إعراب القرآن للباقولي منسوب خطأ للزجاج

الباب المتم الثلاثين
هذا باب ما جاء في التنزيل وقد حمل فيه اللفظ على المعنى وحكم عليه بما يحكم على معناه لا على اللفظ وقد ذكر ذلك سيبويه في غير موضع، وأنشد فيها أبياتاً، ربما نسوقها لك بعد البداية بالآي.
فمن ذلك قوله تعالى:
(إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) «1» .
من وقف على قوله «فاقع» وجعل «فاقعا» تابعا ل «صفراء» ابتدأ «لونها» ورفعها بالابتداء، وجعل قوله «تسر الناظرين» خبراً عنها.
وإنما قال «تسر» ولم يقل: يسر حملاً على المعنى لأن قوله «لونها» :
صفرتها فكأنه قال: صفرتها تسر الناظرين.
ومثله قوله تعالى: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) «2» .
فعدّى «رفثا» ب «إلى» حملاً على الإفضاء، وكما قال: (أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) «3» كذا قال: (الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) «4» .
__________
(1) البقرة: 69.
(4- 2) البقرة: 187.
(3) النساء: 21. [.....]

(2/616)


ومثل ذلك قول أبي علي في قوله تعالى: (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) «1» .
ثم قال: (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ) «2» فقال: هذا محمول على المعنى لأنه لما قال:
(وَلا تُؤْمِنُوا) «3» كأنه قال: أجحدوا أن يؤتي أحد مثل ما أوتيتم؟
ومثله: (وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) «4» فعدّاه ب «من» .
كأنه قال: ونجيناه من القوم الذين كذبوا.
وقال: (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا) «5» ، كأنه قال: من يعصمنا من بأس الله إن جاءنا؟
وقال: (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) «6» ، فحمله على الإحسان، كأنه قال:
وتحسنوا إليهم.
ومن هذا الباب قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ) «7» إلى قوله (وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ) «8» . «في الرقاب» لم يعطف على «الفقراء» لأن المكاتب لا يملك شيئا، وإنما ذكر لتعريف الموضع، و «الغارمين» عطف على «الفقراء» إذ لا يملكون، «وفي سبيل الله» مثل قوله «وفي الرقاب» لأن ما يخرج في سبيل الله يكون فيه
__________
(1) آل عمران: 73.
(2) آل عمران: 73.
(3) آل عمران: 73.
(4) الأنبياء: 77.
(5) غافر: 29.
(6) الممتحنة: 8.
(8- 7) التوبة: 60.

(2/617)


ما لا يملك المخرج فيه، مثل بناء القناطر، وعقد الجسور، وسد الثغور، وقوله: «وابن السبيل» عطف على اللام في «الغارمين» أو في «ابن السبيل» لم يكن سهلاً. والمكاتب عبد لقوله:
(هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) «1» .
ومن هذا الباب/ قوله تعالى: (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) «2» فيمن رفع قوله «غيره» .
وكذلك (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ) «3» فيمن رفع.
وكذلك قوله: (وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ) «4» فيمن رفع. كان ذلك كله محمولاً على المعنى إذ المعنى: ما لكم إله غيره، وهل خالق غير الله، وما يعزب عن ربك مثقال ذرة.
ومثله: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) «5» . ثم قال:
(وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى) «6» ، لأن معنى قوله: أخذ الله ميثاق بني إسرائيل، وأخذ الله ميثاقا من بني إسرائيل، واحد فجاء قوله «ومن الذين قالوا» على المعنى، لا على اللفظ.
__________
(1) الروم: 28.
(2) الأعراف: 59.
(3) فاطر: 3.
(4) يونس: 61.
(5) المائدة: 12.
(6) المائدة: 14.

(2/618)


ومن ذلك قوله تعالى: (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي) «1» ، أي: هذا الشخص أو: هذا المرئي.
وكذلك قوله تعالى: (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ) «2» ، لأن الوعظ والموعظة، واحد.
وقالوا في قوله تعالى: (إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) «3» : إنه أراد ب «الرحمة» هنا: المطر، ويجوز أن يكون التذكير هنا إنما هو لأجل «فعيل» ، على قوله:
بأعين أعداء وهن صديق «4»
وقوله:
... لا عفراء منك قريب «5»
وأما قوله تعالى: (بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)
«6» ، فإنه حمله على «النفس» لأن «الإنسان» و «النفس» واحد، وقيل: بل التاء للمبالغة، وقيل: بل التقدير: عين بصيرة فحذف الموصوف.
وقال مجاهد: بل الإنسان على نفسه شاهد: عينه ويداه ورجلاه، فيكون «الإنسان» مبتدأ، والظرف فيما ارتفع به خبر، والهاء العائد من الجملة إلى المبتدأ، وهو المجرور بالإضافة، كما تقول: زيد في داره عمرو.
وعكس الأول قول الحطيئة:
ثلاثة أنفس وثلاث ذود ... لقد جار الزّمان على عيالى
__________
(1) الأنعام: 78. [.....]
(2) البقرة: 275.
(3) الأعراف: 56.
(4) عجز بيت لجرير، صدره:
نصبن الهوى ثم ارتمين قلوبنا
(اللسان: صدق) .
(5) جزء من بيت، والبيت بتمامه:
ليالي لا عفراء منك بعيدة ... فتسلى ولا عفراء منك قريب
(اللسان: قرب) .
(6) القيامة: 14.

(2/619)


حمل «الأنفس» على «الأشخص» كأنه قال: ثلاثة أشخص.
ومنه قوله تعالى: (فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) «1» ، أنث «العشر» لما كان «الأمثال» بمعنى: الحسنات، حمل الكلام على المعنى.
ومن ذلك قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ) «2» ، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ) «3» ، (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ) «4» ، (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) «5» ، / عدي «ترى» ب «إلى» حملاً على النظر كأنه قال: ألم تنظر.
وإن شئت كان المعنى: ألم ينته علمك إلى كذا؟.
وعكس هذا قوله: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) «6» ولم يقل: إلى ملكوت، لأن المعنى: أو لم يتفكروا في ملكوت السموات.
ومن الحمل على المعنى قوله: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) «7» بعد قوله:
(إِلَى الَّذِي حَاجَّ) «8» كأنه قال: أرأيت كالذي حاج إبراهيم في ربه، أو كالذي مر على قرية فجاء بالثاني على أن الأول كأنه قد سيق كذلك.
ومنه قوله تعالى: (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ) «9» إلى قوله: (فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ) «10» ، لأن معناه: إن يؤخرنى أصدق وأكن، فحمل «أكن» على موضع «فأصدق» لأنه في موضع الجزم لما كان جواب «لولا» .
__________
(1) الأنعام: 160.
(2) البقرة: 243.
(3) البقرة: 246.
(4) البقرة: 258.
(5) الفرقان: 45.
(6) الأعراف: 185.
(7) البقرة: 259.
(8) البقرة: 258.
(9) المنافقون: 10. [.....]
(10) المنافقون: 10.

(2/620)


ومن ذلك قوله تعالى: (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً) «1» . «الهاء» في «إليه» يعود إلى ما تقدم ذكره، من اسم الله، والمعنى: ويهديهم إلى صراطه صراطاً مستقيماً.
كما قال: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ) «2» ، وإن حملت «صراطاً» على أنه لما قال: (وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ) «3» دل هذا الكلام على انه قال: يعرفهم، فنصب «صراطاً» على أنه مفعول لهذا الفعل المضمر، والأول أشبه.
ومن ذلك قوله: (دِيناً قِيَماً) «4» ، يحتمل ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه لما قال: (إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) «5» ، استغنى بجري ذكر الفعل عن ذكره ثانياً، فقال «ديناً قيماً» ، أي: هداني ديناً قيماً كما قال: (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) «6» .
وإن شئت نصبته على «اعرفوا» ، لأن هدايتهم إليه تعريف لهم، فحمله على «اعرفوا» .
و «دينا قيماً» إن شئت حملته على الإتباع كأنه قال: اتبعوا ديناً قيماً والتزموه، كما قال: (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) » .
ومن ذلك قوله تعالى: (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) «8» .
__________
(1) النساء: 175.
(2) الشورى: 52 و 53.
(3) النساء: 175.
(4) الأنعام: 161.
(5) الأنعام: 161.
(6) فاتحة الكتاب: 5.
(7) الأعراف: 3.
(8) الحج: 23.

(2/621)


قال أبو علي: وجه الجر في «ولؤلؤ» أنهم يحلون أساور من ذهب ومن لؤلؤ أي منهما.
وهذا هو الوجه لأنه إذا نصب فقال: (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) «1» حمله على: ويحلون لؤلؤاً، واللؤلؤ إذا انفرد من الذهب والفضة لم يكن حلية.
فإن قلت:
/ فقد قال الله تعالى: (حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وتَسْتَخْرِجُونَ) «2» فعلى أن يكون «حلية» إذا وضع في الذهب والفضة صار حلية، كما قال في العصير (إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً) «3» لأنه قد يستحيل إليها بالشدة كما يكون ذلك حلية على الوجه بخلافه.
ويحتمل النصب وجهاً آخر، وهو أن تحمله على موضع الجار والمجرور لأن موضعهما نصب.
ألا ترى أن معنى «يحلون فيها من أساور» «4» : يحلون فيها أساور، فتحمله على الموضع.
وقيل في قوله تعالى: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) «5» - إن «من» دخلت، لأن معنى قوله: «أحرص الناس» :
أحرص من الناس، فقال: (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) حملاً على المعنى.
وقد ذكرنا ما في هذا في حذف الموصوف.
__________
(1) الحج: 23.
(2) فاطر: 12.
(3) يوسف: 36.
(4) الحج: 23.
(5) البقرة: 96. [.....]

(2/622)


ومن الحمل على المعنى قوله: (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ) «1» ، والمتقدم ذكر الوصية ولكن معناه الإيصاء، أي: من بدل الإيصاء.
كقوله: (وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ) «2» ثم قال: (فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ) «3» حملاً على الحظ والنصيب.
ومن ذلك قوله تعالى: (ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) «4» ، و (ما لَنا لا نَرى رِجالًا) «5» ، لما كان المعنى في قولك: مالى لا أراه وما لنا لا نراهم، أخبرونا عنهم صار الاستفهام محمولاً على معنى الكلام، حتى كأنه قال: أخبروني عن الهدهد، أشاهد هو، أم كان من الغائبين؟.
وكذلك الآية الأخرى، فيمن وصل الهمزة ولم يقطعها في قوله:
(أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا) «6» .
وكما استقام الحمل على المعنى في هذا النحو كذلك حمل الآية عليه، فيما ترى أنه مذهب أبي الحسن.
يعني قوله: (إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ) «7» .
ومن ذلك قوله: (وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) «8» .
__________
(1) البقرة: 181.
(2) النساء: 8.
(3) النساء: 8.
(4) النمل: 20.
(5) ص: 62.
(6) ص: 63.
(7) الحديد: 18.
(8) الحجر: 20.

(2/623)


«من» منصوب الموضع حملاً على المعنى لأن معنى (جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) : أعشناكم، وكأنه قال: وأعشنا من لستم له برازقين.
ويجوز أن يكون «من» مبتدأ- والخبر مضمر. والتقدير: ومن لستم له برازقين جعلنا لكم فيها معايش.
ومن ذلك ما قال سيبويه: قال: سألت الخليل عن قوله تعالى:
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماء فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) «1» ، قال: هذا واجب، وهو تنبيه، كأنك قلت: انتبه/ إن الله أنزل من السماء ماء، وكان كذا وكذا.
ومن ذلك قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) «2» فيمن قرأ بالنصب لأنه إنما ينصب إذا كان السؤال على القرض لو قال: أيقرض زيد فيضاعفه عمرو؟.
وفي الآية السؤال عن المقرض، لا عن الإقراض ولكنه حمل على لمعنى فصار السؤال عن المقرض، كالسؤال عن الإقراض.
ومن ذلك قوله: (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ
__________
(1) الحج: 63.
(2) البقرة: 245.

(2/624)


وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) «1» فيمن جزم «يكفر» حملاً على موضع الفاء لأن الفاء في موضع الجزم.
ومن الحمل على المعنى: (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ) «2» هو محمول على المعنى إذا جعلته يسد مسد الجواب لأن «ليس» لنفي الحال، والجزاء لا يكون بالحال تقديره: باينتم نساء المسلمين.
ويجوز أن يكون الجواب «فلا تخضعن» دون «لستن» ، و «لستنّ» أوجه.
ومن ذلك قوله: (مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ) «3» ، فيمن جزم حمله على موضع «الفاء» .
ومن ذلك قوله: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) «4» في قراءة الجمهور، غير أبي عمرو. لأن معنى: «من رب السموات» : لمن السموات؟ فقال: «لله» حملاً على المعنى.
كما أن من قال في الأول- وهو رواية العباس وأبي عمرو، (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) «5» حمل قوله: (لِمَنِ الْأَرْضُ) «6» على المعنى، كأنه قال: من رب الأرض؟ فقال: الله.
__________
(1) البقرة: 271.
(2) الأحزاب: 32.
(3) الأعراف: 186.
(4) المؤمنون: 86 و 87. [.....]
(5) المؤمنون: 85.
(6) المؤمنون: 84.

(2/625)


ومثله: (قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) «1» جواباً لقولهم:
(أَتَتَّخِذُنا هُزُواً) «2» . ولو حمل على اللفظ لقال: أن أكون من الهازئين.
وأما قوله تعالى: (وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) «3» .
فقد قال في التذكرة: إنه محمول على ما قبله من المصدر، والمصدر مفعول له، وهو: (يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) «4» أي: للغرور.
وغرورهم على ضربين:
إما أن يغري بعضهم بعضاً، أو يغروا جميعاً من يوسوسون له ويوالونه ممن لا يؤمنون.
فنقديره: للغرور، ولتصغي إليه أفئدة الذين لا يؤمنون.
والضمير في «إليه» ل «زخرف القول» . أو «لوحيهم» ، أو «ليرضوه» .
ولا يكون أن تحمله على الأمر، على قوله: / (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ) «5» لثبات الألف في الفعل، وليست بفاصلة، فتكون مثل (السَّبِيلَا) «6» .
فإذا كان كذلك لم يتجه إلا على هذا الذي ذكرنا أو على قول أبي الحسن، مع أن ذلك عزيز غامض ما علمته مر بي إلا هذا البيت الذي أنشده فيه.
قال وللقائل أن يقول: إن المقسم عليه محذوف مضمر، كأنه:
إذا قال قدني قلت آليت حلفة ... لتغنى عنّى ذا إناؤك أجمعا «7»
__________
(1) البقرة: 67.
(2) البقرة: 67.
(3) الأنعام: 113.
(4) الأنعام: 112.
(5) الإسراء: 64.
(6) الأحزاب: 67.
(7) البيت لحريث بن عتاب الطائي. (مجالس ثعلب 606) . ولتغني عني، أي لتبعده عني. ويروي:
لتغني، بفتح اللام والياء، على إرادة نون التوكيد الخفيفة. وذا إنائك، أي صاحب إنائك، يعني:
اللبن.

(2/626)


أي قلت: بالله لتشربن أو لتقتحمن جميع ما في الإناء فحذف «لتقتمحن» لدلالة الحال عليه، ولأن ما في الكلام من قوله: «لنغنى عني» ، وإن أجاز ذلك فيه، لم يكن فيه حجة.
قلت: الذي قال «بلام الأمر» في الآية هو الجبائي، ولم ينظر إلى إثبات الألف، ولم يعلم أن قوله «لا ترضاها» وأخواته من الضرورة كأنه استأنس بقراءة زبّان: (لا تخف دركاً ولا تخشى) «1» .
فزعم الفارسي أن ذاك للفاصلة ك (الظُّنُونَا) «2» و (السَّبِيلَا) «3» ، وليس قوله: «ولتصغي» فاصلة.
ومن ذلك ما ذهب إليه أبو علي في قراءة أبي عمرو في نصبه (وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا) «4» فزعم أنه محمول على قوله: (فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) «5» .
وأنت لا تقول: فعسى الله أن [يأتي بأن] «6» يقول الذين آمنوا ولكن حمله على المعنى، لأن معنى: فعسى الله أن يأتي بالفتح، [وفعسى أن يأتي الله بالفتح] «7» ، واحد.
وجوز فيه أن يكون بدلاً من قوله «أن يأتي» . أجزنا فيه قديماً أن يكون محمولاً على «الفتح» ، أي: وأن يأتي بالفتح ويقول المؤمنون.
كما قال الخليل في قوله تعالى: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا) «8» أنه محمول على «الوحى» «9» .
__________
(1) طه: 77.
(2) الأحزاب: 10.
(3) الأحزاب: 67.
(4) المائدة: 53.
(5) المائدة: 52. [.....]
(7- 6) التكملة من البحر (3: 509) .
(8) الشورى: 51.
(9) يريد: «وحيا» في قوله تعالى في هذه الآية السابقة من سورة الشورى: (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً ... أَوْ يُرْسِلَ) .

(2/627)


وكرواية هبيرة «فنجي» بالنصب. حملاً على «نصرنا» من قوله:
(جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ) «1» .
ومن ذلك قوله: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) «2» .
ومنه: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) «3» ، حمله على (يَعْدِلُونَ) «4» فعداه ب «عن» . وهذا النحو كثير.
ألا ترى أن سيبويه قال في قولهم: ألست أتيتنا فتحدثنا- بالرفع والنصب- فحمل مرة على اللفظ وأجاز النصب، وعلى المعنى فمنع النصب إذ معناه الإثبات.
ولهذا جاء: (أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ) «5» ، بخلاف قوله: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) «6» .
فجاء الاختلاف/ في الآيتين كما جاء الرفع والنصب في المسألة فحمل مرة على الإثبات، وأخرى على النفي ومن ذلك قوله: (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) «7» ، إن اللفظ لفظ النداء، والمعنى على غيره.
كما أن قوله: اغفر لنا أيتها العصابة، اللفظ على النداء، والمعنى على غير النداء، إنما هو الاختصاص.
__________
(1) يوسف: 110.
(2) الأعراف: 12.
(3) النور: 63.
(4) الأنعام: 1 و 150.
(5) هود: 78.
(6) الأعراف: 172.
(7) يس: 30.

(2/628)


قال أبو علي: مثل ما يكون اللفظ على شيء والمعنى على غيره قولهم:
لا أدري أقام أم قعد؟ ألا ترى أن اللفظ على الاستفهام والمعنى على غيره.
وكذلك قولهم: «حسبك» ، اللفظ لفظ الابتداء والمعنى على غيره.
وكذلك قولهم: اتقى الله امرؤ فعل خيراً يثب عليه اللفظ لفظ الخبر والمعنى معنى الدعاء.
وكذلك: (فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) «1» .
وإلى هذا النحو ذهب أبو عثمان في قولهم: ألا رجل ظريف؟ فقال:
اللفظ لفظ الخبر، والمعنى معنى التمني.
وليس هذا بسائغ لأن الكلام قد دخله ما منع هذا المعنى، ألا ترى أن هذا ارتفع بالابتداء، وقد دخل الكلام من المعنى ما أزال معنى الابتداء ألا ترى أن معنى الطلب قد أزال معنى الابتداء من حيث جرى مجرى:
اللهم غلاماً أي: هب لي.
وكذلك قولك: ألا رجل؟ بمنزلة قوله: هب لي وألا آخذ وألا أعطي، ونحو ذلك.
فإذا دخل هذا المعنى أزال معنى الابتداء وإذا زال معناه لم يجز ارتفاعه بالابتداء، لمعاقبة هذا المعنى له وإذا عاقبه ذلك وأزاله لم يجز أن يرتفع «أفضل» بأنه خبر لبطلان كون الأول أن يكون مبتدأ أوفي موضع الابتداء.
فالقول في ذلك قول سيبويه لهذه الآية.
__________
(1) مريم: 75.

(2/629)