إعراب القرآن للباقولي منسوب خطأ للزجاج

الباب الرابع والعشرون
هذا باب ما جاء في التنزيل، وقد أبدل الاسم من المضمر الذي قبله والمظهر، على سبيل إعادة العامل، أو تبدل «إن» و «أن» مما قبله فمن ذلك قوله تعالى: (وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) «1» أي: ما أمر الله بوصله، ف «أن» بدل من الهاء المجرورة، نظيره في «الرعد» في الموضعين «2» .
ودلت هذه الآي الثلاث، على أن المبدل منه ليس في تقدير الإسقاط لأنك لو قدرت ذلك، كانت الصلة منجردة عن العائد إلى الأول.
ومن إبدال المظهر من المضمر: ما ذهب إليه الأخفش في قوله:
(فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ) «3» . التقدير: فيقوم الأوليان.
وقد عز إبدال المظهر من المضمر عندهم وقل وجوده، حتى بلغ من أمرهم أنهم أخرجوه من بيت الفرزدق:
على حالة لو أن في القوم حاتما ... على جوده لظنّ بالماء حاتم «4»
__________
(1) البقرة: 27، الرعد: 35.
(2) الموضع الثاني من سورة الرعد: (وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) الآية: 21 و 25.
(3) المائدة: 107.
(4) البيت في الديوان (ص 842) :
على ساعة لو كان في القوم حاتم ... على جوده ضنت به نفس حاتم
وعلى هذه الرواية لا شاهد فيه.

(2/577)


/ فقالوا: «حاتم» مجرور، بدل من الهاء في «جوده» .
وفار فائر أحدهم، فقال: إنما الرواية: ما ضن بالماء حاتم.
برفع «حاتم» .
واستجاز الإقواء في القصيدة، حتى لا يكون صائراً إلى إبدال المظهر من المضمر، وقد أريتك هذا في هذه الآي، وأزيدك وضوحاً حين أفسر لك قوله: (أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا) «1» .
ألا ترى أنه قال: «لأولنا وآخرنا» فأبدل من النون والألف بإعادة اللام.
كما قال: (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) «2» فكرر اللام، لأن العامل مكرر في البدل تقديراً أو لفظاً.
ولهذا المعنى قال أبو علي في قوله: (ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) «3» في قراءة أبي عمرو، فألحق حرف الاستفهام، كان «السحر» بدلاً من المبتدأ، ولزم أن يلحق «السحر» الاستفهام، ليساوي المبدل منه في أنه استفهام.
ألا ترى أنه ليس في قولك: «السحر» استفهام، وعلى هذا قالوا:
كم مالك أعشرون أم ثلاثون؟ فجعلت «العشرون» و «الثلاثون» بدلا من «كم» .
__________
(1) المائدة: 114.
(2) الأعراف: 75. [.....]
(3) يونس: 81.

(2/578)


وألحقت «أم» لأنك في قولك: كم درهماً مالك [أعشرون أم ثلاثون] «1» ؟
مدع أنه أحد الشيئين.
ولا يلزم أن تضمر ل «السّحر» خبراً على هذا. لأنك إذا أبدلت من المبتدأ صار في موضعه، وصار ما كان خبراً لما أبدلت منه في موضع خبر البدل.
فأما قول أبي حيوة النميري:
وكأنها ذو جدتين كأنه ... ما حاجبيه معين بسواد «2»
لهق السراة كأنه في قهره ... مخطوطة يقق من الإسناد «3»
فإنه أبدل «الحاجبين» من الضمير، على حد قولك: ضربت زيداً رأسه.
فإن قلت: أبدل من الأول، وقدر الخبر عن الأول فلأن المبدل منه قد لا يكون في نية الإسقاط بدلالة إجازتهم: الذي مررت به زيد أبو عبد الله.
ولو كان البدل في تقدير الإسقاط بدلالة ما لا يعتد به، لم يجز هذا الكلام، فهو قول.
فإن قلت: حمل الكلام على المعنى، فلما كان «حاجباه» بعضه، حمل الكلام عليه، كأنه قال: كأن بعضه معين بسواد، فأفرد لذلك، فهو قول.
__________
(1) تكملة يقتضيها السياق.
(2) في هامش الأصل بإزاء هذا البيت «خ: معين بمداد» . يعني أنها رواية عن نسخة أخرى.
(3) وقد ورد الشاهد في الكتابي لسيبويه (1: 80) على غير هذا الوجه منسوبا للأعشى:
وكأنه لهق السراة كأنه ... ما حاجبيه معين بسواد
والبيت لم يرد في ديوان الأعشى.

(2/579)


وأما قوله تعالى: (عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ/ الْعَظِيمِ) «1» «عن» الثانية يتعلق بفعل محذوف أي: يتساءلون عن النبأ العظيم ولا تكون متعلقة ب «يتساءلون» هذه الظاهرة لأنه لو كان يكون بدلاً للزم إعادة الاستفهام كقولك: كم مالك أثلاثون أم أربعون؟
وحسن حذف الفعل لظهور الآخر.
وفي رفع (لِأَوَّلِنا) «2» وجه آخر سوى البدل، يكون من باب: تميمي أنا مبتدأ، «وآخران» خبره.
والتقدير: فالأوليان بأمر الميت آخران من أهله، وأهل دينه يقومان مقام الخائنين اللذين عثر على خيانتهما، كقولهم: تميمي أنا.
ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي فآخران يقومان مقامهما الأوليان.
ويجوز أن يكون رفعا ب «استحق» .
ويجوز أن يكون خبر «آخران» ، لأنه قد اختص بالوصف.
ويجوز أن يكون صفة بعد صفة ويكون الخبر (فَيُقْسِمانِ) «3» . وجاز دخول الفاء لأن المبتدأ نكرة موصوفة.
ومن البدل قوله: (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ) «4» . ف «أن» جرّ بدل من «كلمة» .
__________
(1) النبأ: 1 و 2.
(2) المائدة: 114.
(3) المائدة: 106.
(4) آل عمران: 64.

(2/580)


وقيل: بل «أن» رفع بالظرف، ويكون الوقف على «سواء» . أي: إلى كلمة سواء، ثم قال: (بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ) «1» .
ولا يجوز أن يكون الظرف وصفاً ل «كلمة» ، لأنه لا ذكر فيه من «كلمة» .
وقيل: بل الوقف «بينكم» ثم ابتدأ: وقال (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ) «2» أي: هي أن لا تعبدوا إلا الله، فأضمر المبتدأ.
ومن ذلك قوله تعالى: (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) »
«أن» جر بدل من «الذين» ، أي: ويستبشرون بأن لا خوف على الذين لم يلحقوا من خلفهم.
ومن ذلك قوله تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) «4» .
فيمن قرأ بالتاء يكون «أن» مع اسمه وخبره بدلاً من «الذين كفروا» .
وقال الفراء: هو كقوله:
(فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) «5» ، «أن» نصب بدل من
__________
(2- 1) آل عمران: 64.
(3) آل عمران: 170.
(4) آل عمران: 178.
(5) محمد: 18.

(2/581)


«الساعة» كما أن قوله: (لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ) «1» جر/ بدل من «الذين» .
وكما أن قوله: (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) «2» بعدها جر من «الذين» في قوله:
(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ) «3» .
ومن ذلك قوله تعالى: (كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ) «4» ، فيمن فتح، أن يكون بدلاً من «الرحمة» ، كأنه: كتب ربكم على نفسه أنه من عمل منكم الرحمة، لأنه من عمل منكم.
وأما فتحها بعد الفاء (فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) «5» ، فعلى أنه أضمر له خبراً، تقديره: فله أنه غفور رحيم، أي: فله غفرانه. وأضمر مبتدأ يكون «أن» خبره كأنه: فأمره أنه غفور رحيم.
وعلى هذا التقدير يكون الفتح فيمن فتح (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) «6» تقديره: فله أن له نار جهنم. إلا أن إضماره هنا أحسن لأن ذكره قد جرى في صلة «أن» .
__________
(1) الممتحنة: 8.
(2) الممتحنة: 9. [.....]
(3) الممتحنة: 9.
(5- 4) الأنعام: 54.
(6) التوبة: 63.

(2/582)


وإن شئت: فأمره أن له نار جهنم، فيكون خبر هذا المبتدأ المضمر.
ومثل البدل في هذا قوله: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) «1» . المعنى: وإذ يعدكم الله كون إحدى الطائفتين مثل قوله: (وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ) «2» .
ومثله قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) «3» ، أي: فله أن لله أو: فأمره أن لله «4» .
ومثله قوله: (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) «5» ، أي: فأمره أنه يضله.
ومن ذهب في هذه الآي إلى «أن» التي بعد الفاء تكرير، أو بدل من الأولى، لم يستقم قوله.
وذلك أن «من» لا يخلو من أن تكون للجزاء الجازم الذي اللفظ عليه، أو تكون موصولة، فلا يجوز أن يقدر التكرير مع الموصولة لأنه لو كانت موصولة لبقي المبتدأ بلا خبر.
__________
(1) الأنفال: 7.
(2) الكهف: 63.
(3) الأنفال: 41.
(4) في الأصل «أن الله» .
(5) الحج: 4.

(2/583)


ولا يجوز ذلك في الجزاء الجازم لأن الشرط يبقى بلا جزاء. فإذا لم يجز ذلك ثبت أنه على ما ذكرنا. على أن ثبات الفاء في قوله «فأن له» يمنع من أن يكون بدلاً.
ألا ترى أنه لا يكون بين البدل والمبدل منه الفاء العاطفة، ولا التي للجزاء.
فإن قلت: إنها زائدة. بقي الشرط بلا جزاء فلا يجوز إذن تقدير هاهنا، وإن جاءت في غير هذا الموضع.
/ وأما قوله تعالى: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ) «1» فإن جواب الشرط محذوف على ما تقدم. ومن جعل «أن» بعد الفاء بدلاً مما قبله، وجب أن يقدر زيادة الفاء.
وأما قوله: (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) «2» .
فالتقدير: أيعدكم أن إخراجكم إذا متم. فيكون المضاف محذوفاً، ويكون ظرف الزمان خبراً، ويكون «أنكم مخرجون» بدلاً من الأولى.
ويجوز أن يكون خبر «أن» الأولى محذوفاً، لدلالة خبر الثانية عليه، والتقدير: أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً تبعثون. فحذف الخبر لدلالة الثاني عليه.
__________
(1) التوبة: 63.
(2) المؤمنون: 35.

(2/584)


وأما قوله: (فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) «1» فيمن قرأ بالتاء- كان في «يخيل» ضمير «العصي» أو «الحبال» ، ويكون «أنها» بدلاً من ذلك الضمير، أي: تخيل إليه سعيها.
ومن ذلك قوله تعالى: (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) «2» . «أن» رفع بدل من «الجن» ، والتقدير: فلما خر تبين للإنس جهل الجن بالغيب.
أي: لما خر تبين أن لو كان الجن يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين.
وأما قوله: (كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) «3» .
فقوله: «أنّه من تولّاه» رفع ب «كتب» و «من» شرط، و «تولّاه» فى موضع الجزم ب «من» ، وقوله «فأنه يضله» جواب الشرط.
وإن شئت كان «من» موصولة و «تولّى» صلته، وقوله: «فأنه» دخلت الفاء في خبر «من» لأن الموصولة بمنزلة الشرط.
وفتحت «أن» من قوله «فأنه» لأن التقدير: فشأنه أنه يضله، فحذف المبتدأ.
__________
(1) طه: 66.
(2) سبأ: 14.
(3) الحج: 4.

(2/585)


وقول من قال: إن قوله: «فأنه يضله» بدل من «أنه من تولاه» كان خطأ، لأن الفاء لا تدخل بين البدل والمبدل منه.
وكذا قول من قال هو تكرير للأول: لا تدخل الفاء بين الاسمين.
وأما قوله: (آلم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا) «1» فقد قال أبو إسحاق: إن «أن» الأولى نصب/، اسم «حسب» وخبره، وموضع «أن» الثانية نصب من وجهين:
أحدهما- أن تكون منصوبة ب «يتركوا» ، فيكون المعنى: أحسب الناس أن يتركوا لأن يقولوا، و «بأن» ، فلما حذف الجر وصل «يتركوا» إلى «أن» فنصب.
ويجوز أن تكون «أن» الثانية العامل فيها «حسب» ، كأن المعنى على هذا، والله أعلم: أحسب الناس أن يقولوا آمنا وهم لا يؤمنون، والأول أجود.
قال أبو علي: لا يكون بدلاً، لأنه ليس هو الأول، ولا بعضه، ولا مشتملاً عليه، ولا يستقيم حمله على وجه الغلط. ولا يكون صفة، لأن «أن» لا يوصف بها شيء في موضع ولم يوصف هو، فإذا كان تعلقه بالحسبان لا يصح ثبت تعلقه بالتّرك.
__________
(1) العنكبوت: 1 و 2. [.....]

(2/586)


فأما قوله تعالى: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) «1» .
وزعم سيبويه أن قولهم «أنهم إليهم لا يرجعون» بدل من موضع «كم أهلكنا» .
فإن قال قائل: عن «كم» «2» إنما هي استفهام، فكيف يبدل منها ما ليس باستفهام؟.
فإنما ذلك لأن معنى «كم» هاهنا الخبر، والمعنى: يؤول إلى قوله:
ألم يروا أنهم إليهم لا يرجعون.
ولا يجوز أن يكون بدلاً من «كم» وحدها، لأن محل «كم» نصب ب «أهلكنا» وليس المعنى: أهلكنا أنهم لا يرجعون، لأن معنى «أنهم لا يرجعون» الاستئصال، ولا يصح أهلكنا بالاستئصال.
وإنما المعنى: ألم يروا استئصالهم، فهو بدل من موضع «كم أهلكنا» .
ومن ذلك قوله تعالى: (وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ) «3» . موضع «أن» رفع، لأنه بدل من «رجال» .
__________
(1) يس: 31.
(2) في الأصل: «فإن قال قائل عن فكم» .
(3) الفتح: 25.

(2/587)


والمعنى: لولا أن تطؤوا رجالاً ولا تعلق له بقوله: (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) «1» ، لأن «أن» الناصبة للفعل لا تقع بعد العلم وإنما تقع بعد العلم المشددة، أو المخففة من الثقيلة.
كقوله: (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى) «2» .
وقوله: (لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا) «3» .
وكقوله: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) «4» .
وكقوله: (أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ) «5» .
وكقوله: (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) «6» ، فيمن رفع.
ومن البدل قوله تعالى، في قراءة الكسائي: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ/ الْإِسْلامُ) «7» ، هو بدل من (أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) «8» ، أي: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام.
__________
(1) الفتح: 25.
(2) المزمل: 20.
(3) الجن: 28.
(4) التوبة: 63.
(5) طه: 89.
(6) المائدة: 71.
(7) آل عمران: 19.
(8) آل عمران: 18.

(2/588)


وجوز الكسائي أن يكون على حذف الواو، أي: وأن الدين، فهو محمول على أنه لا إله إلا هو.
ومن البدل قوله تعالى: (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ) ، «1» «من غم» بدل من «منها» ، و «الغم» مصدر: غممته، أي: غطيته.
ومنه قوله:
أتحقر الغم والغرقا
وهذا معنى قوله: (وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) «2» أي: قد عمهم العذاب وغمرهم.
ومن ذلك قوله تعالى: (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ) »
، فيمن فتح «أنا» أبدله من المجرور قبله.
ومن ذلك قوله تعالى: (ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) «4» ، «ذلك» الثانية بدل من «ذلك» الأولى.
ولا يكون «بما عصوا» بدلاً «5» من قوله (بِأَنَّهُمْ كانُوا) «6» لأن العصيان أعمّ من كفرهم، لقوله: (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ) «7» (وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا) «8» ، ولا تقول: مررت برجل فكيف امرأة «9» .
__________
(1) الحج: 22.
(2) الأعراف: 41.
(3) عبس: 24 و 25. [.....]
(4) البقرة: 61.
(5) في الأصل: «بدل» .
(6) البقرة: 61.
(7) النساء: 155.
(8) النساء: 161.
(9) في الأصل: «مررت بزيد رجل خلاف المرأة» . وما أثبتنا من الكتاب لسيبويه (1: 219) .

(2/589)


وقال الله تعالى: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) «1» ف «أن» بدل من «الياء» والمعطوف عليه.
وقد قال سيبويه: مررت بي المسكين، لا يجوز، وجاز هذا لأنه بدل اشتمال، هكذا زعم شارحكم، وليس بمستقيم.
والتقدير: واجنبني وبني من أن نعبد الأصنام، أي: من عبادة الأصنام، ف «أن» مفعول تعدّى إليه الفعل بالجار.
وقال: (وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها) «2» ، ف «أن يعبدوها» بدل من «الطاغوت» .
ومن ذلك قوله تعالى: (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالًا مِنَ اللَّهِ) «3» ، «نكالاً» بدل من (الْجَزاءَ) ولا يجوز أن يكون غير بدل لأن الفعل الواحد لا يعمل في اسمين كل واحد منهما مفعول له.
ومن ذلك قوله: (وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ) «4» .
__________
(1) إبراهيم: 35.
(2) الزمر: 17.
(3) المائدة: 38.
(4) النحل: 105 و 106.

(2/590)


قال أبو علي: لا يكون «من أكره» استثناء من قوله: «من كفر» لأنه مفرد، فإذن «من» بدل. وتقديره: أولئك من كفر إلا من أكره.
ومن ذلك قوله تعالى: (جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ) «1» بدل من (يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) . «2» وإن شئت كان نصباً على المدح.
ومن ذلك قوله: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) «3» أي: لكن/ أخرجوا بهذا القول.
والمعنى: أخرجوا من ديارهم بغير حق يجب على الكفار إخراجهم به، وليس ببدل من «حق» ، لفساد المعنى، إذ لا يوضع موضع «حق» .
ومن ذلك قوله تعالى: (طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ) «4» أي: أنتم طوافون، و «بعضكم» بدل من الضمير في «طوافون» «5» ، أي: أنتم يطوف بعضكم على بعض، و «على» يتعلق بالطواف.
وحمله الطبري على «من» . أي: بعضكم من بعض. وقد تقدم هذا بأتم من هذا.
__________
(1) مريم: 61.
(2) مريم: 60.
(3) الحج: 40.
(4) النور: 58. [.....]
(5) في الأصل: «طوافين» .

(2/591)


وأما قوله تعالى: (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ) ، «1» لا يكون اللام في «لمن» بدلاً من اللام في «لكم» .
ألا ترى أنه لم يجز: بك المسكين، كأن الأمر: بي المسكين، لكن يكون صفة «للأسوة» .
ويجوز أن يكون متعلقاً ب «حسنة» ، أي حسنت لهم كقولك:
حسنت بهم.
ومثله: (الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) «2» بعد قوله (لَيَجْمَعَنَّكُمْ) «3» لا يكون البدل من «الذين» .
وجوز الأخفش كونه بدلاً وليس بالصحيح.
وأما قوله تعالى: (وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً) «4» .
فقوله: «لبيوتهم» بدل من قوله: «لمن يكفر» وكرر اللام كما تقدم الآي الأخر.
وأما قوله: (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) «5» إلى قوله:
(أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ) «6» فقد زعموا أن قوله: «ألا تعلوا» بدل من قوله:
«كتاب» .
__________
(1) الأحزاب: 21.
(3- 2) الأنعام: 12.
(4) الزخرف: 33.
(5) النمل: 29.
(6) النمل: 31.

(2/592)


والتقدير: إني ألقي إلي. أن لا تعلوا علي.
واضطرب كلام أبي إسحاق «1» في هذا فزعم أن التقدير: إني ألقي إلي كتاب بأن لا تعلوا علي، أي: كتب إلي بأن لا تعلوا علي.
وهذا الكلام منه محتمل إن عنى أن قوله: «أن لا تعلوا علي» متعلق بنفس قوله: «كتاب» فهو خطأ لأن «كتاباً» مصدر، وقد وصف بقوله:
«كريم» فلا يبقى من صلته شيء بعد كونه موصوفاً.
وإن أراد: أن «كتابا» دل على «كتب» ، و «أن لا تعلوا علي» متعلق «بكتب» الذي دل عليه «كتاب» فهو وجه.
وسها الفارسي عن هذا الكلام في «الإغفال» «2» .
وأما قوله تعالى: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) «3» فاعتراض بين البدل والمبدل منه.
وأما قوله تعالى: (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) «4» فيمن فتح، فإنه/ يجوز أن يكون موضع «أنا» رفعاً بدلاً من اسم «كان» ، والتقدير: انظر كيف كان تدميرنا إياهم.
ويجوز أن يكون على تقدير: فهو أنا دمرناهم.
ويجوز أن يكون على تقدير: لأنّا دمّرناهم.
__________
(1) هو: أبو إسحاق إبراهيم بن السري الزجاج (311 هـ) . ومن كتابي: معاني القرآن.
(2) يعني: كتاب أبي علي الحسن بن أحمد الفارسي (377 هـ) وهو: الإغفال فيما أغفله الزجاج من المعاني.
(3) النمل: 30.
(4) النمل: 51.

(2/593)


ولا يجوز أن يكون بدلاً من «كيف» لأنه لا حرف استفهام معه.
ويجوز أن يكون «كيف» ظرفا ل «كان» ، ويكون «عاقبة» اسم «كان» :
و «أنا دمرناهم» خبره.
وقد ذكرنا هذا في «البيان» «1» .
وأما قوله: (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا) «2» ، فيجوز: أن يكون على تقدير: هي أن كذبوا وعلى تقدير: لأن كذبوا.
ويجوز أن يكون بدلاً من «السوءى» سواء جعلت «السوءى» اسم «كان» أو خبره، على حسب اختلافهم في «عاقبة الذين» .
فأما قوله تعالى: (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ) «3» ، بالكسر والفتح.
فالفتح على إيقاع النداء عليه أي: نادته بأن الله والكسر على: قال:
إن الله.
قال «4» : وفي حرف عبد الله: (فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب يا زكريا إن الله) «5» .
__________
(1) البيان «اسم لكتب نحصّى منها» :
أ- البيان في إعراب القرآن لابن الأنباري: أبي البركات عبد الرحمن بن محمد المتوفي سنة سبع وسبعين وخمسمائة (577 هـ) .
ب- البيان في شواهد القرآن لأبي الحسن علي بن الحسن الباقول المتوفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة (535 هـ) .
ج- البيان في تأويلات القرآن للحافظ أبي عمر ويوسف بن عبد البر (463 هـ) .
د- البيان في غريب القرآن للفرغاني أبي عبد الله محمد بن أبي بكر بن يوسف (591 هـ) .
هـ- البيان في تفسير القرآن لسراج الدين محمد المخزومي (885 هـ) .
(2) الروم: 10.
(5- 3) آل عمران: 39.
(4) يريد: أبي إسحاق الزجاج. [.....]

(2/594)


فهذا يوجب الكسر لقوله: (نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) «1» إلى قوله: (يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ) فكسر لأن ما بعد النداء مبتدأ.
وقال في قوله: (نُودِيَ يا مُوسى) «2» : أي: (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) «3» فالكسر على قياس قراءة عبد الله، الوجه.
قال: ولا يكون «يا موسى» قائماً مقام الفاعل، ولا «إني أنا ربك لأنهما جملتان، والجملة لا تكون فاعلة.
وهذا منه خلاف قول سيبويه حين جوز في (لَيَسْجُنُنَّهُ) «4» أنه فاعل «بدا» ، وقد بينته «في التتمة» فلا يحتاج إلى إضمار المصدر في «نودي» .
كما لا يضمر سيبويه «بدا» في قوله «ليسجننه» [بعد قوله] (ثُمَّ بَدا) «5» .
وأما قوله: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) «6» بالفتح والتشديد، عن الزيات والأعمش، وهما يقرآن: (إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) «7» بالكسر فقد سهوا بأسرهم.
وعندي أنه محمول على المعنى لأنه [لما] كان قال: (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) «8» ، وكان معناه: افعل ذلك لأنك بالوادي المقدس، جاز أن يقول: (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) «9» ، أي اخلع: نعليك لهذا ولهذا.
وأين هم من هذا؟ لم يتأملوا في أول/ الكلام، ولم ينظروا في قراءة الزيات، والله أعلم.
__________
(1) القصص: 30.
(2) طه: 11.
(3) طه: 12.
(4- 5) يوسف: 35.
(9- 6) طه: 13- وهي قراءة للزيات.
(7- 8) طه: 12.

(2/595)