أسرار ترتيب القرآن سور هود
...
سورة هود:
أقول: وجه وضعها بعد سورة يونس زيادة على الأوجه الستة
السابقة: أن سورة يونس ذكر فيها قصة نوح مختصرة جدًّا مجملة1،
فشرحت في هذه السورة وبسطت ما2 لم يبسطه في غيرها من السور3،
ولا في سورة الأعراف على طولها، ولا في سورة {إِنَّا
أَرْسَلْنَا نُوحًا} [نوح: 1] التي أفردت لقصته.
فكانت هذه السورة شارحة لما أجمل في سورة يونس [توفية
بالقاعدة، ثم إن مطلعها شديد الارتباط بمقطع سورة يونس] 4، فإن
قوله هناك: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} "يونس: 109" هو
عين قوله هنا: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ
مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} "2".
__________
1 وذلك من قوله: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} إلى
{فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} "71-73".
2 في المطبوعة: "بما"، والمثبت من "ظ".
3 وذلك في قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}
إلى {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ
عَلَيْكَ} "25-48". وانظر: مصاعد النظر للإشراف على مقاصد
السور "2/ 164".
4 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
(1/95)
سورة يوسف:
أقول: وجه وضعها بعد سورة هود زيادة على الأوجه الستة السابقة:
أن قوله في مطلعها: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ
الْقَصَصِ} "3" مناسب لقوله في مقطع تلك: {وَكُلًّا نَقُصُّ
عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ
فُؤَادَكَ} "هود: 120".
وأيضًا فلما وقع في سورة هود: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ
وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} "هود: 71"، وقوله:
{رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ}
"هود: 73". وذكر هنا حال يعقوب مع أولاده، وحال ولده الذي هو
من أهل البيت مع إخوته، فكان كالشرح لإجمال ذلك.
وكذلك قال هنا: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ
يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} "6" فكان ذلك كالمقترن بقوله في
هود1: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ
الْبَيْتِ} "هود: 73".
وقد روينا عن ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب النزول: أن يونس
نزلت، ثم هود، ثم يوسف2. وهذا وجه آخر من وجوه المناسبة في
ترتيب هذه السور الثلاث؛ لترتيبها في النزول هكذا.
__________
1 انظر: الدرر "4/ 4" وما بعدها.
2 الإتقان "1/ 97" نقلًا عن محمد بن الحارث بن أبيض في جزئه.
(1/96)
سورة الرعد:
أقول: وجه وضعها بعد سورة يوسف زيادة ما تقدم بعدما فكرت فيه
طائفة من الزمان: أنه سبحانه قال في آخر تلك: {وَكَأَيِّنْ
مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ
عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} "يوسف: 105" فذكر
الآيات السمائية والأرضية مجملة، ثم فصل1 في مطلع هذه السورة
بقوله2: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ
عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ
الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ
رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [} تفصيل للآيات السمائية. وقوله: {] 3و
َهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ
وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَفِي الْأَرْضِ
قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ
وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ
وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} "2-4" تفصيل
للآيات4 الأرضية.
هذا مع اختتام سورة يوسف بوصف الكتاب، ووصفه بالحق، وافتتاح
هذه بمثل ذلك5، وهو من تشابه الأطراف.
__________
1 في "ظ": "فسرها".
2 في المطبوعة: "فقوله"، والمثبت من "ظ"، وهو الأنسب.
3 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
4 في المطبوعة: "الآيات"، والمثبت من "ظ".
5 ختام يوسف: {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ
تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ
وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} "يوسف: 111"،
وافتتاح هذه: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ
لا يُؤْمِنُونَ} "1".
(1/97)
سورة إبراهيم:
أقول: وجه وضعها بعد سورة الرعد زيادة على ما تقدم بعد إفكاري
فيه برهة: أن قوله في مطلعها: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ
إِلَيْكَ} "1" مناسب لقوله في مقطع تلك: {وَمَنْ عِنْدَهُ
عِلْمُ الْكِتَابِ} "الرعد: 43" على أن المراد بـ"مَنْ" هو:
الله تعالى جل جلاله.
وأيضًا ففي الرعد: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ
قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ
أَخَذْتُهُمْ} "الرعد: 32"، وذلك مجمل في أربعة مواضع: الرسل،
والمستهزئين، وصفة الاستهزاء، والأخذ، وقد فصلت الأربعة في
قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ... } "9-16" الآيات1.
__________
1 المواضع الأربعة المفصلة لما أجمل في سورة الرعد هي: الرسل،
في قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ
قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ
لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} [9] الآية، ونظم الدرر "4/
117" وما بعدها.
والمستهزئون، وصفة الاستهزاء، في قوله: {فَرَدُّوا
أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا
بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ} "9"، وقوله: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ
يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} "10"، وقوله: {لِرُسُلِهِمْ
لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي
مِلَّتِنَا} "13"، والأخذ في قوله تعالى: {لَنُهْلِكَنَّ
الظَّالِمِينَ، وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ
بَعْدِهِمْ} "13، 14"، ونظم الدرر "4/ 165، 166".
(1/98)
سورة الحِجْر:
أقول: تقدمت الأوجه في اقترانها بالسورة السابقة؛ وإنما أُخرت
عنها لقصرها بالنسبة إليها، وهذا القسم من سور القرآن للمئين،
فناسب تقديم الأطول1، مع مناسبة ما خُتمت به لبراعة الختام وهو
قوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} "99"،
فإنه مفسر بالموت2، وذلك مقطع في غاية البراعة.
وقد وقع ذلك في أواخر السور المقترنة، ففي آخر آل عمران:
{وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} "آل عمران:
200"، وفي آخر الطواسين: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا
وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} "القصص: 88"،
وفي آخر ذوات {الر} : {وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ}
"السجدة: 30"، وفي آخر الحواميم: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ
مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ
بَلاغٌ} "الأحقاف: 35".
ثم ظهر لي وجه اتصال أول هذه السورة بآخر سورة إبراهيم؛ فإنه
تعالى لما قال هناك في وصف يوم القيامة: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ
الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ
مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ، سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ
وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} "إبراهيم: 48-50"، قال هنا:
{رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا
مُسْلِمِينَ} "2" فأخبر أن المجرمين المذكورين إذا طال مكثهم
في النار، ورأوا عصاة المؤمنين الموحدين قد أُخرجوا منها تمنوا
أن
__________
1 في "ظ": "تقدم الطولى".
2 أخرجه البخاري عن سالم "6/ 102"، ونفس المعنى أخرجه البخاري
في الجنائز، وأحمد في المسند "6/ 436".
(1/99)
لو كانوا في الدنيا مسلمين، وذلك وجه حسن
في الربط، مع اختتام آخر تلك بوصف الكتاب، وافتتاح هذه به1،
وذلك من تشابه الأطراف2.
__________
1 ختام إبراهيم: {هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ
وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ
أُولُو الْأَلْبَابِ} "إبراهيم: 52"، وافتتاح هذه: {تِلْكَ
آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} "1" فكأنهما متصلتان.
2 مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور "2/ 203، 204".
(1/100)
سورة النحل:
أقول: وجه وضعها بعد سورة الحجر: أن آخرها شديد الالتئام بأول
هذه؛ فإن قوله في آخر تلك: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى
يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} "الحجر: 99" الذي هو مفسر بالموت، ظاهر
المناسبة لقوله هنا: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} "1"، وانظر كيف
جاء في المقدَّمة بـ {يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [بلفظ المضارع]
1، وفي المتأخرة بلفظ الماضي؛ لأن المستقبل سابق على الماضي،
كما تقرر في المعقول والعربية2.
ثم3 ظهر لي أن هذه السورة شديدة الاعتلاق بسورة إبراهيم؛ وإنما
تأخرت4 عنها لمناسبة الحجر، في كونها من ذوات {الر} .
وذلك: أن سورة إبراهيم وقع فيها ذكر فتنة الميت، ومن هو مثبت5
وغيره6، وذلك أيضًا في هذه بقوله: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} "28" الآيات، فذكر
الفتنة، وما يحصل عندها من الثبات والإضلال، وذكر هنا ما يحصل
عقب ذلك من النعيم والعذاب7.
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
2 مراد المؤلف أن المضارع سابق على الماضي في الكلام والأخبار،
لا في الزمان، فقولك الآن: "يقوم الناس لرب العالمين يوم
القيامة" سابق في الخبر، ولا يجوز أن يقال: "قام الناس لرب
العالمين يوم القيامة" إلا بعد تمام ذلك البعث.
3 في المطبوعة: "و"، والمثبت من "ظ".
4 في "ظ": "أخرت".
5 في المطبوعة: "ميت"، والمثبت من "ظ".
6 وذلك في قوله: {يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ
وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ
بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} "إبراهيم: 17".
7 وذلك في قوله تعالى عن العذاب: {فَادْخُلُوا أَبْوَابَ
جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} "29"، وفي النعيم: {جَنَّاتُ
عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}
"31".
(1/101)
ووقع في سورة إبراهيم: {وَقَدْ مَكَرُوا
مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ
مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} "إبراهيم: 46"، و
[قد] 1 قيل: إنها في الجبار الذي أراد أن يصعد السماء
بالنسور2، ووقع هنا أيضًا في قوله: {قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ} "26".
ووقع في سورة إبراهيم ذكر النعم، وقال عقبها: {وَإِنْ
تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} "إبراهيم: 34"،
ووقع هنا ذكر ذلك معقَّبًا بمثل ذلك.
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
2 يُروى أنه جوع نسرين، وأوثق رِجْل كل منهما في تابوت، وقعد
هو وآخر في التابوت ورفع عصا عليها اللحم، فطارا يتبعان اللحم
حتى غابا في الجو. "تفسير الطبري 3/ 160".
(1/102)
سورة بني إسرائيل:
اعلم أن هذه السورة والأربع بعدها من قديم ما أنزل1.
أخرج البخاري عن ابن مسعود أنه قال في بني إسرائيل، والكهف،
ومريم، وطه، والأنبياء: " [هن] 2 من العتاق الأول، وهن من
تلادي"3، وهذا وجه في ترتيبها، وهو اشتراكها في قدم النزول،
وكونها مكيات، وكلها4 مشتملة على القصص.
وقد ظهر لي في وجه اتصالها بسورة النحل: أنه سبحانه لما قال في
آخر النحل: {إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ
اخْتَلَفُوا فِيهِ} "النحل: 124" فسر في هذه [السورة] 5 شريعة
أهل السبت وشأنهم، فذكر فيها جميع ما شرع لهم في التوراة، كما
أخرج ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: " [إن] 6 التوراة كلها في
خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل"7،
وذكر عصيانهم وإفسادهم8، وتخريب مسجدهم، ثم ذكر استفزازهم
للنبي -صلى الله عليه وسلم- وإرادتهم إخراجه من المدينة، ثم
ذكر سؤالهم إياه عن الروح، ثم ختم السورة بآيات موسى التسع،
وخطابه مع فرعون، وأخبر أن [فرعون أراد أن يستفزهم من الأرض،
فأُهلك،
__________
1 في "ظ": "نزل".
2 ما بين المعقوفين من صحيح البخاري، وكذا في "ظ".
3 أخرجه البخاري في التفسير "6/ 189" عن ابن مسعود.
4 في المطبوعة: "وكونها"، والمثبت من "ظ".
5 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
6 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
7 تفسير ابن جرير "17/ 243".
8 في المطبوعة: "وفسادهم"، والمثبت من "ظ".
(1/103)
وورث بنو إسرائيل من بعده، وفي ذلك تعريض
بهم، أنهم كما استفزوا النبي] 1 -صلى الله عليه وسلم- ليخرجوه
من المدينة هو وأصحابه كنظير ما وقع لهم مع فرعون لما استفزهم،
و [قد] 2 وقع ذلك أيضًا.
ولما كانت هذه السورة مصدَّرة بقصة تخريب المسجد الأقصى
أُسْرِيَ بالمصطفى إليه، تشريفًا له بحلول ركابه الشريف3، فلله
الحمد على ما ألهم.
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ"، والنص في المطبوعة فيه
اضطراب.
2 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
3 وانظر: مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور "2/ 230، 231".
(1/104)
سورة الكهف:
قال بعضهم: مناسبة وضعها بعد سورة الإسراء: افتتاح تلك
بالتسبيح، وهذه بالتحميد1، وهما مقترنان في القرآن وسائر
الكلام؛ بحيث يسبق التسبيح التحميد؛ نحو: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ} 2 "الحجر: 98"، وسبحان الله وبحمده.
قلت: مع اختتام ما قبلها بالتحميد أيضًا3، وذلك من وجوه
المناسبة بتشابه الأطراف.
ثم ظهر لي وجه آخر أحسن4 في الاتصال؛ وذلك: أن اليهود أمروا
المشركين أن يسألوا النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ثلاثة
أشياء: عن الروح، وعن قصة أصحاب الكهف، وعن قصة ذي القرنين5،
وقد ذكر جواب السؤال الأول في آخر سورة بني إسرائيل، فناسب
اتصالها بالسورة التي اشتملت على جواب السؤالين الآخرين6.
فإن قلت: هلَّا جمعت الثلاثة في سورة واحدة؟
__________
1 وسبب آخر ذكره ابن الزملكاني؛ هو: أن سورة الإسراء اشتملت
على الإسراء الذي كذب به المشركون، وكذبوا الرسول -صلى الله
عليه وسلم- من أجله، وتكذيبه تكذيب لله، فأتى بسبحان تنزيهًا
لله عما نُسب إلى نبيه من الكذب، وسورة
الكهف لما نزلت بعد سؤال المشركين عن قصة أصحاب الكهف
وتأخر الوحي، ونزلت مبينة أن الله لم يقطع نعمته عن رسوله ولا
المؤمنين فناسب افتتاحها بالحمد "الإتقان: 3/ 387".
2 أو: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} كما ورد في الحجر: 98،
وطه: 130، وغافر: 55، وق: 39، والطور: 48، وغير ذلك.
3 ختام الإسراء: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ
يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ}
"الإسراء: 111" الآية.
4 في "ظ": "حسن".
5 انظر: تفسير ابن كثير "5/ 137".
6 ينظر: مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور "2/ 230، 231".
(1/105)
قلت: لما لم يقع الجواب عن الأول بالبيان1،
ناسب فصله في سورة.
ثم ظهر لي وجه آخر: وهو أنه لما قال فيها: {وَمَا أُوتِيتُمْ
مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} "الإسراء: 85"، والخطاب
لليهود، واستظهر على ذلك بقصة موسى في بني إسرائيل مع الخضر،
التى كان سببها ذكر العلم والأعلم2، وما دلت عليه من إحاطة3
معلومات الله عز وجل التي لا تحصى، فكانت هذه السورة كإقامة
الدليل لما ذكر من الحِكَم4.
وقد ورد في الحديث أنه لما نزل: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} قال اليهود: قد أوتينا التوراة،
فيها علم كل شيء؛ فنزل: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا
لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ
كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} "109" في
هذه السورة5، فهذا وجه آخر في المناسبة، وتكون السورة من هذه
الجهة جوابًا عن شبهة الخصوم فيما قدر بتلك.
وأيضًا فلما قال هناك: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ
جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} "الإسراء: 104" شرح ذلك هنا وبسطه
بقوله: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ} إلى
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا، وَعَرَضْنَا
جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا} "98-100"، فهذه
وجوه عديدة في الاتصال6.
__________
1 لم يقع الجواب بالبيان؛ وإنما وقع بإسناد علم الروح إلى
الله: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ
مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} "الإسراء: 85".
2 أخرجه الإمام أحمد في المسند "1/ 255" وفيه: "أوتينا علمًا
كثيرًا، أوتينا التوراة، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرًا
كثيرًا".
3 في "ظ": "كثرة".
4 في "ظ": "في تلك السورة".
5 وفي رواية لابن جرير في التفسير "15/ 104" فنزلت: {وَلَوْ
أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ} "لقمان: 27"
الآية، وانظر: أسباب النزول، للنيسابوري "172"، والسيوطي
"179".
6 نظم الدرر "4/ 441" وما بعدها.
(1/106)
سورة مريم:
أقول: ظهر لى في وجه مناسبتها لما قبلها: أن سورة الكهف اشتملت
على عدة أعاجيب: قصة أصحاب الكهف، وطول لبثهم هذه المدة
الطويلة بلا أكل ولا شرب، وقصة موسى مع الخضر، وما فيها من
الخارقات، وقصة ذي القرنين، وهذه السورة فيها أعجوبتان: قصة
ولادة يحيى بن زكريا1، وقصة ولادة عيسى، فناسب تتاليهما2.
وأيضًا فقد قيل: إن أصحاب الكهف يُبعثون قبل قيام الساعة،
ويحجون مع عيسى ابن مريم حين ينزل3، ففي ذكر
سورة مريم بعد [ذكر] 4 سورة
أصحاب الكهف مع ذلك -إن ثبت- ما لا يخفى من المناسبة.
وقد قيل أيضًا: إنهم من قوم عيسى، وإن قصتهم كانت في الفترة،
فناسب توالي [سورة] 5 قصتهم و [سورة] 5 قصة نبيهم6.
__________
1 ولادة يحيى كانت عجيبة؛ لأن أمه كانت قد بلغت سن اليأس،
وأباه قد بلغ من الكبر عتيًّا، فلا ينجب مثلهما أبدًا.
2 نظم الدرر في تناسب الآيات والسور "4/ 446" وما بعدها.
3 لم نعثر على هذا الرأي فيما بين أيدينا من مصادر.
4 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
5 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
6 قال بن كثير: الظاهر أنهم كانوا قبل ملة النصرانية؛ لأن
اليهود أشاروا على قريش بسؤال النبي -صلى الله عليه وسلم-
عنهم، فدل على أنه محفوظ قبل عيسى "تفسير ابن كثير: 5/ 137".
(1/107)
سورة طه:
أقول: روينا عن ابن عباس وجابر بن زيد في ترتيب النزول: أن طه
نزلت بعد سورة مريم، بعد ذكر سورة أصحاب الكهف، وذلك وحده كافٍ
في مناسبة الوضع، مع التآخي بالافتتاح1 بالحروف المقطعة.
وظهر لي وجه آخر؛ وهو: أنه لما ذكر في سورة مريم قصص عدة من
الأنبياء؛ وهم: زكريا، ويحيى، وعيسى، الثلاثة مبسوطة وإبراهيم،
وهي بين البسط والإيجاز، وموسى، وهي موجزة بجملة2 أشار إلى
بقية النبيين في الآية الأخيرة إجمالًا3.
وذكر في هذه السورة شرح قصة موسى التي أجملها هناك، فاستوعبها
غاية الاستيعاب، وبسطها أبلغ بسط4، ثم أشار إلى تفصيل قصة آدم،
الذي وقع [في مريم] 5 مجرد اسمه هناك6، ثم أورد في سورة
الأنبياء بقية قصص من لم يذكر في مريم؛ كنوح ولوط، وداود،
وسليمان، وأيوب، وذي الكفل، وذي النون، وأشير إلى قصة من ذكرت
قصته
__________
1 كلمة: "بالافتتاح" ليست في "ظ".
2 وردت قصة موسى في ثلاث آيات قصار من مريم "51، 52، 53".
3 وذلك في قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ
وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ
إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرائيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا
وَاجْتَبَيْنَا} "مريم: 58" الآية.
4 وذلك في قوله: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} إلى {ثُمَّ
لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} "9-97".
5 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
6 وقع مجرد ذكر اسم آدم في مريم قوله: {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ}
"مريم: 58"، وذكرت قصته مفصلة في طه من قوله: {وَإِذْ قُلْنَا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} إلى {قَالَ اهْبِطَا
مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} "116-123".
(1/108)
إشارة وجيزة؛ كموسى، وهارون، وإسماعيل،
وزكريا، ومريم؛ لتكون السورتان كالمتقابلتين.
وبسطت فيها قصة إبراهيم البسط التام فيما يتعلق به مع قومه،
ولم تذكر حاله مع أبيه إلا إشارة1 كما أنه في سورة مريم ذكر
حاله مع قومه إشارة ومع أبيه مبسوطًا2.
فانظر إلى عجيب هذا الأسلوب، وبديع هذا الترتيب.
__________
1 قصة إبراهيم في الأنبياء وردت في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا
إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} "الأنبياء: 51" الآية إلى {وَكَانُوا
لَنَا عَابِدِينَ} "الأنبياء: 73"، وكلها في إبراهيم وقومه،
أما عن إبراهيم وأبيه فأشير إليها في قوله: {إِذْ قَالَ
لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} "الأنبياء: 52" الآية.
2 وردت قصة إبراهيم وأبيه في مريم من قوله تعالى: {إِذْ قَالَ
لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا
يُبْصِرُ} "مريم: 42" إلى {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ
مِنْ دُونِ اللَّهِ} "مريم: 48".
(1/109)
سورة الأنبياء:
قدمت ما فيها مستوفًى1، وظهر لي في اتصالها بآخر طه: أنه
سبحانه لما قال: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا} "طه:
135"، وقال قبله: {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ
إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} "طه: 129".
قال في مطلع هذه: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} "1" إشارة
إلى قرب الأجل، ودنو الأمل المنتظر2.
وفيه أيضًا مناسبة لقوله هناك: {وَلا تَمُدَّنَ عَيْنَيْكَ
إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} "طه: 131"
الآية.
فإن قرب الساعة يقتضي الإعراض عن هذه3 الحياة الدنيا؛ لدنوها
من الزوال والفناء؛ ولهذا ورد في الحديث: أنها لما نزلت قيل
لبعض الصحابة: هلا سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- عنها؟
فقال: "نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا"4.
__________
1 أي: في سورة طه.
2 في "ظ": "المسمى".
3 في "ظ": "زهرة".
4 أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق عن عامر بن ربيعة "25/ 327"،
وأخرجه ابن مردويه وأبو نعيم في الحلية، كما ذكر السيوطي في
الدر المنثور في التفسير بالمأثور "5/ 615" وفيه: عن أبي هريرة
-رضي الله عنه- في قوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ
حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} "1" عن أمر
الدنيا، وذكره ابن كثير في تفسيره "3/ 172، 173" وكذلك
الشوكاني في فتح القدير "3/ 396" كلهم عن عامر بن ربيعة.
(1/110)
|