أحكام القرآن للجصاص ط العلمية

ومن سورة سبأ
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} . روي عن عطاء بن يسار قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} ثم قال: ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود: العدل في الغضب والرضا، والقصد في الغنى والفقر وخشية الله في السر والعلانية.
قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ} يدل على أن عمل التصاوير كان مباحا، وهو محظور في شريعة النبي صلى الله عليه وسلم لما روي عنه أنه قال: "لا يدخل الملائكة بيتا فيه صورة" وقال: "من صور صورة كلف يوم القيامة أن يحييها وإلا فالنار" وقال: "لعن الله المصورين" . وقد قيل فيه إن المراد من شبه الله تعالى بخلقه. آخر سورة سبأ.

(3/488)


ومن سورة فاطر
بسم الله الرحمن الرحيم
روى عكرمة قال: "ذكر عند ابن عباس يقطع الصلاة الكلب والحمار، فقرأ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} فما الذي يقطع هذا. "وروى سالم عن سعيد بن جبير: "الكلم الطيب يرفعه العمل الصالح".
قوله تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} الحلية ههنا اللؤلؤ وما يتحلى به مما يخرج من البحر. واختلف الفقهاء في المرأة تحلف أن لا تلبس حليا، فقال أبو حنيفة: "اللؤلؤ وحده ليس بحلي إلا أن يكون معه ذهب، لقوله تعالى: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} [الرعد: 17] وهذا في الذهب دون اللؤلؤ; إذ لا توقد عليه". وقوله {حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} إنما سماه حلية في حال اللبس، وهو لا يلبس وحده في العادة إنما يلبس مع الذهب، ومع ذلك فإن إطلاق لفظ الحلية عليه في القرآن لا يوجب حمل اليمين عليه، والدليل عليه قوله: {تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً} وأراد به السمك; ولو حلف أن لا يأكل لحما فأكل سمكا لم يحنث، وكذلك قوله: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} [نوح: 16] ومن حلف لا يقعد في سراج وقعد في الشمس لا يحنث.
قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فيه الإبانة عن فضيلة العلم وأن به يتوصل إلى خشية الله وتقواه; لأن من عرف توحيد الله وعدله بدلائله أوصله ذلك إلى خشية الله وتقواه; إذ كان من لا يعرف الله ولا يعرف عدله وما قصد له بخلقه لا يخشى عقابه ولا يتقيه; وقوله في آية أخرى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 8] فأخبر أن خير البرية من خشي ربه، وأخبر في الآية أن العلماء بالله هم الذين يخشونه، فحصل بمجموع الآيتين أن أهل العلم بالله هم خير البرية وإن كانوا على طبقات في ذلك. ثم وصف أهل العلم بالله الموصوفين بالخشية منه فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا

(3/489)


رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} فكان ذلك في صفة الخاشعين لله العاملين بعلمهم; وقد ذكر في آية أخرى المعرض عن موجب علمه فقال: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ} [الأعراف: 175, 176] إلى آخر القصة; فهذه صفة العالم غير العامل، والأول صفة العالم المتقي لله. وأخبر عن الأولين بأنهم واثقون بوعد الله وثوابه على أعمالهم بقوله تعالى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} .
قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} . روى بعض السلف قال: من شأن المؤمن الحزن في الدنيا ألا تراهم حين يدخلون الجنة يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن؟ وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الدنيا سجن المؤمن" ; قيل لبعض النساك: ما بال أكثر النساك محتاجين إلى ما في يد غيرهم؟ قال: لأن الدنيا سجن المؤمن، وهل يأكل المسجون إلا من يد المطلق.
قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} روي عن الحسن والضحاك قالا: "ما يعمر من معمر ولا ينقص من عمر معمر آخر". وقال الشعبي: "لا ينقص من عمره" لا ينقضي ما ينقص منه وقتا بعد وقت وساعة بعد ساعة"، والعمر هو مدة الأجل التي كتبها الله لخلقه فهو عالم بما ينقص منها بمضي الأوقات والأزمان.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} . روي عن ابن عباس ومسروق أن العمر الذي ذكر الله به أربعون سنة. وعن ابن عباس رواية وعن علي: "ستون سنة". وحدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر قال: أخبرني رجل من غفار عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لقد أعذر الله عبدا أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة، لقد أعذر الله إليه لقد أعذر الله إليه" . وحدثنا عبد الله قال: حدثنا الحسن قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن أبي خيثم عن مجاهد عن ابن عباس قال: "العمر الذي أعذر الله فيه إلى ابن آدم ستون سنة". وبإسناده عن مجاهد مثله من قوله.
قوله تعالى: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} روي عن بعض أهل التفسير أن النذير محمد صلى الله عليه وسلم وروي أنه الشيب. قال أبو بكر: ويجوز أن يكون المراد النبي صلى الله عليه وسلم وسائر ما أقام الله من الدلائل على توحيده وتصديق رسله ووعده ووعيده وما يحدث في الإنسان من حين بلوغه إلى آخر عمره من التغير والانتقال من حال إلى حال من غير صنع له فيه ولا اختيار منه له، فيكون حدثا شابا ثم كهلا ثم شيخا، وما ينقلب فيه فيما بين ذلك من

(3/490)


مرض وصحة وفقر وغناء وفرح وحزن، ثم ما يراه في غيره وفي سائر الأشياء من حوادث الدهر التي لا صنع للمخلوقين فيها; وكل ذلك داع له إلى الله ونذير له إليه كما قال: {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ} [لأعراف: 185] فأخبر أن في جميع ما خلق دلالة عليه ورادا للعباد إليه. آخر سورة فاطر.

(3/491)


ومن سورة يس
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} . حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال: أخبرنا معمر عن أبي إسحاق عن وهب بن جابر عن عبد الله بن عمر في قوله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قال: "الشمس تطلع فيراها بنو آدم حتى إذا كان يوم غربت فتحبس ما شاء الله ثم يقال: اطلعي من حيث غربت، فهو يوم لا ينفع نفسا إيمانها. الآية". قال معمر: وبلغني عن أبي موسى الأشعري أنه قال: "إذا كانت الليلة التي تطلع فيها الشمس من حيث تغرب قام المتهجدون لصلاتهم فصلوا حتى يملوا ثم يعودون إلى مضاجعهم، يفعلون ذلك ثلاث مرات، والليل كما هو والنجوم واقفة لا تسري حتى يخرج الرجل إلى أخيه ويخرج الناس بعضهم إلى بعض". قال أبو بكر: فكان معنى قوله: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} على هذا التأويل وقوفها عن السير في تلك الليلة إلى أن تطلع من مغربها. قال معمر: وبلغني أن بين أول الآيات وآخرها ستة أشهر، قيل له: وما الآيات؟ قال: زعم قتادة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "بادروا بالأعمال ستا: طلوع الشمس من مغربها والدجال والدخان ودابة الأرض وخويصة أحدكم وأمر العامة" ; قيل له: هل بلغك أي الآيات أول؟ قال: طلوع الشمس من مغربها، وقد بلغني أن رجالا يقولون: الدجال. وحدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسن قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة على أحد يقول: لا إله إلا الله" . وروى قتادة: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قال: "لوقت واحد لها لا تعدوه". قال أبو بكر: يعني أنها استقرت على سير واحد وعلى مقدار واحد لا تختلف. وقيل: {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} لأبعد منازلها في الغروب.
قوله تعالى: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} . حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الحسن في قوله: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} قال: "ذاك ليلة الهلال". قال أبو بكر: يعني والله أعلم أنها لا تدركه فتستره بشعاعها حتى تمنع من رؤيته; لأنهما مسخران

(3/492)


مقسوران على ما رتبهما الله عليه لا يمكن واحدا منهما أن يتغير عن ذلك. وقال أبو صالح: "لا يدرك أحدهما ضوء الآخر" وقيل: {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} حتى يكون نقصان ضوئها كنقصانه وقيل: "لا تدركه في سرعة السير". وحدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر قال: وبلغني أن عكرمة قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر قال: وبلغني أن عكرمة قال: "لكل واحد منهما سلطان، للقمر سلطان الليل وللشمس النهار، فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل" {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} يقول: "لا ينبغي إذا كان الليل أن يكون ليل آخر حتى يكون نهارا".
فإن قيل: هذا يدل على أن ابتداء الشهر نهار لا ليل; لأنه قال: {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} فإذا لم يسبق الليل النهار واستحال اجتماعهما معا وجب أن يكون النهار سابقا لليل فيكون ابتداء الشهور من النهار لا من الليل. قيل له: ليس تأويل الآية ما ذهبت إليه، وإنما معناها أحد الوجوه التي تقدم ذكرها عن السلف، ولم يقل أحد منهم: إن معناها أن ابتداء الشهور من النهار; فهذا تأويل ساقط بالإجماع. وأيضا فلما كانت الشهور التي تتعلق بها أحكام الشرع هي شهور الأهلة والهلال أول ما يظهر فإنما يظهر ليلا ولا يظهر ابتداء النهار، وجب أن يكون ابتداؤها من الليل; ولا خلاف بين أهل العلم أن أول ليلة من شهر رمضان هي من رمضان وأن أول ليلة من شوال هي من شوال، فثبت بذلك أن ابتداء الشهور من الليل ألا ترى أنهم يبتدءون بصلاة التراويح في أول ليلة منه؟ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا كان أول ليلة من رمضان صفدت فيه الشياطين" ، وجميع ذلك يدل على أن ابتداء الشهور من أول الليل. وقد قال أصحابنا فيمن قال: لله علي اعتكاف شهر أنه يبتدئ به من الليل; لأن ابتداء الشهور من الليل.
قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} . روي عن الضحاك وقتادة أنه أراد سفينة نوح. قال أبو بكر: فنسب الذرية إلى المخاطبين; لأنهم من جنسهم كأنه قال: ذرية الناس.
وقوله تعالى: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} . قال ابن عباس: "السفن بعد سفينة نوح" وروي عن ابن عباس رواية أخرى وعن مجاهد: "أن الإبل سفن البر".
قوله تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} . قال قتادة: "نصيره إلى حال الهرم التي تشبه حال الصبي في غروب العلم وضعف القوى". وقال غيره: "نصيره بعد القوة إلى الضعف وبعد زيادة الجسم إلى النقصان وبعد الحدة والطراوة إلى البلى". قال أبو بكر: ومثله قوله تعالى: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} [النحل: 70] وسماه أرذل العمر; لأنه لا يرجى له بعده عود من النقصان إلى الزيادة ومن الجهل إلى العلم كما يرجى

(3/493)


مصير الصبي من الضعف إلى القوة ومن الجهل إلى العلم، ونظيره قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً} [الروم: 54] .
قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} . حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر في قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} قال: بلغني أن عائشة سئلت: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتمثل بشيء من الشعر؟ فقالت: لا، إلا ببيت أخي بني قيس بن طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "يأتيك من لم تزود بالأخبار" . فقال أبو بكر: ليس هكذا يا رسول الله، قال: "إني لست بشاعر ولا ينبغي لي" . قال أبو بكر: لم يعط الله نبيه صلى الله عليه وسلم العلم بإنشاء الشعر، لم يكن قد علمه الشعر; لأنه الذي يعطي فطنة ذلك من يشاء من عباده، وإنما لم يعط ذلك لئلا تدخل به الشبهة على قوم فيما أتى به من القرآن أنه قوي على ذلك بما في طبعه من الفطنة للشعر; وإذا كان التأويل أنه لم يعطه الفطنة لقول الشعر لم يمتنع على ذلك أن ينشد شعرا لغيره، إلا أنه لم يثبت من وجه صحيح أنه تمثل بشعر لغيره، وإن كان قد روي أنه قال:
هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
وقد روي أن القائل لذلك بعض الصحابة. وأيضا فإن من أنشد شعرا لغيره أو قال بيتا أو بيتين لم يسم شاعرا ولا يطلق عليه أنه قد علم الشعر أو قد تعلمه، ألا ترى أن من لا يحسن الرمي قد يصيب في بعض الأوقات برميته ولا يستحق بذلك أن يسمى راميا ولا أنه تعلم الرمي؟ فكذلك من أنشد شعرا لغيره وأنشأ بيتا ونحوه لم يسم شاعرا.
قوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} فيه من أوضح الدليل على أن من قدر على الابتداء كان أقدر على الإعادة; إذ كان في ظاهر الأمر أن إعادة الشيء أيسر من ابتدائه، فمن قدر على الإنشاء ابتداء فهو على الإعادة أقدر فيما يجوز عليه البقاء وفيه الدلالة على وجوب القياس والاعتبار; لأنه ألزمهم قياس النشأة الثانية على الأولى.
وربما احتج بعضهم بقوله تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} على أن العظم فيه حياة فيجعله حكم الموت بموت الأصل ويكون ميتة. وليس كذلك; لأنه إنما سماه حيا مجازا; إذ كان عضوا يحيى كما قال تعالى: {يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50] ومعلوم أنه لا حياة فيها. آخر سورة يس.

(3/494)


ومن سورة والصافات
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} إلى قوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} قال أبو بكر: ظاهره يدل على أنه كان مأمورا بذبحه، فجائز أن يكون الأمر إنما تضمن معالجة الذبح لا ذبحا يوجب الموت وجائز أن يكون الأمر حصل على شريطة التخلية والتمكين منه وعلى أن لا يفديه بشيء وأنه إن فدى منه بشيء قائما مقامه. والدليل على أن ظاهره قد اقتضى الأمر قوله: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} وقوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} فلو لم يكن ظاهره قد اقتضى الأمر بالذبح لما قال: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} ولم يكن الذبح فداء عن ذبح متوقع. وروي أن إبراهيم عليه السلام كان نذر إن رزقه الله ولدا ذكرا أن يجعله ذبيحا لله، فأمر بالوفاء به. وروي أن الله تعالى ابتدأ بالأمر بالذبح على نحو ما قدمنا وجائز أن يكون الأمر ورد بذبح ابنه وذبحه فوصل الله أوداجه قبل خروج الروح وكانت الفدية لبقاء حياته.
قال أبو بكر: وعلى أي وجه تصرف تأويل الآية قد تضمن الأمر بذبح الولد إيجاب شاة في العاقبة، فلما صار موجب هذا اللفظ إيجاب شاة في المتعقب في شريعة إبراهيم عليه السلام وقد أمر الله باتباعه بقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123] وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وجب على من نذر ذبح ولده شاة.
وقد اختلف السلف وفقهاء الأمصار بعدهم في ذلك فروى عكرمة عن ابن عباس في الرجل يقول: هو نحر ابنه، قال: "كبش كما فدى إبراهيم إسحاق". وروى سفيان عن منصور عن الحكم عن علي في رجل نذر أن ينحر ابنه قال: "يهدي بدنة أو ديته شك الراوي. وعن مسروق مثل قول ابن عباس. وروى شعبة عن الحكم عن إبراهيم قال: "يحج ويهدي بدنة". وروى داود بن أبي هند عن عامر في رجل حلف أن ينحر ابنه قال: "قال بعضهم مائة من الإبل، وقال بعضهم: كبش كما فدي إسحاق".

(3/495)


قال أبو بكر: قال أبو حنيفة ومحمد: "عليه ذبح شاة" وقال أبو يوسف: "لا شيء عليه" وقال أبو حنيفة: "لو نذر ذبح عبده لم يكن عليه شيء" وقال محمد: "عليه ذبح شاة". وظاهر الآية يدل على قول أبي حنيفة في ذبح الولد; لأن هذا اللفظ قد صار عبارة عن إيجاب شاة في شريعة إبراهيم عليه السلام فوجب بقاء حكمه ما لم يثبت نسخه. وذهب أبو يوسف إلى حديث أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم" . وروى الحسن عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين" .
قال أبو بكر: لا يلزم القائلين بالقول الأول وذلك لأن قوله: "علي ذبح ولدي" لما صار عبارة عن إيجاب ذبح شاة صار بمنزلة ما لو قال: "علي ذبح شاة" ولم يكن ذلك معصية، وإنما لم يوجب أبو حنيفة على الناذر ذبح عبده شيئا; لأن هذا اللفظ ظاهره معصية ولم يثبت في الشرع عبارة عن ذبح شاة فكان نذر معصية. وقد قالوا جميعا فيمن قال: لله علي أن أقتل ولدي: إنه لا شيء عليه; لأن هذا اللفظ ظاهره معصية، ولم يثبت في الشرع عبارة عن ذبح شاة وقد روى يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال: كنت عند ابن عباس فجاءته امرأة فقالت: إني نذرت أن أنحر ابني قال: لا تنحري ابنك وكفري عن يمينك" فقال رجل عند ابن عباس: إنه لا وفاء لنذر في معصية، فقال ابن عباس: "مه قال الله تعالى في الظهار ما سمعت وأوجب فيه ما ذكره". قال أبو بكر: وليس ذلك بمخالف لما قدمنا من قول ابن عباس في إيجابه كبشا; لأنه جائز أن يكون من مذهبه إيجابهما جميعا إذا أراد بالنذر اليمين، كما قال أبو حنيفة ومحمد فيمن قال" "لله علي أن أصوم غدا" فلم يفعل وأراد اليمين أن عليه كفارة اليمين والقضاء جميعا. وقد اختلف في الذبيح من ولدي إبراهيم عليه السلام، فروي عن علي وابن مسعود وكعب والحسن وقتادة أنه إسحاق، وعن ابن عباس وابن عمر وسعيد بن المسيب ومحمد بن كعب القرظي أنه إسماعيل. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم القولان جميعاً.
ومن قال: هو إسماعيل يحتج بقوله عقيب ذكر الذبح: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً} فلما كانت البشارة بعد الذبح دل على أنه إسماعيل واحتج الآخرون بأنه ليس ببشارة بولادته وإنما هي بشارة بنبوته; لأنه قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً}.
قوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} احتج به بعض الأغمار في إيجاب القرعة في العبيد يعتقهم المريض. وذلك إغفال منه وذلك لأنه عليه السلام ساهم في طرحه في البحر، وذلك لا يجوز عند أحد من الفقهاء كما لا تجوز القرعة في قتل من

(3/496)


خرجت عليه وفي أخذ ماله، فدل على أنه خاص فيه عليه السلام دون غيره.
قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} قال ابن عباس: بل يزيدون. قيل: إن معنى "أو" ههنا الإبهام، كأنه قال: أرسلناه إلى أحد العددين، وقيل: هو على شك المخاطبين; إذ كان الله تعالى لا يجوز عليك الشك. آخر سورة الصافات.

(3/497)