إعراب القرآن للأصبهاني

سُورَة البقرة
فصل
(إذا) في الكلام على ثلاثة أوجه:

أحدها: أن يكون ظرفا زمانيا، وفيها معنى الشرط،: لا يعمل فيها إلا جوابها نحو ما في هذه الآية من قوله تعالى (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا) فالعامل في إذا (قالوا)؛ لأنَّه الجواب، ولا يجوز أن يعمل فيها (لقوا) لأنها في التقدير مضافة إلى لقوا، ولا يعمل المضاف إليه في المضاف، وكذا (إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ) العامل فيها (قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ).
والثاني: أن يكون ظرفاً مكانياً نحو قولك: خرجت فإذا الناسُ وقوفٌ ويجوز أن تنصب (وقوفاً) على الحال؛ لأنَّ (إذا) ظرف مكان، وظروف المكان تكون أخبارًا عن الجثث، وهذه المسألة التي وقع الخلاف فيها بين سيبويه والكسائي لما اجتمعا عند يحيى بن خالد بن برمك. حدثنا أبو الحسن الحوفي بمصر عن أبي بكر بن الأدفوني عن أبي جعفر أحمد بن محمد النحاس عن علي بن سليمان حدثنا أحمد بن يحيى ومحمد بن يزيد قالا: لما ورد سيبويه بغداد شق أمره على الكسائي، فأتى جعفر بن يحيى والفضل بن يحيى فقال: أنا وليكما وصاحبكما وهذا الرجل قد قدم ليذهب بمحلي، فقالا له: فاحتل لنفسك فإنا سنجمع بينكما، فجمعا بينهما عند أبيهما، وحضر سيبويه وحده، وحضر الكسائي ومعه الفراء وعلي الأحمر، وغيرهما من أصحابه، فسألوه: كيف تقول (أظنُ العقربَ أشدّ لسعة من الزنبور فإذا هو هي أو فإذا هو إياها)؟ - قال: أقول فإذا هو هي، فأقبل عليه الجميع فقالوا: أخطأت ولحنت، فقال يحيى: هذا موضع مشكل، أنتما إماما مصريكما. فمن يحكم بينكما؟ - فقال الكسائي وأصحابه: الأعراب الذين على الباب، فأدخل أبو الجراح ومن وجد معه ممن كان الكسائي وأصحابه يحملون عنهم. فقالوا: نقول (فإذا هو إياها)، وانصرف المجلس على أنّ سيبويه قد أخطأ، وحكموا عليه بذلك. فأعطاه

(1/11)


البرامكة، وأخذوا له من الرشيد وبعثوا به إلى بلده فما لبث بعد هذا إلا يسيراً حتى مات، ويقال إنه مات كمدا. قال علي بن سليمان. وأصحاب سيبويه إلى هذه الغاية لا اختلاف بينهم يقولون: إنّ الجواب على ما قال سيبويه: فإذا هو هي، وهذا موضع الرفع، وهو كما قال علي بن سليمان؛ وذلك أنّ النصب إنما يكون على الحال نحو قولك: خرجت فإذا الناس وقوفا، وجاز النصب هاهنا لأنّ (وقوفا) نكرة، والحال لا تكون إلا نكرة، فإذا أضمرت بطل أمر الحال؛ لأنَّ المضمر معرفة. والمعرفة لا تكون حالا، فوجب العدول عن النصب إلى الرفع نحو ما أفتى به سيبويه من أنّه يقول: فإذا هو هي، كما تقول: فإذا الناس وقوف.
والوجه الثالث: أن يكون جوابا للشرط نحو قوله تعالى (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ) (36).
ونحن: مبتدأ، و (مُسْتَهْزِئُونَ): الخبر، وموضع. الجملة نصب لقالوا؛ كما تقول: قلتَ حقا أو باطلا. و (نحن) مبنية لمشابهتها الحروف، وفي بنائها على الضمة أوجه:
أحدها: أنها من ضمائر الرفع، والضمة علامة الرفع.
والثاني: أنها ضمير الجمع. والضمة بعض الواو، والواو تكون علامة للجمع نحو: قاموا ويقومون.
وقال الكسائي: الأصل (نَحُن) بضم الحاء فنقلت الضمة إلى النون، وهذا القول ليس عليه دلالة تعضده.
وقال الفراء بنيت (نحن) على الضم؛ لأنها تقع على الاثنين والجماعة، فقووها بالضمة لدلالتها على معنيين.
ويعمهون: في موضع نصب على الحال والعامل فيه نمدهم.

(1/12)


قوله تعالى: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ)
المثَل والمِثْل والمثيل بمعنى واحد. كما يقال: شِبْه وشَبه وشبيه.
والاستيقاد: استفعال من الوقود، والوقود بالضم: مصدر وقدت النار وقودا، والوقود بالفتح: الحطب.
والنار معروفة، وألفها منقلبة عن واو. وأصل منافع النار خمسة:
الاستضاءة بها. والانضاج، والاصطلاء، والتحليل، والزجر.
والإضاءة: أصله الوضوح يقال ضاءت النار وأضاءت لغتان.
ويقال: جلسوا حوله وحوليه تثنية حول، وحواليه تثنية حوال وأحواله وهو جمع، قال امرؤ القيس:
ألَسنتَ تَرَى السُّمارَ والناسَ أحوالي
والذهاب بالشيء كالمرور به. والظلمة معروفة، ونقيضها الضياء، والمعنى في الآية: أنّ مثل المنافقين مثل قوم كانوا في ظلمة، فأوقدوا نارا فلما أضاءت النار ما حولها أطفأها الله وتركهم في ظلمات لا يبصرون، فالظلمة الأولى التي كانوا فيها الكفر. واستيقادهم النار قولهم "لا إله إلا الله محمد رسول الله" فلما أضاءت لهم ما حولهم، واهتدوا، خلوا إلى شياطينهم فنافقوا وقالوا (إنَّما نحن مُسْتَهْزِئُونَ) فسلبهم الله نور الإيمان وتركهم في ظلمات الكفر لا يبصرون.
ثم ضرب لهم مثلا آخر شبيها بهذا فقال:

(أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ)
والصيِّب: المطر. والظلمة: ظلمة الليل وظلمة السحاب، والرعد دليل على شدة ظلمة الصيِّب وهوله، أراد: أو مثل قوم في ظلمات ليل ومطر، فضرب الظلمات لكفرهم مثلا. والبرق لتوحيدهم مثلا.
و (أو) هاهنا للإباحة، أي إن شبهتهم بالمثل الأول كنت مصيبا، وإن شبهتهم بالمثلين فكذلك أيضاً.

(1/13)


فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: كيف شبّه المنافقين وهم جماعة بالذي استوقد نارا وهو واحد؟
وفي هذا ثلاثة أجوية:
أحدها: أن يكون (الذي) في معنى الجميع كما قال تعالى (وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) (33)
وكما قال الشاعر:
وإِنَّ الَّذِي حانَتْ بِفَلْجٍ دِماؤُهُمْ ... هُمُ القَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمَّ خالِدِ
والثاني: أن تجعل النون محذوفة من الذي، والأصل عنده (الذين) كما حذفها الأخطل في التئنية وذلك قوله:
أَبَني كُلَيْبٍ إِنَّ عَمَّيَّ اللَّذا ... قَتَلا المُلُوكَ وفَكَّكا الأَغْلالَ
ومنهم من أنكر ذلك في الآية وحمله على أنّ (الذي) اسمٌ مبهم كـ (من) يصلح أن يقع للجميع ويصلح أن يقع للواحد كما قال (ومنهم من يستمع إليك) وقال فى موضع آخر (ومِنْهُم مَنْ يسْتَمعونَ إليكَ) وأخرج الأول على اللفظ، والثاني على المعنى وهذا وجهٌ حسن. وقد ذكر أنّ (الذي) يأتي في معنى (الذين) الأخفش وغيره، فهذان وجهان: الأول منهما على حذف النون، والثاني على أنّه اسم مبهم يقع للواحد والجمع.
والثالث: أن يكون الكلام على حذف كأنّه قال: مثلهم كمثل أتباع الذي استوقد نارا ثم حذف

(1/14)


المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، قال الجعدي:
فكيف تُواصلُ مَن أصبَحتْ ... خلالتُه كأبي مَرحَب
يريد: كخلالة أبي مرحب.
* * *
فصل:
قوله (مثلهم) مبتدأ، و (كمثل الذي) الخبر، والكاف زائدة، والتقدير: مثلهم مثل الذي استوقد ناراً، ومثل زيادة الكاف هاهنا قوله تعالى: (ليس كمِثلهِ شيء) والمعنى ليس مثله شيء، ولا يجوز أنّ تكون الكاف غير زائدة؛ لأنّه يصير شركا، وذلك أنك كنت تثبت لله مثلا، ثم تنفي الشبه عن ذلك المثل، ويصير التقدير: ليس مثل مثله شيء، وهذا كما تراه، فأما قول محمد بن جرير أنّ (مثلا)
بمعنى: ذات الشيء، كأنّه قال: ليس كهو شيء، فليس بشيء؛ لأنّه يرجع إلى ما منعنا منه أولاً من إثبات المثل، ومثل زيادة الكاف ما أنشده سيبويه لخطام المجاشعي:
وصالياتٍ كَكما يُؤَثْفَيْنْ
وهذا قبيح لإدخال الكاف على الكاف، والآية إنما فيها إدخال الكاف على مثل، وهذا حسن، وقد أدخلوا (مثلا) على الكاف، قال الراجز:
فأصبحوا مثل كعصفٍ مأكول
و (استوقد نارا) وما اتصل به من صلة (الذي)، والعائد على (الذي) المضمر الذي في (استوقد). وتقريبه على المبتدئ أن يقال له: كأنك قلت: الذي استوقد هو ناراً.

(1/15)


و (لمَّا) في الكلام على ثلاثة أوجه:
أحدها: أنّ تدل على وقوع الشيء لوقوع غيره، وهذه محتاجة إلى جواب نحو قولك: لمّا قام زيد قمت معه، والتي في الآية من هذا الباب، فإن قيل: فأين الجواب؟ - قيل: محذوف تقديره: فلما أضاءت ما حوله طفئت، ومثله قوله تعالى (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا)) كأنّه قال: فاز أو ظفر، والعرب تحذف للإيجاز قال أبو ذؤيب:
عصاني إليها القلبُ إني لأمرِه ... مطيع فما أدري أرشدَ طِلابُها.
يريد: أرشدٌ أم غي، ثم حذف.
والوجه الثاني: أنّ تكون بمعنى (إلا) حكى سيبويه: نشدتك الله، فعلت، أي: إلا فعلت، وعليه تأولوا قوله تعالى: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) في قراءة من شدد الميم.
والثالث: أنّ تكون جازمة نحو قوله تعالى (وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ) وهي (لم) قلدت عليها (ما) وهي جواب من قال: قد فعل، فتقول أنت: لا يفعل، فإن قال: فعل، قلت: لم يفعل.
و (ما) في موضع نصب؛ لأنَّها مفعول (أضاءت). و (ذهب) فعل ماضٍ مستأنف، والباء من (بنورهم) يتعلق بذهب، وأما (في) نتعلق بـ (تركهم)، وقوله (لا يبصرون) في موضع نصب

(1/16)


على الحال والعامل فيه (تركهم) أي: تركهم غير مبصرين.

قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا)
الاستحياء: من الحياء ونقيضه القِحةُ. وفي الحديث (من كلام النبوة: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) قال المازني: الناس يغلطون في هذا: يظنونه أمرا بالقحة، وليس كذلك، وإنما معناه: إذا فعلت فعلا لا يستحيا من مثله فاصنع منه ما شئت.
قال الخليل: الضرب يقع على جميع الأعمال إلا قليلا؛ تقول: ضرب في التجارة، وضرب في الأرض. وضرب في سبيل الله. وضرب بيده إلى كذا، وضرب فلان على يد فلان إذا أفسد عليه أمرا أخذ فيه وأراده. وضرب الأمثال إنما هو جعلها لتسير في البلاد، يقال: ضرلت القول مثلا، وأرسلته مثلا وما أشبه ذلك.
والبعوض: القرقس، وهو هذا الذي يسميه العامة (البق) واحده بعوضة، قال العجاج:
وصرت عبدا للبَعُوضِ أُخصَفَا
وفوق: ظرف، وهو نقيض تحت.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: قوله تعالى ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً) إنّه جواب ماذا؟
الجواب للعلماء فيه قولان:

(1/17)


أحدهما: ما ذكر عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما أنّ الله تعالى لما ضرب المثلين قيل هذه للمنافقين يعني قوله (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) وقوله (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ) قال المنافقون: الله أعلى وأجل من أنّ يضرب هذه الأمثال. فأنزل الله تعالى ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا)) إلى قوله (أُولَئِكَ هم الخاسرون)، والمعنى على هذا: إن الله لا يستحيي أنّ يضرب مثلا بالصغير والكبير إذا كان في ضريه بالصغير من الحكمة ما في ضربه بالكبير. ويروى عن الربيع بن أنس أنّ البعوضة تحيا ما جاعت فإذا شبعت وسمنت ماتت، فكذلك القوم الذين ضرب الله لهم هذا المثل في القرآن إذا امتلأوا من الدنيا أخذهم الله عند ذلك ثم تلا (حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ).
والقول الثاني: يروى عن الحسن وقتادة وغيرهما من أهل العلم أنّه لما ضرب الله المثل بالذباب والعنكبوت تكلم قوم من المشركين في ذلك وعابوا ذكره، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وذهب بعض أهل العلم إلى أنّ الاختيار التأويل الأول من قبل أنّه متصلٌ بذكر المثلين اللذين ضربهما الله للمنافقين في سورة البقرة، فكان لذلك أولى من أنّ يكون جوابا لما ذكر في سورة غيرها؛ إذ كان ذكر الذباب في سورة الحج وذكر العنكبوت في سورة العنكبوت. والأظهر في هذا أنّ يكون جوابا لما قيل في الذباب والعنكبوت لما فيهما من الاحتقار والضآلة، فأخبر الله تعالى أنّه لا عيب في ذلك.
* * *
فصل:
للعرب في يستحيي لغتان: منهم من يقول (يستحي) بياء واحدة، وبذلك قرأ ابن كثير في

(1/18)


رواية شبل، ومنهم من يقول (يستحيي) بياءين. وبه قرأ الباقون، فوجه هذه القراءة: أنّه الأصل. ووجه القراءة الأخرى: أنّه حذف استثقالاً لاجتماع الياءين؛ كما قالوا: لم أكُ، ولم أدرِ وما أشبه ذلك والاختيار في القراءة إثبات الياءين؛ لأنَّه إذا اعتل لام الفعل فلا ينبغي أنّ يعل العينُ لئلا يجتمع في الكلمة اعتلالان؛ لأنَّ ذلك إخلال، ولأن أكثر القراء عليها، ولأنها لغة أهل الحجاز، والأخرى لغة بني تميم، وقال أبو النجم:
أُليسَ يَستَحِيي مِنَ الفِرارِ
وقال رؤبة في الياء الواحدة:
لا أسَتحِي الفِراء أنّ أُمِيسَا
وفي (ما) ثلاثة أوجه:
أحدها: أنّ تكون صلة. كأنّه قال: إنّ الله لا يستحي أنّ يضرب مثلاً بعوضة.
والثاني: أنّ تكون نكرة مفسّرة بالبعوضة كما تكون نكرة موصوفة في قولك: مررت بما مُعجبٍ لك، أي: بشيء مُعجبٍ لك.
والثالث: أنّ تكون نكرة، وتكون بعوضة بدلاً منها.
فأما (بعوضة) ففي نصبها ثلاثة أوجه:
أحدها: أنّ تكون مفعولا ثانياً ليضرب.
والثاني: أنّ تكون معرَّبةٌ بتعريب (ما) كما قال حسان:
فَكفَى بِنَا فَضْلًا عَلَى مَنْ غَيرِنا ... حُبُّ النَّبِيِّ محمدٍ إِيّانا
وحقيقته البدل.

(1/19)


والثالث: يحكى عن الكوفيين زعموا أنَّ النصب على إسقاط حرف الخفض؛ كأنَّه قيل: ما بين بعوضة فما فوقها، وحكوا أنّ العرب تقول: مطرنا ما زبالة فالثعلبية، وله عشرون ما ناقة فجملاً، وأنكر المبرد هذين الوجهين.
وأجود هذه الأوجه الوجه الأول؛ وذلك أنّ (يضرب) لمَّا صارت لضرب الأمثال صارت في معنى (جعل) فجاز أنّ تتعدى إلى مفعولين، وإذا كانت كذلك كانت من جملة ما يدخل على المبتدأ والخبر، هذا أقيس ما يُحمل عليه، وإنما اخترته لأنني وجدت في الكتاب العزيز ما يدل عليه؛ وذلك بأنني وجدت فيه قوله تعالى: (إنما مثلُ الحياةِ الدنيا كماءٍ)، فمثل الحياة الدنيا: مبتدأ، وكماء: الخبر، كما تقول: إنما زيدٌ كعمرو، ووجدت فيه (واضربْ لهُم مثلَ الحياةِ الدُنيا كماء) فأنت ترى كيف دخلت (اضرب) على المبتدأ والخبر فصار هذا بمنزلة قولك: ظننت زيدًا كعمرو.
ويجوز الرفع في بعوضة من وجهين:
أحدهما: أنّ تكون خبراً، لمبتدأ محذوف يكون في صلة (ما) على أنّ تكون (ما) بمنزلة (الذي)، فيكون التقدير: إنّ الله لا يستحيي أنّ يضرب مثلا ما هو بعوضة. أي: الذي هو بعوضة.
والوجه الثاني: أنّ يكون على إضمار مبتدأ، لا يكون صلة في (ما) ولا تكون (ما) بمعنى (الذي) كأنّه قال: إن الله لا يستحيي أنّ يضرب مثلا ما. قيل: ما هو؟
قيل: بعوضةٌ، أي: هو بعوضة، كما تقول: مررت برجل زيد.
وقد قيل: إنّ (ما) هاهنا يجوز أنّ تكون كافة للفعل. فيستأنف الكلام بعدها، وهو على معنى المفعول، قال الشاعر
أَعَلاقَةً أُمَّ الوُلَيِّدِ بعدما ... أَفْنانُ رأْسِكِ كالثَّغامِ المخُلِس.

(1/20)


واختُلف في معنى (فوق) هاهنا فقيل: فما فوقها في الكبر، وقيل: فما فوقها في الصّغر، وروي عن قتادة وابن جريج أنّ البعوضة أضعفُ خلقٍ، يعني من الحيوان ولذلك اختار بعض أهل العلم (فما فوقها) فما هو أكبر منها. واختار. قوم فما فوقها في الصغر؛ لأنّ الغرضَ المطلوب هاهنا الصغر.

قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)
أصل الخلق: التقدير.
والأرض في الكلام على ثلاثة أوجه:
الأرض المعروفة، والأرض قوائم الدابة، ومنه قول الشاعر:
وأَحْمَر كالدِّيباجِ أَما سَماؤُه ... فرَيَّا وأَما أَرْضُه فمُحُولُ
والأرض الرعدة، وفي كلام ابن عباسٍ: أزُلزلت الأرض أم بي أرضَ؟.
وأصل الجمع: الضم ونقيضه الفرق.
والسماء: السحاب يُسمى بذلك كلُّ ما علاك فأظلك، وهي في الكلام على خمسة أوجه:
السماء التي تَظلُّ الأرض، والسماء السقف، والسماء السحاب، سمي بذلك لعلوه، والسماء المطر؛ لأنَّه نزل من السماء، والسماء المرعى؛ لأنّ بالمطر يكون، قال الشاعر:

(1/21)


إِذَا سَقَط السماءُ بأَرضِ قوْمٍ ... وهَيْناه وَإِنْ كَانُوا غِضابا
والسبع: عدد المؤنث، السبعة عدد المذكر، والسُبُع مشتق من ذلك؛ لأنّه مضاعف القوى، كأنّه قد ضوعف سبع مرات، ومن شأن العرب أنّ تبالغ بالسبعة والسبعين من العدد، نحو قوله تعالى (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً)، والسبعة: تصرف في جلائل الأمور: فالأيام سبعة والسماوات سبع والأرض سبع وأعلام النجوم سبعة: زحل والمشتري وعطارد والمريخ والزهرة والشمس والقمر، والبحار سبعة، وأبواب جهنم سبعة في أشباه لذلك.
ولفظة (كلّ) تُستعمل للعموم مرة نحو قوله تعالى (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ) وقد يكون غير عموم نحو (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ). و (شيء) عبارة عن كل موجود هذا مذهب الجماعة، وذهب قوم إلى أنّه يقع على الوجود والمعدوم.
والعليم: في معنى العالم، قال سيبويه: إذا أرادوا المبالغة عدلوا إلى (فعيل) نحو: عليم ورحيم.
وجاء في التفسير عن ابن عباس أنّ معنى استوى إلى السماء صعد أمره، وقيل معناه: تحوّل فعله؛ كما تقول: كان الأمير يدبر أمر أهل الشام ثم استوى إلى أهل الحجاز أي تحول فعله وتدبيره.

(1/22)


وروي عن الربيع بن أنس: أنّ استوى بمعنى ارتفع على جهة علو مُلك وسلطان. لا علو انتقال وزوال، وفي هذا بعد؛ لأنَّ الله تعالى لم يزل عالياً على كل شيء بمعنى الاقتدار عليه، وأكثر أهل العلم على أنّ المعنى عهد وقصد.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لم جاء (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ) على لفظ الجمع؟
وفي هذا جوابان:
أحدهما: أنّ معنى السماء معنى الجمع وإن كان مخرجها مخرج الواحد، لأنها على طريقة الجنس كما يقال: أهلك الناس الدينار والدرهم.
والجواب الثاني: أنّ السماء جمعٌ. واحدها (سماوة) و (سماءة) وذكر قطرب ما لفظه لفظ الواحد ومعناه معنى الجمع فقال منه (وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ) وقوله (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي) وقوله (إنَّا رسُولُ ربِّ العَالمين) قال الشاعر:
ألا إنّ جيراني العَشيةَ رائحٌ ... دَعتهم دَواعٍ مِن هَوى ومَنَادِحُ
وإذا كان سماء جمع سماوة وسماءة كان بمنزلة حمام وحمامة ودجاج ودجاجة.

(1/23)


فصل:
ومما يسأل عنه: كيف اتصل قوله تعالى (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) بقوله (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ)؟
والجواب: أنّه يتصل كما يتصل تفصيل الجملة بعضه ببعضٍ؛ لأنّه لما وصف نفسه تعالى بما يُدلُّ به على القدرة والاستيلاء وصل ذلك بوصفه بالعلم؛ إذ بهما يصح الفعل على جهة الإحكام والإتقان.
ووجه آخر: وهو أنّه دل على أنّه عالم بجميع ما فعله وبما يؤول إليه حاله.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: هل يوجب (ثُمَّ) في قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) أنّ يكون خلق السماء بعد الأرض؟
قيل: لا يوجب من قِبَل أنّ قوله (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ) إنما يدلُّ على أنّه جعلها سبعا بعد ما خلق الأرض، وقد كانت السماء مخلوقة كما قال أهل التفسير إنّها كانت قبل دخانا، وقال الأخفش: هو كما تقول للصانع. اعمل هذا الثوب، وإنما معك غزل، وقد اعترض قومٌ من الجهَّال في هذا فقالوا: إذا كان قوله (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ) (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ) إلى قوله (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ) إلى قوله (طَائِعِينَ) موافقاً لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ) في أنّه يوجب أنّ خلق السماء بعد الأرض، ثم قال في موضع آخر: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا) ثم قال (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)، فأوجب هذا أنّ يكون خلقُ الأرض بعد السماء، فظنوا لجهلهم أنّ

(1/24)


هذا متناقض، وهذا معناه بيِّن، لأنّه قال دحاها أي بسطها. ولم يقل خلقها، وكانت قبل دحوها ربوة مجتمعة، ثم بسطها وأرساها بالجبال وأنبت فيها النبات، وأما علامَ يدلُّ عليه قول ابن عباس ومجاهدٍ في (بَعْدَ ذَلِكَ) فإنها تكون بمعنى (مع).
كأنّه قال: والأرض مع ذلك دحاها.
* * *

قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)
القول: موضوع في كلام العرب للحكاية، نحو قولك: قال زيد كذا وكذا، وقلت: خرج عمرو وما أشبه ذلك.
والربُّ: السيد يقال ربُّ الدار وربُّ الفرس. ولا يقال الرب بالألف واللام إلا لله تعالى، وأصله من رييته إذا قمت بأمره، ومنه قيل للعالم ربَّاني؛ لأنَّه يقوم بأمر الأمة.
والملائكة: جمع ملك، واختلف في اشتقاقه: فذهب الجمهور من العلماء إلى أنّه من الألوكة وهي الرسالة، قال صاحب المعنى: الألوك الرسالة، وهى المالكة على (مفعُله) والمالكه على (مفعَلة)، قال غيره إنما سُميت الرسالة ألوكا؛ لأنها قولك في الفم. مشتقاً من قول العرب: الفرس يالُكُ اللجام، أي: يمضغ الحديدة، قال عديّ بن زيد:
أَبِلِغِ النُّعمانَ عَنِّي مَأْلُكاً ... إنَّنِي قَدْ طالَ حَبْسِي وانْتِظارْ
ويروى مَالكا. قل لبيد:
وغُلامٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّه ... بأَلوكٍ فَبَذَلْنا مَا سَأَلْ

(1/25)


وقال عبد بني الحسحاس:
أَلِكْني إِلَيْهَا عَمْرَكَ اللَّهُ يَا فَتَى ... بآيةِ مَا جاءتْ إِلينا تُهادِيا
وَقَالَ الْهُذَلِيُّ:
أَلِكْني إليها وخَيْرُ الرَّسُو ... ل أَعْلَمُهم بِنُوَاحِي الخَبَرُ
فالملائكة على هذا (معافلة)، لأنّه مقلوب جمع ملاك. قال الشاعر:
فَلَسْتَ لإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلأَكٍ ... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّماءِ يَصُوبُ
ووزن ملاك (معفل) محول من مألك على وزن (مفعل)، فمن العرب من يستعمله مهموزاً والجمهور منهم على إلقاء حركة الهمزة على اللام وحذفها، فيقال ملك، ويهذه اللغة جاء القرآن. وقال أبو عبيدة: أصله من لاك إذا أرسل، فملأكَ على هذا القول (مَفْعل)، وملائكة (مفاعلة). ولا قلب في الكلام، و (الميم) في هذين الوجهين زائدة، وذهب ابن كيسان إلى أنّه من الملك وأن وزن ملاك (فَعَال) مثل: شمال. وملائكة (فعائلة)، فـ (الميم) على هذا القول أصلية، والهمزة زائدة.
والجعل في الكلام على أربعة أوجه:
أحدها: أنّ يكون بمعنى الخلق، نحو قوله تعالى: (وجَعَل الظلماتِ والنور).
والثاني: أنّ يكون بمعنى التسمية نحو قوله تعالى: (وجَعلُوا للهِ أنداداً) أي سموا له.

(1/26)


والثالث: أنّ يكون بمعنى عملتُ، نحو قولك: جعلتُ المتاع بعضَه فوق بعض.
والرابع: أنّ يكون بمعنى طفق، نحو قولك: جعل يقول كذا وكذا.
والخليفة: الإمام، والخليفة من استخلف في أمرٍ، وجمعه (خلائف)، فأما الخلفاء فجمع (خليف)، مثل: كريم وكرماء.
والإفساد: ضد الإصلاح.
وأصل السفك: صبُّ الدم، كذا قال صاحب العين، وقد يقال: سفك الكلام أي نثره، ورجلٌ سفاك الدماء سفّاك الكلام، قال الشاعر:
إذا ذكَرت يَومًا مِنَ الدهرِ شَجوَها ... على قَرعٍ سَاق أذرَتِ الدُّمعَ سَافِكا
واختلف في وزن (دمٍ)؛ فقال بعضهم: دَمَيٌ على وزن (فَعَل) واحتج بقول الشاعر:
فلَوْ أَنَّا عَلَى حَجَرٍ ذُبِحْنا ... جَرَى الدَّمَيان بالخَبَر اليَقِينِ
وقيل: وزنه (فَعْل)، والأصل فيه (دَمْي) وإنما الشّاعر لما ردَّ الياء في التثنية؛ لقلة الاسم حركه؛ ليُعلم أنّه كان متحركا قبل ذلك، ويقال للقطعة من الدم (دمة)، ذكره صاحب العين
والتسبيح: التنزيه لله تعالى من السوء، يقال: سبَّح يسبِّح تسبيحًا،

(1/27)


والسبوح: المستحق للتنزيه والتعظيم.
والقدوس: المستحق للتطهير، والتقديس: التطهير، وحكى سيبويه أنّ منهم من يقول: سَبُّوح قَدُوس بالفتح. والضم أكثر في الكلام، والفتح أقيس، لأنَّه ليس في الكلام (فُعول) إلا سبوحًا وقدوسًا وذروحًا لواحد الذرائح، ويقال ذرحرح حكاه سيبويه.
و (سبحان) اسمٌ للمصدر، ومعناه التنزيه. قال الأعشى:
أَقولُ لمَّا جَاءَنِي فَجْرُهُ ... سُبحانَ مِن عَلْقَمَةَ الفاجِرِ
قال أبو العباس: أي براءة منه، قال وهو معرفةٌ علمٌ خاص لا ينصرف للتعريف والزيادة، وقد اضطرَ الشاعر فنونه، قال أميّة:
سُبْحانُه ثُمَّ سُبْحاناً يَعُودُ لَهُ ... وقَبْلَنا سَبَّح الجُودِيُّ والجُمُدُ
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال ما (إذ)؟
والجواب: أنها ظرفٌ يدلُّ على الزمان الماضي، فإن قيل: ما العامل فيها؟

(1/28)


قيل: فعل مضمر تقديره: اذكر إذ قال ربُّك للملائكة. فأمَّا قول أبي عبيدة: إنَّها زائدة.
واحتجاجه على ذلك بقول الأسود بن يعفر:
فَإِذَا وَذَلِكَ لَا مَهاهَ لذكْرِهِ ... والدهرُ يُعْقِبُ صَالِحًا بفسادِ
فغلط من قِبل أنّ معنى الأصل منه مفهوم. فلا يحكم بالزيادة وعنها مندوحة، وتأويل وإذا وذلك: فإذا ما نحن فيه وذلك ... فكأنه قال: فإذا هذا وذلك، فأشار إلى الحاضر والغائب. ولا يجب أنّ يقدم على القول بالزيادة في القرآن ما وجد عنها مندوحة.
فإن قيل: فما الذي يدل على أنَّ العامل في (إذ) اذكر. وأنَّه محذوف؟
والجواب: أنَّ فيه قولين:
أحدهما: أنَّ الآية التي قبلها تُذكر بالنعمة والعبرة في قوله (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) فكأنَّه قيل اذكر النعمة في ذلك، واذكر إذ قال ربُّك للملائكة.
والقول الثاني: أنّه لمَّا جرى خلق السماوات والأرض، دل على ابتداء الخلق كأنَّه قال: وابتداء خلقكم إذ قال ربُّك للملائكة.
وعلى الأول جمهور العلماء، والعرب تحذف إذا كان فيما بقي دليل على ما أُلقي، قال النمر بن تولب:
فإن المنيةَ مَن يخشهَا ... فَسَوفَ تُصَادفُهُ أُينَمَا
يريد: أينما كان وأينما ذهب.

(1/29)


فصل:
مما يسأل عنه أن يقال: ما المراد بالخليفة؟
وفي هذا جوابان:
أحدهما: أنّ المراد به آدم وذريته؛ جعلوا خلائف من الجن الذين كانوا يسكنون الأرض.
والقول الثاني: أنَّ المراد بالخليفة أممٌ يخلف بعضهم بعضا؛ كلما هلكت أمّةٌ خلفتها أخرى.
ويروى عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما أنّ آدم عليه السلام يكون خليفةً لله تعالى؛ يحكم بالحق في أرضه، إلا أنّ الله تعالى أعلم الملائكة أنّ يكون من ذريته من يسفك الدماء ويفسد في الأرض.
ويسأل عن الألف من قوله: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا)؟
وقد اختلف فيها، فقال أبو عبيدة والزجاج: هي ألف إيجاب كما قال جرير:
ألستُم خيرَ مَن ركِبَ المطايَا ... وأندَى العَالمينَ بُطُونَ راحِ
هذا إيجاب وليس باستفهام، وهذا القول غير مرضي، وإنما غلِط مَنْ قال هذا منْ قبل أنَّ الله تعالى قال: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) فلا يجوز أنّ يشكُّو فيما أخبرهم الله تعالى، فيستفهموا عنه، فلهذا منعوا أنّ يكون استفهاما. وليس يوجب الاستفهام الشك في أنّه سيجعل. وإنما يوجبُ الشكّ في أنّ حالهم يكون مع الجعل، وترك الجعل في الاستقامة والصلاح سواء.
وأصل الألف للاستفهام، قال علي بن عيسى قال بعض أهل العلم: هو استفهام. كأنهم

(1/30)


قالوا أتجعل فيها من يُفسدُ، وهذه حالنا في التسبيح والتقديس، أم الأمر بخلاف ذلك، فجاء الجواب على طريق التعريض من غير تصريح في قوله: (إنِّي أعلمُ ما لا تَعَلمون)، قال: وهذا الاختيار؛ لأنّ أصل الألف للاستفهام، فلا يُعدل بها عنه إلا أنّ لا يصح التأويل عليه، وسمع أبا محمد مكي بن أبي طالب بعضُ شيوخنا يقول: الاستفهام فيه معنى الإنكار، ولا يجب أنّ تحمل الألف عليه، وكان يسميها ألف التعجب كأنّ الملائكة تعجبت من ذلك.
وأما أنا فأرى أنها ألف استرشاد، كأنّ الملائكة استرشدت الله تعالى وسألته: ما وجه المصلحة في ذلك.
...
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: من أين علمت الملائكة أنّهم يُفسدون في الأرض؟
ففي هذا جوابان:
أحدهما: أنّ الله تعالى أعلمهم أنّه يكون من ذرية هذا الخليفة من يفسد في الأرض ويسفك الدماء، فاقتضى ذلك أنّ سألوا هذا السؤال، وهذا معنى قول ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما.
والجواب الثاني: أنّ الجن كانوا في الأرض، فكفروا وأفسدوا وسفكوا الدماء فلما أخبرهم الله تعالى أنّه جاعل في الأرض خليفة. أحبوا أنّ يعلموا هل سبيله في ذلك سبيلَ من كان فيها من الجن.
وإلى القول الأول يذهب أهل النظر. فإن قيل: فليس في القرآن إخبارٌ بذلك قيل: هو محذوف، اكتفى منه بدلالة الكلام؛ إذ كانت الملائكة لا تعلم الغيب.
وقيل في قوله (إني أعلمُ مَا لا تَعلمون) أنّه ناب عن الجواب الذي هو (نعم). وقيل معناه: إني أعلم من المصلحة والتدبير ما لا تعلمون. وقيل معناه: إني أعلم ما لا تعلمون من أنّ ذلك الخليفة يكون من ذريته أهل طاعةٍ وولاية، وفيهم الأنبياء.

(1/31)


وقيل: إني أعلم ما لا تعلمون من إضمار إبليس المعصية وانطوائه عليها.
* * *
فصل:
قد تقدم أنّ موضع (إذ) نصب على إضمار فعل و (الواو) عاطفة جملة على جملة و (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) جملة في موضع نصبٍ بـ (قال)، وقوله: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) إلى قوله (ونقدّس لك) في موضع نصب بـ (قالوا)، و (الواو) في قوله (ونحن) واو الحال، وتسمى: واو القطع وواو الاستئناف وواو الابتداء وواو (إذ) كذا كان يمثلها سيبويه، ومثلها الواو في قوله تعالى (يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أي إذ طائفة، وكذا هاهنا، إذ نحن نسبح، والعامل في الحال هاهنا (أتجعل) كأنّه قال: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء وهذه حالنا من التسبيح.
و (الباء) من (بحمدك) يتعلق بـ (نسبّح). و (اللام) من (لك) يتعلق بـ (نقدس)، وقوله (إني أعلمُ ما لا تَعلمُون) في موضع نصب بـ (قال) الذي قبله.
و (إنّ) تكسر في أربعة مواضع: بعد القول نحو ما في الآية، وبعد القسم وبعض العرب يفتحها بعد القسم والكسر أكثر، وفي الابتداء، وإذا كان في خبرها اللام.

قوله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا)

(1/32)


أصل السجود: الخضوع، يقال سجد وأسجد إذا ذل وخضع. قال الأعشى:
مَنْ يَلْقَ هَوْذَةَ يَسْجُدْ غَيرَ مُتَّئِبٍ ... إِذا تَعَمَّمَ فَوْقَ التَّاج أَو وَضَعا
وقال آخر:
فَكِلْتاهُما خَرَّتْ وأَسْجَدَ رأْسُها ... كَمَا أَسْجَدَتْ نَصْرانَة لم تحَنَّفِ
ويقال في الجمع (سُجُد)، قال الشاعر:
تَضِلُّ البلقُ في حَجراتِه ... تَرَى الأُكْمَ فِيهَا سُجَّداً للحوافِرِ
أي مذللةً، ويقال: نساء سجد، إذا كنّ فاترات الأعين، قال:
والهوى إلى حور المدامع سجدِ.
والإسجاد: الإطراق وإدامة النظر في فتورٍ وسكونٍ، قال الشاعر:
أَغَرَّكِ مِنِّي أَنَّ دَلَّكِ عِنْدَنَا ... وإِسجادَ عيْنَيكِ الصَّيودَيْنِ رابحُ
و (آدم): أفعل من الأدمةِ وهي السُّمرَة، وقيل أخذ من أدمة الأرض.
ومعنى أبى وامتنع واحد، والاستكبار والتكبر والتعظم والتجبُّر واحد ونقيضه التواضع.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: أكان إبليس من الملائكة حتى استثني منهم أم لا؟

(1/33)


والجواب أنّ العلماء اختلفوا في ذلك:
فذهب قوم إلى أنّه لم يكن من الملائكة، وجعل الاستثناء هاهنا منقطعا، كقوله تعالى (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ)، وأنشد سيبويه:
والحَرْب لَا يَبْقى لجا ... حِمِها التخيُّلُ والمِراحُ
إلا الفتى الصبَّارُ في المنجـ ... داتِ والفرسُ والوقاحُ
وأحتج على صحة هذا القول بقوله تعالى (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) فنفى المعصيةَ عنهم نفيا عاما، واحتج أيضا بقوله تعالى (إلا إبليس كان من الجن)، ومتى أطلق لفظ (الجن) لم يجز أنّ يُعنى به إلا الجنسُ المعروف، واحتج أيضا بأن إبليس مخلوقٌ من النار، والملائكة روحانيون خلقوا من الريح، وقال الله تعالى في إبليس وولده (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) واحتج أيضا بقوله تعالى (جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا)، فعمها بالوصف بالرسالة، ولا يجوز على رسل الله أنّ تكفر، ولا أنّ تفسق. كما لا يجوز على رسله من البشر من قبل أنّهم حجة لله على خلقه فالملائكة بهذه المنزلة، ولو جاز عليهم الفسقُ لجاز عليهم الكذب، فكان يكون لا سبيل إلى الفرق بين الصدق والكذب فيما أخبروا به عن الله.
وذهب الجمهور من العلماء إلى أنّه من الملائكة، واحتجوا بأنّه لو كان من غير الملائكة لما كان ملوما في ترك السجود؛ لأنّ الأمر إنما يتناول الملائكة دون غيرهم. قال: وأما ما احتج به من أنّهم (لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) وأنّه نفى نفيا عاما، فإنَّ العموم قد يختص

(1/34)


من الشيء، نحو قوله تعالى (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ)، وقد عُلم أنّ المعنى: وأوتيت من كل شيء يؤتاه الملوك، ولم يرد جمع الأشياء، قال: وأما احتجاجه بقوله تعالى (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ) فإنَّ الجنَّ جنس من الملائكة، وقيل يقع الجنُّ على جميع الملائكة؛ لاجتنانها عن العيون، قال أعشى قيس بن ثعلبة:
لو كانَ شيءٌ خالداً أو معمراً ... لكان سليمانَ البريُّ من الدَّهرِ
براه إلهي واصطفاه عبادُهُ ... ملَّكه ما بين نوبَا إلى مِصْرِ
وسَخّر منْ جِنَّ الملائك تسعةً ... قياما لديه يعملون بلا أجرِ
وقال الله تعالى: (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا)، وقال: (وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ)، فالجنة هاهنا الملائكة بلا خلاف؛ لأنَّ قريشا قالت: الملائكة بنات الله، فردَّ الله عليهم، وأما قوله: إنَّ لإبليس نسلاً وذريةً، والملائكة ليست كذلك، فلا دليل فيه؛ لأنَّ الله تعالى لما أهبطه إلى الأرض ولعنه تغيَّرت حاله عن حال الملائكة، فإذا كان كذلك لم تصح الدلالة بذلك، وأما قوله: إنه مخلوقٌ من النار والملائكة خُلقوا من الريح. فقال الحسن: الملائكة خلقوا من النور، والنار والنور سواء، وقوله: الملائكة لا يطعمون ولا يشربون، والجن يطعمون ويشربون. فقد جاء عن العرب ما يدل على أنّهم لا يطعمون ولا يشربون، أنشد أبو القاسم الزجاجي قال أنشدنا ابن دريد قال أنشدنا أبو حاتم:
ونارٍ قد خضأتُ بُعيدَ وَهنٍ ... بدارٍ ما أريدُ بها مُقَامَا
سِوَى تَرْحِيلِ راحلةٍ وعَينٍ ... أُكالئُها مَخافَةً أَن تَنامَا
أتَوا نَاري فقلتُ: منُونَ أنتم ... فقالوا: الجنُّ قلتُ عِمواً ظلاما
فَقُلتُ إلى الطعام، فقالَ منهم ... زعيمَ يحسدُ الإنسَ الطعاما
لقد فُضلتُمُ بالأكل فينا ... ولكنْ ذلك يُعقبكمُ سقاما

(1/35)


فهذا يدل على أنّهم لا يأكلون ولا يشربون؛ لأنَّهم روحانيون، وجاء في بعض الأخبار النهي عن التمسح بالعظم والروث، قال: لأنّ ذلك طعام الجن وطعام دوابهم، فإن صح ذلك، فلأنهم لما سكنوا الأرض خالفوا حكم الملائكة؛ لأنَّهم خرجوا من جملتهم بمعصية إبليس، وقد قيل في تأويل الحديث: إنهم يتشممون ذلك ولا يأكلونه.
والقول الأول قول الحسن، والثاني قول الجمهور من العلماء، روي عن ابن عباس القولان جميعاً، وروي عن ابن مسعود قال: كانت الملائكة تقاتل الجن، فسُبي إبليسُ وكان صغيراً، وكان مع الملائكة، فتُعبد معها بالأمر بالسجود، فلذلك قال الله تعالى (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ).
ويسأل عن سجود الملائكة لآدم على أيّ وجهٍ كان؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنّه كان على وجه التحية لآدم والتكرمة. والعبادة لله تعالى لا لآدم وهو قول قتادة.
والثاني: أنّه كان على معنى القِبلة، كما أمروا بالسجود إلى القبلة والوجه الأول أبين.
* * *
فصل:
ويسأل عن قوله (وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) ما معنى (كان)؟
الجواب: أنّ بعضهم قال المعنى: وصار من الكافرين، وقيل: كان في علم الله من الكافرين، وقال بعضهم: كان كافرًا في الأصل.
* * *
فصل:
قوله (وَإذْ قُلنا) في موضع نصب؛ لأنَّها معطوفة على (إذ) الأولى، كأنّه قال: واذكر إذ قال

(1/36)


ربُّك للملائكة. وقال أبو عبيدة: لا موضع لها، وقد نبهنا على فساد هذا فيما تقدم.
و (إبليس): اسم أعجمي لا ينصرف في المعرفة للتعريف والعجمة: قال الزجاج وغيره من النحويين: هو اسم أعجمي معرّب، واستدلوا على ذلك بامتناع صرفه، وذهب قوم إلى أنّه عربي مشتق من (الإبلاس)، وأنشدوا للعجاج:
يَا صاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسا ... قَالَ نَعَمْ أَعْرِفُهُ وأَبْلَسا
وقال رؤبة:
وحَضَرَتْ يومَ خَمِيسٍ الأَخْماسْ ... وَفِي الوجوهِ صُفْرَةٌ وإِبْلاسْ
أي اكتئابٌ وكسوف، وزعموا أنّه لم ينصرف استثقالا له، لأنَّه اسمٌ لا نظير له من أسماء العرب، فشبهته العربُ بأسماء العجم التي لا تنصرف، وزعموا أنّ (إسحاق) الذي لا ينصرف من: أسحقه الله إسحاقاً، وأنّ (أيوب) من آب يؤوب، وأنَّ (إدريس) من الدرس. . في أشباهٍ ذلك.

(1/37)


وغلطوا في ذلك؛ لأنّ هذه ألفاظ معرَّبة وافقت ألفاظ العربية. وكان أبو بكر بن السراج يمثّل ذلك على جهة التبعيد بمن يقول: إنّ الطير ولدُ الحوت، وغلطوا أيضا في أنّه لا نظير له في أسماء العرب: العرب تقول (إزميل) اسمًا للشفرة، قال الشاعر:
هُم مَنَعوا الشَيخَ المافيّ بعدما ... رأى حُمَة الإزميل فوق البراجمِ
وقالوا: إغريض للطلع: وإخريط لصبغٍ بعينه أحمر، ويقال: هو العصفر قال الراجز:
مُلتَهِبُ تَلهبَ الإحريضِ
وقالوا سيف إصليت ماض كثير الماء، وقال الراجز:
كأنَّني سيفٌ بها إصْليتُ
وقالوا ثوبٌ إضريج أي: مشبع الصبغ، وقالوا من الصفرة خاصة. قال النابغة:
تُحيّيهم بيضُ الولائدِ بينهُم ... وأَكْسِيةُ الإِضْريجِ فَوْقَ المَشاجِبِ
وهذا كثير، وإنما أوردنا هذه الأشياء لزعمهم أنّه لا نظير له.
و (إبليس) نصب على الاستثناء المتصل في مذهب من جعله من الملائكة، وعلى الاستثناء المنقطع في مذهب من جعله من غير الملائكة.

(1/38)


قوله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ)
يسأل ما معنى قوله تعالى (وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ)؟
والجواب: أنّ المعنى ولا تكونوا أوّل كافر بالقرآن من أهل الكتاب، وقد كانت قريش كفرت به بمكة وقيل المعنى: ولا تكونوا السابقين إلى الكفر فيتبعكم الناس، أي لا تكونوا أئمة في الكفر به.
وقيل المعنى: ولا تكونوا أوّل جاحدٍ أنّ صفة النبي في كتابكم. والهاء في (به) على هذا القول تعود على النبي عليه السلام. وفي القول الأول تعود على القرآن.
وقيل المعنى: ولا تكونوا أوّل كافر بما معكم من كتابكم، لأنكم إذا جحدتم ما فيه من صفة النبي صلى الله عليه وسلم فقد كفرتم به. والأول قول أبي العالية. والقول الثاني قول ابن جريج، والقول الثالث حكاه الزجاج.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لِمَ وحِّد (كافر) في قوله تعالى (أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ) وقبله جمع؟
وفي هذا أجوبة:
قال الفراء، لأنّه في مذهب الفعل؛ معناه أوّل من كفر به، ولو أُريد الاسم لم يجز إلا بالجمع مثل قولك للجماعة، لا تكونوا أوّل رجالٍ يفعلون ذلك، لا يجوز أنّ تقول: لا تكونوا أوّل رجُل يفعل ذلك.
وقال أبو العباس: هذا الذي قاله الفراء خارجٌ من المعنى المفهوم؛ لأنّ الفعل هاهنا والاسم سواء، إذا قال القائل: زيد أوّل رجل جاء فمعناه: أوّل الرجال الذين جاءوا رجلا رجلا وكذلك إذا قال:

(1/39)


أوّل كافرٍ به، وأوّل مؤمنٍ، فمعناه: أوّل الكافرين، وأول المؤمنين لا فصل بينهما في لغة ولا قياس، ولا فيما يتقبله الناس. قال ومجازه: لا تكونوا أوّل قبيل كافرٍ به، وأول حزب كافر به، وهو ممّا يسوغ به النعت؛ لأنَّا نقول: جاءني قبيلٌ صالحٌ وحيٌّ كريمٌ، ونظير ما ذكره أبو العباس قول الشاعر:
وإذا همُ طعموا فالأمُ طاعم ... وإذا هم جاعوا فشرُّ جياعِ
وقال الزجاج في هذه المسألة: إذا قلت الجيش رجل فإنما يكره في هذا أنّ يتوهم أنك تقلله، فأما إذا عرف معناه فهو سائغٌ جيد، تقول: جيشهم إنَّما هو رجلٌ وفرس أي ليس بكثير الأتباع، فيدلُّ المعنى على أنّك تريد: الجيش خيل ورجال، وهو في فاعل ومفعول أبين؛ كقولك: الجندُ مقبل، والجيش مهزوم، قال غيره لا يجوز: نحن أوّل رجل قام، ويجوز: نحن أوّل قائم.
قال علي بن عيسى: إنّ جعْلَ الواحد بإزاء الجماعة إذا لم يكن فيه معنى الفعل كان قبيحاً، ألا ترى أنّه يقبح: إخوتك أوّل رجل، وإنما يحسن: أخوك أوّل رجل؛ لأنّك ذكرت واحداً فقابلت به واحداً على معنى الجميع، ولا يجيء على ذلك القياس إذا ذكرت جميعا إلا أنّ تقابل به الجميع، وقد علمنا أنّهم جعلوا لفظ الواحد في موضع الجمع للإيجاز.
وأبين هذه الأقوال قولُ أبي العباس.
* * *
فصل:
ويقال: إذا كانوا أو كافر به، ما في ذلك من تعظيم الأمر عليهم في أنّ لا يكونوا ثاني كافر؟ فالجواب: لأنَّهم إذا كانوا أئمةً في الضلالة كانت ضلالتهم أعظم على نحو ما جاء من قولهم: (من سَنَّ سنة خير كان له أجرها وأجر من يعمل بها إلى يوم القيامة، ومن سَنَّ سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من يعمل بها إلى يوم القيامة.
ونصب (أَوَّلَ كَافِرٍ) لأنّه خبر كان، وأما نصب قوله (مصدقًا) فلأنّه حال من الهاء المحذوفة،

(1/40)


كأنَّه قال: وآمنوا بما أنزلته مصدقاً لما معكم، ويصلح أنّ ينتصب بآمنوا. كأنّه قال: آمنوا بالقرآن مصدقاً. و (معكم) ظرف والعامل فيه الاستقرار؛ كأنّه قال: وآمنوا بما أنزلت مصدقا للذي استقر معكم. وهذا الاستقرار مع الظرف الذي يتعلق به من صلة الذي.

قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ)
استعينوا: استفعلوا من العون، وأصله (استعونوا) فاستثقلت الكسرة على الواو، فنقلت إلى العين، فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها؛ لأنَّه ليس في كلام العرب واو ساكنة قبلها كسرة.
والصبر: نقيض الجزع.
وأصل الصلاة: عند أكثر أهل اللغة الدعاء ومنه قول الأعشى:
عَليكِ مثلُ الذِي صليتِ فاغتَمِضي ... يَومًا فَإِنَّ لِجَنْبِ المَرْءِ مُضْطَجَعا
أي دعوت، ومثله:
وقابَلَها الرّيحُ فِي دَنِّها ... وصَلَّى عَلَى دَنِّها وارْتَسَمْ
وقيل أصلها اللزوم، من قول الشاعر:
لم أكُن مِن جُنَاتها عَلمَ اللهُ ... وأني بحرّها اليومَ صالٍ
أي ملازم لحرّها. فكأنّ معنى الصلاة: ملازمة العبادة على الحد الذي أمر الله تعالى به.

(1/41)


وقيل أصلها من الصلا وهو عظم العجز؛ لرفعه في الركوع والسجود. ومن هذا قول النابغة:
فآبَ مُصَلُّوهُ بعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ... وغُودِرَ بالجَوْلانِ حَزْمٌ ونائلُ
أي: الذي جاءوا في صلا السابق. وعلى القول الأول أكثر العلماء، ومنه قوله تعالى (وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً) أي: دعاؤهم. والأصل على ما قلنا: الدعاء، وهو اسم لغويٌّ. فأضيف إلى ذلك الدعاء عملٌ بالجوارح، فقيل: صلا، وصار اسما شرعيا، ومثل هذا (الصوم) أصله الإمساك في اللغة. وجاء في الشرع: الإمساك عن الطعام، فصار اسما شرعيًّا بهذه الزيادة.
والكبيرة: نقيض الصغيرة، يُقال: كبر الشيء فهو كبير. وكبر الأمر: أي عظُم.
وأصل الخشوع: التذلل، قال جرير:
لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَوَاضَعَتْ ... سُورُ الْمَدِينَةِ والجِبالُ الخُشَّعُ
ومنه خشعت الأصوات، أي سكنت وزلّت.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: ما وجه الاستعانة بالصلاة؟
والجواب: أنّه لمَّا كان في الصلاة تلاوةُ القرآن، وفيها الدعاء والخضوع لله عز وجل، كان ذلك معونةً على ما يتنازع إليه النفس من حبّ الرئاسة، والأنفة من الانقياد إلى الطاعة. وهذا الخطاب وإن كان لأهل الكتاب فهو أدبٌ لجميع العباد.

(1/42)


ويُقَال: ما معنى الاستعانة بالصبر؟
قيل المعنى: استعينوا بالاستشعار للصبر. وقيل: استعينوا بالصبر، أي: بالصوم.
ويسأل عن معنى كبيرة هاهنا؟
والجواب: أنّ الحسن والضحّاك قالا: ثقيلة، والأصل في ذلك أنّ ما يكبُر يثقُل على الإنسان حمله كالأجسام الجافية.
ويُسْأَل عن (الهاء) في قوله: (وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ) علامَ يعود؟
والجواب: أنّها تعود على الإجابة للنبي صلى الله عليه وسلم، فهذا قول وإن لم يجر للإجابة ذكر؛ لأنّ الحال تدلُّ عليها، وقال قوم: تعود على الاستعانة. لأنّ (استعينوا) تدلُّ على الاستعانة، ومثله قول الشاعر:
إذا نُهي السَّفيهُ جَرَى إليهِ ... وخَالفَ، والسَّفيهُ إلى خلافِ
أى جرى إلى السفيه، ودلّ السفيه على السَّفه. ومثل الأول (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، يعني القرآن، ولم يجر له ذكر.
وقيل: تعود على الصلاة، وهو القول المختار، وجاز أنّ يردّ عليها لقربها منه.
وقيل: يعود إليهما جميعاً، وإن كان الضمير واحداً وهما اثنان،

(1/43)


كما قال الله تعالى: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ)، فرد الضمير إلى واحدٍ، وقال الشاعر:
أمَّا الوَسَامةُ أو حُسنُ النساءِ فقد ... أوتيت منه أوان العقل محتنكُ
وهذا كثير في كلامهم.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لم خصّ الخاشعَ بأنها لا تكبر عليه دون غيره؟
والجواب: أنّ الخاشع قد توطأ له ذلك بالاعتياد له. والمعرفة بما له فيه فقد صار لذلك بمنزلة من لا يشُقُّ فعله عليه ولا يثقل تناوله.
ويقال: لمن هذا الخطاب؟
والجواب: أنّه لأهل الكتاب على هذا أكثر العلم، وقال بعضهم: هو لجميع المسلمين.

قوله تعالى: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ)
يُسأل عن قوله تعالى (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ) ما معنى (هَؤُلَاءِ) هنا، وكيف يتصل به (تقتلون)، وما موضعه من الإعراب؟
فالجواب: أنّ فيه ثلاثة أقوال:

(1/44)


أحدهما: أنّ معناه النداء. كأنّه قال: ثم أنتم يا هَؤُلَاءِ تقتلون أنفسكم.
والثاني: أنّ معناه التوكيد لـ (أنتم)، والخبر (تقتلون) أعني خبر (أنتم)؛ لأنّه مبتدأ.
والثالث: أنّه بمعنى (الذي)، وصلته (تقتلون).
وموضع (تقتلون) رفع إذا كان خبراً. وإذا كان (هَؤُلَاءِ) بمعنى (الذين) فلا موضع لـ تقتلون؛ لأنّه صلة. قال الزجاج: ومثله في الصلة (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى) أي: وما التي بيمينك، وأنشد النحويون:
عَدَسْ مَا لعَبَّادٍ عليكِ إِمارَةٌ ... نَجَوْت وَهَذَا تَحْمِلينَ طَلِيقُ
وهذا القول الأخير على مذهب الكوفيين، ولا يجيزه أكثر البصريين، وقد ذهب إليه جماعة من المتأخرين ممن يري رأي البصريين.
* * *

قوله تعالى: (وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ)
الزحزحة: التنحية. والعذاب: اسم للتعذيب، وهو بمنزلة الكلام من التكليم.
والتعمير: طول العمر، وعُمر الشيء ومدته سواء.
وقوله: (وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ) فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنّه كناية عن أحدهم الذي جرى ذكره

(1/45)


في قوله تعالى: (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ). والثاني: أنّه كناية عن التعمير. والثالث: أنّه عماد، ومنع الزجاج هذا القول الأخير قال: إذا جاءت (الباء) في خبر (ما) لم يصلح العماد عند البصريين، ولا يجوز عندهم: ما هو بقائم، ولا: ما هو قائما زيد. قال غيره: إذا كانت (ما) غير عاملة في (الباء) جاز؛ كقولك: ما بهذا بأس.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: ما موضع (أَنْ يُعَمَّرَ)؟
والجواب: رفع، فإن قيل: من أي وجه؟ - قيل: من وجهين:
أحدهما: إبتداء وخبره (بِمُزَحْزِحِهِ). أو يكون على تقدير الجواب لما كُني عنه؛ كأنّه قيل: وما هو الذي بِمُزَحْزِحِهِ، فقيل: هو التعمير.
ْوالوجه الآخر: أنّ يرتفع (بِمُزَحْزِحِهِ) ارتفاع الفاعل بفعله؛ كما تقول: مررت برجل معجبٍ قيامُه وقيل في معنى (بِمُزَحْزِحِهِ) بمبعده، وقال ابن عباس: بمنحيه. وهو قول أبي العالية أيضاً.
* * *

قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا)
قال ابن دريد: النسخ نسخك كتابا عن كتاب. قال صاحب العين: النسخ أنّ تُزيل أمرًا كان من قبل يُعمل به ينسخُه بحادث غيره، كالآية ينزل فيها أمر ثم يُخفّف عن العباد، فينسخ تلك الآية آيةٌ أخرى، فالأولى منسوخة والأخرى ناسخة.

(1/46)


والنسأ: التأخير. والآية: القطعة من القرآن، قال ابن عباس: " مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ " ما نبدل من آية:
* * *
فصل:
ومما يُسأل عنه أن يقال: ما معنى (ننسأها) بالهمز؟
قبل: نؤخرها. قيل: فما معنى التأخير هاهنا؟
ففي هذا جوابان:
أحدهما: أنّ يكون المعنى نؤخرها فلا ننزلها، وننزل بدلًا منها ما يقوم مقامها في المصلحة، أو تكون أصلح للعباد منها.
والثاني: أنّ يكون المعنى نؤخرها إلى وقتٍ ثان، ونأتي بدلا منها في الوقت المتقدم ما يقوم مقامها.
فأما من تأوّل ذلك على معنى يرجع إلى النسخ فلا يحسُن. إذ كان محصوله فى التقدير: ما ننسخ من آية أو ننسخها، وهذا لا يصح.
ويقال: هل يجوز نسخُ القرآن بالسنة؟
فالجواب: أنّ بعض أهل العلم أجازه، وبعضهم منعه.
واختلف في القراءة: فقرأ ابن عامر (ما نُنسِخ من آية) بضم النون وكسر السين، وقرأ الباقون (مَا نَنْسَخْ) بفتحها.

(1/47)


فأما (نَنسَخ) فمن نسخت فأنا ناسخٌ، والشيء منسوخ.
وأمَّا (نُنسِخ) ففيه وجهان:
أحدهما: أنّ يكون بمعنى ما نُنسِخك يا محمد، هو قول أبي عبدة، يُقال نَسخت الكتابَ، وأنسخته غيري.
والثاني: أنّ يكون نُنسِخ جعلته ذا نسخ، كما يُقال: أقبرته جعلته ذا قبر ويروى أنّ الحجاج قتل رجلا فقال له قومه: أقبرنا فلانا، أي اجعله ذا قبر. واختلف في (ننسأها): فقرأ ابن كثير وأبو عمرو (ننسأها) بالهمزة، وهو جزم بالشرط، ولا يجوز حذفها عندهما؛ لأنّ سكونها علامةُ الجزم، وقرأ الباقون (نُنْسِهَا) بضم النون وكسر السين، على أنّ يكون من (النسيان) أو يكون من الترك، والأول قول قتادة والثاني قول ابن عباس.
قال الزجاج: هذا خطأ، وإنما يقال: نسيت بمعنى تركت، ولا يقال: أُنسيت بمعنى تركت، وإنَّما معنى نُنسِها: نتركها أي نأمر من يتركها.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: كيف يجوز على الجماعة الكثيرة أنّ تنسى شيئا كانت حافظةٌ له، حتى لا يذكره ذاكر منها؟
والجواب: أنّ فيه قولين:
أحدهما: أنّه إذا أُمر الناس بترك تلاوته نُسي على مرور الأيام.
والثاني: أنّ يكون معجزةً للنبي عليه السلام، وقد جاءت أحاديث متظاهرة في أنها نزلت أشياء من القرآن ثم نُسِخت تلاوتها. فمنها ما ذكر أبو موسى الأشعري أنّهم كانوا يقرؤون: (لو أنّ لابن آدم واديين من ذهب لا بتغى لهما ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا الترابُ ويتوب الله على من تاب).

(1/48)


ثم رُفع. ومنها عن قتادة عن أنس أنّ السبعين من الأنصار الذين قُتْلوا ببئر معونه كانوا يقرون فيهم كتابا (بلغوا عنا قومنا أنا لقينا ربّنا ورضي عنا وأرضانا) ثم إن في ذلك رفع. ومنها (الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة). ومنها ما روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنّه قال كنَّا نقرأ (لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم). ومنها ما حكي أنّ سورة الأحزاب كانت تعادل سورة البقرة في الطول.

* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: على كم وجه يصحُّ النسخ؟
والجواب على ثلاثة أوجهٍ:
نسخ الحكم دون اللفظ، ونسخ اللفظ دون الحكم، ونسخهما جميعاً، فالأوّل: كقوله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ) إلى قوله (يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ).
والثاني: كآية الرجم كانت منزلة فرُفع لفظها وبقي حكمها.
والثالث: يجوز وإن لم يقطع بأنه كان، كالذي قيل إنه كان على المؤمنين فرضا قيام الليل، ثم نسخ.
ولا يجوز النسخ إلا في الأمر والنهي. ولا يجوز في الخبر والقصص؛ لأنّ ذلك يؤدي إلى الكذب، والقرآن منزّهٌ عن ذلك.
ويقال: ما معنى (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا)؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنّ يكون المعنى: بخيرٍ منها لكم في التسهيل والتيسير، كالأمر بالقتال الذي سُهِّل على المسلمين في قوله: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ)، (أَوْ مِثْلِهَا): كالعبادة بالتوجه إلى الكعبة بعد

(1/49)


ما كان إلى بيت المقدس.
والثاني: أنّ يكون المعنى بخير منها في الوقت الثاني، أي هي لكم في الوقت الثاني خير من الأولى لكم في الوقت الأول، أو مثلها في ذلك، وهو معنى قول الحسن، كأنّ الآية في الوقت الثاني في الدعاء إلى الطاعة، والزجر في المعصية مثل الآية الأولى في وقتها، فيكون اللطف بالثانية. كاللطف بالأولى، إلا أنّه في الوقت الثاني يستقيم بها دون الأول، والجواب الأول معنى قول ابن عباس.
* * *

قوله تعالى: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)
يقال: رغبت في الشيء أحببته، ورغبت عنه كرهته.
والملة: الدين.
وفي (إبراهيم) أربع لغات: إبراهيم، وإبراهام. وإبراهِم، وإبراهَم.
والاصطفاء: افتعال من الصفوة، والطاء مبدلة من تاء الافتعال؛ لأنَّ الطاء تشبه الصاد في الاستعلاء والإطباق، وهي من مخرج التاء، فاختاروها ليكون العمل من جهةٍ واحدة.
والسَّفه: الخفّة، والمعنى ومن يمل عن ملة إبراهيم إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ، واختلف في (سَفِهَ نَفْسَهُ) فقال الأخفش: أهل التأويل يزعمون أنّ المعنى: سَفَّه نفسه. وقال يونس أراها لغة، قال الزجاج: ذهب يونس إلى أنَّ (فَعِل) للمبالغة. كما أنّ (فَعَّل) لذلك، قال ويجوز على هذا سَفِهت زيدًا بمعنى: سَفّهت. وقال أبو عبيدة: معناه أهلك نفسه، وأوبق نفسه، قال ابن زيد: إلا من أخطأ خطيئة، فهذا كله وجه واحد في التأويل، وقال آخرون: هو على التفسير. كقوله تعالى (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا).

(1/50)


وهو قول الفراء قال: العرب توقع سَفِهَ على نفسه وهي معرفة وكذا (بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا)، وأنكر هذا الزجاج، وقال: معنى التمييز لا يحتمل التعريف؛ لأنَّ التمييز إنما هو واحد يدلُّ على جنسه فإذا عرَّفته صار مقصوداً، وقيل: هو تمييز على تقدير الانفصال كما تقول: مررت برجلٍ مثله. أي: مثلٍ له، وقيل: هو على حذف حرف الجر كما قال تعالى (وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ)، أي: على عقدة النكاح قال الشاعر:
نُغالي اللَّحْمَ للأَضْيافِ نِيّاً ... ونبذلُه إِذا نَضِجَ القُدورُ
كأنّ قال: نغالي باللحم، قال الزجاج: وهذا مذهبٌ صحيح، والاختيار عنده أنّ يكون سفِه في معنى جهل، وهو موافق لما قال ابن السراج في (بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا)؛ لأنَّ البَطِر مستقل للنعمة غيرُ راضٍ بها.
ويقال: لما قال (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ). فخصّ الآخرة بالذكر، وهو في الدنيا كذلك؟
والجواب: أنّ الحسن قال: المعنى أنّه من الذين يستوجبون على الله الكرامة وحسن الثواب، فلما كان خلوص الثواب في الآخرة دون الدنيا وصفه بما ينبئ عن ذلك.
في هذه الآية دلالة على أنّ ملة نبينا صلى الله عليه وسلم هي ملة إبراهيم عليه السلام مع زياداتٍ في ملّة نبينا. فبين أنّ الذين يرغبون من الكفار عن هذه الملة وهي تلك الملّة قد سَفِهوا أنفسَهم. وهذا قول قتادة والربيع.

(1/51)


قوله تعالى: (وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ)
وَصَّى وأوصى وأمر وعهد بمعنى.
ومما يُسأل عنه أن يقال: علامَ تعود الهاء من (بها)؟
والجواب فيه قولان:
أحدهما: أنّها تعود على الملة وقد تقدم ذكرها، وهو قول الزجاج.
والثاني: أنّها تعود على الكلمة التي هي (أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) قاله بعض أهل اللغة.
وسأل بما ارتفع (يَعقُوبُ)؟
والجواب أنّ فيه قولين:
أحدهما: أنّه معطوف على إبراهيم، والتقدير: ووصى بها يعقوب، وهذا معنى قول ابن عباس وقتادة والثاني: أنّه على الاستئناف. أي: ووصى يعقوب أنّ يا بني.
والفرق بين التقديرين: أنّ الأوّل لا أضمار فيه؛ لأنّه معطوف، والثاني فيه إضمار.
* * *
فصل:
ويُسأَل عن قوله (فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) كيف نهاهم عن الموت، وليس الموتُ إليهم، فيصحُّ أنّ ينهاهم عنه؟
والجواب: أنّ أبا بكر السَّراج قال: لم ينهوا عن الموت وإن كان اللفظ على ذلك، وإنما نُهوا في الحقيقة عن ترك الإسلام لئلا يصادفهم الموتُ عليه، فإنّه لابد منه، والتقدير: أثبتوا على الإسلام لئلا يصادفكم الموت وأنتم على غيره، ومثله من الكلام: لا أرينك هاهنا. فالنهي في اللفظ للمتكلم وهو

(1/52)


في المعنى للمخاطب كأنّه قال: لا تتعرّض للكون هاهنا. فإن من كان هاهنا، أراه.
* * *

قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)
القصاص: القود، والحياة: نقض الموت، والألباب: العقول واحدها لبٌّ.
وهذا من الكلام الموجز، ونظيره من كلام العرب (القتل أنفى للقتل) إلا أنّ ما في القرآن أوجه وأفصح وأكثر معاني، والفرق بينهما في البلاغة من أربعة أوجه وهي أنّه:
أكثر في الفائدة، وأوجز في العبارة، وأبعد من الكلفة بتكرير الجملة، وأحسن تأليفا بالحروف المتلائمة.
أمّا الكثرة في الفائدة: ففيه كلُّ ما في (القتل أنفى للقتل) وزيادة معاني حسنة منها: إبانة العدل لذكره القِصاص؛ لأنَّه ليس في قولهم (القتل أنفى للقتل) بيان أنّه قصاص. ومنها: إبانة الغرض المرغوب فيه وهو الحياة. ومنها: الاستدعاء بالرغبة والرهبة وحكم الله به.
وأما الإيجاز في العبارة: فإن الذي هو نظير (القتل أنفى للقتل) قوله تعالى (القِصَاصِ حَيَاةٌ)، وهذا عشرة أحرف، والأول أربعة عشر حرفا.
وأما بعدهُ من الكلفة بالتكرير الذي فيه على النفس مشقة، فإنّ قولهم (القتلُ أنفى للقتل) فيه تكرير غيره أبلغ منه، ومتى كان التكرير كذلك، فهو مقصّر في باب البلاغة.
وأمَّا الحسن بتأليف الحروف المتلائمة: فإنه يدرك بالحسّ، ويوجد في اللفظ؛ لأنّ الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة؛ لبُعد الهمزة من اللام، وكذا الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام.

(1/53)


فباجتماع هذه الأمور التي ذكرنا صار أبلغَ منه وأحسن. وإن كان الأوّل حسنًا بليغا، وقد أخذه الشاعر فقال:
أَبْلِغْ أَبا مالكٍ عنِّي مُغَلْغَلةً، ... وَفِي العِتاب حَياةٌ بَيْنَ أَقوام
* * *
فصل:
ويُسأل عن معنى (لعل) هاهنا؟
والجواب أنّ فيها ثلاثة أقوال:
أحدها: أنّ يكون بمعنى (اللام) كأنّه قال: لتتقوا.
والثاني: أنّ يكون للرجاء والطمع، كأنّه قال: على رجائكم وطمعكم في التقوى.
والثالث: على معنى التّعرُّض، كأنّه قال: على تعرضكم للتقوى.
وقيل في (تتقون) قولان:
أحدهما: لعلكم تتقون القتل؛ للخوف من القِصاص وهو قول ابن زيد.
والثاني: لعلكم تتقون ربكم باجتناب معاصيه.
* * *

قوله تعالى: (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ)
الأصل في أيّام: أيوام؛ لأنَّ الواحد يوم، ولكن الواو والياء إذا اجتمعتا وسبقت الأولى منهما

(1/54)


بالسكون قلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء التي بعدها.
ويُسأل عن قوله (أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) ما هي؟
والجواب: أنّ عطاء وابن عباس قالا: ثلاثة أيام من كل شهر ثم نُسخ ذلك، وقال ابن أبي ليلى: المعنيُّ به شهر رمضان، وإنما كان صيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعا.
* * *
فصل:
ويُسأل عن الذين يطيقونه؟
وفيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنّ المعنيُّ به سائر الناس، ومن شاء صام ومن شاء أفطر وافتدى لكل يوم بإطعام مسكين، ثم نُسخَ ذلك، وهو قول ابن عباس والشعبي.
والثاني: أنّه نزل فيمن كان يطيقه. ثم صار إلى حال العجز عنه، وهو قول السُّدِّيّ.
ويُسأل عن الهاء في (يطيقونه) علامَ يعود؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنّ يعود على الصيام.
والثاني: أنّ يعود على الفداء؛ لأنّه معلوم وإن لم يجر له ذكر.
وعلى القول الأوّل أكثر العلماء.

(1/55)


فصل:
ويُسأَل عن الناصب لقوله (أَيَّامًا)؟
والجواب: أنّه يجوز أنّ يكون ظرفا، والعامل فيه فعلٌ مضمر يدل عليه (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) كأنّه قال: الصيام في أيام معدودات، ولا يجوز أنّ يعمل فيه (كُتِبَ عَلَيْكُمُ)؛ لأنَّ فيه التفرقة بين الصلة والموصول؛ لأنّ (كما كتب) في موضع المصدر، وكذلك لا يجوز أنْ يعمل فيه الصيام الذي في الآية لهذه العلة.
ويجوز أنّ يكون مفعولًا على السعة، كقولك: اليومَ صمته، وكأنه قال: صوموا أياما معدودات.
وقال الفراء: هو مفعول لما لم يُسمّ فاعله، وخالفه الزجاج في ذلك، ومثْله الفراء بقولك: أعطي زيدٌ المالَ، قال الزجاج: لأنّه لا يجوز عنده رفع الأيام كما يجوز رفع المال، وإذا كان المفروض في الحقيقة هو الصيام دون الأيام، فلا يجوز ما قاله الفراء إلا على السعة.
* * *

قوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ)
الشهر معروف، وجمعه في القلة (أشهر) وفي الكثرة (شهور)، وأصله من الاشتهار.
وأصل (رمضان) من الرَّمَض وهو شدة وقع الشمس على الرمل وغيره، كذلك قال ابن دريد، واشتقاق رمضان من هذا؛ لأنهم سَمُّوا الشهور بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق رمضان. أيامَ رمضِ
الحرّ. وقالوا في جمعه (رمضانات)، وأنشد صاحب العين:
إنْ شهراً مباركاً قد أتانا ... مثلَ ما بعدَ قيلهِ رمضانُ

(1/56)


وروي عن مجاهد أنّه قال: لا تقل (رمضان) ولكن قل كما قال الله تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ) فإئك لا تدري ما رمضان، حدثنا أبو الحسن الحوفي عن أبي بكر بن الأدفوني حدثنا أبو جعفر أحمد بن محمد النحاس قال قُرئ على أحمد بن محمد بن الحجاج عن يحيى بن سليمان قال حدثني عبيد الله بن موسى حدثنا عثمان بن الأسود عن مجاهد قال: لا تقل رمضان، ولكن قل كما قال الله تعالى (شَهْرُ رَمَضَانَ) فإنك لا تدري ما رمضان؟ قال يحيى بن سليمان وحدثنا يعلى بن عبيد حدثنا طلحة بن عمرو عن مجاهد وعطاء أنهما كانا يكرهان أنّ يقولا (رمضان) ويقولان نقول كما قال الله تعالى. (شَهْرُ رَمَضَانَ) لعل رمضان اسم من أسماء الله تعالى.
وليس العمل على ما قالا؛ لأنّ الأخبار جاءت بخلاف ذلك.
وقد روى مالك في الموطأ يرفعه أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه).
وحدثنا أبو الحسن عن أبي بكر حدثنا أبو جعفر قال قُرئ على أحمد بن شعيب عن إسحاق بن إبراهيم أخبرنا يحيى بن سعيد قال حدثنا المهلب بن أبي حبيبة، قال أحمد وأخبرنا عبيد الله بن سعيد حدثنا يحيى عن المهلب بن أبي حبيبة، قال حدثني الحسن عن أبي بكرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يقولنَ أحدكم صمتُ رمضانَ ولا قمته كلّه) فلا أدري أكره التركيبة أم قال: لابد من غفلةٍ ورقدة، واللفظ لعبيد الله.
وحدثنا أبو الحسن عن أبي بكر عن أبي جعفر أخبرنا عمرانُ بن خالد أخبرنا شعيب أخبرنا ابن جريج قال أخبرني عطاء قال سمعت ابن عباس رضي الله عنه يقول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار (إذا كان رمضان فاعتمري فيه، فإنّ عمرةً فيه تعدل حجة).

(1/57)


فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: ما معنى (أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)؟
والجواب أنّ فيه قولين:
أحدهما: أنّه أنزل كلُّه في ليلة القدر إلى بيت العزة في السماء الدنيا، ثم أُنزل على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك نجوما، وهو قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن.
والثاني: أنّ معناه أنزل في فضله قرآن، كما نقول: أُنزل في عائشة قرآن.
وقد قيل إن المعنى: ابتُدئ إنزاله في ليلة القدر من شهر رمضان.
* * *
فصل:
ومما يُسأل عنه أنّ يُقال: ما معنى (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ)؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنّ المعنى فمن شَهِدَ مِنْكُمُ الْمِصْرَ، وحضر ولم يغب؛ لأنَّه يقال: شاهدٌ بمعنى حاضر.
والجواب الثاني: أنّ يكون التقدير: فمن شَهِد منكم الشهر مقيمًا.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: بمَ ارتفع (شَهرُ رمَضَانَ)؟
والجواب أنّه يرتفع من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنّ يكون خبر مبتدأ محذوف يدل عليه قوله (أيامًا) كأنّه قال: هي شهر رمضان.
والثاني: أنّ يكون بدلًا من الصيام؛ كأنّه قال: كتب عليكم شهر رمضان.
والثالث: يرتفع بالابتداء، ويكون الخبر (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ).

(1/58)


وإن شئت جعلت (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) وصفاً، وأضمرت الخبر حتى كأنَّه قال: وفيما كتب عليكم شهرُ رمضان. أي: صيام شهر رمضان.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لِمَ لم يُكنّ عن (الشهر)؛ لأنّه قد جرى ذكره، كقولك: شهر رمضان المبارك من شهده فليصُمه؟
ْقيل: هذا كقوله (الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2)) و (الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2))، وما أشبه ذلك مما أعيد بلفظ التعظيم والتفخيم.
وأما دخول الفاء في قوله (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ)، فإن شئت جعلتها زائدة كما قال الشاعر:
لَا تَجْزَعِي إِن مُنْفِساً أَهْلَكْتُه ... وإِذا هَلكتُ فعِنْدَ ذَلِكَ فاجْزَعِي
لابدّ أنّ تكون إحدى الفائين هاهنا زائدة؛ لأنّ (إذا) إنما يقتضي جواباً واحداً وإن شئت أنّ تقول دخلت الفاء؛ لأنّ فيه معنى الجزاء؛ لأنّ شهر رمضان وإن كان معرفةً فليس بمعرفة معينة، ألا ترى أنّه شائع في جميع هذا القبيل لا يُراد به واحد بعينه.
ويجوز فيه النصب من وجهين:
أحدهما: على الأمر، كأنّه قال: صوموا شهر رمضان.

(1/59)


والثاني: أنّ يكون على البدل من (أيّام).
وقد قرأ بذلك مجاهد. و (هُدًى لِلنَّاسِ) في موضع نصب على الحال.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: كيف جاز أنّ يُعطف الظرف على الاسم في قوله (وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ)؟
فالجواب: أنّه بمعنى الاسم، كأنّه قال: أو مسافراً، ومثله (دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا) أي: دعانا مضطجعا.
ويُسْأَل عن اللام في قوله: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) علامَ عُطِفت؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنها معطوفة على الجملة؛ لأنَّ المعنى شرع لكم ذلك، فأريد منكم ولتكملوا العدهّ، ومثله: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) أي: وليكون من الموقنين أريناه ذلك.
والوجه الثاني: أنّ يكون على تأويل محذوف دلّ عليه ما تقدم؛ كأنّه قال: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، قال: فعل الله ذلك ليُسهِّلَ عليكم، ولتكملوا العدة، قال الشاعر:
بادَت وغيَّر آيهُنّ مع البلى ... إلا رواكدَ جمرُهنّ هَبَاءُ
ومُشَجَّجٌ أَمَّا سَواءُ قَذالِهَ ... فَبَدا وغَيَّر سارَهُ المَعْزاءُ
فعطف على تأويل الكلام الأوّل كأنَّه قال: بها رواكد ومُشَجَّجٍ، وهذا قول الزجاج

(1/60)


والأول قول الفراء.
ورفع قوله (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) بالابتداء، والخبر محذوف، كأنّه قال: فعله عدة من أيامٍ أخر، ويجوز النصبُ في العربية على تقدير: فليَعُدَّ عِدَّةَ أَيَّامٍ أُخَرَ لا مما أفطر.
ولم ينصرف (أخَر) لأنّها صفه معدولة عما يجب في نظائرها من الألف واللام، ونظائرها نحو: الصُّغَر والكُبَر، فأما من قال: لم ينصرف لأنها صفة، فيلزمه أنّ لا يصرف (لُبَدًا) و (حُطماً)، ومن قال: لم ينصرف لأنّ الواحد غير مصروف، يلزمه أنّ لا يصرف (غِضاباً) و (عِطاشاً)؛ لأنّ الواحد غير مصروف.
* * *

قوله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ)
يسألون: من السؤال، والصدُّ: المنع.
وهذه الآية نزلت في سرية للنبي صلى الله عليه وسلم التقت مع عمرو بن الحضرمي في آخر يوم من جمادى الآخرة فخافوا أنّ يخلُّوهم ذلك اليوم فيدخل الشهر الحرام، فلقوهم وقُتل عمرو بن الحضرمي، فقال المشركون: محمد يُحلُّ القتال في الشهر الحرام. وجاءوا فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك. فأنزل الله هذه الآية، وهذا قول الحسن.
وقال غيره: السائلون المسلمون.
واختلف في أمر القتال في الشهر الحرام: فذهب الجمهور من العلماء إلى أنّه منسوخ.

(1/61)


وذهب عطاء إلى أنّه على التحريم، والوجه الأوّل أظهر، لقوله تعالى (اقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ).
* * *
فصل:
ويُسأل عن جرّ (قِتَالٍ)؟
والجواب: أنّه بدل من الشهر، وهو بدل الاشتمال، ومثله قوله تعالى: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5))، وقال الأعشى:
لقد كَان في حَولٍ ثَواءٍ ثَوَيتُه ... تُقَضّي لُبانات ويَسأم سائمُ
وقال الكوفيون: هو جرٌّ على إضمار (عن). وقال بعضهم: هو على التكرير، وهذه ألفاظٌ متقاربة في المعنى، وإن اختلفت العبارة.
* * *
فصل:
ويُسأل عن جرّ (الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنّ يكون معطوفا على (سبيل الله) كأنّه قال: وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وعن المسجد الحرام، وهو قول أبي العباس.

(1/62)


والثاني: أنّه معطوف على (الشَّهْرِ الْحَرَامِ) كأنّه قال: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام والمسجد الحرام، وهذا قول الحسن والفراء.
وأنكر بعضهم هذا لأنّه فيما زعم لم يسألوا عن المسجد؛ لأنَّهم لا يشكون فيه، وليس كما ذهب إليه من قِبَل أنّ القوم لمَّا استعظموا القتال في الشهر الحرام. وكان القتال عند المسجد الحرام يجري مجراه في الاستعظام، جمع بينهما في السؤال، وإن كان القتال إنما وقع في الشهر الحرام خاصةً، كأنهم قالوا: هل استحللت الشهر الحرام والمسجد الحرام، ولا يجوز حمله على (الباء) في قوله (وكفرٌ به)؛ لأنّه لا يُعطف على المضمر المجرور إلا بإعادة الجار إلا في ضرورة شعر، وسأشرحه في سورة النساء.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه قوله: (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ)؟
والجواب: أنَّ الفتنة في الدين وهي الكفر أعظم من القتل في الشهر الحرام.
ويُسْأَل بما ارتفع (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ)؟
والجواب: أنّه مرفوع بالابتداء، وما بعده معطوف عليه، وخبره (أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ)، وهذا قول الزجاج، وأجاز الفراء رفعه من وجهين فقال: إن شئت جعلته مردوداً على (كَبِيرٌ) يعني: قل قتال فيه كبيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ. وإن شئت جعلت الصدَّ كبيرًا، يريد القتال فيه كبير وكبيرٌ الصدُّ عن سبيل الله وَكُفْرٌ بِهِ.
وخطّأه علماؤنا في ذلك، قالوا لأنّه يصير المعنى في التقدير الأوّل: قل القتال في الشهر الحرام كفر بالله، وهذا خطأ بإجماع، ويصير التقدير في الثاني: وإخراج أهله منه أكبر عند الله من الكفر وهذا

(1/63)


خطأ بإجماع.
وللفراء أنّ يقول في هذا المعنى: وإخراج أهله منه أكبر من القتل فيه لا من الكفر به؛ لأنّ المعنى في إخراج أهله منه: إخراج النبي صلى الله عليه رسلم والمؤمنين معه. فأما الوجه الأوّل فليس له منه تخلصُّ.
* * *

قوله تعالى: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)
الوليُّ: النصير والمعين، وجمعه أولياء، وأصله من الوَلي وهو القرب، قال علقمة:
تكلفُني ليلى وقد شَطّ وَليُّهَا ... وعادت عَوادٍ بيننا وخُطُوبُ
واختُلف في (الطاغوت): فقال قوم هو كاهن، وقال آخرون هو صنم. وقال آخرون هو الشيطان، وقيل: هو كل ما عُبِدَ من دون الله، وأصله من الطغيان يقال طغى يطغى، وطغا يطغو، وهو (فلعوت)؛ لأنَّه مقلوب، وأصله: طغيوت أو طغووت، على إحدى اللغتين، ثم قُدِّمت اللام وأُخرت العين، فصار طيغوتًا أو طوغوتا، فقلب لتحرك حرف العلّة وانفتاح ما قبله، والطاغوت يقع على الواحد والجمع بلفظه، ويُذكّر ويؤنّث، قال الله تعالي: (اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا)، وقال في هذه الآية (أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ)، وقد قيل: هو واحد وضع موضع الجمع في هذا الموضع، كما قال العباس بن مرداس:
فقُلنا أسلموا إنّا أخوكم ... فقد برئَتْ منَ الإحَنِ الصُّدرُ
وجمع (طاغوت): طواغيت وطواغِت وطواغٍ على حذف الزيادة وطواغي على العوضِ من الحذف.

(1/64)


فصل:
ويُسأَل عن معنى قوله (يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ)؟
والجواب: أنَّ الظلمات هاهنا الكفر، والنور الإيمان. وقال قتادة: من ظلمات الضلالة إلى نور الهدى.
ويُسأَل عن قوله (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ)، فيقال: كيف يخرجونهم من النور وهم لم يدخلوا فيه؟
وفي هذا أربعة أجوبة:
أحدها: أنّه كقول القائل: أخرجني أبي من ميراثه، وهو لم يدخُل فيه، وإنما ذلك لأنّه لو لم يعمل ما عَمِل لدخل فيه فصار لذلك بمنزلة الداخل فيه الذي أُخرج عنه، قال الشاعر:
فإن تكنِ الأيامُ أحسَن مرةً ... إليَّ فقد عَادَت لهنّ ذبوبُ
ولم يكن لها ذبوب قبل ذلك.
والجواب الثاني: يروى عن مجاهد قال: نزلت في قومٍ ارتدوا عن الإسلام، فكأنّهم خرجوا من نور الإسلام بعد ما دخلوا فيه.
والجواب الثالث: أنَّها نزلت في المنافقين، كأنّهم كانوا في نور بما أظهروه من الإسلام وخرجوا منه بما أبطنوه من الكفر.
والجواب الرابع: أنّهم كانوا في نورٍ وُلدوا فيه. فلما كبروا وكفروا خرجوا منه، ويدُلُّ على صحة هذا القول قول النبي صلى الله عليه وسلم (كل مولود يولد على الفطرة، حتى يكون أبواه هما اللذان يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجسانه).

(1/65)


قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)
الاطمننان: السكون والتَّوطؤ، والجزء: النصيب. والصورُ: الإمالة، والصورُ أيضا القطع.
ومما يسأل عنه أن يقال: ما سبب سؤاله أنّ يُريَه كيفَ الإحياء؟
وفي هذا جوابان:
أحدهما: أنّه رأى جيفةً يمزقها السباع. فأراد أنّ يعرف كيف الإحياء. وهذا قول الحسن وقتادة والضحاك.
والجواب الثاني: أنّ نمرود لما نازعه في الإحياء، أراد أنّ يعرِف ذلك علم بيان بعد علم الاستدلال، وهذا قول أبي إسحاق.
وزعم قوم أنّه شكٌّ، وهذا غلط ممن قاله؛ لأنّ الشك في قدرة الله تعالى على إحياء الموتى كفر لا يجوز على أحدٍ من الأنبياء عليهم السلام.
* * *
فصل:
ويُسْأَل عن قوله (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)؟
والجواب: أنّه أراد ليزَداد قلبي يقينا إلى يقينه، وهذا قول الحسن وسعيد بن جبير والربيع ومجاهد.
ولا يجوز أنّ يريد: ليطمئن قلبي بالعلم بعد الشك لما قدمناه.

(1/66)


ويقال: ما كانت الطير؟
والجواب: أنّ مجاهداً وابن جريج وابن زيد وابن إسحاق قالوا: الديك والطاووس والغراب والحمام. أمر أنّ يقطّعها ويخلط ريشها بدمها، ثم يُفرقها على كلّ جبلٍ جزءا جزءا.
وقرأ حمزة (فَصِرْهُنَّ إِلَيْكَ)، وقرأ الباقون (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) بالضم.
وقد قلنا إن معنى (صُرْ) اقطع، وهو قول ابن عبّاسٍ وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد، وقال توبةُ ابن الحميّر:
فَأدنَت لي الأسبابَ حتى بلغتُها ... بنهضي وقَد كادَ ارتقائي يصورُها.
أي: يقطعها.
وقال عطاء وابن زيد المعنى: اضممهن إليك، وهذا من صاره يصُورُه إذا أماله، قال الشاعر:
ووجاءَتْ خُلْعَةٌ دُهْسٌ صَفايا ... يَصُورُ عُنُوقَها أَحْوَى زَنِيمُ
يصف غنماً وتيساً يعطف عنوقها.
فأما من قرأ بالكسر. فيحتمل الوجهين المتقدمين، قال بعض بني سُليم:
وفرعٌ يصيرُ الجيدَ وحفٍ كأنّه ... على الليثِ قِنوانُ الكُرُوم الدَوَلحِ
يريد: يميلُ الجيدَ.

(1/67)


فصل:
قوله تعالى: (إِذْ قَالَ)، موضع (إذ) نصبَ من وجهين:
أحدهما: أنّ يكون على إضمار (اذكر) كأنّه قال: اذكر إذ قال إبراهيم، وهذا قول الزجاج.
والثاني: أنّ يكون معطوفا على قوله (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ)، كأنّه قال: ألم تر إذ قال إبراهيم. وإذا كان معنى فصُرهن إليك: قطعهن، فـ (إليك) من صلة (خذ). كأنّه قال: خذ إليك أربعةً من الطير فصُرهن.
وإذا كان معناها: أملهنّ واعطفهُن، فـ (إليك) متعلقة يه.
وهذه الألف التي في قوله (أولم تُؤمن) ألف تحقيق وإيجابٍ، كما قال جرير:
ألستُم خيرَ مَن ركبَ المطايَا ... وأندَى العَالمينَ بُطونَ راحِ
والطير: جمع طائر. مثل راكب وركب وصاحب وصحب، والطير مؤنثة.
ونصب (سعيا) على الحال، والعامل فيها (يَأْتِينَكَ).
وقوله (أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) في موضع نصب بـ (اعْلَمْ).
* * *

(1/68)