أحكام القرآن للجصاص ط العلمية
ومن سورة الذاريات
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} قال
ابن عباس، وإبراهيم والضحاك: "الهجوع النوم". وروى سعيد بن جبير عن ابن
عباس قال: كانوا أقل ليلة تمر عليهم إلا صلوا فيها". وقال قتادة عن
الحسن: "لا ينامون فيها إلا قليلا" وقال مطرف بن عبد الله: "قل ليلة
تأتي عليهم لا يصلون فيها إما من أولها، وإما من أوسطها". وقال مجاهد:
"كانوا لا ينامون كل الليل"، وروى قتادة عن أنس قال: "كانوا يتنفلون
بين المغرب" والعشاء " وروى أبو حيوة عن الحسن قال: "كانوا يطيلون
الصلاة بالليل، وإذا سجدوا استغفروا". وروي عن قتادة قال: "كانوا لا
ينامون عن العتمة ينتظرونها لوقتها"، كأنه جعل هجوعهم قليلا في جنب
يقظتهم لصلاة العتمة.
قال أبو بكر: قد كانت صلاة الليل فرضا فنسخ فرضها بما نزل في سورة
المزمل ورغب فيها في هذه السورة. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أخبار في فضلها والترغيب فيها. وروى الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن في الليل ساعة لا يوافقها عبد
مسلم يدعو الله فيها بخير الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه وذلك في
كل ليلة". وقال أبو مسلم: قلت; لأبي ذر: أي صلاة الليل أفضل؟ قال: سألت
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "نصف الليل وقليل فاعله" . وروى
عمرو بن دينار عن عمرو بن أوس عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود كان ينام نصف
الليل ويصلي ثلث الليل وينام سدس الليل" . وروي عن الحسن: {كَانُوا
قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} قال: "ما يرقدون"
{وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قال: "مدوا الصلاة إلى السحر
ثم جلسوا في الدعاء والاستكانة والاستغفار".
وقوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ} قال أبو بكر: اختلف السلف في
تأويله، فقال ابن عمر والحسن والشعبي ومجاهد: "هو حق سوى الزكاة واجب
في المال" وقال ابن عباس: "من أدى زكاة ماله فلا جناح عليه أن لا
يتصدق". وقال ابن سيرين: {وفِي
(3/546)
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ} قال: "الصدقة حق معلوم". وروى حجاج عن
الحكم عن ابن عباس قال: "نسخت الزكاة كل صدقة". والحجاج عن أبي جعفر
مثله.
واختلف الرواة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. فروي عنه ما يحتج
به كل واحد من الفريقين، فروى طلحة بن عبيد الله قصة الرجل الذي سأل
النبي صلى الله عليه وسلم عما عليه، فذكر الصلاة والزكاة والصيام،
فقال: هل علي شيء غير هذا؟ قال: لا. وروى عمرو بن الحارث عن دراج عن
أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أديت زكاة مالك فقد
قضيت ما عليك فيه" . وروى دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت الحق
الذي يجب عليك" . فهذه الأخبار يحتج بها من تأول "حقا معلوما" على
الزكاة، وأنه لا حق على صاحب المال غيرها. واحتج ابن سيرين بأن الزكاة
حق معلوم وسائر الحقوق التي يوجبها مخالفوه ليست بمعلومة. واحتج من
أوجب فيه حقا سوى الزكاة بما روى الشعبي عن فاطمة بنت قيس قالت سألت
رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفي المال حق سوى الزكاة؟ فتلا: {لَيْسَ
الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] الآية. فذكر الزكاة في نسق التلاوة بعد
قوله: {وآتى المال على حبه} ويحتجون أيضا بحديث أبي هريرة عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: "ما من صاحب إبل لا يؤدي حقها في عسرها ويسرها إلا
برز لها بقاع قرقر تطأه بأخفافها" ، وذكر البقر والغنم، فقال أعرابي:
يا أبا هريرة وما حقها؟ قال: "تمنح الغزيرة وتعطي الكريمة وتحمل على
الظهر وتسقي اللبن". وفي حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله
عليه وسلم قالوا يا رسول الله وما حقها؟ قال: "إطراق فحلها، وإعارة
دلوها ومنحتها وحلبها على الماء وحمل عليها في سبيل الله". وروى الأعمش
عن المعرور بن سويد عن أبي ذر قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه
وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني مقبلا قال "هم الأخسرون ورب
الكعبة" فقلت: يا رسول الله من هم؟ قال: "هم الأكثرون أموالا إلا من
قال هكذا وهكذا حثا عن يمينه وعن شماله وبين يديه ما من رجل يموت ويترك
إبلا لم يؤد زكاتها إلا جاءته يوم القيامة تنطحه بقرونها وتطأه
بأخفافها كلما بعدت أخراها أعيدت عليه أولاها حتى يقضى بين الناس".
قال أبو بكر: هذه الأخبار كلها مستعملة، وفي المال حق سوى الزكاة
باتفاق المسلمين، منه ما يلزم من النفقة على والديه إذا كانا فقيرين
وعلى ذوي أرحامه، وما يلزم من طعام المضطر، وحمل المنقطع به وما جرى
مجرى ذلك من الحقوق اللازمة عندما يعرض من هذه الأحوال.
وقوله تعالى: {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ، قال ابن عباس رواية
وعائشة وابن المسيب
(3/547)
ومجاهد
رواية وعطاء وأبو العالية والنخعي وعكرمة "المحروم المحارف". وقال
الحسن "المحروم الذي يطلب فلا يرزق". وقال ابن عباس رواية ومجاهد:
"المحروم الذي ليس له في الإسلام سهم"، وفي لفظ آخر: "الذي ليس له في
الغنيمة شيء". وقال عكرمة "الذي لا ينمو له مال"، وقال الزهري وقتادة:
"المحروم المسكين المتعفف"، وقال عمر بن عبد العزيز: "المحروم الكلب"
قال أبو بكر: من تأوله على الكلب فإنه لا يجوز أن يكون المراد عنده بحق
معلوم الزكاة; لأن إطعام الكلب لا يجزي من الزكاة. فينبغي أن يكون
المراد عنده حقا غير الزكاة فيكون في إطعام الكلب قربة، كما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم: "إن في كل ذي كبد حرى أجرا، وإن رجلا سقى
كلبا فغفر الله له". والأظهر في قوله: {حَقٌّ مَعْلُومٌ} أنه الزكاة;
لأن الزكاة واجبة لا محالة، وهي حق معلوم، فوجب أن يكون مرادا بالآية;
إذ جائز أن ينطوي تحتها ويكون اللفظ عبارة عنها; ثم جائز أن يكون جميع
ما تأول السلف عليه المحروم مرادا بالآية في جواز إعطائه الزكاة، وهو
يدل على أن الزكاة إذا وضعت في صنف واحد أجزأ; لأنه اقتصر على السائل
والمحروم دون الأصناف المذكورة في آية الصدقات. وفرق الله - تعالى - في
الآية بين السائل والمحروم; لأن الفقير قد يحرم نفسه بتركه المسألة،
وقد يحرمه الناس بترك إعطائه، فإذا لم يسأل فقد حرم نفسه بترك المسألة،
فسمي محروما من هذا الوجه; لأنه يصير محروما من وجهين: من قبل نفسه ومن
قبل الناس، وقد روي عن الشعبي أنه قال: أعياني أن أعلم ما المحروم. آخر
سورة الذاريات.
(3/548)
ومن سورة الطور
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} قال ابن مسعود
وأبو الأحوص ومجاهد: "حين تقوم من كل مكان سبحانك وبحمدك لا إله إلا
أنت أستغفرك وأتوب إليك". وروى علي بن هاشم قال: سئل الأعمش أكان
إبراهيم يستحب إذا قام من مجلسه أن يقول سبحانك اللهم وبحمدك لا إله
إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك؟ قال: "ما كان يستحب أن يجعل ذلك سنة".
وقال الضحاك عن عمر: "يعني به افتتاح الصلاة" قال أبو بكر: يعني به
قوله: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك، إلى آخره وقد روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك بعد التكبير وقال أبو الجوزاء: "حين
تقوم من منامك" قال أبو بكر: يجوز أن يكون عموما في جميع ما روي من هذه
التأويلات.
قوله تعالى: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} روي عن جماعة من الصحابة
والتابعين أنه ركعتا الفجر وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أخبار
في ركعتي الفجر، منها حديث سعد بن هشام عن عائشة قالت: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" وروى عبيد
بن عمير عن عائشة قالت: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرع إلى
شيء من النوافل إسراعه إلى ركعتي الفجر ولا إلى غنيمة. وروى أيوب عن
عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الركعتان قبل صلاة الفجر
واجبتان على كل مسلم" . وروي عنه أنه قال: "لا تدعوهما فإن فيهما
الرغائب" وقال: "لا تدعوهما وإن طرقتكم الخيل". آخر سورة الطور.
(3/549)
ومن سورة النجم
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} يحتج به من لا يجيز أن
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحوادث من جهة اجتهاد الرأي، بقوله:
{إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} وليس كما ظنوا; لأن اجتهاد الرأي إذا
صدر عن الوحي جاز أن ينسب موجبه وما أدى إليه أنه عن وحي.
وقوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ
الْمُنْتَهَى} . روي عن ابن مسعود وعائشة ومجاهد والربيع قالوا: رأى
جبريل في صورته التي خلقه الله عليها مرتين وروي عن ابن عباس: "أنه رأى
ربه بقلبه"; وهذا يرجع إلى معنى العلم وعن ابن مسعود والضحاك: "سدرة
المنتهى في السماء السادسة وإليها ينتهي ما يعرج إلى السماء" وقيل:
"سميت سدرة المنتهى; لأنه ينتهي إليها أرواح الشهداء "وقال الحسن: "جنة
المأوى هي التي يصير إليها أهل الجنة". وفي هذه الآية دلالة على أن
النبي صلى الله عليه وسلم قد صعد إلى السماء وإلى الجنة بقوله تعالى:
رآه عند سدرة المنتهى وإن عندها جنة المأوى.
وقوله تعالى: {إِلَّا اللَّمَمَ} قال ابن عباس رواية: لم أر أشبه
باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى
كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر
وزنا اللسان المنطق، والنفس تمنى وتشتهي والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه"
. وروي عن ابن مسعود وأبي هريرة: "أنه النظرة والغمزة والقبلة
والمباشرة، فإذا مس الختان الختان فهو الزنا ووجب الغسل"، وعن أبي
هريرة أيضا: "إن اللمم النكاح"، وعنه أيضا: "إن اللمة من الزنا ثم يتوب
فلا يعود". وقال ابن عباس رواية: "اللمم ما بين الحدين حد الدنيا وحد
الآخرة". وقال ابن عباس أيضا رواية "هو الذي يلم بالمرأة" وقال عطاء:
"اللمم ما دون الجماع" وقال مجاهد: "أن تصيب الذنب ثم تتوب". وروى عمرو
بن دينار عن عطاء عن ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
"اللهم إن تغفر تغفر جما وأي عبد لك لا ألما" ويقال: إن اللمم هو الهم
بالخطيئة من جهة حديث النفس بها
(3/550)
من غير
عزم عليها وقيل: إن اللمم مقاربة الشيء من غير دخول فيه، يقال: ألم
بالشيء إلماما إذا قاربه وقيل: إن اللمم الصغير من الذنوب; لقوله
تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ
عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31].
وقوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} هو كقوله:
{وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ}
[النساء: 111] ، وكقوله: {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا
عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] وقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ
إِلَّا مَا سَعَى} في معنى ذلك ويحتج به في امتناع جواز تصرف الإنسان
على غيره في إبطال الحجر على الحر العاقل البالغ.
وقوله تعالى: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى
مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} . قال أبو بكر: لما كان قوله: {الذَّكَرَ
وَالْأُنْثَى} اسما للجنسين استوعب الجميع، وهذا يدل على أنه لا يخلو
من أن يكون ذكرا أو أنثى، وأن الخنثى وإن اشتبه علينا أمره لا يخلو من
أحدهما; وقد قال محمد بن الحسن: إن الخنثى المشكل إنما يكون ما دام
صغيرا فإذا بلغ فلا بد من أن تظهر فيه علامة ذكر أو أنثى. وهذه الآية
تدل على صحة قوله. آخر سورة النجم.
(3/551)
ومن سورة القمر
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} دلالة على
صحة نبوة النبي صلى الله عليه وسلم لأن الله لا يقلب العادات بمثله إلا
ليجعله دلالة على صحة نبوة النبي. صلى الله عليه وسلم وروى انشقاق
القمر عشرة من الصحابة، منهم عبد الله بن مسعود وابن عمر وأنس وابن
عباس وحذيفة وجبير بن مطعم في آخرين كرهت ذكر أسانيدها للإطالة.
فإن قيل: معناه سينشق في المستقبل عند قيام الساعة; لأنه لو كان قد
انشق في زمان النبي صلى الله عليه وسلم لما خفي على أهل الآفاق قيل له:
هذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه خلاف ظاهر اللفظ وحقيقته، والآخر: أنه
قد تواتر الخبر به عن الصحابة ولم يدفعه منهم أحد وأما قوله: "إنه لو
كان ذلك قد وقع لما خفي على أهل الآفاق" فإنه جائز أن يستره الله عنهم
بغيم أو يشغلهم عن رؤيته ببعض الأمور لضرب من التدبير ولئلا يدعيه بعض
المتنبئين في الآفاق لنفسه، فأظهره للحاضرين عند دعاء رسول الله صلى
الله عليه وسلم إياهم واحتجاجه عليهم.
وقوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ}
الآية، يدل على جواز المهايأة على الماء; لأنهم جعلوا شرب الماء يوما
للناقة ويوما لهم ويدل أيضا على أن المهايأة قسمة المنافع; لأن الله -
تعالى - قد سمى ذلك قسمة وإنما هي مهايأة على الماء لا قسمة الأصل.
واحتج محمد بن الحسن بذلك في جواز المهايأة على الماء على هذا الوجه،
وهذا يدل من قوله على أنه كان يرى شرائع من كان قبلنا من الأنبياء
ثابتة ما لم يثبت نسخها. آخر سورة القمر.
(3/552)
|