أحكام القرآن للجصاص ط العلمية
ومن سورة
الممتحنة
مدخل
...
ومن سورة الممتحنة
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} ; روي
أنها نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى كفار قريش ينتصح لهم فيه،
فأطلع الله نبيه على ذلك، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"أنت
كتبت هذا الكتاب"؟ قال: نعم، قال: "وما حملك على ذلك؟" قال: أما والله
ما ارتبت في الله منذ أسلمت ولكني كنت امرأ غريبا في قريش وكان لي بمكة
مال وبنون فأردت أن أدافع بذلك عنهم، فقال عمر: ائذن لي يا رسول الله
فأضرب عنقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "مهلا يا ابن الخطاب إنه قد
شهد بدرا وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم
فإني غافر لكم" . حدثنا بذلك عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسن بن أبي
الربيع قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الزهري في قوله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي
وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} عن عروة بن الزبير بمعنى ما قدمنا.
قال أبو بكر: ظاهر ما فعله حاطب لا يوجب الردة وذلك لأنه ظن أن ذلك
جائز له; ليدفع به عن ولده وماله كما يدفع عن نفسه بمثله عند التقية
ويستبيح إظهار كلمة الكفر، ومثل هذا الظن إذا صدر عنه الكتاب الذي كتبه
فإنه لا يوجب الإكفار، ولو كان ذلك يوجب الإكفار لاستتابه النبي صلى
الله عليه وسلم فلما لم يستتبه وصدقه على ما قال علم أنه ما كان مرتدا.
وإنما قال عمر ائذن لي فأضرب عنقه; لأنه ظن أنه فعله عن غير تأويل.
فإن قيل: قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إنما منع عمر من قتله;
لأنه شهد بدرا، وقال: "ما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال
اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" فجعل العلة المانعة من قتله كونه من أهل
بدر قيل له: ليس كما ظننت; لأن كونه من أهل بدر لا يمنع أن يكون كافرا
مستحقا للنار إذا كفر، وإنما معناه: ما يدريك لعل الله قد علم أن أهل
بدر، وإن أذنبوا لا يموتون إلا على التوبة; ومن علم الله منه وجود
التوبة إذا أمهله فغير جائز أن يأمر بقتله أو يفعل ما يقتطعه به عن
التوبة، فيجوز أن يكون مراده أن في
(3/582)
معلوم
الله أن أهل بدر، وإن أذنبوا فإن مصيرهم إلى التوبة والإنابة.
وفي هذه الآية دلالة على أن الخوف على المال والولد لا يبيح التقية في
إظهار الكفر، وأنه لا يكون بمنزلة الخوف على نفسه; لأن الله نهى
المؤمنين عن مثل ما فعل حاطب مع خوفه على أهله وماله، وكذلك قال
أصحابنا أنه لو قال لرجل: "لأقتلن ولدك أو لتكفرن" أنه لا يسعه إظهار
الكفر. ومن الناس من يقول فيمن له على رجل مال فقال: "لا أقر لك حتى
تحط عني بعضه" فحط عنه بعضه أنه لا يصح الحط عنه وجعل خوفه على ذهاب
ماله بمنزلة الإكراه على الحط، وهو فيما أظن مذهب ابن أبي ليلى وما
ذكرناه يدل على صحة قولنا، ويدل على أن الخوف على المال والأهل لا يبيح
التقية أن الله فرض الهجرة على المؤمنين، ولم يعذرهم في التخلف لأجل
أموالهم وأهلهم، فقال: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ
وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ} [التوبة: 24] الآية.
وقال: {قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ
تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} [النساء: 97].
وقوله تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ
وَالَّذِينَ مَعَهُ} الآية; وقوله: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} قيل فيه:
الأنبياء، وقيل: الذين آمنوا معه; فأمر الله الناس بالتأسي بهم في
إظهار معاداة الكفار وقطع الموالاة بيننا وبينهم بقوله: {إِنَّا
بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا
بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ
أَبَداً} . فهذا حكم قد تعبد المؤمنون به وقوله: {إِلَّا قَوْلَ
إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ} يعني في أن لا يتأسوا به في الدعاء للأب
الكافر، وإنما فعل إبراهيم ذلك; لأنه أظهر له الإيمان ووعده إظهاره،
فأخبر الله تعالى أنه منافق، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه; فأمر
الله - تعالى - بالتأسي بإبراهيم في كل أموره إلا في استغفار للأب
الكافر. وقوله تعالى: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ
كَفَرُوا} ; قال قتادة: يعني بإظهارهم علينا فيروا أنهم على حق، وقال
ابن عباس: لا تسلطهم علينا فيفتنوننا.
(3/583)
باب صلة الرحم المشرك
قال الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ
يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} الآية. روى هشام بن عروة عن أبيه عن
عائشة: أن أسماء سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أم لها مشركة جاءتني
أأصلها؟ قال: "نعم صليها" قال أبو بكر: وقوله: {أَنْ تَبَرُّوهُمْ
وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} عموم في جواز دفع الصدقات إلى أهل الذمة إذ
ليس هم من أهل قتالنا، وفيه النهي عن الصدقة على أهل الحرب; لقوله:
{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي
الدِّينِ} . وقد
(3/583)
روي فيه
غير ذلك; حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا الحسن قال: أخبرنا عبد
الرزاق عن معمر عن قتادة في قوله: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ
الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ
دِيَارِكُمْ} قال: نسخها قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5].
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ
الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} الآية. روى الزهري عن عروة عن المسور بن
مخرمة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: كان مما شرط سهيل
بن عمرو على رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية لا يأتيك
منا أحد، وإن كان على دينك إلا رددته علينا فرد أبا جندل على أبيه سهيل
بن عمرو، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة، وإن كان مسلما
وجاء المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ وهي عاتق، فجاء أهلها يسألون
رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجعها، فأنزل الله فيهن: {إِذَا
جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} الآية. قال عروة: فأخبرتني
عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمتحنهن بهذه الآية: {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} ،
قالت: فمن أقر بهذا الشرط منهن قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قد بايعتك كلاما يكلمها به والله ما مست يده يد امرأة من أهل المبايعة
وروى عكرمة بن عمار عن أبي زميل عن عمر بن الخطاب قال: لقد صالح رسول
الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة يوم الحديبية وجعل لهم أن من لحق
بالكفار من المسلمين لم يردوه، ومن لحق بالمسلمين من الكفار يردونه.
وروى الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: "كان في الصلح يوم الحديبية أن من
أسلم من أهل مكة فهو رد إليهم، ونزلت سورة الممتحنة بعد الصلح فكان من
أسلم من نسائهم تسأل ما أخرجك؟ فإن كانت خرجت هربا من زوجها ورغبة عنه
ردت، وإن كانت خرجت رغبة في الإسلام أمسكت ورد على زوجها ما أنفق".
قال أبو بكر: لا يخلو الصلح من أن يكون كان خاصا في الرجال دون النساء
على الوجه الذي ذكر من رد من جاء منهم مسلما إليهم، أو أن يكون وقع
بديا عاما ثم نسخ عن النساء، وهذا أظهر الوجهين وذلك جائز عندنا، وإن
لم يرد النبي صلى الله عليه وسلم أحدا من النساء عليهم; لأن النسخ جائز
بعد التمكين من الفعل، وإن لم يقع الفعل. وقوله: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا} خطاب للمؤمنين والمراد به النبي صلى الله عليه وسلم
إذا هاجرن إليه; لأنه هو الذي يتولى امتحانهن دون المؤمنين، وقد أريد
به سائر المؤمنين عند غيبة النبي صلى الله عليه وسلم عن حضرتهم.
وقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} المراد به العلم
الظاهر لا حقيقة اليقين; لأن ذلك لا سبيل لنا إليه، وهو مثل قول إخوة
يوسف: {إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا
(3/584)
بِمَا
عَلِمْنَا} [يوسف: 81] يعنون العلم الظاهر; لأنه لم يكن سرق في
الحقيقة، ألا ترى إلى قوله: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ}
[يوسف: 81]؟، وإنما حكموا عليه بالسرقة من جهة الظاهر لما وجدوا الصواع
في رحله; وهو مثل شهادة الشهود الذين ظاهرهم العدالة قد تعبدنا الله
بالحكم بها من طريق الظاهر وحمل شهادتهما على الصحة، وكذلك قبول أخبار
الآحاد عن النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الطريق وقد ألزمنا الله
بهذه الآية قبول قول من أظهر لنا الإيمان والحكم بصحة ما أخبر به عن
نفسه فيما بيننا وبينه. وهذا أصل في تصديق كل من أخبر عما لا يطلع عليه
غيره من حاله، مثل المرأة إذا أخبرت عن حيضها وطهرها وحبلها، ومثل
الرجل يقول لامرأته: "أنت طالق إذا حضت" أو قال: "إذا طهرت" فيكون
قولها مقبولا فيه، وقال عطاء بن أبي رباح، وتلا هذه الآية: {إِذَا
جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ} فقال عطاء: ما علمنا إيمانهن إلا بما ظهر من
قولهن; وقال قتادة: امتحانهن ما خرجن إلا للدين والرغبة في الإسلام وحب
الله تعالى ورسوله.
(3/585)
باب وقوع الفرقة باختلاف الدارين
قال الله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ
يَحِلُّونَ لَهُنَّ} الآية. قال أبو بكر: في هذه الآية ضروب من الدلالة
على وقوع الفرقة باختلاف الدارين بين الزوجين. واختلاف الدارين أن يكون
أحد الزوجين من أهل دار الحرب والآخر من أهل دار الإسلام وذلك; لأن
المهاجرة إلى دار الإسلام قد صارت من أهل دار الإسلام وزوجها باق على
كفره من أهل دار الحرب فقد اختلفت بهما الداران، وحكم الله بوقوع
الفرقة بينهما بقوله: {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} . ولو
كانت الزوجية باقية لكان الزوج أولى بها بأن تكون معه حيث أراد، ويدل
عليه أيضا قوله: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}
; وقوله: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} يدل عليه أيضا; لأنه أمر برد
مهرها على الزوج، ولو كانت الزوجية باقية لما استحق الزوج رد المهر;
لأنه لا يجوز أن يستحق البضع وبدله، ويدل عليه قوله: {وَلا جُنَاحَ
عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}
ولو كان النكاح الأول باقيا لما جاز لها أن تتزوج ويدل عليه قوله:
{وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ، والعصمة المنع، فنهانا أن
نمتنع من تزويجها لأجل زوجها الحربي.
واختلف أهل العلم في الحربية تخرج إلينا مسلمة، فقال أبو حنيفة في
الحربية تخرج إلينا مسلمة ولها زوج كافر في دار الحرب: "قد وقعت الفرقة
فيما بينهم ولا عدة عليها" وقال أبو يوسف ومحمد: "عليها العدة، وإن
أسلم الزوج لم تحل له إلا بنكاح
(3/585)
مستقبل"،
وهو قول الثوري وقال مالك والأوزاعي والليث والشافعي: "إن أسلم الزوج
قبل أن تحيض ثلاث حيض فقد وقعت الفرقة".
ولا فرق عند الشافعي بين دار الحرب وبين دار الإسلام، لا حكم للدار
عنده. قال أبو بكر: روى قتادة عن سعيد بن المسيب عن علي قال: "إذا
أسلمت اليهودية والنصرانية قبل زوجها فهو أحق بها ما داموا في دار
الهجرة". وروى الشيباني عن السفاح بن مطر عن داود بن كردوس قال: "كان
رجل من بني تغلب نصراني عنده امرأة من بني تميم نصرانية فأسلمت المرأة
وأبى الزوج أن يسلم، ففرق عمر بينهما" وروى ليث عن عطاء وطاوس ومجاهد
في النصراني تسلم امرأته قالوا: "إن أسلم معها فهي امرأته، وإن لم يسلم
فرق بينهما". وروى قتادة عن مجاهد قال: "إذا أسلم وهي في عدتها فهي
امرأته، وإن لم تسلم فرق بينهما"، وروى حجاج عن عطاء مثله، وعن الحسن
وابن المسيب مثله وقال إبراهيم: "إن أبى أن يسلم فرق بينهما" وروى عباد
بن العوام عن خالد عن عكرمة عن ابن عباس قال: "إذا أسلمت النصرانية قبل
زوجها فهي أملك لنفسها".
قال أبو بكر: حصل اختلاف السلف في ذلك على ثلاثة أنحاء; فقال علي رضي
الله عنه : "هو أحق بها ما داموا في دار الهجرة"، وهذا معناه عندنا إذا
كانا في دار واحدة، ومتى اختلفت بهما الدار فصار أحدهما في دار الحرب
والآخر في دار الإسلام بانت، وقال عمر رضي الله عنه: "إذا أسلمت وأبى
الزوج الإسلام فرق بينهما". وهذا أيضا على أنهما في دار الإسلام وقال
آخرون ممن ذكرنا قوله: "هي امرأته ما دامت في العدة فإذا انقضت العدة
وقعت الفرقة"، وقال ابن عباس: "تقع الفرقة بإسلامها" واتفق فقهاء
الأمصار على أنها لا تبين منه بإسلامها إذا كانا في دار واحدة.
واختلفوا في وقت وقوع الفرقة إذا أسلمت ولم يسلم الزوج، فقال أصحابنا:
"إن كانا ذميين لم تقع الفرقة حتى يعرض الإسلام عليه، فإن أسلم، وإلا
فرق بينهما"، وهو معنى ما روي عن علي وعمر، وقالوا: "إن كانا حربيين في
دار الحرب فأسلمت فهي امرأته ما لم تحض ثلاث حيض، فإذا حاضت ثلاث حيض
قبل أن يسلم فرق بينهما" ويجوز أن يكون من روي عنه من السلف اعتبار
الحيض إنما أرادوا به الحربيين في دار الحرب وقال أصحابنا: "إذا أسلم
أحد الحربيين، وخرج إلينا أيهما كان وبقي الآخر في دار الحرب فقد وقعت
الفرقة باختلاف الدارين" وقد ذكرنا وجوه دلائل الآية على صحة هذا القول
ومن الدليل على ذلك قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا
مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] ، قال أبو سعيد الخدري:
"نزلت في سبايا أوطاس كان لهن
(3/586)
أزواج في
الشرك وأباحهن لهم بالسبي" وروي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
[النساء: 24] قال: "كل ذات زوج فإتيانها زنا إلا ما سبيت" وقال النبي
صلى الله عليه وسلم في السبايا: "لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى
تستبرأ بحيضة" . واتفق الفقهاء على جواز وطء المسبية بعد الاستبراء،
وإن كان لها زوج في دار الحرب إذا لم يسب زوجها معها، فلا يخلو وقوع
الفرقة من أن يتعلق بإسلامها أو باختلاف الدارين على الحد الذي بينا أو
بحدوث الملك عليها، وقد اتفق الجميع على أن إسلامها لا يوجب الفرقة في
الحال; وثبت أيضا أن حدوث الملك لا يرفع النكاح بدلالة أن الأمة التي
لها زوج إذا بيعت لم تقع الفرقة. وكذلك إذا مات رجل عن أمة لها زوج لم
يكن انتقال الملك إلى الوارث رافعا للنكاح، فلم يبق وجه لإيقاع الفرقة
إلا اختلاف الدارين.
فإن قيل: اختلاف الدارين لا يوجب الفرقة; لأن المسلم إذا دخل دار الحرب
بأمان لم يبطل نكاح امرأته، وكذلك لو دخل حربي إلينا بأمان لم تقع
الفرقة بينه وبين زوجته، وكذلك لو أسلم الزوجان في دار الحرب ثم خرج
أحدهما إلى دار الإسلام لم تقع الفرقة، فسلمنا أنه لا تأثير لاختلاف
الدارين في إيجاب الفرقة قيل له: ليس معنى اختلاف الدارين ما ذهبت
إليه، وإنما معناه أن يكون أحدهما من أهل دار الإسلام إما بالإسلام أو
بالذمة والآخر من أهل دار الحرب فيكون حربيا كافرا، فأما إذا كانا
مسلمين فهما من أهل دار واحدة، وإن كان أحدهما مقيما في دار الحرب
والآخر في دار الإسلام.
فإن احتج المخالف لنا بما روى يونس عن محمد بن إسحاق عن داود بن الحصين
عن عكرمة عن ابن عباس قال: رد النبي صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على
أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول بعد ست سنين، وقد كانت زينب هاجرت
إلى المدينة وبقي زوجها بمكة مشركا ثم ردها عليه بالنكاح الأول، وهذا
يدل على أنه لا تأثير لاختلاف الدارين في إيقاع الفرقة فيقال: لا يصح
الاحتجاج به للمخالف من وجوه. أحدها: أنه قال: "ردها بعد ست سنين
بالنكاح الأول"; لأنه لا خلاف بين الفقهاء أنها لا ترد إليه بالعقد
الأول بعد انقضاء ثلاث حيض، ومعلوم أنه ليس في العادة أنها لا تحيض
ثلاث حيض في ست سنين، فسقط احتجاج المخالف به من هذا الوجه. ووجه آخر:
وهو ما روى خالد عن عكرمة عن ابن عباس في اليهودية تسلم قبل زوجها أنها
أملك لنفسها; فكان من مذهبه أن الفرقة قد وقعت بإسلامها، وغير جائز أن
يخالف النبي صلى الله عليه وسلم فيما قد رواه عنه. والوجه الثالث: أن
عمرو بن شعيب روى عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم رد
ابنته زينب على أبي العاص بنكاح ثان فهذا يعارض حديث داود بن الحصين،
وهو مع ذلك أولى; لأن حديث
(3/587)
ابن عباس
إن صح فإنما هو إخبار عن كونها زوجة له بعدما أسلم، ولم يعلم حدوث عقد
ثان، وفي حديث عمرو بن شعيب الإخبار عن حدوث عقد ثان بعد إسلامه، فهو
أولى; لأن الأول إخبار عن ظاهر الحال، والثاني إخبار عن معنى حادث قد
علمه، وهذا مثل ما تقوله في رواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه
وسلم تزوج ميمونة وهو محرم، وحديث يزيد بن الأصم أنه تزوجها وهو حال.
فقلنا: حديث ابن عباس أولى; لأنه أخبر عن حال حادثة وأخبر الآخر عن
ظاهر الأمر الأول، وكحديث زوج بريرة أنه كان حرا حين أعتقت ورواية من
روى أنه كان عبدا، فكان الأول أولى لإخباره عن حال حادثة علمها، وأخبر
الآخر عن ظاهر الأمر الأول ولم يعلم حدوث حال أخرى.
(3/588)
فصل
وإنما قال أبو حنيفة في المهاجرة أنه لا عدة عليها من الزوج الحربي;
لقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} ، فأباح
نكاحها من غير ذكر عدة، وقال في نسق التلاوة: {وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ، والعصمة المنع، فحظر الامتناع من نكاحها;
لأجل زوجها الحربي. والكوافر يجوز أن يتناول الرجال، وظاهره في هذا
الموضع الرجال; لأنه في ذكر المهاجرات. وأيضا أباح النبي صلى الله عليه
وسلم وطء المسبية بعد الاستبراء بحيضة، والاستبراء ليس بعدة; لأن النبي
صلى الله عليه وسلم قال: "عدة الأمة حيضتان" والمعنى فيها وقوع الفرقة
باختلاف الدارين.
وقوله تعالى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا
أَنْفَقُوا} ; قال معمر عن الزهري: يعني رد الصداق، واسألوا أهل الحرب
مهر المرأة المسلمة إذا صارت إليهم، وليسألوا هم أيضا مهر من صارت
إلينا مسلمة منهم"; وقال الزهري: "فأما المؤمنون فأقروا بحكم الله،
وأما المشركون فأبوا أن يقروا، فأنزل الله: {وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ
مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ
ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} فأمر المسلمون أن يردوا
الصداق إذا ذهبت امرأة من المسلمين ولها زوج مسلم أن يرد إليه المسلمون
صداق امرأته إن كان في أيديهم مما يردون، وأن يردوا إلى المشركين".
وروى خصيف عن مجاهد في قوله تعالى: {وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ} :
"من الغنيمة أن يعوض منها". وروى زكريا بن أبي زائدة عن الشعبي قال:
"كانت زينب امرأة عبد الله بن مسعود ممن ذكر الله في القرآن:
{وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلوا مَا أَنْفَقُوا} خرجت إلى
المؤمنين" وروى الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق: {وَإِنْ فَاتَكُمْ
شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} قال: "ليس بينكم وبينهم
عهد" {فَعَاقَبْتُمْ} "وأصبتم غنيمة" {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ
أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} قال: "عوضوا
(3/588)
زوجها مثل
الذي ذهب منه". وروى سعيد عن قتادة مثله، وزاد: "يعطى من جميع الغنيمة
ثم يقسمون غنيمتهم" وقال ابن إسحاق عن الزهري، قال: "إن فات أحدكم أهله
إلى الكفار ولم يأت من الكفار من تأخذون منه مثل ما أخذ منكم فعوضوهم
من فيء إن أصبتموه" وجائز أن تكون هذه الرواية عن الزهري غير مخالفة
لما قدمنا من أنهم يعوضون من صداق إن وجب عليهم رده إلى الكفار، وأنه
إنما يجب رده من صداق وجب للكفار إذا كان هناك صداق قد وجب رده عليهم،
وإذا لم يكن صداق رد عليهم من الغنيمة وهذه الأحكام في رد المهر وأخذه
من الكفار وتعويض الزوج من الغنيمة أو من صداق قد وجب رده على أهل
الحرب منسوخ عند جماعة أهل العلم غير ثابت الحكم إلا شيئا روي عن عطاء.
"فإن عبد الرزاق روى عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيت لو أن امرأة من
أهل الشرك جاءت المسلمين فأسلمت أيعوض زوجها منها شيئا لقوله تعالى في
الممتحنة: {وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا} ؟ قال: إنما كان ذلك بين النبي
صلى الله عليه وسلم وبين أهل عهده، قلت: فجاءت امرأة الآن من أهل عهد؟
قال: نعم، يعاض فهذا مذهب عطاء في ذلك" وهو خلاف الإجماع.
فإن قيل: ليس في القرآن ولا في السنة ما يوجب نسخ هذه الأحكام، فمن أين
وجب نسخها؟ قيل له: يجوز أن يكون منسوخا بقوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا
أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً
عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] وبقول النبي صلى الله عليه وسلم:
"لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة من نفسه" .
وقوله تعالى: {وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ
أَيْدِيهِنَّ وَأَرُجُلِهِنَّ} قال ابن عباس: "لا يلحقن بأزواجهن غير
أولادهن" وقيل: إنه قد دخل فيه قذف أهل الإحصان، والكذب على الناس،
وقذفهم بالباطل وما ليس فيهم وسائر ضروب الكذب، وظاهر الآية يقتضي جميع
ذلك.
وقوله تعالى: {وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} ، روى معمر عن ثابت عن
أنس قال: أخذ النبي صلى الله عليه وسلم على النساء حين بايعهن أن لا
ينحن فقلن: يا رسول الله إن نساء أسعدننا في الجاهلية فنسعدهن في
الإسلام؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا إسعاد في الإسلام ولا
شغار في الإسلام ولا جلب في الإسلام ولا جنب في الإسلام ومن انتهب فليس
منا". وروي عن شهر بن حوشب عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم:
{وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} قال: النوح. وروى هشام عن حفصة عن أم
عطية قالت: أخذ علينا في البيعة أن لا ننوح، وهو قوله تعالى: {وَلا
يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} . وروى عطاء عن جابر أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "نهيت عن صوتين أحمقين صوت لعب ولهو ومزامير شيطان عند
نغمة، وصوت عند مصيبة خمش
(3/589)
وجوه وشق
جيوب ورنة شيطان" . قال أبو بكر: هو عموم في جميع طاعة الله; لأنها
كلها معروف، وتركك النوح أحد ما أريد بالآية، وقد علم الله أن نبيه لا
يأمر إلا بمعروف إلا أنه شرط في النهي عن عصيانه إذا أمرهن بالمعروف
لئلا يترخص أحد في طاعة السلاطين إذا لم تكن طاعة لله تعالى; إذ كان
الله - تعالى - قد شرط في طاعة أفضل البشر فعل المعروف، وهو في معنى
قوله صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" . وقال
النبي صلى الله عليه وسلم: "من أطاع مخلوقا في معصية الخالق سلط الله
عليه ذلك المخلوق" وفي لفظ آخر: "عاد حامده من الناس ذاما"، وإنما خص
النبي صلى الله عليه وسلم بالمخاطبة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} ; لأن بيعة من
أسلم كان مخصوصا بها النبي صلى الله عليه وسلم وعم المؤمنين بذكر
المحنة في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} ; لأنه لم يكن يختص بها النبي
صلى الله عليه وسلم دون غيره، ألا ترى أنا نمتحن المهاجرة الآن؟ والله
أعلم بالصواب. آخر سورة الممتحنة.
(3/590)
ومن سورة الصف
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا
لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا
تَفْعَلُونَ} قال أبو بكر: يحتج به في أن كل من ألزم نفسه عبادة أو
قربة وأوجب على نفسه عقدا لزمه الوفاء به; إذ ترك الوفاء به يوجب أن
يكون قائلا ما لا يفعل، وقد ذم الله فاعل ذلك، وهذا فيما لم يكن معصية،
فأما المعصية فإن إيجابها في القول لا يلزمه الوفاء بها. وقال النبي
صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين" ، وإنما
يلزم ذلك فيما عقده على نفسه مما يتقرب به إلى الله - عز وجل - مثل
النذور وفي حقوق الآدميين العقود التي يتعاقدونها، وكذلك الوعد بفعل
يفعله في المستقبل، وهو مباح، فإن الأولى الوفاء به مع الإمكان فأما
قول القائل: "إني سأفعل كذا" فإن ذلك مباح له على شريطة استثناء مشيئة
الله تعالى وأن يكون في عقد ضميره الوفاء به، ولا جائز له أن يعد وفي
ضميره أن لا يفي به; لأن ذلك هو المحظور الذي نهى الله عنه ومقت فاعله
عليه، وإن كان في عقد ضميره الوفاء به ولم يقرنه بالاستثناء فإن ذلك
مكروه; لأنه لا يدري هل يقع منه الوفاء به أم لا. فغير جائز له إطلاق
القول في مثله مع خوف إخلاف الوعد فيه وهو يدل على أن من قال: "إن فعلت
كذا فأنا أحج أو أهدي أو أصوم" فإن ذلك بمنزلة الإيجاب بالنذر; لأن ترك
فعله يؤديه إلى أن يكون قائلا ما لم يفعل.
وروي عن ابن عباس ومجاهد: "أنها نزلت في قوم قالوا: لو علمنا أحب
الأعمال إلى الله - تعالى - لسارعنا إليه، فلما نزل فرض الجهاد تثاقلوا
عنه" وقال قتادة: "نزلت في قوم كانوا يقولون: جاهدنا وأبلينا، ولم
يفعلوا" وقال الحسن: "نزلت في المنافقين وسماهم بالإيمان لإظهارهم له".
وقوله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} من دلائل النبوة
لأنه أخبر بذلك والمسلمون في ضعف وقلة وحال خوف مستذلون مقهورون فكان
مخبره على ما أخبر
(3/591)
به; لأن
الأديان التي كانت في تلك الزمان اليهودية والنصرانية والمجوسية
والصابئة وعباد الأصنام من السند وغيرهم فلم تبق من أهل هذه الأديان
أمة إلا وقد ظهر عليهم المسلمون فقهروهم وغلبوهم على جميع بلادهم أو
بعضها وشردوهم إلى أقاصي بلادهم فهذا هو مصداق هذه الآية التي وعد الله
تعالى رسوله فيها إظهاره على جميع الأديان وقد علمنا أن الغيب لا يعلمه
إلا الله عز وجل ولا يوحي به إلا إلى رسله فهذه دلالة واضحة على صحة
نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل كيف يكون ذلك إظهارا لرسول الله صلى الله عليه وسلم على جميع
الأديان، وإنما حدث بعد موته؟ قيل له إنما وعد الله رسوله صلى الله
عليه وسلم أن يظهر دينه على سائر الأديان; لأنه قال: {هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى
الدِّينِ كُلِّهِ} يعني دين الحق وعلى أنه لو أراد رسوله لكان مستقيما;
لأنه إذا أظهر دينه ومن آمن به على سائر الأديان فجائز أن يقال قد أظهر
نبيه صلى الله عليه وسلم. كما أن جيشا لو فتحوا بلدا عنوة جاز أن يقال
إن الخليفة فتحه، وإن لم يشهد القتال إذ كان بأمره وتجهيزه للجيش
فعلوا.
وقوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ
عَذَابٍ أَلِيمٍ} إلى قوله: {وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} وهذا أيضا من دلائل
النبوة لوعده من أمر بالنصر والفتح وقد وجد ذلك لمن آمن منهم، والله
الموفق. آخر سورة الصف.
(3/592)
ومن سورة
الجمعة
مدخل
...
ومن سورة الجمعة
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً
مِنْهُمْ} قيل: إنما سموا أميين; لأنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرءون
الكتابة، وأراد الأكثر الأعم، وإن كان فيهم القليل ممن يكتب ويقرأ;
وقال النبي: "الشهر هكذا وهكذا وأشار بأصابعه، وقال: إنا نحن أمة أمية
لا نحسب ولا نكتب" . وقال تعالى: {رَسُولاً مِنْهُمْ} ; لأنه كان أميا،
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ
الْأُمِّيَّ} [اعراف: 157] وقيل إنما سمي من لا يكتب أميا; لأنه نسب
إلى حال ولادته من الأم; لأن الكتابة إنما تكون بالاستفادة والتعلم دون
الحال التي يجري عليها المولود. وأما وجه الحكمة في جعل النبوة في أمي
فإنه ليوافق ما تقدمت به بالبشارة في كتب الأنبياء السالفة; ولأنه أبعد
من توهم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالكتابة; فهذان وجهان من
الدلالة في كونه أميا على صحة النبوة ومع أن مشاكلة لحال الأمة الذين
بعث فيهم وذلك أقرب إلى مساواته لو كان ذلك ممكنا فيه، فدل عجزهم عما
أتى به على مساواته لهم في هذا الوجه على أنه من قبل الله عز وجل.
وقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ
يَحْمِلُوهَا} الآية. روي أنه أراد اليهود الذين أمروا بتعلم التوراة
والعمل بها فتعلموها ثم لم يعملوا بها، فشبههم الله بالحمار الذي يحمل
الكتب وهي الأسفار; إذ لم ينتفعوا بما حملوه كما لا ينتفع الحمار
بالكتب التي حملها; وهو نحو قوله: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ
بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان: 44] وقوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ
نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:
175] إلى قوله: {كَمَثَلِ الْكَلْبِ} [الأعراف: 176]
وقوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ
أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ} إلى قوله:
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} روي أن اليهود زعموا أنهم أولياء
لله من دون الناس فأنزل الله هذه الآية وأخبرهم النبي صلى الله عليه
وسلم أنهم إن تمنوه ماتوا فقامت الحجة عليهم بها
(3/593)
من وجهين.
أحدهما: أنهم لو كانوا صادقين فيما ادعوا من المنزلة عند الله لتمنوا
الموت; لأن دخول الجنة مع الموت خير من البقاء في الدنيا. والثاني: أنه
أخبر أنهم لا يتمنونه فوجد مخبره على ما أخبر به فهذا واضح من دلائل
النبوة.
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ
لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}
الآية. قال أبو بكر يفعل في يوم الجمعة جماعة صلوات كما يفعل في سائر
الأفعال ولم يبين في الآية أنها هي واتفق المسلمون على أن المراد
الصلاة التي إذا فعلها مع الإمام جمعة لم يلزمه فعل الظهر معها وهي
ركعتان بعد الزوال على شرائط الجمعة واتفق الجميع أيضا على أن المراد
بهذا النداء هو الأذان، ولم يبين في الآية كيفيته وبينه الرسول صلى
الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن زيد الذي رأى في المنام الأذان
ورآه عمر أيضا كما رآه ابن زيد وعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أبا
محذورة وذكر فيه الترجيع وقد ذكرنا ذلك عند قوله تعالى: {وَإِذَا
نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} [المائدة: 58]. وروي عن ابن عمر والحسن
في قوله {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} قال "إذا
خرج الإمام وأذن المؤذن فقد نودي للصلاة". وروى الزهري عن السائب بن
يزيد قال" ما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مؤذن واحد يؤذن
إذا قعد على المنبر ثم يقيم إذا نزل ثم أبو بكر كذلك ثم عمر كذلك فلما
كان عثمان وفشا الناس وكثروا زاد النداء الثالث".
وقد روي عن جماعة من السلف إنكار الأذان الأول قبل خروج الإمام. روى
وكيع قال حدثنا هشام بن الغاز قال سألت نافعا عن الأذان الأول يوم
الجمعة قال قال ابن عمر بدعة وكل بدعة ضلالة، وإن رآه الناس حسنا".
وروى منصور عن الحسن قال "النداء يوم الجمعة الذي يكون عند خروج الإمام
والذي قبل محدث". وروى عبد الرزاق عن ابن جريح عن عطاء قال "إنما كان
الأذان يوم الجمعة فيما مضى واحدا ثم الإقامة وأما الأذان الأول الذي
يؤذن به الآن قبل خروج الإمام وجلوسه على المنبر فهو باطل أول من أحدثه
الحجاج". وأما أصحابنا فإنهم إنما ذكروا أذانا واحدا إذا قعد الإمام
على المنبر فإذا نزل أقام على ما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأبي بكر وعمر. رضي الله عنهما
وأما وقت الجمعة فإنه بعد الزوال، وروى أنس وجابر وسهل بن سعد وسلمة بن
الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الجمعة إذا زالت الشمس.
وروى شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة قال: صلى بنا عبد الله
بن مسعود وأصحابه الجمعة ضحى ثم قال: إنما فعلت ذلك مخافة الحر عليكم"
وروي عن عمر وعلي أنهما رضي الله عنهما صلياها بعد الزوال ولما قال عبد
الله: إني قدمت مخافة الحر عليكم" علمنا أنه فعلها على غير الوجه
المعتاد المتعارف بينهم. ومعلوم أن فعل الفروض قبل أوقاتها لا يجوز
(3/594)
لحر ولا
لبرد إذا لم يوجد أسبابها، ويحتمل أن يكون فعلها في أول وقت الظهر الذي
هو أقرب أوقات الظهر إلى الضحى، فسماه الراوي ضحى; لقربه منه، كما قال
النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتسحر: "تعال إلى الغداء المبارك" فسماه
غداء لقربه من الغداء، وكما قال حذيفة: تسحرنا مع رسول الله صلى الله
عليه وسلم وكان نهارا والمعنى قريب من النهار ولما اختلف الفقهاء في
الذي يلزم من الفرض بدخول الوقت، فقال قائلون: "فرض الوقت الجمعة
والظهر بدل منها" وقال آخرون: "فرض الوقت الظهر والجمعة بدل منه"،
استحال أن يفعل البدل إلا في وقت يصح فيه فعل المبدل عنه وهو الظهر،
ولما ثبت أن وقتها بعد الزوال ثبت أن وقت النداء لها بعد الزوال كسائر
الصلوات.
وقوله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} قرأ عمر وابن مسعود
وأبي وابن الزبير: "فامضوا إلى ذكر الله"; قال عبد الله: لو قرأت:
"فاسعوا" لسعيت حتى يسقط ردائي قال أبو بكر: يجوز أن يكون أراد التفسير
لا نص القراءة، كما قال ابن مسعود للأعجمي الذي كان يلقنه: {إِنَّ
شَجَرَتَ الزَّقُّومِ الدخان طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 44,43] فكان
يقول طعام اليتيم"، فلما أعياه قال له طعام الفاجر "، وإنما أراد
إفهامه المعنى وقال الحسن: "ليس يريد به العدو، وإنما السعي بقلبك
ونيتك". وقال عطاء: "السعي الذهاب" وقال عكرمة: "السعي العمل". قال أبو
عبيدة: فاسعوا أجيبوا، وليس من العدو.
قال أبو بكر الأولى أن يكون المراد بالسعي ههنا إخلاص النية والعمل،
وقد ذكر الله السعي في مواضع من كتابه ولم يكن مراده سرعة المشي، منها
قوله: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا} [الاسراء:
19] {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 205] {وَأَنْ
لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، وإنما أراد العمل
وروى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إذا ثوب بالصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون ولكن
ائتوها وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا" ،
ولم يفرق بين الجمعة وغيرها واتفق فقهاء الأمصار على أنه يمشي إلى
الجمعة على هينته.
(3/595)
فصل
واتفق فقهاء الأمصار على أن الجمعة مخصوصة بموضع لا يجوز فعلها في
غيره; لأنهم مجمعون على أن الجمعة لا تجوز في البوادي ومناهل الأعراب،
فقال أصحابنا: "هي مخصوصة بالأمصار ولا تصح في السواد"، وهو قول الثوري
وعبيد الله بن الحسن.
(3/595)
وقال
مالك: "تصح الجمعة في كل قرية فيها بيوت متصلة وأسواق متصلة، يقدمون
رجلا يخطب ويصلي بهم الجمعة إن لم يكن لهم إمام". وقال الأوزاعي: "لا
جمعة إلا في مسجد جماعة مع الإمام" وقال الشافعي: "إذا كانت قرية
مجتمعة البناء والمنازل وكان أهلها لا يظعنون عنها إلا ظعن حاجة وهم
أربعون رجلا حرا بالغا غير مغلوب على عقله وجبت عليهم الجمعة".
قال أبو بكر: روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا جمعة ولا
تشريق إلا في مصر جامع" ، وروي عن علي مثله وأيضا لو كانت الجمعة جائزة
في القرى لورد النقل به متواترا كوروده في فعلها في الأمصار; لعموم
الحاجة إليه. وأيضا لما اتفقوا على امتناع جوازها في البوادي; لأنها
ليست بمصر وجب مثله في السواد وروي أنه قيل للحسن: إن الحجاج أقام
الجمعة بالأهواز فقال: لعن الله الحجاج يترك الجمعة في الأمصار ويقيمها
في حلاقيم البلاد.
فإن قيل: روي عن ابن عمر أن الجمعة تجب على من آواه الليل، وأن أنس بن
مالك كان بالطف فربما جمع وربما لم يجمع; وقيل من الطف إلى البصرة أقل
من أربع فراسخ وأقل من مسيرة نصف يوم. قيل له: إنما هذا كلام فيما حكمه
حكم المصر، فرأى ابن عمر أن ما قرب من المصر فحكمه حكمه وتجب على أهله
الجمعة، وهذا يدل على أنهم لم يكونوا يرون الجمعة إلا في الأمصار أو ما
حكمه حكم الأمصار.
والجمعة ركعتان نقلتها الأمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قولا وعملا;
وقال عمر: صلاة السفر ركعتان وصلاة الفجر ركعتان وصلاة الجمعة ركعتان
تمام غير قصر على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم; وإنما قصرت الجمعة
لأجل الخطبة.
(3/596)
باب وجوب خطبة الجمعة
قال الله تعالى: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ}
فاقتضى ذلك وجوب السعي إلى الذكر، ودل على أن هناك ذكرا واجبا يجب
السعي إليه وقال ابن المسيب: {فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} موعظة
الإمام" وقال عمر في الحديث الذي قدمنا: "إنما قصرت الجمعة لأجل
الخطبة" وروى الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب
المسجد ملائكة يكتبون الناس الأول فالأول فإذا خرج الإمام طويت الصحف
واستمعوا الخطبة، فالمهجر إلى الجمعة كالذي يهدي بدنة ثم الذي يليه
كالمهدي بقرة ثم الذي يليه كالمهدي شاة ثم الذي يليه كالمهدي دجاجة ثم
الذي يليه كالمهدي بيضة" ويدل على أن المراد بالذكر ههنا هو الخطبة;
لأن
(3/596)
الخطبة هي
التي تلي النداء، وقد أمر بالسعي إليه، فدل على أن المراد الخطبة وقد
روي عن جماعة من السلف أنه إذا لم يخطب صلى أربعا، منهم الحسن وابن
سيرين وطاوس وابن جبير وغيرهم، وهو قول فقهاء الأمصار.
واختلف أهل العلم فيمن لم يدرك الخطبة وأدرك الصلاة أو بعضها، فروي عن
عطاء بن أبي رباح في الرجل تفوته الخطبة يوم الجمعة: أنه يصلي الظهر
أربعا" وروى سفيان عن ابن أبي نجيح عن مجاهد وعطاء وطاوس قالوا: من لم
يدرك الخطبة يوم الجمعة صلى أربعا" وقال ابن عون: ذكر لمحمد بن سيرين
قول أهل مكة إذا لم يدرك الخطبة يوم الجمعة صلى أربعا، قال: ليس هذا
بشيء.
قال أبو بكر: ولا خلاف بين فقهاء الأمصار والسلف ما خلا عطاء ومن ذكرنا
قوله أن من أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها أخرى، ولم يخالفهم عطاء
وغيره أنه لو شهد الخطبة فذهب يتوضأ ثم جاء فأدرك مع الإمام ركعة أنه
يصلي ركعتين، فلما لم يمنعه فوات الركعة من فعل الجمعة كانت الخطبة
أولى وأحرى بذلك. وروى الأوزاعي عن عطاء أن من أدرك ركعة من الجمعة
أضاف إليها ثلاثا، وهذا يدل على أنه فاتته الخطبة وركعة منها وروي عن
عبد الله بن مسعود وابن عمر وأنس والحسن وابن المسيب والنخعي والشعبي:
"إذا أدرك ركعة من الجمعة أضاف إليها أخرى" وروى الزهري عن أبي سلمة عن
أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من
الجمعة فليصل إليها أخرى، ومن فاتته الركعتان يصلي أربعا" واختلف السلف
وفقهاء الأمصار فيمن أدرك الإمام في التشهد، فروى أبو وائل عن عبد الله
بن مسعود قال: "من أدرك التشهد فقد أدرك الصلاة" وروى ابن جريج عن عبد
الكريم عن معاذ بن جبل قال: "إذا دخل في صلاة الجمعة قبل التسليم وهو
جالس فقد أدرك الجمعة" وروي عن الحسن وإبراهيم والشعبي قالوا: "من لم
يدرك الركوع يوم الجمعة صلى أربعا" وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: "إذا
أدركهم في التشهد صلى ركعتين" وقال زفر ومحمد: "يصلي أربعا" وذكر
الطحاوي عن ابن أبي عمران عن محمد بن سماعة عن محمد أنه قال: "يصلي
أربعا، يقعد في الثنتين الأوليين قدر التشهد فإن لم يقعد قدر التشهد
أمرته أن يصلي الظهر أربعا". وقال مالك والثوري والحسن بن صالح
والشافعي: "يصلي أربعا"، إلا أن مالكا قال: "إذا قام يكبر تكبيرة أخرى"
وقال الثوري: "إذا أدرك الإمام جالسا لم يسلم صلى أربعا ينوي الظهر،
وأحب إلي أن يستفتح الصلاة" وقال عبد العزيز بن أبي سلمة: "إذا أدرك
الإمام يوم الجمعة في التشهد قعد بغير تكبير، فإذا سلم الإمام قام فكبر
ودخل في صلاة نفسه، وإن قعد مع الإمام بتكبير سلم إذا فرغ الإمام ثم
قام فكبر للظهر" وقال
(3/597)
الليث:
"إذا أدرك ركعة مع الإمام يوم الجمعة وعنده أن الإمام قد خطب فإنما
يصلي إليها ركعة أخرى ثم يسلم، فإن أخبره الناس أن الإمام لم يخطب وأنه
صلى أربعا صلى ركعتين وسجد سجدتي السهو".
قال أبو بكر: لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أدركتم فصلوا وما
فاتكم فاقضوا" وجب على مدرك الإمام في تشهد الجمعة اتباعه فيه والقعود
معه، ولما كان مدركا لهذا الجزء من الصلاة وجب عليه قضاء الفائت منها
بظاهر قوله عليه السلام وما فاتكم فاقضوا"، والفائت منها هي الجمعة،
فوجب أن يقضي ركعتين وأيضا لما كان مدرك المقيم في التشهد لزمه الإتمام
إذا كان مسافرا وكان بمنزلة مدركه في التحريمة وجب مثله في الجمعة; إذ
الدخول في كل واحدة من الصلاتين بغير الفرض. فإن قيل: روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال: "من أدرك ركعة من الجمعة فليصل إليها أخرى"
وفي بعض الأخبار: "وإن أدركهم جلوسا صلى أربعا" قيل له: أصل الحديث:
"من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك" ، فقال الزهري وهو راوي الحديث: ما
أرى الجمعة إلا من الصلاة; فذكر الجمعة إنما هو من كلام الزهري;
والحديث إنما يدور على الزهري، مرة يرويه عن سعيد بن المسيب ومرة عن
أبي سلمة عن أبي هريرة، وقد قال حين روى الحديث في صلاة مطلقة: أرى
الجمعة من الصلاة; فلو كان عنده عن النبي صلى الله عليه وسلم نص في
الجمعة لما قال: ما أرى الجمعة إلا من الصلاة وعلى أن قوله: "من أدرك
ركعة من الجمعة فقد أدرك" لا دلالة فيه أنه إذا لم يدرك ركعة صلى
أربعا، كذلك قوله: "من أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها ركعة أخرى"
وأما ما روي: "وإن أدركهم جلوسا صلى أربعا" فإنه لم يثبت أنه من كلام
النبي صلى الله عليه وسلم وجائز أن يكون من كلام بعض الرواة أدرجه في
الحديث، ولو صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كان معناه: وإن أدركهم
جلوسا وقد سلم الإمام.
ولم يختلف الفقهاء أن وجوب الجمعة مخصوص بالأحرار البالغين المقيمين
دون النساء والعبيد والمسافرين والعاجزين، وروي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال: "أربعة لا جمعة عليهم: العبد والمرأة والمريض والمسافر"
وأما الأعمى فإن أبا حنيفة قال: "لا جمعة عليه" وجعله بمنزلة المقعد;
لأنه لا يقدر على الحضور بنفسه إلا بغيره، وقال أبو يوسف ومحمد: "عليه
الجمعة" وفرقا بينه وبين المقعد; لأن الأعمى بمنزلة من لا يهتدي الطريق
فإذا هدي سعى بنفسه، والمقعد لا يمكنه السعي بنفسه ويحتاج إلى من يحمله
وفرق أبو حنيفة بين الأعمى وبين من لا يعرف الطريق; لأن الذي لا يعرف
وهو بصير إذا أرشد اهتدى بنفسه والأعمى لا يهتدي بنفسه ولا يعرفه
بالإرشاد والدلالة، ويحتج لأبي يوسف ومحمد بحديث أبي رزين عن أبي هريرة
أن ابن أم مكتوم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني
(3/598)
ضرير شاسع
الدار وليس لي قائد يلازمني أفلي رخصة أن لا آتي المسجد؟ فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: "لا" وفي خبر حصين بن عبد الرحمن عن عبد الله
بن شداد عن ابن أم مكتوم نحوه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتسمع
الإقامة" قال: نعم، قال: "فأتها".
واختلفوا في عدد من تصح به الجمعة من المأمومين، فقال أبو حنيفة وزفر
ومحمد والليث: "ثلاثة سوى الإمام" وروي عن أبي يوسف: "اثنان سوى
الإمام" وبه قال الثوري وقال الحسن بن صالح: "إن لم يحضر الإمام إلا
رجل واحد فخطب عليه وصلى به أجزأهما" وأما مالك فلم يحد فيه شيئا،
واعتبر الشافعي أربعين رجلا.
قال أبو بكر: روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب يوم
الجمعة، فقدم عير فنفر الناس إليه وبقي معه اثنا عشر رجلا، فأنزل الله
تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهَا}
, ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الجمعة منذ قدم المدينة
ولم يذكر رجوع القوم، فوجب أن يكون قد صلى باثني عشر رجلا، ونقل أهل
السير أن أول جمعة كانت بالمدينة صلاها مصعب بن عمير بأمر النبي صلى
الله عليه وسلم باثني عشر رجلا وذلك قبل الهجرة، فبطل بذلك اعتبار
الأربعين وأيضا الثلاثة جمع صحيح فهي كالأربعين لاتفاقهما في كونهما
جمعا صحيحا. وما دون الثلاثة مختلف في كونه جمعا صحيحا، فوجب الاقتصار
على الثلاثة وإسقاط اعتبار ما زاد.
وقوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} قال أبو بكر: اختلف السلف في وقت
النهي عن البيع، فروي عن مسروق والضحاك ومسلم بن يسار: "أن البيع يحرم
بزوال الشمس" وقال مجاهد والزهري: "يحرم بالنداء" وقد قيل: إن اعتبار
الوقت في ذلك أولى،; إذ كان عليهم الحضور عند دخول الوقت، فلا يسقط ذلك
عنهم تأخير النداء ولما لم يكن للنداء قبل الزوال معنى دل ذلك على أن
النداء الذي بعد الزوال إنما هو بعدما قد وجب إتيان الصلاة.
واختلفوا في جواز البيع عند نداء الصلاة، فقال أبو حنيفة وأبو يوسف
وزفر ومحمد والشافعي: "البيع يقع مع النهي"، وقال مالك: "البيع باطل".
قال أبو بكر: قال الله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ
بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
[النساء: 29] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم
إلا بطيبة من نفسه" وظاهره يقتضي وقوع الملك للمشتري في سائر الأوقات
لوقوعه عن تراض. فإن قيل: قال الله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} قيل
له: نستعملهما فنقول: يقع محظورا عليه عقد البيع في ذلك الوقت لقوله:
{وَذَرُوا الْبَيْعَ} ويقع الملك بحكم الآية الأخرى والخبر الذي
رويناه; وأيضا لما لم يتعلق النهي بمعنى في نفس العقد وإنما تعلق بمعنى
في غيره وهو الاشتغال
(3/599)
عن الصلاة
وجب أن لا يمنع وقوعه وصحته، كالبيع في آخر وقت صلاة يخاف فوتها إن
اشتغل به وهو منهي عنه، ولا يمنع ذلك صحته; لأن النهي تعلق باشتغاله عن
الصلاة وأيضا هو مثل تلقي الجلب وبيع حاضر لباد والبيع في الأرض
المغصوبة ونحوها كونه منهيا عنه لا يمنع وقوعه. وقد روى عبد العزيز
الدراوردي عن يزيد بن خصيفة عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان عن أبي
هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم من يبيع في
المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم من ينشد ضالة في
المسجد فقولوا: لا رد الله عليك" وروى محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب
عن أبيه عن جده: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يباع في
المسجد وأن يشترى فيه وأن تنشد فيه ضالة أو تنشد فيه الأشعار، ونهى عن
التحلق يوم الجمعة قبل الصلاة وروى عبد الرزاق قال: حدثنا محمد بن مسلم
عن عبد ربه بن عبيد الله عن مكحول عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: "جنبوا مساجدكم مجانينكم وصبيانكم ورفع أصواتكم
وسل سيوفكم وبيعكم وشراكم وإقامة حدودكم وخصومتكم وجمروها يوم جمعكم
واجعلوا مطاهركم على أبوابها" ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن
البيع في المسجد، ولو باع فيه جاز; لأن النهي تعلق بمعنى في غير العقد.
(3/600)
باب السفر يوم الجمعة
قال أصحابنا: "لا بأس به قبل الزوال وبعده إذا كان يخرج من مصره قبل
خروج وقت الظهر" حكاه محمد في السير بلا خلاف، وقال مالك: "لا أحب له
أن يخرج بعد طلوع الفجر وليس بحرام، وبعد الزوال لا ينبغي أن يسافر حتى
يصلي الجمعة" وكان الأوزاعي والليث والشافعي يكرهون السفر يوم الجمعة
حتى يصلي. وروى حماد بن سلمة عن الحجاج بن أرطاة عن الحكم بن عيينة عن
مقسم عن ابن عباس أن رسول الله وجه ابن رواحة وجعفرا وزيد بن حارثة،
فتخلف ابن رواحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما خلفك؟" قال:
الجمعة يا رسول الله أجمع ثم أروح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها" ، قال: فراح
منطلقا وروى سفيان الثوري عن الأسود بن قيس عن أبيه عن عمر بن الخطاب
قال: "لا تحبس الجمعة عن سفر"، ولا نعرف أحدا من الصحابة خالفه، وروى
يحيى بن سعيد عن نافع أن ابنا لعبد الله بن عمر كان بالعقيق على رأس
أميال من المدينة، فأتى ابن عمر غداة الجمعة فأخبر بشكواه، فانطلق إليه
وترك الجمعة وقال عبيد الله بن عمر: خرج سالم من مكة يوم الجمعة وروي
عن عطاء والقاسم بن محمد أنهما كرها أن يخرج يوم الجمعة في صدر النهار
وعن الحسن وابن سيرين قالا: "لا بأس بالسفر يوم
(3/600)
الجمعة ما
لم تحضر الجمعة" وروى إسرائيل عن إبراهيم بن مهاجر عن النخعي قال: "إذا
أراد الرجل السفر يوم الخميس فليسافر غدوة إلى أن يرتفع النهار فإن
أقام إلى العشي فلا يخرج حتى يصلي الجمعة" وروي عن عطاء عن عائشة قالت:
"إذا أدركتك ليلة الجمعة فلا تخرج حتى تجمع" فهذا مذهب عائشة وإبراهيم،
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً
فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك: 15] فأباح السفر في سائر الأوقات
ولم يخصصه بوقت دون وقت.
فإن قيل: هذا واضح في ليلة الجمعة، ويوم الجمعة قبل الزوال وإباحة
السفر فيهما، والواجب أن يكون منهيا عنه بعد الزوال; لأنه قد صار من
أهل الخطاب بحضورها لقوله تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ
يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا
الْبَيْعَ} قيل له: لا خلاف أن الخطاب بذلك لم يتوجه إلى المسافرين،
وفرض الصلاة عندنا يتعلق بآخر الوقت، فإذا خرج وصار مسافرا في آخر
الوقت علمنا أنه لم يكن من أهل الخطاب بفعل الجمعة.
وقوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ
وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} ; قال الحسن والضحاك: هو إذن ورخصة.
قال أبو بكر: لما ذكر بعد الحظر كان الظاهر أنه إباحة وإطلاق من حظر،
كقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وقيل:
وابتغوا من فضل الله بعمل الطاعة والدعاء لله، وقيل: وابتغوا من فضل
الله بالتصرف في التجارة ونحوها; وهو إباحة أيضا وهو أظهر الوجهين لأنه
قد حظر البيع في صدر الآية كما أمر بالسعي إلى الجمعة.
قال أبو بكر: ظاهر قوله: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} إباحة
للبيع الذي حظر بديا، وقال الله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي
الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] فكان المعنى: يبتغون من فضل الله
بالتجارة والتصرف ويدل على أنه إنما أراد ذلك أنه قد عقبه بذكر الله،
فقال: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً} ، وفي هذه الآية دلالة على إباحة
السفر بعد صلاة الجمعة; لأنه قال: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ
وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} .
وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا
إِلَيْهَا} ، روي عن جابر بن عبد الله والحسن قالا: "رأوا عير طعام
قدمت المدينة وقد أصابتهم مجاعة"، وقال جابر: "اللهو المزامير" وقال
مجاهد: "الطبل" {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ} "من الثواب على سماع الخطبة
وحضور الموعظة" {خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} .
(3/601)
قوله
تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} يدل على أن الخطبة قائمة; روى الأعمش عن
إبراهيم أن رجلا سأل علقمة أكان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب قائما
أو قاعدا؟ فقال: ألست تقرأ القرآن {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} ؟. وروى حصين
عن سالم عن جابر قال: قدمت عير من الشام يوم الجمعة ورسول الله يخطب،
فانصرف الناس ينظرون وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في اثني عشر
رجلا فنزلت هذه الآية: {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} وروى جعفر بن محمد عن
أبيه عن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب، فجاءت عير فخرج
الناس إليها حتى بقي اثنا عشر رجلا فنزلت الآية قال أبو بكر: اختلف ابن
فضيل وابن إدريس في الحديث الأول عن حصين، فذكر ابن فضيل أنه قال: "كنا
نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم" وذكر ابن إدريس أنه قال: "كان النبي
يخطب"، ويحتمل أن يريد بقوله: "نصلي" أنهم قد حضروا للصلاة منتظرين
لها; لأن من ينتظر الصلاة فهو في الصلاة وحدثنا عبد الله بن محمد قال:
حدثنا الحسن قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر عن الحسن في قوله
تعالى: {انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} قال: إن أهل
المدينة أصابهم جوع وغلاء سعر، فقدمت عير والنبي صلى الله عليه وسلم
يخطب يوم الجمعة، فسمعوا بها فخرجوا إليها والنبي صلى الله عليه وسلم
قائم كما هو، قال الله تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِماً} قال النبي صلى
الله عليه وسلم: "لو اتبع آخرهم أولهم لالتهب الوادي عليهم نارا" آخر
سورة الجمعة.
(3/602)
ومن سورة
المنافقين
مدخل
...
ومن سورة المنافقين
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ
إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} إلى قوله: {اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن
سبيل الله} قال أبو بكر: هذا يدل على أن قوله: "أشهد" يمين; لأن القوم
قالوا: "نشهد" فجعله الله يمينا بقوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ
جُنَّةً} وقد اختلف الفقهاء في ذلك، فقال أصحابنا والثوري والأوزاعي:
"أشهد وأقسم وأعزم وأحلف كلها أيمان" وقال زفر: "إذا قال: أقسم لأفعلن،
فهو يمين، ولو قال: أشهد لأفعلن لم يكن يمينا" وقال مالك: "إن أراد
بقوله أقسم أي أقسم بالله فهو يمين وإلا فلا شيء وكذلك أحلف" قال: "ولو
قال: أعزم لم يكن يمينا إلا أن يقول: أعزم بالله، ولو قال: علي نذر أو
قال: نذر لله، فهو على ما نوى، وإن لم تكن له فكفارته كفارة يمين" وقال
الشافعي: "أقسم ليس بيمين وأقسم بالله يمين إن أرادها، وإن أراد الموعد
فليست بيمين، وأشهد بالله إن نوى اليمين فيمين، وإن لم ينو يمينا فليست
بيمين، وأعزم بالله إن أراد يمينا فهو يمين" وذكر الربيع عن الشافعي:
"إذا قال: أقسم أو أشهد أو أعزم ولم يقل: بالله فهو كقوله: والله، وإن
قال: أحلف بالله فلا شيء عليه إلا أن ينوي اليمين".
قال أبو بكر: لا يختلفون أن "أشهد بالله" يمين فكذلك "أشهد" من وجهين:
أحدهما: أن الله حكى عن المنافقين أنهم قالوا: "نشهد إنك لرسول الله"
ثم جعل هذا الإطلاق يمينا من غير أن يقرنه باسم الله، وقال تعالى:
{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6]
فعبر عن اليمين بالشهادة على الإطلاق. والثاني: أنه لما أخرج ذلك مخرج
القسم وجب أن لا يختلف حكمه في حذف اسم الله تعالى وفي إظهاره، وقد ذكر
الله تعالى القسم في كتابه فأظهر تارة الاسم وحذفه أخرى والمفهوم
باللفظ في الحالين واحد بقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ} [الأنعام: 109] وقال في موضع آخر: {إِذْ أَقْسَمُوا
لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] فحذفه تارة اكتفاء بعلم
المخاطبين بإضماره وأظهره أخرى، وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله
بن عتبة عن ابن عباس أن أبا بكر
(3/603)
عبر عند
النبي صلى الله عليه وسلم رؤيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أصبت
بعضا وأخطأت بعضا" فقال أبو بكر: أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني،
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تقسم" وروي أنه قال: "والله
لتخبرني" فجعل النبي صلى الله عليه وسلم قوله: "أقسمت عليك" يمينا; فمن
الناس من يكره القسم لقوله: "لا تقسم" ومنهم من لا يرى به بأسا وأنه
إنما قال: " لا تقسم" ; لأن عبارة الرؤيا ظن قد يقع فيها الخطأ، وهذا
يدل أيضا على أنه ليس على من أقسم عليه غيره أن يبر قسمه; لأنه صلى
الله عليه وسلم لم يخبره لما أقسم عليه ليخبره، ويدل أيضا على أن من
علم تأويل رؤيا فليس عليه الإخبار بها; لأنه صلى الله عليه وسلم لم
يخبر بتأويل هذه الرؤيا وروى هشام بن سعد عن زيد بن أسلم عن أبيه قال:
كان أبو بكر قد استعمل عمر على الشام، فلقد رأيتني وأنا أشد الإبل
بأقتابها، فلما أراد أن يرتحل قال له الناس: تدع عمر ينطلق إلى الشام؟
والله إن عمر ليكفيك الشام وهو ههنا قال: أقسمت عليك لما أقمت وروي عن
ابن عباس أنه قال للعباس فيما خاصم فيه عليا من أشياء تركها رسول الله
صلى الله عليه وسلم بإيثاره: أقسمت عليك لما سلمته لعلي. وقد روى
البراء قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإبرار القسم، وهذا
يدل على إباحة القسم وأنه يمين، وهذا على وجه الندب; لأنه صلى الله
عليه وسلم لم يبر قسم أبي بكر لما قال: "أقسمت عليك " وعن ابن مسعود
وابن عباس وعلقمة وإبراهيم وأبي العالية والحسن: القسم يمين وقال الحسن
وأبو العالية: أقسمت وأقسمت بالله سواء.
(3/604)
باب من فرط في زكاة ماله
قال الله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ
أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} الآية روى عبد الرزاق قال: حدثنا
سفيان عن أبي حباب عن أبي الضحى عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "من كان له مال تجب فيه الزكاة ومال يبلغه بيت الله ثم لم
يحج ولم يزك سأل الرجعة" ، وتلا قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا
رَزَقْنَاكُمْ} الآية; وقد روي ذلك موقوفا على ابن عباس إلا أن دلالة
الآية ظاهرة على حصول التفريط بالموت; لأنه لو لم يكن مفرطا ووجب
أداؤها من ماله بعد موته لكانت قد تحولت إلى المال فلزم الورثة
إخراجها، فلما سأل الرجعة علمنا أن الأداء فائت وأنه لا يتحول إلى
المال ولا يؤخذ من تركته بعد موته إلا أن يتبرع به الورثة. آخر سورة
المنافقين.
(3/604)
|