أحكام القرآن للجصاص ط العلمية
ومن سورة
إذا السماء انشقت
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} ، قال مجاهد: الشفق النهار،
ألا تراه قال الله تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} ، وقال عمر بن
عبد العزيز: "الشفق البياض" وقال أبو جعفر محمد بن علي: "الشفق السواد
الذي يكون إذا ذهب البياض".
قال أبو بكر: الشفق في الأصل الرقة، ومنه ثوب شفق إذا كان رقيقا، ومنه
الشفقة وهو رقة القلب. وإذا كان هذا أصله فهو بالبياض أولى منه
بالحمرة; لأن أجزاء الضياء رقيقة في هذه الحال وفي وقت الحمرة أكثف.
وقوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} ،
يستدل به على وجوب سجدة التلاوة لذمه لتارك السجود عند سماع التلاوة;
وظاهره يقتضي إيجاب السجود عند سماع سائر القرآن، إلا أنا خصصنا منه ما
عدا مواضع السجود واستعملناه في مواضع السجود بعموم اللفظ ولأنا لو لم
نستعمله على ذلك كنا قد ألغينا حكمه رأسا.
فإن قيل: إنما أراد به الخضوع; لأن اسم السجود يقع على الخضوع; قيل له:
هو كذلك، إلا أنه خضوع على وصف، وهو وضع الجبهة على الأرض، كما أن
الركوع والقيام والصيام والحج وسائر العبادات خضوع ولا يسمى سجودا;
لأنه خضوع على صفة إذا خرج عنها لم يسم به. آخر سورة إذا السماء انشقت.
(3/635)
ومن سورة
سبح اسم ربك الأعلى
يسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ
فَصَلَّى} ; روي عن عمر بن عبد العزيز وأبي العالية قالا: "أدى زكاة
الفطر ثم خرج إلى الصلاة". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه أمر
بإخراج صدقة الفطر قبل الخروج إلى المصلى وقال ابن عباس" "السنة أن
تخرج صدقة الفطر قبل الصلاة".
قال أبو بكر: ويستدل بقوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}
على جواز افتتاح الصلاة بسائر الأذكار; لأنه لما ذكر عقيب ذكر اسم الله
الصلاة متصلا به; إذ كانت الفاء للتعقيب بلا تراخ دل على أن المراد
افتتاح الصلاة. آخر سورة سبح.
(3/636)
ومن سورة البلد
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له
رجل: علمني عملا يدخلني الجنة; قال: "أعتق النسمة وفك الرقبة" قال:
أليسا سواء يا رسول الله؟ فقال: "لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك
الرقبة أن تعين في ثمنها".
قال أبو بكر: قد اقتضى ذلك جواز إعطاء المكاتب من الصدقات; لأنه معونة
في ثمنه، وهو نحو قوله في شأن الصدقات: {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة:
177]. و قوله تعالى: {ذِي مَسْغَبَةٍ} ذي مجاعة.
وقوله تعالى: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} قال ابن عباس: "المتربة
بقعة التراب، أي هو مطروح في التراب لا يواريه عن الأرض شيء"، وعن ابن
عباس أيضا رواية: "المتربة شدة الحاجة، من قولهم ترب الرجل إذا افتقر".
و قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} معناه: وكان من
الذين آمنوا، فصارت" ثم" ههنا بمعنى "الواو". آخر السورة.
(3/637)
ومن سورة الضحى
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} قيل: لا تقهره بظلمه
وأخذ ماله. وخص اليتيم; لأنه لا ناصر له غير الله، فغلظ في أمره لتغليظ
العقوبة على ظالمه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"اتقوا ظلم من لا ناصر له غير الله".
وقوله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} فيه نهي عن إغلاظ
القول له; لأن الانتهار هو الزجر وإغلاظ القول; وقد أمر في آية أخرى
بحسن القول له، وهو قوله تعالى: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ
ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً
مَيْسُوراً} [الاسراء:28] وهذا وإن كان خطابا للنبي صلى الله عليه وسلم
فإنه قد أريد به جميع المكلفين. آخر السورة.
(3/638)
ومن سورة ألم نشرح
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
يُسْراً} . حدثنا عبد الله بن محمد المروزي قال: حدثنا الحسن بن أبي
الربيع قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر عن الحسن في قوله تعالى:
{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم
يوما وهو مسرور يضحك وهو يقول: "لن يغلب عسر يسرين لن يغلب عسر يسرين
إن مع العسر يسرا" . قال أبو بكر: يعني أن العسر المذكور بديا هو
المثنى به آخرا; لأنه معرف بالألف واللام فيرجع إلى العهد المذكور،
واليسر الثاني غير الأول; لأنه منكور، ولو أراد الأول لعرفه بالألف
واللام.
وقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} قال ابن عباس: "إذا فرغت من
فرضك فانصب إلى ما رغبك تعالى فيه من العمل" وقال الحسن: "فإذا فرغت من
جهاد أعدائك فانصب إلى ربك في العبادة" وقال قتادة: "فإذا فرغت من
صلاتك فانصب إلى ربك في الدعاء". وقال مجاهد: "فإذا فرغت من أمر دنياك
فانصب إلى عبادة ربك". وهذه المعاني كلها محتملة، والوجه حمل اللفظ
عليها كلها فيكون جميعها مرادا، وإن كان خطابا للنبي صلى الله عليه
وسلم فإن المراد به جميع المكلفين. آخر السورة.
(3/639)
ومن سورة ليلة القدر
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} إلى قوله:
{لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} . قيل: إنما هي خير من
ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، وذلك لما يقسم فيها من الخير الكثير الذي
لا يكون مثله في ألف شهر، فكانت أفضل من ألف شهر لهذا المعنى. وإنما
وجه تفضيل الأوقات والأماكن بعضها على بعض لما يكون فيها من الخير
الجزيل والنفع الكثير.
واختلفت الروايات عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر متى تكون،
واختلفت الصحابة فيها، فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها ليلة
ثلاث وعشرين رواه ابن عباس. وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "التمسوها في العشر الأواخر واطلبوها في كل وتر" . وعن
ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليلة تسع عشرة من
رمضان وليلة إحدى وعشرين وليلة ثلاث وعشرين" . وعن ابن عمر عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تحروا ليلة القدر في السبع الأواخر" .
وروي أنه قال: "في سبع وعشرين" . حدثنا محمد بن بكر البصري قال: أخبرنا
أبو داود قال: حدثنا حميد بن زنجويه النسائي قال: حدثنا سعيد بن أبي
مريم قال: حدثنا محمد بن جعفر بن أبي كثير قال: أخبرنا موسى بن عقبة عن
أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عمر قال: سئل النبي صلى الله عليه
وسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر، فقال: "هي في كل رمضان". وحدثنا محمد بن
بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا سليمان بن حرب ومسدد قالا: حدثنا
حماد بن زيد عن عاصم عن زر قال: "قلت لأبي بن كعب: أخبرني عن ليلة
القدر يا أبا المنذر فإن صاحبنا - يعني عبد الله بن مسعود - سئل عنها
فقال: من يقم الحول يصبها; فقال رحم الله أبا عبد الرحمن، والله لقد
علم أنها في رمضان ولكن كره أن يتكلوا، والله إنها في رمضان ليلة سبع
وعشرين!".
قال أبو بكر: هذه الأخبار كلها جائز أن تكون صحيحة، فتكون في سنة في
بعض الليالي وفي سنة أخرى في غيرها وفي سنة أخرى في العشر الأواخر من
رمضان وفي سنة
(3/640)
في العشر
الأوسط وفي سنة في العشر الأول وفي سنة في غير رمضان، ولم يقل ابن
مسعود: "من يقم الحول يصبها" إلا من طريق التوقيف; إذ لا يعلم ذلك إلا
بوحي من الله تعالى إلى نبيه، فثبت بذلك أن ليلة القدر غير مخصوصة بشهر
من السنة وأنها قد تكون في سائر السنة، ولذلك قال أصحابنا فيمن قال
لامرأته: أنت طالق في ليلة القدر: إنها لا تطلق حتى يمضي حول; لأنه لا
يجوز إيقاع الطلاق بالشك، ولم يثبت أنها مخصوصة بوقت فلا يحصل اليقين
بوقوع الطلاق بمضي حول. آخر السورة.
(3/641)
ومن سورة لم يكن الذين كفروا
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ
لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} ، فيه أمر بإخلاص العبادة له، وهو أن لا يشرك
فيها غيره; لأن الإخلاص ضد الإشراك وليس له تعلق بالنية لا في وجودها
ولا في فقدها فلا يصح الاستدلال به في إيجاب النية; لأنه متى اعتقد
الإيمان فقد حصل له الإخلاص في العبادة ونفي الإشراك فيها. آخر السورة.
(3/642)
ومن سورة أرأيت الذي يكذب بالدين
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} ; قال ابن
عباس: "يؤخرونها عن وقتها"، وكذلك قال مصعب بن سعد عن سعد وروى مالك بن
دينار عن الحسن قال: "يسهون عن ميقاتها حتى يفوت". وروى إسماعيل بن
مسلم عن الحسن قال: هم المنافقون يؤخرونها عن وقتها يراءون بصلاتهم إذا
صلوا". وقال أبو العالية: "هو الذي لا يدري أعلى شفع انصرف أو على
وتر". قال أبو بكر: يشهد لهذا التأويل ما حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا
أبو داود قال: حدثنا أحمد بن حنبل قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن
سفيان عن أبي مالك الأشجعي عن أبي حازم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "لا غرار في الصلاة ولا تسليم" ، ومعناه أنه لا ينصرف
منها على غرار وهو شاك فيها. ونظيره ما روى أبو سعيد أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال: "من شك في صلاته فلم يدر أثلاثا صلى أم أربعا فليصل
ركعة أخرى، وإن كان قد تمت صلاته فالركعة والسجدتان له نافلة" . وروي
عن مجاهد: {ساهون} قال: "لاهون". قال أبو بكر: كأنه أراد أنهم يسهون
للهوهم عنها، فإنما استحقوا اللوم لتعرضهم للسهو لقلة فكرهم فيها; إذ
كانوا مرائين في صلاتهم; لأن السهو الذي ليس من فعله لا يستحق العقاب
عليه.
وقوله تعالى: {يَدُعُّ الْيَتِيمَ} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة: "يدفعه
عن حقه".
و قوله تعالى: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} قال علي وابن عباس رواية
وابن عمر وابن المسيب: "الماعون الزكاة". وروى الحارث عن علي: "الماعون
منع الفأس والقدر والدلو"، وكذلك قال ابن مسعود. وعن ابن عباس رواية
أخرى: "العارية". وقال ابن المسيب: "الماعون المال". وقال أبو عبيدة:
"كل ما فيه منفعة فهو الماعون".
قال أبو بكر: يجوز أن يكون جميع ما روي فيه مرادا; لأن عارية هذه
الآلات قد تكون واجبة في حال الضرورة إليها ومانعها مذموم مستحق للذم،
وقد يمنعها المانع لغير ضرورة فينبئ ذلك عن لؤم ومجانبة أخلاق
المسلمين; وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"
. آخر السورة.
(3/643)
ومن سورة الكوثر
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} ; قال الحسن: "صلاة يوم
النحر ونحر البدن" وقال عطاء ومجاهد: "صل الصبح بجمع وانحر البدن
بمنى". قال أبو بكر: وهذا التأويل يتضمن معنيين: أحدهما: إيجاب صلاة
الأضحى، والثاني: وجوب الأضحية، وقد ذكرناه فيما سلف. وروى حماد بن
سلمة عن عاصم الجحدري عن أبيه عن علي {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}
قال: وضع اليد اليمنى على الساعد الأيسر ثم وضعه على صدره". وروى أبو
الجوزاء عن ابن عباس: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} قال: "وضع اليمين
على الشمال عند النحر في الصلاة". وروي عن عطاء أنه رفع اليدين في
الصلاة. وقال الفراء: "يقال: استقبل القبلة بنحرك".
فإن قيل: يبطل التأويل الأول حديث البراء بن عازب قال: خرج علينا رسول
الله صلى الله عليه وسلم يوم الأضحى إلى البقيع، فبدأ فصلى ركعتين، ثم
أقبل علينا بوجهه وقال: "إن أول نسكنا في يومنا هذا أن نبدأ بالصلاة ثم
نرجع فننحر، فمن فعل ذلك فقد وافق سنتنا، ومن ذبح قبل ذلك فإنما هو لحم
عجله لأهله ليس من النسك في شيء" ، فسمى صلاة العيد والنحر سنة، فدل
على أنه لم يؤمر بهما في الكتاب. قيل له: ليس كما ظننت; لأن ما سنه
الله وفرضه فجائز أن نقول: هذا سنتنا وهذا فرضنا كما نقول: هذا ديننا،
وإن كان الله فرضه علينا، وتأويل من تأوله على حقيقة نحر البدن أولى;
لأنه حقيقة اللفظ ولأنه لا يعقل بإطلاق اللفظ غيره; لأن من قال: نحر
فلان اليوم; عقل منه نحر البدن ولم يعقل منه وضع اليمين على اليسار;
ويدل على أن المراد الأول اتفاق الجميع على أنه لا يضع يده عند النحر.
وقد روي عن علي وأبي هريرة وضع اليمين على اليسار أسفل السرة، وقد روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يضع يمينه على شماله في الصلاة من
وجوه كثيرة. آخر السورة.
(3/644)
ومن سورة الكافرين
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} . قال أبو بكر: هذه الآية
وإن كانت خاصة في بعض الكفار دون بعض; لأن كثيرا منهم قد أسلموا، وقد
قال: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} ، فإنها قد دلت على أن
الكفر كله ملة واحدة; لأن من لم يسلم منهم مع اختلاف مذاهبهم مرادون
بالآية، ثم جعل دينهم دينا واحدا ودين الإسلام دينا واحدا فدل على أن
الكفر مع اختلاف مذاهبه ملة واحدة. آخر السورة.
(3/645)
ومن سورة إذا جاء نصر الله
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} ; روي أنه فتح
مكة. وهذا يدل على أنها فتحت عنوة; لأن إطلاق اللفظ يقتضيه ولا ينصرف
إلى الصلح إلا بتقييد.
و قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} ; روى أبو
الضحى عن مسروق عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن
يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول
القرآن" . وروى الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عائشة قالت: كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول قبل أن يموت: "سبحانك اللهم وبحمدك
أستغفرك وأتوب إليك" قالت: قلت: يا رسول الله ما هذه الكلمات التي أراك
قد أحدثتها؟ قال: "جعلت لي علامة في أمتي إذا رأيتها قلتها إذا جاء نصر
الله والفتح إلى آخرها" . آخر السورة.
(3/646)
ومن سورة تبت
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} ; روي عن ابن
عباس: "وما كسب يعني ولده" وسماهم ابن عباس الكسب الخبيث. وروى عن
النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أفضل ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من
كسبه" . قال أبو بكر: هو كقوله: "أنت ومالك لأبيك" وهو يدل على صحة
استيلاد الأب لجارية ابنه وأنه مصدق عليه وتصير أم ولده. ويدل على أن
الوالد لا يقتل بولده; لأنه سماه كسبا له كما لا يقاد لعبده الذي هو
كسبه.
وقوله تعالى: {سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ} . إحدى الدلالات على صحة
نبوة النبي صلى الله عليه وسلم; لأنه أخبر بأنه وامرأته سيموتان على
الكفر ولا يسلمان، فوجد مخبره على ما أخبر به، وقد كان هو وامرأته سمعا
بهذه السورة ولذلك قالت امرأته: إن محمدا هجانا، فلو أنهما قالا: قد
أسلمنا وأظهرا ذلك وإن لم يعتقداه لكانا قد ردا هذا القول ولكان
المشركون يجدون متعلقا، ولكن الله علم أنهما لا يسلمان لا بإظهاره ولا
باعتقاده فأخبر بذلك وكان مخبره على ما أخبر به. وهذا نظير قوله لو
قال: إنكما لا تتكلمان اليوم، فلم يتكلما مع ارتفاع الموانع وصحة
الآلة، فيكون ذلك من أظهر الدلالات على صحة نبوته. وإنما ذكر الله أبا
لهب بكنيته وذكر النبي صلى الله عليه وسلم باسمه، وكذلك زيد وكل من
ذكره في الكتاب فإنما ذكرهم بالاسم دون الكنية; لأن أبا لهب كان اسمه
عبد العزى، وغير جائز تسميته بهذا الاسم، فلذلك عدل عن اسمه إلى كنيته.
آخر السورة.
(3/647)
ومن سورة الفلق
بسم الله الرحمن الرحيم
حدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا عبد الله بن محمد
النفيلي قال: حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن سعيد بن أبي سعيد
المقبري عن أبيه عن عقبة بن عامر قال: بينا أنا أسير مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم بين الجحفة والأبواء; إذ غشيتنا ريح وظلمة شديدة، فجعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعوذ بأعوذ برب الفلق وأعوذ برب الناس
ويقول: "يا عقبة تعوذ بهما فما تعوذ متعوذ بمثلهما" ، قال: وسمعته
يؤمنا بهما في الصلاة. وروي عن جعفر بن محمد قال: جاء جبريل إلى النبي
صلى الله عليه وسلم فرقاه بالمعوذتين. وقالت عائشة: أمرني رسول الله
صلى الله عليه وسلم أن أسترقي من العين وروى الشعبي عن بريدة قال: قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا رقية إلا من عين أو حمى" وعن أنس عن
النبي صلى الله عليه وسلم مثله. وحدثنا محمد بن بكر قال: حدثنا أبو
داود قال: حدثنا محمد بن العلاء قال: حدثنا أبو معاوية قال: حدثنا
الأعمش عن عمرو بن مرة عن يحيى بن الجزار عن ابن أخي زينب امرأة عبد
الله عن زينب امرأة عبد الله عن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: "إن الرقى والتمائم والتولة شرك" قالت: قلت: لم تقول
هذا والله لقد كانت عيني تقذف فكنت أختلف إلى فلان اليهودي يرقيني فإذا
رقاني سكنت؟ فقال عبد الله: إنما ذلك عمل الشيطان، كان ينخسها بيده
فإذا رقاهما كف عنهما، إنما يكفيك أن تقولي كما كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يقول: "أذهب الباس رب الناس اشف أنت الشافي لا شفاء إلا
شفاؤك شفاء لا يغادر سقما".
وقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} ; قال أبو
صالح: النفاثات في العقد "السواحر". وروى معمر عن قتادة أنه تلا:
{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} قال: "إياكم وما يخالط من
السحر من هذه الرقى". قال أبو بكر: النفاثات في العقد السواحر ينفثن
على العليل ويرقونه بكلام فيه كفر وشرك وتعظيم للكواكب ويطعمن العليل
الأدوية الضارة والسموم القاتلة ويحتالون في التوصل إلى ذلك ثم يزعمن
أن ذلك من رقاهن،
(3/648)
هذا لمن
أردن ضرره وتلفه وأما من يزعمن أنهن يردن نفعه فينفثن عليه ويوهمن أنهن
ينفعن بذلك، وربما يسقينه بعض الأدوية النافعة فيتفق للعليل خفة الوجع;
فالرقية المنهي عنها هي رقية الجاهلية لما تضمنته من الشرك والكفر،
وأما الرقية بالقرآن وبذكر الله تعالى فإنها جائزة وقد أمر بها النبي
صلى الله عليه وسلم وندب إليها، وكذلك قال أصحابنا في التبرك بالرقية
بذكر الله. وإنما أمر الله تعالى بالاستعاذة من شر النفاثات في العقد;
لأن من صدق بأنهن ينفعن بذلك كان ذلك ضررا عليه في الدين من حيث يعتقد
جواز نفعها وضررها بتلك الرقية; ومن جهة أخرى شرهن فيما يحتلن من سقي
السموم والأدوية الضارة.
و قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} حدثنا عبد الله بن
محمد قال: حدثنا الحسن بن أبي الربيع قال: أخبرنا عبد الرزاق عن معمر
عن قتادة في قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} قال:
يقول من شر عينيه ونفسه.
قال أبو بكر: قد روت عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها أن
تسترقي من العين، وروى ابن عباس وأبو هريرة أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: "العين حق" ، والأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بصحة
العين متظاهرة; حدثنا ابن قانع قال: حدثنا القاسم بن زكريا قال: حدثنا
سويد بن سعيد قال: حدثنا أبو إبراهيم السقاء عن ليث عن طاوس عن ابن
عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العين حق فلو كان شيء
يسبق القدر لسبقته العين فإذا استغسلتم فاغسلوا".
قال أبو بكر: زعم بعض الناس أن ضرر العين إنما هو من جهة شيء ينفصل من
العائن فيتصل بالمعين; وهذا هو شر وجهل، وإنما العين في الشيء المستحسن
عند العائن، فيتفق في كثير من الأوقات ضرر يقع بالمعين، ويشبه أن يكون
الله تعالى إنما يفعل ذلك عند إعجاب الإنسان بما يراه تذكيرا له لئلا
يركن إلى الدنيا ولا يعجب بشيء منها، وهو نحو ما روي أن العضباء ناقة
رسول الله صلى الله عليه وسلم لم تكن تسبق فجاء أعرابي على قعود له
فسابق بها فسبقها، فشق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
"حق على الله أن لا يرفع شيئا من الدنيا إلا وضعه" وكذلك أمر العائن
عند إعجابه بما يراه أن يذكر الله وقدرته فيرجع إليه ويتوكل عليه، قال
الله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ
اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39] فأخبر بهلاك جنته
عند إعجابه بها بقوله، فقال: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ
لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً} [الكهف:35]
إلى قوله تعالى: {وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ
اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ} [الكهف: 39] أي لتبقى عليك نعم
الله تعالى إلى وقت وفاتك. وحدثنا عبد الباقي قال: حدثنا إسماعيل بن
(3/649)
الفضل
قال: حدثنا العباس بن أبي طالب قال: حدثنا حجاج قال: حدثنا أبو بكر
الهذلي عن ثمامة عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من رأى
شيئا أعجبه فقال الله الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره شيء"
. والله الموفق.
هذا آخر كتاب أحكام القرآن، والله سبحانه هو الموفق المستعان.
(3/650)
|