أحكام القرآن للجصاص ط العلمية

ومن سورة ص
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ} روى معمر عن عطاء الخراساني عن ابن عباس قال: "لم يزل في نفسي من صلاة الضحى حتى قرأت: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ} وروى القاسم عن زيد بن أرقم قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل قبا وهم يصلون الضحى، فقال: "إن صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحى". وروى شريك عن زيد بن أبي زياد عن مجاهد عن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي بثلاث ونهاني عن ثلاث أوصاني بصلاة الضحى والوتر قبل النوم وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، ونهاني عن نقر كنقر الديك والتفات كالتفات الثعلب وإقعاء كإقعاء الكلب. وروى عطية عن أبي سعيد الخدري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى حتى نقول: لا يدعها، ويدعها حتى نقول: لا يصليها. وروي عن عائشة وأم هانئ: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى. وعن ابن عمر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها وقال ابن عمر: "هي من أحب ما أحدث الناس إلي". وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس أنه سئل عن صلاة الضحى فقال: "إنها لفي كتاب الله وما يغوص عليها إلا غواص" ثم قرأ: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} [النور:36].
قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ} قيل: إنه سخرها معه فكانت تسير معه، وجعل ذلك تسبيحا منها لله تعالى; لأن التسبيح لله هو تنزيهه عما لا يليق به فلما كان سيرها دلالة على تنزيه الله جعل ذلك تسبيحا منها له.
قوله تعالى: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} حدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن عمرو بن عبيد عن الحسن في قوله: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} قال: "جزأ داود الدهر أربعة أيام: يوما لنسائه، ويوما لقضائه، ويوما يخلو فيه لعبادة ربه، ويوما لبني إسرائيل يسألونه" وذكر الحديث. قال أبو بكر: وهذا يدل

(3/498)


على أن القاضي لا يلزمه الجلوس للقضاء في كل يوم وأنه جائز له الاقتصار على يوم من أربعة أيام، ويدل على أنه لا يجب على الزوج الكون عند امرأته في كل يوم وأنه جائز له أن يقسم لها يوما من أربعة أيام. وقال أبو عبيدة: المحراب صدر المجلس، ومنه محراب المسجد، وقيل: إن المحراب الغرفة وقوله تعالى: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} يدل على ذلك. والخصم اسم يقع على الواحد وعلى الجماعة وإنما فزع منهم داود; لأنهم دخلوا عليه في موضع صلاته على صورة الآدميين بغير إذن، فقالوا: {لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} ومعناه: أرأيت إن جاءك خصمان فقالا: بغى بعضنا على بعض؟ وإنما كان فيه هذا الضمير; لأنه معلوم أنهما كانا من الملائكة ولم يكن من بعضهم بغي على بعض والملائكة لا يجوز عليهم الكذب، فعلمنا أنهما كلماه بالمعاريض التي تخرجهما من الكذب مع تقريب المعنى بالمثل الذي ضرباه. وقولهما: {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} هو على معنى ما قدمنا من ضمير: أرأيت إن كان له تسع وتسعون نعجة؟ وأراد بالنعاج النساء.
وقد قيل: إن داود كان له تسع وتسعون امرأة، وأن أوريا بن حنان لم تكن له امرأة، وقد خطب امرأة، فخطبها داود مع علمه بأن أوريا خطبها، وتزوجها. وكان فيه شيئان مما سبيل الأنبياء التنزه عنه: أحدهما: خطبته على خطبة غيره، والثاني: إظهار الحرص على التزويج مع كثرة من عنده من النساء، ولم يكن عنده أن ذلك معصية، فعاتبه الله تعالى عليها وكانت صغيرة، وفطن حين خاطبه الملكان بأن الأولى كان به أن لا يخطب المرأة التي خطبها غيره، وقوله {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} يعني: خطبت امرأة واحدة قد كان التراضي منا وقع بتزويجها.
وما روي في أخبار القصاص من أنه نظر إلى المرأة فرآها متجردة فهويها وقدم زوجها للقتل، فإنه وجه لا يجوز على الأنبياء; لأن الأنبياء لا يأتون المعاصي مع العلم بأنها معاص; إذ لا يدرون لعلها كبيرة تقطعهم عن ولاية الله تعالى وتدل على صحة التأويل الأول أنه قال: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} فدل ذلك على أن الكلام إنما كان بينهما في الخطبة ولم يكن قد تقدم تزويج الآخر.
وقوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ} يدل على أن للخصم أن يخاطب الحاكم بمثله.
وقوله تعالى: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} من غير أن يسأل الخصم عن ذلك يدل على أنه أخرج الكلام مخرج الحكاية والمثل على ما بينا، وأن داود قد كان

(3/499)


عرف ذلك من فحوى كلامه، لولا ذلك لما حكم بظلمه قبل أن يسأل فيقر عنده أو تقوم عليه البينة به.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} وهو يعني الشركاء يدل على أن العادة في أكثر الشركاء الظلم والبغي. ويدل عليه أيضا قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} قوله تعالى: {وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} يدل على أنه عليه السلام لم يقصد المعصية بديا وأن كلام الملكين أوقع له الظن بأنه قد أتى معصية وأن الله تعالى قد شدد عليه المحنة بها; لأن الفتنة في هذا الموضع تشديد التعبد والمحنة، فحينئذ علم أن ما أتاه كان معصية واستغفر منها.
وقوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ} روى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس قالرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سجد في ص وليست من العزائم. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سجدة ص: "سجدها داود توبة ونحن نسجدها شكرا" . وروى الزهري عن السائب بن يزيد أنه رأى عمر سجد في "ص". وروى عثمان وابن عمر مثله. وقال مجاهد: قلت لابن عباس: من أين أخذت سجدة "ص "؟ قال: فتلا علي: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] فكان داود سجد فيها فلذلك سجد فيها النبي صلى الله عليه وسلم، وروى مسروق عن ابن مسعود أنه كان لا يسجد فيها ويقول: "هي توبة نبي". وقول ابن عباس في رواية سعيد بن جبير أن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها اقتداء بداود لقوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] يدل على أنه رأى فعلها واجبا; لأن الأمر على الوجوب، وهو خلاف رواية عكرمة عنه أنها ليست من عزائم السجود. ولما سجد النبي صلى الله عليه وسلم فيها كما سجد في غيرها من مواضع السجود دل على أنه لا فرق بينها وبين سائر مواضع السجود. وأما قول عبد الله "إنها ليست بسجدة; لأنها توبة نبي" فإن كثيرا من مواضع السجود إنما هو حكايات عن قوم مدحوا بالسجود نحو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف:206] وهو موضع السجود للناس بالاتفاق وقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً} [لاسراء: 107] ونحوها من الآي التي فيها حكاية سجود قوم فكانت مواضع السجود، وقوله: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق:21] يقتضي لزوم فعله عند سماع القرآن فلو خلينا والظاهر أوجبناه في سائر القرآن فمتى اختلفنا في موضع منه فإن الظاهر يقتضي وجوب فعله إلا أن تقوم الدلالة على غيره وأجاز أصحابنا الركوع عن سجود التلاوة وذكر محمد بن الحسن، أنه قد روي في تأويل قوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعاً} أن معناه خر ساجدا فعبر بالركوع عن

(3/500)


السجود فجاز أن ينوب عنه; إذ صار عبارة عنه.
قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ} روى أشعث عن الحسن قال "العلم بالقضاء" وعن شريح قال "الشهود والإيمان" وعن أبي حصين عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: "فصل الخطاب" قال الخصوم. قال أبو بكر الفصل بين الخصوم بالحق وهذا يدل على أن فصل القضاء واجب على الحاكم إذا خوصم إليه وأنه غير جائز له إهمال الحكم وهو يبطل قول من يقول: إن الناكل عن اليمين يحبس حتى يقر أو يحلف; لأن فيه إهمال الحكم وترك الفصل، وروى الشعبي عن زياد أن فصل الخطاب" أما بعد" وليس زياد ممن يعتد به في الأقاويل ولكنه قد روي وعسى أن يكون ذهب إلى أنه فصل بين الدعاء في صدر الكتاب وبين الخطاب المقصود به الكتاب.
قوله تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا الحارث بن أبي أسامة قال حدثنا أبو عبيد القاسم بن سلام قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن سلمة عن حميد عن الحسن قال "إن الله أخذ على الحكام ثلاثا: أن لا يتبعوا الهوى وأن يخشوه ولا يخشوا الناس، وأن لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا" ثم قرأ: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى} الآية، وقرأ: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا} إلى قوله: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44]. وروى سليمان بن حرب عن حماد بن أبي سلمة عن حميد قال: لما استقضي إياس بن معاوية أتاه الحسن، فبكى إياس فقال له الحسن: ما يبكيك يا أبا وائلة؟ قال: بلغني أن القضاة ثلاثة اثنان في النار وواحد في الجنة رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار ورجل مال به الهوى فهو في النار ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة. قال الحسن: إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} [الانبياء: 78] إلى قوله: {وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الانبياء: 79] فأثنى على سليمان ولم يذم داود ثم قال الحسن: إن الله أخذ على الحكام ثلاثا، وذكر نحو الحديث الأول.
قال أبو بكر: قد بين في حديث أبي بريدة معنى ما ذكر في الحديث الذي رواه إياس بن معاوية أن القاضي إذا أخطأ فهو في النار، وهو ما حدثنا محمد بن بكر البصري قال: حدثنا أبو داود السجستاني قال: حدثنا محمد بن حسان السمني قال حدثنا خلف بن خليفة عن أبي هاشم عن ابن بريدة عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القضاة ثلاثة: واحد في الجنة، واثنان في النار فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل

(3/501)


عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار" فأخبر أن الذي في النار من المخطئين هو الذي تقدم على القضاء بجهل.
قوله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} إلى قوله: {بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} . قال مجاهد: صفون الفرس رفع إحدى يديه حتى تكون على طرف الحافر وذاك من عادة الخيل والجياد السراع من الخيل، يقال فرس جواد، إذا جاد بالركض.
قوله تعالى: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} يحتمل وجهين. أحدهما: إني أحببت حب الخير الذي ينال بهذا الخيل فشغلت به عن ذكر ربي، وهو الصلاة التي كان يفعلها في ذلك الوقت، ويحتمل: إني أحببت حب الخير، وهو يريد به الخيل نفسها فسماها خيرا لما ينال بها من الخير بالجهاد في سبيل الله وقتال أعدائه. ويكون قوله {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} معناه أن ذلك من ذكري لربي وقيامي بحقه في اتخاذ هذا الخيل.
قوله تعالى: {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} روي عن ابن مسعود "حتى توارت الشمس بالحجاب" قال أبو بكر وهو كقول لبيد:
حتى إذا ألقت يدا في كافر ... وأجن عورات الثغور ظلامها
وكقول حاتم:
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر
فأضمر النفس في قوله: "حشرجت" وقال غير ابن مسعود: "حتى توارث الخيل بالحجاب". وقوله تعالى: {رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} روي عن ابن عباس أنه جعل يمسح أعراف الخيل وعراقيبها حبا لها وهذا كما حدثنا محمد بن بكر قال حدثنا أبو داود قال حدثنا هارون بن عبد الله قال حدثنا هشام بن سعيد الطالقاني قال أخبرنا محمد بن المهاجر قال حدثني عقيل بن شبيب عن أبي وهب الجشمي وكانت له صحبة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ارتبطوا الخيل وامسحوا بنواصيها وأعجازها" أو قال "أكفالها وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار" . فجائز أن يكون سليمان إنما مسح أعرافها وعراقيبها على نحو ما ندب إليه نبينا صلى الله عليه وسلم وقد روي عن الحسن أنه كشف عراقيبها وضرب أعناقها وقال "لا تشغليني عن عبادة ربي مرة أخرى". والتأويل الأول أصح والثاني جائز ومن تأوله على الوجه الثاني يستدل به على إباحة لحوم الخيل; إذ لم يكن ليتلفها بلا نفع، وليس كذلك; لأنه جائز أن يكون محرم الأكل وتعبد الله بإتلافه، ويكون المنفعة في تنفيذ الأمر دون غيره. ألا ترى أنه كان جائزا أن يميته الله تعالى ويمنع الناس

(3/502)


من الانتفاع بأكله فكان جائزا أن يتعبد بإتلافه ويحظر الانتفاع بأكله بعده.
وقوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} روي عن ابن عباس أن امرأة أيوب قال لها إبليس إن شفيته تقولين لي أنت شفيته فأخبرت بذلك أيوب فقال "إن شفاني الله ضربتك مائة سوط فأخذ شماريخ قدر مائة فضربها ضربة واحدة. قال عطاء وهي للناس عامة. وحدثنا عبد الله بن محمد بن إسحاق قال حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر عن قتادة في قوله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} فأخذ عودا فيه تسعة وتسعون عودا والأصل تمام المائة فضرب به امرأته وذلك أن امرأته أرادها الشيطان على بعض الأمر فقال لها: قولي لزوجك يقول كذا وكذا فقالت له قل كذا وكذا فحلف حينئذ أن يضربها فضربها تحلة ليمينه وتخفيفا على امرأته.
قال أبو بكر وفي هذه الآية دلالة على أن من حلف أن يضرب عبده عشرة أسواط فجمعها كلها وضربه ضربة واحدة أنه يبر في يمينه إذا أصاب جميعها; لقوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} والضغث هو ملء الكف من الخشب أو السياط أو الشماريخ ونحو ذلك فأخبر الله تعالى أنه إذا فعل ذلك فقد بر في يمينه; لقوله {وَلا تَحْنَثْ} .
وقد اختلف الفقهاء في ذلك فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد "إذا ضربه ضربة واحدة بعد أن يصيبه كل واحدة منه فقد بر في يمينه" وقال مالك والليث لا يبر وهذا القول خلاف الكتاب لأن الله تعالى قد أخبر أن فاعل ذلك لا يحنث، وقد روي عن مجاهد أنه قال هي لأيوب خاصة وقال عطاء للناس عامة. قال أبو بكر دلالة الآية ظاهرة على صحة القول الأول من وجهين أحدهما: أن فاعل ذلك يسمى ضاربا لما شرط من العدد، وذلك يقتضي البر في يمينه. والثاني أنه لا يحنث; لقوله: {وَلا تَحْنَثْ} وزعم بعض من يحتج لمذهب مالك أن ذلك لأيوب خاصة; لأنه قال: {فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} فلما أسقط عنه الحنث كان بمنزلة من جعلت عليه الكفارة فأداها أو بمنزلة من لم يحلف على شيء وهذا حجاج ظاهر السقوط لا يحتج بمثله من يعقل ذلك; لتناقضه واستحالته ومخالفته لظاهر الكتاب. وذلك لأن الله تعالى أخبر أنه إذا فعل ذلك لم يحنث واليمين تتضمن شيئين حنثا أو برا فإذا أخبر الله أنه لا يحنث فقد أخبر بوجود البر; إذ ليس بينهما واسطة فتناقضه واستحالته من جهة أن قوله هذا يوجب أن كل من بر في يمينه بأن يفعل المحلوف عليه كان بمنزلة من جعلت عليه الكفارة على قضيته لسقوط الحنث، ولو كان لأيوب خاصة وكان عبادة تعبد بها دون

(3/503)


غيره كان لله أن يسقط عنه الحنث ولا يلزمه شيئا، وإن لم يضربها بالضغث فلا معنى على قوله لضربها بالضغث; إذ لم يحصل به بر في اليمين. وزعم هذا القائل أن لله تعالى أن يتعبد بما شاء في الأوقات وفيما تعبدنا به ضرب الزاني قال: ولو ضربه ضربة واحدة بشماريخ لم يكن حدا قال أبو بكر: أما ضرب الزاني بشماريخ فلا يجوز إذا كان صحيحا سليما، وقد يجوز إذا كان عليلا يخاف عليه; لأنه لو أفرد كل ضربة لم يجز إذا كان صحيحا، ولو جمع أسواطا فضربه بها وأصابه كل واحد منها أعيد عليه ما وقع عليه من الأسواط، وإن كانت مجتمعة فلا فرق بين حال الجمع والتفريق. وأما في المرض فجائز أن يقتصر من الضرب على شماريخ أو درة أو نحو ذلك، فيجوز أن يجمعه أيضا فيضربه به ضربة. وقد روي في ذلك ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن سعيد الهمداني قال: حدثنا ابن وهب قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب قال: أخبرني أبو أمامة بن سهل بن حنيف، أنه أخبره بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار: أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى فعاد جلدة على عظم، فدخلت عليه جارية لبعضهم فهش لها فوقع عليها، فلما دخل عليه رجال قومه يعودونه أخبرهم بذلك وقال: استفتوا لي النبي صلى الله عليه وسلم فإني قد وقعت على جارية دخلت علي فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما رأينا أحدا به من الضر مثل الذي هو به لو حملناه إليك لتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظم، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له شماريخ مائة شمراخ فيضربوه بها ضربة واحدة. ورواه بكير بن عبد الله بن الأشج عن أبي أمامة بن سهل عن سعيد بن سعد، وقال فيه: "فخذوا عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه بها ضربة واحدة" ، ففعلوا وهو سعيد بن سعد بن عبادة، وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وأبو أمامة بن سهل بن حنيف هذا ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فصل
وفي هذه الآية دلالة على أن للزوج أن يضرب امرأته تأديبا، لولا ذلك لم يكن أيوب ليحلف عليه ويضربها، ولما أمره الله تعالى بضربها بعد حلفه. والذي ذكره الله في القرآن وأباحه من ضرب النساء إذا كانت ناشزا بقوله: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوَزهُنً} إلى قوله: {وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء: 34] وقد دلت قصة أيوب على أن له ضربها تأديبا لغير نشوز. وقوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] فما روي من القصة فيه يدل على مثل دلالة قصة أيوب; لأنه روي أن رجلا لطم امرأته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأراد أهلها القصاص، فأنزل الله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ

(3/504)


اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34]. وفي الآية دليل على أن للرجل أن يحلف ولا يستثني; لأن أيوب حلف ولم يستثن. ونظيره من سنة النبي صلى الله عليه وسلم قوله في قصة الأشعريين حين استحملوه فقال: "والله لا أحملكم" ولم يستثن، ثم حملهم وقال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" . وفيها دليل على أن من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها ثم فعل المحلوف عليه أن عليه الكفارة; لأنه لو لم تجب كفارة لترك أيوب ما حلف عليه، ولم يحتج إلى أن يضربها بالضغث وهو خلاف قول من قال: "لا كفارة عليه إذا فعل ما هو خير" . وقد روي فيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وذلك كفارته" . وفيها دليل على أن التعزير يجاوز به الحد; لأن في الخبر أنه حلف أن يضربها مائة فأمره الله تعالى بالوفاء به. إلا أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين" . وفيها دليل على أن اليمين إذا كانت مطلقة فهي على المهلة وليست على الفور; لأنه معلوم أن أيوب لم يضرب امرأته في فور صحته، ويدل على أن من حلف على ضرب عبده أنه لا يبر إلا أن يضربه بيده، لقوله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} إلا أن أصحابنا قالوا فيمن لا يتولى الضرب بيده: "إن أمر غيره بضربه لا يحنث للعرف". وفيها دليل على أن الاستثناء لا يصح إلا أن يكون متصلا باليمين; لأنه لو صح الاستثناء متراخيا عنها لأمر بالاستثناء ولم يؤمر بالضرب. وفيها دليل على جواز الحيلة في التوصل إلى ما يجوز فعله ودفع المكروه بها عن نفسه وعن غيره; لأن الله تعالى أمره بضربها بالضغث; ليخرج به من اليمين ولا يصل إليها كثير ضرر. آخر سورة ص.

(3/505)


ومن سورة الزمر
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} "ثم" راجعة إلى صلة الكلام، كأنه قال: خلقكم من نفس واحدة ثم أخبركم أنه جعل منها زوجها; لأنه لا يصح رجوعها إلى المخلوقين من الأولاد على معنى الترتيب; لأن الوالدين قبل الولد. وهو مثل قوله: {ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46] وقوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً} [الأنعام: 154] ونحو ذلك آخر سورة الزمر.

(3/506)


ومن سورة المؤمن
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً} روى سفيان عن منصور عن إبراهيم في قوله: {يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً} قال: بني بالآجر، وكانوا يكرهون أن يبنوا بالآجر ويجعلونه في قبورهم".
وقوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} روى الثوري عن الأعمش ومنصور عن سبيع الكندي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الدعاء هو العبادة ثم قرأ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} الآية".
وقوله تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} هذه الآية تدل على عذاب القبر; لقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} فدل على أن المراد بقوله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} قبل القيامة. آخر سورة المؤمنون.

(3/507)


ومن سورة حم السجدة
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً} . فيه بيان أن ذلك أحسن قول ودل بذلك على لزوم فرض الدعاء إلى الله; إذ لا جائز أن يكون النفل أحسن من الفرض، فلو لم يكن الدعاء إلى الله فرضا، وقد جعله من أحسن قول اقتضى ذلك أن يكون النفل أحسن من الفرض، وذلك ممتنع.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} الآية. قيل: إن الملائكة تتنزل عليهم عند الموت فيقولون لا تخف مما أنت قادم عليه فيذهب الله خوفه، ولا تحزن على الدنيا، ولا على أهلها فيذهب الله خوفه، وأبشر بالجنة وروي ذلك عن زيد بن أسلم. وقال غيره: إنما يقولون له ذلك في القيام عند الخروج من القبر فيرى تلك الأهوال، فيقول له الملائكة: لا تخف ولا تحزن فإنما يراد بهذا غيرك، ويقولون له: نحن أولياؤك في الحياة الدنيا، فلا يفارقونه تأنيسا له إلى أن يدخل الجنة. وقال أبو العالية: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} قال: "أخلصوا له الدين والعمل والدعوة".
قوله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} قال بعض أهل العلم: ذكر الله العدو فأخبر بالحيلة فيه حتى تزول عداوته ويصير كأنه ولي، فقال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} الآية. قال: وأنت ربما لقيت بعض من ينطوي لك على عداوة وضغن فتبدأه بالسلام أو تبسم في وجهه فيلين لك قلبه ويسلم لك صدره. قال: ثم ذكر الله الحاسد فعلم أن لا حيلة عندنا فيه ولا في استملاك سخيمته واستخراج ضغينته، فقال تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:1] إلى قوله: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق:5] فأمر بالتعوذ منه حين علم أن لا حيلة عندنا في رضاه.
قوله تعالى: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} الآية. قال أبو بكر: اختلف في موضع السجود من هذه السورة، فروي عن ابن عباس ومسروق وقتادة أنه عند قوله {وَهُمْ

(3/508)


لا يَسْأَمُونَ} وروي عن أصحاب عبد الله والحسن وأبي عبد الرحمن أنه عند قوله: {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} قال أبو بكر الأولى أنها عند آخر الآيتين; لأنه تمام الكلام، ومن جهة أخرى أن السلف لما اختلفوا كان فعله بالآخر منهما أولى; لاتفاق الجميع على جواز فعلها بأخراهما واختلافهم في جوازها بأولاهما.
قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً} الآية. يدل على أنه لو جعله أعجميا كان أعجميا فكان يكون قرآنا أعجميا، وأنه إنما كان عربيا; لأن الله أنزله بلغة العرب، وهذا يدل على أن نقله إلى لغة العجم لا يخرجه ذلك من أن يكون قرآنا. آخر سورة حم السجدة.

(3/509)