إعراب القرآن للأصبهاني

وَمِنْ سُورَةِ (الْأَنْفَالِ)
قوله تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ)
يسأل عن الكاف هاهنا، ما شبِّه بها؟
عن ذلك ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنّ المعنى: قل الأنفال لله والرسول مع مشقته عليهم، لأنّه أصلح لهم كما أخرجك ربك من بيتك بالحق مع كرامتهم، لأنّه أصلح لهم.
والثاني: أنّ المعنى: هذا الحق كما أخرجك ربك من بيتك بالحق.
والثالث: أنّ المعنى: يجادلونك في الحق متكرهين كما تكرهوا إخراجك من بيتك بالحق. وهذه الأقوال كلها عن أصحاب المعاني.
وزعم بعضهم: أنّ " الكاف " بمعنى " الباء "، أي: بما أخرجك ربك، وهذا لا يعرف.
* * *
فصل:
ويُسأَل: بم تتعلق " الكاف "؟
والجواب: أنها تتعلق بما دلَّ عليه (قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)؛ لأنَّ في هذا معنى بنزعها من أيديهم بالحق كما أخرجك ربك من بيتك.
وجوابٌ ثانٍ: وهو أن يكون التقدير: يجادلونك في الحق كما كرهوا إخراجك في الحق، لأنّ فيه هذا المعنى وإن قدم ذكر الإخراج.
وجوابٌ ثالث: وهو أن يعمل فيه معنى الحق بتقدير: هذا الذكر الحق كما أخرجك ربك من بيتك بالحق.
ويقال: لِمَ جاز أن يكره المؤمنون ما أمر الله تعالى به من الإخراج؟
وفيه جوابان:

(1/134)


أحدهما: أنّه تكره الطباع من طريق المشقة التي تلحق.
والثاني: أنّهم كرهوا قبل أن يعلموا أنّ الله تعالى - عز اسمه - أمر به، أو أنّ النبي عليه السلام عزم عليه. فلما علموا أرادوه.
والقول الأول أبين، وقوله تعالى: (كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ).
* * *

قوله تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ)
يقال: بمَ قتلهم الله تعالى؟
والجواب: بإعانته للمؤمنين، وإلقاء الرعب في قلوب المشركين، وجاء في التفسير عن ابن عباس والسُّدِّي وعروة: أنّ النبي صلى الله علبه وسلم قبض قبضة من التراب فرماها في وجوههم وقال: (شاهت الوجوه) فبثها الله على أبصارهم حتى شغلهم بأنفسهم.
ويقال: كيف جاز نفي الفعل عنه، وقد فعل؟
وفي هذا جوابان:
أحدهما: أنّه أثبته تعالى لنفسه لقوة السبب المؤدي إلى المسبب.
والثاني: أنّه أثبته للنبي عليه السلام بالاكتساب. ونفاه عنه لأنّه الفاعل في الحقيقة فأثبته لنفسه تعالى.
* * *

قوله تعالى: (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ)

(1/135)


جاء في التفسير أنّ القائل هو "النضر بن الحارث بن كلدة" ويروى ذلك عن سعيد بن جبير ومجاهد، وذلك أنّه قال: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، وأهلكنا ومحمداً ومن معه. فأنزل الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي: وفيهم قوم يستغفرون، يعني المسلمين، يدل على ذلك قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)، ثم قال: (وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ) خاصة (وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ)، يعني المسلمين. فعذبهم الله بالسيف بعد خروج النبي عليه السلام. وفي ذلك نزلت: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ). وهذا معنى قول ابن عباس، وقال مجاهد في قوله: (وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) علم الله أنّ في أصلابهم من يستغفر.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لم طلبوا العذاب من الله تعالى بالحق، وإنما يطلب بالحق الخير والثواب والأجر؟
والجواب: أنّهم كانوا يعتقدون أنّ ما جاء به النبي عليه السلام ليس بحق من الله، وإذا لم يكن كذلك لم يصبهم شيء.
ويقال: لِمَ قال (أَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ)، والإمطار لا يكون إلا من السماء؟.
وفي هذا جوابان:
أحدهما: أنّه يجوز أن يكون إمطار الحجارة من مكانٍ عالٍ دون السماء.
والثاني: أنّه على طريق البيان بـ (من).

(1/136)


وقرئ: (وإِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ) بالنصب على أنّه خبر كان، و (هو) فصل.
وقرئ: (إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقُّ) بالرفع على أنّ (هو) مبتدأ، و (الْحَقُّ) خبره، والجملة خبر كان، ومثل ذلك (وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ)، وقرئ (وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمُونَ)، وكذلك قوله: (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) و (كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبُ) على ما فسرنا.
* * *

(1/137)