إعراب القرآن للأصبهاني

وَمِنْ سُورَةِ (الْأَعْرَافِ)
قوله تعالى: (وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ)
الخلق: التقدير، والتصوير: جعل الشيء على صورة من الصور. والصورة: بنيةَ على هينةٍ ظاهرة.
ومما يسأل عنه أن يقال: كيف جاء (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا)، والقول كان قبل خلقنا وتصويرنا؟
وعن هذا ثلاثة أجوبة:
الأول: أنّ المعنى خلقنا آبائكم، ثم صورنا آبائكم. وهذا يروى عن الحسن من كلام العرب: نحن فعلنا بكم كذا وكذا، وهم يعنون أسلافهم، وفي التنزيل: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) أي ميثاق أسلافكم الذين كانوا على زمن موسى عليه السلام.
والثاني: أنّ المعنى خلقنا آدم ثم صورناكم في ظهره، وهو قول مجاهد.
والثالث: أنّ الترتيب وقع في الإخبار. كأنّه قال ثم إنا نخبركم أنا قلنا للملائكة، كما تقول: أنا راجل ثم أنا مسرع، وهذا قول جماعة من النحويين منهم: علي بن عيسى والسيرافي وغيرهما، وقال الأخفش: (ثم) هاهنا بمعنى (الواو)، وأنكره الزجاج. وقال الشاعر:
ْسألتُ ربيعَةَ مِن خَيْرِهَا ... أُباً ثُمَّ أُمًّا فَقالت لَمهْ
أي ليجيب أولا عن الأب ثم الأم.

(1/127)


قوله تعالى: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ)
الأعراف: المواضع المرتفعة؛ أخذ من عرف الفرس، وكل مرتفع من الأرض عرف، قال الشماخ:
فظلَّتْ بأعرافٍ تَعادَى كأنَّها ... رِماحٌ نَحاها وِجْهةَ الريحِ راكزٌ
والحجاب: الحاجز المانع من الإدراك، ومنه قيل حاجب الأمير، وقيل للضرير " محجوب ".
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: من أصحاب الأعراف؟
وفي هذا أجوية:
أحدها: أنّهم فضلاء المؤمنين، وهو قول الحسن ومجاهد.
وقيل: هم الشهداء، وهم عدول الآخرة.
وقيل: هم ملائكة يُرون في صورة الرجال، وهو قول أبي مجلز.
وقيل: هم قوم أبطأت بهم صغائرهم إلى آخر الناس، وهو قول حذيفة
وقيل: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، وقوله: (لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ) قيل هم أصحاب الأعراف، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة.
وقيل: هم أهل الجنة قبل أن يدخلوها، وهو قول أبي مجلز.

(1/128)


قوله تعالى: (وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً)
واعد: فاعل من الوعد. وموسى: اسم أعجمي لا ينصرف للتعريف والعجمة.
قال السُّدِّي: أصله (موشا) فـ (مو): الماء، و (شا): الشجر، قال: وذلك أنّ جواري امرأة فرعون وجدنه بين ماء وشجر، فسمي باسم المكان الذي وُجِد فيه.
وقال غيره: معناه من الماء رفعتك.
وجمع (موسى) (موسون) في الرفع و (موسين) وفي الجر والنصب، تحذف الألف لالتقاء الساكنين، وترك الفتحة تدل عليها، هذا مذهب البصريين. وقال الكوفيون: يقال في جمعه (موسون) مثل قولك قاضون.
فأما موسى الحديد فيقال في جمعه (مواس)، قال الشاعر:
عَذبوني بعذاب قَلعوا جَوهَر راسِي
ثم زادُوني عَذاباً نَزَعُوا عَني طِسَاسِ
بالمدَى قُطّعَ لحمِي وبأطرافِ المواسي
وهي مؤنثة، قال الشاعر:
فإِن تَكُنِ الْمُوسَى جَرَتْ فوقَ بَظْرِها ... فَمَا وُضِعْتْ إِلا ومَصَّانُ قاعِدُ
واختلف في اشتقاقها:
فقال البصريون: هي (مُفْعَل) من أحد شيئين إما من أوسيت الشعر إذا حلقته، أو من أسوت الشيء إذا أصلحته، فعلى القول الأول تكون الواو أصلية، والألف في آخره منقلبة عن ياء، وعلى القول الثاني تكون الواو منقلبة عن همزة، والألف منقلبة عن واو.

(1/129)


وقال الكوفيون: هي (فُعْلىَ) من ماس يميس، فعلى هذا القول تكون الواو منقلبة عن ياء، لسكونها، وانضمام ما قبلها، والألف زائدة للتأنيث. والإتمام: التكميل، والميقات: الموقت.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: كيف كانت المواعدة هاهنا، والمواعدة إنما تكون من اثنين؟
وفي هذا جوابان:
أحدهما: أنّ (فَاعَل) قد يكون من واحد. نحو: عافاه الله، وعاقبت اللص. وطارقت النعل، فكذلك هاهنا.
والجواب الثاني: أنّ القول كان من الله تعالى، والقبول من موسى فصارت مواعدة.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لم قال (ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ)، ولم يقل: أربعين لَيْلَةً؟
وفي هذا أجوبة:
قال مجاهد وابن جريج ومسروق كانت العدة ذا القعدة وعشر ذي الحجة.
وقال غيرهم: واعده ثلاثين ليلة يصوم فيها ويتقرب بالعبادة، ثم أُتمت بعشر إلى وقت المناجاة.
وقيل: واعده ثلاثين ليلة، فلم يصمها موسى عليه السلام، فأمره الله تعالى بعشر زيادة عليها؛ ليصوم فيها لتكون مناجاته بعقب صوم؛ لأنَّ خلوف فم الصائم عند الله كرائحة المسك.
ويقال: لم قال (فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)، وقد دل ما تقدم على هذه العدة؟
قيل: للبيان الذي يجوز معه توهم أتممنا الثلاثين بعشر منها كأنّه كان عشرين ثم أتم بعشر فتم ثلاثون.
* * *

قوله تعالى: (وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ)

(1/130)


الاتخاذ: افتعال من الأخذ. والحلي: ما كان للزينة من الذهب والفضة. وقيل: إن العجل عُمِل من الذهب والفضة.
والعجل: ولد البقرة القريب العهد بالولادة. واشتقاقه من التعجيل لصغره. وهو " العجول " أيضاً.
والجسد: كالجسم، والخوار: الصوت.
ويقال: كيف خار العجل، وهو مصوغ من ذهب؟
وعن هذا أجوبة:
قال الحسن: قبض السامري قبضة من تراب من أثر فرس جبريل عليه السلام يوم قطع البحر، فقذف ذلك التراب في العجل، فتحول لحماً ودماً.
وقال غيره: احتال السامري بإدخال الريح فيه حتى سُمِع له صوتَ كالخوار.
وقيل: بل لما جمع الحلي أتى بها إلى هارون عليه السلام، فقال له: إني أريد أن أصنع بهذا الحلي شيئًا ينتفع به بنو إسرائيل، فادع الله أن ييسره عليَّ، فدعا الله له، فأجرى الله تعالى في العجل ريحاً حتى خار.
* * *

قوله تعالى: (سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا)
ساء: فعل ماض لا يتصرف إذا أريد به معنى " بئس ".
ونصب (مثلًا) لأنّه تفسير للمضمر في ساء وبيان، وتقديره: ساء المثل مثلًا. وفي الكلام حذف آخر تقديره: ساء المثل مثلا مثل القوم، ثم حذف المثل الأول لدلالة المنصوب عليه، وحذف الثاني وأقام المضاف إليه مقامه للإيجاز ولأن المعنى مفهوم.

(1/131)


قوله تعالى: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا)
الإيتاء: الإعطاء.
وقرأ نافع وعاصم من طريق أبي بكر (جَعَلَا لَهُ شُرْكًا)، وقرأ الباقون (شُرَكَاءَ)، وأنكر بعضهم القراءة الأولى، وقال لو كان (شُرْكًا) لقال: جعلا لغيره شُرْكًا؛ لأنّه بمعنى " النصيب ".
والجواب عن هذا أنّ الزجاج قال المعنى: ذا شرك، كما قال (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ). وقيل: هو على التفحيش، أي: كان له شركاً. والشرك: مصدر، والشركاء: جمع شريك، ككريم وكرماء.
ويُسأل: إلى من يرجع الضمير في (جعلا)؟
وفيه ثلاثة أجوبة:
أحدها: أنّه يرجع إلى النفس وزوجها من ولد آدم لا إلى آدم وحواء، وهو قول الحسن وقتادة.
والثاني: أنّه يرجع إلى الولد الصالح، بمعنى المعافاة في بدنه، فذلك صلاح في خلقه لا في دينه، وثنى لأنّ حواء كانت تلد في كل بطن ذكراً وأنثى.
والثالث: أنّه يرجع إلى آدم: حواء، فإنهما جعلا له شريكا في التسمية، وذلك أنهما أقاما زمانا لا يولد لهما، فمر بهما الشيطان، ولم يعرفاه، فشكوا إليه، فقال لهما: إن أصلحت حالكما حتى يولد لكما أتسماينه باسمي؟ - فقالا: نعم، وما اسمك؟ قال: الحارث، فولد لهما، فسمياه (عبد الحارث). وهذا القول بعيد ولا يجوز مثل هذا على نبيٍّ من أنبياء الله تعالى، والقول الأول أوضح الأقاويل.

(1/132)


قوله تعالى: (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ)
الهمزة في قوله: (أَدَعَوْتُمُوهُمْ) همزة تسوية كالذي في قوله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ)، و (أم) معادلة لها.
وسأل على من يعود الضمير في قوله (أَدَعَوْتُمُوهُمْ)؟.
وفيه جوابان:
أحدهما: أنّه يعود إلى قومٍ من المشركين قد صبئوا بالكفر. وهو قول الحسن.
والثاني: أنّه يعود إلى الأصنام، وهو قول أهل المعاني.
ويُقال: لم قال (أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ)، ولم يقل: أم صمتم؟
والجواب: أنّه أتى بذلك لإفادة الماضي والحال؛ لأنَّ المقابلة قد دلت على الماضي، واللفظ دل على معنى الحال. قال الشاعر:
سواءٌ عليك الفقرُ أم بِتَّ ليلةً ... بأهل القباب مِنْ غَيرِ بن عامرِ
فقابل الفعل الماضي بالاسم المبتدأ، كما قوبل في الآية المبتدأ بالفعل الماضي، وساغ هذا فيه لأنّه جملة من مبتدأ وخبر قابلت جملة من الفعل والفاعل.
* * *

(1/133)