أسرار ترتيب القرآن

سورة التغابن:
أقول: لما وقع في آخر سورة المنافقون: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} "المنافقون: 10" الآية، عقب بسورة التغابن؛ لأنه قيل في معناه: إن الإنسان يأتي يوم القيامة، وقد جمع مالًا، ولم يعمل فيه خيرًا، فأخذه وارثه بسهولة، من غير مشقة في جمعه، فأنفقه في وجوه الخير، فالجامع محاسَب معذَّب مع تعبه في جمعه، والوارث منعَّم مثاب، مع سهولة وصوله إليه، وذلك هو التغابن1.
فارتباطه بآخر السورة المذكورة في غاية الوضوح؛ ولهذا قال هنا: {وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} "16".
وأيضًا ففي آخر تلك: {لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} "المنافقون: 9"، وفي هذه: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ} "15"، وهذه الجملة كالتعليل لتلك الجملة؛ ولذا ذكرت على ترتيبها2.
وقال بعضهم: لما كانت سورة المنافقون رأس ثلاث وستين سورة، أشير فيها إلى وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بقوله: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا} "المنافقون: 11"، وأنه3 مات على رأس ثلاث وستين سنة، وعقبها بالتغابن؛ ليظهر التغابن في فقده صلى الله عليه وسلم4.
__________
1 تفسير الكواش "4/ ورقة 112" "أ" خط الأزهرية.
2 يعني الأموال أولًا، والأولاد ثانيًا، وفي كلتا السورتين.
3 في المطبوعة: "فإنه"، والمثبت من "ظ".
4 أورد السيوطي هذا القول في الإتقان "4/ 30" غير معزو كما هو هاهنا، كدليل على أنه ما من شيء إلا ويمكن استخراجه من القرآن.

(1/143)


سورة الطلاق والتحريم
...
سورة الطلاق:
أقول: لما وقع في [آخر] 1 سورة التغابن: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} "التغابن: 14"، وكانت عداوة الأزواج تفضي إلى الطلاق، وعداوة الأولاد قد تفضي إلى القسوة، وترك الإنفاق عليهم، فعقبت2 ذلك بسورة فيها ذكر أحكام الطلاق، والإنفاق على الأولاد والمطلقات بسببهم.
سورة التحريم:
أقول: هذه السورة متآخية مع التي قبلها في الافتتاح3 بخطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وتلك مشتملة على طلاق النساء، وهذه على تحريم الإيلاء، وبينهما من المناسبة ما لا يخفى.
ولما كانت تلك في خصام نساء الأمة، ذكر في هذه خصومة نساء النبي -صلى الله عليه وسلم- إعظامًا لمنصبهن أن يذكرن مع سائر النسوة، فأفردن بسورة خاصة؛ ولهذا ختمت بذكر امرأتين في الجنة: آسية امرأة فرعون، ومريم بنة عمران4.
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
2 في المطبوعة: "عقب"، والمثبت من "ظ".
3 في المطبوعة: "بالافتتاح"، والمثبت من "ظ".
4 وهما في قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ ... } "التحريم 11، 12".

(1/144)


سورة تبارك:
أقول: ظهر لي بعد الْجُهْد: أنه لما ذكر آخر التحريم امرأتي نوح ولوط الكافرتين، وامرأة فرعون المؤمنة، افتتحت هذه السورة بقوله: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} "2" مرادًا بهما الكفر والإيمان في أحد الأقوال1؛ للإشارة إلى أن الجميع بخلقه وقدرته؛ ولهذا كفرت امرأتا نوح ولوط، ولم ينفعهما اتصالهما بهذين النبيين الكريمين، وآمنت امرأة فرعون، ولم يضرها اتصالها بهذا الجبار العنيد، لما سبق في كل من القضاء والقدر.
[ثم ظهر لي] 2 وجه آخر: وهو أن [أول] 3 "تبارك" متصل بقوله في آخر الطلاق: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} "الطلاق: 12"، فزاد ذلك بسطًا في هذه الآية: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} إلى قوله: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} "3-5"، وإنما فصلت بسورة التحريم؛ لأنها كالتتمة لسورة الطلاق4.
__________
1 السلمي: حقائق التفسير ورقة 201، خط.
2 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ"، وفي المطبوعة: "ووجه".
3 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
4 في "ظ": كالقطعة والتتمة لسورة الطلاق".
وانظر: نظم الدرر "8/ 62، 63".

(1/145)


سورة ن والحاقة
...
سورة ن:
أقول: لما ذكر سبحانه في آخر [سورة] 1 تبارك التهديد بتغوير الماء2، استظهر عليه في هذه السورة بإذهاب ثمر أصحاب البستان في ليلة بطائف طاف عليه3 وهم نائمون، فأصبحوا لم يجدوا له أثرًا، حتى ظنوا أنهم ضلوا الطريق4، وإذا كان هذا في الثمار وهي أجرام كثيفة، فالماء الذي هو لطيف رقيق أقرب إلى الإذهاب؛ ولهذا قال: {وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} "19، 20"، وقال هناك: {إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} "الملك: 30" إشارة إلى أنه يسري عليه في ليلة كما أسري5 على الثمرة في ليلة.
سورة الحاقة:
أقول: لما وقع في "ن" ذكر يوم القيامة مجملًا في قوله: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} "القلم: 42" الآية، شرح ذلك في هذه السورة نبأ6 هذا اليوم، وشأنه العظيم7.
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
2 ورد في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} "ن: 30"، وتغوير الماء: جفافه.
3 في المطبوعة: "يطاف عليه فيها"، والمثبت من "ظ".
4 جاء هذا في سورة القلم بقوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} إلى {إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} "القلم: 17-31".
5 في المطبوعة: "سرى"، والمثبت من "ظ".
6 في المطبوعة: "بناء على" تحريف، والمثبت من "ظ".
7 وذلك من أول السورة إلى قوله: {لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} "الحاقة: 37".

(1/146)


سورة سأل ونوح
...
سورة سأل:
أقول: هذه السورة كالتتمة لسورة الحاقة في بقية وصف يوم القيامة والنار1.
و [قد] 2 قال ابن عباس: إنها نزلت عقب سورة الحاقة3، وذلك أيضًا من وجوه المناسبة في الوضع.
سورة نوح:
أقول: أكثر ما ظهر [لي] 4 في وجه اتصالها بما قبلها بعد طول الفكر: أنه سبحانه لما قال في "سأل": {إِنَّا لَقَادِرُونَ، عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} "المعارج: 40، 41" عقبه بقصة قوم نوح، المشتملة على إغراقهم5 عن آخرهم؛ بحيث لم يبقَ منهم ديار6 وبدل خيرًا منهم [فوقعت موقع الاستدلال والاستظهار لتلك الدعوى، كما وقعت قصة أصحاب الجنة في سورة "ن" موقع الاستدلال والاستظهار] 7 لما ختم به تبارك.
هذا مع تآخي مطلع السورتين في ذكر العذاب الموعد به الكافرين8.
__________
1 وذلك من أول السورة إلى قوله: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} "المعارج: 18".
2 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
3 الإتقان: "1/ 97".
4 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
5 في المطبوعة: "إبادتهم"، والمثبت من "ظ".
6 في "ظ": "بحيث إنه لم يبقَ في الأرض ديار".
7 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
8 العذاب في مطلع سأل من أول السورة: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ، لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} "المعارج: 1، 2"، وفي سورة نوح: {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} "نوح: 1".

(1/147)


سورة الجن والمزمل
...
سورة الجن:
أقول: قد فكرت مدة في وجه اتصالها بما قبلها، فلم يظهر لي سوى أنه [سبحانه] 1 قال في سورة نوح: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} "نوح: 10، 11"، وقال في هذه السورة [لكفار مكة] 2: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} "16"، وهذا وجه بيِّن في الارتباط3.
سورة المزمل:
أقول: لا يخفى وجه اتصال أولها: {قُمِ اللَّيْلَ} "2" بقوله في آخر تلك: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} "الجن: 19"، وبقوله: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} "الجن: 18"4.
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
2 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
3 ومن المناسبة بين السورتين: أنه تعالى ذكر في نوح: {رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} "نوح: 21"، ومضى في بيان كفرهم وضلالهم، إلى أن دعا عليهم نوح، ثم بيَّن أول الجن: أنهم كالإنس في الإيمان والكفر، وأن لكفار الجن اتصالًا بكفار الإنس، فقال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} "الجن: 6"، {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} "الجن: 11"، {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} "الجن: 14" الآية، فكانت هذه السورة لبيان الصلة بين الجن والإنس، وبيان المقارنة بينهما.
4 ومن المناسبة أنه تعالى لما قال في نهاية الجن: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} "الجن: 26، 27" افتتح المزمل بذكر بداية إرسال النبي -صلى الله عليه وسلم- وما كلف به من شعائر العبودية والعبادة والدعوة؛ وذلك لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث بين يدي الساعة كما جاء في السُّنة، وقد قال تعالى في الجن: {إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُون} "الجن: 25"، فكأنه قال: هذه المزمل علم من أعلامها، فهو الذي ارتضاه الله ليظهره على غيبه، وأنه بين يدي الساعة.

(1/148)


سورة المدثر والقيامة
...
سورة المدثر:
أقول: هده متآخية مع السورة التي قبلها في الافتتاح بخطاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وصدر كليهما نازل في قصة واحدة.
وقد ذكر عن ابن عباس في ترتيب نزول السور: أن المدثر نزلت عقب المزمل [كذا] 1 أخرجه ابن الضريس، وأخرجه غيره عن جابر بن زيد2.
سورة القيامة:
أقول: لما قال سبحانه في آخر المدثر: {كَلَّا بَلْ لا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} "المدثر: 53" بعد ذكر الجنة والنار، وكان عدم خوفهم إياها لإنكارهم البعث، ذكر في هذه السورة الدليل على البعث [من أوجه] 3، ووصف يوم القيامة، وأهواله، وأحواله، ثم ذكر من قبل ذلك [من خروج الروح من البدن ثم ما قبل ذلك] 4 من مبدأ الخلق، فذكرت الأحوال [الثلاثة] 5 في هذه السورة على عكس ما هي في الواقع.
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
2 وفيها كذلك زيادة إعلام بالساعة وأهوالها في قوله: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} إلى {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} "المدثر: 8- 48".
3 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
4 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
5 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".

(1/149)


سورة الإنسان:
أقول: وجه اتصالها بسورة القيامة في غاية الوضوح؛ فإنه تعالى ذكر في آخر تلك مبدأ خلق الإنسان من نطفة، ثم ذكر مثل ذلك في مطلع هذه السورة، مفتتحًا بخلق آدم أبي البشر.
ولما ذكر هناك خلقه [من نطفة] 1 منهما، قال هنا: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} "القيامة: 39"، ولما ذكر هناك خلقه منهما، قال هنا: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} "2"، فعلق به غير ما علق بالأول، ثم رتب عليه هداية السبيل، وتقسيمه إلى شاكر وكفور، ثم أخذ في جزاء كل.
ووجه آخر هو: أنه لما وصف حال يوم القيامة في تلك السورة، ولم يصف فيها حال النار والجنة؛ بل ذكرهما على سبيل الإجمال، فصلهما في هذه السورة، وأطنب في وصف الجنة2، وذلك كله شرح لقوله تعالى هناك: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} "القيامة: 22"، وقوله هنا: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالًا وَسَعِيرًا} "14"، شرح لقوله هناك: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} "القيامة: 25".
وقد ذكر هناك: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ، وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} "القيامة: 20، 21"، وذكر هنا في هذه السورة: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} "27"، وهذا من وجوه المناسبة3.
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
2 تفصيل أحوال المؤمنين في الجنة مفصَّل هنا من قوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} إلى {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} "الإنسان: 5-22".
3 ومن وجوه المناسبة بين سورة الإنسان وسورة القيامة: أنه تعالى فصَّل في القيامة أحوال الكافرين عند الموت وما يعانون من قهر وندم في قوله: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ، وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} إلى {ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} "القيامة: 26-35"، وفي هذه السورة فصل أحوال المؤمنين في حياتهم، والتي استوجبوا بها النعيم الموصوف في السورة، وذلك من قوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} إلى {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} "الإنسان: 7-11".

(1/150)


سورة المراسلات
...
سورة المرسلات:
أقول: وجه اتصالها بما قبلها: أنه تعالى لما أخبر في خاتمتها أنه {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} "الإنسان: 31"، افتتح هذه بالقسم على أن ما يوعدون واقع، فكان ذلك تحقيقًا لما وعد به هناك المؤمنين، وأوعد الظالمين.
ثم ذكر وقته وأشراطه بقوله: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} "8" إلى آخره.
ويحتمل أن تكون الإشارة بما توعدون1 إلى جميع ما تضمنته السورة من وعيد للكافرين، ووعد للأبرار2.
__________
1 في المطبوعة: "يوعدون"، والمثبت من "ظ".
2 وهناك مناسبة بين القيامة والإنسان والمرسلات من ناحية خلق الإنسان؛ ففي القيامة قال: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [القيامة: 37-39] ، فذكر بداية الخلق، وفي الإنسان تدرج إلى الحديث عن إتمام بناء الإنسان حتى صار شديد الأسر {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُم} "الإنسان: 28" الآية، ولما كانت قوة الإنسان مظنة كبريائه، ذكره في المرسلات بمهانة أصله: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} "المرسلات: 20".
ومعاني السور الثلاث تدور حول الأصول؛ ولذلك قال في المرسلات: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} "المرسلات: 39"؛ إعلامًا بقهره للعباد.
وانظر: نظم الدرر "8/ 281" وما بعدها، ومصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور "3/ 147".

(1/151)


سورة عم:
أقول: وجه اتصالها بما قبلها: تناسبها معها في الجمل؛ ففي المرسلات1: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ، ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} "المرسلات: 16، 17"، {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} "المرسلات: 20"، {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} "المرسلات: 25" إلى آخره، وفي عم: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} "6" إلى آخره، فذلك نظير تناسب جمل: ألم نشرح، والضحى، بقوله في الضحى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} "الضحى: 6" إلى آخره، وقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَك} "الشرح: 1" مع اشتراك هده السورة والأربع قبلها في الاشتمال على وصف الجنة والنار، ما عدا المدثر في الاشتمال على وصف يوم القيامة وأهواله، وعلى ذكر بدء الخلق، وإقامة الدليل على البعث.
وأيضًا في سورة المرسلات: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ، لِيَوْمِ الْفَصْلِ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} "المرسلات: 12-14"، وفي هذه السورة: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا، يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} "17، 18" إلى آخره، فكأن هذه السورة شرح يوم الفصل المجمل ذكره في السورة التي قبلها2.
__________
1 في المطبوعة: "تلك".
2 لم يذكر المؤلف سورة النازعات، ومناسبتها لما قبلها، ونرى والله أعلم: أنه طال وصف يوم القيامة في النبأ، ثم ذكر في النازعات حجة من أنكرها ورد عليها، فقال: {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ، أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} "النازعات: 10، 11"، وذكر ندامتهم على تفريطهم بقوله: {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} "النازعات: 12"، ثم أكد قدرته على إحياء الموتى، وأقام الدليل عليها في بقية السورة.

(1/152)


سورة النازعات وعبس والتكوير
...
[سورة النازعات:
ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها عقب سورة عم، وأولها يشبه أن يكون قسمًا لتحقيق ما في آخر عم، أو ما تضمنته كلها على حد ما تقدم في {وَالْمُرْسَلاتِ} مع {هَلْ أَتَى} ، {وَالذَّارِيَاتِ} مع {ق} ] 1.
سورة عبس:
أقول: وجه وضعها عقب النازعات مع تآخيهما في المقطع؛ لقوله هناك: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ} "النازعات: 34"، وقوله هنا: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} "33"، وهما من أسماء يوم القيامة2.
سورة التكوير:
أقول: لما ذكر في [آخر] 3 عبس: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ، يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ} "عبس: 33، 34" الآيات، ذكر يوم القيامة كأنه رأي عين [شرح حاله في هذه السورة والتي بعدها؛ ولهذا ورد] 4 في لحديث: "من سره أن ينظر يوم القيامة كأنه رأي عين، فليقرأ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} "1" و {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} "الانفطار: 1" و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} 1 "الانشقاق: 5 ".
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
2 لم يذكر المؤلف سر الترتيب، ونقول: إن الطامة من الطم، من طمث البئر إذا كبستها، وسميت به القيامة لأنها تطم كل شيء، والصاخة من الصخ؛ وهو الصوت الشديد، وسميت به لأنه بشدة صوتها يجثو لها الناس، وخصت النازعات بالطم لأنه قبل الصخ، فكانت عبس لاحقة للنازعات بطبعها. انظر: "أسرار التكرار في القرآن: 201".
3 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
4 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
5 أخرجه الإمام أحمد في المسند "2/ 72"، والترمذي في التفسير "9/ 252، 253" بتحفة الأحوذي.

(1/153)


سورة الانفطار والمطففين
...
سورة الانفطار:
أقول: قد عرف مما ذكرت وجه وضعها هنا، مع زيادة تآخيهما في المقطع1.
سورة المطففين:
أقول: الفصل بهذه السورة بين الانفطار والانشقاق التي هي نظيرتها من خمسة أوجه: الافتتاح بـ {إِذَا السَّمَاءُ} "الانفطار، الانشقاق"، والتخلص بـ {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَان} "الانفطار، الانشقاق: 6"، وشرح حال يوم القيامة؛ ولهذا ضمت بالحديث السابق، والتناسب في المقدار، وكونها مكية.
وهذه السورة مدنية [وأطول منهما] 2، ومفتتحها ومخلَصها غير ما لهما3 لنكتة [لطيفة] 4 ألهمنيها الله، وذلك أن السور الأربع لما كانت في صفة حال يوم القيامة، ذكرت على ترتيب ما يقع فيه.
فغالب ما وقع في التكوير، وجميع ما وقع في الانفطار، يقع5 في
__________
1 مقطع التكوير: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} "التكوير: 29"، ومقطع الانفطار: {يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} "الانفطار: 19"، وهما بمعنى، وفي "ظ": "المطلع".
2 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
3 في المطبوعة: "لها" تحريف، والمثبت من "ظ".
4 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
5 في المطبوعة: "وقع" تحريف، والمثبت من "ظ".

(1/154)


صدر يوم القيامة، ثم بعد ذلك يكون الموقف الطويل، ومقاساة العرق والأهوال، فذكره في هذه السورة بقوله: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} "6"؛ ولهذا ورد في الحديث: "يقوم أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه" 1.
ثم بعد ذلك تحصل الشفاعة العظمى، فتنشر الكتب، فأَخْذٌ باليمين، وأَخْذٌ بالشمال، وأخذ من وراء الظهر، ثم بعد ذلك يقع الحساب.
هكذا وردت بهذا الترتيب الأحاديث، فناسب تأخير سورة الانشقاق التي فيها إتيان الكتب والحساب2، عن السورة التي قبلها، والتي فيها ذكر الموقف عن التي فيها مبادئ يوم القيامة.
ووجه آخر وهو: أنه جل جلاله لما قال في الانفطار: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ، كِرَامًا كَاتِبِينَ} "الانفطار: 10، 11"، وذلك في الدنيا، ذكر في هذه السورة حال ما يكتبه الحافظان، وهو: كتاب مرقوم جعل3 في عليين، أو في سجين، وذلك أيضًا في الدنيا؛ لكنه عقَّب بالكتابة، إما في يومه، أو بعد الموت في البرزخ كما في الآثار، فهذه حالة ثانية للكتاب4 ذكرت في السورة الثانية.
وله حالة ثالثة متأخرة عنها5؛ وهي أخذ صاحبه باليمين أو غيرها، وذلك يوم القيامة، فناسب تأخير السورة التي فيها ذلك، عن
__________
1 أخرجه البخاري في التفسير "6/ 207" عن ابن عمر -رضي الله عنهما- وأحمد في المسند مع اختلاف في اللفظ "2/ 13، 19"، وعلى المطابقة "2/ 31".
2 وذلك في قوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} إلى {وَيَصْلَى سَعِيرًا} "الانشقاق: 7-12".
3 في "ظ": "يجعل".
4 في المطبوعة: "في الكتاب"، والمثبت من "ظ".
5 في المطبوعة: "فيها"، والمثبت من "ظ".

(1/155)


السورة التي فيها الحالة الثانية، وهي الانشقاق، فلله الحمد على ما مَنَّ بالفهم لأسرار كتابه1.
ثم رأيت الإمام فخر الدين قال في سورة المطففين أيضًا: اتصال أولها بآخر ما قبلها ظاهر؛ لأنه تعالى بيَّن هناك أن يوم القيامة من صفته [أنه] 2 {لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} "الانفطار: 19" وذلك يقتضي تهديدًا عظيمًا للعصاة؛ فلهذا أتبعه بقوله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} "11" الآيات3.
__________
1 انظر: مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور "3/ 168".
2 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
3 انظر: مفاتيح الغيب للرازي "8/ 496".

(1/156)