أحكام القرآن للجصاص ط العلمية

ومن سورة محمد صلى الله عليه وسلم
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} قال أبو بكر: قد اقتضى ظاهره وجوب القتل لا غير إلا بعد الإثخان، وهو نظير قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] حدثنا جعفر بن محمد بن الحكم قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا عبد الله بن صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] قال: "ذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم أنزل الله - تعالى - بعد هذا في الأسارى: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} فجعل الله النبي والمؤمنين في الأسارى بالخيار، إن شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا استعبدوهم، وإن شاءوا فادوهم شك أبو عبيد في "، وإن شاءوا استعبدوهم". وحدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا أبو مهدي وحجاج كلاهما عن سفيان قال: سمعت السدي يقول في قوله: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} قال: هي منسوخة نسخها قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5].
قال أبو بكر: أما قوله: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} وقوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال: 67] وقوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الأنفال: 57] فإنه جائز أن يكون حكما ثابتا غير منسوخ وذلك; لأن الله - تعالى - أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بالإثخان بالقتل وحظر عليه الأسر إلا بعد إذلال المشركين وقمعهم، وكان ذلك في وقت قلة عدد المسلمين وكثرة عدد عدوهم من المشركين، فمتى أثخن المشركون وأذلوا بالقتل والتشريد جاز الاستبقاء. فالواجب أن يكون هذا حكما ثابتا إذا وجد مثل الحال التي كان عليها المسلمون في أول الإسلام وأما قوله: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ظاهره يقتضي أحد شيئين من من أو فداء، وذلك ينفي جواز القتل.

(3/519)


وقد اختلف السلف في ذلك، حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا جعفر بن محمد بن اليمان قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا حجاج عن مبارك بن فضالة عن الحسن أنه كره قتل الأسير وقال: "من عليه أو فاده". وحدثنا جعفر قال: حدثنا جعفر قال: حدثنا أبو عبيد قال: أخبرنا هشيم قال: أخبرنا أشعث قال: سألت عطاء عن قتل الأسير، فقال: "من عليه أو فاده" قال: وسألت الحسن، قال: "يصنع به ما صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسارى بدر، يمن عليه أو يفادى به" وروي عن ابن عمر أنه دفع إليه عظيم من عظماء إصطخر ليقتله، فأبى أن يقتله وتلا قوله: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} . وروي أيضا عن مجاهد ومحمد بن سيرين كراهة قتل الأسير، وقد روينا عن السدي أن قوله: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} منسوخ بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] وروي مثله عن ابن جريج، حدثنا جعفر قال: حدثنا جعفر قال: حدثنا أبو عبيد قال: حدثنا حجاج عن ابن جريج قال: "هي منسوخة" وقال: قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط يوم بدر صبرا.
قال أبو بكر: اتفق فقهاء الأمصار على جواز قتل الأسير لا نعلم بينهم خلافا فيه، وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم في قتله الأسير، منها قتله عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث بعد الأسر يوم بدر، وقتل يوم أحد أبا عزة الشاعر بعدما أسر، وقتل بني قريظة بعد نزولهم على حكم سعد بن معاذ. فحكم فيهم بالقتل وسبي الذرية ومن على الزبير بن باطا من بينهم، وفتح خيبر بعضها صلحا وبعضها عنوة، وشرط على ابن أبي الحقيق أن لا يكتم شيئا فلما ظهر على خيانته وكتمانه قتله، وفتح مكة وأمر بقتل هلال بن خطل ومقيس بن صبابة وعبد الله بن سعد بن أبي سرح وآخرين وقال: "اقتلوهم، وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة" ومن على أهل مكة ولم يغنم أموالهم. وروي عن صالح بن كيسان عن محمد بن عبد الرحمن عن أبيه عبد الرحمن بن عوف أنه سمع أبا بكر الصديق يقول: "وددت أني يوم أتيت بالفجاءة لم أكن أحرقته وكنت قتلته صريحا أو أطلقته نجيحا" وعن أبي موسى أنه قتل دهقان السوس بعدما أعطاه الأمان على قوم سماهم ونسي نفسه فلم يدخلها في الأمان فقتله فهذه آثار متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة في جواز قتل الأسير وفي استبقائه واتفق فقهاء الأمصار على ذلك، وإنما اختلفوا في فدائه، فقال أصحابنا جميعا: "يفادى الأسير بالمال ولا يباع السبي من أهل الحرب فيردوا حربا" وقال أبو حنيفة: لا يفادون بأسرى المسلمين أيضا ولا يردون حربا أبدا" وقال أبو يوسف ومحمد: "لا بأس أن يفادى أسرى المسلمين بأسرى المشركين"، وهو قول الثوري والأوزاعي وقال الأوزاعي: "لا بأس ببيع السبي من أهل الحرب

(3/520)


ولا يباع الرجال إلا أن يفادى بهم المسلمون" وقال المزني عن الشافعي: "للإمام أن يمن على الرجال الذين ظهر عليهم أو يفادي بهم".
فأما المجيزون للفداء بأسرى المسلمين وبالمال فإنهم احتجوا بقوله: {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} ، وظاهره يقتضي جوازه بالمال وبالمسلمين، وبأن النبي صلى الله عليه وسلم فدى أسارى بدر بالمال, ويحتجون للفداء بالمسلمين بما روى ابن المبارك عن معمر عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين قال: أسرت ثقيف رجلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأسر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم رجلا من بني عامر بن صعصعة، فمر به على النبي صلى الله عليه وسلم وهو موثق، فأقبل إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: علام أحبس؟" قال: "بجريرة حلفائك" فقال الأسير: إني مسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو قلتها وأنت تملك أمرك لأفلحت كل الفلاح" ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فناداه أيضا، فأقبل فقال: إني جائع فأطعمني فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذه حاجتك"، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم فداه بالرجلين اللذين كانت ثقيف أسرتهما. وروى ابن علية عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن حصين: أن النبي صلى الله عليه وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين من بني عقيل ولم يذكر إسلام الأسير، وذكره في الحديث الأول ولا خلاف أنه لا يفادى الآن على هذا الوجه; لأن المسلم لا يرد إلى أهل الحرب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم شرط في صلح الحديبية لقريش أن من جاء منهم مسلما رده عليهم، ثم نسخ ذلك ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الإقامة بين أظهر المشركين وقال: "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك" وقال: "من أقام بين أظهر المشركين فقد برئت منه الذمة" . وأما ما في الآية من ذكر المن أو الفداء وما روي في أسارى بدر، فإن ذلك منسوخ بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5]. وقد روينا ذلك عن السدي وابن جريج وقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلى قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فتضمنت الآيتان وجوب القتال للكفار حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية، والفداء بالمال أو بغيره ينافي ذلك ولم يختلف أهل التفسير ونقلة الآثار أن سورة براءة بعد سورة محمد صلى الله عليه وسلم فوجب أن يكون الحكم المذكور فيها ناسخا للفداء المذكور في غيرها.
قوله تعالى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} قال الحسن" "حتى يعبد الله ولا يشرك به غيره" وقال سعيد بن جبير: "خروج عيسى ابن مريم عليه السلام فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويلقى الذئب الشاة فلا يعرض لها ولا تكون عداوة بين اثنين" وقال الفراء: "آثامها وشركها حتى لا يكون إلا مسلم أو مسالم" قال أبو بكر: فكأن

(3/521)


معنى الآية على هذا التأويل إيجاب القتال إلى أن لا يبقى من يقاتل.
وقوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} روي عن مجاهد: "لا تضعفوا عن القتال وتدعوا إلى الصلح" وحدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسن الجرجاني قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} قال: "لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها" {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} قال: "أنتم أولى بالله منهم" قال أبو بكر: فيه الدلالة على امتناع جواز طلب الصلح من المشركين. وهو بيان لما أكد فرضه من قتال مشركي العرب حتى يسلموا وقتال أهل الكتاب ومشركي العجم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، والصلح على غير إعطاء الجزية خارج عن مقتضى الآيات الموجبة لما وصفنا، فأكد النهي عن الصلح بالنص عليه في هذه الآية، وفيه الدلالة على أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدخل مكة صلحا، وإنما فتحها عنوة; لأن الله قد نهاه عن الصلح في هذه الآية وأخبر أن المسلمين هم الأعلون الغالبون، ومتى دخلها صلحا برضاهم فهم متساوون; إذ كان حكم ما يقع بتراضي الفريقين فهما متساويان فيه ليس أحدهما بأولى بأن يكون غالبا على صاحبه من الآخر.
وقوله تعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} يحتج به في أن كل من دخل في قربة لا يجوز له الخروج منها قبل إتمامها لما فيه من إبطال عمله نحو الصلاة والصوم والحج وغيره. آخر سورة محمد صلى الله عليه وسلم.

(3/522)


ومن سورة الفتح
مدخل
...
ومن سورة الفتح
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل -: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} روي أنه أراد فتح مكة، وقال قتادة: "قضينا لك قضاء مبينا" والأظهر أنه فتح مكة بالغلبة والقهر; لأن القضاء لا يتناوله الإطلاق، وإذا كان المراد فتح مكة فإنه يدل على أنه فتحها عنوة; إذ كان الصلح لا يطلق عليه اسم الفتح، وإن كان قد يعبر مقيدا; لأن من قال: "فتح بلد كذا عقل به الغلبة والقهر دون الصلح ويدل عليه قوله في نسق التلاوة: {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} . وفيه الدلالة على أن المراد فتح مكة وأنه دخلها عنوة، ويدل عليه قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] لم يختلفوا أن المراد فتح مكة ويدل عليه قوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ} وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} وذكره ذلك في سياق القصة يدل على ذلك; لأن المعنى: سكون النفس إلى الإيمان بالبصائر التي بها قاتلوا عن دين الله حتى فتحوا مكة.
وقوله تعالى: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} روي أن المراد فارس والروم، وروي أنهم بنو حنيفة فهو دليل على صحة إمامة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم; لأن أبا بكر الصديق دعاهم إلى قتال بني حنيفة ودعاهم عمر إلى قتال فارس والروم، وقد ألزمهم الله اتباع طاعة من يدعوهم إليه بقوله: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} فأوعدهم الله على التخلف عمن دعاهم إلى قتال هؤلاء، فدل على صحة إمامتهما، إذ كان المتولي عن طاعتهما مستحقا للعقاب.
فإن قيل: قد روى قتادة أنهم هوازن وثقيف يوم حنين قيل له: لا يجوز أن يكون الداعي لهم النبي صلى الله عليه وسلم; لأنه قال: {فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوّاً} [التوبة: 83] ويدل على أن المراد بالدعاء لهم غير النبي صلى الله عليه وسلم ومعلوم أنه لم يدع هؤلاء القوم بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا أبو بكر وعمر. رضي الله عنهما.

(3/523)


وقوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} فيه الدلالة على صحة إيمان الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان بالحديبية وصدق بصائرهم، فهم قوم بأعيانهم قال ابن عباس: "كانوا ألفين وخمسمائة"، وقال جابر: "ألفا وخمسمائة"، فدل على أنهم كانوا مؤمنين على الحقيقة أولياء لله; إذ غير جائز أن يخبر الله برضاه عن قوم بأعيانهم إلا وباطنهم كظاهرهم في صحة البصيرة وصدق الإيمان، وقد أكد ذلك بقوله: {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} أخبر أنه علم من قلوبهم صحة البصيرة وصدق النية، وأن ما أبطنوه مثل ما أظهروه.
وقوله تعالى: {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ} يعني الصبر بصدق نياتهم، وهذا يدل على أن التوفيق يصحب صدق النية، وهو مثل قوله: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 35].
وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ} الآية. روي عن ابن عباس أنها نزلت في قصة الحديبية، وذلك أن المشركين قد كانوا بعثوا أربعين رجلا ليصيبوا من المسلمين، فأتي بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرى فخلى سبيلهم وروي أنها نزلت في فتح مكة حين دخلها النبي صلى الله عليه وسلم عنوة فإن كانت نزلت في فتح مكة فدلالتها ظاهرة على أنها فتحت عنوة; لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} ، ومصالحتهم لا ظفر فيها للمسلمين، فاقتضى ذلك أن يكون فتحها عنوة.
وقوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} يحتج به من يجيز ذبح هدي الإحصار في غير الحرم، لإخباره بكونه محبوسا عن بلوغ محله، ولو كان قد بلغ الحرم وذبح فيه لما كان محبوسا عن بلوغ المحل. وليس هذا كما ظنوا; لأنه قد كان ممنوعا بديا عن بلوغ المحل ثم لما وقع الصلح زال المنع فبلغ محله وذبح في الحرم; وذلك لأنه إذا حصل المنع في أدنى وقت فجائز أن يقال قد منع كما قال تعالى -: {قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} [يوسف: 63] وإنما منع في وقت وأطلق في وقت آخر وفي الآية دلالة على أن المحل هو الحرم; لأنه قال: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} فلو كان محله غير الحرم لما كان معكوفا عن بلوغه، فوجب أن يكون المحل في قوله: {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] هو الحرم.

(3/524)


باب رمي المشركين مع العلم بأن فيهم أطفال المسلمين وأسراهم
قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري: "لا بأس برمي حصون المشركين، وإن كان فيها أسارى وأطفال من المسلمين، ولا بأس بأن يحرقوا الحصون

(3/524)


ويقصدوا به المشركين، وكذلك إن تترس الكفار بأطفال المسلمين رمي المشركون، وإن أصابوا أحدا من المسلمين في ذلك فلا دية ولا كفارة" وقال الثوري: "فيه الكفارة ولا دية فيه" وقال مالك: "لا تحرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسارى من المسلمين لقوله تعالى: {لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} إنما صرف النبي صلى الله عليه وسلم عنهم لما كان فيهم من المسلمين، ولو تزيل الكفار عن المسلمين لعذب الكفار". وقال الأوزاعي: "إذا تترس الكفار بأطفال المسلمين لم يرموا; لقوله: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ} الآية" قال: "ولا يحرق المركب فيه أسارى المسلمين، ويرمى الحصن بالمنجنيق، وإن كان فيه أسارى مسلمون، فإن أصاب أحدا من المسلمين فهو خطأ، وإن جاءوا يتترسون بهم رمي وقصد العدو"، وهو قول الليث بن سعد وقال الشافعي: "لا بأس بأن يرمى الحصن، وفيه أسارى أو أطفال، ومن أصيب فلا شيء فيه، ولو تترسوا ففيه قولان: أحدهما: يرمون. والآخر: لا يرمون إلا أن يكونوا ملتحمين، فيضرب المشرك ويتوقى المسلم جهده، فإن أصاب في هذه الحال مسلما فإن علمه مسلما فالدية مع الرقبة، وإن لم يعلمه مسلما فالرقبة وحدها".
قال أبو بكر: نقل أهل السير أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف ورماهم بالمنجنيق مع نهيه صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والولدان، وقد علم صلى الله عليه وسلم أنه قد يصيبهم وهو لا يجوز تعمدهم بالقتل، فدل على أن كون المسلمين فيما بين أهل الحرب لا يمنع رميهم; إذ كان القصد فيه المشركين دونهم وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن الصعب بن جثامة قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل الديار من المشركين يبيتون فيصاب من ذراريهم ونسائهم، فقال "هم منهم" . وبعث النبي صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد فقال: "أغر على أبنى1 صباحا وحرق" ، وكان يأمر السرايا بأن ينتظروا بمن يغزو بهم، فإن أذنوا للصلاة أمسكوا عنهم، وإن لم يسمعوا أذانا أغاروا" وعلى ذلك مضى الخلفاء الراشدون. ومعلوم أن من أغار على هؤلاء لا يخلو من أن يصيب من ذراريهم ونسائهم المحظور قتلهم، فكذلك إذا كان فيهم مسلمون وجب أن لا يمنع ذلك من شن الغارة عليهم ورميهم بالنشاب وغيره، وإن خيف عليه إصابة المسلم.
فإن قيل: إنما جاء ذلك; لأن ذراري المشركين منهم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الصعب بن جثامة قيل له: لا يجوز أن يكون مراده صلى الله عليه وسلم في ذراريهم أنهم منهم في
ـــــــ
1 قوله: "أبنى" بضم الهمزة وإسكان الباء الموحدة ثم نون ثم ألف مقصورة أرض بالسراة في ناجية البلقاء التي قتل فيها أبو أسامة. كذا في شرح سنن أبي داود لابن رسلان. "لمصححه".

(3/525)


الكفر; لأن الصغار لا يجوز أن يكونوا كفارا في الحقيقة ولا يستحقون القتل ولا العقوبة لفعل آبائهم في باب سقوط الدية والكفارة. وأما احتجاج من يحتج بقوله: {وَلَوْلا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} الآية، في منع رمي الكفار; لأجل من فيهم من المسلمين، فإن الآية لا دلالة فيها على موضع الخلاف وذلك; لأن أكثر ما فيها أن الله كف المسلمين عنهم; لأنه كان فيهم قوم مسلمون لم يأمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لو دخلوا مكة بالسيف أن يصيبوهم وذلك إنما يدل على إباحة ترك رميهم والإقدام عليهم، فلا دلالة على حظر الإقدام عليهم مع العلم بأن فيهم مسلمين; لأنه جائز أن يبيح الكف عنهم; لأجل المسلمين وجائز أيضا إباحة الإقدام على وجه التخيير، فإذا لا دلالة فيها على حظر الإقدام.
فإن قيل: في فحوى الآية ما يدل على الحظر، وهو قوله: {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} فلولا الحظر ما أصابتهم معرة من قتلهم بإصابتهم إياهم قيل له: قد اختلف أهل التأويل في معنى المعرة ههنا. فروي عن ابن إسحاق أنه غرم الدية، وقال غيره: الكفارة، وقال غيرهما: الغم باتفاق قتل المسلم على يده; لأن المؤمن يغتم لذلك، وإن لم يقصده وقال آخرون: العيب وحكي عن بعضهم أنه قال: "المعرة الإثم"، وهذا باطل; لأنه - تعالى - قد أخبر أن ذلك لو وقع كان بغير علم منا; لقوله تعالى: {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَأُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} ، ولا مأثم عليه فيما لم يعلمه، ولم يضع الله عليه دليلا، قال الله تعالى-: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] فعلمنا أنه لم يرد المأثم. ويحتمل أن يكون ذلك كان خاصا في أهل مكة لحرمة الحرم، ألا ترى أن المستحق للقتل إذا لجأ إليها لم يقتل عندنا؟ وكذلك الكافر الحربي إذا لجأ إلى الحرم لم يقتل، وإنما يقتل من انتهك حرمة الحرم بالجناية فيه فمنع المسلمين من الإقدام عليهم خصوصية لحرمة الحرم. ويحتمل أن يريد: ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات قد علم أنهم سيكونون من أولاد هؤلاء الكفار إذا لم يقتلوا فمنعنا قتلهم لما في معلومه من حدوث أولادهم مسلمين. وإذا كان في علم الله أنه إذا أبقاهم كان لهم أولاد مسلمون أبقاهم ولم يأمر بقتلهم وقوله: {لَوْ تَزَيَّلُوا} على هذا التأويل، لو كان هؤلاء المؤمنون الذين في أصلابهم قد ولدوهم وزايلوهم لقد كان أمر بقتلهم، وإذا ثبت ما ذكرنا من جواز الإقدام على الكفار مع العلم بكون المسلمين بين أظهرهم وجب جواز مثله إذا تترسوا بالمسلمين; لأن القصد في الحالين رمي المشركين دونهم ومن أصيب منهم فلا دية فيه ولا كفارة، كما أن من أصيب برمي حصون الكفار من المسلمين الذين في الحصن لم تكن فيه دية

(3/526)


ولا كفارة ولأنه قد أبيح لنا الرمي مع العلم بكون المسلمين في تلك الجهة، فصاروا في الحكم بمنزلة من أبيح قتله فلا يجب به شيء، وليست المعرة المذكورة دية ولا كفارة; إذ لا دلالة عليه من لفظه ولا من غيره. والأظهر منه ما يصيبه من الغم والحرج باتفاق قتل المؤمن على يده على ما جرت به العادة ممن يتفق على يده ذلك وقول من تأوله على العيب محتمل أيضا; لأن الإنسان قد يعاب في العادة باتفاق قتل الخطإ على يده، وإن لم يكن ذلك على وجه العقوبة.
قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} قيل إنه لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب صلح الحديبية أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه فكتبه، وأملى عليه: "بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اصطلح عليه محمد رسول الله وسهيل بن عمرو"، فأبت قريش أن يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم ومحمد رسول الله وقالوا: نكتب باسمك اللهم ومحمد بن عبد الله، ومنعوه دخوله مكة فكانت أنفتهم من الإقرار بذلك من حمية الجاهلية.
وقوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} روي عن ابن عباس قال: "لا إله إلا الله"، وعن قتادة مثله وقال مجاهد: "كلمة الإخلاص" وحدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسن قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في قوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قال: "بسم الله الرحمن الرحيم".
قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} قال أبو بكر: المقصد إخبارهم بأنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين متقربين بالإحرام، فلما ذكر معه الحلق والتقصير دل على أنهما قربة في الإحرام، وأن الإحلال بهما يقع، لولا ذلك ما كان للذكر ههنا وجه. وروى جابر وأبو هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا للمحلقين ثلاثا وللمقصرين مرة، وهذا أيضا يدل على أنهما قربة ونسك عند الإحلال من الإحرام. آخر سورة الفتح.

(3/527)


ومن سورة الحجرات
مدخل
...
ومن سورة الحجرات
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله عز وجل-: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} . حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسن قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أن ناسا كانوا يقولون لولا أنزل في كذا قال معمر: وكان الحسن يقول هم قوم ذبحوا قبل أن يصلي النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم أن يعيدوا الذبح" قال أبو بكر: وروي عن مسروق أنه دخل على عائشة فأمرت الجارية أن تسقيه فقال: إني صائم، وهو اليوم الذي يشك فيه، فقالت: "قد نهي عن هذا" وتلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} في صيام ولا غيره قال أبو بكر: اعتبرت عموم الآية في النهي عن مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم في قول أو فعل. وقال أبو عبيدة معمر بن المثنى: "لا تعجلوا بالأمر والنهي دونه".
قال أبو بكر: يحتج بهذه الآية في امتناع جواز مخالفة النبي صلى الله عليه وسلم في تقديم الفروض على أوقاتها وتأخيرها عنها وفي تركها، وقد يحتج بها من يوجب أفعال النبي صلى الله عليه وسلم; لأن في ترك ما فعله تقدما بين يديه، كما أن في ترك أمره تقدما بين يديه، وليس ذلك كما ظنوا; لأن التقدم بين يديه إنما هو فيما أراد منا فعله ففعلنا غيره، فأما ما لم يثبت أنه مراد منه فليس في تركه تقديم بين يديه ويحتج به نفاة القياس أيضا ويدل ذلك على جهل المحتج به; لأن ما قامت دلالته فليس في فعله تقدم بين يديه، وقد قامت دلالة الكتاب والسنة والإجماع على وجوب القول بالقياس في فروع الشرع، فليس فيه إذا تقدم بين يديه.
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} فيه أمر بتعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره، وهو نظير قوله تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9]. وروي أنها نزلت في قوم كانوا إذا سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قالوا فيه قبل النبي صلى الله عليه وسلم وأيضا لما كان في رفع الصوت على الإنسان في كلامه ضرب من ترك

(3/528)


المهابة والجرأة، نهى الله عنه; إذ كنا مأمورين بتعظيمه وتوقيره وتهييبه.
وقوله تعالى: {وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} زيادة على رفع الصوت، وذلك أنه نهى عن أن تكون مخاطبتنا له كمخاطبة بعضنا لبعض، بل على ضرب من التعظيم تخالف به مخاطبات الناس فيما بينهم، وهو كقوله: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور: 63]
وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} وروي أنها نزلت في قوم من بني تميم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فنادوه من خارج الحجرة وقالوا: اخرج إلينا يا محمد فذمهم الله تعالى بذلك.
وهذه الآيات، وإن كانت نازلة في تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم وإيجاب الفرق بينه وبين الأمة فيه، فإنه تأديب لنا فيمن يلزمنا تعظيمه من والد وعالم وناسك وقائم بأمر الدين وذي سن وصلاح ونحو ذلك; إذ تعظيمه بهذا الضرب من التعظيم في ترك رفع الصوت عليه وترك الجهر عليه والتمييز بينه وبين غيره ممن ليس في مثل حاله. وفي النهي عن ندائه من وراء الباب والمخاطبة له بلفظ الأمر; لأن الله قد ذم هؤلاء القوم بندائهم إياه من وراء الحجرة وبمخاطبته بلفظ الأمر في قولهم اخرج إلينا. حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسن الجرجاني قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن الزهري، أن ثابت بن قيس قال: يا رسول الله لقد خشيت أن أكون قد هلكت، لما نزلت هذه الآية: {لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} نهانا الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك، وأنا امرؤ جهير الصوت، ونهى الله المرء أن يحب أن يحمد بما لم يفعل وأجدني أحب الحمد ونهانا الله عن الخيلاء وأجدني أحب الجمال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ثابت أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة؟" فعاش حميدا وقتل شهيدا يوم مسيلمة الكذاب.

(3/529)


باب حكم خبر الفاسق
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ} الآية. حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق، فأتاهم الوليد فخرجوا يتلقونه ففرق ورجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ارتدوا فبعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد، فلما دنا منهم بعث عيونا ليلا فإذا هم يؤذنون ويصلون، فأتاهم خالد فلم ير منهم إلا طاعة وخيرا فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره قال: وقال معمر: فتلا قتادة: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ

(3/529)


مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} قال: فأنتم أسخف رأيا وأطيش أحلاما، فاتهم رجل رأيه وانتصح كتاب الله وروي عن الحسن قال: "والله لئن كانت نزلت في رجل يعني قوله: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} إنها لمرسلة إلى يوم القيامة ما نسخها شيء".
قال أبو بكر مقتضى الآية إيجاب التثبت في خبر الفاسق والنهي عن الإقدام على قبوله، والعمل به إلا بعد التبين والعلم بصحة مخبره; وذلك لأن قراءة هذه الآية على وجهين: "فتثبتوا" من التثبت و، {فَتَبَيَّنُوا} ، كلتاهما يقتضي النهي عن قبول خبره إلا بعد العلم بصحته; لأن قوله: "فتثبتوا" فيه أمر بالتثبت لئلا يصيب قوما بجهالة، فاقتضى ذلك النهي عن الإقدام إلا بعد العلم لئلا يصيب قوما بجهالة. وأما قوله: {فَتَبَيَّنُوا} فإن التبين هو العلم، فاقتضى أن لا يقدم بخبره إلا بعد العلم، فاقتضى ذلك النهي عن قبول شهادة الفاسق مطلقا; إذ كان كل شهادة خبرا، وكذلك سائر أخباره فلذلك قلنا شهادة الفاسق غير مقبولة في شيء من الحقوق، وكذلك إخباره في الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم وكل ما كان من أمر الدين يتعلق به من إثبات شرع أو حكم أو إثبات حق على إنسان.
واتفق أهل العلم على جواز قبول خبر الفاسق في أشياء. فمنها: أمور المعاملات يقبل فيها خبر الفاسق، وذلك نحو الهدية إذا قال: "إن فلانا أهدى إليك هذا" يجوز له قبوله وقبضه، ونحو قوله: "وكلني فلان ببيع عبده هذا" فيجوز شراؤه منه، ونحو الإذن في الدخول إذا قال له قائل: "ادخل" لا تعتبر فيه العدالة، وكذلك جميع أخبار المعاملات ويقبل في جميع ذلك خبر الصبي والعبد والذمي، وقبل النبي صلى الله عليه وسلم خبر بريرة فيما أهدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان يتصدق عليها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هي لها صدقة ولنا هدية" , فقبل قولها في أنه تصدق به عليها وأن ملك المتصدق قد زال إليها. ويقبل قول الفاسق وشهادته من وجه آخر، وهو من كان فسقه من جهة الدين باعتقاد مذهب، وهم أهل الأهواء فساق وشهادتهم مقبولة، وعلى ذلك جرى أمر السلف في قبول أخبار أهل الأهواء في رواية الأحاديث وشهادتهم، ولم يكن فسقهم من جهة التدين مانعا من قبول شهادتهم، وتقبل أيضا شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض،, وقد بيناه فيما سلف من هذا الكتاب فهذه الوجوه الثلاثة يقبل فيها خبر الفاسق، وهو مستثنى من جملة قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} لدلائل قد قامت عليه، فثبت أن مراد الآية في الشهادات، وإلزام الحقوق أو إثبات أحكام الدين والفسق التي ليست من جهة الدين والاعتقاد.
وفي هذه الآية دلالة على أن خبر الواحد لا يوجب العلم; إذ لو كان يوجب العلم بحال لما احتيج فيه إلى التثبت، ومن الناس من يحتج به في جواز قبول خبر الواحد العدل ويجعل تخصيصه الفاسق بالتثبت في خبره دليلا على أن التثبت في خبر العدل غير

(3/530)


جائز وهذا غلط; لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على أن ما عداه فحكمه بخلافه.

(3/531)


باب قتال أهل البغي
قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن الحسن: أن قوما من المسلمين كان بينهم تنازع حتى اضطربوا بالنعال والأيدي، فأنزل الله فيهم: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} ، قال معمر: قال قتادة: وكان رجلان بينهما حق تدارآ فيه، فقال أحدهما: لآخذنه عنوة; لكثرة عشيرته. وقال الآخر: بيني وبينك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعا حتى كان بينهما ضرب بالنعال والأيدي وروي عن سعيد بن جبير والشعبي قالا: كان قتالهم بالعصي والنعال وقال مجاهد هم الأوس والخزرج كان بينهم قتال بالعصي.
قال أبو بكر: قد اقتضى ظاهر الآية الأمر بقتال الفئة الباغية حتى ترجع إلى أمر الله وهو عموم في سائر ضروب القتال، فإن فاءت إلى الحق بالقتال بالعصي والنعال لم يتجاوز به إلى غيره، وإن لم تفئ بذلك قوتلت بالسيف على ما تضمنه ظاهر الآية وغير جائز; لأحد الاقتصار على القتال بالعصي دون السلاح مع الإقامة على البغي وترك الرجوع إلى الحق، وذلك أحد ضروب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذاك أضعف الإيمان" ، فأمر بإزالة المنكر باليد ولم يفرق بين السلاح وما دونه، فظاهره يقتضي وجوب إزالته بأي شيء أمكن.
وذهب قوم من الحشو إلى أن قتال أهل البغي إنما يكون بالعصي والنعال وما دون السلاح وأنهم لا يقاتلون بالسيف، واحتجوا بما روينا من سبب نزول الآية وقتال القوم الذين تقاتلوا بالعصي والنعال، وهذا لا دلالة فيه على ما ذكروا; لأن القوم تقاتلوا بما دون السلاح، فأمر الله - تعالى - بقتال الباغي منهما ولم يخصص قتالنا إياه بما دون السلاح وكذلك نقول متى ظهر لنا قتال من فئة على وجه البغي قابلناه بالسلاح وبما دونه حتى ترجع إلى الحق، وليس في نزول الآية على حال قتال الباغي لنا بغير سلاح ما يوجب أن يكون الأمر بقتالنا إياهم مقصورا على ما دون السلاح مع اقتضاء عموم اللفظ للقتال بسلاح وغيره. ألا ترى أنه لو قال: "من قاتلكم بالعصي فقاتلوه بالسلاح" لم يتناقض القول به؟ فكذلك أمره إيانا بقتالهم; إذ كان عمومه يقتضي القتال بسلاح وغيره، وجب أن يجرى على عمومه وأيضا قاتل علي بن أبي طالب الفئة الباغية بالسيف

(3/531)


ومعه من كبراء الصحابة وأهل بدر من قد علم مكانهم، وكان محقا في قتاله لهم لم يخالف فيه أحد إلا الفئة الباغية التي قابلته وأتباعها وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمار: "تقتلك الفئة الباغية" وهذا خبر مقبول من طريق التواتر. حتى إن معاوية لم يقدر على جحده" لما قال له عبد الله بن عمر، فقال: إنما قتله من جاء به فطرحه بين أسنتنا رواه أهل الكوفة وأهل البصرة وأهل الحجاز وأهل الشام، وهو علم من أعلام النبوة; لأنه خبر عن غيب لا يعلم إلا من جهة علام الغيوب. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في إيجاب قتال الخوارج وقتلهم أخبار كثيرة متواترة، منها حديث أنس وأبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سيكون في أمتي اختلاف وفرقة قوم يحسنون القول ويسيئون العمل يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية لا يرجعون حتى يرتد على فوقه هم شر الخلق والخليقة طوبى لمن قتلهم أو قتلوه يدعون إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء من قتلهم كان أولى بالله منهم قالوا: يا رسول الله ما سيماهم؟ قال التحليق" . وروى الأعمش عن خيثمة عن سويد بن غفلة قال: سمعت عليا يقول: إذا حدثتكم بشيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأن أخر من السماء فتخطفني الطير أحب إلي من أن أكذب عليه، وإذا حدثتكم فيما بيننا فإن الحرب خدعة، وإني سمعته صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرج قوم في آخر الزمان أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقولون من خير قول البرية لا يجاوز إيمانهم حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فإن لقيتموهم فاقتلوهم فإن قتلهم أجر لمن قتلهم يوم القيامة". ولم يختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوب قتال الفئة الباغية بالسيف إذا لم يردعها غيره. ألا ترى أنهم كلهم رأوا قتال الخوارج ولو لم يروا قتال الخوارج وقعدوا عنهم لقتلوهم وسبوا ذراريهم ونساءهم واصطلموهم؟.
فإن قيل: قد جلس عن علي جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم سعد ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وابن عمر قيل له: لم يقعدوا عنه; لأنهم لم يروا قتال الفئة الباغية، وجائز أن يكون قعودهم عنه; لأنهم رأوا الإمام مكتفيا بمن معه مستغنيا عنهم بأصحابه، فاستجازوا القعود عنه لذلك ألا ترى أنهم قد قعدوا عن قتال الخوارج لا على أنهم لم يروا قتالهم واجبا لكنه لما وجدوا من كفاهم قتل الخوارج استغنوا عن مباشرة قتالهم؟.
فإن احتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ستكون فتنة القائم فيها خير من الماشي والقاعد فيها خير من القائم". قيل له: إنما أراد به الفتنة التي يقتتل الناس فيها على طلب الدنيا وعلى جهة العصبية والحمية من غير قتال مع إمام تجب طاعته، فأما إذا ثبت أن إحدى الفئتين باغية والأخرى عادلة مع الإمام فإن قتال الباغية واجب مع الإمام ومع من قاتلهم محتسبا في قتالهم.

(3/532)


فإن قالوا: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأسامة بن زيد: "قتلته وهو قد قال لا إله إلا الله" إنما يردد ذلك مرارا، فوجب أن لا يقاتل من قال لا إله إلا الله ولا يقتل قيل له; لأنهم كانوا يقاتلون وهم مشركون حتى يقولوا: لا إله إلا الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" . فكانوا إذا أعطوا كلمة التوحيد أجابوا إلى ما دعوا إليه من خلع الأصنام واعتقاد التوحيد. ونظير ذلك أن يرجع البغاة إلى الحق فيزول عنهم القتال; لأنهم إنما يقاتلون على إقامتهم على قتال أهل العدل، فمتى كفوا عن القتال ترك قتالهم، كما يقاتل المشركون على إظهار الإسلام فمتى أظهروه زال عنهم، ألا ترى أن قطاع الطريق والمحاربين يقاتلون ويقتلون مع قولهم لا إله إلا الله.

(3/533)


باب ما يبدأ به أهل البغي
ما يبدأ به أهل البغي قال الله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} قال أبو بكر أمر الله عند ظهور القتال منهم بالإصلاح بينهما، وهو أن يدعوا إلى الصلاح والحق وما يوجبه الكتاب والسنة والرجوع عن البغي، وقوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى} يعني والله أعلم -: إن رجعت إحداهما إلى الحق وأرادت الصلاح وأقامت الأخرى على بغيها وامتنعت من الرجوع فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فأمر تعالى بالدعاء إلى الحق قبل القتال، ثم إن أبت الرجوع قوتلت. وكذا فعل علي بن أبي طالب كرم الله وجهه بدأ بدعاء الفئة الباغية إلى الحق واحتج عليهم، فلما أبوا القبول قاتلهم.
وفي هذه الآية دلالة على أن اعتقاد مذاهب أهل البغي لا يوجب قتالهم ما لم يقاتلوا; لأنه قال: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} ، فإنما أمر بقتالهم إذا بغوا على غيرهم بالقتال، وكذلك فعل علي بن أبي طالب مع الخوارج; وذلك لأنهم حين اعتزلوا عسكره بعث إليهم عبد الله بن عباس فدعاهم، فلما أبوا الرجوع ذهب إليهم فحاجهم فرجعت منهم طائفة وأقامت طائفة على أمرها، فلما دخلوا الكوفة خطب فحكمت الخوارج من نواحي المسجد وقالت: لا حكم إلا لله فقال علي: "كلمة حق يراد بها باطل، أما إن لهم ثلاثا: أن لا نمنعهم مساجد الله أن يذكروا فيها اسمه، وأن لا نمنعهم حقهم من الفيء ما دامت أيديهم مع أيدينا، وأن لا نقاتلهم حتى يقاتلونا.

(3/533)


باب الأمر فيما يؤخذ من أموال البغاة
قال أبو بكر: اختلف أهل العلم في ذلك، فقال محمد في الأصل: "لا يكون غنيمة ويستعان بكراعهم وسلاحهم على حربهم، فإذا وضعت الحرب أوزارها رد المال عليهم ويرد الكراع أيضا عليهم إذا لم يبق من البغاة أحد، وما استهلك فلا شيء فيه" وذكر إبراهيم بن الجراح عن أبي يوسف قال: "ما وجد في أيدي أهل البغي من كراع أو سلاح فهو فيء يقسم ويخمس، وإذا تابوا لم يؤخذوا بدم ولا مال استهلكوه". وقال مالك: "ما استهلكه الخوارج من دم أو مال ثم تابوا لم يؤخذوا به، وما كان قائما بعينه رد"، وهو قول الأوزاعي والشافعي. وقال الحسن بن صالح: "إذا قوتل اللصوص المحاربون فقتلوا وأخذ ما معهم فهو غنيمة لمن قاتلهم بعد إخراج الخمس إلا أن يكون شيء يعلم أنهم سرقوه من الناس".
قال أبو بكر: واختلفت الرواية عن علي - كرم الله وجهه - في ذلك، فروى فطر بن خليفة عن منذر بن يعلى عن محمد ابن الحنفية قال قسم أمير المؤمنين علي رضي الله عنه يوم الجمل فيأهم بين أصحابه ما قوتل به من الكراع والسلاح" فاحتج من جعله غنيمة بهذا الحديث، وهذا ليس فيه دلالة على أنه غنيمة; لأنه جائز أن يكون قسم ما حصل في يده من كراع أو سلاح ليقاتلوا به قبل أن تضع الحرب أوزارها ولم يملكهم ذلك على ما قال محمد في الأصل. وقد روى عكرمة بن عمار عن أبي زميل عن عبد الله بن الدولي عن ابن عباس أن الخوارج نقموا على علي رضي الله عنه أنه لم يسب ولم يغنم، فحاجهم بأن قال لهم: "أفتسبون أمكم عائشة ثم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها؟ فلئن فعلتم لقد كفرتم. " وروى أبو معاوية عن الصلت بن بهرام عن أبي وائل قال: سألته أخمس علي رضي الله عنه أموال أهل الجمل؟ قال: لا وقال الزهري: "وقعت الفتنة وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم متوافرون، وأجمعوا أن كل دم أريق على وجه التأويل أو مال استهلك على وجه التأويل فلا ضمان فيه". ويدل على أنه لا تغنم أموالهم التي ليست معهم مما تركوه في ديارهم لا تغنم، وإن قتلوا، كذلك ما معهم منها، ألا ترى أن أهل الحرب لا يختلف فيما يغنم من أموالهم ما معهم، وما تركوه منها في ديارهم أن ما حصل في أيدينا منها مغنوم؟ وأنه لا خلاف أنه لا تسبى ذراريهم ونساؤهم ولا تملك رقابهم؟ فكذلك لا تغنم أموالهم. فإن قيل: مشركو العرب لا تملك رقابهم وتغنم أموالهم قيل له: لأنهم يقتلون إذا أسروا، وإن لم يسلموا وتسبى ذراريهم ونساؤهم، فلذلك غنمت أموالهم والخوارج إذا لم تبق لهم منعة لا يقتل أسراهم ولا تسبى ذراريهم بحال، فكذلك لا تغنم أموالهم.

(3/534)


باب الحكم في أسرى أهل البغي وجرحاهم
روى كوثر بن حكيم عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ابن أم عبد كيف حكم الله فيمن بغى من هذه الأمة؟" قال: الله ورسوله أعلم، قال: "لا يجهز على جريحها ولا يقتل أسيرها ولا يطلب هاربها". وروى عطاء بن السائب عن أبي البختري وعامر قالا: لما ظهر علي رضي الله عنه على أهل الجمل قال: "لا تتبعوا مدبرا ولا تذففوا على جريح"، وروى شريك عن السدي عن عبد خير قال: قال علي رضي الله عنه يوم الجمل: "لا تقتلوا أسيرا ولا تجهزوا على جريح ومن ألقى السلاح فهو آمن". قال أبو بكر: هذا حكم علي في البغاة، ولا نعلم له مخالفا من السلف. وقال أصحابنا: "إذا لم تبق لأهل البغي فئة فإنه لا يجهز على جريح ولا يقتل أسير ولا يتبع مدبر، فإذا كانت لهم فئة فإنه يقتل الأسير إن رأى ذلك الإمام ويجهز على الجريح ويتبع المدبر" وقول علي - رضي الله عنه - محمول على أنه لم تبق لهم فئة; لأن هذا القول إنما كان منه في أهل الجمل، ولم تبق لهم فئة بعد الهزيمة، والدليل عليه أنه أسر ابن بثري والحرب قائمة فقتله يوم الجمل، فدل ذلك على أن مراده في الأخبار الأول إذا لم تبق لهم فئة.

(3/535)


باب في قضايا البغاة
قال أبو يوسف في البرمكي: "لا ينبغي لقاضي الجماعة أن يجيز كتاب قاضي أهل البغي ولا شهادته ولا حكمه" قال أبو بكر: وكذلك قال محمد، وقال: "لو أن الخوارج ولوا قاضيا منهم فحكم ثم رفع إلى حاكم أهل العدل لم يمضه إلا أن يوافق رأيه فيستأنف القضاء فيه" قال: "ولو ولوا قاضيا من أهل العدل فقضى بقضية أنفذها من رفعت إليه كما يمضي قضاء أهل العدل". وقال مالك فيما حكم به أهل البغي: "تكشف أحكامهم فما كان منها مستقيما أمضي" وقال الشافعي: "إذا غلب الخوارج على مدينة فأخذوا صدقات أهلها وأقاموا عليهم الحدود لم تعد عليهم ولا يرد من قضاء قاضيهم إلا ما يرد من قضاء قاضي غيرهم، وإن كان غير مأمون برأيه على استحلال دم أو مال لم ينفذ حكمه ولم يقبل كتابه".
قال أبو بكر: إذا قاتلوا وظهر بغيهم على أهل العدل فقد وجب قتلهم وقتالهم، فغير جائز قبول شهادة من هذه سبيله; لأن إظهار البغي وقتالهم لأهل العدل هو فسق من جهة الفعل وظهور الفسق من جهة الفعل يمنع قبول الشهادة كشارب الخمر والزاني

(3/535)


والسارق فإن قيل: فأنت تقبل شهادتهم فهلا أمضيت أحكامهم؟ قيل له: قد قال محمد بن الحسن إنهم إنما تقبل شهادتهم ما لم يقاتلوا، ولم يخرجوا على أهل العدل فأما إذا قاتلوا فإني لا أقبل شهادتهم فقد سوى بين القضاء وبين الشهادة ولم يذكر في ذلك خلافا بين أصحابنا، وهذا سديد، والعلة فيه ما ذكرنا.
فإن قيل فقد قالوا إن الخوارج إذا ظهروا وأخذوا صدقات المواشي والثمار أنه لا يعاد على أربابها، فجعلوا أخذهم بمنزلة أخذ أهل العدل قيل له: إن الزكاة لا تسقط عنهم بأخذ هؤلاء; لأنهم قالوا: إن على أرباب الأموال إعادتها فيما بينهم وبين الله - تعالى - وإنما أسقطوا به حق الإمام في الأخذ; لأن حق الإمام إنما يثبت في الأخذ; لأجل حمايته أهل العدل، فإذا لم يحمهم من البغاة لم يثبت حقه في الأخذ، وكان ما أخذه البغاة بمنزلة أخذه في باب سقوط حقه في الأخذ. ألا ترى أن أصحابنا قالوا لو مر رجل من أهل العدل على عاشر أهل البغي بمال فعشره أنه لا يحتسب له الإمام بذلك، ويأخذ منه العشر إذا مر به على عاشر أهل العدل؟ فعلمت أن المعنى في سقوط حق الإمام في الأخذ لا على معنى أنهم جعلوا حكمهم كأحكام أهل العدل. وإنما أجازوا قضاء قاضي البغاة إذا كان القاضي من أهل العدل من قبل أن الذي يحتاج إليه في صحة نفاذ القضاء هو أن يكون القاضي عدلا في نفسه ويمكنه تنفيذ قضائه، وحمل الناس عليه بيد قوية سواء كان المولي له عدلا أو باغيا. ألا ترى أنه لو لم يكن ببلد سلطان فاتفق أهله على أن ولوا رجلا منهم القضاء كان جائزا وكانت أحكامه نافذة عليهم؟ فكذلك الذي ولاه البغاة القضاء إذا كان هو في نفسه عدلا نفذت أحكامه".
ويحتج من يجيز مجاوزة الحد بالتعزير بقوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} فأمر بقتالهم إلى أن يرجعوا إلى الحق، فدل على أن التعزير يجب إلى أن يعلم إقلاعه عنه وتوبته; إذ كان التعزير للزجر والردع وليس له مقدار معلوم في العادة. كما أن قتال البغاة لما كان للردع وجب فعله أن يرتدعوا وينزجروا.
قال أبو بكر: إنما اقتصر من لم يبلغ بالتعزير الحد على ذلك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من بلغ حدا في غير حد فهو من المتعدين".
وقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} يعني أنهم إخوة في الدين، كقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5] وفي ذلك دليل على جواز إطلاق لفظ الأخوة بين المؤمنين من جهة الدين. وقوله

(3/536)


تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} يدل على أن من رجا صلاح ما بين متعاديين من المومنين أن عليه الإصلاح بينهما.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} نهى الله بهذه الآية عن عيب من لا يستحق أن يعاب على وجه الاحتقار له; لأن ذلك هو معنى السخرية وأخبر أنه وإن كان أرفع حالا منه في الدنيا فعسى أن يكون المسخور منه خيرا عند الله.
وقوله تعالى: {وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} روي عن ابن عباس وقتادة: "لا يطعن بعضكم على بعض" قال أبو بكر: هو كقوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29]; لأن المؤمنين كنفس واحدة فكأنه بقتله أخاه قاتل نفسه. وكقوله {فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] يعني يسلم بعضكم على بعض واللمز العيب يقال: لمزه إذا عابه وطعن عليه قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 58] قال زياد الأعجم:
إذا لقيتك تبدي لي مكاشرة ... وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه
ما كنت أخشى وإن كان الزمان به ... حيف على الناس أن يغتابني عنزه
وإنما نهى بذلك عن عيب من لا يستحق، وليس بمعيب فإن من كان معيبا فاجرا فعيبه بما فيه جائز. وروي أنه لما مات الحجاج قال الحسن: "اللهم أنت أمته فاقطع عنا سنته فإنه أتانا أخيفش أعيمش يمد بيد قصيرة البنان والله ما عرق فيها عنان في سبيل الله يرجل جمته ويخطر في مشيته ويصعد المنبر فيهذر حتى تفوته الصلاة لا من الله يتقي، ولا من الناس يستحي فوقه الله وتحته مائة ألف أو يزيدون لا يقول له قائل الصلاة أيها الرجل "ثم قال الحسن" هيهات والله حال دون ذلك السيف والسوط".
وقوله تعالى: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} روى حماد بن سلمة عن يونس عن الحسن: أن أبا ذر كان عند النبي صلى الله عليه وسلم وكان بينه وبين رجل منازعة فقال له أبو ذر: يا ابن اليهودية فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما ترى ما ههنا من شيء أحمر ولا أسود وما أنت أفضل منه إلا بالتقوى" قال: ونزلت هذه الآية {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ}. وقال قتادة في قوله تعالى: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} قال "لا تقل; لأخيك المسلم يا فاسق يا منافق" حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسن قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن الحسن قال: "كان اليهودي والنصراني يسلم فيقال له يا يهودي يا نصراني، فنهوا عن ذلك". حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا وهيب عن داود عن عامر قال: حدثني أبو جبيرة بن الضحاك قال: فينا نزلت هذه الآية في بني

(3/537)


سلمة: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْأِيمَانِ} قال: قدم علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس منا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"يا فلان" فيقولون: مه يا رسول الله إنه يغضب من هذا الاسم فأنزلت هذه الآية: {وَلا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} . وهذا يدل على أن اللقب المكروه هو ما يكرهه صاحبه ويفيد ذما للموصوف به; لأنه بمنزلة السباب والشتيمة فأما الأسماء والأوصاف الجارية غير هذا المجرى فغير مكروهة لم يتناولها النهي; لأنها بمنزلة أسماء الأشخاص والأسماء المشتقة من أفعال. وقد روى محمد بن إسحاق عن محمد بن يزيد بن خثيم عن محمد بن كعب قال: حدثني محمد بن خثيم المحاربي عن عمار بن ياسر قال: كنت أنا وعلي بن أبي طالب رفيقين في غزوة العشيرة من بطن ينبع، فلما نزل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام بها شهرا وصالح فيها بني مدلج وحلفاءهم من بني ضمرة ووادعهم، فقال لي علي رضي الله عنه: هل لك أن تأتي هؤلاء من بني مدلج يعملون في عير لهم ننظر كيف يعملون فأتيناهم فنظرنا إليهم ساعة ثم غشينا النوم، فعمدنا إلى صور من النخل في دقعاء من الأرض فنمنا، فما أنبهنا إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدمه، فجلسنا، وقد تتربنا من تلك الدقعاء، فيومئذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي: "يا أبا تراب" لما عليه من التراب، فأخبرناه بما كان من أمرنا فقال: "ألا أخبركم بأشقى رجلين؟" قلنا: من هما يا رسول الله؟ قال: "أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك يا علي على هذا" ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على رأسه "حتى تبل منه هذه" ووضع يده على لحيته. وقال سهل بن سعد: "ما كان اسم أحب إلى علي رضي الله عنه أن يدعى به من أبي تراب" فمثل هذا لا يكره،; إذ ليس فيه ذم ولا يكرهه صاحبه. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا إبراهيم بن مهدي قال: حدثنا شريك عن عاصم عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ذا الأذنين" ، وقد غير النبي صلى الله عليه وسلم أسماء قوم، فسمى العاص عبد الله وسمى شهابا هشاما وسمى حربا سلما وفي جميع ذلك دليل على أن المنهي من الألقاب ما ذكرنا دون غيره، وقد روي أن رجلا أراد أن يتزوج امرأة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انظر إليها فإن في أعين الأنصار شيئا" يعني الصغر قال أبو بكر: فلم يكن ذلك غيبة; لأنه لم يرد به ذم المذكور ولا غيبته.

(3/538)


مطلب: الظن على أربعة أضرب
وقوله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} اقتضت الآية النهي عن بعض الظن لا عن جميعه; لأن قوله: {كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ} يقتضي البعض وعقبه بقوله: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} فدل أنه لم ينه عن جمعيه وقال في آية أخرى: {وَإِنَّ الظَّنَّ

(3/538)


لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً} [النجم: 28] وقال: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً} [الفتح: 12] فالظن على أربعة أضرب: محظور ومأمور به ومندوب إليه ومباح فأما الظن المحظور فهو سوء الظن بالله - تعالى - حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا معاذ بن المثنى ومحمد بن محمد بن حيان التمار قالا: حدثنا محمد بن كثير: حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاث يقول: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا أبو سعيد يحيى بن منصور الهروي قال حدثنا سويد بن نصر قال: حدثنا ابن المبارك عن هشام بن الغازي عن حبان بن أبي النصر قال: سمعت واثلة بن الأسقع يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء". وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا موسى بن إسماعيل قال: حدثنا حماد بن سلمة عن محمد بن واسع عن شتير يعني ابن نهار عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حسن الظن من العبادة"، وهو مرفوع في حديث نصر بن علي غير مرفوع في حديث موسى بن إسماعيل. فحسن الظن بالله فرض وسوء الظن به محظور منهي وكذلك سوء الظن بالمسلمين الذين ظاهرهم العدالة محظور مزجور عنه، وهو من الظن المحظور المنهي عنه. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أحمد بن محمد المروزي قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري عن علي بن حسين عن صفية قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم معتكفا فأتيته أزوره ليلا فحدثته وقمت فانقلبت فقام معي ليقلبني وكان مسكنها في دار أسامة بن زيد فمر رجلان من الأنصار فلما رأيا النبي صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "على رسلكما إنها صفية بنت حيي" قالا: سبحان الله يا رسول الله قال: "إن الشيطان يجري من الإنسان مجري الدم فخشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا أو قال سوءا" . وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا معاذ بن المثنى قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا وهيب قال: حدثنا ابن طاوس عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث". فهذا من الظن المحظور، وهو ظنه بالمسلم سوءا من غير سبب يوجبه، وكل ظن فيما له سبيل إلى معرفته مما تعبد بعلمه فهو محظور; لأنه لما كان متعبدا تعبد بعلمه ونصب له الدليل عليه فلم يتبع الدليل وحصل على الظن كان تاركا للمأمور به; وأما ما لم ينصب له عليه دليل يوصله إلى العلم به، وقد تعبد بتنفيذ الحكم فيه فالاقتصار على غالب الظن، وإجراء الحكم عليه واجب. وذلك نحو ما تعبدنا به من قبول شهادة العدول وتحري القبلة وتقويم المستهلكات وأروش الجنايات التي لم يرد بمقاديرها توقيف، فهذه وما كان من نظائرها

(3/539)


قد تعبدنا فيها بتنفيذ أحكام غالب الظن وأما الظن المباح فالشكاك في الصلاة أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالتحري والعمل على ما يغلب في ظنه، فلو غلب ظنه كان مباحا، وإن عدل عنه إلى البناء على اليقين كان جائزا، ونحوه ما روي عن أبي بكر الصديق أنه قال لعائشة: إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا بالعالية، وإنك لم تكوني حزتيه ولا قبضتيه، وإنما هو مال الوارث، وإنما هما أخواك وأختاك، قال: فقلت: إنما هي أسماء فقال: ألقي في روعي أن ذا بطن خارجة جارية فاستجاز هذا الظن لما وقع في قلبه. وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إسماعيل بن الفضل قال: حدثنا هشام بن عمار عن عبد الرحمن بن سعد عن عبد الله بن سعيد عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا ظننتم فلا تحققوا" فهذا من الظن الذي يعرض بقلب الإنسان في أخيه مما يوجب الريبة فلا ينبغي أن يحققه، وأما الظن المندوب إليه فهو حسن الظن بالأخ المسلم، هو مندوب إليه مثاب عليه. فإن قيل: إذا كان سوء الظن محظورا فواجب أن يكون حسن الظن واجبا قيل له: لا يجب ذلك; لأن بينهما واسطة، وهو أن لا يظن به شيئا فإذا أحسن الظن به فقد فعل مندوبا إليه.
قوله تعالى: {وَلا تَجَسَّسُوا} حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود عن القعنبي عن مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ولا تحسسوا ولا تجسسوا" . وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن زيد بن وهب قال: أتي ابن مسعود فقيل: هذا فلان تقطر لحيته خمرا فقال عبد الله: "إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به". وعن مجاهد: "لا تجسسوا خذوا بما ظهر لكم ودعوا ما ستر الله". فنهى الله في هذه الآيات عن سوء الظن بالمسلم الذي ظاهره العدالة والستر، ودل به على أنه يجب تكذيب من قذفه بالظن; وقال تعالى -: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12]; فإذا وجب تكذيب القاذف والأمر بحسن الظن فقد اقتضى ذلك النهي عن تحقيق المظنون، وعن إظهاره. ونهى عن التجسس بل أمر بالستر على أهل المعاصي ما لم يظهر منهم إصرار. حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس قال: حدثنا الفريابي عن إسرائيل عن الوليد: قال أبو داود: ونسبه لنا زهير بن حرب عن حسين بن محمد عن إسرائيل في هذا الحديث قال الوليد بن أبي هشام عن زيد بن زائد عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يبلغني أحد عن أحد شيئا، فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر لكم" وحدثنا محمد بن

(3/540)


بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم قال: حدثنا عبد الله بن المبارك عن إبراهيم بن نشيط عن كعب بن علقمة عن أبي الهيثم عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من رأي عورة فسترها كان كمن أحيا موءودة" وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا الليث عن عقيل عن الزهري عن سالم عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه من كان في حاجة أخيه فإن الله في حاجته ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة ومن ستر مسلما ستره الله يوم القيامة" وجميع ما أمرنا الله به من ذلك يؤدي إلى صلاح ذات البين، وفي صلاح ذات البين صلاح أمر الدنيا والدين، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1]. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا محمد بن العلاء قال: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مرة عن سالم عن أم الدرداء عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال إصلاح ذات البين، و فساد ذات البين الحالقة".
وقوله تعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} ; حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا القعنبي قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد عن العلاء عن أبيه عن أبي هريرة، أنه قيل: يا رسول الله ما الغيبة؟ قال: "ذكرك أخاك بما يكره"، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: "إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته". وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا سفيان عن علي بن الأقمر عن أبي حذيفة عن عائشة قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا قال: غير مسدد تعني قصيرة فقال: "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته" قالت: وحكيت له إنسانا آخر فقال: "ما أحب أني حكيت إنسانا وأن لي كذا وكذا". وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا الحسن بن علي قال: حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج قال: أخبرني أبو الزبير أن عبد الرحمن بن الصامت ابن عم أبي هريرة أخبره أنه سمع أبا هريرة يقول : جاء الأسلمي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فشهد على نفسه أربع مرات أنه أصاب امرأة حراما; وذكر الحديث إلى قوله: "فما تريد بهذا القول؟" قال: أريد أن تطهرني فأمر به فرجم; فسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تردعه نفسه حتى رجم رجم الكلب فسكت عنهما، ثم سار ساعة حتى مر بجيفة حمار شائل برجله فقال: "أين فلان وفلان؟" فقالا: نحن ذان يا رسول الله قال: "انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار" فقالا:

(3/541)


يا نبي الله من يأكل من هذا؟ قال: "فما نلتما من عرض أخيكما آنفا أشد من الأكل منه، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها!". وحدثنا عبد الباقي بن قانع قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله قال: حدثنا يزيد بن مرة سنة ثلاث عشرة ومائتين قال: حدثنا ابن عون أن ناسا أتوا ابن سيرين فقالوا: إنا ننال منك فاجعلنا في حل فقال: لا أحل لكم ما حرم الله عليكم. وروى الربيع بن صبيح أن رجلا قال للحسن: يا أبا سعيد إني أرى أمرا أكرهه قال: وما ذاك يا ابن أخي؟ قال: أرى أقواما يحضرون مجلسك يحفظون عليك سقط كلامك ثم يحكونك ويعيبونك، فقال: يا ابن أخي لا يكبرن هذا عليك، أخبرك بما هو أعجب؟ قال: وما ذاك يا عم؟ قال: "أطمعت نفسي في جوار الرحمن وحلول الجنان والنجاة من النيران ومرافقة الأنبياء ولم أطمع نفسي في السلامة من الناس، إنه لو سلم من الناس أحد لسلم منهم خالقهم الذي خلقهم، فإذا لم يسلم خالقهم فالمخلوق أجدر أن لا يسلم". حدثنا عبد الباقي بن قانع قال: أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال: حدثنا داود بن المجبر قال: حدثنا عنبسة بن عبد الرحمن قال: حدثني خالد بن يزيد اليمامي عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كفارة الاغتياب أن تستغفر لمن اغتبته".
وقوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ} تأكيد لتقبيح الغيبة. والزجر عنه من وجوه. أحدها: أن لحم الإنسان محرم الأكل، فكذلك الغيبة. والثاني: أن النفوس تعاف أكل لحم الإنسان من جهة الطبع، فلتكن الغيبة عنكم بمنزلته في الكراهة ولزوم اجتنابه من جهة موجب العقل; إذ كانت دواعي العقل أحق بالاتباع من دواعي الطبع، ولم يقتصر على ذكر الإنسان الميت حتى جعله أخاه، وهذا أبلغ ما يكون في التقبيح والزجر، فهذا كله إنما هو في المسلم الذي ظاهره العدالة، ولم يظهر منه ما يوجب تفسيقه كما يجب علينا تكذيب قاذفه بذلك، فإن كان المقذوف بذلك مهتوكا فاسقا فإن ذكر ما فيه من الأفعال القبيحة غير محظور، كما لا يجب على سامعه النكير على قائله. ووصفه بما يكرهه على ضربين. أحدهما: ذكر أفعاله القبيحة. والآخر: وصف خلقته، وإن كان مشينا على جهة الاحتقار له وتصغيره لا على جهة ذمه بها ولا عيب صانعها على نحو ما روينا عن الحسن في وصفه الحجاج بقبح الخلقة، وقد يجوز وصف قوم في الجملة ببعض ما إذا وصف به إنسان بعينه كان غيبة محظورة، ثم لا يكون غيبة إذا وصف به الجملة على وجه التعريف. كما روى أبو حازم عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني تزوجت امرأة قال: "هل نظرت إليها؟ فإن في أعين الأنصار شيئا" ، فإنه لم يكن غيبة; وجعل وصف عائشة الرجل بالقصر

(3/542)


في الحديث الذي قدمنا غيبة; لأن ذلك كان من النبي صلى الله عليه وسلم على وجه التعريف لا على جهة العيب، وهو كما روي عنه أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوما عراض الوجوه صغار العيون فطس الأنوف كأن وجوههم المجان المطرقة" فلم يكن ذلك غيبة، وإنما كان تعريفا لهم صفة القوم.
قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} روي عن مجاهد وقتادة: "الشعوب: النسب الأبعد، والقبائل الأقرب، فيقال بنو فلان وفلان". وقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} بدأ بذكر الخلق من ذكر وأنثى وهما آدم وحواء، ثم جعلهم شعوبا يعني متشعبين متفرقين في الأنساب كالأمم المتفرقة نحو العرب وفارس والروم والهند ونحوهم. ثم جعلهم قبائل وهم أخص من الشعوب نحو قبائل العرب وبيوتات العجم ليتعارفوا بالنسبة، كما خالف بين خلقهم وصورهم; ليعرف بعضهم بعضا ودل بذلك على أنه لا فضل لبعضهم على بعض من جهة النسب; إذ كانوا جميعا من أب وأم واحدة; ولأن الفضل لا يستحق بعمل غيره، فبين الله تعالى ذلك لنا لئلا يفخر بعضنا على بعض بالنسب، وأكد ذلك بقوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ، فأبان أن الفضيلة والرفعة إنما تستحق بتقوى الله وطاعته، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته أنه قال: "إن الله قد أذهب نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى". وقال ابن عباس وعطاء "إن أكرمكم عند الله أتقاكم لا أعظمكم بيتا". آخر سورة الحجرات.

(3/543)


ومن سورة ق
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع الجرجاني قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} قال: "من ترك الحق مرج عليه رأيه والتبس عليه دينه. "
وقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} . روى جرير بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا" ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} . وروي عن ابن عباس وقتادة أن المراد صلاة الفجر وصلاة العصر.
وقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} قال مجاهد: "صلاة الليل" قال أبو بكر: يجوز أن يريد صلاة المغرب والعتمة.
وقوله تعالى: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} ، قال علي وعمر والحسن بن علي وابن عباس والحسن البصري ومجاهد والنخعي والشعبي: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} ركعتان بعد المغرب {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} ركعتان قبل الفجر وعن ابن عباس مثله وعن مجاهد عن ابن عباس: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} : "إذا وضعت جبهتك على الأرض أن تسبح ثلاثا". قال أبو بكر: اتفق من ذكرنا قوله بديا أن قوله: {فسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب} أراد به الصلاة. وكذلك: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} هو صلاة الليل وهي العتمة والمغرب، فوجب أن يكون قوله: {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} هو الصلاة; لأن فيه ضمير "فسبحه"، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم التسبيح في دبر كل صلاة، ولم يذكر أنه تفسير الآية. وروى محمد بن سيرين عن كثير بن أفلح عن زيد بن ثابت قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نسبح في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين ونحمد ثلاثا وثلاثين ونكبر أربعا وثلاثين، فأتى رجل من الأنصار في المنام فقال: أمركم محمد صلى الله عليه وسلم أن تسبحوا في دبر كل صلاة ثلاثا

(3/544)


وثلاثين وتحمدوا ثلاثا وثلاثين وتكبروا أربعا وثلاثين فلو جعلتموها خمسا وعشرين خمسا وعشرين فاجعلوا فيها التهليل، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: افعلوا. وروى سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات والنعيم المقيم قال: كيف ذاك؟ قالوا: صلوا كما صلينا وجاهدوا كما جاهدنا وأنفقوا من فضول أموالهم وليست لنا أموال، فقال: "أنا أخبركم بأمر تدركون به من كان قبلكم وتسبقون به من بعدكم، لا يأتي أحد بمثل ما جئتم به إلا من جاء بمثله، تسبحون الله في دبر كل صلاة عشرا وتحمدون الله عشرا وتكبرون عشرا". وروي نحوه عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه قال: "تسبح في دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وتحمد ثلاثا وثلاثين وتكبر أربعا وثلاثين" . وروى كعب بن عجرة عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وقال: "وتكبر أربعا وثلاثين" وروى أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في آخر صلاته عند انصرافه: "سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين".
قال أبو بكر: فإن حمل معنى الآية على الوجوب كان قوله: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} على صلاة الفجر، {وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} على صلاة الظهر والعصر. وكذلك روي عن الحسن: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} "صلاة العتمة والمغرب". فتكون الآية منتظمة للصلوات الخمس، وعبر عن الصلاة بالتسبيح; لأن التسبيح تنزيه لله عما لا يليق به، والصلاة تشتمل على قراءة القرآن وأذكار هي تنزيه لله تعالى. آخر سورة ق.

(3/545)