أحكام القرآن للجصاص ط العلمية
ومن سورة الرحمن
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ} روي عن ابن
عباس وقتادة والضحاك أن العصف التبن. وعن ابن عباس ومجاهد والضحاك:
"الريحان الورق"، وعن ابن عباس أيضا أن الريحان الحب وقال الحسن: "هو
الريحان الذي يشم". قال أبو بكر: لا يمتنع أن يكون جميع ذلك مرادا;
لوقوع الاسم عليه، والظاهر من الريحان أنه المشموم، ولما عطف الريحان
على الحب ذي العصف والعصف هو ساقه دل على أن الريحان ما يخرج من الأرض
وله رائحة مستلذة قبل أن يصير له ساق، وذلك نحو الضيمران والنمام والآس
الذي يخرج ورقه ريحانا قبل أن يصير ذا ساق; لأن العطف يقتضي ظاهره أن
المعطوف غير المعطوف عليه.
وقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} مراده
من أحدهما; لأنه إنما يخرج من الملح دون العذب، وهو كقوله: {يَا
مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ}
[الأنعام: 130] ، وإنما أرسل من الإنس وقال ابن عباس والحسن وقتادة
والضحاك: "المرجان صغار اللؤلؤ" وقيل: "المرجان المختلط من الجواهر، من
مرجت أي خلطت" وقيل: "إنه ضرب من الجواهر كالقضبان يخرج من البحر".
وقيل: إنما قال: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} لأن العذب والملح يلتقيان فيكون
العذب لقاحا للملح، كما يقال يخرج الولد من الذكر والأنثى وإنما تلده
الأنثى، وقال ابن عباس: إذا جاء القطر من السماء تفتحت الأصداف فكان من
ذلك اللؤلؤ".
وقوله تعالى: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً
كَالدِّهَانِ} ، روي أنها تحمر وتذوب كالدهن، روي أن سماء الدنيا من
حديد فإذا كان يوم القيامة صارت من الخضرة إلى الاحمرار من حر نار جهنم
كالحديد إذا أحمي بالنار.
وقوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا
جَانٌّ} ; قيل فيه: لا يسأل سؤال استفهام لكن سؤال تقرير وتوقيف وقيل
فيه: لا يسأل في أول أحوال حضورهم يوم
(3/553)
القيامة
لما يلحقهم من الدهش والذهول ثم يسألون في وقت آخر.
وقوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} يحتج به لأبي
حنيفة في أن الرطب والرمان ليسا من الفاكهة; لأن الشيء لا يعطف على
نفسه إنما يعطف على غيره هذا هو ظاهر الكلام. ومفهومه إلا أن تقوم
الدلالة على أنه انفرد بالذكر، وإن كان من جنسه لضرب من التعظيم وغيره،
كقوله تعالى: {مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ
وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]. آخر سورة الرحمن.
(3/554)
ومن سورة الواقعة
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لا
يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} . روي عن سلمان أنه قال: "لا يمس
القرآن إلا المطهرون" فقرأ القرآن، ولم يمس المصحف حين لم يكن على
وضوء. وعن أنس بن مالك في حديث إسلام عمر قال: فقال لأخته: أعطوني
الكتاب الذي كنتم تقرءون فقالت: إنك رجس، وإنه لا يمسه إلا المطهرون
فقم فاغتسل أو توضأ فتوضأ ثم أخذ الكتاب فقرأه; وذكر الحديث. وعن سعد
أنه أمر ابنه بالوضوء لمس المصحف وعن ابن عمر مثله وكره الحسن والنخعي
مس المصحف على غير وضوء وروي عن حماد أن المراد القرآن الذي في اللوح
المحفوظ {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} يعني الملائكة، وقال
أبو العالية في قوله: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} قال: "هو
في كتاب مكنون ليس أنتم من أصحاب الذنوب"، وقال سعيد بن جبير وابن عباس
"المطهرون الملائكة" وقال قتادة: "لا يمسه عند الله إلا المطهرون فأما
في الدنيا فإنه يمسه المجوسي والنجس والمنافق".
قال أبو بكر: إن حمل اللفظ على حقيقة الخبر فالأولى أن يكون المراد
القرآن الذي عند الله والمطهرون الملائكة، وإن حمل على النهي، وإن كان
في صورة الخبر كان عموما فينا; وهذا أولى; لما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم في أخبار متظاهرة أنه كتب في كتابه لعمرو بن حزم: "ولا يمس
القرآن إلا طاهر" فوجب أن يكون نهيه ذلك بالآية; إذ فيها احتمال له.
آخر سورة الواقعة.
(3/555)
ومن سورة الحديد
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ
الْفَتْحِ} الآية. روي عن الشعبي قال: فصل ما بين الهجرتين فتح
الحديبية وفيه أنزلت هذه الآية، قالوا: يا رسول الله فتح هو؟ قال: "نعم
عظيم" . وقال سعيد عن قتادة: "هو فتح مكة" قال أبو بكر: أبان عن فضيلة
الإنفاق قبل الفتح على ما بعده لعظم عناء النفقة فيه وكثرة الانتفاع
به; ولأن الإنفاق في ذلك الوقت كان أشد على النفس لقلة المسلمين وكثرة
الكفار مع شدة المحنة والبلاء وللسبق إلى الطاعة. ألا ترى إلى قوله:
{الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117] وقوله:
{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ} [التوبة: 100] ؟ فهذه الوجوه كلها
تقتضي تفضيلها.
وقوله تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} الآية. يدل على أن كثرة
المعاصي ومساكنتها وألفها تقسي القلب وتبعد من التوبة، وهو نحو قوله:
{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
[المطففين:14].
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ
هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} روى البراء بن
عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إن كل مؤمن شهيد" لهذه الآية وجعل
قوله: {وَالشُّهَدَاءُ} صفة لمن تقدم ذكره من المؤمنين; وهو قول عبد
الله ومجاهد وقال ابن عباس ومسروق وأبو الضحى والضحاك: "هو ابتداء كلام
وخبره: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} .
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً
وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} قال أبو بكر: أخبر عما
ابتدعوه من القرب والرهبانية، ثم ذمهم على ترك رعايتها بقوله: {فَمَا
رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} . والابتداع قد يكون بالقول وهو ما
ينذره ويوجبه على نفسه، وقد يكون بالفعل بالدخول فيه، وعمومه يتضمن
الأمرين، فاقتضى ذلك أن كل من ابتدع قربة قولا أو فعلا فعليه رعايتها،
وإتمامها، فوجب على ذلك أن من دخل في
(3/556)
صلاة أو
صوم أو حج أو غيرها من القرب فعليه إتمامها، ولا يلزمه إتمامها إلا وهي
واجبة عليه فيجب عليه القضاء إذا أفسدها وروي عن أبي أمامة الباهلي
قال: "كان ناس من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم
ابتغوا بها رضوان الله فلم يرعوها حق رعايتها، فعابهم الله بتركها
فقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} الآية". آخر سورة الحديد.
(3/557)
|