إعراب القرآن للأصبهاني

وَمِنْ سُورَةِ (النِّسَاءِ)
قوله تعالى: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ)
يسأل عن معنى قوله (تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ)؟.
وفيه - جوابان:
أحدهما: أنّ المعنى يسأل بعضكم بعضا بالله وبالرحم، وهذا قول الحسن ومجاهد.
والثاني: أنّ المعنى واتقوا الأرحام أنّ تقطعوها، وهذا قول ابن عباس وقتادة والسُّدِّي والضحَّاك والربيع وابن زيد.
* * *
فصل:
ومما يُسأل عنه أن يقال ما وجه النصب في الأرحام؟
قيل: على الوجه الأول يكون معطوفا على موضع (به) كأنّه قال: وتذكرون في الأرحام في التساؤل. وعلى الوجه الثاني يكون معطوفاً على اسم الله تعالى وقرأ حمزة (وَالْأَرْحَامِ) بالجر، والنحويون لا يجيزون هذا لأنّه لا يجوز عطف الظاهر على المضمر المجرور إلا بإعادة الجار، قال سيبويه: لأنّه لا ينفصل فصار كبعض الحرف. ومثله بعضهم بالتنوين؛ وذلك أنّه يعاقبه

(1/85)


ويحذف في الموضع الذي يحذف فيه التنوين، وذلك قولك: يا غلامِ، تحذف الياء تخفيفا، كما تحذف التنوين من قولك: يا زيدُ.
وقال المازني: المعطوف والمعطوف عليه شريكان، لا يجوز في أحدهما ما لا يجوز في الآخر، فكما لا تقول: مررت بزيدوك، كذلك لا تقول: مررت بك وزيدٍ. فإن احتج محتجٌّ بقول الشاعر:
فاليَومَ قرذضيتَ تهجُونا وتَشتِمُنا ... فَاذهب فَمَا بِكَ والأيامِ مِن عَجَبِ
وبقول الآخر:
نُعَلّق في مِثل السّواري سُيوفَنا ... وَمَا بَينَها والكعْبِ غُوطٌ نَفَانفُ.
قيل هذا من ضرورات الشعر، ولا يحمل القرآن عليه، وقد احتج له بعضهم بأنه على إضمار (الباء) لتقدم ذكرها في قوله (به)، واستشهدوا بقول الشاعر:
أكُلَّ امرئٍ تحسبين امرأً ... ونارٍ توقَّدُ بالليل ناراً
أراد: وكل نارٍ، فحذف (كلًّا) لدلالة ما في صدر البيت.
* * *

قوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ)
خفتم: من الخوف، والخوف والخشية بمعنى. والإقساط والعدل.
ويُسأل عن اتصال هذا الكلام بعضه ببعض كيف يصح؟

(1/86)


وفي هذا جوابان:
أحدهما أنّ المعنى: فإن خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى، فكذا خافوا في النساء، وذلك أنّهم كانوا يتحرجون في يتامى النساء، ولا يتحرجون في النساء، وهذا قول سعيد بن جبير وقتادة والسُّدّي والضحاك والربيع.
والجواب الثاني أنّ المعنى: إن خفتم ألا تقسطوا في نكاح اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء من غيرهن، وهذا قول عائشة والحسن وله قال أبو العباس.
* * *
فصل:
ومما يسأل عن قوله (مَا طَابَ لكم) كيف جاءت (ما) هاهنا، والموضع موضع (مَن)؛ لأنَّ (ما) لما لا يعقل. و (مَنْ) لمن يعقل؟ والجواب أنّ (ما) هاهنا مصدرية. كأنّه قال: فانكحوا من النساء الطيِّب، أي: الحلال، وهذا قول مجاهد، وبه أخذ الفراء. ويروى عن مجاهد أيضا: فانكحوا النساء نكاحاً طيباً.
قال أبو العباس: (ما) هاهنا للجنس. كقولك: ما عندك؟ - فالجواب رجل أو امرأة.
وقيل: لما كان المكان مكان إبهام جاءت (ما) لما فيها من الإبهام، كما تقول العرب: خذ من عبيدي ما شئت.
وأما (مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ) فمعناه: اثنين اثنين، وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا، فعدل عن هذا ليدل على هذا المعنى، وهو نكرة، وامتنع من الصرف للعدل والوصف.

(1/87)


وقال قوم: هو معرفة، لأنّه لا يدخله الألف واللام. والوجه ما قدمناه، لأنّ النكرة توصف به، قال صخر الغي:
منُيتُ بأن تلاقِيني المنايَا ... أُحادَ أُحادَ في شهرٍ حَلالِ
وقال تميم بن أبي مقبل:
تَرَى النُّعَراتِ الزُّرْقَ تحتَ لَبانِه ... أُحادَ ومَثْنى أَضعَفَتْها صَواهِلُهْ
وقيل: لم ينصرف للعدل والتأنيث؛ لأنّ العدد كله مؤنث.
وقيل: لم ينصرف لأنّه عدل على غير ما يجب في العدل، لأنّ أصل العدل أنّ يكون في المعارف.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لم جاءت (الواو) هاهنا، ولم تأتِ (أو) لأنّه لا يجوز أنّ يجمع بين تسعٍ؟ والجواب: أنّه على طريق البدل، كأنّه قال: وثُلاثَ بدلًا من مثنى، ورُباع بدلًا من ثُلاث، ولو جاء بـ (أو) لجاز أنّ لا يكون لصاحب المثنى ثُلاث، ولا لصاحب الثُلاث رُباع.
ويوضح هذا: أنّ مثنى بمعنى اثنتين، وثُلاث بمعنى ثلاث. فأما من أجاز تزويج تسع بهذه الآية فمخطئ، لأنّه لو كان كذلك لما جاز أنّ يتزوج دون تسع، وأيضاً فلو أراد الله تعالى ذلك لقال: فانكحوا تسعاً؛ لأنَّ هذا التكرار غي، وتسع أخصر منه، وهذا على طريق التخيير لا للإيجاب.
* * *

قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)

(1/88)


يُسأل عن دخول (اللام) فى قوله (لِيُبَيِّنَ لَكُمْ)؟
وفيها ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنّ معناها (أنّ) و (أنْ) تأتي مع (أردت: أمرت)؛ لأنَّها تطلب الاستقبال (لذا) استوثقوا لها باللام، وربما جمعوا بين (اللام) و (كي) لتأكيد الاستقبال، قال الشاعر:
أَردتَ لِكَيْما لَا تَرَى لِيَ عَثْرَةً، ... ومَنْ ذَا الَّذِي يُعْطَى الكَمال فيَكْمُلُ
ولا يجوز أنّ تقع (اللام) بمعنى (أنْ) مع الظن؛ لأنَّ الظن يصلح معه الماضي والمستقبل، نحو: ظننت أنّ قمت، وطننت أنّ تقوم، وهذا قول الكسائي والفراء، وأنكره الزجاج، وأنشد:
أَرَدْتُ لِكَيْما يَعْلَم الناسُ أَنها ... سَراوِيلُ قَيْسٍ والوُفُودُ شهودُ
قال: ولو كانت (اللام) بمعنى (أنْ) لم تدخل على (كي) كما لا تدخل (أنْ) على (كي)، قال: ومذهب سيبويه وأصحابه أنّ (اللام) دخلت هاهنا على تقدير المصدر، أي: الإرادة للبيان. نحو قوله تعالى: (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ) و (رَدِفَ لَكُمْ)، وقال كثير:
أُريدُ لأَنسَى ذِكرَها فكأَنّما ... تَمثَّلُ لِي لَيْلى بكلِّ سبيلِ
أي: إرادتي لهذا، وهذا الجواب الثاني.
والجواب الثالث: أنّ بعض النحويين ضعف هذين الوجهين بأن جعل اللام بمعنى (أنْ) لم يقم به حجةٌ قاطعة، وحمله على المصدر يقتضي جواز: ضربت لزيد، بمعنى: ضربت زيداً، وهذا لا يجوز، ولكن يجوز في التقديم والتأخير، نحو: لزيدٍ ضربت. وللرؤيا تعبرون؛ لأنّ عمل الفعل فى التقديم يضعف كعمل المصدر فى التأخير، ولذلك لم يجز إلا فى المتصرف، فأما (رَدِفَ لَكُمْ) فعلى تأويل: ردف ما ردف لكم، وعلى ذلك: يريد ما يريد لكم.

(1/89)


وهذه الأقوال كلها مضطرية، وقد قيل إن مفعول (يريد) محذوف تقديره: يريد الله تبصيركم ليبين لكم.
* * *

قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا)
القتل: معروف، وقتل العمد: ما قصد به اتلاف النفس كائنا ما كان بحجر أو عصى أو حديد أو غير ذلك، وهذا قول عبيد بن عمير وإبراهيم وروى أنس أنّ يهودياً قتل جاريةً بين حجرين، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقتله بين (حجرين)، فكل شيء خطأ إلا السيف، ولكل خطأ إرش.
والجزاء والمجازاة واحد، واللعنة: الإبعاد والطرد.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: هل القاتل يخلد في النار، أم له توبة؟
والجواب: أنّ العلماء اختلفوا في ذلك:
فقال الضحاك وجماعة من التابعين: نزلت هذه الآية في رجل قتل رجلاً من المسلمين، فارتد عن الإسلام، وصار إلى المشركين، ونزلت هذه الآية فيه، والتغليظ فيها لارتداده عن الإسلام.
وقال جماعة من التابعين: الآية اللينة وهي: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) نزلت بعد الشديدة وهي: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا)،: ذهبوا إلى أنّ للقاتل توبة.
وقال عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم: كنا نبت الشهادة فيمن عمل الموجبات حتى نزلت (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ).
وقال أبو مجلز: هي جزاؤه إن جازاه أدخله جهنم خالداً فيها، ويروى هذا أيضاً عن أبي صالح.
وروي عن مجاهد أنّه قال: المعنى إلا من تاب وندم على ما فعل. وروي عن ابن عباس وزيد بن

(1/90)


ثابت. وجماعة من التابعين رضي الله عنهم أنّهم قالوا: الآية ثابتة في الوعيد، لأنّ الله تعالى غلظ فيه.
وكرر الوصف بقوله: (وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا).
وقال عكرمة وابن جريج وبعض المتكلمين: المعنى ومن يقتل مؤمنا متعمداً، أي: مستحلًا لذلك؛ لأنَّ المستحل لما حرم الله تعالى كافر، لأنّه أحل ما حرم الله، فالخلود إذاً إنما هو من هذه الطريقة.
والعرب تتمدح بإنجاز الوعد وخُلف الوعيد. ويروى عن أبي عمرو أنّه سمع عمرو بن عبيد ينكر هذا فعابه عليه، وأنشد:
وإِنّي إِنْ أَوعَدْتُه أَو وَعَدْتُه ... لأُخْلِفُ إِيعادِي وأُنْجِزُ مَوْعِدِي
وجاء في الحديث (من وعده الله على عملٍ ثواباً فهو منجزٌ له، ومن أوعده على عمل عقاباً فهو بالخيار. إن شاء عذبه وإن شاء غفر له).
* * *

قوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)
قرأ نافع وابن عامر والكسائي (غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ) بالنصب، وقرأ الباقون بالرفع، وقرئ في غير السبعة (غيرِ) بالجر فوجه النصب: أنّه حال، وإن شئت كان استثناء.
وأما الرفع: فعلى أنّه نعت لقوله (القاعدون).

(1/91)


وأما الجر: فعلى أنّه نعت للمؤمنين.
وأجود هذه القراءات: الرفع؛ لأنّ الوصف على (غير) أغلب من الاستثناء.
وقد زعم بعضهم أنّ النصب على معنى الاستثناء أجود؛ لتظاهر الأخبار بأنه نزل لما سأل ابن أم مكتوم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حاله في الجهاد وهو ضرير فنزل (غَيرَ أُولِي الضَّرَرِ).
وهذا ليس بشيء؛ لأنّ (غيراً) وإن كانت صفة فهي تدل على معنى الاستثناء؛ لأنها في كلا الحالين قد خصصت القاعدين عن الجهاد بانتفاء الضرر.
* * *

قوله تعالى: (وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)
اختلف في الحنيف:
فقيل معناه: المائل إلى الحق بكليته.
وقيل الحنيف: هو المستقيم، وإنَّما قيل للرجل الأعرج حنيف تفاؤلًا، يقال: حنف في الطريق إذا استقام عليه، فكل من سلك طريق الاستقامة فهو حنيف.
ويُسأل: ما في اتباع ملة إبراهيم من الحسن، دون اتباع ملة موسى وعيسى وغيرهما من النبيين؟ والجواب: أنّ إبراهيم عليه السلام قد رضي به جميع الأمم، وكان يدعو إلى الحنيفية لا اليهودية ولا النصرانية ولا الوثنية، فهو محق في دعائه إليها، وكل من استجاب له بإذن الله فيها نقد جمع من المعنى المرغربة ما ليس لغيره.

(1/92)


واختلف في معنى الخليل:
فقيل: هو المصطفى بالمودة المختص بها.
وقيل: هو من الخلة وهي الحاجة، فخليل الله على هذا المحتاج إليه، قال زهير:
وإِنْ أَتاهُ خَلِيلٌ يومَ مَسْأبةٍ ... يَقُولُ: لَا غائبٌ مَالِي وَلَا حَرِمُ
ويُسْأَل عن نصب (حنيفا)؟
وفيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنّ يكون حالا من (ملة إيراهيم)، وكان حقه أنّ تكون فيه الهاء؛ لأنَّ " فعيلا " إذا كان بمعنى " فاعل " للمؤنث ثبتت فيه الهاء نحو: رحيمة وكريمة وما أشبه ذلك، إلا أنّه جاء مجيء " ناقة سديس وريح خريق ".
والجواب الثاني: أنّه حال من المضمر في (وَاتَّبَعَ)، والمضمر هو النبي صلى الله عليه وسلم.
والثالث: أنّه يجوز أنّ يكون حالًا من إبراهيم، والحال من المضاف إليه عزيزة، وقد جاء ذلك في الشعر قال النابغة:
قالت بنُو عامرٍ خالوا بني أسدٍ ... يا بُؤْسَ للجهلِ ضَرَّاراً لأقوامِ
أي: يا بؤس الجهل ضراراً. واللام مقحمة لتوكيد الإضافة.
* * *

قوله تعالى: (وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159))
يسأل عن الضمير في قوله: (قَبْلَ مَوْتِهِ) على ما يعود؟

(1/93)


وفيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنّه يعود على الكتابي، والمعنى: لَيُؤْمِنَنَّ الكتابي بالمسيح قبل موت الكتابي، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك وابن سيرين وجويبر.
والثاني: قبل موت المسيح أي: لَيُؤْمِنَنَّ الكتابي بالمسيح قبل موت المسيح عليه السلام إذا خرج في آخر الزمان، وهذا يروى عن أبي مالك وقتادة وابن زيد عن ابن عباس والحسن بخلاف.
والثالث: أنّ يكون المعنى لَيُؤْمِنَنَّ لمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موت الكتابي وهذا يروى عن عكرمة بخلاف.
واختلف النحويون فىِ المضمر المحذوف ما هو؟
فذهب البصريون إلى أنّ المعنى: وإن من أهل الكتاب أحد إلا لَيُؤْمِنَنَّ به قبل موته.
وذهب الكوفيون إلى أنّ المعنى: وإن من أهل الكتاب إلا من لَيُؤْمِنَنَّ به.
وأهل البصرة لا يجيزون حذف الموصول وتبقية الصلة ومثله: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا) (وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ)، يجيء على مذهب البصريين " وإن منكم أحد "، وعلى مذهب الكوفيين " وإن مِنكُم إلا من هو واردها "، " وما منا أحد إلا له مقام معلوم "، قال الشاعر:
لَوْ قُلْتَ مَا فِي قَوْمِها لَمْ تِيثَمِ ... يَفْضُلُها فِي حَسَبٍ ومِيسَمِ
تقديره: لو قلت ما في قومها أحد يفضلها في حسب وميسم لم تيثم.

(1/94)


و (إنْ) في قوله (وإن منكم) نافية، كالتي في قوله تعالى: (إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) وأكثر ما تأتي (إن نافية مع غير (إلا) نحو قوله تعالى: (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ)، أي: في الذي ما مكناكم، وهو قليل.
* * *

قوله تعالى: (لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)
اختلف في نصب (الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ):
فذهب البصريون إلى أنّه نصب على المدح، وهو قول سيبويه وأنشد لخرنق بنت هفان:
لَا يَبْعَدَنْ قَوْمي الَّذين هُمُ ... سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجُزرِ
النَازلينَ بكلّ معتركٍ ... والطيبُونَ معا قِدَ الأزرِ
على تقدير: أعني النازلين، وهذا: أعني المقيمين الصلاة.
واختلف في تأويل (الْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ):
فذهب قوم إلى أنّ المراد بهم الأنبياء.
وذهب آخرون إلى أنّ المراد بهم الملائكة. وهذا الوجه عندي أظهر؛ لقطع قوله (وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ)، لأنّ الملائكة لا توصف بإيتاء الزكاة، والأنبياء يوصفون به.
وذهب قوم إلى أنّه معطوف على (قبلك). أي يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ومن قبل المقيمين الصلاة، ثم حذف (قبل) لدلالة (قبل) عليه.

(1/95)


وقيل هو معطوف على الكاف من (إليك) أو الكاف من (قبلك)، وهذا لا يجوز عند البصريين؛ لأنّه لا يعطف على الضمير المجرور بغير إعادة الجار وقد شرحناه عند قوله تعالى (والأرحامِ). وكذا قول من قال هو معطوف على الهاء والميم من قوله (منهم). وأما من زعم أنّه غلط من الكاتب فلا تجب أن يلتفت إلى قوله، وإن كان قد روي عن عائشة رضي الله عنها وإبان بن عثمان، لأنّه لو كان كذلك لم تكن الصحابة لتعلمه الناس على الغلط وهم الأئمة.
وأجود ما قيل في هذا القولان الأولان.
* * *

قوله تعالى: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ)
الاستفتاء: استدعاء الفُتيا. والفُتيا: الإخبار بالحكم ولا يقال للإخبار بالحكم عن علة الحكم فتيا إلا أنّ تذهب به مذهب الحكم بالمعنى على البناء له على حكم غيره ليصحح به.
والكلالة: ما عدا الوالد والولد، هذا قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ويروى عن عمر رضي الله عنه أنّه قال: ما عدا الولد - على تشكك منه - وقال الحسن: الإخوة والأخوات.
وعلى القول الأول جمهور العلماء، وهو الوجه لأنّه من تكلل النسب غير اللاصق به، وإنما اللاصق الوالد والولد.
وفي الكلام حذف، والتقدير فيه: إن امرؤ هلك ليس له ولد وقد ورث كلالة وله أخت.
وقال العلماء: أصول الفرائض ثمانية عشر: اثنا عشر في أول السورة، وأربعة في آخرها، واثنان سماهما رسول الله صلى الله عليه وسلم العصبة وفريضة الجد.

(1/96)


وقيل هي تسعة عشر، لقوله: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ)، وفي قوله تعالى: (فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ) دلالة على أنّ للبنتين الثلثين. لأنّ الله تعالى سوى بين البنت والأخت في النصف، فقيست البنتان على الأختين.
* * *
فصل:
ويُسأل عن أي الفعلين أعمل من قوله تعالى (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ)؟ والجواب: أنّ المعمل الثاني وهو (يفتيكم)، والتقدير: يستفتونك في الكلالة قل الله يفتيكم في الكلالة. فحذف الأول لدلالة الثاني، ولو أعمل الأول لقال: يستفتونك قل الله يفتيكم فيها في الكلالة وإعمال الفعل الثاني عند البصريين أجود وعليه جاء القرآن نحو قوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ)، فأعمل (يستغفر)، ولو أعمل (تعالوا) لقال: تعالوا يستغفر لكم إلى رسول الله.
فأما في الشعر فقد جاء إعمال الأول كما جاء إعمال الثاني، فمن إعمال الأول قول امرئ القيس:
فلو أنَّ ما أسْعى لأدنى معيشةٍ ... كَفَاني ولم أَطْلُبْ قليلٌ من المالِ
يريد: كفاني قليل من المال ولم أطلب، ولو أعمل الثاني لا نفسد المعنى.
ومن إعمال الثاني قول طفيل:
وكُمْتاً مُدَمَّاةً كأَنَّ مُتُونَها ... جَرى فَوْقَها، واسْتَشْعَرَتْ لَوْنَ مُذْهَب
فأعمل (استشعرت) ولو أعمل (جرى) لقال: جرى فوقها واستشعرت لون مذهب، ومثل ذلك قول كثير:
قَضى كلُّ ذِي دَيْنٍ فَوَفَّى غَرِيمَه ... وعَزَّةُ مَمْطُولٌ مُعَنًّى غرِيمُها
فأعمل (وفَّى) ولو أعمل (قضى) لقال: قضى كل ذي دين فوفّاه غريمه. وهو كثير في الشعر والكلام

(1/97)


وقوله (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ) ارتفع (امْرُؤٌ) بإضمار فعل يفسره ما بعده تقديره: إن هلك امْرُؤٌ هلك، ولا يجوز إظهاره، لأنّ الثاني يغني عنه. وقال الأخفش هو مبتدأ و (هلك) خبره.
والأوّل أولى؛ لأنَّ الشرط بالفعل أولى.
وقوله (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)، في (أنْ) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنّ المعنى كراهة أنّ تضلوا، فهي على هذا في موضع نصب مفعول له.
والثاني: أنّه على إضمار حرف النفي. كأنّه قال: أنّ لا تضِلّوا، وتلخيصه: لئلا تضلوا.
والأوّل مذهب البصريين والثاني مذهب الكسائي.
ومثل الأول قوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ)، أي: أهلَ القرية.
ومثل الثاني قول القطامي يصف ناقته:
رَأيْنَا مَا يَرى البُصَراءُ فيها ... فآلينا عَليها أنّ تُباعَا
يريد: أنّ لا تباعا. ومثل الأول قول عمرو بن كلثوم:
فَأعجلنا القِرى أنّ لا تشْتِمونا

(1/98)


أي: كراهة أنّ تشتمونا.
والثالث: قاله الأخفش وهو أنّ (أنْ) مع الفعل بتأويل المصدر، وموضع (أنْ) نصب بـ (يبين)، وتقديره: يبين الله لكم الضلال لتجتنبوه.
* * *

(1/99)