إعراب القرآن للباقولي منسوب خطأ للزجاج

الباب الحادي والثلاثون
باب ما جاء في التنزيل من حذف «أن» وحذف المصادر، والفصل بين الصلة والموصول وهو من باب لطائف الصناعة، لأنهم زعموا أن «أن» موصولة، وحذف الموصول وإبقاء صلته منكر عندهم، ومع ذلك فقد جاء في التنزيل.
فمن ذلك قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ) «1» .
قالوا: التقدير: بأن لا تعبدوا إلا الله، فلما حذفت «أن» عادت «النون» .
وكذلك قوله: (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) «2» . تقديره: / بأن لا تسفكوا دماءكم، فحذف «أن» وعادت «النون» .
قالوا: ومثله قولهم: «تسمع بالمعيدي خير من أن تراه «3» » أي: أن تسمع.
ومن ذلك قوله تعالى: (كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ) «4» ، أي: بعد إيمانهم أن شهدوا، فحذفت «أن» ليصح عطفه على «إيمانهم» .
وإن شئت كان التقدير: بعد أن آمنوا وشهدوا، فتضع المصدر موضع «أن» ليصح عطف «شهدوا» عليه.
ومن ذلك قوله تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) «5» فيمن قرأ بالياء، أي: أن سبقوا، ليصح قيامه مقام المفعولين.
__________
(1) البقرة: 83.
(2) البقرة: 84.
(3) هذا مثل، يضرب لمن خبره خير من مرآه. (مجمع الأمثال 1: 113) . [.....]
(4) آل عمران: 86.
(5) الأنفال: 59.

(2/630)


ومن ذلك قوله تعالى: (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ) «1» ، فقال: «تأمروني» لغو، كقولك: هذا يقول ذاك بلغني، ف «بلغني» لغو، وكذلك «تأمروني» كأنه قال: فيما تأمروني وكأنه قال: فيما بلغني، وإن شئت كان بمنزلة:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى «2»
قال «س» «3» : «غير» منصوب ب «أعبد» على القول الأول، وعلى القول الثاني ب «تأمرونى» .
ولا يجوز انتصابه ب «أعبد» لأن «أعبد» فى صلة «أن» و «غير» قبله، ولا يعمل ما في الصلة فيما قبل الموصول.
«فا» «4» : يؤكد أنهم يراعون الحال الأولى، بعد حذف «أن» ما روى أبو عثمان المارنى عن قطرب: «أحضر الوغى» بنصب «أحضر» .
قال أبو سعيد «5» : أجود ما يقال فيه ما ذكره سيبويه عن الخليل، وهو نصب «غير» «بأعبد» ، و «تأمرونى» غير عامل، كما تقول: هو يقول ذلك فيما بلغني، وزيد قائم ظننت، كأنك قلت: هو يقول ذاك فيما بلغني، وزيد قائم فيما ظننت.
قال: وقال سيبويه: «وإن شئت كان بمنزلة:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
وهو ضعيف لأنه [يؤدي إلى أن] «6» يقرر «أعبد» بمعنى: عابداً غير الله، وفيه فساد.
__________
(1) الزمر: 64.
(2) صدر بيت لطرفة بن العبد، وعجزه:
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
(3) يريد: «سيبويه» . (الكتاب 1: 452) .
(4) يريد: «الفارسي أبا علي» .
(5) هو: أبو سعيد السيرافي الحسن بن عبد الله (368 هـ) .
(6) التكملة من شرح السيرافي بهامش الكتاب لسيبويه (1: 452) .

(2/631)


والذي عليه الناس، هو الوجه الأول الذي ذكرناه» .
وقد قال سيبويه هذا الكلام هاهنا، وقال في الباب المترجم عنه:
«هذا باب «1» ما يكون فيه «إلا» وما بعده وصفاً بمنزلة: «مثل» ، و «غير» .
ومضى في كلامه « [ولا يجوز أن تقول: ما أتاني إلا زيد، وأنت تريد أن تجعل الكلام بمنزلة «مثل» ، إنما يجوز ذلك صفة] «2» ثم قال: ولا يجوز أن يكون رفع «زيد» على إضمار: إلا أن يكون زيداً لأنك لا تضمر الاسم الذي هذا من تمامه، لأن «أن» يكون اسماً وما بعده صلة له» .
ويجوز في الآية الأولى حذف «أن» ولم يجوزّه في الفصل الثاني.
وأبو إسحاق تكلم على الآية، أعني قوله: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي) «3» ونقل كلامه أبو علي في «الإغفال» وأراد أن يتكلم عليه، فبيض الموضع.
وهذا كلام أبى إسحاق: «أفغير» منصوب ب «أعبد» لا بقوله «تأمروني» .
المعنى: أفغير الله أعبد أيها الجاهلون فيما تأمرونى.
ولو كان أبو العباس حين تتبع سيبويه، وتكلم بمثل هذا الكلام البارد الذي لا يخدش شيئاً من كلامه، وتتبعه على هذا الوجه، وتكلم بمثل هذا الكلام، وفصل بين الموضعين. كان أحق وأجدر.
وقد ضمنت هذا الكتاب مثل هذا الفصل فصولاً أخر، تقدم بعضها، وأنت بصدد الثاني فاحفظها.
قال الشيخ: ومما يحمل على إضمار «أن» في التنزيل قوله تعالى: (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ) «4» ، ف «أن» مضمرة، وهي مع الفعل في تقدير المصدر معطوف على «خزى» .
__________
(1) الكتاب (1: 370) .
(2) تكملة عن الكتاب لسيبويه.
(3) الزمر: 64.
(4) البقرة: 85.

(2/632)


ومثله: (مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ) «1» ، أي: ثم كفر بعضكم ببعض يوم القيامة، فأضمر «أن» ومثله: (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ)
«2» ، أي:
ويوم القيامة رؤية الذين كذبوا على الله، لأن قبله (أَنْ تَقُولَ) «3» ، و: (أَوْ تَقُولَ) «4» .
وقد قال أبو علي في قوله تعالى: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) «5» ، يجوز أن تقدر حذف «أن» كأنه: لا تحسبن الذين كفروا أن سبقوا، فحذفت «أن» كما حذفتها في تأويل سيبويه في قوله: (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي) «6» .
قال: وحذف «أن» قد جاء في غير شيء من كلامهم. قال:
وإن كبيراً لم يكن رب علبة ... لدن صرحت حجاجهم فتفرقوا «7»
أي: لدن أن صرحت. وأثبت الأعشى في قوله:
أراني لدن أن غاب رهطي كأنما ... يراني فيكم طالب الضيم أرنبا «8»
وقد حذفت من الفعل وبنيت مع صلتها في موضع الفاعل.
أنشد أحمد بن يحيى لمعاوية بن خليل النصري:
وما راعني إلا بشير بشرطه ... وعهدي به فينا يفش بكير «9»
فإذا وجهه على هذا سدّ «أن» مسد المفعولين.
__________
(1) العنكبوت: 25.
(2) الزمر: 60. [.....]
(3) الزمر: 56.
(4) الزمر: 57، 58.
(5) الأنفال: 59.
(6) الزمر: 64.
(7) العلبة: القدح الذي يحلب فيه. والبيت لمليح الهذلي.
(8) البيت في الديوان (14: 19) :
أراني لدن أن غاب قومي كأنما ... يراني فيهم طالب الحق أرنبا
(9) يفش: ينفخ. والكير: زق من جلد ينفخ فيه لحداد.

(2/633)


كما أن قوله: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا) «1» فقال: هذا كلامه في الآية من «الحجة» . وإن شئت فاسمع كلامه في موضع آخر، قال: ومما يمكن أن يكون انتصابه على أنه مفعول به على الاتساع، وكان في الأصل ظرفاً، قوله: (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) «2» في قوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) «3» ، والعامل في، الأيام «كتب» ، تقديره: كتب عليكم الصيام أياماً معدودات، أي:
في أيام معدودات. وإن شئت اتسعت فنصبته نصب المفعول به، فتقول على هذا: مكتوب أياماً عليه. ولا يستقيم أن ينتصب «أيام» ب «الصيام» على أن يكون المعنى: كتب عليكم الصيام في أيام، لأن ذلك وإن كان مستقيماً في المعنى فهو في اللفظ ليس كذلك، ألا ترى أنك لو حملته على ذلك فصلت بين الصلة والموصول بالأجنبي منهما، وذلك أن «أياماً» تصير من صلة «الصيام» ، وقد فصلت بينهما بمصدر «كتب» لأن التقدير:
كتب عليكم الصيام كتابة مثل كتابته على من كان قبلكم، فالكاف فى «كما» متعلقة، ب «كتب» ، وقد فصلت بها بين المصدر وصلته، وليس من واحد منهما.
فإن قلت: أضمر «الصيام» لتقدم ذكر المتقدم عليه، كأنه: صيام أياماً، فإن ذلك لا يستقيم لأنك لا تحذف بعض الاسم، ألا ترى أنه قد قال في قوله:
وكل أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان «4»
أنه لا يكون على: أن لا يكون الفرقدان، لحذفك الموصول، وكذلك الآية.
وإذ قد/ عرفت هذا وتبينت أن المصدر و «أن» مع ما بعده عندهم بمنزلة واحدة،
__________
(1) العنكبوت: 2.
(3- 2) البقرة: 183.
(4) البيت لعمرو بن معد يكرب (الكتاب 1: 371) .

(2/634)


وأنهما كليهما موصول ل «أن» ، فلا بد وأن نعد لك الآي التي وردت فيها المصادر وظاهرها فصل بينها وبين صلاتها بمنزلة «أن» ، والحديث ذو شجون.
فمن ذلك قوله تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) «1» ، لا يجوز تعليق «على» بقوله «حجتنا» للفصل بين المصدر وما يتعلق به بالصفة.
قال أبو علي: وإن كان «حجتنا» بدلا ف «آتيناها» خبره، و «على» متعلق بمحذوف، كقوله: (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ) «2» . وكذلك إن جعلت «حجتنا» خبراً، فإن جعلت «آتيناها» في موضع الحال على: حجة آتيناها، وإضمار «قد» ، جاز أن يكون متعلقا، ب «الحجة» لأنه لها فصل.
قال عثمان: قلت لأبي علىّ في قول الله تعالى: (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) «3» يكون «آتيناها» حالاً من «الحجة» إما على: قد آتينا، وإما: على: حجة آتيناها، وعادت مع هذا على قوله بنفس حجتنا، فمثل هذا ألا فصل بين الصلة والموصول بالأجنبي؟ فقال: الحال تشبه الظرف، وقد يجوز في الظرف ما لا يجوز في غيره، ولم يزد على هذا بعد المراجعة.
والفصل بين الموصول والصلة لا يجوز بالظرف ولا غيره، ألا ترى أنك لو قلت، أعجبني ضربك يوم الجمعة زيداً، فعلقت «يوم الجمعة» ب «أعجبنى» لا ب «الضرب» لم يجزه أحد، وإنما المتجوز بالفصل الفصل بالظرف ما كان بين الفعل وفاعله، نحو: كان فيك زيد راغباً، ونحو قوله:
فإن بحبها ... أخاك مصاب القلب جم بلا بله «4»
__________
(1) الأنعام: 83.
(2) غافر: 10.
(3) الأنعام: 83.
(4) جزء من بيت، والبيت كاملا:
فلا تلمحني فيها فإن بحبها ... أخاك مصاب القلب جم بلا بله
(الكتاب 1: 280) . [.....]

(2/635)


وأما ما ذهب إليه أبو علي، فيما حكينا عنه، فلا، والله أعلم.
وقال أبو علي في موضع آخر: ففي هذا دلالة على وقوع مثال الماضي حالاً، وذلك أن «آتينا» لا تخلو من أن تكون صفة أو جملة متبعة جملة، على حد: (هُمْ فِيها خالِدُونَ) «1» ، أو حالاً، ولا تكون صفة لأن «حجتنا» معرفة، ولا تكون على حد (هُمْ فِيها خالِدُونَ) «2» ، و (ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) «3» لأنك إن جعلته على ذلك فصلت بين الصلة والموصول بالأجنبي، فإذا امتنعتا ثبت أنه واقع موقع الحال، إذا كانت/ حالاً لم تفصل بين الصلة والموصول، وكانت على [ذلك] «4» متصلة بالمصدر الظاهر الذي هو «حجتنا» . فإن قلت: فلم لا تكون على قول أبي الحسن في نحو: (أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ) «5» ، أن يكون على تقدير:
أو جاءوكم قوم حصرت، ولا يكون على قوله: أو جاءوكم قوماً قد حصرت، فإن ذلك لا يكون على حذف الموصوف، كما يكون قوله: أو يكون جاءوكم قوماً حصرت لأنك على هذا تحذف الموصول وتبقي بعض صلته. وقد قال سيبويه: إن ذلك لا يجوز فيه.
وأما قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) «6» فإن قوله «يوم خلق السّموات» تتعلق بمضمر دون «عدة» ، لأن الفصل بين المصدر والمعمول لا يجوز، ولهذا لا يتعلق «فى كتاب الله» ب «عدة» ولا يكون بدلاً من «عند الله» للفصل، أو يكون أن يتعلق ب «حرم» ، كأنه: منها أربعة حرم فيها كتب الله يوم خلق السموات
__________
(2- 1) البقرة: 39، 81، 82، 217، 257، 275- آل عمران: 107، 116.
(3) الكهف: 22.
(4) تكملة يقتضيها السياق.
(5) النساء: 90.
(6) التوبة: 36.

(2/636)


فيكون المعنى: مثبتاً في كتاب الله، أي: فيما فرض كونه حرماً أربعة أشهر لا أكثر، فإذا نشأتم أنتم الشهور فجعلتم الشهور الحرم أكثر من أربعة لما كتبه الله أجل لهم ما حرم الله.
ويجوز أن يتعلق «يوم» ب «كتاب» .
وأما قوله تعالى: (وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) «1» . فإن قوله «من الله» صفة فيها ذكر من الموصوف، وكذلك «إلى الناس» ، ولا يكون من صلة «أذان» لأنه اسم، وليس بمصدر. ومن أجرى هذا الضرب من الأسماء مجرى المصادر فينبغي ألا يتعلق به هذا الجار، ألا ترى أن المصدر الذي هذا منه لا يصل بهذا الحرف كما يصل قوله: (بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ) «2» به، لقوله:
برئت إلى عرينة من عرين «3» و: (إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) «4» .
فأما قوله: «يوم الحج الأكبر» فيجوز أن يتعلق ب «أذان» لأنك تفصل بين الصلة والموصول بالصفة، ولا بد من تقدير الجار في قوله «إن الله» أي، ب «إن الله» لأن الله برئ من المشركين، لا يكون الإعلام كما يكون الثاني الأول، في نحو: خبر له أنك خارج.
__________
(1) التوبة: 3.
(2) التوبة: 1.
(3) عجز بيت لجرير، وصدره:
عرين من عرينة ليس منا
(4) البقرة: 166.

(2/637)


وأما قوله في: (هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) «1» : لا يتعلق الباء ب «عطاؤنا» / للفصل، ولا ب «أمسك» لأنه لا يقال: أمسكت بغير حساب، إنما يقال: أعطيت بغير حساب، فهو إذاً متعلق ب «امنن» ، ويكون معناه: أنه مخير بين أن يعطي كثيراً وأن يمسك، وكأن معنى «امنن» أعط، لما كان مناً وتفضلاً على المعطى، قيل: «امنن» ، والمراد: أعط.
ومثله في جعل «المن» عطاء قوله تعالى: و (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) «2» ، كأنه:
لا تعط مستكثراً، أي: لا تعط لتأخذ أكثر منه.
ومثله: (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ) «3» .
وتقدير «تستكثر» : أي: مقدراً فيه الاستكثار، وجزم «تستكثر» على هذا يبعد في المعنى، لأنه يصير: إن لا تمنن تستكثر، وليس المعنى على هذا.
وقد أجاز أبو الحسن نحواً من هذا اللفظ، وإن لم يكن المعنى عليه.
وأما قوله تعالى: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ) «4» ، ف «الذين» جر، عطف على «المؤمنين» ، أو نصب، عطف على «المطوعين» . فالظرف. أعني «في الصدقات» . متعلق ب «مطوعين» أو «يلمزون» ، أي: ويعيبون في إخراج الصدقات لقلتها، ولا يكون «الذين يلمزون» ، بدلاً من «من» في قوله: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) «5» ، لأن هؤلاء غيرهم ... «6» في وضع الصدقات.
__________
(1) ص: 39.
(2) المدثر: 6.
(3) الروم: 39.
(4) التوبة: 79.
(5) التوبة: 58. [.....]
(6) مكان هذه النقط كلمة غير واضحة.

(2/638)


وأما قوله: (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) «1» ف «على» من صلة «وتمت» دون «الكلمة» وإن كانت «الكلمة» بمعنى، النعمة، لأنها وصفت بالحسنى، وكما يتعلق «على» ب «حقت» في قوله: (حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) «2» وكذا هاهنا. وأما قوله: (فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ) «3» فقد تكلمنا عليه في باب المفعول.
وأما قوله تعالى: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ) «4» ، فقد تردد فيه كلامه، فقال مرة: الظرفان صفة للنكرة متعلقان بمحذوف، والشهادة من الله هي شهادة يحملونها ليشهدوا، فهذا كما قال: (فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) «5» ، وقال في موضع آخر: لا يتجه أن يتعلق «من» ب «كتم» لأن الله لا يكتم شيئاً.
فإن قلت: فقد جاء (وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً) «6» فإنه يجوز أن يكون التقدير: إن أحوالهم ظاهرة وإن كتموها. كما قال: (لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ) «7» ، فإذا لم يتعلق بكتم «تعلق بالشهادة» ، وتعلقه به على وجوه.
فإن جعلت قوله «عنده» صفة للشهادة لم يجز أن يكون «من الله» متعلقا ب «شهادة» لأنه فصل بين الصلة والموصول، وكما انك لو عطفت عليه كان كذلك.
ويجوز أن تنصب «عند» لتعلقه ب «شهادة» . فإذا فعلت ذلك لم يتعلق ب «من الله» ، لأنه لا يتعلق به ظرفان.
وإن جعلت «عنده» صفة أمكن أن يكون «من الله» حالا عمّا فى «عنده» ،
__________
(1) الأعراف: 137.
(2) الزمر: 71.
(3) طه: 58.
(4) البقرة: 140.
(5) آل عمران: 81.
(6) النساء: 42.
(7) غافر: 16.

(2/639)


فإذا كان كذلك وجب أن يتعلق بمحذوف في الأصل، والضمير العائد إلى ذي الحال هو الظرف.
هذا كلامه وقد منع من تعلق الظرفين بالمصدر، وهذا يجوز في الظرفين المختلفين، وإنما الكلام في المتفقين، وقد بيناه في «الاستدراك» .
وأما قوله: (لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ) «1» .
فلا يخلو قوله «إذ تدعون» من أن يتعلق ب «لمقت الله» ، ولا يجوز أن يتعلق بقوله «مقتكم» لأنهم مقتوا أنفسهم في النار، وقد دعوا إلى الإيمان في الدنيا. ولا يتعلق بالمبتدأ، لأنه أخبر عنه بقوله «أكبر من مقتكم» ، والموصول لا يخبر عنه، وقد بقيت منه بقية، والفصل بين الصلة والموصول غير جائز.
وأما قوله تعالى: (إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) «2» إن جعلت الهاء للكافر، على معنى: إنه على إحيائه لقادر، لم يجز أن يتعلق «يوم تبلى السرائر» بقوله «رجعه» ، لأن قوله «لقادر» في موضع الخبر ل «إن» ، وقد فصل بين المصدر وما يتعلق به، ولكن ينتصب بمضمر يفسره «رجعه» ، أي:
يحييه يوم تبلى السرائر.
ويجوز أن يجعل «يوم» بمعنى «إذا» فيعمل فيه مدلول «إذا» : (فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) «3» كقوله تعالى: (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ) «4» . ألا ترى أن مدلول «الفاء» يعمل في «يوم ندعو» .
ومثله: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) «5» .
ومثله: (فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ) «6» .
__________
(1) غافر: 10.
(2) الطارق: 8، 9.
(3) الطارق: 10.
(4) الإسراء: 71.
(5) فصلت: 19.
(6) المدثر: 8. [.....]

(2/640)


ولا يجوز أن يتعلق بقوله «لقادر» ، لئلا يصغر المعنى لأن الله قادر يوم تبلى السرائر وغيره، في كل وقت وعلى كل حال، على رجع النشور.
قال أبو علي في «الإغفال» في قوله: (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) «1» قولاً يخالف ما حكينا عنه في «الحجة» قبل، وهو أنه قال:
يجوز/ أن يجعل «أياماً» متعلقا ب «الصيام» ، دون «كتب» ، وكانت الكاف في موضع النصب حالاً من فاعل الصيام، الا ترى أنه لا يستقيم:
كتب عليكم أن تصوموا مشابهين الكتابة، فهذا من جهة المعنى.
ويصح كونه حالاً من «الصيام» على تقدير: كتب عليكم الصيام مثل ما كتب الصيام على من قبلكم، أي كتب الصيام مشابهاً كتابته على الذين من قبلكم.
فالصيام لا يشبه الكتابة، وحق التشبيه أن تشبه كتابة بكتابة، أو صيام بصيام، فأما أن يشبه الصيام بالكتابة فليس بالوفق، إلا أن يدل اشتباه الصيام بالكتابة من حيث كان كل واحد منهما مراداً، وإن لم يكن الآخر.
وهذا مما يدلك على أن حمل «كما» ، على أنه منصوب ب «كتب» ، أوجه وأبين من أن تجعله متعلقا ب «الصيام» ، ولا يجوز في «كما» أن يكون صفة لمصدر «كتب» الذي دل، «كتب» عليه، في قول من جعل «أياماً» معمول «الصيام» ، لأنه يفصل بين الصلة والموصول بما هو أجنبي منهما، وما عمل فيه شيء.
وأما قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) «2» لا تكون الكاف «3»
__________
(1) البقرة: 184.
(2) آل عمران: 10 و 11.
(3) يريد الكاف في: «كدأب» .

(2/641)


صفة لمصدر دل عليه «كفروا» ، ولا لمصدر دل عليه قوله «لن تغني» ، للفصل بين الصلة والموصول بالخبر أو بالجملة التي هي «أولئك هم وقود النار» ، وإنما معمول لقوله «وقود النار» لأنه لا فصل بينهما.
وأما قوله تعالى: (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) «1» ، فقوله «وقعدوا» اعتراض، لأنه يسدد ما يريدونه من تثبيطهم وإقعادهم عن الجهاد مع النبي صلى الله عليه وعلى آله، فقوله: «لو أطاعونا ما قتلوا» في موضع نصب. فقالوا:
ولا يحتاج هنا إلى إضمار فعل آخر كما احتجت إليه في قوله:
وقائلة تخشى علي أظنه
ولأن «تخشى» وصف، وإذا وصفت اسم الفاعل لم ينبغ أن يعمل.
فأما «الذين» فموضعه رفع، وقال: زيداً اضربه، نصب ألا ترى أنك تنصب: زيداً قال له خيراً، كما تقول: زيداً اضربه. وليس الرفع بمختار في قول أحد فيه، لأنه لا وجه للرفع على ذلك.
وأما قوله تعالى: (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) «2» ، ف «من» موصولة، وتمام الصلة عند قوله: (وَآتَى الزَّكاةَ) «3» ، وقوله: (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) «4» رفع، عطف على «من آمن» ، فلا يجوز إذاً أن يكون قوله «والصابرين» عطفاً على قوله «ذوي القربى» على تقدير: وآتى المال على حبه ذوي القربى والصابرين، لأنك قد عطفت على الموصول قوله «والموفون» ، فلا يجوز أن يكون
__________
(1) آل عمران: 168.
(4- 3- 2) البقرة: 177.

(2/642)


«والصابرين» داخلاً في الصلة، ولكنك إن رفعت «والموفون» على المدح جاز عطف «الصابرين» على قوله «ذوى القربى» ، لأنّ الجملة تسدد الأول وتوضحه لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ) «1» ، فقوله «وترهقهم ذلة» عطف على «كسبوا» ، وقوله «وجزاء سيئة بمثلها» اعتراض.
وقال قوم: بل التقدير: جزاء سيئة، والجملة في موضع خبر قوله:
«والذين كسبوا» .
فأما قوله تعالى: (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) «2» قال أبو علي:
يحتمل عندي قوله «أحوى» ضربين:
يجوز أن يكون حالا ل «المرعى» كأنه: والذي أخرج المرعى أحوى، فجعله غثاء أحوى، ولا يكون فصلاً بين الصلة والموصول، لأن «أحوى» في الصلة، وقوله «فجعله» أيضاً معطوف على الصلة، وتقديم بعض الصلة على بعضها غير جائز، فإذا حملته على هذا كان وصفه بالحوة إنما هو لشدة الري ولإشباع الخضرة، كأنه أسود، على هذا قوله: (مُدْهامَّتانِ) «3» ، وإن كان هذا لا يقع من الوصف بالحوة لأنه أذهب في باب السواد.
وإن جعلت أحوى صفة ل «غثاء» كان المراد به السواد لا الخضرة التي في الري أنها سواد، ولكن بالقدرة أخرج المرعى فصار غثاءا أسود ليبسه وهيجه وتسويد الشمس له بأحراق لطيفة.
__________
(1) يونس: 27.
(2) الأعلى: 4، 5.
(3) الرحمن: 64.

(2/643)


وأما ما ذهب إليه علي بن عيسى في قوله: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) «1» إلى قوله (وَقِيلِهِ) «2» من أن قوله «وقيله» فيمن جر، معطوف على الجار والمجرور، أعني «3» ... وجداً، للفصل بين الصفة والموصول بما تراه من الكلام.
وأما قوله: (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) ، فإن «4» «حتى» متعلق إما بفعل مضمر يدل عليه «سلام» / أو بقوله (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ) «5» .
فإن قلت: فإذا كان متصلاً بقوله «تنزل» فكيف فصل بين العامل والمعمول بالجملة التي هي «سلام» ؟
فإن ذلك لا يمتنع لأمرين:
أحدهما: أن هذه الجملة ليست بأجنبية، ألا تراها تتعلق بالكلام وتسدد.
والآخر: أن تكون في موضع حال من الضمير في قوله (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) «6» مسلمة، فهذا لا يكون فصلاً على هذا الوجه الآخر.
وأما إذا لم تحمله على هذا وجعلت «حتى» متعلقاً بفعل مضمر، فلا يخلو من أن يتعلق ب «هى» أو «سلام» ، فلا يتعلق ب «هى» ، لأنه لا معنى فعل فيه، ولا يجوز أن يتعلق أيضا ب «سلام» ، لأنك تفصل حينئذ بين الصلة والموصول بالمبتدأ، ألا ترى أن «سلاماً» مصدر، فإذا لم يجز هذا أضمرت ما يدل عليه «سلام» ، فكأنك قلت: تسلم حتى.
فإن قلت: فلم لا تضمر فعلاً بعد «هي» مما يتعلق به، ويكون المبتدأ الذي هو «هي» قد أخبر عنه بأنه سلام، وأنها «حتى مطلع الفجر» مثل:
__________
(1) الزخرف: 86.
(2) الزخرف: 88.
(3) بياض بالأصل. وقد ذكر الزمخشري في تفسيره (الكشاف 4: 268) ما قيل حول «وقيل» . فقال:
«وعطفه الزجاج على محل الساعة وحمل الجر على لفظ الساعة والرفع على الابتداء، والخبر ما بعده.
وجوز عطفه على «علم الساعة» ، على تقدير حذف المضاف» .
(4) القدر: 5.
(6- 5) القدر: 4.

(2/644)


حلو حامض، كأنه أراد أن يعلم أنه سلام، وأنه إلى هذا الوقت، فإن الإفادة بأنها إلى مطلع الفجر ليست بحسنة، لأن ذلك قد علم من غير هذا المكان، فإذا كان كذا حملناه على باب (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ) «1» ولهذا لم نجعل «حتى» خبر «هى» ، و «سلام» ل «هى» آخر، ولأنه إذا لم يكن من باب حلو حامض، فلا يكون من باب: هو قائم، أولى، وإن جعلت «هي» فاعل «سلام» ، و «حتى» فى موضع الخبر، فهو وجه.
قال عثمان: لا يلزم إذا جعلت «حتى» متعلقة ب «سلام» أن تكون فصلت بينهما ب «هى» ، لأن «سلاماً» في موضع: مسلمة، وأنشد:
فهلا سعيتم سعى عصبة مازن ... وهل كفلائي في الوفاء سواء
وأما قوله تعالى: (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ «2» ) ، فينبغي أن يكون قوله «أو من وراء حجاب» إذا جعلت «وحيا» على تقدير: أن يوحي- كما قال الخليل- لما لم يجز أن يكون على أن الأولى من حيث فسد في المعنى/ يكون «من وراء حجاب» على هذا متعلّقا بفعل محذوف في تقدير العطف على الفعل الذي يقدر صلة، ل «أن» الموصولة ب «يوحى» ، ويكون ذلك الفعل: يكلم، وتقديره: ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحى إليه أو يكلم من وراء حجاب، فحذف «يكلم» لجري ذكره أولا، كما حذف الفعل في قوله: (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) «3» لجري ذكره، والمعنى: كذلك أنزلنا، وكما حذف في قوله: (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ «4» ) ، والمعنى: الآن آمنت، فحذف، حيث كان ذكر «آمنت» قد جرى،
__________
(1) غافر: 10. [.....]
(2) الشورى: 51.
(3) الفرقان: 32.
(4) يونس: 91.

(2/645)


وهذا لا يمتنع حذفه من الصلة، لأنه بمنزلة المثبت، وقد تحذف من الصلة أشياء للدلالة عليها، ولا يجوز أن يقدر تعلق «من» في قوله (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) «1» إلا بهذا، لأنك إن قدرت «2» تعلقه بغيره فصلت بين الصلة والموصول بالأجنبي، ولا يجوز أن يقدر فعل غير هذا، كما قدر في «أو» في قوله:
(إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً) «3» ، لأن هذا اعتراض يسدد ما قبله، وأنت إذا قدرت «أو من وراء حجاب» متعلقا بشيء آخر كان فصلاً بأجنبي، إذ ليس هو مثل الاعتراض الذي يسدد الأول.
وأما من رفع فقال: (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا) «4» فينبغي أن يكون قوله «أو من وراء حجاب» متعلقا بمحذوف، ويكون الظرف في موضع حال، لأن قوله (إِلَّا وَحْياً) «5» على هذا التقدير مصدر في موضع الحال، كأنه يكلم الله إيحاء، أي: موحياً، كقولك: جئت ركضاً ومشياً، ويكون «من» في قوله «أو من وراء حجاب» في أنه في موضع حال، مثل «من» في قوله (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) »
بعد قوله (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا) »
، فهذا موضع وقعت فيه «من» ظرفاً في موضع الحال، كما وقع سائر حروف الجر، ومعنى «أو من وراء حجاب» في الوجه الأول: يكلمهم غير مجاهر لهم بالكلام، أي:
يكلمهم من حيث لا يرى كما لا يرى سائر المتكلمين، ليس أنه هناك حجاب يفصل موضعا من موضع.
__________
(5- 1) الشورى: 51.
(2) الأصل: «فقدت» .
(3) الأنعام: 145.
(4) الشورى: 51.
(7- 6) آل عمران: 46.

(2/646)


وأما قوله تعالى: (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ) «1» ، ف «رسله» معطوف على الضمير المنصوب الذي قبله، كما قال: (وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) «2» ، ولا يجوز أن يكون معطوفاً على مفعول «ليعلم» لأنك تفصل بين الصلة والموصول ألا ترى أن قوله «بالغيب» متعلق ب «ينصر» ولا يجوز أن يتعلق ب «ليعلم» ، فإذا كان كذلك، فلو عطفت «رسله» على «يعلم» فصلت بالمعطوف بين الصلة والموصول.
ومن ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) «3» . فقوله بعد:
(وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ) «4» اعتراض بين الصلة والموصول، وقوله:
(وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) «5» في الصلة من الفعل. ونظير هذا (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ) «6» هو فصل بين الفعل ومفعوله دون الصلة وموصوله.
أما قوله: (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) «7» . فزعم أنه لا يكون عطفاً على ما تقدم من ألا يفصل بين الصلة والموصول بقوله: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) ، «8» ولكن النصب على إضمار «أن» بعد «أو» . ونعني بالموصول قوله: (بُشْرى لَكُمْ) «9» لأن اللام من قوله «ليقطع» متعلق به، وقوله: (وَمَا النَّصْرُ) اعتراض.
فهذه آي وردت، فيها يقول النحويون من امتناع الفصل بين الصلة والموصول، ولا نرى منها حرفاً في كتبهم، والحمد لله الذي هدى لهذا.
__________
(1) الحديد: 25.
(4- 2) الحشر: 8.
(3) آل عمران: 135.
(5) آل عمران: 135.
(6) البقرة: 120.
(7) آل عمران: 128. [.....]
(8) آل عمران: 128.
(9) آل عمران: 126.

(2/647)