أسرار ترتيب القرآن

سورة الحج:
أقول: وجه اتصالها بسورة الأنبياء: أنه ختمها بوصف الساعة في قوله: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} "الأنبياء: 97"، وافتتح هذه بذلك، فقال: {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ، يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} "1، 2".

(1/111)


سورة المؤمنون 1:
أقول: وجه اتصالها بسورة الحج: أنه لما ختمها بقوله: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} "الحج: 77"، وكان ذلك مجملًا، فصَّله في فاتحة هذه السورة، فذكر خصال الخير التي من فعلها فقد أفلح، فقال: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} "1، 2" الآيات.
ولما ذكر [في] 2 أول الحج قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} "الحج: 5" الآية. زاده هنا بيانًا [وإطنابًا] 3 في قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} "12، 13" الآيتان. فكل جملة أُوجِزَت هناك في القصة4 أطنب فيها هنا.
__________
1 في "ظ": {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} .
2، 3 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
4 في المطبوعة: "القصد" تحريف، والمثبت من "ظ".

(1/111)


سورة النور:
أقول: وجه اتصالها بسورة {قَدْ أَفْلَحَ} : أنه لما قال [فيها] 1: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} "المؤمنون: 5"، ذكر في هذه أحكام من لم يحفظ فرجه، من الزانية والزاني، وما اتصل بذلك من شأن القذف، وقصة الإفك، والأمر بغض البصر2، وأمر فيها بالنكاح حفظًا للفروج، وأمر من لم يقدر على النكاح بالاستعفاف، وحفظ فرجه، ونهى عن إكراه الفتيات على الزنا3.
ولا ارتباط أحسن من هذا الارتباط، ولا تناسق أبدع من هذا النسق.
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
2 الزانية والزاني في قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} إلى {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} "2، 3"، وجاء القذف في قوله: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} إلى قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} "4-10"، وهو شامل لأحكام اللعان وقصة الإفك هي التي أرجف بها المنافقون في حق أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- حتى برأها الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} إلى {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} "11-18"، وجاء غض البصر في قوله: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} إلى قوله: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا} "30، 31"، وفي "ظ" بعد كلمة: "البصر" ما يلي: "الذي هو داعية الزنا، والاستئذان الذي إنما جعل من أجل النظر".
3 جاء الأمر بالنكاح، والاستعفاف لغير القادر، وعدم إكراه الفتيات على البغاء في الآيتين "32، 33".

(1/112)


سورة الفرقان:
ظهر لي بفضل الله بعدما أفكرت مدة1: أن نسبة هذه السورة لسورة النور، كنسبة سورة الأنعام إلى المائدة؛ من حيث أن النور قد ختمت بقوله: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} "النور: 64"، كما ختمت بقوله: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} "المائدة: 120".
وكانت جملة النور أخصر من المائدة، ثم فصلت هذه الجملة في سورة الفرقان فافتتحت بقوله: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ} إلى قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا} "2"، كما افتتحت الأنعام بمثل2 ذلك3. وكان قوله عقبه: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} "3" إلى آخره، نظير قوله هناك: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} "الأنعام: 1".
ثم ذكر في خلال هذه السورة جملة من المخلوقات؛ كمد الظل، والليل، والنوم، والنهار، والرياح، والماء، والأنعام، والأناسي، ومرج البحرين، والإنسان، والنسب، والصهر، وخلق السماوات والأرض في ستة أيام، والاستواء على العرش، وبروج السماء، والسراج، والقمر، إلى غير ذلك، مما هو تفصيل لجملة: {لِلَّهِ مَا فِي
__________
1 في المطبوعة: "فكرت في هذه"، والمثبت من "ظ".
2 في "ظ": "بنظير".
3 افتتاح الأنعام قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} "الأنعام: 1" الآية.

(1/113)


ال سَّ مَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} 1 "النور: 64"، كما فصل آخر المائدة في الأنعام بمثل ذلك2، وكان البسط في الأنعام أكثر لطولها.
ثم أشار في هذه السورة إلى القرون المكذوبة وإهلاكهم3، كما أشار في الأنعام إلى ذلك4، ثم أوضح5 هذه الإشارة في السورة التي تليها -وهي الشعراء- بالبسط التام، والتفصيل البالغ6، كما أوضح تلك الإشارة التي في الأنعام وفصَّلها في سورة الأعراف التى تليها7.
فكانت هاتان السورتان في المثاني، نظير تينك السورتين [الأنعام والأعراف] في الطوال، واتصالهما بآخر النور، نظير اتصال تلك بآخر المائدة، المشتملة على فصل القضاء8.
ثم ظهر لي لطيفة أخرى؛ وهي: أنه إذا وقعت سورة مكية بعد سورة مدنية، افتتح أولها بالثناء على الله؛ كالأنعام بعد المائدة،
__________
1 جميع هذه المعاني جاءت في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} إلى قوله: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} "45-61".
2 هذا التفصيل جاء في الأنعام مفرقًا في الآيات: "13، 18، 59، 60، 61، 65، 73، 95، 96، 97، 98، 99".
3 في المطبوعة: "وإهلاكم" خطأ.
4 تفصيل أحوال القرون المكذوبة وإهلاكهم في الفرقان في قوله: {فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا} إلى {وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا} "36-39"، وفي الأنعام في قوله: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} "الأنعام: 11".
5 في المطبوعة: "أفصح عن"، والمثبت من "ظ".
6 جاء ذلك في الآيات "64-189"؛ حيث جاء عن قوم كل رسول تكذيبهم إياه، ووسيلة إهلاكهم.
7 تفصيل أحوال القرون المكذبة جاء في الأعراف من قوله: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا} إلى {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُون} "الأعراف: 59-178".
8 آخر المائدة: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} "120"، وهو يشتمل على فصل القضاء ضمنًا، وأول الأنعام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} "الأنعام: 1" الآية.

(1/114)


والإسراء بعد النحل، وهذه بعد النور، وسبأ بعد الأحزاب، والحديد بعد الواقعة، وتبارك بعد التحريم1؛ لما في ذلك من الإشارة إلى نوع استقلال، وإلى الانتقال من نوع إلى نوع.
__________
1 قول المؤلف: والإسراء بعد النحل، لا يتفق مع قاعدته، فكلاهما مكي، وقوله: والحديد بعد الواقعة عكس قاعدته، فالواقعة مكية، والحديد مدنية، وهناك سور مكية جاءت بعد المدنية وافتتحت بالثناء على القرآن؛ كيونس بعد التوبة، وإبراهيم بعد الرعد، والنمل بعد الشعراء، وق بعد الرحمن، والثناء على القرآن ثناء على الله ضمنًا.
وهناك مكيات بعد مدنيات لم تفتتح بالثناء على الله؛ كالواقعة بعد الرحمن.

(1/115)


سورة الشعراء:
أقول: وجه اتصالها بسورة الفرقان أنه تعالى لما أشار فيها إلى قصص مجملة بقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا، فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا، وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا، وَعَادًا وَثَمُودَا وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} "الفرقان: 35-38" شرح هذه القصص، وفصَّلها أبلغ تفصيل في السورة1 التي تليها؛ ولذلك رتبت على ترتيب ذكرها في الآيات المذكورة فبدئ بقصة موسى2، ولو رتبت على الواقع لأخرت كما في الأعراف.
فانظر إلى هذا السر اللطيف الذي مَنَّ الله بإلهامه.
ولما كان في الآيات المذكورة إشارة إلى قرون بين ذلك كثيرة3، زاد في الشعراء تفصيلًا لذلك قصة قوم إبراهيم، وقوم لوط، وقوم شعيب4.
ولما ختم الفرقان بقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} "الفرقان: 63"، وقوله: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} "الفرقان: 72"
__________
1 في المطبوعة: "الشعراء"، والمثبت من "ظ".
2 بدئ بقصة موسى، من قوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى} "10" وما بعدها، ثم نوح في قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} "105" وما بعدها، ثم عاد من قوله: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} "123"، وهكذا على ترتيب آيات الفرقان.
3 في المطبوعة: "قوله: {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} "، والمثبت من "ظ".
4 في "ظ": "وقوم شعيب وقوم لوط".

(1/116)


ختم هذه السورة بذكر الشعراء الذين هم بخلاف ذلك، واستثنى منهم مَن سلك سبيل أولئك، وبيَّن ما يمدح من الشعر، و [ما] 1 يدخل في القول2 "سلامًا"، وما يذم منه، ويدخل في اللغو3.
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
2 في المطبوعة: "قوله"، والمثبت من "ظ".
3 وذلك من قوله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} إلى آخر السورة "227" من الشعراء.

(1/117)


سورة النمل:
أقول: وجه اتصالها بما قبلها: أنها كالتتمة لها، في ذكر بقية القرون، فزاد سبحانه فيها ذكر سليمان وداود، وبسط فيها قصة لوط أبسط مما هي في1 الشعراء2.
وقد روينا عن ابن عباس، وجابر بن زيد، في ترتيب [نزول] 3 السور: أن الشعراء نزلت ثم طس4، ثم القصص، وذلك كافٍ في5 ترتيبها في المصحف هكذا.
وأيضًا فقد وقع فيها: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} "7" إلى آخره، وذلك تفصيل قوله في الشعراء: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} "الشعراء: 21".
__________
1 في "ظ": "كما هو".
2 قصة داود وسليمان في قوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا} إلى {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "15-44"، وقصة لوط في قوله: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ} إلى {فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِين} "54-58".
وقول المؤلف: إن قصة لوط هنا أبسط منها في الشعراء مخالف للواقع، فهي في الشعراء أطول؛ ولكنها ذكرت في النمل مع بيان أقصى ما وصلوا إليه من الانحلال الخلقي والانتكاس العقلي؛ إذ عدوا طهارة لوط من الشذوذ الجنسي جريمة يستحق عليها النفي من البلاد، ولم يرد هذا التعليل في الشعراء، فلعل البسط في المعاني لا في المقدار.
3 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
4 في المطبوعة: "أنزلت، ثم طه" خطأ، والمثبت من "ظ".
5 في المطبوعة: "ولذلك كان"، والمثبت من "ظ".

(1/118)


سورة القصص:
أقول: ظهر لي بعد الفكرة: أنه سبحانه لما حكى في الشعراء قول فرعون لموسى: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ، وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ} "الشعراء: 18، 19" إلى قول موسى: {فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ} "الشعراء: 21"، ثم حكى1 في طس النمل قول موسى لأهله: {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} "النمل: 7" إلى آخره، الذي هو في الوقوع بعد الفرار، ولما كان [الأمران] 2 على سبيل الإشارة والإجمال، بسط في هذه السورة ما أوجزه في السورتين، وفصل ما أجمله فيهما على حسب ترتيبهما.
فبدأ بشرح تربية فرعون له، مصدرًا بسبب ذلك: من علو فرعون، وذبح أبناء بني إسرائيل الموجب لإلقاء موسى عند ولادته في اليم خوفًا عليه من الذبح، وبسط القصة في تربيته، وما وقع فيها إلى كبره، إلى السبب الذي من أجله قتل القبطي، وهى الفعلة التي فعل، إلى الهم بذلك عليه، والموجب لفراره إلى مدين3، إلى ما وقع له [فيها] 4 مع شعيب، وتزوجه بابنته، إلى أن سار بأهله، وآنس من جانب الطور نارًا فقال لأهله: {امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} "29" إلى ما وقع له فيها من المناجاة لربه، وبعثه إياه رسولًا، وما استتبع ذلك، إلى آخر القصة.
فكانت السورة شارحة لما أجمل في السورتين معًا على الترتيب5.
وبذلك عرف وجه الحكمة في تقدم "طس" على هذه، وتأخيرها عن الشعراء، فلله الحمد على ما ألهم.
__________
1 في المطبوعة: "وقال"، والمثبت من "ظ".
2 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
3 مدين: مدينة قوم شعيب، وهي تجاه تبوك، على بحر القلزم، وبها البئر التي استقى منها موسى -عليه السلام- لغنم شعيب. انظر: "مراصد الاطلاع 3/ 1246".
4 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
5 نظم الدرر "5/ 462" وما بعدها.

(1/119)


سورة العنكبوت:
أقول: ظهر لي في وجه اتصالها بما قبلها: أنه تعالى لما أخبر في أول السورة السابقة عن فرعون أنه: {عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} "القصص: 4" افتتح هذه السورة بذكر المؤمنين الذين فتنهم الكفار وعذبوهم على الإيمان بعذاب دون ما عذب به قوم فرعون بني إسرائيل؛ تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم، وحثًّا لهم على الصبر؛ ولذلك قال هنا: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} "3"، وهذه أيضًا من حِكَم تأخير القصص عن1 "طس".
وأيضًا فلما كان في خاتمة القصص الإشارة إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم2، وفي خاتمة هذه الإشارة إلى هجرة المؤمنين بقوله: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} "56" ناسب تتاليهما.
__________
1 في المطبوعة: "على"، والمثبت من "ظ".
2 وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} "القصص: 85" الآية، والمعنى: لرادك إلى مكة، كما في البخاري "6/ 142" أي: كما خرجت منها، وبه قال ابن عباس -رضي الله عنهما- ويحيى بن الجزار، وسعيد بن جبير، والضحاك، واختاره ابن جرير "تفسير الطبري: 20/ 80".

(1/120)


سورة الروم:
أقول: ظهر لي في اتصالها بما قبلها: أنها ختمت بقوله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} "العنكبوت: 69"، وافتتحت1 هذه بوعد من غلب من أهل الكتاب بالغلبة والنصر، وفرح المؤمنين بذلك، وأن الدولة لأهل الجهاد فيه، ولا يضرهم ما وقع لهم قبل ذلك من هزيمة2.
هذا مع تآخيها بما قبلها في المطلع، فإن كلا منهما افتتح بـ {الم} غير معقب بذكر القرآن، وهو خلاف القاعدة الخاصة في المفتتح3 بالحروف المقطعة؛ فإنها كلها عقبت بذكر الكتاب أو وصفه، إلا هاتين السورتين وسورة القلم؛ لنكتة بينتها في "أسرار التنزيل"4.
__________
1 في المطبوعة: "فافتتحت"، والمثبت من "ظ".
2 وذلك في قوله تعالى: {غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ} "2، 3" إلى قوله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ} "4، 5". وانظر: الدرر "6/ 582" وما بعدها.
3 في المطبوعة: "بالمفتتح"، والمثبت من "ظ".
4 انظر مقدمة المصنف وحاشيتها، وأشار إليه في الإتقان "1/ 281، 3/ 369".
والذي نراه في سبب عدم افتتاح العنكبوت والروم بالكتاب أو وصفه والله أعلم: أنه لما تكرر الحديث عن الكتاب عقب الحروف المقطعة وأنه من عند الله، وهدى للمتقين، وتنزيل من رب العالمين، كان لا بد من ابتلاء المصدقين به حتى ينعزل المنافقون عن المؤمنين، ويظهر الصادق في إيمانه من الكاذب، وهذا بمثابة الاختبار العملي لاستجابة الناس لأمر الكتاب، ولا سيما وأن حملة تشكيك أثارها الكفار ضد الإيمان؛ ولذا قال تعالى في العنكبوت: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ} إلى أن قال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} "العنكبوت: 10-12" الآية.
أما في الروم فقد عقبت الحروف المقطعة باختبار ودليل على صدق وعد الكتاب الذي صدق الكتاب بالإخبار عن المستقبل وما يجري فيه من وعد الروم بالنصر بعد الهزيمة، وهذا ابتلاء يميز الله به المؤمنين من المنافقين عند هذا الوعد وموقف الفريقين منه، ودليل على صدق الكتاب، وأنه من الله حينما تحقق النصر بالفعل.
{وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} "الروم: 6".
أما سورة القلم فكانت ثالثة السور نزولًا بمكة، وكان الكفار قد أرجفوا بأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- مجنون، أو به مس من الجن، فاقتضى الأمر تسليته وتثبت فؤاده، وقدم هذه التسلية على الدفاع عن القرآن الذي جاء عقب ذلك في الآيات {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِين} إلى {أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِين} "القلم: 10-15".

(1/121)


سورة لقمان:
أقول: ظهر لى في اتصالها بما قبلها مع المؤاخاة في الافتتاح بـ {الم} : أن قوله تعالى هنا: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ، الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} "3، 4" متعلق بقوله في آخر سورة الروم: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ} "الروم: 56" الآية، فهذا عين إيقانهم بالآخرة، وهم المحسنون الموقنون بما ذكر1.
وأيضًا ففي كلتا السورتين جملة من الآيات2 وبدء الخلق3.
وذكر في الروم: {فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} "الروم: 15"، وقد فسر بالسماع4، وفي لقمان: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} "6" وقد فُسر بالغناء وآلات الملاهي5.
__________
1 نظم الدرر في تناسق الآيات والسور "6/ 3" وما بعدها.
2 في المطبوعة: "الأديان" تحريف، والمثبت من "ظ".
3 ذكرت جملة الأديان في سورة الروم في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} إلى قوله: {وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} "الروم: 9، 10"، وقوله: {مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} "الروم: 32"، وبدء الخلق في قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} "الروم: 20" الآية، وما بعدها.
وذكرت جملة الأديان في لقمان في قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} "لقمان: 6" الآية، وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} "لقمان: 20" وما بعدها، وبدء الخلق في قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} "لقمان: 10"، وقوله: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} "لقمان: 28" الآية.
4 هو قول يحيى بن أبي كثير. انظر: "تفسير ابن كثير 6/ 313".
5 هو قول ابن مسعود سمعه منه أبو الصهباء البكري "تفسير الطبري 21/ 39"، وهو قول ابن عباس وجابر -رضي الله عنهم- وعكرمة، وسعيد بن جبير، ومجاهد، ومكحول، والحسن، وانظر: "صحيح الترمذي 4/ 502، 503 بتحفة الأحوذي".

(1/122)


سورة السجدة:
أقول: وجه اتصالها بما قبلها: أنها شرحت مفاتح الغيب الخمسة1 التي ذكرت في خاتمة لقمان.
فقوله هنا: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} "5"، شرح لقوله هناك: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} "لقمان: 34"؛ ولذلك عقب هنا بقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} "6".
وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ} "27"، شرح قوله2: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} "لقمان: 34".
وقوله: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} "7" الآيات، شرح لقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} [لقمان: 34] .
وقوله: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ} "السجدة: 5" و {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} "السجدة: 13"، شرح لقوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} "لقمان: 34".
وقوله: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ} إلى قوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ} "10، 11"، شرح لقوله: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} "لقمان: 34"، فلله الحمد على ما ألهم.
__________
1 نظم الدرر "6/ 42 - 43".
2 في المطبوعة: "لقوله"، والمثبت من "ظ".

(1/123)


سورة الأحزاب:
أقول: وجه اتصالها بما قبلها: تشابه مطلع هذه ومقطع تلك؛ فإن تلك ختمت بأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإعراض عن الكافرين، وانتظار عذابهم1، [ومطلع هذه الأمر بتقوى الله، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، فصارت كالتتمة لما ختمت به تلك، حتى كأنهما سورة واحدة] 2.
__________
1 وذلك قوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} "السجدة: 30".
2 في "ظ": "وهذه بدأت بأمره بالتقوى، وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، واتباع ما أوحى إليه، والتوكل عليه".

(1/124)


سورة سبأ:
أقول: ظهر لى وجه اتصالها بما قبلها: وهو أن تلك لما ختمت بقوله: {لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} "الأحزاب: 73" افتتحت هذه بأن له ما في السماوات وما في الأرض1، وهذا الوصف لائق بذلك الحكم؛ فإن الملك العام والقدرة التامة يقتضيان ذلك.
وخاتمة سورة2 الأحزاب: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} "الأحزاب: 73"، وفاصلة الآية الثانية من مطلع سبأ: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} "2".
__________
1 وذلك قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ} "سبأ: 1" الآية.
2 في "ظ": "وآخر".

(1/124)


سورة فاطر:
أقول: مناسبة وضعها بعد سبأ تآخيهما في الافتتاح بالحمد، مع تناسبهما في المقدار.
وقال بعضهم: افتتاح سورة فاطر بالحمد مناسب لختام ما قبلها، من قوله: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} "سبأ: 54"، كما قال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "الأنعام: 45"، فهو نظير اتصال أول الأنعام بفصل القضاء المختتم به المائدة1.
__________
1 آخر المائدة: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُم} "المائدة: 119"، وأول الأنعام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} "الأنعام: 1" الآية.

(1/125)


سورة يس:
أقول: ظهر لي وجه اتصالها بما قبلها: أنه لما ذكر في سورة فاطر قوله: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} "فاطر: 37" وقوله: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} "فاطر: 42"، والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم1، وقد أعرضوا عنه وكذبوه، فافتتح هذه السورة بالإقسام على صحة رسالته، وأنه على صراط مستقيم؛ لينذر قومًا ما أنذر آباؤهم، وهذا وجه بيِّن.
وفي فاطر: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} "فاطر: 13"، وفي يس: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} "38، 39"، وذلك أبسط وأوضح.
وفي فاطر: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} "فاطر: 12"، وفي يس: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ، وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ، وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ} "يس: 41-43" فزاد القصة بسطًا.
__________
1 هو قول السدي وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. انظر: تفسير ابن كثير "6/ 542".

(1/126)


سورة الصفافات
...
سورة الصافات:
أقول: هذه السورة بعد "يس" كالأعراف بعد الأنعام، وكالشعراء بعد الفرقان، في تفصيل أحوال القرون المشار إلى إهلاكهم1، كما أن تينك2 السورتين تفصيل لمثل ذلك كما تقدم.
__________
1 وردت الإشارة إلى القرون المكذبة، وإهلاكهم في يس بقوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} "يس: 31"، وجاء ذلك مفصلًا في الصافات في قوله: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} "الصافات: 12" إلى آخر السورة.
2 في المطبوعة: "يتنك" تحريف.

(1/127)


سورة ص:
أقول: هذه السورة بعد الصافات كطس بعد الشعراء، وكطه والأنبياء بعد مريم، وكيوسف بعد هود، في كونها متممة لها بذكر من بقي من الأنبياء، ممن لم يذكروا فيها؛ فإنه سبحانه ذكر في الصافات: نوحًا، وإبراهيم، والذبيح، وموسى، وهارون، ولوطًا، وإلياس، ويونس، وذكر هنا: داود، وسليمان، وأيوب، وأشار إلي بقية من ذكر، فهي بعدها أشبه شيء بالأنبياء وطس بعد مريم والشعراء1.
__________
1 نظم الدرر "6/ 356".

(1/127)


سورة الزمر:
[أقول] 1: لا يخفى وجه اتصال أولها بآخر "ص"؛ حيث قال في "ص": {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِين} "ص: 87"، ثم قال هنا: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} "1"، فكأنه قيل: هذا الذكر تنزيل، وهذا تلاؤم2 شديد؛ بحيث إنه لو أسقطت3 البسملة لالتأمت الآيتان4 كالآية الواحدة.
وقد ذكر الله تعالى في آخر "ص" قصة خلق آدم5، وذكر في صدر هذه قصة خلق زوجه [منه] 6، وخلق الناس كلهم منه، وذكر خلقهم في بطون أمهاتهم خلقًا من بعد خلق، ثم ذكر أنهم ميتون، ثم ذكر وفاة النوم والموت، ثم ذكر القيامة، والحساب، والجزاء، والنار، والجنة7، وقال: {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "75".
فذكر أحوال الخلق من المبدأ إلى المعاد، متصلًا بخلق آدم المذكور في السورة التي قبلها.
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
2 في "ظ": "تلاحم".
3 في "ظ": "سقطت".
4 في "ظ": "لالتأم الكلام".
5 خلق آدم في سورة "ص" قوله: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} إلى {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} "ص: 71-85".
6 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
7 بدأ ذكر هذه الموضوعات في الزمر في قوله تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} "6" الآية، وقوله: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} "30"، وقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} "42" الآية، وقوله: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} "71" الآيات، إلى آخر السورة؛ ولذلك لو قدمت الزمر على "ص" لاختل النسق القرآني الذي أحكمه الله تعالى.

(1/128)


سورة غافر:
أقول: وجه إيلاء الحواميم السبع1 سورة الزمر: تآخي المطالع في الافتتاح بتنزيل الكتاب، وفي مصحف أُبي بن كعب أول الزمر {حم} 2، وذلك مناسبة جليلة3.
ثم إن الحواميم ترتبت لاشتراكها في الافتتاح بـ {جم} ، وبذكر الكتاب بعد حم، وأنها مكية؛ بل ورد في الحديث أنها نزلت جملة4 [واحدة] 5.
وفيها شبه من ترتيب ذوات {الر} الست6.
فانظر ثانية الحواميم وهي فصلت، كيف شابهت ثانية ذوات {الر} هود في تغيير الأسلوب في وصف الكتاب، وأن في هود: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} "هود: 1"، وفي فصلت: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} "فصلت: 3"، وفي سائر ذوات {الر} 7 {تِلْكَ آيَاتُ
__________
1 الحواميم السبع هي: غافر، وفصلت، والشورى، والزخرف، والدخان، والجاثية، والأحقاف.
2 الإتقان: "1/ 222" نقلًا عن أبي أشتة في المصاحف، وفي الأصل: أن الزمر أولها حم في مصحف ابن مسعود، وأثبتنا ما في الإتقان، والبرهان للزركشي: "1/ 130".
3 لم نعثر على هذه الرواية ولم يذكرها السيوطي في الإتقان ولا الزركشي في البرهان، ولا مصادر السنة الستة، ولا مجمع الزوائد.
4 في "ظ": جلية.
5 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
6 ذوات {الر} الست هي: يونس، وهود، ويوسف، والرعد، وأولها: {المر} ، وإبراهيم، والحجر.
7 في "ظ": "الراءات"، وكلاهما سائغ.

(1/129)


الْكِتَابِ} 1 "الحجر: 1"، وفي سائر الحواميم: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} "غافر: 2" أو {وَالْكِتَابِ} 2 "الدخان: 2".
وروينا عن جابر بن زيد، وابن عباس في ترتيب نزول السور: أن الحواميم نزلت عقب الزمر، وأنها نزلت متتاليات كترتيبها في المصحف: المؤمن، ثم السجدة، ثم الشورى، ثم الزخرف، ثم الدخان، ثم الجاثية، ثم الأحقاف، ولم يتخللها نزول غيرها3، وذلك4 مناسبة جلية واضحة في وضعها هكذا.
ثم ظهر لي لطيفة أخرى؛ وهي: أنه في كل ربع من أرباع القرآن توالت سبع سور مفتتحة بالحروف المقطعة. فهذه [السور] 5 السبع مصدرة بـ {حم} ، وسبع في الربع الذي قبله [متوالية و] 6 ذوات {الر} 7 الست متوالية، و {المص} الأعراف؛ فإنها متصلة بيونس على ما تقدمت الإشارة إليه، وافتتح أول القرآن بسورتين من ذلك، وأول النصف الثاني بسورتين8.
وقال الكرماني في "العجائب"9: ترتيب الحواميم السبع لما بينها
__________
1 ولكن في إبراهيم: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} "1".
2 ولكن في فصلت: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "2"، وفي الشورى: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ} "3".
3 الإتقان "1/ 97" نقلًا عن أبي بكر محمد بن الحارث بن أبيض في جزئه المشهور.
4 في المطبوعة: "وتلك"، والمثبت من "ظ".
5، 6 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
7 في "ظ": "الراءات".
8 كان حق الكلام: "بسبع سور"، فنصف القرآن بالآيات في سورة الشعراء -الإتقان "1/ 243"- وعليه يكون نصف القرآن مفتتحًا بالشعراء وأولها {طسم} ، والنمل {طس} ، والقصص {طسم} ، والعنكبوت {الم} ، والروم {الم} ، ولقمان {الم} ، والسجدة {الم} ، وإذا اعتبرنا النصف المعروف لنا، فالسورتان هما: مريم وطه.
9 هو كتاب "لباب التفسير وعجائب التأويل" لتاج القراء محمود بن حمزة بن نصر الكرماني "خط"، ولم نعثر عليه مخطوطًا ولا مطبوعًا. انظر: "معجم الأدباء 19/ 125"، وقد ذكره الكرماني في "أسرار التكرار في القرآن ص18".

(1/130)


من المشاكل الذي خصت به؛ وهو: أن كل سورة منها استفتحت بالكتاب أو وصفه، مع تفاوت المقادير في الطول والقصر، وتشاكل الكلام في النظام. انتهى.
قلت:
وانظر إلى مناسبة ترتيبها؛ فإن مطلع غافر مناسب لمطلع الزمر، ومطلع فصلت التي هي ثانية الحواميم مناسب لمطلع هود التي هي ثانية ذوات {الر} 1، ومطلع الزخرف مؤاخٍ لمطلع الدخان، وكذا مطلع الجاثية لمطلع الأحقاف2.
__________
1 في "ظ": "الراءات".
2 مطلع الزمر: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} ، ومطلع غافر: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ، ومطلع هود: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} ، ومطلع فصلت: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} ، وهكذا جميع المطالع التى ذكرها المؤلف.

(1/131)