أسرار ترتيب القرآن

سورة القتال:
[أقول:] 3 لا يخفى وجه ارتباط أولها بقوله في آخر الأحقاف: {فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} "الأحقاف: 35"، واتصاله وتلاحمه وبحيث إنه لو أسقطت البسملة منه لكان متصلًا اتصالًا واحدًا لا تنافر فيه كالآية الواحدة، آخذًا بعضه بعنق بعض4.
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
4 أول القتال: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} "محمد: 1"، وسورة القتال مع هذا متممة لموضوع سورة الأحقاف قبلها؛ فالأحقاف فيها الحديث عن إعراض الكافرين في مختلف العصور، وفيها دعوتهم إلى الإيمان بالتي هي أحسن، وقد استنفذت السورة وسائل الإقناع العقلي، وأثبتت عتو أهل الكفر وجحودهم، فكانت سورة القتال بما فيها من جهاد وقواعد الحرب وتشريعاته متفقة تمامًا مع نسخ وسائل الدعوة السلمية بآية السيف.

(1/131)


سورة الفتح:
[أقول:] 1 لا يخفى وجه حُسن وضعها هنا؛ لأن الفتح بمعنى النصر، مرتَّب على القتال، وقد ورد في الحديث: أنها [نزلت] 1 مبينة لما يفعل به وبالمؤمنين، بعد إبهامه في قوله تعالى في الأحقاف: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} 2 "الأحقاف: 9"، فكانت متصلة بسورة الأحقاف من هذه الجملة3.
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
2 هو قول ابن عباس -رضي الله عنهما- رواه عنه علي بن طلحة؛ ولذا قال عكرمة والحسن وقتادة: إن آية الأحقاف منسوخة بآية الفتح: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} "الفتح: 2" الآية، قالوا: ولما نزلت قال رجل من المسلمين: فما هو فاعل بنا؟ فنزل: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} "الفتح: 5" الآية. انظر: تفسير ابن كثير "7/ 260".
3 ينظر مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور، للبقاعي "2/ 492".

(1/132)


سورة الحجرات:
[أقول:] 1 لا يخفى تآخي هاتين السورتين [الفتح والحجرات] مع ما قبلهما؛ لكونهما مدنيتين، ومشتملتين على أحكام، فتلك فيها قتال الكفار، وهذه فيها قتال البغاة2، وتلك خُتمت بالذين آمنوا، وهذه افتتحت بالذين آمنوا3، وتلك تضمنت تشريفًا له صلى الله عليه وسلم خصوصًا مطلعها، وهذه أيضًا في مطلعها أنواع من التشريف له صلى الله عليه وسلم4.
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
2 قتال الكفار في الفتح معروف؛ لأنها في فتح مكة، وقتال البغاة في الحجرات جاء في قوله تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} "الحجرات: 9" الآية.
3 ختام الفتح: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} "الفتح: 29"، وافتتاح الحجرات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} "الحجرات: 1" الآية.
4 تشريفه -صلى الله عليه وسلم- في الفتح في قوله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} "الفتح: 2" الآية، وتشريفه في مطلع الحجرات: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} "الحجرات: 1"، {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} "الحجرات: 3" الآية، {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} "الحجرات: 4"، وانظر: مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور "3/ 5، 6".

(1/132)


سورة الذاريات:
أقول: لما ختمت "ق" بذكر البعث، واشتملت على ذكر الجزاء، والجنة، والنار، وغير ذلك من أحوال القيامة، افتتح هذه السورة بالإقسام على أن ما توعدون من ذلك لصادق1، وأن الدين -وهو الجزاء- لواقع.
ونظير ذلك: افتتاح المرسلات بذلك، بعد ذكر الوعد والوعيد والجزاء في سورة الإنسان2.
__________
1 في "ظ": "ما توعدون من ذلك صادق".
2 الوعد والوعيد في الإنسان: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالًا} "الإنسان: 4" وما بعدها، وأقسم على صحة ذلك في أول المرسلات: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِع} "المرسلات: 7".

(1/133)


سورة الطور:
أقول: وجه وضعها بعد الذاريات: تشابههما في المطلع والمقطع؛ فإن في مطلع كل منهما صفة حال المتقين بقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ} "الذاريات: 15، الطور: 17" الآيات، وفي مقطع كل منهما صفة حال الكفار، بقوله في تلك: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} "الذرايات:60"، وفي هذه: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا} "42"1.
__________
1 ومن المناسبة بين الطور والذاريات أنه تعالى ذكر تكذيب الكافرين، ورد عليهم في إيجاز في الذاريات بقوله: {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} "الذاريات: 52" وما بعدها، ثم فصل ذلك في الطور من قوله: {فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ} "الطور: 29" إلى آخر السورة "49".

(1/133)


سورة النجم:
أقول: وجه وضعها بعد الطور: أنها شديدة المناسبة لها؛ فإن الطور خُتمت بقوله: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} "الطور: 49"، وافتتحت هذه بقوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} "1".
ووجه آخر: [وهو] 2 أن الطور ذكر فيها ذرية المؤمنين، وأنهم تبع لآبائهم3، وهذه فيها ذكر ذرية اليهود4 في قوله: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ [وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} "32" الآية، فقد أخرج ابن أبي حاتم، وبن المنذر، والواحدي بأسانيدهم عن ثابت بن الحارث الأنصاري، قال: كانت اليهود تقول: إذا هلك صبي صغير هو: صديق، فبلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: $"كذبت يهود، ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد"، وأنزل الله عند ذلك {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} الآية] 5.
ولما قال هناك في المؤمنين: {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} "الطور: 21" أي: ما نقصنا الآباء بما أعطينا البنين، مع نفعهم بما عمل آباؤهم، قال هنا في صفة الكفار أو بني الكفار: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} "39" خلاف ما ذكر في المؤمنين الصغار.
وهذا وجه بيِّن بديع في المناسبة، من وادي التضاد.
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
3 وذلك في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} "الطور: 21".
4 بل فيها ذكر لذرية كل كافر حين استخرج الله ذرية آدم من صلبه وقسمهم فريقين: فريقًا للجنة، وفريقًا للسعير. انظر "تفسير ابن كثير 7/ 437".
5 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ"، وانظر: الدر المنثور للسيوطي "6/ 128"، وزاد السيوطي بقوله: "وأخرجه الطبراني"، وانظر أيضًا: أسباب النزول للسيوطي، وفيه هذا النص "258"، وكذا أسباب النزول للنيسابوري "226" وذكره.

(1/134)


سورة القمر 1:
أقول: لا يخفى ما في توالي هاتين السورتين من حُسْن التناسق [والتناسب] 2 في التسمية؛ لما بين النجم والقمر من الملابسة، ونظيره توالي الشمس والليل والضحى، وقبلها سورة الفجر3.
ووجه آخر وهو: أن هذه السورة بعد النجم كالأعراف بعد الأنعام [وكالشعراء بعد الفرقان] 4، وكالصافات بعد يس، في أنها تفصيل لأحوال الأمم المشار إلى إهلاكهم في قوله هناك: {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى، وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى} "النجم: 50-53"5.
__________
1 في "ظ": "اقتربت".
2 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
3 انظر: مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور "3/ 39".
4 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
5 جاء تفصيل ذلك على الترتيب، وزاد عليه في سورة القمر، من قوله: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} ، {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} "القمر: 9، 42".

(1/135)


سورة الرحمن:
أقول: لما قال سبحانه وتعالى في آخر القمر: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} "القمر: 46"، ثم وصف حال المجرمين في سقر، وحال المتقين في جنات ونهر، فصَّل هذا الإجمال في هذه السورة أتم تفصيل، على الترتيب الوارد في الإجمال.
فبدأ بوصف مرارة الساعة، والإشارة إلى إذهابها1، ثم وصف النار وأهلها2، والجنة وأهلها3؛ ولذا قال [ {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} 41، فلم يقل: "الكافرون" أو نحوه؛ لاتصاله بقوله هناك: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} "القمر: 47"، ثم وصف الجنة وأهلها، وكذا قال] 4 فيهم: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} "46"، وذلك هو عين التقوى5، ولم يقل: [و] 6 لمن آمن وأطاع، أو نحوه؛ لتتوافق الألفاظ في التفصيل والمفصل.
وعرف بذلك أن هذه السورة بأسرها شرح لآخر السورة التي قبلها، فلله الحمد على ما ألهم وفهَّم7.
__________
1 في المطبوعة: "إدهائها" تحريف، والمثبت من "ظ".
2 وصف النار وأهلها جاء في قوله في سورة الرحمن: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} إلى {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} "الرحمن: 31-44".
3 ووصف الجنة وأهلها جاء في قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} "الرحمن: 46" إلى آخر السورة.
4 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
5 التقوى هي: خوف مقام الرب، وبذلك يتفق التفصيل هنا مع الإجمال في قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} "القمر: 54".
6 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
7 نظم الدرر في تناسق الآيات والسور "7/ 371"، ومصاعد النظر "3/ 45".

(1/136)


سورة الواقعة:
أقول: هذه السورة متآخية مع سورة الرحمن في أن كلًّا منهما في وصف القيامة، والجنة والنار، وانظر إلى اتصال قوله هنا: {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} 1 بقوله هناك: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ} "الرحمن: 37"؛ ولهذا اقتصر في الرحمن على ذكر انشقاق السماء، وفي الواقعة على ذكر رجّ الأرض1، فكأن السورتين لتلازمهما واتحادهما سورة واحدة.
ولهذا عكس في الترتيب، فذكر في أول هذه السورة ما ذكره في آخر تلك، وفي آخر هذه ما في أول تلك، كما أشرت إليه في سورة آل عمران مع سورة البقرة.
فافتتح [في سورة] 2 الرحمن بذكر القرآن، ثم ذكر الشمس والقمر، ثم ذكر النبات، ثم خلق الإنسان، والجان من مارج من نار3، ثم صفة [يوم] 4 القيامة، ثم صفة النار، ثم صفة الجنة.
وابتدأ هذه بذكر القيامة ثم صفة الجنة، ثم صفة النار، ثم خلق الإنسان، ثم النبات، ثم الماء، ثم النار، ثم [ذكر] 5 النجوم، ولم يذكرها في الرحمن، كما لم يذكر هنا الشمس والقمر، ثم ذكر القرآن.
فكانت هذه السورة كالمقابلة لتلك، وكردِّ العَجُز على الصَّدْر.
__________
1 وذلك في قوله: {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} "الواقعة: 4"، وانظر: نظم الدرر "7/ 402".
2 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
3 في "ظ": "من نار".
4 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
5 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".

(1/137)


سورة الحديد:
قال بعضهم:
وجه اتصالها بالواقعة: أنها بدأت1 بذكر التسبيح، وتلك خُتمت بالأمر به2.
قلت: وتمامه: أن أول الحديد واقع موقع العلة للأمر به، وكأنه قيل: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيم} "الواقعة: 96"؛ لأنه {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} "1".
__________
1 في المطبوعة: "قدمت"، والمثبت من "ظ".
2 نظم الدرر "7/ 433"، وفيه تلك العبارة.

(1/138)


سورة المجادَلة:
أقول: لما كان في مطلع الحديد ذكر صفاته الجليلة؛ ومنها: الظاهر والباطن، وقال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} "الحديد: "4" افتتح هذه بذكر أنه سمع قول المجادِلة التي شكت إليه صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قالت عائشة -رضي الله عنها- حين نزلت: "سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، إني لفي ناحية البيت لا أعرف ما تقول"1.
وذكر بعد ذلك قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} "7"، وهو تفصيل لإجمال قوله2:
{وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ] 3} "الحديد: 4".
وبذلك تعرف الحكمة في الفصل بها بين الحديد والحشر، مع تآخيهما في الافتتاح بـ {سَبَّحَ} 4.
__________
1 أخرجه ابن ماجه في المقدمة "1/ 67"، والإمام أحمد في المسند "6/ 46"، وأخرجه البخاري بنحوه معلقًا "9/ 144"، وانظر: التفسير الصحيح "4/ 453"، وابن جرير في التفسير "28/ 5، 6".
2 في المطبوعة: "لقوله"، والمثبت من "ظ".
3 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
4 نظم الدرر "7/ 474، 475".

(1/138)


سورة الحشر:
[أقول:] 1 آخر سورة المجادلة نزل فيمن قتل أقرباؤه من الصحابة يوم بدر2، وأول الحشر نازل3 في غزوة بني النضير4، وهي عقبها، وذلك نوع من المناسبة والربط5.
وفي آخر تلك: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} "المجادلة: 21"، وفي أول هذه: {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} "2".
وفي آخر تلك ذكر من حاد الله ورسوله6، وفي أول هذه ذكر من شاق الله ورسوله7.
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
2 وهو قوله تعالى: {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} "المجادلة: 22"، وقيل: هم: أبو عبيدة قتل أباه يوم بدر، وأبو بكر هَمَّ بقتل ولده عبد الرحمن، ومصعب بن عمير قتل أخاه عبيدًا، وعمر قتل قريبًا له، وحمزة وعلي وعبيدة بن الحارث قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة "طبقات ابن سعد 3/ 1/ 300".
3 في "ظ": "أنزل".
4 وذلك قوله: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} "الحشر: 2"، وأخرج البخاري في التفسير "6/ 183"، ومسلم في التفسير "8/ 245" عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أو أول الحشر أنزلت في بني النضير.
5 نظم الدرر "7/ 509".
6 وذلك قوله: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} "المجادلة: 22" الآية.
7 وذلك قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} "الحشر: 4" الآية.

(1/139)


سورة الممتحنة والصف
...
سورة الممتحنة:
أقول: لما كانت سورة الحشر في المعاهَدين من أهل الكتاب عقبت بهذه؛ لاشتمالها على ذكر المعاهَدين من المشركين؛ لأنها نزلت في صلح الحديبية1.
ولما ذكر في الحشر موالاة المؤمنين بعضهم بعضًا ثم موالاة الذين [نافقوا الكفار] 2 من أهل الكتاب، افتتح هذه السورة بنهي المؤمنين عن اتخاذ الكفار أولياء؛ لئلا يشابهوا المنافقين في ذلك، وكرر ذلك وبسطه إلى أن ختم به، فكانت في غاية الاتصال؛ ولذلك فصل بها بين الحشر والصف، مع تآخيهما في الافتتاح بـ {سَبَّحَ} 3.
سورة الصف:
أقول: في سورة الممتحنة ذكر الجهاد في سبيل الله، وبسطه في هذه السورة أبلغ بسط4.
__________
1 نزلت في حاطب بن أبي بلتعة؛ لما أخبر المشركين بعزم النبي -صلى الله عليه وسلم- على فتح مكة بعد أن نقض المشركون صلح الحديبية. البخاري في التفسير "6/ 185، 186"، والترمذي في التفسير "9/ 198-202" بتحفة الأحوذي، ومسند الإمام أحمد "1/ 79، 80".
2 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
3 نظم الدرر "7/ 547".
4 نظم الدرر "7/ 570".

(1/140)


سورة الجمعة:
أقول: ظهر لي في وجه اتصالها بما قبلها: أنه تعالى لما ذكر في سورة الصف حال موسى مع قومه، وأذاهم له، ناعيًا عليهم ذلك1، وذكر في هذه السورة حال الرسول -صلى الله عليه وسلم- وفضل أمته؛ تشريفًا لهم؛ ليظهر فضل ما بين الأمتين؛ ولذا لم يعرض فيها لذكر اليهود.
وأيضًا لما ذكر2 هناك قول عيسى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} "الصف: 6"، قال هنا: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} "2" إشارة إلى أنه الذي بشر به عيسى، وهذا وجه حسن في الربط.
وأيضًا لما ختم تلك السورة بالأمر بالجهاد وسماه تجارة، ختم هذه بالأمر بالجمعة، وأخبر أنها خير من التجارة الدنيوية.
وأيضًا فتلك سورة الصف، والصفوف تشرع في موضعين: القتال، والصلاة، فناسب تعقيب سورة صف القتال بسورة صلاة تستلزم الصف ضرورة، وهي الجمعة؛ لأن الجماعة شرط فيها دون سائر الصلوات.
فهذه وجوه أربعة فتح الله بها.
__________
1 وذلك في قوله: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي} "الجمعة: 5" الآية، وقال في الصف عن بني إسرائيل: إنهم كذَّبوا عيسى، وكَذَبُوا على الله، وأرادوا أن يطفئوا نور الله، في الآيات "6-9"، ثم ذكر هنا تعليل هذا التكذيب بالغباء، وأبطل حجتهم في أنهم شعب الله المختار "5-7".
2 في "ظ": "حكى".

(1/141)


سورة المنافقون:
أقول: وجه اتصالها بما قبلها: أن سورة الجمعة ذكر فيها المؤمنون، وهذه ذكر فيها أضدادهم، وهم المنافقون؛ ولهذا أخرج الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة يحرض بها المؤمنين، وبسورة المنافقين يفزع بها المنافقين1.
وتمام المناسبة: أن السورة التي بعدها فيها ذكر المشركين، والسورة التي قبل الجمعة فيها ذكر أهل الكتاب من اليهود والنصارى2، والتي قبلها وهي الممتحنة فيها ذكر المعاهَدين من المشركين3، والتي قبلها وهي الحشر فيها المعاهدين من أهل الكتاب4؛ فإنها نزلت في بني النضير حين نبذوا العهد وقوتلوا.
وبذلك اتضحت المناسبة في ترتيب هذه السور الست هكذا؛ لاشتمالها على أصناف الأمم، وفي الفصل بين المسبحات بغيرها5؛ لأن إيلاء سورة المعاهدين من أهل الكتاب بسورة المعاهدين من المشركين أنسب من ترك ذلك6، وإيلاء سورة المؤمنين بسورة المنافقين أنسب من غيره.
فظهر بذلك أن الفصل بين المسبحات التي هي نظائر لحكمة دقيقة من لدن حكيم خبير، فلله الحمد على ما فهم وألهم.
هذا وقد ورد عن ابن عباس في ترتيب النزول: أن سورة التغابن نزلت عقب الجمعة7، وتقدم نزول سورة "المنافقون" فما فصل بينهما إلا لحكمة، والله أعلم.
__________
1 أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد "2/ 191" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- وعزاه إلى الطبراني في الأوسط، وقال: إسناده حسن، وفيه: يقرع بالقاف والراء المهملة، وأخرج مثله مختصرًا عن أبي عبيدة الخولاني، وعزاه للطبراني في الكبير.
2 وذلك في قوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} إلى {وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} "التغابن: 5-7".
3 وذلك في الآيات: "5، 6، 7، 8، 9، 10".
4 وذلك في الآيتين: "8، 9".
5 يعني الفصل بين الحشر، وأولها: {سَبَّحَ} ، وبين التغابن وأولها: {يُسَبِّحُ} ، بالممتحنة والصف والجمعة والمنافقون.
6 في المطبوعة: "غيره"، والمثبت من "ظ".

(1/142)