أسرار ترتيب القرآن

سورة المائدة:
وقد تقدَّم وجه في مناسبتها.
وأقول: هذه السورة أيضًا شارحة لبقية مجملات سورة البقرة؛ فإن آية الأطعمة والذبائح فيها أبسط منها في البقرة1، وكذا ما حرمه2 الكفار تبعًا لآبائهم في البقرة موجز3، وفي هذه السورة مطنب أبلغ إطناب في قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ ... } "103، 104".
وفي البقرة ذكر القصاص في القتلى4، وهنا ذكر أول من سن القتل، والسبب الذي لأجله وقع، وقال: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ
__________
1 قال تعالى هنا: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} إلى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} "3-5"، أما في البقرة فلم يكن هذا التفصيل؛ إذ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم قال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} "البقرة: 172، 173".
2 في المطبوعة: "أخرجه" تحريف، والمثبت من "ظ".
3 في البقرة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} "البقرة: 168".
4 من دلائل الترتيب أنه قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} "البقرة: 178"، ثم زاد بيانًا في نفس السورة، فقال: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} "البقرة: 179"، ثم قال: {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاص} "البقرة: 194"، ثم ذكر قتل الخطأ والنسيان في النساء فقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} "النساء: 92"، وزاد تفصيل القصاص فيما ساقه المؤلف في الآية "22" المائدة، ثم فصل أحكام القصاص في قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} "المائدة: 45"، وهذا تدرج بديع ويدل على إحكام الترتيب والتلاحم.

(1/75)


النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} "32"، وذلك أبسط من قوله [في البقرة] : {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاة} "البقرة: 179".
وفي البقرة: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ} "البقرة: 58"، وذكرت1 قصتها [هنا مطولة. وذكر في البقرة من ارتد مقتصرًا عليه، وقال] 2 هنا: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} "54".
وفي البقرة قصة الأيمان موجزة، وزاد هنا بسطًا بذكر الكفارة3.
وفي البقرة قال في الخمر والميسر: {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} "البقرة: 219". وزاد في هذه السورة ذمها، وصرح بتحريمها4.
وفيها من الاعتلاق بسورة الفاتحة: بيان المغضوب عليهم والضالين في قوله: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ} "60" الآية. وقوله: {قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيل} "77".
وأما اعتلاقها بسورة النساء، فقد ظهر لي فيه وجه بديع جدًّا؛ وذلك أن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحًا وضمنًا،
__________
1 في المطبوعة: "وذكر في"، والمثبت من "ظ".
2 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
3 قال هنا: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} "89".
وقال في البقرة: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} "البقرة: 225".
4 في هذه السورة قال تعالى: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} "90، 91" الآية.

(1/76)


فالصريح: عقود الأنكحة، وعقد الصداق، وعقد الحلف، في قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} "النساء: 33". وعقد الأيمان في هذه الآية، وبعد ذلك عقد المعاهدة والأمان في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} "النساء: 90"، وقوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ} "النساء: 92".
والضمني: عقد الوصية، والوديعة، والوكالة، والعارية، والإجارة، وغير ذلك من الداخل في عموم قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} "النساء: 58"، فناسب أن يعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود، فكأنه قيل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} "1" التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت، فكان ذلك غاية في التلاحم والتناسب والارتباط.
ووجه آخر في تقديم سورة النساء، وتأخير سورة المائدة؛ وهو: أن تلك أولها: {يَا أَيُّهَا النَّاس} "النساء: 1"، وفيها الخطاب بذلك في مواضع، وهو أشبه بخطاب [الكفار وتنزيل] 1 المكي، [وهذه أولها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} "1" وفيها الخطاب بذلك في مواضع، وهو أشبه بخطاب المدني] 2 وتقديم العام3 وشبه المكي أنسب.
ثم إن هاتين السورتين في التلازم4 والاتحاد نظير البقرة وآل عمران، فتلكما في تقرير الأصول؛ من الوحدانية، والكتاب،
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
2 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
3 يريد بالعام: الخطاب بـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} ، فهو أعم من {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} أو {يَا أَهْلَ الْكِتَاب} "15".
4 في المطبوعة: "التقديم"، والمثبت من "ظ".

(1/77)


والنبوة، وهاتان في تقرير الفروع الحكمية1.
وقد ختمت المائدة بصفة القدرة، كما افتتحت النساء بذلك2.
وافتتحت النساء ببدء الخلق، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء3، فكأنهما سورة واحدة، اشتملت على الأحكام من المبتدأ إلى المنتهى.
ولما وقع في سورة النساء: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} "النساء: 105" الآيات، وكانت4 نازلة في قصة سارق سرق درعًا5، فصل في سورة المائدة أحكام السراق والخائنين.
ولما ذكر في سورة النساء أنه أنزل إليك الكتاب لتحكم بين الناس، ذكر في سورة المائدة آيات في الحكم بما أنزل الله حتى بين الكفار، وكرر قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} "44، 45، 46".
فانظر إلى هذه السور الأربع المدنيات، وحسن ترتيبها، وتلاحمها، وتناسقها، وتلازمها.
__________
1 مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور "2/ 67، 68و 88" وما بعدها.
2 ختام المائدة قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} "120"، وأول النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} "النساء: 1" الآية، وهو دليل القدرة.
3 بدء الخلق في أول النساء قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} "النساء: 1" الآية، والمنتهى في ختام المائدة قوله: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} "119" الآية.
4 في المطبوعة: "فكانت"، والمثبت من "ظ".
5 قصة الدرع أخرجها ابن كثير في التفسير "2/ 358، 359"، وعزاها إلى ابن مردويه، من طريق عطية العوفي، ورواه الترمذي في حديث طويل فيه سرقة طعام وسلاح "8/ 395-399" بتحفة الأحوذي، وأخرجه الحاكم في المستدرك "4/ 385-388". وانظر: إرشاد الرحمن في المتشابه والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول وتجويد القرآن للأجهوري، ورقة: 136أ، ب لزيادة التفاصيل.

(1/78)


وقد افتتحت البقرة التي هي أول ما نزل في المدينة1، وختمت بالمائدة التي هي آخر ما نزل بها، كما في حديث الترمذي2.
__________
1 في المطبوعة: "بالمدينة"، والمثبت من "ظ".
2 أخرج الترمذي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما "8/ 436، 437": آخر سورة نزلت المائدة والفتح، وقال المباركفورى: رواه الشيخان عن البراء آخر آية نزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ} "النساء: 176"، وآخر سورة نزلت براءة، ورد البيهقي هذا التعارض بأن كل واحد أجاب بما عنده، وقال الباقلاني: ليس في هذه الأقوال شيء مرفوع إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وكل واحد قال بضرب اجتهاد "تحفة الأحوذي 8/ 436، 437"، وانظر: "نكت الانتصار لنقل القرآن للباقلاني ص 135".

(1/79)


سورة الأنعام:
قال بعضهم: مناسبة هذه السورة لآخر المائدة: أنها افتتحت بالحمد، وتلك ختمت بفصل القضاء، وهما متلازمتان كما قال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "الزمر: 75".
و [أقول] 1 قد ظهر لي بفضل الله مع ما قدمت الإشارة إليه في آية {زُيِّنَ لِلنَّاسِ} 2: أنه لما ذكر في آخر المائدة: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} "المائدة: 120" على سبيل الإجمال، افتتح هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله.
فبدأ بذكر: أنه خلق السماوات والأرض، وضم إليه أنه جعل الظلمات والنور، وهو بعض ما تضمنه قوله: {وَمَا فِيهِنَّ} في آخر المائدة، وضمَّن قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [أول الأنعام] أن له ملك جميع المحامد، وهو من بسط [جميع] 3: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} [في آخر المائدة] .
ثم ذكر: أنه خلق النوع الإنساني، وقضى له أجلًا مسمى، وجعل له أجلًا آخر للبعث، وأنه منشئ القرون قرنًا بعد قرن، ثم قال: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ} "12"، فأثبت له ملك جميع المنظورات، ثم قال: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} "13"، فأثبت له ملك جميع المظروفات في4 الزمان، ثم ذكر أنه خلق سائر
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
2 سورة آل عمران: 14.
3 ما بين المعقوفين من "ظ".
4 في المطبوعة: "لظرفي"، والمثبت من "ظ".

(1/80)


الحيوان، من الدواب والطير، ثم خلق النوم واليقظة، والموت والحياة، ثم أكثر في أثناء السورة من ذكر الخلق والإنشاء لما فيهن من النيرين، والنجوم، وفلق الإصباح، وخلق الحب والنوى، وإنزال الماء، وإخراج النبات والثمار بأنواعها، وإنشاء جنات معروشات وغير معروشات، والأنعام، ومنها حمولة وفرش، وكل ذلك تفصيل لملكه ما فيهن، وهذه مناسبة جليلة1.
و2 لما كان المقصود من هذه السورة بيان الخلق والملك، أكثر فيها من ذكر الرب الذي هو بمعنى المالك والخالق والمنشئ، واقتصر فيها على ما يتعلق بذلك من بدء الخلق الإنساني والملكوتي، والملكي والشيطاني، والحيواني والنباتي، وما تضمنته من الوصايا، فكلها متعلقة بالمعاش والقوام الدنيوي3، ثم أشار إلى أشراط الساعة [والبعث] 4.
فقد جمعت هذه السورة جميع المخلوقات بأسرها، وما يتعلق بها، وما يرجع إليها، فظهر بذلك مناسبة افتتاح السور المكية بها5، وتقديمها على ما تقدم نزوله منها.
وهي في جمعها الأصول والعلوم والمصالح الدنيوية نظير سورة البقرة في جمعها [الأصول و] 6 العلوم والمصالح الدينية، وما ذكر فيها من
__________
1 مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور "2/ 118".
2 في المطبوعة: "ثم"، والمثبت من "ظ".
3 في المطبوعة: "متعلق بالقوام والمعاش"، والمثبت من "ظ".
4 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ"، وانظر: مصاعد النظر "2/ 118، 119".
5 الأنعام مكية، وقد نقل السيوطي ذلك عن ابن الضريس في فضائل القرآن من طريق محمد بن عبد الله الرازي إلى ابن عباس رضي الله عنهما، الإتقان "1/ 42".
6 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".

(1/81)


العبادات المحضة، فعلى وجه الاختصار1 والإيماء؛ كنظير ما وقع في البقرة من علوم بدء الخلق ونحوه، فإنه على وجه الإيجاز2 والإشارة.
فإن قلت: فلِمَ لا أفتتح القرآن بهذه السورة مقدَّمة على سورة البقرة؛ لأن بدء الخلق سابق3 على الأحكام والتعبدات؟!
قلت: للإشارة إلى أن مصالح الدين والآخرة مقدَّمة على مصالح المعاش والدنيا، ولأن4 المقصود [من الخلق] 5 إنما هو العبادة، فقدم ما هو الأهم في نظر الشرع6، ولأن علم بدء الخلق كالفضلة، وعلم7 الأحكام والتكاليف متعين على كل واحد؛ فلذلك لا ينبغي النظر في علم بدء الخلق وما جرى مجراه من التواريخ إلا بعد النظر في علم الأحكام وإتقانه.
ثم ظهر لي بحمد الله وجه آخر -أتقن مما تقدم- وهو: أنه لما ذكر في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} "المائدة: 87" إلى آخره [ثم ذكر بعده: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَة} "المائدة: 103" إلى آخره] 8 فأخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء
__________
1 في المطبوعة: "سبيل الإيجاز"، والمثبت من "ظ".
2 في المطبوعة: "سبيل الاختصار"، والمثبت من "ظ".
3 في المطبوعة: "مقدم"، والمثبت من "ظ".
4 في المطبوعة: "و"، والمثبت من "ظ".
5 ما بين المعقوفين إضافة.
6 ولهذا جاء في البقرة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} "البقرة: 21" وليس في القرآن غيره بلفظه، قال الكرماني: العبادة في الآية التوحيد، وهو أول ما يلزم العبد من المعارف، فكان هذا أول خطاب خاطب به العباد في القرآن، ثم ذكر سائر المعارف، وبنى عليها العبادات فيما بعدها من السور والآيات "أسرار التكرار في القرآن" "22".
7 في المطبوعة: "وعلوم"، والمثبت من "ظ".
8 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".

(1/82)


مما رزقهم الله افتراء عليه، وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يُحرِّموا شيئًا مما أحل الله، فيشابهوا بذلك الكفار في صنيعهم، وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز، ساق هذه السورة لبيان ما حرمه الكفار في صنيعهم، فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل، ثم جادلهم فيه، وأقام الدلائل على بطلانه، وعارضهم وناقضهم، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة1، فكانت هذه السورة شرحًا لما تضمنته المائدة من ذلك على سبيل الإجمال، وتفصيلًا وبسطًا، وإتمامًا وإطنابًا.
وافتتحت بذكر الخلق والملك2؛ لأن الخالق والمالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته إباحة ومنعًا، وتحريمًا وتحليلًا، فيجب ألا يتعدى عليه بالتصرف في ملكه.
وكانت هذه السورة بأسرها متعلقة بالفاتحة من وجه كونها شارحة لإجمال قوله: {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وبالبقرة3 من حيث شرحها لإجمال قوله: {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} "البقرة: 21"، وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} "البقرة: 29"، وبآل عمران من جهة تفصيلها لقوله: {وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ} "آل عمران: 14"، وقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} "آل عمران: 185" الآية.
وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق، والتقبيح لما حرموه على
__________
1 وهذا البيان الكامل في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا} إلى {سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيم} "136-139".
2 وذلك قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} إلى {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ} "1-3".
3 في المطبوعة: "البقرة"، والمثبت من "ظ".

(1/83)


أزواجهم، وقتل البنات بالوأد1.
وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها2.
وفي افتتاح السور المكية بها وجهان آخران من المناسبة.
الأول: افتتاحها بالحمد.
والثاني: مشابهتها للبقرة، المفتتح بها السور المدنية، من حيث أن كلًّا منهما نزل مشيعًا. ففي حديث أحمد: "البقرة سنام القرآن وذروته، نزل مع كل آية منها ثمانون ملكًا"3، وروى الطبراني وغيره من طرق: "أن الأنعام شيعها سبعون ألف ملك"، وفي رواية: "خمسمائة ملك"4.
ووجه آخر؛ وهو: أن كل ربع من القرآن افتتح بسورة أولها الحمد. [فأول القرآن سورة {الْحَمْدُ} ] 5، وهذه للربع الثاني، والكهف للربع الثالث، وسبأ وفاطر للربع الرابع.
__________
1 سبق ما يدل على بدء الخلق، وما حرموه على أزواجهم، أما تقبيح قتل البنات بالوأد فجاء عقبه في قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ} "140".
2 الأطعمة ذكرت هنا مفصلة من قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ} إلى قوله: {إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} "141-148".
3 أخرجه أحمد في "المسند" "5/ 26" عن معقل بن يسار رضي الله عنه، وأخرج أوله الترمذي "8/ 181" بتحفة الأحوذي، والدرامي في فضائل القرآن عن ابن مسعود رضي الله عنه "2/ 447"، ونزول الملائكة معها أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد "6/ 311" وعزاه للطبراني.
4 أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد عن ابن عمر رضي الله عنهما "7/ 19، 20" وفيه: "أنزلت جملة واحدة"، وفيه: "له زجل بالتسبيح والتحميد"، وعزاه للطبراني وقال: فيه يوسف الصفار، وهو ضعيف، وقال ابن الجوزي: متروك "العلل المتناهية من اسمه يوسف"، ونقل السيوطي عن ابن الصلاح في فتاواه رواية تخالف ذلك أنها لم تنزل جملة؛ بل نزلت منها آيات بالمدينة، قيل: ثلاث، وقيل: غير ذلك. "الإتقان: 1/ 137".
5 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".

(1/84)


وجميع هذه الوجوه التي استنبطتها من المناسبات بالنسبة إلى أسرار القرآن1 كنقطة من 2 بحر.
ولما كانت هذه السورة لبيان بدء الخلق، ذكر فيها ما وقع عند بدء الخلق؛ وهو قوله: {كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَة} "12"، ففي الصحيح: "لما فرغ الله من الخلق، وقضى القضية، كتب كتابًا عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي" 3.
__________
1 في المطبوعة: "للقرآن"، والمثبت من "ظ".
2 في المطبوعة: "عن"، والمثبت من "ظ".
3 أخرجه البخاري في بدء الخلق "4/ 129" وفيه: "كتب في كتابه فهو عنده فوق العرش".

(1/85)


سورة الأعراف:
أقول: مناسبة وضع هذه السورة عقب سورة الأنعام فيما ألهمني الله سبحانه: أن سورة الأنعام لما كانت لبيان الخلق، وقال فيها: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} "الأنعام: 2"، وقال في بيان القرون: {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} "الأنعام: 6"، وأشير فيها إلى ذكر المرسلين، وتعداد كثير منهم، وكانت الأمور الثلاثة على وجه الإجمال لا التفصيل، ذُكرت هذه السورة عقبها؛ لأنها مشتملة على شرح الأمور الثلاثة وتفصيلها.
فبسط فيها قصة خلق آدم أبلغ بسط؛ بحيث لم تبسط في سورة كما بسطت فيها1، وذلك تفصيل إجمال قوله: {خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ} "الأنعام: 2"، ثم فصلت قصص المرسلين وأممهم، وكيفية إهلاكهم2 تفصيلًا تامًّا شافيًا مستوعبًا، لم يقع نظيره في سورة غيرها3، وذلك بسط حال القرون المهلَكة ورسلهم، فكانت هذه السورة شرحًا لتلك الآيات الثلاث.
وأيضًا فذلك تفصيل قوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ} "الأنعام: 6"؛ ولهذا صدَّر هذه السورة بخلق آدم الذي جعله الله في الأرض خليفة4. وقال في قصة عاد: {جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} "69"
__________
1 وذلك في قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} إلى {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُون} "11-25".
2 في "ظ": "وكيف هلاكهم".
3 وذلك من قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِه} إلى {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون} "59-176".
4 وذلك في الآية رَقْم "11" إلى آخر الآية رَقْم "25".

(1/86)


وفي قصة ثمود: {جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ} "74".
وأيضًا فقد قال في الأنعام: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} "الأنعام: 54" وهو موجز، وبسطه هنا بقوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} "156" إلى آخره، فبيَّن من كتبها لهم.
وأما وجه ارتباط أول هذه السورة بآخر الأنعام فهو: أنه قد تقدم هناك: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} "الأنعام: 153"، وقوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} "الأنعام: 155"، فافتتح هذه السورة أيضًا [بالأمر] 1 باتباع الكتاب في قوله: {كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} إلى [قوله] 1 {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} "2، 3".
وأيضًا لما تقدم في الأنعام: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُون} "الأنعام: 159"، {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} "الأنعام: 164"، قال في مفتتح هذه السورة: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ، فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ} "6، 7"، وذلك شرح التنبئة المذكورة.
وأيضًا فلما قال في الأنعام: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} "الأنعام: 160" الآية، وذلك لا يظهر إلا في الميزان، افتتح هذة السورة بذكر الوزن، فقال: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَق} "8". ثم ذكر من ثقلت موازينه، وهو مَن زادت حسناته على سيئاته، ثم من خفت موازينه، وهو من زادت سيئاته على حسناته، ثم ذكر بعد ذلك أصحاب الأعراف، وهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم2.
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
2 مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور "2/ 130، 131".

(1/87)


سورة الأنفال:
اعلم أن وضع هذه السورة وبراءة1 ليس بتوقيف من الرسول -صلى الله عليه وسلم- والصحابة، كما هو الراجح في سائر السور؛ بل اجتهاد من عثمان رضي الله عنه.
وقد كان يظهر في بادئ الرأي: أن المناسب إيلاء الأعراف بيونس وهود؛ لاشتراك كل [منهما] 2 في اشتمالها على قصص الأنبياء، وأنها مكية النزول، خصوصًا أن الحديث ورد في فضل السبع الطوال، وعدوا السابعة يونس، وكانت تُسمى بذلك كما أخرجه البيهقي في الدلائل3. ففي فصلها من الأعراف بسورتين هما الأنفال وبراءة فصل للنظير من4 سائر نظائره، هذا مع قصر سورة الأنفال بالنسبة إلى الأعراف وبراءة.
وقد استشكل ذلك قديمًا حبر الأمة ابن عباس، فأخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني5،
__________
1 في المطبوعة: "وبراءة هنا" خطأ.
2 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
3 دلائل النبوة، للبيهقي "7/ 152، 153" والسبع الطوال كما أخرج النسائي "1/ 114" عن ابن عباس رضي الله عنهما: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، قال الراوي: وذكر السابعة فنسيتها، وأورد السيوطي نقلًا عن ابن أبي حاتم وغيره عن سعيد بن جبير: أن السابعة يونس "الإتقان: 1/ 220".
4 في المطبوعة: "عن"، والمثبت من "ظ".
5 المثاني: إما أنها من الثناء، أو فيها الثناء والدعاء، أو لأنها تُثنى بغيرها "الإتقان: 1/ 190"، وقيل: لأنها ثانية للمئين، تالية لها، وقيل: لتثنية الأمثال فيها بالعبر، حكاه السيوطي عن النكزاوي "الإتقان: 1/ 220".

(1/88)


وإلى براءة وهي من المئين1، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر: بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموها في السبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينزل عليه السور ذوات العدد، فكان إذا نزل عليه الشئ دعا بعض مَن كان يكتب، فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل [بالمدينة] 2، وكانت براءة من آخر القرآن نزولًا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر: بسم الله الرحمن الرحيم3، ووضعتها في السبع الطوال4.
فانظر إلى بن عباس -رضي الله عنهما- كيف استشكل على عثمان -رضي الله عنه- أمرين: وضع الأنفال وهي قصيرة مع السور الطويلة، ووضعها هي وبراءة في أثناء السبع الطوال، مفصولًا بهما بين السادسة والسابعة، وانظر كيف أجاب عثمان -رضي الله عنه- أولًا بأنه لم يكن
__________
1 المئين: ما زادت آياتها على المائة أو قاربتها، وهي ما وليت الطوال "الإتقان: 1/ 220".
2 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ"، ويؤيده ما في المصادر، وانظر: دلائل النبوة، للبيهقي "7/ 153"، والمصاحف، لابن أبي داود 31، 32.
3 قال الباقلاني: إنما لم تكتب البسملة أول براءة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يعلم من بعده أن كاتبي فواتح السور لم يكتبوها برأيهم؛ وإنما اتبعوا ما سن وشرع، وإلا فلا فرق بين براءة وغيرها لو كان من طريق الرأي، وأيضًا فإن براءة نزلت بالسيف وبعض العهود، وفي البسملة رأفة ورحمة وأمان، فتُركت لأجل ذلك "نكت الانتصار لنقل القرآن: 77، 78".
4 أخرجه أحمد في المسند "1/ 57"، وأبو داود في الصلاة "1/ 208"، والترمذي في التفسير "8/ 477، 478" والحاكم في المستدرك "2/ 330"، وانظر الدر المنثور "2/ 207"، ومصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور "1/ 443" وما بعدها، والانتصار للقرآن، للباقلاني "1/ 168" وما بعدها، وهذا الحديث يدور إسناده في جل رواياته على يزيد الفارسي الذي يذكره البخاري في الضعفاء، وقال الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله- في تعليق عليه بالمسند: لا أصل له.

(1/89)


عنده في ذلك توقيف، فإنه استند إلى اجتهاد، وأنه قرن بين الأنفال وبراءة لكونها شبيهة بقصتها في اشتمال كل منهما على [الأمر] 1 القتال، ونبذ العهود، وهذا وجه بيِّن المناسبة جلي، فرضي الله عن الصحابة، ما أدق أفهامهم! وأجزل آراءهم! وأعظم أحلامهم! 2
وأقول: يتم بيان مقصد عثمان -رضي الله عنه- في ذلك بأمور فتح الله بها:
الأول: أنه جعل الأنفال قبل براءة مع قصرها؛ لكونها مشتملة على البسملة، فقدمها لتكون كقطعة3منها، وتكون براءة بخلوها منها كتتمتها وبقيتها؛ ولهذا قال جماعة من السلف: إن الأنفال وبراءة سورة واحدة، لا سورتان4.
الثاني: أنه وضع براءة هنا لمناسبة الطوال؛ فإنه ليس في القرآن بعد الأعراف أنسب ليونس طولًا منها5، وذلك كافٍ في المناسبة.
الثالث: أنه خلَّل بالسورتين [الأنفال وبراءة] أثناء السبع الطوال المعلوم ترتيبها في العصر الأول؛ للإشارة إلى أن ذلك أمر صادر لا عن توقيف، وإلى أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قُبِضَ قبل أن يبين محلهما، فوضعا [هنا] 6 كالموضع المستعار بين السبع الطوال، بخلاف ما لو وضعتا بعد السبع الطوال، فإنه كان يوهم أن ذلك محلهما
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
2 في "ظ": "أخلاقهم".
3 في المطبوعة: "لقطة"، والمثبت من "ظ".
4 أخرجه أبو الشيخ عن أبي روق، وبن أبي حاتم عن سفيان، وبن أشتة عن ابن لهيعة "الإتقان: 1/ 225".
5 في "ظ": "وأنه ليس في القرآن بعد الست السابقة سورة أطول منها".
6 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".

(1/90)


بتوقيف، وترتيب السبع الطوال يرشد إلى دفع هذا الوهم1.
فانظر إلى هذه الدقيقة التي فتح الله بها، ولا يغوص عليها إلا غواص.
الرابع: أنه لو أخرهما وقدم يونس، وأتى بعد براءة بهود -كما في مصحف أُبي بن كعب- لمراعاة مناسبة السبع الطوال، وإيلاء بعضها بعضًا، لفات مع ما أشرنا إليه أمر آخر آكد في المناسبة، فإن الأَوْلى بسورة يونس أن تولى بالسور الخمس التي بعدها، لما اشتركت فيه من الاشتمال على القصص، ومن الافتتاح بـ {الر} 2، وبذكر الكتاب، ومن كونها مكيات، ومن تناسب، ما عدا الحجر في المقدار، وبالتسمية باسم نبي، والرعد اسم3 ملك، وهو مناسب لأسماء الأنبياء.
فهذه ستة وجوه في مناسبة الاتصال بين يونس وما بعدها، وهي آكد من ذلك الوجه الواحد4 في تقديم يونس بعد الأعراف.
ولبعض هذه الأمور قدمت سورة الحجر على النحل، مع كونها أقصر منها، ولو أخرت براءة عن هذه السور الست [لبعدت] 5 المناسبة جدًّا لطولها بعد عدة6 سور أقصر منها بخلاف وضع سورة
__________
1 أي: وهم أن يكون وضعها بين السبع الطوال بتوقيف، وقد جاء ترتيب السبع الطوال متواليات، وانظر: مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور "1/ 443".
2 في المطبوعة: "بالذكر" تحريف، والمثبت من "ظ".
3 أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما "8/ 145" أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أخبرنا عن الرعد، فقال: "ملَك من الملائكة موكل بالسحاب"، وذكر السيوطي في الإتقان "4/ 79": أن ابن أبي حاتم أخرجه عن عكرمة، وأن مجاهد سُئل عن الرعد فقال: ملَك، ألم تر أن الله يقول: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} "الرعد: 13".
4 في المطبوعة: "السابق"، والمثبت من "ظ".
5 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
6 في المطبوعة: "عشر"، والمثبت من "ظ".

(1/91)


النحل بعد الحجر؛ فإنها ليست كبراءة في الطول.
ويشهد لمراعاة الفواتح في مناسبة الوضع ما ذكرنا من تقديم الحجر على النحل لمناسبة ذوات {الر} قبلها، وما تقدم من تقديم آل عمران على النساء وإن كانت أقصر منها لمناسبة البقرة في1 الافتتاح بـ {الم} وتوالي الطواسين والحواميم، وتوالي العنكبوت والروم ولقمان2 والسجدة، لافتتاح كل بـ {الم} ولهذا قدمت السجدة على الأحزاب التي هي أطول منها.
هذا ما فتح الله به.
وأما ابن مسعود فقدم في مصحفه البقرة على: النساء، وآل عمران، والأعراف، والأنعام، والمائدة، ويونس، فراعى [السبع] 3 الطوال، وقدم الأطول فالأطول، ثم ثنى بالمئين، فقدم براءة، ثم النحل، ثم هود، ثم يوسف، ثم الكهف، وهكذا الأطول فالأطول، وذكر الأنفال بعد النور4.
ووجه مناسبتها لها: أن كلا منهما مدنية، ومشتملة على أحكام، وأن في النور {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} "النور: 55" الآية. وفي الأنفال: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ} "26" الآية. ولا يخفى ما بين الآيتين من المناسبة؛ فإن الأولى مشتملة على الوعد بما حصل، وذكَّر به في الثانية، فتأمل.
__________
1 في المطبوعة: "مع"، والمثبت من "ظ".
2 في المطبوعة: "والقمر" خطأ، والمثبت من "ظ".
3 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
4 انظر: الإتقان "1/ 224" نقلًا عن ابن أشتة في المصاحف من رواية جرير بن عبد الحميد، وانظر: المصاحف، لابن أبي داود "35".

(1/92)


سورة براءة:
أقول: قد عرف وجه مناسبتها، ونزيد هنا أن صدرها1 تفصيل لإجمال قوله في الأنفال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} "الأنفال: 58" الآية، وآيات الأمر بالقتال متصلة بقوله هناك: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} "الأنفال: 60"؛ ولذا قال هنا في قصة المنافقين: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} "46".
ثم بين السورتين تناسب من وجه آخر؛ وهو: أنه سبحانه في الأنفال تولى قسمة الغنائم، وجعل خُمسها خمسة أخماس2، وفي براءة تولى قسمة الصدقات، وجعلها لثمانية أصناف3.
__________
1 صدر التوبة: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} إلى {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} "التوبة: 3-5".
2 وذلك قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} "الأنفال: 41" الآية.
3 وذلك قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} "60".

(1/93)


سورة يونس:
أقول: قد عرف وجه مناسبتها فيما تقدم في الأنفال1، ونزيد هنا: أن مطلعها شبيه بمطلع سورة الأعراف؛ فإنه2 سبحانه قال فيها: {أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا} "2" فقدم الإنذار وعممه، وآخَّر البشارة وخصصها، وقال تعالى في مطلع الأعراف: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} "الأعراف: 2" فخص الذكر وأخَّرها، وقدم الإنذار، وحذف مفعوله ليعم.
وقال هنا: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} "3"، وقال في أوائل الأعراف مثل ذلك3.
وقال هنا: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ} "3". وقال هناك: {مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} "الأعراف: 54".
وأيضًا فقد ذكرت قصة فرعون وقومه في الأعراف، واختصر ذكر4 إغراقهم، وبسط5 في هذه السورة أبلغ بسط6.
فهي شارحة لما أُجمل في سورة الأعراف منه.
__________
1 جملة: "في الأنفال" ساقطة في "ظ".
2 في المطبوعة: "وإنه"، والمثبت من "ظ".
3 وذلك في قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} "الأعراف: 54".
4 في المطبوعة: "فاختصر"، والمثبت من "ظ".
5 في المطبوعة: "عليهم وبسطه"، والمثبت من "ظ".
6 في عذاب فرعون قال تعالى في الأعراف: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ} "الأعراف: 136"، وقال في يونس: {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ} إلى {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} "90-92".

(1/94)