أسرار ترتيب القرآن

سورة النصر:
أقول: وجه اتصالها بما قبلها: أنه [لما] 1 قال في آخر ما قبلها: {وَلِيَ دِينِ} "الكافرون: 6" فكان فيه إشعار بأنه خلص له دينه، وسلم من شوائب الكدر2 والمخالفين، فعقَّب ببيان وقت ذلك، وهو مجيء الفتح والنصر، فإن الناس حين3 دخلوا في دين الله أفواجًا، فقد تم4 الأمر وذهب الكفر5، وخلص دين الإسلام ممن كان يناوئه؛ ولذلك كانت السورة إشارة إلى وفاته صلى الله عليه وسلم6.
وقال الإمام فخر الدين: كأنه تعالى يقول: لما أمرتك في السورة المتقدمة بمجاهدة جميع الكفار، بالتبري منهم، وإبطال دينهم، جزيتك على ذلك بالنصر والفتح، وتكثير الأتباع7.
قال: ووجه آخر؛ وهو: أنه لما أعطاه [الله] 8 الكوثر؛ وهو: الخير الكثير، ناسب تحميله مشقاته وتكاليفه، فعقَّبها بمجاهدة الكفار، والتبري منهم، فلما امتثل ذلك أعقبه بالبشارة بالنصر والفتح، وإقبال الناس أفواجًا إلى دينه، وأشار إلى دنو أجله، فإنه ليس بعد الكمال إلا الزوال.
توقع زوالًا إذا قيل تم9
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
2 في المطبوعة: "الكفار"، والمثبت من "ظ".
3 في "ظ": "حينئذ".
4 في ظ": "وتم".
5 في "ظ": "الكدر".
6 أخرج البخاري هذا المعنى في التفسير "6/ 220، 221"، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- والإمام أحمد في المسند "1/ 217، 344، 356"، وابن جرير في التفسير "30/ 215".
7 انظر: "مفاتيح الغيب" للرازي "8/ 729" وما بعدها.
8 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ"، وهي في المصادر.
9 انظر: "مفاتيح الغيب" للرازي "8/ 743"، وانظر: "نظم الدرر" "8/ 559" وما بعدها.

(1/169)


سورة تبت:
قال الإمام: وجه اتصالها بما قبلها: أنه لما قال: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} "الكافرون: 6"، فكأنه قيل: إلهي، وما جزائي؟ فقال الله له: النصر والفتح، فقال: وما جزاء عمي الذي دعاني إلى عبادة الأصنام؟ فقال: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} "1" الآيات.
وقدم الوعد على الوعيد ليكون النصر معللًا1 بقوله: {وَلِيَ دِينِ} ، ويكون الوعيد راجعًا إلى قوله: {لَكُمْ دِينُكُمْ} على حد قوله: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ} "آل عمران: 106".
قال: فتأمل في هذه المجانسة الحافلة2 بين هذه السور، مع أن سورة النصر من أواخر ما نزل بالمدينة3، والكافرون وتبت من أوائل ما نزل بمكة4؛ ليعلم أن ترتيب هذه السور من الله، وبأمره.
قال: ووجه آخر؛ وهو: أنه لما قال: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} "الكافرون: 6" كأنه قيل: يا إلهي، ما جزاء المطيع؟ قال: حصول النصر والفتح، فقيل: وما ثواب العاصي؟ قال: الخسارة في الدنيا، والعقاب في العقبى، كما دلت عليه سورة تبت5.
__________
1 في "ظ": "متصلًا".
2 في "ظ": الحاصلة".
3 أخرجه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما "8/ 242، 243"، وفيها أنها آخر سورة نزلت.
4 انظر: "الإتقان" "1/ 96".
5 انظر: "مفاتيح الغيب" للرازي "8/ 744" وما بعدها، وكذا "نظم الدرر" "8/ 567" وما بعدها.

(1/171)


سورة الإخلاص:
قال بعضهم: وضعت هاهنا للوزان في اللفظ بين فواصلها ومقطع سورة تبت.
وأقول: ظهر لي هنا غير الوزان في اللفظ: أن هذه السورة متصلة بـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} في المعنى؛ ولهذا قيل: من أسمائها أيضًا الإخلاص، وقد قالوا: إنها اشتملت على التوحيد، وهذه أيضًا مشتملة عليه؛ ولهذا قرن بينهما في القراءة في الفجر، والطواف، والضحى، وسنة المغرب، وصبح المسافر، ومغرب ليلة الجمعة1.
وذلك أنه لما نفى عبادة ما يعبدون، صرح هنا بلازم ذلك، وهو أن معبوده أحد2، وأقام الدليل عليه بأنه صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، ولا يستحق العبادة إلا من كان كذلك، وليس في معبوداتهم ما هو كذلك.
وإنما فصل بين النظيرتين بالسورتين3 لما تقدم من الحكمة، وكأن إيلاءها سورة تبت ورد عليه بخصوصه.
__________
1 أخرج الهيثمي في مجمع الزوائد عن ابن عمر رضي الله عنهما "2/ 120" أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قرأ في الفجر سفرًا بالكافرين والإخلاص، وأخرج ابن حجر في "المطالب العالية" "3/ 399" عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول بضعًا وعشرين مرة: "نعم السورتان، يقرأ في الركعتين: الأحد الصمد، وقل يا أيها الكافرون"، وأخرج عن أبي يعلى من حديث جبير بن مطعم أنه -صلى الله عليه وسلم- أمره أن يقرأ: "الكافرون، والنصر، والإخلاص، والمعوذتين" "المصدر السابق: 3/ 398".
2 في "ظ": "واحد".
3 يعني: بين "الكافرين والإخلاص" بالنصر وتبت.

(1/172)


سورة الفلق والناس:
قال: أقول: هاتان السورتان نزلتا1 معًا -كما في الدلائل للبيهقي- فلذلك قُرنتا، مع ما اشتركتا فيه من التسمية بالمعوذتين، ومن الافتتاح بـ {قُلْ أَعُوذُ} ، وعقب بهما سورة الإخلاص؛ لأن الثلاثة سميت في الحديث بالمعوذات وبالقواقل2.
وقدمت الفلق على الناس -وإن كانت أقصر منها- لمناسبة مقطعها في الوزان لفواصل الإخلاص مع مقطع تبت3.
وهذا آخر ما مَنَّ الله به عليَّ من استخراج مناسبات ترتيب السور، وكله من مستنبطاتي، ولم أعثر فيه على شيء لغيري إلا النزر اليسير الذي صرحت بعزوي له، فلله الحمد على ما ألهم، والشكر على ما مَنَّ به وأنعم، سبحانك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك.
ثم رأيت الإمام فخر الدين ذكر في تفسيره4 كلامًا لطيفًا في
__________
1 في المطبوعة: "نزلنا" تحريف، والمثبت من "ظ".
2 الذي عثرت عليه حديث عبد الله بن خبيب عن أبيه -رضي الله عنهما- قال: أصابنا طش وظلمة، فانتظرنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذ بيدي فقال: "قل"، فسكت. فقال: "قل"، فقلت: ما أقول؟ قال: "قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاثًا تكفك، كل يوم مرتين" "مسند الإمام أحمد: 5/ 312، وأبو داود في الأدب ما يقول إذا أصبح: 2/ 176، والنسائي في الاستعاذة: 8/ 250، والترمذي في الدعوات: 9/ 347"، وحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يتعوذ بهن كل ليلة ثلاث مرات "البخاري في فضائل القرآن: 6/ 223".
ونقل السيوطي عن السخاوي قوله: "وقوارع القرآن الآيات التي يتعوذ بها ويتحصن، سميت بذلك لأنها تقرع الشيطان وتقمعه كآية الكرسي والمعوذتين" "الإتقان: 1/ 201"، أما كلمة "القواقل" التي ذكرها المؤلف، فلم نعثر عليها في الحديث النبوي ومصادره.
3 مقطع الفلق "حسد" مناسب لفواصل الإخلاص "أحد، الصمد، أحد"، ومقطع تبت "مسد" وكلها متفقة في الوزن.
4 واسمه: "مفاتيح الغيب".

(1/173)


مناسبات هذه السور، فقال في سورة الكوثر1: اعلم أن هذه السورة كالمتممة لما قبلها من السور، وكالأصل لما بعدها.
أما الأول فلأنه تعالى جعل سورة "الضحى" في مدح النبي -صلى الله عليه وسلم- وتفصيل أحواله، فذكر في أولها ثلاثة أشياء تتعلق بنبوته: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى، وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى، وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} "الضحى: 3-5"، ثم ختمها بثلاثة أحوال من أحواله فيما يتعلق بالدنيا: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} "الضحى: 6-8".
ثم ذكر في سورة "ألم نشرح" أنه شرفه بثلاثة أشياء: شرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر.
ثم شرفه في سورة "التين" بثلاثة أنواع [من التشريف] 2: أقسم ببلده، وأخبر بخلاص أمته من الناس بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} ووصولهم إلي الثواب3 بقوله: {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} "التين: 6".
وشرَّفه في سورة اقرأ بثلاثة أنواع: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} "العلق"، وقهر خصمه بقوله: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} "العلق: 17، 18"، وتخصيصه بالقرب في قوله: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} "العلق: 19".
وشرفه في سورة "القدر" بليلة القدر، وفيها ثلاثة أنواع من الفضيلة: كونها خيرًا من ألف شهر، وتنزل الملائكة والروح فيها، وكونها سلامًا حتى مطلع الفجر.
__________
1 كلام السيوطي المنقول من تفسير الرازي فيها اختصار هنا.
2 ما بين المعقوفين من تفسير الرازي.
3 في "ظ": "ورفعه له بالثواب"، وهي كذلك في تفسير الرازي.

(1/174)


وشرَّفه في "لم يكن" بثلاثة أشياء: أنهم خير البرية، وجزاؤهم جنات، ورضي عنهم.
وشرَّفه في "الزلزلة" بثلاثة أنواع: إخبار الأرض بطاعة أمته، ورؤيتهم أعمالهم، ووصولهم إلى ثوابها حتى وزن الذرة.
وشرَّفه في "العاديات" بإقسامه بخيل الغزاة من أمته، ووصفها بثلاث صفات.
وشرَّفه في "القارعة" بثقل موازين أمته، وكونهم في عيشة راضية، ورؤيتهم أعداءهم في نار حامية.
وفي "ألهاكم التكاثر" هدد المعرضين عن دينه بثلاثة: يرون الجحيم، ثم يرونها عين اليقين، ويسألون عن النعيم.
وشرَّفه في "العصر" بمدح أمته بثلاثة: الإيمان، والعمل الصالح، وإرشاد الخلق إليه؛ وهو: التواصي بالحق والصبر.
وشرَّفه في سورة "الهمزة" بوعيد عدوه بثلاثة أنواع من العذاب1: ألا ينتفع بدنياه، وينبذ2 في الحطمة، ويغلق عليه.
وشرَّفه في سورة "الفيل" أن رد كيد عدوه بثلاث: بأن جعله في تضليل، وأرسل عليهم طيرًا أبابيل، وجعلهم كعصف مأكول.
وشرَّفه في سورة "قريش" [بأن راعى مصلحة أسلافه من ثلاثة أوجه] 3: تآلف قومه، وإطعامهم، وأمنهم.
وشرَّفه في "الماعون" بذم عدوه بثلاث: الدناءة، واللؤم في قوله:
__________
1 في المطبوعة: "أشياء"، والمثبت من تفسير الرازي.
2 في المطبوعة: "ويعذبه"، وفي "ظ": "ويقيد"، والمثبت من تفسير الرازي.
3 في المطبوعة: "بثلاث"، وما بين المعقوفين إضافة لازمة من تفسير الرازي.

(1/175)


{فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} "الماعون: 2، 3"، وترك تعظيم الخالق في قوله: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ} "الماعون: 4-6"، وترك انتفاع1 الخلق في قوله: {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} "الماعون: 7".
فلما شرَّفه في هذه السور بهذه الوجوه العظيمة قال: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} أي: هذه الفضائل المتكاثرة المذكورة في هذه السور، التي كل واحدة منها أعظم من ملك الدنيا بحذافيرها، فاشتغل أنت بعبادة ربك، إما بالنفس، وهو قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} "الكوثر: 2"، وإما بالمال وهو قوله: {وَانْحَرْ} ، وإما بإرشاد العباد إلى الأصلح، وهو قوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} "الكافرون:1، 2" الآيات، فثبت أن هذه السورة كالتتمَّة لما قبلها.
وأما كونها كالأصل لما بعدها فهو: أنه تعالى يأمره بعد هذه أن يكف عن أهل الدنيا جميعًا بقوله: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} إلى آخر السورة، ويبطل أديانهم2، وذلك يقتضي نصرهم على أعدائهم؛ لأن الطعن على الإنسان في دينه أشد عليه من الطعن3 في نفسه وزوجه4، وذلك مما يجبن عنه كل أحد من الخلق؛ فإن موسى وهارون أرسلا إلى فرعون واحد فقالا: {إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} "طه: 45" ومحمد -صلى الله عليه وسلم- مرسَل إلى الخلق جميعًا، فكأن كل واحد من الخلق كفرعون بالنسبة إليه، فدبر الله في إزالة الخوف الشديد تدبيرًا لطيفًا بأن قدم هذه السورة، وأخبر فيها بإعطائه الخير الكثير، ومن
__________
1 في المطبوعة: "نفع"، وفي "ظ": "إنفاع"، والمثبت من تفسير الرازي.
2 في المطبوعة: "أذاهم" تحريف، والمثبت من "ظ"، وهو في تفسير الرازي.
3 في تفسير الرازي: "الفسق".
4 في تفسير الرازي: "أرواحهم وأموالهم".

(1/176)


جملته أيضًا: الرئاسة، ومفاتيح الدنيا، فلا يلتفت إلى ما بأيديهم من زهرة الدنيا، وذلك أدعى إلى مجاهرتهم1 بالعداوة، والصدع بالحق؛ لعدم تطلعه إلى ما بأيديهم.
ثم ذكر بعد سورة "الكافرين" سورة "النصر"؛ فكأنه تعالى يقول: وعدتك بالخير الكثير، وإتمام أمرك، وأمرتك بإبطال أديانهم، والبراءة من معبوداتهم2، فلما امتثلت أمري أنجزت لك الوعد بالفتح والنصر، وكثرة الأتباع، بدخول الناس في دين الله أفواجًا.
ولما تم أمر الدعوة والشريعة، شرع في بيان ما يتعلق بأحوال القلب والباطن؛ وذلك أن الطالب إما أن يكون طلبه مقصورًا على الدنيا، فليس له إلا الذل والخسارة والهوان، والمصير إلى النار، وهو المراد من سورة "تبت"، وإما أن يكون طالبًا للآخرة، فأعظم أحواله أن تصير نفسه كالمرآة التي تنتقش فيها صور الموجودات.
وقد ثبت أن طريق3 الخلق في معرفة الصانع على وجهين: منهم من قال: أعرف الصانع، ثم أتوسل بمعرفته إلى معرفة مخلوقاته، وهذا هو الطريق الأشرف، ومنهم من عكس4، وهو طريق الجمهور.
ثم إنه سبحانه ختم كتابه المكرم بتلك الطريقة التي هي أشرف، فبدأ بذكر صفات الله، وشرح جلاله في سورة "الإخلاص"، ثم أتبعه بذكر مراتب مخلوقاته في "الفلق"، ثم ختم بذكر مراتب النفس
__________
1 في المطبوعة: "مجاهدتهم"، والمثبت من تفسير الرازي، وكذا في "ظ".
2 في "ظ": "معبودهم".
3 في "ظ": "طرائق".
4 طريق الجمهور يترتب عليه: أن تكون المخلوقات دليلًا على وجود الخالق، وطريق الخاصة يترتب عليه أن يكون الله دليلًا على وجود خلقه، الأول معرفة صعودية، والثاني معرفة نزولية.

(1/177)


الإنسانية في "الناس"، وعند ذلك ختم الكتاب. فسبحان مَن أرشد العقول إلى معرفة هذه الأسرار الشريفة [المودَعة] 1 في كتابه المكرم! هذا كلام الإمام2.
ثم قال في "الفلق": سمعت بعض العارفين يقول: لما شرح الله سبحانه أمر الإلهية في سورة "الإخلاص"، ذكر هاتين السورتين عقبها في شرح مراتب الخلق على ما قال: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} 3.
فعالم الأمر كله خيرات محضة، بريئة عن الشرور والآفات، [و] 4 أما عالم الخلق فهو الأجسام الكثيفة5، والجثمانيات6، فلا جرم قال في المطلع: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} "الفلق: 1، 2".
ثم [من الظاهر أن] 7 الأجسام إما أثيرية أو عنصرية، والأجسام8 كلها خيرات محضة؛ لأنها بريئة عن الاختلال9 والفطور، على ما قال: {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} "تبارك: 3".
__________
1 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ"، وهو في تفسير الرازي.
2 تفسير الرازي "8/ 704".
3 سورة الأعراف: 54.
4 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".
5 الكثيفة: أي الغليظة والثخينة، وكثر مع الالتفاف والتراكب فهو كثيف وكُثاف. انظر: "المعجم الوسيط" "كثف" "2/ 808".
6 الجثمانيات: الأجسام أو الأشخاص التي لا تميل إلى الحركة. انظر: "المعجم الوسيط" "جثم" "1/ 111، 112"، وفي "ظ": الأجسام "الجسمانيات" كذا، والعبارة التي في تفسير الرازي هي: "وإنما سمي عالم الأجسام والجسمانيات بعالم الخلق؛ لأن الخلق هو التقدير والمقدار من لواحق الجسم فيما كان الأمر كذلك" "8/ 762".
7 ما بين المعقوفين إضافة من تفسير الرازي.
8 في المطبوعة و"ظ": "أبدية و" تحريف وناقصة، والمثبت من تفسير الرازي.
9 في المطبوعة: "الاختلافات" تحريف، وفي "ظ": "الاختلالات"، والمثبت من تفسير الرازي.

(1/178)


وإما عنصرية، فهي1 إما جمادات، فهي خالية عن جميع القوى النفسانية، فالظلمات فيها خالصة، والأنوار عنها زائلة، وهو المراد من قوله: {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} "الفلق: 3".
وإما نبات، والقوة العادلة هي التي تزيد في الطول والعمق معًا، فهذه القوة النباتية كأنها تنفث في العقد2.
وإما حيوان، وهو محل القوى التي تمنع الروح الإنسانية عن الانصباب إلى عالم الغيب، والاشتغال بقدس جلال الله، وهو المراد بقوله: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} "الفلق: 5".
ثم إنه لم يبقَ من السفليات بعد هذه المرتبة سوى النفس الإنسانية، وهى المستعيذة3، فلا يكون مستعاذًا4 منها فلا جرم قطع هذه السورة، وذكر بعدها في سورة "الناس" مراتب ودرجات النفس الإنسانية. انتهى5.
ولم يبين المراتب المشار إليها، وقد بيَّنها ابن الزملكاني في أسراره6 فقال: إضافة "رب" إلى "الناس" تُؤْذِنُ بأن المراد بالناس: الأطفال؛ لأن الرب من ربَّه يربُّه، وهم إلى التربية أحوج، وإضافة "ملك" إلى "الناس" تؤذن بإرادة الشباب به؛ إذ لفظ "ملك" يؤذن بالسياسة والعزة [والقوة] 7، والشبان إليها أحوج، وإضافة "إله" إلى "الناس"
__________
1 في المطبوعة و"ظ": "وهي"، والمثبت من تفسير الرازي، وهو الصواب والأنسب.
2 في المطبوعة و"ظ": "العقدة"، والمثبت من تفسير الرازي.
3 في المطبوعة و"ظ": "المستفيدة" تحريف، والمثبت من تفسير الرازي.
4 في المطبوعة و"ظ": "مستفادًا" تحريف، والمثبت من تفسير الرازي.
5 انظر: "مفاتيح الغيب" "تفسير الرازي" "8/ 272" وما بعدها.
6 هو كتاب "نهاية التأميل في أسرار التنزيل" خط "471" تفسير تيمور بدار الكتب المصرية.
7 ما بين المعقوفين إضافة من "ظ".

(1/179)


تؤذن بأن المراد به الشيوخ؛ لأن ذاته مستحقة للطاعة والعبادة، وهم أقرب، وقوله: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} "الناس: 5" يؤذن بأن المراد بالناس العلماء والعباد؛ لأن الوسوسة غالبًا عن الشُّبَه1، وقوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} "الناس: 6" يؤذن بأن المراد بالناس الأشرار، وهم شياطين الإنس الذين يوسوسون لهم، والله تعالى أعلم2.
تم بحمد الله تعالى وتوفيقه
قال مؤلفه -نفعنا الله ببركاته، وأمدنا من نفحاته: فرغت من تأليفه يوم الأحد، الثالث عشر من شعبان سنة ثلاث وثمانين وثمانمائة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
__________
1 لطيفة: قال الإمام الرازي في تفسيره: "إن المستعاذ به في سورة الفلق مذكور بصفة واحدة؛ وهي: أنه رب الفلق، والمستعاذ منه ثلاثة أنواع من الآفات؛ وهي: الغاسق، والنفاثات، والحاسد، وأما في هذه السورة "الناس" فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاث؛ وهي: الرب، والملك، والإله، والمستعاذ منه آفة واحدة، وهي الوسوسة، والفرق بين الموضعين أن الثناء يجب أن يتقدر بقدر المطلوب، فالمطلوب في السورة الأولى "الفلق": سلامة النفس والبدن، والمطلوب في السورة الثانية "الناس": سلامة الدين، وهذا تنبيه على أن مضرة الدين -وإن قلَّت- أعظم من مضار الدنيا -وإن عظمت. انظر: "مفاتيح الغيب" للرازي "8/ 763، 764"، و"كشف المعاني في المتشابه المثاني" لابن جماعة "433، 434"، "ونظم الدرر" "3/ 310".
2 ذكر تاج القراء الكرماني هذه المعاني مختصرة في "أسرار التكرار في القرآن" ص215، ولم ينسبها إلى أحد، ولم يشر ابن الزملكاني إلى الكرماني رغم تأخره عنه.

(1/180)