادة ومجاهد قالوا: "الذي يتبعك ليصيب
من طعامك ولا حاجة له في النساء". وقال عكرمة: "هو العنين". وقال مجاهد
وطاوس وعطاء والحسن: "هو الأبله". وقال بعضهم: "هو الأحمق الذي لا أرب
له في النساء". وروى الزهري عن عروة عن عائشة قالت: كان يدخل على أزواج
النبي صلى الله عليه وسلم مخنث فكانوا يعدونه من غير أولي الإربة،
(3/411)
قالت:
فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو ينعت امرأة فقال: "لا
أرى هذا يعلم ما ههنا، لا يدخلن عليكن"، فحجبوه. وروى هشام بن عروة عن
أبيه عن زينب بنت أم سلمة: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها
وعندها مخنث، فأقبل على أخي أم سلمة فقال: "يا عبد الله لو فتح الله
لكم غدا الطائف دللتك على بنت غيلان فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان"،
فقال: "لا أرى هذا يعرف ما ههنا لا يدخل عليكم". فأباح النبي دخول
المخنث عليهن حين ظن أنه من غير أولي الإربة، فلما علم أنه يعرف أحوال
النساء وأوصافهن علم أنه من أولي الإربة فحجبه.
وقوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى
عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} قال "مجاهد هم الذين لا يدرون ما هن من الصغر".
وقال قتادة: "الذين لم يبلغوا الحلم منكم". قال أبو بكر: قول مجاهد
أظهر; لأن معنى أنهم لم يظهروا على عورات النساء أنهم لا يميزون بين
عورات النساء والرجال لصغرهم وقلة معرفتهم بذلك، وقد أمر الله تعالى
الطفل الذي قد عرف عورات النساء بالاستئذان في الأوقات الثلاثة بقوله:
{لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ
لَمٌ يَبٌلٌغوَا الحُلَم مِنٌكُمَ} وأراد به الذي عرف ذلك واطلع على
عورات النساء، والذي لا يؤمر بالاستئذان أصغر من ذلك. وقد روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مروهم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر
وفرقوا بينهم في المضاجع" ، فلم يأمر بالتفرقة قبل العشر وأمر بها في
العشر; لأنه قد عرف ذلك في الأكثر الأعم ولا يعرفه قبل ذلك في الأغلب.
وقوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا
يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} روى أبو الأحوص عن عبد الله قال: "هو
الخلخال"، وكذلك قال مجاهد: "إنما نهيت أن تضرب برجليها ليسمع صوت
الخلخال" وذلك قوله: {لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} .
قال أبو بكر: قد عقل من معنى اللفظ النهي عن إبداء الزينة وإظهارها
لورود النص في النهي عن إسماع صوتها; إذ كان إظهار الزينة أولى بالنهي
مما يعلم به الزينة، فإذا لم يجز بأخفى الوجهين لم يجز بأظهرهما; وهذا
يدل على صحة القول بالقياس على المعاني التي قد علق الأحكام بها، وقد
تكون تلك المعاني تارة جلية بدلالة فحوى الخطاب عليها وتارة خفية يحتاج
إلى الاستدلال عليها بأصول أخر سواها. وفيه دلالة على أن المرأة منهية
عن رفع صوتها بالكلام بحيث يسمع ذلك الأجانب; إذ كان صوتها أقرب إلى
الفتنة من صوت خلخالها; ولذلك كره أصحابنا أذان النساء; لأنه يحتاج فيه
إلى رفع الصوت والمرأة منهية عن ذلك، وهو يدل أيضا على حظر النظر إلى
وجهها للشهوة; إذ كان ذلك أقرب إلى الريبة وأولى بالفتنة.
(3/412)
باب الترغيب في النكاح
قال الله عز وجل: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ
مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} الآية. قال أبو بكر: ظاهره يقتضي
الإيجاب، إلا أنه قد قامت الدلالة من إجماع السلف وفقهاء الأمصار على
أنه لم يرد بها الإيجاب وإنما هو استحباب، ولو كان ذلك واجبا لورود
النقل بفعله من النبي صلى الله عليه وسلم ومن السلف مستفيضا شائعا
لعموم الحاجة إليه، فلما وجدنا عصر النبي صلى الله عليه وسلم وسائر
الأعصار بعده قد كان الناس أيامى من الرجال والنساء فلم ينكر واترك
تزويجهم ثبت أنه لم يرد الإيجاب. ويدل على أنه لم يرد الإيجاب أن الأيم
الثيب لو أبت التزويج لم يكن للولي إجبارها عليه ولا تزويجها بغير
أمرها. وأيضا مما يدل على أنه على الندب اتفاق الجميع على أنه لا يجبر
على تزويج عبده وأمته، وهو معطوف على الأيامى، فدل على أنه مندوب في
الجميع; ولكن دلالة الآية واضحة في وقوع العقد الموقوف; إذ لم يخصص
بذلك الأولياء دون غيرهم وكل أحد من الناس مندوب إلى تزويج الأيامى
المحتاجين إلى النكاح، فإن تقدم من المعقود عليهم أمر فهو نافذ، وكذلك
إن كانوا ممن يجوز عقدهم عليهم مثل المجنون والصغير فهو نافذ أيضا وإن
لم يكن لهم ولاية ولا أمر فعقدهم موقوف على إجازة من يملك ذلك العقد
فقد اقتضت الآية جواز النكاح على إجازة من يملكها.
فإن قيل: هذا يدل على أن عقد النكاح إنما يليه الأولياء دون النساء وأن
عقودهن على أنفسهن غير جائزة. قيل له: ليس كذلك; لأن الآية لم تخص
الأولياء بهذا الأمر دون غيرهم، وعمومه يقتضي ترغيب سائر الناس في
العقد على الأيامى، ألا ترى أن اسم الأيامى ينتظم الرجال والنساء؟ وهو
في الرجال لم يرد به الأولياء دون غيرهم، كذلك في النساء.
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار كثيرة في الترغيب في
النكاح، منها ما رواه ابن عجلان عن المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل
الله والمكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف" . وروى
إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: قال لنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع
فعليه بالصوم فإنه له وجاء" . وقال: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه
فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" . وعن شداد بن أوس
أنه قال لأهله: زوجوني فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوصاني أن لا ألقى
الله أعزب. وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا بشر بن موسى قال: حدثنا خلاد
عن سفيان عن عبد الرحمن بن
(3/413)
زياد عن
عبد الله بن يزيد عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة" . وحدثنا عبد الباقي قال:
حدثنا بشر قال: حدثنا سعيد بن منصور قال: حدثنا سفيان عن إبراهيم بن
ميسرة عن عبيد بن سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحب
فطرتي فليستن بسنتي ومن سنتي النكاح" . قال إبراهيم بن ميسرة: ولا أقول
لك إلا ما قال عمر لأبي الزوائد: ما يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور.
فإن قيل: قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} عمومه يقتضي
تزويج الأب ابنته البكر الكبيرة، ولولا قيام الدلالة على أنه لا يزوج
البنت الكبيرة بغير رضاها لكان جائزا له تزويجها بغير رضاها بعموم
الآية قيل له: معلوم أن قوله: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} لا
يختص بالنساء دون الرجال; لأن الرجل يقال له أيم والمرأة يقال لها
أيمة، وهو اسم للمرأة التي لا زوج لها والرجل الذي لا امرأة له قال
الشاعر:
فإن تنكحي أنكح وإن تتأيمي ... وإن كنت أفتى منكم أتأيم
وقال آخر:
ذريني على أيم منكم وناكح
وقال عمر بن الخطاب: "ما رأيت مثل من يجلس أيما بعد هذه الآية:
{وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} التمسوا الغنى في الباه". فلما
كان هذا الاسم شاملا للرجال والنساء وقد أضمر في الرجال تزويجهم بإذنهم
فوجب استعمال ذلك الضمير في النساء أيضا، وأيضا فقد أمر النبي صلى الله
عليه وسلم باستئمار البكر بقوله: "البكر تستأمر في نفسها وإذنها
صماتها" ، وذلك أمر وإن كان في صورة الخبر، وذلك على الوجوب فلا يجوز
تزويجها إلا بإذنها. وأيضا فإن حديث محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكح اليتيمة إلا
بإذنها فإن سكتت فهو إذنها وإن أبت فلا جواز عليها" ، وإنما أراد به
البكر; لأن البكر هي التي يكون سكوتها رضا. وحديث ابن عباس في فتاة بكر
زوجها أبوها بغير أمرها، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "أجيزي ما صنع أبوك" ; وقد بينا هذه المسألة
فيما سلف.
قوله تعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} فيه
دلالة على أن للمولى أن يزوج عبده وأمتة بغير رضاهما; وأيضا لا خلاف
أنه غير جائز للعبد والأمة أن يتزوجا بغير إذن. وروي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال: "أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر" فثبت أن
العبد والأمة لا يملكان ذلك، فوجب أن يملك المولى منهما ذلك كسائر
العقود التي لا يملكانها ويملكها المولى عليهما.
(3/414)
وقوله
تعالى: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}
خبر، ومخبر الله تعالى لا محالة على ما يخبر به، فلا يخلو ذلك من أحد
وجهين: إما أن يكون خاصا في بعض المذكورين دون بعض; إذ قد وجدنا من
يتزوج ولا يستغني بالمال. وإما أن يكون المراد الغنى بالعفاف. فإن كان
المراد خاصا فهو في الأيامى الأحرار الذين يملكون فيستغنون بما يملكون،
أو يكون عاما فيكون المعنى وقوع الغنى بملك البضع والاستغناء به عن
تعديه إلى المحظور، فلا دلالة فيه إذا على أن العبد يملك; وقد بينا
مسألة ملك العبد في سورة النحل.
(3/415)
باب المكاتبة
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} . روي
عن عطاء قال: "ما أراه إلا واجبا"، وهو قول عمرو بن دينار وروي عن عمر:
"أنه أمر أنسا بأن يكاتب سيرين أبا محمد بن سيرين فأبى فرفع عليه الدرة
وضربه وقال: فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا، وحلف عليه ليكاتبنه". وقال
الضحاك: "إن كان للمملوك مال فعزيمة على مولاه أن يكاتبه". وروى الحجاج
عن عطاء قال: "إن شاء كاتب وإن شاء لم يكاتب إنما هو تعليم"، وكذلك قول
الشعبي.
قال أبو بكر: هذا ترغيب عند عامة أهل العلم وليس بإيجاب، وقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه" ، وما
روي عن عمر في قصة سيرين دل على ذلك أيضا; لأنها لو كانت واجبة لحكم
بها عمر عليه ولم يكن يحتاج أن يحلف على أنس لمكاتبته ولم يكن أنس أيضا
يمتنع من شيء واجب عليه.
فإن قيل: لو لم يكن يراها واجبة لما رفع عليه الدرة ولم يضربه. قيل:
لأن عمر رضي الله عنه كان كالوالد المشفق للرعية، فكان يأمرهم بما لهم
فيه الحظ في الدين وإن لم يكن واجبا على وجه التأديب والمصلحة. ويدل
على أنها ليست على الوجوب أنه موكول إلى غالب ظن المولى أن فيهم خيرا،
فلما كان المرجع فيه للمولى لم يلزمه الإجبار عليه.
وقوله: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} روى عكرمة بن عمار عن يحيى
بن أبي كثير عن النبي صلى الله عليه وسلم: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} "إن علمتم لهم حرفة ولا تدعوهم كلا على
الناس" . وذكر ابن جريج عن عطاء: {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}
قال: "ما نراه إلا المال" ثم تلا قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا
حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة: 180] قال:
"الخير المال فيما نرى"، قال: وبلغني عن ابن عباس: يعني بالخير المال.
وروى
(3/415)
ابن سيرين
عن عبيدة {إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قال: "إذا صلى". وعن
إبراهيم "وفاء وصدقا". وقال مجاهد "مالا". وقال الحسن: "صلاحاً في
الدين".
قال أبو بكر: الأظهر أنه أراد الصلاح، فينتظم ذلك الوفاء والصدق وأداء
الأمانة; لأن المفهوم من كلام الناس إذا قالوا: فلان فيه خير، إنما
يريدون به الصلاح في الدين، ولو أراد المال لقال: إن علمتم لهم خيرا;
لأنه إنما يقال لفلان مال ولا يقال فيه مال; وأيضا فإن العبد لا مال
له، فلا يجوز أن يتأول عليه. وما روي عن عبيدة "إذا صلى" فلا معنى له;
لأنه جائز مكاتبة اليهودي والنصراني بالآية وإن لم تكن لهم صلاة.
وقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} اختلف
أهل العلم في المكاتب هل يستحق على مولاه أن يضع عنه شيئا من كتابته؟
فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك والثوري: "إن وضع عنه شيئا
فهو حسن مندوب إليه وإن لم يفعل لم يجبر عليه". وقال الشافعي: "هو على
الوجوب". وروي عن ابن سيرين في قوله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ
الَّذِي آتَاكُمْ} قال: "كان يعجبهم أن يدعوا له طائفة من مكاتبته".
قال أبو بكر: ظاهر قوله: "كان يعجبهم" أنه أراد به الصحابة، وكذلك قول
إبراهيم: "كانوا يكرهون"، وكانوا يقولون: الظاهر من قول التابعي إذا
قال ذلك أنه أراد به الصحابة; فقول ابن سيرين يدل على أن ذلك كان عند
الصحابة على الندب لا على الإيجاب; لأنه لا يجوز أن يقال في الإيجاب:
"كان يعجبهم". وروى يونس عن الحسن وإبراهيم: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ
اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} قال: "حث عليه مولاه وغيره". وروى مسلم بن
أبي مريم عن غلام عثمان بن عفان قال: "كاتبني عثمان ولم يحط عني شيئا".
قال أبو بكر: ويحتمل أن يريد بقوله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ
الَّذِي آتَاكُمْ} ما ذكره في آية الصدقات من قوله: {وَفِي الرِّقَابِ}
[التوبة: 60]. وقد روي أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: علمني
عملا يدخلني الجنة قال: "أعتق النسمة وفك الرقبة" قال: أليسا واحدا؟
قال: "عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها" ، وهذا
يدل على أن قوله: {وَفِي الرِّقَابِ} قد اقتضى إعطاء المكاتب، فاحتمل
أن يكون قوله: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} دفع
الصدقات الواجبات، وأفاد بذلك جواز دفع الصدقة إلى المكاتب وإن كان
مولاه غنيا. ويدل عليه أنه أمر بإعطائه من مال الله، وما أطلق عليه هذه
الإضافة فهو ما كان سبيله الصدقة وصرفه في وجوه القرب، وهذا يدل على
أنه أراد مالا هو ملك لمن أمر بإيتائه وأن سبيله الصدقة وذلك الصدقات
الواجبة في الأموال، ويدل عليه قوله: {مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي
آتَاكُمْ} وهو الذي قد صح ملكه للمالك وأمر بإخراج بعضه، ومال الكتابة
ليس بدين صحيح; لأنه على عبده والمولى
(3/416)
لا يثبت
له على عبده دين صحيح. وعلى قول من يوجب حط بعض الكتابة ينبغي أن يسقط
بعد عقد الكتابة، وذلك خلاف موجب الآية من وجوه: أحدها: أنه إذا سقط لم
يحصل مالا لله قد آتاه المولى. والثاني: أن ما آتاه فهو الذي يحصل في
يده ويمكنه التصرف فيه، وما سقط عقيب العقد لا يمكنه التصرف فيه ولم
يحصل له عليه بل لا يستحق الصفة بأنه من مال الله الذي آتاه إياه.
وأيضا لو كان الإيتاء واجبا لكان وجوبه متعلقا بالعقد فيكون العقد هو
الموجب له وهو المسقط، وذلك مستحيل; لأنه إذا كان العقد يوجبه وهو
بعينه مسقط استحال وجوبه لتنافي الإيجاب والإسقاط.
فإن قيل: ليس يمتنع ذلك في الأصول; لأن الرجل إذا زوج أمته من عبده يجب
عليه المهر بالعقد ثم يسقط في الثاني. قيل له: ليس كذلك; لأنه ليس
الموجب له هو المسقط له; إذ كان الذي يوجبه هو العقد والذي يسقطه هو
حصول ملكه للمولى في الثاني فالموجب له غير المسقط، وكذلك من اشترى
أباه فعتق عليه فالموجب للملك هو الشرى والموجب للعتاق حصول الملك مع
النسب ولم يكن الموجب له هو المسقط. وقد حكي عن الشافعي أن الكتابة
ليست بواجبة وأن يضع عنه بعد الكتاب واجب أقل ما يقع عليه اسم شيء، ولو
مات المولى قبل أن يضع عنه وضع الحاكم عنه أقل ما يقع عليه اسم شيء.
قال أبو بكر: فلو كان الحط واجبا لما احتاج أن يضع عنه بل يسقط القدر
المستحق، كمن له على إنسان دين ثم صار للمدين عليه مثله أنه يصير
قصاصا، ولو كان كذلك لحصلت الكتابة مجهولة; لأن الباقي بعد الحط مجهول،
فيصير بمنزلة من كاتب عبده على ألف درهم إلا شيء وذلك غير جائز. وجملة
ذلك أن الإيتاء لو كان فرضا لسقط; ثم لا يخلو من أن يكون ذلك القدر
معلوما أو مجهولا، فإن كان معلوما فالواجب أن تكون الكتابة بما بقي
فيعتق إذا أدى ثلاثة آلاف درهم والكتابة أربعة آلاف درهم; وذلك فاسد من
وجهين: أحدهما: أنه لا يصح الإشهاد على الكتابة بأربعة آلاف درهم، ومع
ذلك فلا معنى لذكر شيء لا يثبت. وأيضا فإنه يعتق بأقل مما شرط، وهذا
فاسد; لأن أداء جميعها مشروط، فلا يعتق بأداء بعضها. وأيضا فإن الشافعي
قال: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" فالواجب إذا أن لا يسقط شيء، ولو
كان الإيتاء مستحقا لسقط، وإن كان الإيتاء مجهولا فالواجب أن يسقط ذلك
القدر فتبقى الكتابة على مال مجهول.
فإن قيل: روى عطاء بن السائب عن أبي عبد الرحمن أنه كاتب غلاما له فترك
له ربع مكاتبته وقال: إن عليا كان يأمرنا بذلك، ويقول: هو قول الله:
{وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} . وروي عن مجاهد أنه
قال: "تعطيه ربعا من جميع مكاتبته تعجله من
(3/417)
مالك".
قيل له: هذا يدل على أنهم لم يروا ذلك واجبا وأنه على وجه الندب; لأنه
لو كان واجبا عندهم لسقط بعد عقد الكتابة هذا القدر; إذ كان المكاتب
مستحقا له ولم يكن المولى يحتاج إلى أن يعطيه شيئاً.
فإن قيل: قد يجوز أن يجب عليه مال الكتابة مؤجلا ويستحق هو على المولى
أن يعطيه من ماله مقدار الربع فلا يصير قصاصا بل يستحق على المولى
تعجيله فيكون مال الكتابة إلى أجله، كمن له على رجل دين مؤجل فيصير
للمدين على الطالب دين حال فلا يصير قصاصا له. قيل له: إن الله تعالى
لم يفرق بين الكتابة الحالة والمؤجلة، وكذلك من روي عنه من السلف الحط
لم يفرقوا بين الحالة والمؤجلة، ولم يفرق أيضا بين أن يحل مال الكتابة
المؤجل وبين أن لا يحل فيما ذكروا من الحط والإيتاء; فعلمنا أنه لم يرد
به الإيجاب; إذ لم يجعله قصاصا إذا كانت حالة وكانت مؤجلة فحلت، وأوجب
الإيتاء في الحالين، والإيتاء هو الإعطاء، وما يصير قصاصا لا يطلق فيه
الإعطاء.
ومما يدل من جهة السنة على ما وصفنا ما روى يونس والليث عن الزهري عن
عروة عن عائشة قالت: جاءتني بريرة فقالت: يا عائشة إني قد كاتبت أهلي
على تسع أواق في كل عام أوقية، فأعينيني ولم تكن قضت من كتابتها شيئا،
فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك فإن أحبوا أن أعطيهم ذلك جميعا ويكون
ولاؤك لي فعلت. فأبوا وقالوا: إن شاءت أن تحتسب عليك فلتفعل ويكون
ولاؤك لنا; فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا يمنعك
منها ابتاعي وأعتقي فإنما الولاء لمن أعتق" ، وذكر الحديث. وروى مالك
عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة بنحوه; فلما لم تكن قضت من كتابتها
شيئا وأرادت عائشة أن تؤدي عنها كتابتها كلها وذكرته لرسول الله صلى
الله عليه وسلم وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم النكير عليها ولم
يقل: إنها يستحق أن يحط عنها بعض كتابتها أو أن يعطيها المولى شيئا من
ماله، ثبت أن الحط من الكتابة على الندب لا على الإيجاب; لأنه لو كان
واجبا لأنكره النبي صلى الله عليه وسلم ولقال لها: ولم تدفعي إليهم ما
لا يجب لهم عليها. ويدل عليه أيضا ما روى محمد بن إسحاق عن محمد بن
جعفر بن الزبير عن عروة عن عائشة: أن جويرية جاءت إلى النبي صلى الله
عليه وسلم فقالت: إني وقعت في سهم ثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له،
فكاتبته فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أستعينه على كتابتي،
فقال: "فهل لك في خير من ذلك؟" فقالت: وما هو يا رسول الله؟ فقال:
"أقضي عنك كتابتك وأتزوجك" قالت: نعم; قال: "قد فعلت" . ففي هذا الحديث
أنه بذل لجويرية أداء جميع كتابتها عنها إلى مولاها، ولو كان الحط
واجبا لكان الذي يقصد إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأداء عنها
باقي كتابتها. وقد روي عن عمر وعثمان والزبير ومن قدمنا قولهم من السلف
أنهم لم
(3/418)
يكونوا
يرون الحط واجبا، ولا يروى عن نظرائهم خلافه; وما روي عن علي فيه فقد
بينا أنه يدل على أنه رآه ندبا لا إيجابا. ويدل عليه ما حدثنا محمد بن
بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثني عبد
الصمد قال: حدثنا همام قال: حدثنا عباس الجريري عن عمرو بن شعيب عن
أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما عبد كاتب على مائة
أوقية فأداها إلا عشر أواق فهو عبد، وأيما عبد كاتب على مائة دينار
فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد" ، فلو كان الحط واجبا لأسقط عنه
بقدره، وفي ذلك دلالة على أنه غير مستحق; والله أعلم.
(3/419)
باب الكتابة الحالة
قال الله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}
فاقتضى ذلك جوازها حالة ومؤجلة لإطلاقه ذلك من غير شرط الأجل، والاسم
يتناولها في حال التعجيل والتأجيل كالبيع والإجارة وسائر العقود، فواجب
جوازها حالة لعموم اللفظ.
وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال أبو حنيفة وزفر وأبو يوسف ومحمد: "تجوز
الكتابة الحالة فإن أداها حين طلبها المولى منه وإلا رد في الرق". وقال
ابن القاسم عن مالك في رجل قال: كاتبوا عبدي على ألف ولم يضرب لها
أجلا: "إنها تنجم على المكاتب على قدر ما يرى من كتابة مثله وقدر قوته"
قال: "فالكتابة عند الناس منجمة ولا تكون حالة إن أبى ذلك السيد". وقال
الليث: "إنما جعل التنجيم على المكاتب رفقا بالمكاتب ولم يجعل ذلك رفقا
بالسيد". وقال المزني عن الشافعي: "لا تجوز الكتابة على أقل من نجمين".
قال أبو بكر: قد ذكرنا دلالة الآية على جوازها حالة، وأيضا لما كان مال
الكتابة بدلا عن الرقبة كان بمنزلة أثمان الأعيان المبيعة فتجوز عاجلة
وآجلة. وأيضا لا يختلفون في جواز العتق على مال حال فوجب أن تكون
الكتابة مثله; لأنه بدل عن العتق في الحالين، إلا أن في أحدهما العتق
معلق على شرط الأداء وفي الآخر معجل، فوجب أن لا يختلف حكمهما في
جوازهما على بدل عاجل.
فإن قيل: العبد لا يملك فيحتاج بعد الكتابة إلى مدة يمكنه الكسب فيها،
فوجب أن لا تجوز إلا مؤجلة; إذ كانت تقتضي الأداء ومتى امتنع الأداء لم
تصح الكتابة. قيل له: هذا غلط; لأن عقد الكتابة يوجب ثبوت المال في
ذمته للمولى ويصير بها المكاتب في يد نفسه ويملك أكسابه وتصرفه، وهو
بمنزلة سائر الديون الثابتة في الذمم التي يجوز العقد عليها، ولو كانت
هذه علة صحيحة لوجب أن لا يجوز العتق على مال حال; لأنه لم
(3/419)
يكن مالكا
لشيء قبل العقد وإن جاز ذلك; لأنه يملك في المستقبل بعد العتق، فكذلك
المكاتب يملك أكسابه بعقد الكتابة; ولوجب أيضا أن لا يجوز شرى الفقير
لابنه بثمن حال; لأنه لا يملك شيئا، وأن يعتق عليه إذا ملكه فلا يقدر
على الأداء. فإن قلت إنه يملك أن يستقرض، قلنا في المكاتب مثله.
(3/420)
باب الكتابة من غير ذكر الحرية
قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد ومالك بن أنس: "إذا كاتبه على ألف
درهم ولم يقل: إن أديت فأنت حر فهو جائز ومعتق بالأداء" وقال المزني عن
الشافعي: "إذا كاتبه على مائة دينار إلى عشر سنين كذا كذا نجما فهو
جائز ولا يعتق حتى يقول في الكتابة إذا أديت هذا فأنت حر، ويقول بعد
ذلك: إن قولي قد كاتبتك كان معقودا على أنك إذا أديت فأنت حر".
قال أبو بكر: قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ
خَيْراً} يقتضي جوازها من غير شرط الحرية ويتضمن الحرية; لأن الله
تعالى لم يقل فكاتبوهم على شرط الحرية، فدل على أن اللفظ يتضمنها كلفظ
الخلع في تضمنه للطلاق ولفظ البيع فيما يتضمن من التمليك والإجارة فيما
يقتضيه من تمليك المنافع والنكاح في اقتضائه تمليك منافع البضع; ويدل
عليه أيضا حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "أيما عبد كاتب على مائة أوقية فأداها إلا عشر أواق فهو
رقيق" ، فأجاز الكتابة مطلقة على هذا الوجه من غير شرط حرية فيها، وإذا
صحت الكتابة مطلقة من غير شرط حرية وجب أن يعتق بالأداء; لأن صحة
الكتابة تقتضي وقوع العتق بالأداء.
(3/420)
باب المكاتب متى يعتق
قال أبو بكر: حكى أبو جعفر الطحاوي عن بعض أهل العلم أنه حكي عن ابن
عباس: "أن المكاتب يعتق بعقد الكتابة وتكون الكتابة دينا عليه"; قال
أبو جعفر: لم نجد لذلك إسنادا ولم يقل به أحد نعلمه. قال: وقد روى أيوب
عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يؤدي
المكاتب بحصة ما أدى دية حر وما بقي عليه دية عبد" ، ورواه أيضا يحيى
بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس. وقال ابن عمر وزيد بن ثابت وعائشة
وأم سلمة وإحدى الروايتين عن عمر: "إن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم".
وروي عن عمر: "أنه إذا أدى النصف فهو غريم ولا رق عليه". وقال ابن
مسعود: "إذا أدى ثلثا أو ربعا فهو غريم" وهو قول شريح. وروى إبراهيم عن
عبد الله: "أنه إذا أدى قيمة رقبته فهو غريم".
(3/420)
باب لزوم الإجابة لمن دعي إلى الحاكم
قال الله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ} . وهذا يدل على أن من
ادعى على غيره حقا ودعاه إلى الحاكم فعليه إجابته والمصير معه إليه;
لأن قوله تعالى: {وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ} معناه: إلى حكم الله.
ويدل على أن من أتى الحاكم فادعى على غيره حقا أن على الحاكم أن يعديه
ويحضره ويحول بينه وبين تصرفه وأشغاله. وقد حدثنا عبد الباقي بن قانع
قال: حدثنا إبراهيم الحربي قال: حدثنا عبد الله بن شبيب قال: حدثنا أبو
بكر بن شيبة قال: حدثنا فليح قال: حدثني محمد بن
(3/424)
جعفر عن
يحيى بن سعيد وعبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، أن الأغر الجهني
قال: جئت أستعدي رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل لي عليه شطر
تمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: "اذهب معه فخذ له
حقه". وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا حسين بن إسحاق التستري قال: حدثنا
رجاء الحافظ قال: حدثنا شاهين قال: حدثنا روح بن عطاء عن أبيه عن الحسن
عن سمرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعي إلى سلطان فلم
يجب فهو ظالم لا حق له". وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا محمد بن عبدوس
بن كامل قال: حدثنا عبد الرحمن بن صالح قال: حدثنا يحيى عن أبي الأشهب
عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من دعي إلى حاكم من
حكام المسلمين فلم يجب فهو ظالم لا حق له" . وحدثنا عبد الباقي قال:
حدثنا محمد بن بشر أخو خطاب قال: حدثنا محمد بن عباد قال: حدثنا حاتم
عن عبد الله بن محمد بن سجل عن أبيه عن أبي حدرد قال: كان ليهودي علي
أربعة دراهم، فاستعدى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي
على هذا أربعة دراهم وقد غلبني عليها، فقال: "أعطه حقه" قلت: والذي
بعثك بالحق نبيا ما أصبحت أقدر عليها قال: "أعطه حقه" فأعدت عليه،
فقال: "أعطه حقه" فخرجت معه إلى السوق فكانت على رأسي عمامة وعلي بردة
متزر بها، فاتزرت بالعمامة وقلت: اشتر البرد فاشتراه بأربعة دراهم.
فهذه الأخبار مواطئة لما دلت عليه الآية.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا
إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا
سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} تأكيد لما تقدم ذكره من وجوب الإجابة إلى الحكم
إذا دعوا إليه، وجعل ذلك من صفات المؤمنين، ودل على أن من دعي إلى ذلك
فعليه الإجابة بالقول بديا بأن يقول سمعنا وأطعنا، ثم يصير معه إلى
الحاكم.
وقوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ
أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ} .
روي عن مجاهد قال: "هذه طاعة معروفة منكم بالقول لا بالاعتقاد، يخبر عن
كذبهم فيما أقسموا عليه". وقيل: "إن المعنى طاعة وقول معروف أمثل من
هذا القسم".
وقوله تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} فيه الدلالة على
صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم; لأنه قصر ذلك على قوم بأعيانهم
بقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ
لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} ، فوجد مخبره على ما أخبر به
فيهم. وفيه الدلالة على صحة إمامة الخلفاء الأربعة أيضا; لأن الله
استخلفهم في الأرض ومكن لهم كما جاء الوعد، ولا يدخل فيهم معاوية; لأنه
لم يكن مؤمنا في ذلك الوقت.
(3/425)
باب استئذان المماليك والصبيان
استئذان المماليك والصبيان قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} الآية. روى ليث بن
أبي سليم عن نافع عن ابن عمر وسفيان عن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن:
{لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قالا: "هو في
النساء خاصة والرجال يستأذنون على كل حال بالليل والنهار". قال أبو
بكر: أنكر بعضهم هذا التأويل، قال: لأن النساء لا يطلق فيهن "الذين"
إذا انفردن، وإنما يقال: "اللائي" كما قال تعالى: {وَاللَّائِي
يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ} [الطلاق: 4].
قال أبو بكر: هذا يجوز إذا عبر بلفظ المماليك، كما أن النساء إذا عبر
عنهن بالأشخاص; وكذلك جائز أن تذكر الإناث إذا عبر عنهن بلفظ المماليك
دون النساء ودون الإماء; لأن التذكير والتأنيث يتبعان اللفظ كما تقول:
"ثلاث ملاحف" فإذا عبرت بالأزر ذكرت فقلت: "ثلاثة أزر" فالظاهر أن
المراد الذكور والإناث من المماليك وليس العبيد; لأن العبيد مأمورون
بالاستئذان في كل وقت ما يوجب الاقتصار بالأمر في العورات الثلاث على
الإماء دونهم; إذ كانوا مأمورين في سائر الأوقات، ففي هذه الأوقات
الثلاثة أولى أن يكونوا مأمورين به. حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو
داود قال: حدثنا ابن السرح والصباح بن سفيان وابن عبدة وهذا حديثه قال:
أخبرنا سفيان عن عبيد الله بن أبي يزيد عن ابن عباس قال: سمعته يقول:
"لم يؤمر بها أكثر الناس آية الإذن، وإني لآمر جاريتي هذه تستأذن علي".
وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا القعنبي قال: حدثنا
عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن أبي عمرو عن عكرمة أن نفرا من أهل
العراق قالوا: يا ابن عباس كيف ترى هذه الآية التي أمرنا فيها بما
أمرنا ولا يعمل بها أحد، قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ
وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ}
الآية، إلى قوله: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ؟ قال ابن عباس: "إن الله حليم
رحيم بالمؤمنين يحب الستر، وكان الناس ليس لبيوتهم ستر ولا حجاب فربما
دخل الخادم أو الولد أو يتيمة الرجل والرجل على أهله، فأمرهم الله
بالاستئذان في تلك العورات، فجاءهم الله بالستور والخير فلم أر أحدا
يعمل بذلك بعد". قال أبو بكر: وفي بعض ألفاظ حديث عباس هذا، وهو حديث
سليمان بن بلال عن عمرو بن أبي عمرو: "فلما أتى الله بالخير واتخذوا
الستور والحجاب رأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به"
فأخبر ابن عباس أن الأمر بالاستئذان في هذه الآية كان متعلقا بسبب،
فلما زال السبب زال الحكم. وهذا يدل على أنه لم ير الآية
(3/426)
منسوخة،
وأن مثل ذلك السبب لو عاد لعاد الحكم وقال الشعبي أيضا إنها ليست
بمنسوخة. وهذا نحو ما فرض الله تعالى من الميراث بالموالاة بقوله
تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}
[النساء: 33] فكانوا يتوارثون بذلك، فلما أوجب التوارث بالنسب جعل ذوي
الأنساب أولى من مولى الموالاة، ومتى فقد النسب عاد ميراث المعاقدة
والولاء. وقال جابر بن زيد في قوله: {لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ
مِنْكُمْ} : "أبناؤهم الذين عقلوا ولم يبلغوا الحلم من الغلمان
والجواري يستأذنون على آبائهم قبل صلاة الفجر وحين يقيلون ويخلون وبعد
صلاة العشاء وهي العتمة فإذا بلغوا الحلم استأذنوا كما استأذن الذين من
قبلهم، إخوانهم إذا كانوا رجالا ونساء لا يدخلون على آبائهم إلا بإذن
ساعة يدخلون أي ساعة كانت". وروى ابن جريج عن مجاهد:
{لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} قال: "عبيدكم"
{وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ}
قال: "من أحراركم"; وروي عن عطاء مثله. وأنكر بعضهم هذا التأويل; لأن
العبد البالغ بمنزلة الحر البالغ في تحريم النظر إلى مولاته، فكيف يجمع
إلى الصبيان الذين هم غير مكلفين قال: فالأظهر أن يكون المراد العبيد
الصغار والإماء وصغارنا الذين لم يبلغوا الحلم. وقد روي عن ابن عباس
أنه كان يقرأ: "ليستأذنكم الذين لم يبلغوا الحلم مما ملكت أيمانكم".
وقال سعيد بن جبير والشعبي: "هذا مما تهاون به الناس وما نسخت". وقال
أبو قلابة" "ليس بواجب وهو كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا
تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]". وقال القاسم بن محمد: "يستأذن عند كل
عورة، ثم هو طواف بعدها"; يعني أنه يستأذن عند أوقات الخلوة والتفضل في
الثياب وطرحها وهو طواف بعدها; لأنها أوقات الستر، ولا يستطيع الخادم
والغلام والصبي الامتناع من الدخول كما قال صلى الله عليه وسلم في
الهرة: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات" يعني أنه لا يستطاع
الامتناع منها. وروي أن رجلا قال لعمر: أستأذن على أمي؟ قال: نعم;
وكذلك قال ابن عباس وابن مسعود.
(3/427)
فصل
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} يدل على
بطلان قول من جعل حد البلوغ خمس عشرة سنة; إذ لم يحتلم قبل ذلك; لأن
الله تعالى لم يفرق بين من بلغها وبين من قصر عنها بعد أن لا يكون قد
بلغ الحلم. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من جهات كثيرة: "رفع
القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق وعن الصبي
حتى يحتلم" . ولم يفرق بين من بلغ خمس عشرة سنة وبين من لم يبلغها.
وأما حديث ابن عمر: أنه عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وله
أربع عشرة سنة فلم يجز وعرض عليه
(3/427)
يوم
الخندق وله خمس عشرة سنة فأجازه، فإنه مضطرب; لأن الخندق كان في سنة
خمس، وأحد في سنة ثلاث، فكيف يكون بينهما سنة ثم مع ذلك فإن الإجازة في
القتال لا تعلق لها بالبلوغ; لأنه قد يرد البالغ لضعفه ويجاز غير
البالغ لقوته على القتال وطاقته لحمل السلاح، كما أجاز رافع بن خديج
ورد سمرة بن جندب، فلما قيل له: إنه يصرعه أمرهما فتصارعا، فصرعه سمرة
فأجازه ولم يسأله عن سنه. وأيضا فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل
ابن عمر عن مبلغ سنه في الأول ولا في الثاني وإنما اعتبر في قوته
وضعفه; فاعتبار السن; لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجازه في وقت ورده
في وقت ساقط.
وقد اتفق الفقهاء على أن الاحتلام بلوغ، واختلفوا إذا بلغ خمس عشرة سنة
ولم يحتلم فقال أبو حنيفة "لا يكون الغلام بالغا حتى يبلغ ثماني عشرة
سنة ويستكملها، وفي الجارية سبع عشرة سنة وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي
في الغلام والجارية خمس عشرة سنة" وذهبوا فيها إلى حديث ابن عمر، وقد
بينا أن لا دلالة فيه على أنها حد البلوغ; ويدل عليه أنه لم يسأله عن
الاحتلام ولا عن السن. ولما ثبت بما وصفنا أن الخمس عشرة ليست ببلوغ
وظاهر قوله {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} ينفي
أيضا أن تكون الخمس عشرة بلوغا على الحد الذي بينا، صار طريق إثبات حد
البلوغ بعد ذلك الاجتهاد; لأنه حد بين الصغر والكبر الذين قد عرفنا
طريقهما وهو واسطة بينهما، فكان طريقه الاجتهاد. وليس يتوجه على القائل
بما وصفنا سؤال، كالمجتهد في تقويم المستهلكات وأروش الجنايات التي لا
توقيف في مقاديرها ومهور الأمثال ونحوها.
فإن قيل: فلا بد من أن يكون اعتباره لهذا المقدار دون غيره لضرب من
الترجيح على غيره يوجب تغليب ذلك في رأيه دون ما عداه من المقادير. قيل
له: قد علمنا أن العادة في البلوغ خمس عشرة سنة وكل ما كان طريقه
العادات فقد تجوز الزيادة فيه والنقصان منه، وقد وجدنا من بلغ في اثنتي
عشرة سنة، وقد بينا أن الزيادة على المعتاد من الخمس عشرة جائزة
كالنقصان عنه فجعل أبو حنيفة الزيادة على المعتاد كالنقصان عنه وهي
ثلاث سنين; كما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جعل المعتاد من حيض
النساء ستا أو سبعا بقوله لحمنة بنت جحش: "تحيضين في علم الله ستا أو
سبعا كما تحيض النساء في كل شهر" اقتضى ذلك أن يكون العادة ستا ونصفا;
لأنه جعل السابع مشكوكا فيه بقوله: "ستا أو سبعا" . ثم قد ثبت عندنا أن
النقصان عن المعتاد ثلاث ونصف; لأن أقل الحيض عندنا ثلاث وأكثره عشرة،
فكانت الزيادة على المعتاد بإزاء النقصان منه، وجب أن يكون كذلك اعتبار
الزيادة على المعتاد فيما وصفنا. وقد حكي عن أبي حنيفة تسع عشرة سنة
للغلام; وهو محمول على استكمال ثماني عشرة والدخول في التاسع عشرة.
(3/428)
واختلف في
الإثبات هل يكون بلوغا، فلم يجعله أصحابنا بلوغا، والشافعي يجعله
بلوغا، وظاهر قوله: {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ}
ينفي أن يكون الإثبات بلوغا إذا لم يحتلم، كما نفى كون خمس عشرة بلوغا.
وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "وعن الصبي حتى يحتلم" وهذا خبر منقول
من طريق الاستفاضة قد استعمله السلف والخلف في رفع حكم القلم عن
المجنون والنائم والصبي. واحتج من جعله بلوغا بحديث عبد الملك بن عمير
عن عطية القرظي: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بقتل من أنبت من بني
قريظة واستحيا من لم ينبت، قال: "فنظروا إلي فلم أكن أنبت فاستبقاني".
وهذا حديث لا يجوز إثبات الشرع بمثله; إذ كان عطية هذا مجهولا لا يعرف
إلا من هذا الخبر، لا سيما مع اعتراضه على الآية والخبر في نفي البلوغ
إلا بالاحتلام; ومع ذلك فهو مختلف الألفاظ، ففي بعضها أنه أمر بقتل من
جرت عليه المواسي، وفي بعضها من اخضر إزاره; ومعلوم أنه لا يبلغ هذه
الحال إلا وقد تقدم في بلوغه، ولا يكون قد جرت عليه المواسي إلا وهو
رجل كبير; فجعل الإثبات وجري المواسي عليه كناية عن بلوغ القدر الذي
ذكرنا في السن وهي ثماني عشرة وأكثر. وروي عن عقبة بن عامر وأبي بصرة
الغفاري أنهما قسما في الغنيمة لمن أنبت. وهذا لا دلالة فيه على أنهما
رأيا الإنبات بلوغا; لأن القسمة جائزة للصبيان على وجه الرضخ. وقد روي
عن قوم من السلف شيء في اعتبار طول الإنسان لم يأخذ به أحد من الفقهاء.
وروى محمد بن سيرين عن أنس قال: "أتى أبو بكر بغلام قد سرق، فأمره فشبر
فنقص أنملة فخلى عنه". وروى قتادة عن خلاس عن علي قال: "إذا بلغ الغلام
خمسة أشبار فقد وقعت عليه الحدود ويقتص له ويقتص منه، وإذا استعانه رجل
بغير إذن أهله لم يبلغ خمسة أشبار فهو ضامن". وروى ابن جريج عن ابن أبي
مليكة: "أن ابن الزبير أتى بوصيف لعمر بن أبي ربيعة قد سرق فقطعه، ثم
حدث أن عمر كتب إليه في غلام من أهل العراق، فكتب إليه أن اشبره فشبره
فنقص أنملة فسمي نميلة".
قال أبو بكر: وهذه أقاويل شاذة بأسانيد ضعيفة تبعد أن تكون من أقاويل
السلف،; إذ الطول والقصر لا يدلان على بلوغ ولا نفيه; لأنه قد يكون
قصيرا وله عشرون سنة وقد يكون طويلا ولا يبلغ خمس عشرة سنة ولم يحتلم;
وقوله {وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ} يدل على أن من
لم يبلغ وقد عقل يؤمر بفعل الشرائع وينهى عن ارتكاب القبائح وإن لم يكن
من أهل التكليف، على جهة التعليم; كما أمرهم الله تعالى بالاستئذان في
هذه الأوقات. وقد روي عن عبد الملك بن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه
عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا بلغ الغلام سبع
سنين فمروه بالصلاة، وإذا بلغ عشرا فاضربوه عليها" . وروى عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(3/429)
"مروا
صبيانكم بالصلاة إذا بلغوا سبعا واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرا وفرقوا
بينهم في المضاجع" . وعن ابن مسعود قال: "حافظوا على أبنائكم في
الصلاة". وروى نافع عن ابن عمر قال: "يعلم الصبي الصلاة إذا عرف يمينه
من شماله". وروى حاتم بن إسماعيل عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: "كان
علي بن الحسين يأمر الصبيان أن يصلوا الظهر والعصر جميعا والمغرب
والعشاء جميعا، فيقال له: يصلون الصلاة لغير وقتها فيقول: هذا خير من
أن يتناهوا عنها". وروى هشام بن عروة: "أنه كان يأمر بنيه بالصلاة إذا
عقلوها وبالصوم إذا أطاقوه". وروى أبو إسحاق عن عمرو بن شرحبيل عن ابن
مسعود قال: "إذا بلغ الصبي عشر سنين كتبت له الحسنات ولا تكتب عليه
السيئات حتى يحتلم".
قال أبو بكر: إنما يؤمر بذلك على وجه التعليم وليعتاده ويتمرن عليه
فيكون أسهل عليه بعد البلوغ وأقل نفورا منه، وكذلك يجنب شرب الخمر وأكل
لحم الخنزير وينهى عن سائر المحظورات; لأنه لو لم يؤمر بذلك في الصغر
وخلي وسائر شهواته وما يؤثره ويختاره يصعب عليه بعد البلوغ الإقلاع
عنه; وقال الله تعالى: {قوا أنفسكم وأهليكم نارا} روي في التفسير:
أدبوهم وعلموهم. وكما ينهى عن اعتقاد الكفر والشرك وإظهاره وإن لم يكن
مكلفا، كذلك حكم الشرائع.
وقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ} الآية.
يعني أن الأطفال إذا بلغوا الحلم فعليهم الاستئذان في سائر الأوقات كما
استأذن الذين من قبلهم وهم المذكورون في قوله تعالى: {لَا تَدْخُلُوا
بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا
عَلَى أَهْلِهَا} وفيه دلالة على أن الاحتلام بلوغ. وقوله: {لَيْسَ
عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ
عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} يعني بعد هذه العورات الثلاث جائز
للإماء والذين لم يبلغوا الحلم أن يدخلوا بغير استئذان; إذ كانت
الأوقات الثلاث هو حال التكشف والخلوة وما بعدها حال الستر والتأهب
لدخول هؤلاء الذين يشق عليهم الاستئذان في كل وقت لكثرة دخولهم وخروجهم
وهو معنى {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} .
(3/430)
في اسم صلاة العشاء
قوله تعالى: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} روى عبد الرحمن بن عوف
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تغلبنكم الأعراب على اسم
صلاتكم فإن الله تعالى قال: {وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ} وإن
الأعراب يسمونها العتمة، وإنما العتمة عتمة الإبل للحلاب".
وقوله تعالى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لا يَرْجُونَ
نِكَاحاً} الآية. قال ابن
(3/430)
مسعود
ومجاهد: "والقواعد اللاتي لا يرجون نكاحا هن اللاتي لا يردنه، وثيابهن
جلابيبهن". وقال إبراهيم وابن جبير: "الرداء". وقال الحسن: "الجلباب
والمنطق". وعن جابر بن زيد: "يضعن الخمار والرداء".
قال أبو بكر: لا خلاف في أن شعر العجوز عورة لا يجوز للأجنبي النظر
إليه كشعر الشابة، وأنها إن صلت مكشوفة الرأس كانت كالشابة في فساد
صلاتها، فغير جائز أن يكون المراد وضع الخمار بحضرة الأجنبي.
فإن قيل: إنما أباح الله تعالى لها بهذه الآية أن تضع خمارها في الخلوة
بحيث لا يراها أحد. قيل له: فإذا لا معنى لتخصيص القواعد بذلك; إذ كان
للشابة أن تفعل ذلك في خلوة، وفي ذلك دليل على أنه إنما أباح للعجوز
وضع ردائها بين يدي الرجال بعد أن تكون مغطاة الرأس، وأباح لها بذلك
كشف وجهها ويدها; لأنها لا تشتهى; وقال تعالى: {وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ
خَيْرٌ لَهُنَّ} فأباح لها وضع الجلباب، وأخبر أن الاستعفاف بأن لا تضع
ثيابها أيضا بين يدي الرجال خير لها.
وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} الآية. قال أبو بكر: قد
اختلف السلف في تأويله وسبب نزوله، فحدثنا جعفر بن محمد بن الحكم قال:
حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الله
بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوم:
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا
عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} قال: "لما نزلت: {وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] قال المسلمون:
إن الله تعالى قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل وإن الطعام من
أفضل أموالنا ولا يحل لأحد أن يأكل عند أحد; فكف الناس عن ذلك فأنزل
الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} الآية". فهذا أحد
التأويلات. وحدثنا جعفر بن محمد "بن الحكم" قال: حدثنا جعفر بن محمد
"بن اليمان" قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج عن مجاهد
في هذه الآية قال: "كان رجال زمنى وعميان وعرجان وأولو حاجة يستتبعهم
رجال إلى بيوتهم فإن لم يجدوا لهم طعاما ذهبوا بهم إلى بيوت آبائهم ومن
معهم، فكره المستتبعون ذلك، فنزلت: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء:
24] الآية، وأحل لهم الطعام حيث وجدوه من ذلك". فهذا تأويل ثاني.
وحدثنا جعفر بن محمد "بن الحكم" قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان
قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا ابن مهدي عن ابن المبارك عن معمر قال:
قلت للزهري: ما بال الأعمى والأعرج والمريض ذكروا ههنا؟ فقال: أخبرني
عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: "أن المسلمين كانوا إذا غزوا خلفوا
زمناهم
(3/431)
في بيوتهم
وسلموا إليهم المفاتيح وقالوا: قد أحللنا لكم أن تأكلوا منها، فكانوا
يتحرجون من ذلك ويقولون: لا ندخلها وهم غيب، فنزلت هذه الآية رخصة
لهم". فهذا تأويل ثالث. وروي فيه تأويل رابع، وهو ما روى سفيان عن قيس
بن مسلم عن مقسم قال: "كانوا يمتنعون أن يأكلوا مع الأعمى والمريض
والأعرج; لأنه لا ينال ما ينال الصحيح، فنزلت هذه الآية" وقد أنكر بعض
أهل العلم هذا التأويل; لأنه لم يقل: ليس عليكم حرج في مؤاكلة الأعمى
وإنما أزال الحرج عن الأعمى ومن ذكر معه في الأكل، فهذا في الأعمى إذا
أكل من مال غيره على أحد الوجوه المذكورة عن السلف، وإن كان تأويل مقسم
محتملا على بعد في الكلام، وتأويل ابن عباس ظاهر; لأن قوله تعالى: {لا
تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ
تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ولم يكن هذا تجارة
وامتنعوا من الأكل، فأنزل الله إباحة ذلك. وأما تأويل مجاهد فهو سائغ
من وجهين: أحدهما: أنه قد كانت العادة عندهم بذل الطعام لأقربائهم ومن
معهم، فكان جريان العادة به كالنطق به، فأباح الله للأعمى ومن ذكر معه
إذا استتبعوا أن يأكلوا من بيوت من اتبعوهم وبيوت آبائهم. والثاني: أن
ذلك فيمن كان به ضرورة إلى الطعام، وقد كانت الضيافة واجبة في ذلك
الزمان لأمثالهم، فكان ذلك القدر مستحقا من مالهم لهؤلاء; فلذلك أبيح
لهم أن يأكلوا منه مقدار الحاجة بغير إذن. وقال قتادة: "إن أكلت من بيت
صديقك بغير إذنه فلا بأس"، لقوله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} . وروي أن
أعرابيا دخل على الحسن، فرأى سفرة معلقة فأخذها وجعل يأكل منها، فبكى
الحسن، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: ذكرت بما صنع هذا إخوانا لي مضوا;
يعني أنهم كانوا ينبسطون في مثل ذلك ولا يستأذنون. وهذا أيضا على ما
كانت العادة قد جرت به منهم في مثله.
وقوله تعالى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ
بُيُوتِكُمْ} يعني والله أعلم: من البيوت التي هم سكانها وهم عيال
غيرهم فيها، مثل أهل الرجل وولده وخادمه ومن يشتمل عليه منزله فيأكل من
بيته; ونسبها إليهم; لأنهم سكانها وإن كانوا في عيال غيرهم وهو صاحب
المنزل; لأنه لا يجوز أن يكون المراد الإباحة للرجل أن يأكل من مال
نفسه; إذ كان ظاهر الخطاب وابتداؤه في إباحة الأكل للإنسان من مال
غيره; وقال الله: {أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ
أَخَوَاتِكُمْ} فأباح الأكل من بيوت هؤلاء الأقرباء ذوي المحارم بجريان
العادة ببذل الطعام لأمثالهم وفقد التمانع في أمثاله، ولم يذكر الأكل
في بيوت الأولاد; لأن قوله تعالى: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ
تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ} قد أفاده; لأن مال الرجل منسوب إلى أبيه،
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" وقال: "إن أطيب ما
أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه فكلوا من كسب
(3/432)
أولادكم"
، فاكتفى بذكر بيوت أنفسكم عن ذكر بيوت الأولاد; إذ كانت منسوبة إلى
الآباء.
وقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ} روي
عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ}
قال: "هو الرجل يؤاكل الرجل بصنعته، يرخص له أن يأكل من ذلك الطعام
والثمر ويشرب من ذلك اللبن". وعن عكرمة في قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ
مَفَاتِحَهُ} قال: "إذا ملك المفتاح فهو جائز ولا بأس أن يطعم الشيء
اليسير". وروى سعيد عن قتادة في قوله: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ
وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ} قال: وكان الرجل لا يضيف أحدا ولا يأكل
من بيت غيره تأثما من ذلك، وكان أول من رخص الله له في ذلك ثم رخص
للناس عامة، فقال: {وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ
بُيُوتِكُمْ} إلى قوله: {أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ} مما عندك يا
ابن آدم، أو صديقكم، ولو دخلت على صديق فأكلت من طعامه بغير إذنه كان
ذلك حلالا. قال أبو بكر: وهذا أيضا مبني على ما جرت العادة بالإذن فيه
فيكون المعتاد من ذلك كالمنطوق به، وهو مثل ما تتصدق به المرأة من بيت
زوجها بالكسرة ونحوها من غير استئذانها إياه; لأنه متعارف أنهم لا
يمنعون من مثله، كالعبد المأذون والمكاتب يدعوان إلى طعامهما ويتصدقان
باليسير مما في أيديهما فيجوز بغير إذن المولى.
وقوله: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} روى الأعمش عن نافع عن ابن عمر قال: "لقد
رأيتني وما الرجل المسلم بأحق بديناره ودرهمه من أخيه المسلم". وروى
عبد الله الرصافي عن محمد بن علي قال" "كان أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم لا يرى أحدهم أنه أحق بالدينار والدرهم من أخيه" وروى إسحاق
بن كثير قال: حدثنا الرصافي قال: "كنا عند أبي جعفر يوما فقال: هل يدخل
أحدكم يده في كم أخيه فيأخذ ماله؟ قلنا: لا، قال: ما أنتم بإخوان".
قال أبو بكر: قد دلت هذه الآية على أن من سرق من ذي رحم محرم أنه لا
يقطع لإباحة الله لهم بهذه الآية الأكل من بيوتهم ودخولها من غير إذنهم
فلا يكون ماله محرزا منهم.
فإن قيل: فينبغي أن لا يقطع إذا سرق من صديقه; لأن ففي الآية إباحة
الأكل من طعامه قيل له: من أراد سرقة ماله لا يكون صديقا له.
وقد قيل: إن هذه الآية منسوخة بقوله: {لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ
بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} وبقوله صلى الله عليه وسلم: "لا
يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه" . قال أبو بكر: ليس في ذلك ما
يوجب نسخه; لأن هذه الآية فيمن ذكر فيها، وقوله: {لا تَدْخُلُوا
بُيُوتاً
(3/433)
غَيْرَ
بُيُوتِكُمْ} في سائر الناس غيرهم وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "لا
يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه" .
وقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً
أَوْ أَشْتَاتاً} . روى سعيد عن قتادة قال: "كان هذا الحي من كنانة بني
خزيمة يرى أحدهم أنه محرم عليه أن يأكل، وحده في الجاهلية حتى أن الرجل
ليسوق الذود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه، فأنزل الله:
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً}
. وروى الوليد بن مسلم قال: حدثنا وحشي بن حرب عن أبيه عن جده وحشي أن
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: إنا نأكل ولا نشبع، قال:
"فلعلكم تفترقون"؟ قالوا: نعم، قال: "فاجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم
الله عليه يبارك لكم فيه". وقال ابن عباس: {جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً}
"المعنى: يأكل مع الفقير في بيته". وقال أبو صالح: "كان إذا نزل بهم
ضيف تحرجوا أن يأكلوا إلا معه". وقيل: "إن الرجل كان يخاف إن أكل مع
غيره أن يزيد أكله على أكل صاحبه، فامتنعوا لأجل ذلك من الاجتماع على
الطعام". قال أبو بكر: هذا تأويل محتمل، وقد دل على هذا المعنى قوله:
{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ
تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] فأباح لهم أن يخلطوا
طعام اليتيم بطعامهم فيأكلوه جميعا، ونحوه قوله: {فَابْعَثُوا
أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ
أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ} [الكهف:
19] ، فكان الورق لهم جميعا والطعام بينهم فاستجازوا أكله، فكذلك قوله:
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً} يجوز أن يكون
مراده أن يأكلوا جميعا طعاما بينهم وهي المناهدة التي يفعلها الناس في
الأسفار.
وقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى
أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً} روى معمر عن الحسن: "فسلموا على أنفسكم، يسلم
بعضكم على بعض، كقوله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} ". وروى
معمر عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال: "هو المسجد إذا دخلته فقل
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين". وقال نافع عن ابن عمر: "أنه
كان إذا دخل بيتا ليس فيه أحد قال: السلام علينا وعلى عباد الله
الصالحين، وإذا كان فيه أحد قال: السلام عليكم، وإذا دخل المسجد قال:
بسم الله السلام على رسول الله". وقال الزهري: {فَسَلِّمُوا عَلَى
أَنْفُسِكُمْ} "إذا دخلت بيتك فسلم على أهلك فهم أحق من سلمت عليه،
وإذا دخلت بيتا لا أحد فيه فقل السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين،
فإنه كان يؤمر بذلك حدثنا أن الملائكة ترد عليه".
قال أبو بكر: لما كان اللفظ محتملا لسائر الوجوه التي تأوله السلف
عليها وجب أن يكون الجميع مرادا بعموم اللفظ.
(3/434)
وقوله
تعالى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} يعني أن
السلام تحية من الله; لأن الله أمر به، وهي مباركة طيبة; لأنه دعاء
بالسلامة فيبقى أثره ومنفعته. وفيه الدلالة على أن قوله: {وَإِذَا
حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}
[النساء: 86] قد أريد به السلام.
وقوله تعالى: {وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ
يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} قال الحسن وسعيد بن جبير: "في
الجهاد". وقال عطاء: "في كل أمر جامع". وقال مكحول: "في الجمعة
والقتال". وقال الزهري: "الجمعة"، وقال قتادة: "كل أمر هو طاعة لله".
قال أبو بكر: هو في جميع ذلك لعموم اللفظ. وقال سعيد عن قتادة:
{وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ} الآية، قال: "كان الله
أنزل قبل ذلك في سورة براءة: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ
لَهُمْ} [التوبة: 43] فرخص له في هذه السورة: {فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ
مِنْهُمْ} فنسخت هذه الآية التي في سورة براءة". وقد قيل: إنه لا معنى
للاستئذان للمحدث في الجمعة; لأنه لا وجه لمقامه ولا يجوز للإمام منعه،
فلا معنى للاستئذان فيه; وإنما هو فيما يحتاج الإمام فيه إلى معونتهم
في القتال أو الرأي.
وقوله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ
بَعْضِكُمْ بَعْضاً} روي عن ابن عباس قال: "يعني احذروا إذا أسخطتموه
دعاءه عليكم فإن دعاءه مجاب ليس كدعاء غيره". وقال مجاهد وقتادة:
"ادعوه بالخضوع والتعظيم نحو يا رسول الله يا نبي الله، ولا تقولوا: يا
محمد كما يقول بعضكم لبعض" قال أبو بكر: هو على الأمرين جميعا لاحتمال
اللفظ لهما.
وقوله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ
مِنْكُمْ لِوَاذاً} يعني به المنافقين الذين كانوا ينصرفون عن أمر جامع
من غير استئذان يلوذ بعضهم ببعض ويستتر به لئلا يراه النبي صلى الله
عليه وسلم منصرفاً.
قوله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} معناه: فليحذر
الذين يخالفون أمره. ودخل عليه حرف الجر لجواز ذلك في اللغة، كقوله:
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] معناه: فبنقضهم
ميثاقهم. و "الهاء" في "أمره" يحتمل أن يكون ضميرا للنبي صلى الله عليه
وسلم، ويحتمل أن يكون ضميرا لله تعالى; والأظهر أنها لله; لأنه يليه،
وحكم الكناية رجوعها إلى ما يليها دون ما تقدمها. وفيه دلالة على أن
أوامر الله على الوجوب; لأنه ألزم اللوم والعقاب لمخالفة الأمر، وذلك
يكون على وجهين: أحدهما: أن لا يقبله فيخالفه بالرد له. والثاني: أن لا
يفعل المأمور به وإن كان مقرا بوجوبه عليه ومعتقدا للزومه; فهو على
الأمرين جميعا ومن
(3/435)
قصره على
أحد الوجهين دون الآخر خصه بغير دلالة. ومن الناس من يحتج به في أن
أفعال النبي صلى الله عليه وسلم على الوجوب، وذلك أنه جعل الضمير في
"أمره" للنبي صلى الله عليه وسلم وفعله يسمى أمره، كما قال تعالى:
{وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] يعني أفعاله وأقواله.
وهذا ليس كذلك عندنا; لأن اسم الله تعالى فيه بعد اسم النبي صلى الله
عليه وسلم في قوله: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ
مِنْكُمْ لِوَاذاً} وهو الذي تليه الكناية، فينبغي أن يكون راجعا إليه
دون غيره. آخر سورة النور.
(3/436)
|