أسرار ترتيب القرآن

سورة الانشقاق والبروج والطارق
...
سورة الانشقاق:
قد استوفى الكلام فيها في سورة المطففين.
سورة البروج والطارق:
أقول: هما متآخيتان فقرنتا، وقدمت الأولى لطولها، وذكرا بعد الانشقاق للمؤاخاة في الافتتاح بذكر السماء؛ ولهذا ورد في الحديث ذكر السماوات مرادًا بها السور الأربع1، كما قيل: المسبحات.
__________
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند "2/ 327" عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمر أن يقرأ بالسماوات في العشاء؛ يعني: السور الأربع المفتتحة بذكر السماء.

(1/156)


سورة الأعلى والغاشية
...
سورة الأعلى:
أقول: في سورة الطارق ذكر خلق [النبات] والإنسان في قوله: {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} 1 "الطارق: 12"، [وقوله: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِق} إلى {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} "الطارق: 5-8"، وذكره في هذه السورة في قوله: {خَلَقَ فَسَوَّى} "2"، وقوله في النبات: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى، فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} "4، 5"، وقصة النبات في هذه السورة أبسط، كما أن قصة الإنسان هناك أبسط، نعم، ما في هذه السورة أعم من جهة شموله للإنسان وسائر المخلوقات.
سورة الغاشية:
أقول: لما أشار سبحانه في سورة الأعلى بقوله: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى، وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى، الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} إلى قوله: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} "الأعلى: 10-17" إلى المؤمن والكافر، والنار والجنة إجمالًا، فصل ذلك في هذه السورة، فبسط صفة النار والجنة مستندة إلى أهل كل منهما، على نمط ما هنالك؛ ولذا قال [هنا] : {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} "3" في مقابل: {الْأَشْقَى} "الأعلى: 11" [هناك] ، وقال [هنا] : {تَصْلَى نَارًا حَامِيَة} "4" إلى {لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوع} "7" في مقابلة {يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} "الأعلى: 12" [هناك] ، ولما قال [هناك] في الآخرة: {خَيْرٌ وَأَبْقَى} "الأعلى: 17" بسط [هنا] صفة أكثر من صفة النار؛ تحقيقًا لمعنى الخيرية.
__________
1 والصدع: النبات، والأرض تتصدع عن النبات والشجر والثمار والأنهار، والصدع بمعنى الشق؛ لأنه يصدع عن الأرض. انظر: العمدة في غريب القرآن ص343.

(1/157)


سورة الفجر والبلد
...
سورة الفجر:
أقول: لم يظهر لي في1 وجه ارتباطها سوى أن أولها كالإقسام على صحة ما ختم به السورة التي قبلها، من قوله جل جلاله: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} "الغاشية: 25، 26"، وعلى ما تضمنه من الوعد والوعيد، كما أن أول الذاريات قسم على تحقيق ما في "ق"، وأول المرسلات قسم على تحقيق ما في [ {هَلْ أَتَى} وأول {وَالنَّازِعَات} قسم على تحقيق ما في] 2 "عم".
هذا مع أن جملة: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} "6" هنا، مشابهة لجملة {أَفَلا يَنْظُرُونَ} "الغاشية: 17" هناك3.
سورة البلد:
أقول: وجه اتصالها بما قبلها: أنه لما ذم فيها من أحب المال، وأكل4 التراث، ولم يحض على طعام المسكين، ذكر في هذه السورة الخصال التي تطلب من صاحب المال، من فك الرقبة، والإطعام في يوم ذي مسغبة5.
__________
1 في المطبوعة: "من"، والمثبت من "ظ".
2 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
3 بل هناك وجوه ارتباط أوضح مما ذكر المؤلف، وذلك أنه تعالى ذكر في الغاشية صفة النار والجنة مفصلة على ترتيب ما ذكر في سورة الأعلى، ثم زاد الأمر تفصيلًا في الفجر بذكر أسباب عذاب أهل النار، فضرب لذلك مثلًا بقوم عاد، وقوم فرعون، في قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} إلى {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} "الفجر: 6-14"، ثم ذكر بعض عناصر طغيانهم في قوله: {كَلَّا بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} "الفجر: 17" وما بعدها، فكانت هذه السورة بمثابة إقامة الحجة عليهم.
وكذلك جاء في الغاشية: {إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} "الغاشية: 21، 22"، ثم ذكر في الفجر مادة تذكير من كان قبلهم من الكفار، ثم أخذ الله إياهم في الدنيا، وأنه سيعذبهم في الآخرة، وأن الندم لن ينفعهم شيئًا، فقال: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْأِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى، يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} "الفجر: 23، 24".
4 في المطبوعة: "وأكثر" تحريف، والمثبت من "ظ".
5 ومن التناسب أيضًا بين هذه السور وسابقتها: أنه تعالى لما ذكر في تلك ابتلاء الإنسان بضيق الرزق بسبب عدم إطعام المسكين، وعدم إكرام اليتيم، ونعى عليه حب المال، ذكر في هذه ندمه يوم القيامة، وتذكره حبس المال، وذلك حين يقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} "الفجر: 24".

(1/158)


سورة الشمس والليل والضحى:
أقول: هذه الثلاثة حسنة التناسق جدًّا؛ لما في مطالعها من المناسبة؛ لما بين الشمس والليل3 والضحى من الملابسة، ومنها سورة الفجر؛ لكن فصلت بسورة البلد لنكتة أهم، كما فصل بين الانفطار والانشقاق، وبين المسبحات؛ لأن مراعاة التناسب بالأسماء والفواتح وترتيب النزول، إنما يكون حيث لا يعارضها ما هو أقوى وآكد في المناسبة.
ثم إن سورة الشمس ظاهرة الاتصال بسورة البلد، فإنه سبحانه لما ختمها بذكر أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، أراد الفريقين في سورة الشمس على سبيل الفَذْلَكَة4، فقوله: [في الشمس] {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} "9" هم أصحاب الميمنة في سورة البلد، وقوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} "10" [في الشمس] ، هم أصحاب المشأمة في سورة
__________
1 في المطبوعة: "وأكثر" تحريف، والمثبت من "ظ".
2 ومن التناسب أيضًا بين هذه السور وسابقتها: أنه تعالى لما ذكر في تلك ابتلاء الإنسان بضيق الرزق بسبب عدم إطعام المسكين، وعدم إكرام اليتيم، ونعى عليه حب المال، ذكر في هذه ندمه يوم القيامة، وتذكره حبس المال، وذلك حين يقول: {يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} "الفجر: 24".
3 في "ظ": "والقمر".
4 الفَذْلَكَة: مُجمل ما فُصِّل وخلاصته "وهي كلمة مولدة: أي استعملها الناس قديمًا بعد عصر الرواية". انظر: "المعجم الوسيط" "فذلكة" "2/ 703".

(1/159)


البلد، فكانت هذه السورة فَذْلَكَة تفصيل تلك السورة؛ ولهذا قال الإمام: المقصود من هذه السورة: الترغيب في الطاعات، والتحذير من المعاصي.
ونزيد في سورة الليل: أنها تفصيل إجمال سورة الشمس، فقوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} "الليل: 5" وما بعدها، تفصيل {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} "الشمس: 9"، وقوله: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} "الليل: 8" الآيات، تفصيل قوله: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} "الشمس: 10".
ونزيد في سورة الضحى: أنها متصلة بسورة الليل من وجهين، فإن فيها: {وإن لنا للآخرة والأولى} "الليل: 13"، وفي الضحى: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} "4"، وفي الليل: {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} "الليل: 21"، وفي الضحى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} "5".
ولما كانت سورة الضحى نازلة في شأنه -صلى الله عليه وسلم- افتتحت بالضحى، الذي هو نور، ولما كانت سورة الليل [نازلة في بخيل في قصة طويلة، افتتحت بالليل الذي هو ظلمة.
قال الإمام: سورة الليل] 1 سورة أبي بكر، يعني: ما عدا قصة البخيل2، وكانت سورة الضحى سورة محمد، عقب بها، ولم يجعل بينهما واسطة ليعلم ألا واسطة بين محمد وأبي بكر.
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ"، وانظر هذه القصة في تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم "1/ 3439، 3440".
2 الذي نزل في أبي بكر -رضي الله عنه- من هذه السورة قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} إلى {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} "الليل: 5-7"، أخرج ابن جرير أنه كان يعتق على الإسلام بمكة عجائز ونساء إذا أسلمن فَلامَهُ أبوه، فنزلت "تفسير ابن جرير الطبري 30/ 142".

(1/160)


سورة {أَلَمْ نَشْرَحْ} :
أقول: هي شديدة الاتصال بسورة الضحى؛ لتناسبهما في الجمل؛ ولهذا ذهب بعض السلف إلى أنهما سورة واحدة بلا بسملة بينهما1. قال الإمام: والذي دعاهم إلى ذلك هو: أن قوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ} كالعطف على {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} "الضحى: 6" [في الضحى] 2.
قلت: وفي حديث الإسراء أن الله تعالى قال: "يا محمد، ألم أجدك يتيمًا فأويت، وضالًّا فهديت، وعائلًا فأغنيت، وشرحت لك صدرك، وحططت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا ذكرت" الحديث، أخرجه ابن أبي حاتم3، وفي هذا أَوْفَى دليل على اتصال السورتين معنى.
__________
1 نقل هذا القول فخر الدين الرازي في تفسيره عن طاوس وعمر بن عبد العزيز "تفسير سورة الضحى".
2 هي كالعطف في المعنى لا في اللفظ، ثم إن هذه السورة شرح لسابقتها، فشرح الصدر هناك، مفصل هنا ببيان عناصره وأسبابه التي هي: الإيواء بعد اليتم، والهداية بعد الضلال، والغِنَى بعد العيلة، فتلك كلها من عوامل انشراح الصدر للإيمان، لا سيما وقد جاءت بعد وعد بالعطاء حتى يرضى الرسول صلى الله عليه وسلم.
3 تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم "10/ 3443"، والحديث ذكره أيضًا ابن كثير في تفسيره عن ابن أبي حاتم "8/ 452"، وانظر: الدر المنثور "8/ 545، 546".

(1/161)


سورة التين:
أقول: لما تقدم في سورة الشمس: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} "الشمس: 7" فصل في هذه السورة بقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} "4، 5" إلى آخره.
وأخرت هذه السورة لتقدم ما هو أنسب بالتقديم من السور الثلاث1 واتصالها بسورة البلد لقوله: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} "3"، وأخرت لتقدم ما هو أولى بالمناسبة مع سورة الفجر2.
لطيفة:
نقل الشيخ تاج الدين بن عطاء الله السكندري3 في "لطائف المنن" عن الشيخ أبي العباس المرسي4 قال: قرأت مرة: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} إلى أن انتهيت إلى قوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} "4، 5" ففكرت في معنى هذه الآية، فألهمني الله أن معناها5: لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم رُوحًا وعقلًا، ثم رددناه أسفل سافلين نفسًا وهوًى6.
قلت: فظهر من هذه المناسبة وضعها بعد {أَلَمْ نَشْرَحْ} ، فإن تلك أخبر فيها عن شرح صدر النبي -صلى الله عليه وسلم- وذلك يستدعي كمال عقله ورُوحِه، فكلاهما في القلب الذي محله الصدر، وعن
__________
1 يعني: "الليل، والضحى، وألم نشرح"؛ فإن مناسباتها متوالية هكذا أهم من تقديم التين بعد الشمس.
2 يعني: أن اتصال سورة الشمس بالبلد، واتصال البلد بالفجر، أولى من اتصال التين بالبلد لمجرد ذكر "البلد" في كليهما.
3 هو الشيخ الإمام العالم العارف بالله أبو الفضل تاج الدين وترجمان العارفين أحمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الرحمن بن عطاء الله السكندري المالكي الشاذلي، كانت له جلالة عظيمة ووقع في النفوس، ومشاركة في الفضائل، وكان أعجوبة زمانه في التصوف، انظر: شذرات الذهب "6/ 19، 20"، و"لطائف المنن" "7".
4 هو أبو العباس أحمد بن عمر الأنصاري المرسي شيخ تاج الدين بن عطاء الله السكندري. انظر: "لطائف المنن" "19".
5 في "ظ": "فكشف لي عن اللوح المحفوظ، فإذا مكتوب فيه"، وكذا في "لطائف المنن" "134" "طبعة دار المعارف".
6 انظر: "لطائف المنن" "ص118"، المطبعة الفخرية 1972م القاهرة.

(1/162)


تبرئته1 من الوِزْر الذي ينشأ عن2 النفس والهوى، وهو معصوم منهما، وعن رفع الذكر؛ حيث نزه مقامه عن كل وصم3.
فلما كانت هذه السورة في هذا العلَم الفرد من الإنسان، أعقبها بسورة مشتملة على بقية الأناسي، وذكر ما خامرهم من4 متابعة النفس والهوى.
__________
1 في المطبوعة: "خلاصه"، والمثبت من "ظ".
2 في المطبوعة: "من"، والمثبت من "ظ".
3 في المطبوعة: "موهم"، والمثبت من "ظ".
4 في المطبوعة: "في"، والمثبت من "ظ".

(1/163)


سورة العلق والقدر
...
سورة العلق:
أقول: لما تقدم في سورة التين بيان خلق الإنسان في أحسن تقويم، بيَّن هنا أنه تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} "2" وذلك ظاهر الاتصال، فالأول بيان العلة الصورية، وهذا بيان العلة المادية1.
سورة القدر:
قال الخطابي2: لما اجتمع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- على القرآن، ووضعوا سورة القدر عقب العلق، استدلوا بذلك على أن المراد بهاء الكناية في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} "1" الإشارة إلى قوله: {اقْرَأْ} "العلق: 1".
قال القاضي أبو بكر بن العربي: وهذا بديع جدًّا3.
__________
1 أقول: ومن المناسبة بين التين والعلق:
أ- أنه تعالى لما قال في آخر التين: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} "التين: 8" بيَّن في أول العلق أنه تعالى مصدر علم العباد بحكمته، فبين أنه {عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} "العلق: 4، 5"، وصدر ذلك بالأمر بالقراءة، واستفتاحها باسمه دائمًا؛ لتكون للإنسان عونًا على كمال العلم بحكمة أحكم الحاكمين.
ب- لما ذكر في التين خلق الإنسان في أحسن تقويم، ورده إلى أسفل سافلين، بيَّن في العلق تفصيل الحالين وأسبابهما من أول قوله: {كَلَّا إِنَّ الْأِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} "العلق: 6، 7" إلى {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} "العلق: 14".
2 الخطابي هو: أحمد بن محمد بن إبراهيم أبو سليمان، له شرح سنن أبي داود وبيان إعجاز القرآن، توفي سنة 388 "وفيات الأعيان: 1/ 166"، والنقل من "البرهان لأبي جعفر بن الزبير" كما قال السيوطي "الإتقان: 3/ 383".
3 أقول: وهناك مناسبة أخرى خفية؛ هي: أنه تعالى لما ختم العلق بالأمر بالسجود والاقتراب من الله، وكان المقصود من الاقتراب التعرض للرحمة الفائضة من الله على المصلِّي، والصلاة لا تكون إلا بقرآن، ذكر في أول هذه السورة أن القرآن رحمة في ذاته، ورحمة في الزمان الذي نزل فيه وهو ليلة القدر التي تتنزل الملائكة فيها بالروح والسلام على الكون.

(1/163)


سورة لم يكن:
أقول: هذه السورة واقعة موقع العلة لما قبلها؛ كأنه لما قال سبحانه: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ} "القدر: 1" قيل: لِمَ أنزل؟ فقيل: لأنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى تأتيهم البينة، وهو رسول من الله يتلو صحفًا مطهرة، وذلك هو المنزَّل.
وقد ثبتت الأحاديث بأنه كان في هذه السورة قرآن نُسخ رسمه وهو: "إنا أنزلنا المال لإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ولو أن لابن آدم واديًا لابتغى إليه الثاني، ولو أن له الثاني لابتغى إليه الثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب"1.
وبذلك تشتد المناسبة بين هذه السورة وبين ما قبلها؛ حيث ذكر هناك إنزال القرآن، وهنا إنزال المال، وتكون السورتان تعليلًا2 لما تضمنته سورة اقرأ؛ لأن [في] 3 أولها ذكر العلم، وفي أثنائها ذكر المال، فكأنه قيل: إنا لم ننزل المال للطغيان والاستطالة والفخر؛ بل ليُستعان به على تقوانا، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة4.
__________
1 أخرجه الإمام أحمد في المسند عن أبي واقد الليثي "5/ 218"، والطبراني في المعجم الكبير "3/ 247، 248"، والقضاعي في مسند الشهاب "2/ 318"، والدارقطني في العلل الواردة في الأحاديث "6/ 298"، وعزاه الهيثمي في مجمع الزوائد "7/ 140" إلى أحمد والطبراني، وقال: رجال أحمد رجال الصحيح.
2 في "ظ": "تفصيلًا".
3 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
4 العلم في قوله تعالى: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} "العلق: 5"، والمال في قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} "العلق: 6، 7".

(1/164)


سورة الزلزلة:
أقول: لما ذكر في آخر "لم يكن" أن جزاء الكافرين جهنم، وجزاء المؤمنين جنات، فكأنه قيل: متى يكون ذلك؟ فقيل: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} "1" أي: [حين] تكون1 زلزلة الأرض، إلى آخره.
هكذا ظهر لي، ثم لما راجعت تفسير الإمام الرازي، ورأيته ذكر نحوه فحمدت2 الله كثيرًا، وعبارته: ذكروا في مناسبة هذه السورة لما قبلها وجوهًا؛ منها: أنه تعالى لما قال: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} "البينة: 8"، فكأن المكلف قال: ومتى يكون ذلك يا رب؟ فقال: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} "1".
ومنها: أنه لما ذكر فيها وعيد الكافرين، ووعد المؤمنين، أراد أن يزيد في وعيد الكافرين فقال: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} ونظيره: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} 3 ثم ذكر ما للطائفتين فقال: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} 4 إلى آخره، ثم جمع بينهما هنا في آخر السورة بذكر الذرة من5 الخير والشر. انتهى6.
__________
1 في "ظ": "يكون يوم".
2 في المطبوعة: "حمدت"، والمثبت من "ظ".
3 سورة آل عمران: 106.
4 سورة آل عمران: 106.
5 في المطبوعة: "الذي يعمل"، والمثبت من "ظ".
6 مفاتيح الغيب، للرازي "8/ 658" وما بعدها.

(1/165)


سورة العاديات والقارعة
...
سورة العاديات:
أقول: لا يخفى ما بين قوله في الزلزلة: {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} "الزلزلة: 2"، وقوله في هذه السورة: {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} "9" من المناسبة والعَلاقة1.
سورة القارعة:
قال الإمام: لما ختم الله سبحانه السورة السابقة بقوله: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} "11" فكأنه قيل: وما ذاك؟ فقال: هي القارعة، قال: وتقديره: ستأتيك القارعة على ما أخبرت عنه في قولي2: {إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ} 3 "9".
__________
1 أقول: وهناك مناسبة أخرى؛ هي: بيان الأصل الذي يضل به الإنسان أو يهتدي، فلما ذكر في آخر الزلزلة جزاء الإنسان على الخير والشر، بيَّن هنا أن الإنسان بطبعه يحب الخير، وحبه للخير إما للدنيا وهو الشر، وإما للآخرة وهو حقيقة الخير، فهذا الحب هو الذي يوجه الأعمال، ثم ذكَّر الإنسان بيوم يكشف فيه عما في القلوب من نوايا خفية: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} "العاديات: 9، 10" إلى آخر السورة، وقد زاد الأمر تفصيلًا في السور التالية.
2 في المطبوعة: "بقولي"، والمثبت من "ظ".
3 مفاتيح الغيب، للرازي "8/ 663".

(1/166)


سورة التكاثر والفيل
...
سورة التكاثر 1:
أقول: هذه السورة واقعة موقع العلة لخاتمة ما قبلها؛ كأنه لما قال هناك: {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} "القارعة: 9" قيل: لِمَ ذلك؟ فقال: لأنكم {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} "1" فاشتغلتم بدنياكم [عن دينكم] 2، وملأتم موازينكم بالحطام، فخفت موازينكم بالآثام؛ ولهذا عقَّبها بسورة والعصر، المشتملة على أن الإنسان في خسر، بيان لخسارة تجارة الدنيا، وربح3 تجارة الآخرة؛ ولهذا عقَّبها بسورة الهمزة، المتوعَّد فيها مَن {جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ، يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} "الهمزة: 2، 3"، فانظر إلى تلاحم هذه السور الأربع، وحسن اتساقها4.
سورة الفيل:
[أقول:] 5 ظهر لي في وجه اتصالها بعد الفكرة: أنه تعالى لما ذكر حال الهمزة اللمزة، الذي جمع مالًا وعدَّده، وتعزز بماله وتقوَّى، عقَّب ذلك بذكر قصة أصحاب الفيل، الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالًا وعتوًّا، وقد جعل كيدهم في تضليل، وأهلكهم بأصغر الطير وأضعفه، وجعلهم كعصف مأكول، ولم يغنِ عنهم مالُهم ولا عددُهم6 ولا شوكتُهم ولا فِيلُهُمْ شيئًا.
فمن كان قصارى تعززه وتقويه بالمال، وهمز7 الناس بلسانه، أقرب إلى الهلاك، وأدنى إلى الذلة والمهانة.
__________
1 في "ظ": "ألهاكم".
2 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
3 في "ظ": "ونماء".
4 ومن المناسبة كذلك: التصريح هنا بوزن الأعمال التي أجملها في الزلزلة، وبين أصلها في العاديات، وانظر: مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور "3/ 241".
5 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
6 في المطبوعة: "عزهم"، والمثبت من "ظ".
7 في "ظ": "وأذى".

(1/167)


سورة قريش والماعون
...
سورة قريش:
هي شديدة الاتصال بما قبلها؛ لتعلق الجار والمجرور في أولها بالفعل في آخر تلك؛ ولهذا كانتا في مصحف أبي سورة واحدة1.
سورة الماعون 2:
أقول: لما ذكر [الله] 3 تعالى في سورة قريش: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} "قريش: 4"، ذكر هنا ذم من لم يحض على طعام المسكين.
ولما قال هناك: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} "قريش: 3" ذكر4 هنا من سَهَا عن صلاته5.
__________
1 نقله السيوطي عن السخاوي في كتاب جمال القراء عن جعفر الصادق، وأبي نهيك، وقال: ويرده ما أخرجه الحاكم والطبراني من حديث أم هانئ -رضي الله عنها- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "فضل الله قريشًا بسبع:..... وأن الله أنزل فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها معهم غيرهم: {لِإِيلافِ قُرَيْشٍ} "، ومع ذلك فصلة قريش بالفيل قائمة، فكأن ما فعل الله بأصحاب الفيل كان لإيلاف قريش، ولتأمين طريق تجارتهم في رحلتي الشتاء والصيف، وقد كان من أهداف أبرهة السياسية حرمان قريش من تجارتهم هذه.
2 في "ظ": "الذين".
3 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
4 في "ظ": "ذم".
5 أقول: إن السورة بكاملها تسير مع الخط الذي يبدأ من سورة الزلزلة كما قلنا، فهي ترشد إلى الطريق السليم لاستعمال المال، وبذله في عون اليتامى، وإطعام المساكين، وذلك عن طريق التحذير من إهمال هذا الطريق، وتسمية مانع العون مكذبًا بالدين.

(1/168)


سورة الكوثر والكافرون
...
سورة الكوثر:
قال الإمام فخر الدين: هي كالمقابلة للتي قبلها؛ لأن السابقة وصف الله سبحانه فيها المنافقين بأربعة أمور: البخل، وترك الصلاة، والرياء فيها، ومنع الزكاة، وذكر في هذه السورة في مقابلة البخل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} "1" أي: الخير الكثير، وفي مقابلة ترك الصلاة {فَصَلِّ} "2" أي: دُم عليها، وفي مقابلة الرياء: {لِرَبِّكَ} "2" أي: لرضاه، لا للناس، وفي مقابلة منع الماعون: {وَانْحَرْ} "2" وأراد به: التصدق بلحوم الأضاحي، قال: فاعتبر هذه المناسبة العجيبة1.
سورة الكافرون:
أقول: وجه اتصالها بما قبلها: أنه تعالى لما قال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} "الكوثر: 2" أمره أن يخاطب الكافرين بأنه لا يعبد إلا ربه، ولا يعبد ما يعبدون، وبالغ في ذلك فكرر، وانفصل منهم على أن لهم دينهم وله دينه.
__________
1 انظر: "مفاتيح الغيب"، للرازي "8/ 700، 701"، وانظر: "نظم الدرر في تناسب الآيات والسور" "8/ 547" وما بعدها، وفيه كلام قريب من كلام الرازي.

(1/169)