إعراب القرآن للأصبهاني

وَمِنْ سُورَةِ (الْأَنْعَامِ)
قوله تعالى: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3))
يسأل عن العامل في الظرف من قوله (فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ)؟.
وفي هذا جوابان:
أحدهما: أنّ (في) متعلقة بما دلّ عليه اسم الله عز وجل. لأنّه وقع موقع (المدبّر) كأنّه قال: وهو المدبر في السماوات وفي الأرض.
والجواب الثاني: أنّ تكون (في) متعلقة بمحذوف. كأنّه قال: وهو الله مدبر في السماوات وفي الأرض.
وقوله (في الأرض) معطوف على (في السماوات).
ويجوز فيه وجه آخر وهو أن يكون المعنى: وهو الله ملكه في السماوات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم، أي: ويعلم سركم وجهركم في الأرض، ولا يجوز أن يتعلق بالاستقرار؛ لأنّ ذلك يؤدي إلى احتواء الأمكنة عليه والله تعالى لا تحتويه الأمكنة ولا الأزمنة.
* * *

قوله تعالى: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ)
يقال كيف كذبوا مع علمهم بأن الكذب في الآخرة لا ينفعهم. وأن الله تعالى يعلم ذلك منهم؟. والجواب: أنّ الآخرة مواقف. فموقف لا يعلمون فيه ذلك. وموقف يعلمون فيه، وهو استقرارهم في النار، وقال الحسن: جروا على عادتهم في الدنيا لأنهم منافقون

(1/112)


ويجوز في (فتنتهم) الرفع والنصب:
فالرفع على أنّه اسم " تكن " و (إلا أنّ قالوا) الخبر.
والنصب على أن يكون خبراً و (إلا أنّ قالوا) الاسم. وهو الوجه؛ لأمرين:
أحدهما: أنّ الخبر أولى بالنفي، والاسم أولى بالإثبات.
والثاني: أنّ قوله (إلا أنّ قالوا) يشبه المضمر من قبل أنّه لا يوصف ولا يوصف به، والمضمرات أعرف المعارف، وإذا اجتمع في كان اسمان أحدهما أعرف من الآخر كان الأعرف اسماً لها والآخر خبراً لها وكذا المعرفة والنكرة تكون المعرفة اسماً والنكرة خبراً، قال الشاعر:
وقَد عَلم الأقوامُ ما كان داءَها ... بشَهْلان إلا الخزيُ ممن يقودُها
* * *
فصل:
وممّ يسأل عنه أن يقال: لِمَ أُنث (تكن) والاسم مذكر؟
والجواب: لأنّه وقع على مؤنث وهو (الفتنة)، وهى أقرب إلى الفعل مثل قول لبيد:
فمَضَى وقَدَّمها وَكَانَتْ عَادَةً ... مِنْهُ إِذا هِيَ عَرَّدَتْ إِقْدامُها
قال الزجاج: يجوز أن يكون التقدير في قوله إلا أنّ قالوا: إلا مقالتهم. فتؤنث لذلك، وهذا وجه جيد صحيح.
* * *

قوله تعالى (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ)

(1/113)


يقال: وقف يقف وقوفا. ووقف غيره يقفه وقفاً، وحكي عن أبي عمرو أنّه أجاز (ما أوقفك هاهنا) مع إخباره أنّه لم يسمعه من العرب، وهو غير جائز عند علمائنا.
ومما يسأل عنه أن يقال: لم جاز (ولو ترى) و " لو " إنما هي للماضي؟
والجواب: لأنّ الخبر لصحته وصدق المخبِر به صار بمنزلة ما وقع، وقد ذكرنا له نظائر.
ويُقال: " لو " فيها معنى الشرط فلمَ لم تجزم؟
قيل: لمخالفتها حروف الشرط، وذلك أنّ حروف الشرط ترد الماضي مستقبلا، نحو قولك: إن قُمت قُمتُ معك، كما تقول: إن تقم أقم معك، و " لو " لا تفعل ذلك الفعل، فلم تجزم لذلك.
ويُسأل عن جواب " لو "؟
والجواب: أنّه محذوف، وتقديره: لرأيت أمراً هائلًا، وهذه الأجوبة تحذف لتعظيم الأمر وتفخيمه، نحو قوله تعالى (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى)، يريد: لكان هذا القرآن، ومثله قول امرئ القيس:
وجَدِّكَ لو شيءُ أتانَا رسولُه ... سِواكَ ولكن لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعا
يريد: لو أتانا رسوله سواك لما جئنا.
وقرأ ابن عامر وعاصم في رواية حفص وحمزة (ولا نكذبَ، ونكونَ) نصب فيهما جميعاً، وقرأ الباقون بالرفع.

(1/114)


وفي النصب أوجه:
أحدها: أن يكون على إضمار (أنْ)، وهو الذي يسميه الكوفيون نصباً على الصرف، تقديره: وأن لا نكذبَ وأن نكونَ، وإنما احتجت إلى إضمار (أنّ) ليكون مع الفعل مصدراً، فتعطف مصدراً على مصدر، كأنّه في التقدير: يا ليتنا اجتمع لنا الرد وترك التكذيب مع الإيمان. ويجوز أن يكونوا قالوا على الوجهين جميعاً، فاكذبوا على الوجه الأول.
وأجاز الزجاج أنّ تكون (الواو) بمنزلة (الفاء) في الجواب، فيصير كقولك: لو رُددِنا لم نُكذب بآيات ربِّنا ولكُنَّا من المؤمنين فاكذبوا في هذا. وهو مذهب الكوفيين؛ لأنّ أكثر البصريين لا يجيز أن يكون الجواب إلا بالفاء.
وأما الرفع فعلى القطع والاستئناف، أي: ونحن لا نكذب بآيات ربِّنا رُددنا أو لم نرد.
قال سيبويه: دعني ولا أعود، أي: وأنا لا أعود على كل حال تركتني أو لم تتركني، ويدل عليه (وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).
ويجوز أن يكون على إضمار مبتدأ أي ونحن لا نكذب.
* * *

قوله تعالى: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)
الدابة: كل ما دبّ من الحيوان.
ومما يسأل عنه أن يقال: لِمَ قال (وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ) وقد علم أنّ الطائر لا يطير إلا بجناحيه؟

(1/115)


والجواب: أنّ هذا إنما جاء للتوكيد ورفع اللبس، لأنّه قد يقول القائل: طِر في حاجتي، أي: أسرع فيها، فجاء هذا التوكيد لإزالة اللبس. وهو كما نقول مشى برجليه.
ومعنى قوله: (إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ)، أي: في الحاجة وشدة الفاقة إلى مدبر يدبرهم في أغذيتهم وكسبهم ونومهم ويقظتهم وما أشبه ذلك.
ويُسأل عن قوله (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ)؟
وفيه جوابان:
أحدهما: أنّه قد أتى فيه بكل ما يحتاج إليه العباد في أمور دينهم مجملًا ومفصلًا.
والثاني: أنّه ذكر فيه جميع الاحتجاجات على مخالفيه.
* * *

قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ)
يُسأل: ما الشبه وما الشبه به في قوله (وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ)؟
وفيه جوابان:
أحدهما: التفصيل الذي تقدم في صفة المهتدين وصفة الضالين شبه بتفصيل الدلالة على الحق من الباطل في صفة غيرهم من كل مخالف للحق.

(1/116)


والثاني: أنّ المعنى كما فصلنا ما تقدم من الآيات لكم نفصله لغيركم.
وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم (وَلِيَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) بالياء ورفع اللام. وقرأ نافع بالتاء ونصب اللام، وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو وحفص عن عاصم بالتاء ورفع اللام.
فمن قرأ بالياء وضم اللام جعل (السبيل) فاعلا وذكَّره وهي لغة بني تميم. ومن قرأ بالتاء ونصب اللام جعل المخاطب فاعلا ونصب (السبيل) لأنّه مفعول تقديره: ولتستبين أنت يا محمد سبيل المجرمين. ومن قرأ بالتاء ورفع اللام جعل (السبيل) فاعلة وأنثها وهي لغة أهل الحجاز وقد روي في الشاذ. (وَلِيَسْتَبِينَ سَبِيلَ) بالياء وفتح اللام على تقدير: وليستبين السائل سبيل.
* * *

قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74))
الأصنام: جمع صنم، والصنم ماكان مصورا، والوثن ما كان غير مصور.
والآلهة: جمع إله، كإزار، وآزِره.

(1/117)


وفي (آزر) ثلاثة أقوال:
أحدها: أنّه اسم أب إبراهيم، وهو قول الحسن والسُّدِّي وسعيد بن جبير وابن إسحاق.
والثاني: أنّه اسم صنم، وهو قول مجاهد.
والثالث: أنّه صفة عيب قال الفراء معناه: معوج عن الدين.
وقيل: هو لقب له واسمه تارج.
وهو في هذه الأقوال مجرور الموضع على البدل من (أبيه) ولا ينصرف لأنّه أعجمي معرفة.
وأما على قول مجاهد فقال الزجاج يكون منصوبًا على إضمار فعل دل عليه الكلام، كأنّه قال: أتتخذ آزر إلهاً أتتخذ أصناما آلهة.
وقرئ في الشواذ (آزرُ)، وتقديره: وإذ قال إبراهيم لأبيه يا آزرُ أتتخذ أصناماً آلهة.
والعامل في (إذ) فعل مضمر تقديره (اذكر).

قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ)

(1/118)


البزوغ: البروز والطلوع. يقال: بزغ يبزغ بزوغاً. والأفول: الغيبوبة.
ومما يسأل عنه أن يُقال: ما في أفولها من الدلالة على أنّه لا يجوز عبادتها، وقد عبدها كثير من الناس مع العلم بذلك؟
والجواب: أنّ الأفول بعد الطلوع تغير والتغير صفة نقص ودلالة على أنّ للمغيَّر مدبرًا يدبره، وأنه مسخر محدث، وما كان بهذه الصفة وجب أنّ لا يعبد.
* * *
فصل:
ومما يُسأل عنه أن يقال: لِمَ لمْ يقل: هذه ربِّي، كما قال (بَازِغَةً)؟
والجواب: أنّ التقدير هذا النور الطالع ربِّي. ليكون الخبر والمخبر عنه جميعاً على التذكير، كما كانا جميعاً على التأنيث في (الشَّمْسَ بَازِغَةً)، هذا الذي قاله العلماء، وعندي أنّ قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً) إخبار من الله تعالى، وقوله (هَذَا رَبِّي) من كلام إبراهيم عليه السلام. والشمس مؤنثة في كلام العرب، فأما في كلام سواهم فيجوز أنها ليست كذلك، وإبراهيم عليه السلام لم يكن عربياً فحكى لنا الله تعالى على ما كان في لغته.
* * *
فصل:
ومما يسأل عنه أن يقال: لم أُنثت الشمس وذكر القمر؟
والجواب: أن تأنيثها تفخيم لها لكثرة ضيائها، على حد قولهم: نسابة وعلامة، وليس القمر كذلك، لأنّه دونها في الضياء.
ويُقَال: لم دخل الألف واللام فيها وهي واحدة، ولم يدخل في زيد وعمرو؟
قيل: لأنّ شعاع الشمس يقع عليه اسم الشمس. فاحتيج إلى التعريف إذا قصد إلى جرم الشمس أو إلى الشعاع، على طريق الجنس أو الواحد من الجنس. وليس زيد ونحوه كذلك.

(1/119)


قوله تعالى: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ)
يقال لم أقسموا، وما الآية التي طلبوا؟
والجواب: أنّهم أرادوا أن يتحكموا على النبي صلى الله عليه بأقسامهم، وسألوا أن يحول الصفا ذهبا.
وقيل: سألوا ما ذكره الله تعالى في الآية الأخرى من قوله: (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا) الآيات.
ومعنى قوله: (وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ) التنبيه على موضع الحجة عليهم في أنّه ليس لهم ما لا سبيل لهم إلى علمه، وقيل المخاطب بهذا المشركون، وهو قول مجاهد وابن زيد، وقيل المؤمنون، وهو قول الفراء وغيره.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (إنها) بالكسر، وقرأ عاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي بالفتح، قال ابن مجاهد وأحسب ابن عامر. وقرأ حمزة وابن عامر (تؤمنون) بالتاء، وقرأ الباقون بالياء.
فوجه الكسر: أنّ (إن) جواب هاهنا، لأنّه استئناف على القطع بأنهم لا يؤمنون، ولو فُتِحَتْ وأُعمل فيها (يشعركم) لكان عُذراً لهم.
وأما الفتح فعلى أن تكون (أنّ) بمعنى (لعل)، حكى الخليل: ائت السوق أنك تشتري لنا شيئا، وقال عديٌّ بن زيد:

(1/120)


أَعاذِلَ مَا يُدريكِ أَنَّ مَنِيَّتي ... إِلَى ساعةٍ فِي الْيَوْمِ أَو فِي ضُحى الغَدِ
والتقدير على هذا: لعلها إذا جاءت لا يؤمنون.
وقال الفراء تكون (لا) صلة. نحو قوله تعالى: (مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ)،
وكقوله تعالى: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ). وقال الأخفش التقدير:
وما يشعركم بأنها إذا جاءت يؤمنون، فجعل (لا) زأندة، وجعل (أنّ) في موضع نصب على حذف الجر.
* * *

قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117))
يقال: لِمَ جاز في صفة القديم تعالى (أعلم) مع أنّه لا يخلو أن يكون (أعلم) بالمعنى ممن يعلمه أو ممن لا يعلمه وكلاهما لا يصح فيه (أفعل)؟
والجواب أنّ المعنى: هو أعلم به ممن يعلمه. لأنّه يعلمه من وجوه تخفى على غيره، وذلك أنّه يعلم ما يكون منه وما كان وما هو كائن من وجوه لا تحصى.
وأما موضع (مَن) من الإعراب:
فقال بعض البصريين: موضعها نصب على حذف (الباء) حتى يكون مقابلا لقوله (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).

(1/121)


وقال الفراء والزجاج: موضعها رفع؛ لأنَّها بمعنى (أي) كقوله تعالى: (أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى) وهذه المسألة فيها خلاف. وسأشرحها في موضعها إن شاء الله.
قال أبو علي: (مَن) في موضع نصب بفعل مضمر يدل عليه (أعلم)، كأنّه قال: إن ربَّك أعلم يعلم من يضل عن سبيله.
وزعم قوم أن (أعلم) بمعنى (يعلم)، وهذا فاسد ولا يجوز أن يكون (مَن) في موضع جر بإضافة (أعلم)؛ لأنَّ (أفعل) لا يضاف إلا إلى ما هو بعضه، وليس ربنا تعالى بعض الضالين، ولا بعض المضلين فامتنع ذلك لذلك.

قوله تعالى: (النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)
المثوى: موضع الثواء، والثواء الإقامة، قال الله تعالى: (وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ)، قال الأعشى
لقد كانَ في حَوْلٍ ثَواءٍ ثَوَيْتُه ... تَقَضِّي لُباناتٍ وَيَسْأَمُ سائِمُ
والخلود: البقاء. يقال: خلد يخلد خُلداً وخلوداً، والرجل خالد. والخلد اسم من أسماء الجنة، ويقال: أخلد الرجل إذا أبطأ عنه الشيب، وخلد أيضاً، وكذلك أخلد إلى الأرض وخلد، ويقال: أصاب فلان خُلد الأرض إذا وجد كنزا.
ومما يسأل عنه أي يقال: ما معنى الاستثناء في قوله تعالى: (خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ)؟

(1/122)


وللعلماء في ذلك عشرة أجوبة:
أحدها: قاله ابن عباس وهو أنّه قال: لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله تعالى في خلقه بأن لهم جنة ولا ناراً، وهذا الاستثناء لأهل التوحيد دون أهل الكفر، وهو منقطع على هذا القول.
والجواب الثاني: عنه أيضاً وهو أنّه لأهل الإيمان، قال: الخلود البقاء فيها. ثم استثنى أهل التوحيد أنّهم لا يخلدون فيها كما يخلد أهل الكفر، وإنما يدخلونها فيقيمون فيها بقدر ذنوبهم ثم يخرجون.
والجواب الثالث: وهو له أيضاً قال: قد جعل الله أمد هَؤُلَاءِ القوم في مبلغ عذابهم إلى مشيئته، والاستثناء على هذا لأهل الكفر. وهو متصل.
والجواب الرابع: للفراء وهو أنّ العزيمة قد تقدمت بالخلود وهو لا يشاء تركه.
والجواب الخامس: لمحمد بن جرير وهو أنّه استثنى الزمان الذي هو مدة قيامهم من قبورهم إلى أن يصلوا إلى المحشر، لأنهم حينئذ ليسوا في جنة ولا نار.
والجواب السادس: للزجاج قال: أوجب لهم النار بقولها (النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا) ومقامهم في الحشر والوقوف للمحاسبة ليس هم في نار. وهو كالجواب الذي قبله.
والجواب السابع: أنّه على الزمان الذي هم فيه من قيامٍ في المحشر إلى أن يدخلوا النار، وهو استثناء من الخلود فيها وهو متصل.
والجواب الثامن: للزجاج أيضاً وجماعة معه قالوا: الاستثناء في الزيادة من العذاب لهم، أي: إلا ما شاء الله من الزيادة في عذابهم، والاستثناء على هذا القول منقطع، والنحويون مختلفون في تقديره: سيبويه يقدره بـ (لكن) وكذلك جميع أصحابه، والفراء يقدره بـ (سوى) وكذا من تابعه.

(1/123)


والجواب التاسع: قاله بعض أصحاب المعاني وهو أنّ (ما) في الآية بمعنى (مَن) والاستثناء منقطع، والمعنى: إلا من شاء الله إخراجه من النار، يعني الموحدين الذين يخرجون بالشفاعة.
وقيل: بل هو متصل و (ما) بمعنى (مَن) والتقدير: إلا من شاء الله أن يعذبه بأصناف العذاب، يعني الكفار. والاستثناء في هذين الجوابين من الأعيان، وعلى ما تقدم قبلها من الأزمان.
و (ما) قد يقع في معنى (من) قال الله تعالى: (إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا) أي: مَنْ، وقال: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) وكذلك (يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) وهو كثير. وحكى أبو زيد أنّ أهل الحجاز كانوا إذا سمعوا الرعد يقولون: سبحان ما سبَّحت له.
والجواب العاشر: ذهب إليه بعض المتكلمين قال المعنى: إلا ما شاء الله من الفائت قبل ذلك من الاستحقاق، كأنّه قال: خالدين فيها على مقدار مقادير الاستحقاق إلا ما شاء الله من الفائت قبل ذلك، والفائت من العقاب يجوز تركه بالعفو عنه، والاستثناء على هذا متصل.
قال بعض شيوخنا المعنى: إلا ما شاء الله من تجديد الجلود بعد إحراقها وتصريفهم في أنواع العذاب معها، أي خالدين فيها على صفة واحدة إلا ما شاء الله من هذه الأحوال والأمور التي ذكرت، و (ما) على بابها على هذا القول.
* * *

قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)

(1/124)


الشركاء هاهنا الشياطين، زينوا للمشركين وأد البنات وهو دفنهن وهن في الحياة خوفاً من الفقر والعار، هذا قول الحسن ومجاهد والسُّدِّي، وقيل: هم الغواة من الناس. وقيل: شركاؤهم في نعمتهم وأموالهم، وقيل: شركاؤهم في الإشراك والكفر وما يعتقدونه وينالون عنه، وقيل: هم قوم كانوا يخدمون الأوثان ويقومون بأمرها وإصلاح شأنها وما تحتاج إليه، وهذا قول الفراء والزجاج.
وفي هذه الآية أربع قراءات:
قراءة الجماعة (زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ)، ووجه هذه القراءة ظاهر. إلا ابن عامر فإنه قرأ (زُيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلَادَهِمْ شُرَكَائِهِمْ)، بضم " الزاي " ونصب " الأولاد " وجر " الشركاء "، فهذه الرواية المشهورة عنه.
ورويت عنه روايةٌ أخرى وهي جر " الأولاد " و " الشركاء " جميعا. فهذه ثلاث قراءات.
والقراءة الرابعة (وَكَذَلِكَ زُيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ)، بضم " الزاي " ورفع " قَتْلُ " وجر " الأولاد " ورفع " الشركاء " وأظنها قراءة أبي عبد الرحمن السُّلمي.
ووجه قراءة ابن عامر أنّه فرق بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول، كأنّه قال: قتل شركائهم أولادهم، والشركاء في المعنى فاعلون، وهذا ضعيف في العربية، وإنما يجوز في ضرورة الشعر نحو قول الشاعر:
فزجَجْتُها. . . . . متمكنا. . . زجَّ القَلوصَ أبي مزَادَهْ
وأما القراءة الثانية: فوجهها أنّه جعل " الشركاء " بدلا من " الأولاد " لمشاركتهم إياهم في النسب والميراث، ويقال إن الذي حمله على هذه القراءة أنّه وجد (شركائهم) في مصاحف أهل الشام بالياء.

(1/125)


وأما القراءة الرابعة: وهى شاذة، فعلى أنّه لما قال: (وَكَذَلِكَ زُيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلُ أَوْلَادِهِمْ)، قِيل: مَن زينه، قيل: شركاؤهم. أي: زينه شركاؤهم، ومثله قوله تعالى: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبَّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ)، على مذهب من قرأ (يُسبَّحُ) على ما لم يسم فاعله. وأنشد سيبويه:
لِيُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ ... ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطيح الطَّوائِحُ
كأنّه قال: ليبك يزيد. قيل: من يبكيه؟ قال: ضارعٌ لخصومةٍ.
* * *

(1/126)